دروس للشيخ علي القرني

علي القرني

أين المفر

أين المفر إن الموت حقيقة لا مفر منها، وباب لابد من ولوجه لكل من هو على هذه الأرض، سواءً كان ذكراً أو أنثى، أو غني أو فقير أو شقي أو سعيد، وهو حقيقة ما بعدها أشد منها، حيث ينقسم الناس إلى قسمين: شقي وسعيد. فالواجب على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن تحل به سكرات الموت، فعندها لا ينفع الندم ولا البكاء.

حقيقة الموت

حقيقة الموت الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: اتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] يوم يُنفخ في الصُّور، ويُبعث مَن في القبور، ويظهر المستور، يوم تُبْلى السرائر، وتُكْشَف الضَّمائر، ويتميز البَرُّ من الفاجر. ثم اعلموا أن هناك حقيقة وأي حقيقة، حقيقة طالما غفل عنها الإنسان، ولحظة حاسمة، ومصير ومآل. إنها لحظة (ملاقيكم) إلى أين من هذه اللحظة المَهْرَب؟! وإلى أين منها المفر؟! إلى الأمام مُلاقيكم، إلى اليمين والشمال مُلاقيكم، إلى أعلى إلى أسفل مُلاقيكم، إلى الوراء مُلاقيكم. لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحصَّن منه في حصون، مدرككم أينما كنتم! إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت، يأخذ الغني والفقير، والصحيح والسَّقيم، والشريف والوضيع، والمُقر والجَاحِد، والزَّاهد والعابث، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، كل نفس ستذوقه، شاءت أم أَبَتْ. لعلكم عرفتموه، لا أظن أحدًا يجهله، أما حقيقته فالكل يجهلها؛ إنه الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. الموت، ما الموت؟ أمر كُبَّار، وكأس يُدار، فيمن أقام وسار، يخرج بصاحبه إلى جنة أو إلى النار، ما زال لأهل اللذات مكدِّرًا، ولأصحاب العقول مُغَيِّرًا ومحيِّرًا، ولأرباب القلوب عن الرغبة فيما سوى الله زاجراً. كيف ووراءه قبر وحساب، وسؤال وجواب، ومن بعده يوم تُدهش فيه الألباب فيعدم الجواب؟! السَّكرات، ما أدراكم ما السكرات! عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: {لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات} اللَّهم هوِّن علينا سكرات الموت" سكرات وأي سكرات! يقول العلماء: كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف. ملك الموت، ما ملك الموت؟! الدنيا بين يديْه كالمائدة بين يديْ الرجل، يمد يده إلى ما شاء منها؛ بأمر الله فيأكله، وإنَّ له لأعوانًا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع، والأرضين في لقمة واحدة لفعل. فلا إله إلا الله! من لحظة حاسمة لو لم تُعتقل الألسنة وتُخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعب الجبال أَلَمًا! ولَصَاح الميِّت من شدة ما يعاني حتى تندكَّ عليه جدران الغرفة التي هو فيها، ولما استطاع أن يحضر ميتاً أحدٌ. فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهوِّن علينا السكرات! روي عن الحسن أنه قال: رُئِيَ أحد الصالحين بعد موته، فقيل له: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوَّاهُ أوَّاهُ! وجدته -والله- شديداً، والذي لا إله إلا هو! لهو أشد من الطَّبخ في القُّدُور، والقطع بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استلَّ الروح من كل عضوٍ منِّي، فلو أني طُبِخْت في القُدُور سبعين مرة لكان أهون عليَّ. كفى بالموت طامة، وما بعد الموت أطَمُّ وأعظَمُّ! رئي آخر بعد موته في المنام، فُيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاة، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير. فالله المستعان على تلك اللحظات، اللهم هوِّن علينا السكرات، واجعلها لنا كفَّارات، وآخر المعاناة، وهي كذلك -بإذن الله -للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.

السعداء وحسن الخاتمة

السعداء وحسن الخاتمة عباد الله: وفي تلك اللحظات الحَرِجَة ينقسم الناس إلى فريقين؛ شقي وسعيد، فريق السعداء حالهم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. هاهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها تقول -كما رُوِيَ عنها- إنَّا لعند علي رضيَ الله عنه وأرضاه بعدما ضربه ابن ملجم -عليه من الله ما يستحق- إذ بـ علي يشهق شهقة فيغمى عليه، ثم يفيق وهو يقول: مرحبًا مرحبًا! الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة. الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن، لمثل هذا فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون. فيا لها من موعظة ومصير، لو وافقت من القلوب حياة! مَنْ ظفر بثواب الله فكأنه لم يُصب في دنياه. كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه واسمع معي أخرى لـ سعيد بن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة -كما قال الذهبي في سيره --فيقول: لما مات ابن عباس رضي الله عنهما بـ الطائف، جاء طائر لم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دُفِن إذا على شفير القبر تالٍ يتلو لا يُرى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. فيا لها من خاتمة! ويا له من مصير! والخير في الأمة يستمر، ولن تَعْدَم الأمة خَيِّر. فاسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب: يا ليت قومي يعلمون قال: حدثني أحد الصالحين قائلاً: كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدًا فاضلاً نزل مع بعض أصحابه إلى مكة مُحْرِمًا، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو مُحْرِم في الحرم، قد خرج لله عز وجل كما يُحسب. قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4] شهق وبكى وأبكى، فلمَّا قرأ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] تَرَنَّح قليلاً، ثم سقط ميِّتًا، فعليه رحمة الله؛ ليبعث يوم القيامة بإذن الله مصلياً؛ ومن مات على شيء بعث عليه كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. وآخر يقضي حياته مؤذنًا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذِّن يومًا من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتاُ، فعليه رحمة الله. سنوات يؤذن، ثم يجيب داعيَ الله مؤذنًا، ليبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقًا فرحمة الله عليه. يا لها من خواتم طيبة! ملائكة بيض الوجوه، يتقدمهم ملك الموت، يخاطب تلك الأرواح الطَّيبة: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فَمِ السِّقَاء، وتفتح لها أبواب السماء، وتُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح، وتقول: قدِّموني قدِّموني، تُسأل فتجيب وتُثبَّت، فيفرش لها من الجنة، ويُفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحت من تعب هذه الدار، وإلى راحة أبدية في دار القرار.

الأشقياء وسوء الخاتمة

الأشقياء وسوء الخاتمة وفريق آخر في تلك الساعة يشقى، حسب أن الحياة عبث ولهو ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سُود الوجوه يقدمهم ملك الموت -نعوذ بالله من خاتمة السوء، وساعة السوء- يقول: أيتها النَّفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعًا بعد أن تفرق في الجسد، ثم ترفع فلا تُفتح لها أبواب السماء، تُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسأل فلا تجيب فُيفرش لها من النار، ويُفتح لها باب إلى النار، فنعوذ بالله من النار، ومن سوء الختام، وغضب الجبَّار. ذَكَرَ صاحب: قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلُّون سيارة واحدة، توفيَ اثنان منهم في الحال، وبقيَ الثالث في آخر رَمَقٍ يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث: قل (لا إله إلا الله) فأخذ يحكي عن نفسه ويقول: أنا في سَقَر، أنا في سقر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله! رجل المرور يسأل ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29] نسأل الله العافية والسَّلامة. عباد الله: فريقان لا ثالث؛ شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد، ومضى إلى جنهم وبئس المهاد. ألا ترون؟! ألا تتفكرون؟! ألا تنظرون؟! تشيعون كل يوم غاديًا إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض. خُلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، انتهى أمله وأجله، تبعه أهله وماله وعمله، فرجع الأهل والمال، وبقي العمل. فارق الأحبَّة والجيران، هجره الأصحاب والخلاَّن، ما كأنه فرح يومًا، ولا ضحك، ولا أَنِسَ يومًا ما، ارتُهن بعمله فصار فقيرًا إلى ما قدم غنيًا عما ترك. جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا وبنوا مساكنهم وما سكنوا فكأنهم كانوا بها ظُعنًا لمَّا استراحوا ساعة ظَعَنُوا

تذكر الموت وسكراته

تذكر الموت وسكراته كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالأموات. يقول عوف بن مالك: {صلَّى بنَا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدَخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو! لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه صلى الله عليه وسلم له}. ومن رحمته بالأموات صلى الله عليه وسلم: أنه كان يذهب في الليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلاً، ويترحم عليهم طويلاً. صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين. وأصحابه كذلك؛ ابن عمر كان إذا قرأ قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: [[اللهم لا تَحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله]] فلا إله إلا الله! ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجَّل في صحيفته (لا إله إلا الله) ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقيَ الجزاء والحساب، فرحم الله امرأً قدَّم من الصَّالحات لتلك الحُفَر، ورحم الله امرأ حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا! عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لجُلاسه يومًا ما: أرقت البارحة فلم أنمْ حتَّى الفجر، قالوا: ما أسهرك؟ قال: لمَّا أويت إلى فراشي، ووضعت عليَّ لحافي، تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ليالٍ تمر عليه حينما تركه أهله وأحبَّته وخلاَّنه، تغيَّر رِيحُه، وتمزَّق كفنه، وسرى الدُّودُ على خدوده، فليتك ترى تلك الرائحة المنتنة، وترى تلك الأكفان الممزَّقة، إذًا لرأيت أمرًا مهولاً، ثم انفجر يبكي، ويقول: لا إله إلا الله! حاله: والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ وإنَّ عقباك دنيانا وما فيها لقلت لا والذي أخشى عقوبته ولا بأضعافها ما كنت آتيها تجهَّزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثًا كفى بالموت واعظًا لمن كان له قلب، أو ألقى السَّمع. يمرُّ عمرو بن العاص رضيَ الله عنه بمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: [[لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: تذكرت قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحال بيني وبينها]]. عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: [[يا أبتاه! صف لنا الموت، قال: يا بني! الموت أعظم من أن يوصف، لكأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السَّماء أُطْبِقَت على الأرض وأنا بينهما، ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ويبكي بكاءً مراً مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَا فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاثاً؛ لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا ويلتاه لو متُّ في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ النَّاس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فيا ليتني مِتُّ في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته عليّ. يقول: ثم تخلفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلَعِبَت بنا الدنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله؛ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله]] ثم قُبض على لا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. كفى بالموت واعظًا! يقول ابن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا بن عوف! ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟]] حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لا فيكا ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا كفى بالموت واعظاً، وبسِيَر الصالحين عنده عبراً! تُحلُّ السَّكرات بـ محمد بن أسلم وتصيبه رعدة، يقول خادمه: كان يصيح ويقول: مالي وللناس، والذي لا إله إلا هو! لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني مَلَكَايَ لفعلت؛ خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع. كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، فيغلق بابه فيقرأ القرآن، ويبكي، وينشج، فيسمعه ابنٌ له صغير، فيقلِّده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل؛ لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: أبشر؛ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليَّ أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني -والله- لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق عليَّ الباب، ولا تأذن لأحد عليَّ حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغَطُّوا عليَّ بكسائي، وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة. خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحِنْطِ والكفن كفى بالموت واعظاً! فوالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيِّناً سهلاً، لكنه مع شدَّتِه وهَولِه أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هينٌ إذا قُورِنَ بالوقوف بين يديْ الله الكبير المتعال. تلفَّت المرء يميناً فلم ير إلا ما قَّدم، وشمالاً فلم ير إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجهه فلم ير إلا النار. فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد! يبلغ العرق أن يُلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث! مجرد تصورها يخلع ويذيب القلوب! يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ روي عن الحسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرةَ عائشة رضيَ الله عنها فسالت دموعها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه؛ إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل. وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله. وعند الصراط -نعم عند الصراط- أيمرُّ أم يكردس على وجهه في جهنم}. يؤتى بابن آدم حتى يُوقف بين كفَّتيْ الميزان، فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت واقف بين الخلائق، إذ نوديَ باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال. قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف، وذل، وانهيار أعصاب: شبابك فيما أبليته؟ عمرك فيما أفنيته؟ مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ علمك ماذا عملت به؟ هذه الأسئلة فما الإجابة؟ كم من كبيرة نسيتها قد أثبتها عليك المَلَك؟ كم من بلية أحدثتها؟ كم من سريرة كتمتها ظهرت وبَدَتْ أمام عينيك؟ أَعْظِم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! وأعظم به من حياء يُداخلك، وغمٍّ، وحزن، وأسف شديد! فإما أن يقول الله: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيا لسرورك! وهدأة بالك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا. وإما أن يقول الله- عافاك الله وسلمك-: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فيُذهب بك إلى جهنم، مسوَّد الوجه، كتابك في شمالك، ومن وراء ظهرك، قد غُلَّت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رءوس الخلائق ينادى: شقيَ فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا. عباد الله: الأمر خطير جد خطير؛ إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله برحمته ومَنِّه يقول: وعزَّتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر؛ فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين، اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم، عاملوا الله فلن تخيبوا: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. نفعني الله وإياكم بالقرآن، وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة

التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى. والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد. وفي ذلك -والله- ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات. التفتوا، وانظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتملُّوا بعيون قلوبكم: أين من كان حولكم من ذوي البأس والخطر سائلوا عنهم الديار واستبحثوا الخبر سبقونا إلى الرحيل وإنا على الأثر كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خِلاًّ لـ عبد الملك بن مروان، فلمَّا مات عبد الملك ودُفِن، وتفرَّق الناس عن قبره، وقف عليه عبد الرحمن بن يزيد قائلاً: أنت عبد الملك، أنت من كنت تعدني خيرًا فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، الآن تصبح وتمسي وليس معك من مُلكك غير ثوبك، وليس لك من ملكك سوى تراب أربعة أذرع في ذراعين، إنه لملك هيِّن حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها، ثم رجع إلى أهله، فاجتهد وجدَّ في العبادة، وعلم أنها الباقية، حتى صار كأنه شنٌ بالٍ من كثرة ما أجهد نفسه في العبادة، فدخل عليه بعض أهله يعاتبه؛ لأنه أضر بنفسه، فقال للذي يعاتبه: أسألك عن شيء فهل تصدقني فيه؟ قال: نعم. قال: نشدتك الله! عن حالتك التي أنت عليها أترضاها حين يأتيك ملك الموت؟ قال: اللهم لا. قال: نشدتك الله! أعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: اللهم لم أشاور عقلي بعد. قال: نشدتك الله أفتأمن أن يأتيك ملك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا آمن. قال: حال ما أقام عليها عاقل، وما يقيم عليها ذو قلب ولبّ، إنَّ الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر الذي ستنفرد فيه وحدك، ويُسَدُ عليك فيه بالطين وحدك؟ ألا عملت لك فراشًا من تقوى الله، فمن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون. فلا يومك الماضي عليك بعائدِ ولا يومك الآتي به أنت واثقُ فاستعد وأعدَّ. يا شابًا عكف على القرآن! مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره سل الله الثبات. وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة. فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا. ويا شابًا هجر القرآن! وأعطى نفسه هواها فدسَّاها؛ لتقفن موقفًا ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النَّقِير والقِطْمِير، والصغير والكبير. فعُد فالعود أحْمَدُ قبل أن تقول: رب ارجعون، فلا رجوع. ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات ومضى وقتك في لهو وسهو وسُبات يا شيخاً اقترب من القبر! عرف أنه منه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيَّته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بشراك بشراك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلت إلى آخر السباق قدَّمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة. ويا شيخاً نسى الله في شيخوخته بعد شبابه! فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت. أين الهوى والشهوات؟ ذهبت، وبقيت التَّبِعات، تتمنى بعد يُبس العُود العَوْد وهيهات! يا من شَاب رأسه! فما استحيا من الله. يا مَنْ شَاب رأسه! فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تُبْ إلى الله قبل أن تكون ممَّن لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم. إلى من ضيَّع الصلاة، واتَّبع الشهوات، إلى المنافقين والزناة، إلى الظلمة والبغاة، إلى من طغى وآثر الحياة الدُّنيا، إلى المُغْتابين والنَّمَّامين والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثر فنسوا بعثرة المقابر، وتحصيل ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدة المسلسلات، واستقبال القاذورات. إلى من طربت أذنه باستماع الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصره، وأصمَّ سمعه فكان حيًّا وهو في عداد الأموات، إلى الراشين والمُرْتشين وأهل السُّكْر والمخدَّرات، إلى المُسبل والمنَّان والمنفِق سلعته بالحَلِف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاة جميعاً: من الموت والقبر والحساب أين المفر؟! {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:11 - 12] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]. عباد الله: آن الأوان أن نُعْلِنَها توبة إلى الله باللِّسان والجَنَان.

حاجتنا إلى التمسك بالعقيدة

حاجتنا إلى التمسك بالعقيدة إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة أمة عقيدة، روابطها بالله وثيقة، وأملها في الله شديد، لا تلتفت إلى غيره مهما اشتدت الأزمات والكربات، ومهما تكالب أعداء الله عليها؛ وكان ذلك بسبب اتباعها لدين ربها عز وجل.

أهمية التوكل على الله في الشدائد

أهمية التوكل على الله في الشدائد الحمد لله رب العالمين، الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت بيده مقاليد السماوات والأرض ومصايير الخلق أجمعين: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102] أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اتقى الله فوقاه، وتوكل عليه فكفاه، واعتمد عليه فأيده بنصره وآواه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين توكلوا على مدبر أمرهم ومالك ناصيتهم، فأحاطهم بعونه في الحياة ونعيمه بعد الممات، أولئك هم المفلحون. عباد الله! إن من الإيمان تفويض الأمر لله والاعتماد عليه في شئون الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء، والاعتقاد بأنه الإله المدبر للملك الفعال لما يشاء، بيده وحده العطاء والمنة، والهزيمة والنصر، والتقدم والتأخر لا إله إلا هو،، التوكل على الله زاد المؤمنين يثبتهم عند الفزع، ويدفعهم إلى الإقدام، ويملأ قلوبهم بالعزة عند السؤال، المؤمن الحق يجد في التوكل على الله راحة نفسية وطمأنينة قلبيه، فإذا أصابه خير علم أنه هو الله المدبر الذي ساقه إليه، فحمده وشكره فكان خيراً له، وإن أصابته شدة أيقن أن الله هو الذي أصابه بها اختباراً له وابتلاءً، فصبر واسترجع فكان خيراً له {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]. أرشد الله المؤمنين إلى التوكل عليه، ووصل قلوبهم به إذا سعوا لاستدفاع ضر أو لتحقيق مطلب، حتى تكون يد الله فوق أيديهم، وعنايته فوق تصرفهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3]. أقول هذا الكلام في وقت أصبح الناس فيه حيارى فجعين هلعين قلقين، همهم الأعظم جمع الغذاء، وسماع الأخبار من إذاعات مرجفة كاذبة خاطئة، عنوان إرجافها: جاءنا للتو حتى آذت مسامعنا بهذه الكلمات، أقول هذا والبشر قد وقتوا اليوم الخامس عشر من يناير يوماً محتملاً لقيام حرب في هذه المنطقة لا تبقي ولا تذر، ونسوا رب البشر، نسوا من بيده مقاليد السماوات والأرض، وصدق السذج، وأيقنوا بذلك بل تعلقوا بقوى مادية لا تغني عنهم من الله شيئاً، نسوا من بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء وكيل. لكن أقول للكل مخصصاً كل عبد من عباد الله: والله إن تخلى الله عن عبد فلن تغني عنه قوته، ولا استعداده، ولا ذكاؤه، ولا ماله، ولا جاهه، ولا غذاؤه، ولا جميع قوى الدنيا وإن وقفت معه، لكن المؤمنون في أشد الساعات يوم تشتد الأهوال، يوم يحجب الأمر، يوم تكفهر الأجواء وتنقطع الأسباب، لا يلتمسون إلا عون الله وفضله، لا يطلبون إلا رعاية الله ومدده، وسرعان ما تزول عنهم الشدائد وتفرج عنهم الكربات، أفلا نكون من هؤلاء المؤمنين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] هذا الزاد كان عماد الأنبياء في جهادهم مع أعداء الله، كان قولهم عندما يتألب الخصوم وتتألب الأعداء {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]. يا مسلمون! الله حذر العباد من الاعتماد على غيره، ليعيش المسلم عزيز النفس، مرفوع الرأس، عالي الهمة، لسان حاله ومقاله يقول: ما سوى الله عبد مسخر لا ينبغي الاعتماد عليه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194]. في خضم الفتن يدعونا ديننا إلى الاعتزاز بالله والثقة فيه والاعتماد عليه وصدق اللجوء إليه، لا تواكل، ولا تكاسل ولا اعتماد بل عمل بإخلاص وثقة بالله {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:58 - 59]. المسلمون الأوائل توكلوا على الله وتعلقوا بالله، خاضوا ميادين الجهاد فانتصروا، كانت لهم السيادة والريادة، رائدهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ما دعاهم إلى عدة بغذاء، وما دعاهم إلى سماع الأخبار، لكن دعاهم إلى الاستعداد بجميع القوى المادية والمعنوية، وأعظم قوة مكن الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بها هي قوة (لا إله إلا الله) التي من أجلها أرسل صلى الله عليه وسلم، هي أعظم قوة في ذلك الوقت، وهي أعظم قوة في كل زمان ومكان. وشعبٌ بغير عقيدةٍ ورق تذريه الرياح

أهمية العقيدة في الحياة وقيمتها

أهمية العقيدة في الحياة وقيمتها إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بعقيدتها خافها أعداؤها، إننا أمة عقيدة يهابها الكفر وأهله وأعوانه مهما كان عندهم من عتاد وعدة، إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بها ثبتت عند الشدائد والمحن، إننا أمة لطالما قلنا إننا أمة عقيدة، فإن عقيدتها في خضم الأحداث الجارية، في خضم الفتن التي ما تأتي فتنة إلا وأختها ترققها وتحدوها من بعدها. ماذا أقول ومن سيفقه قولتي وإذا صرخت فمن سيسمع صرختي إنها هذه الفتنة المحدقة بنا أعطتنا إفرازات معينة تقول: إننا أمة تحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، إنها هذه الفتنة أعطتنا: أنه يجب أن نرجع إلى الكتاب والسنة ونبحث عنها أكثر من بحثنا عن الطعام والشراب والهواء، إنها أعطتنا إن لم نرجع بصدق؛ فإن الفتن كعقد قطع سلكه فتتابع، فتن بعضها يحدو بعضاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، ولما أحدقت بنا الفتن تخبطنا يمنة ويسرة ونسينا قول المصطفى: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي} ترك الله لنا هذا النور، من استضاء به في الظلمات كان مهدياً منصوراً، وكثير منا تنكبه ونسيه وتعلق بغيره فهو في الظلمات ليس بخارج منها. عقيدتنا تأمرنا أن نرتبط برب يقول للشيء: كن فيكون، وارتبط الناس بكل شيء إلا بمن يقول للشيء: كن فيكون، عقيدتنا تأمرنا أن نفتش عن أسباب الفتن وسبب تسلط الأشرار من الأعداء، فكم هم الذين ارتبطوا بذلك مع هذه الأحداث؟! كم هم الذين انطلقوا إلى المسجد ليواظبوا على صلاة الفجر ويقوموا الليل، لما أحدقت الخطوب الآن، ورأوا أن الموت وشرر الحرب يتقد يمنة ويسرة؟! كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: لا مخرج لنا مما نحن فيه إلا بعودة صادقة إلى الله؟! كم هم الذين نادوا بالتناصح والقضاء على المنكرات التي قلما نتجه إلى جهة إلا ونجد فيها منكراً فظيعاً؟! كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: إن سفينة الحياة تخرب، فهيا لإنقاذها قبل غرق الجميع؟! إنهم والله قلة، لكن يرحم الله البلاد بمصلحيها ودعاتها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]. عقيدتنا تقول: الولاء والمحبة والنصرة لأولياء الله لا من أجل عروبة، ولا لقومية، ولا لقرابة، ولا لقبيلة، ولا لجيرة، ولكن نوالي من قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين وإخلاص، أما تلك فأعراف ألقاها الإسلام، داسها بقدميه وبعضنا لا زال ينادي بها، محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله} إن أحببنا فلله، وإن أبغضنا فلله، وإن والينا فلله، وإن عادينا فلله. عقيدتنا تقول: آن الأوان لترك اللهو والطرب والمزامير والعبث، وآن الأوان لشد المئزر وحمل المدفع لا لتراب، ولا لعروبة، ولكن لرفع لا إله إلا الله. عقيدتنا تقول: انطلقوا للدفاع عن راية التوحيد حتى لا يعبد في الأرض سوى الله، وما ذلك على الله بعزيز. عقيدتنا تقول: لسنا بحاجة إلى قوة عسكرية فقط، بل حاجتنا والله إلى القوة المعنوية أعظم وأشد، ألا وهي قوة التوكل على الله، قوة العقيدة التي إن وجدت ينصرنا رب السماوات والأرض. عقيدتنا تقول: وآأسفاه على أمتي! وآأسفاه على أهل العقيدة! ينظرون لتحليلات إذاعات الغرب التي تقارن قواتنا بقوات الغرب، وما علمت أنها تنصر بهذا الدين لا بعدد ولا عُدد. عقيدتنا تقول: لا تتعلق أيها المسلم بمحادثات فلان وفلان، ولكن تعلق بمن يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]. عقيدتنا تقول: لا تتعلقوا بإذاعات الأراجيف التي تبث سمومها لتضع الفجوة بين الولاة والعلماء، لكن تعلقوا بمن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. عقيدتنا تقول: إن ارتباطنا بمن يقول للشيء كن فيكون، أين إيماننا بلا إله إلا الله؟! عقيدتنا تقول: لو جاءت جميع قوى الدنيا ولم يرد الله نصرنا ما استطعنا أن ننتصر على أحد {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] هل وعينا ذلك؟ هل فهمنا ذلك؟ هل أيقنا بذلك؟ نسأل الله ذلك. عباد الله! أمتكم مستهدفة في كل شيء؛ في عقيدتها، في ثرواتها، في مناهجها، في إعلامها، والكثير لا زال يعيش في غيبوبة لا يعلم ما يحيط أمته ولا ما يحيط بها، هو بحاجة إلى نظارات من تقوى الله يبصر به المجتمع ليرى ما فيه مما يندى له الجبين.

حال العرب قبل الإسلام وبعده

حال العرب قبل الإسلام وبعده لفتةٌُ إلى الماضي: كيف كنا أيها العرب قبل لا إله إلا الله؟ كنا غثاء نتقاتل على مربط الشاة ومورد البعير، حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعبد من دون الله ضلالاً وظلاماً، بل ظلمات بعضها فوق بعض، ثم جاء الحق والنور على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وزهق الباطل، ونشر الدين في هذا العالم، ولا زال له بفضل الله أصحاب وأنصار بمقتضى قول محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك}. انطلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وإلى الآن على قلة يدافعون عن عقيدتهم، فضحوا بأنفسهم، ضحوا بكل ما يملكون في سبيل الله، فربح بيعهم، وحصدوا انتصارات بارعة على أعدائهم على الرغم من قلتهم، أما اليوم فالمسلمون قد أهينت كراماتهم، وانتهكت حرماتهم، رغم كثرتهم لم؟ لاختلاف السابقين المسلمين عن الآن، أولئك صدقوا الله، وقاتلوا بقوة الله رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتعلقوا بالله، فنصرهم الله. هاهو طفل من أطفالهم عمير بن أبي وقاص أخو سعد كان عمره أربعة عشر عاماً، أي: بعمر أولادنا الذين يتيهون اليوم في الملاعب وعلى أنغام الموسيقى وما لا فائدة فيه، يأتي عمير يوم بدر وحمائم السيف تجر خلفه لنحافته وقصره، لكنه كبير بعقيدته وإيمانه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادته؛ لأنه لا يقدر على الجهاد، فبكى عمير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه سعد: {ما يبكيه؟ قال سعد: والله يا رسول الله! ما خرج من المدينة رغبة في شيء إلا في الشهادة في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة لعله يرزقها في هذا اليوم يا رسول الله! فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، ويأذن له، فيكون أول شهداء بدر رضي الله عنهم أجمعين} حريٌ بأطفالنا، لا، بل برجالنا أن يجعلوه مثلاً يحتذى به بعد أن ضللهم الفراغ، وأعدم عندهم الأخلاق والعقائد والأفكار. من عقيدتنا إيماننا بالله، فأين ذلك؟ يوم حدث الحادث على بلد مجاور، واليوم نحن في انتظار حرب كانت هناك حرب يلتفت الناس يمنة ويسرة فزعين هلعين قد أصابهم السخط والجزع، وكأن لم يكن لهم ربٌ يقول للشيء كن فيكون، أليس هو مالك الملك؟! أليس هو مدبر الأمر؟! بلى والله، الأمر لله، والملك لله، والخلق لله، والعزة لله، يعز من يشاء ويذل من يشاء. يا من يعرف معرفة الطريق لنصر الله! اسمع قول الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} فهل حققنا ذلك لنكون أهلاً، لنسأل فنعطى، ولنستعيذ فنعاذ؟ هل ارتبطنا بالله؟! أما والله لو ارتبطنا به لسخر لنا كل ما في الكون، ولنصرنا، ولأعزنا، ولوقف معنا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] سخر الله النهر - نهر دجلة - لـ سعد بن أبي وقاص وجنده، فمشوا عليه كأنه يابساً يرون الأسماك من تحتهم، وعبروا النهر، وأدخلوا الرعب في نفوس الفرس، فهربوا قائلين: إنكم تقاتلون شياطيناً وجناً لا بشراً وإنساً، أين يكون ذلك؟ أين يكون أن يجعل النهر يابساً إلا في عقيدتنا، نحن لا نرتبط بقوانا، ولا بقدراتنا، لكن معنا من يقول للشيء: كن فيكون. سائلوا التاريخ عنا كيف كنا؟ كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً

نصر الله متعلق بمن ينصر دينه

نصر الله متعلق بمن ينصر دينه من استنصر بالله نصره الله، بل يمده الله بالملائكة، بل يمده بكل شيء وينصره: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]. جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {كنت في الجهاد فسمعت هاتفاً يقول: اقدم حيزوم اقدم حيزوم، ما حيزوم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا ملكٌ من ملائكة السماء الثالثة جاء ليقاتل معكم}. أمتنا مددها من الله؛ يمدها بالملائكة، يمدها بالريح، بقذف الرعب في قلوب أعدائها، أفتستغيث بغيره وتتعلق بغيره، ثم ترجو النجاة. عباد الله! في يوم الأحزاب أحدق الأعداء بمحمد صلى الله عليه وسلم وجنده {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] وهم في خضم بلواهم واختبارهم إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يحن لهم، ويرق عليهم يوم يرى حال الصحابة وما بهم من جوع وبرد وقلة عدد، يعملون ثلاثة أيام لم يذوقوا شيئاً، يكشف أحدهم عن بطنه، وقد ربط عليه حجراً من شدة الجوع، ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد، فيسليهم بنفسه صلى الله عليه وسلم، يكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم، وقد ربط عليه حجران وهو يقول: {اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة} ويجيب الجائعون في بطونهم، الشبعانون بإيمانهم بالله، فيقولون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً لا إله إلا الله! أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وشريعتنا الآن؟! إن حياتنا لا بد أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على أمل نيل الشهادات وضمان المستقبل ولقمة العيش، وإذا فاز أحد الشباب بشهادة، قالوا: أمن مستقبله. إن مستقبل الأمة المسلمة حقاً هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، لا في بيت، ولا وظيفة، ولا شهادة، بل في جنة: قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها وآأسفاه على أمة الإسلام! إذا انتصرت في الرياضة قالت: بتمسكنا بعقيدتنا، ويتساءل الإنسان بمرارة أي عقيدة تكون في اللهو والطرب والضياع؟! ثم نأسى ونتحسر ونأسف على شبابنا، وعلى ضياعهم، لا نملك إلا أن نقول: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

بروز العقيدة وقت الشدائد

بروز العقيدة وقت الشدائد عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمات، نرتبط بها ارتباطاً عجيباً، هاهو صلى الله عليه وسلم لا يؤمل صحابته في جهاده برجوعهم إلى الدنيا، لكن يؤملهم بجنة وما عند الله، حتى رأوا الجنة من هنا، وشموا رائحتها حتى قال قائلهم: واه لريح الجنة! إني لأجد ريحها دون أحد. تعلقوا بالله وما عند الله؛ فنصرهم الله. خالد بن الوليد يوم يجتمع الكفر عليه ويتألب عليه بأضعاف أضعاف عدد المسلمين لديه، فيقول المسلمون لـ خالد: لا بد من اللجوء إلى سلمى، أو إلى أجى -جبلين في حائل - فتدمع عيناه، وهو المتوكل على الله، والواثق بنصر الله، ويقول: لا، لا إلى سلمى، ولا إلى أجى، ولكن إلى الله الملتجى. فينصر؛ لأنه نصر الله، وتوكل عليه. ويا جامع الطعام والشراب استعداداً لخوض معركة مع أعداء الله! هاهو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه إسماعيل في أرض مجدبة لا زرع فيها ولا ثمر، ويذهب فتقول زوجته: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله الذي أستودعكما إياه، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. ما أعظم التوكل واليقين! يا أمة العقيدة! تمسكوا بدينكم، والتزموا شرعكم، وافتخروا به، وتحاكموا إليه في كل شئونكم، واستشعروا معية الله معكم، فإن الله مع المؤمنين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] اصدحوا بالحق فقد صدح به أسلافكم، سطح ربعي في إيوان كسرى يوم سأله كسرى: لم جئتم؟ فرد بصوت مدوىٍ كالصاعقة، قال: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] يقول له كسرى: كم في جيش الإسلام من مثلك؟ قال: إني خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي، فيقول كسرى: والله ليملكون ما تحت قدمي هاتين، وفعلاً ملكوه بعقيدتهم الصافية. ألا واثبتوا -يا عباد الله- كثبات أسلافكم، ومنهم عبد الله بن حذافة يوم عرضت عليه النصرانية وهو أسير، فأبى أشد الإباء، أغليت له قدور الزيت حتى أصبح الزيت يغلي وألقي فيه اثنان من المسلمين، فتفتتوا ليرهبوه، وليردوه عن (لا إله إلا الله) وتدمع عيناه، فقيل له: لم؟! هل ستعود عن دينك إلى النصرانية؟! قال: لا. قالوا: فما يبكيك؟! قال: [[نظرت، فإذا هي نفس واحدة، وددت أن لي أنفاساً بعدد شعر جسدي تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله]]. والخير لا زال، وسيبقى بمقتضى {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة}. هاهو أحد قادة الأفغان المعتزين بدين الإسلام، والذين يدافعون عنه بمثل هذه الأيام، يقول: اعتقل الشيوعيون أبي حتى أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ثم اعتقلوا أمي لكي أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوها، ثم اعتقلوا أخي لأترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ولا والله ما أترك الجهاد، ولن أتركه حتى النصر أو أهلك دونه في سبيل الله، فألقى الأحبة محمداً وصحبه. الله أكبر يا عباد الله! نريد رجالاً كهذا في مثل هذه الأيام تعتز بدينها، تعتز بعقيدتها لتنصر من رب النصر سبحانه وتعالى. يا أمة العقيدة! إن أمة العقيدة أمة نشيطة لا تضيع وقتها في اللهو واللعب؛ لأن الله سيسألها عن أوقاتها، أمة العقيدة أمة تضحية، أمة العقيدة أمة مراقبة لله، ثابتة لا تتزحزح في أي مكان، أما أمة تلتزم بعقيدتها، ثم إذا سافرت إلى بلاد الكفر نسيتها هنا، ليست بأمة عقيدة حقة. أمة تلتزم بعقيدتها في الرخاء، وفي الشدة تضيعها ليست بأمة عقيدة. أمة العقيدة أمة آمرة ناهية ليست متخاذلة، أمة العقيدة تنكر الروابط الأرضية من جنس ولون ولغة وترفع (لا إله إلا الله). أمة العقيدة جعلت بلالاً وسلمان وعمر وعثمان بنعمة الله إخواناً، عقيدتنا ثمينة، عقيدتنا غالية، ألا وفي هذه الأحداث رخصت عند بعض الرخصاء من الناس، يوم خرج بعض مرضى القلوب فأطلقوا ألفاظاً نسأل الله أن لا يؤاخذ الأمة كلها بهذه الألفاظ تدل على عدم ثبات العقيدة، كقول بعضهم: إن قوى الكفر تقول للشيء: كن فيكون، لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! عقيدتنا تنادي هؤلاء المرضى، ولا زالت تناديهم: عودة إلى الله، فالعود أحمد. العودة إلى الله أيها المسلمون! التعلق بالله، التوكل على الله، الثقة بالله، الرجوع إلى القرآن، الرجوع إلى السنة، تصفية العقيدة، عند ذلك أبشروا بالنصر {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]. إسلامنا هو درعنا وسلاحنا ومنارنا عبر الدجاة الظلمة هو بالإخوة رافعٌ أعلامه فامشي بظل رضائه يا أمتي لا الغرب يقصد عزنا كلا ولا شرق التحلل إنهم كالحية الكل يقصد ذلنا وهواننا أفغير ربي منقذٌ من شدتي اللهم إنا نسألك يا من لا ينقذ من الشدة إلا أنت! نسألك نصرك نسألك عزك نسألك قوتك نسألك أن تثبتنا على الإيمان، وأن تنصرنا بالقرآن، وأن تخذل أعداءك أعداء الإسلام. اللهم وأخرج للأمة رجالاً كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

احفظ الله يحفظك

احفظ الله يحفظك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله هدية أقدمها لكل مسلم يسمع ويعي هذه الأيام، أهدي قول محمد صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وفي رواية: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} لا إله إلا الله ما أحوجنا إلى فهم وتطبيق هذا الحديث في هذه الأيام، وفي كل آن، يقول بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت منه أطيش. وآأسفاه من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم والتفهم لمعناه، أسفي على فهم تبلد فيه الفطن.

أهمية الإيمان بالقضاء والقدر

أهمية الإيمان بالقضاء والقدر يا مسلمون! إننا أمة تنطلق في توجهاتها وتوقعاتها من أحكام شريعتها، وصميم عقيدتها، ومبادئ دينها، ويمثل الإيمان بقضاء الله وقدره ركناً عظيماً من أركان إيماننا بربنا، يقول جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ويقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] ما من حدث يحدث، ولا مصيبة تحصل في أرض الله، ولا في عباد الله إلا بقدر الله {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23] إن يقيننا بذلك يهون علينا مصائب الدنيا، ويجعلنا نشق طريقنا مع الأحداث بعقيدة قوية وعزيمة صادقة، والله ليست في المجتمعات البشرية كلها أمضى عزيمة ولا أقوى سكينة من المؤمن بأقدار الله جل وعلا، فهو يمضي فيما عزم عليه من الخير دون توقف أو تردد أو وجل، يقينه بأن كل ذرة في السماوات والأرض قد قدرها الله مبدأها ومعادها وأجلها، ونظامها، وعلاقتها بالكون وما فيه {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]. المؤمن الحق يعلم أنه لن يأتيه إلا ما كتب له، فلا يعترض على قدر الله، بل يعمل ويجد ويصحح الأخطاء {ولا يلدغ مؤمن من جحر مرتين} أما الذين يقابلون هذه الأحداث بعقيدة مضطربة، وأفكار منهزمة، ومعنويات منهارة يمجدون المخلوق الضعيف وينسون الخالق القوي القادر، يتصيدون رضا الناس بسخط رب الناس، ينسون ربهم في حال الشدة والرخاء، يواقعون المعاصي في حال السراء والضراء، هؤلاء إنما يمكنون للعدو من أنفسهم، ويوجد في المسلمين اليوم من يستوي عنده الأمران، فأين الإيمان؟ أين العقيدة؟ هل أمنا مكر الله؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون. إن العدو الحقيقي الذي نخشاه هو من داخل أنفسنا بما كسبت أيدينا قبل أن يكون العدو الخارجي {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ * إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:10 - 11]. هل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة؟! هل يعودوا إلى قلوبهم فيصلحوها؟! هل يعودوا إلى أنفسهم فيحاسبوها؟! هل يعودون إلى أسرهم فيربوها؟! لقد سمعنا مقولات، وطالعتنا صحف ومجلات، وأثقلت مسامعنا إذاعات بتوقعات وتحليلات لا تشم فيها رائحة الولاء لرب الأرض والسماوات، بل وجدت أفعال وتصرفات تبين حالة الرعب والفزع والهلع الذي حل بهؤلاء وأولئك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أين الله؟! أين التوكل على الله؟! ماذا يغني الإعداد الغذائي في غياب الإعداد الإيماني؟ لا بأس بالإعداد الغذائي، لا نقول: لا تعدوا أنفسكم، لكن الإعداد الإيماني هو الغاية، وهو الحبل الذي يمدنا الله به: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61].

الاستعداد للمراحل التي ستمر بالأمة

الاستعداد للمراحل التي ستمر بالأمة إن المراحل التي تمر بها الأمة تتطلب الاستعداد بجد، يجب أن تولى حياة اللعب واللهو والترف إلى غير رجعة، ويحل محلها الإيمان والقوة والجد والنشاط والتدريب والجهاد واليقين والتوكل والتوبة والطاعة، والإيمان بقضاء الله وقدره، والاستجابة لله رب العالمين، الإيمان بأن ما حصل ويحصل من حوادث وكوارث، إنما هو بعلم الله وقدرته وإرادته، فلنعد الأنفس بالإيمان الذي تستطيع به مواجهة الشدائد، ولنقل: توكلنا على الله، ولنلجأ إلى الله بشدة، ونواصل الدعاء لنضرع عليه أن يلطف بما تجري به المقادير، لو حققنا ذلك وأيقنا أنه لن تنطلق رصاصة واحدة إلا بإذن الله، فاعتصمنا بحبل الله واجتمعنا؛ لينصرنَّا الله وهو القوي العزيز. ليس لنا يا مسلمون بغير حبل الله مستمسك، ولا بغير دينه مستعصم، ومن اتكل في أموره على غير الله وكله الله إلى ضعفه وعجزه. لن يحصل نصرٌ إلا بتحكيم شرع الله، وبالإعداد والتربية، بفتح الباب للدعاة، بعودة عباد الليل وفرسان النهار كما كان ذلك في تاريخ الإسلام، لكن عباد الله مع هذه الظلمة كلها، فالفجر يخرج في خضم الظلام، هذه الأمة بحمد الله وكرمه أمة خير ونصر حتى لو سلط عليها أعداؤها، فإن البشائر والآمال معقودة بأبنائها، لكن أي أبناء؟! بأبنائها أولياء الله، عمار المساجد، حفاظ الكتاب، محبي الخير، هواة الموت في سبيل الله، الدعاة إلى الله الصادقين المخلصين، عباد الله في الليل، وأسود النهار، لا زال الأمل بعد الله في هؤلاء. فلنعتصم بالله، ولنحفظ الله، ولنتعرف على الله، ولنتضرع إليه، فهو القائل كما في الأثر: {وما اعتصم عبد من عبادي بي، فكادته السماوات والأرض؛ إلا جعلت له منها فرجاً ومخرجاً} ولنرفع أيدينا في جوف الليل إلى الله، ليدٌ مخلصةٌ في جوف الليل ترفع إلى الله أشد على الأعداء من القنابل الذرية والجرثومية والغازات السامة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم دمره، اللهم مزقه، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع له راية، اللهم اجعله لمن خلفه آية، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، يا قهار! يا جبار! يا مالك الملك! يا من أنت على كل شيء قدير! أرنا في الظلمة يوماً تقر به أعين الموحدين، اللهم إنا نجعلك في نحور الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرور المعتدين، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله يا أكرم الأكرمين! ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم قوي يقيننا وتوكلنا وصدقنا وإخلاصنا وثبتنا في زمن الفتن، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم إذا نسوك، وتعينهم على الحق يا أكرم الأكرمين! اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

حقيقة الكلمة

حقيقة الكلمة إن العبد المؤمن الذي يبتغي مرضات الله سبحانه، ليتذكر يوم وقوفه بين يدي الجبار حيث يكلمه ليس بينه وبين الله ترجمان؛ فيكون ذلك دافعاً لأن يجعل تقوى الله مصاحبه، ورضا الله مطلبه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قائده، وإعداد الجواب والصواب بين يدي الله مقصده، فيتزود بالتقوى والأعمال الصالحة.

وصية الله للأولين والآخرين

وصية الله للأولين والآخرين إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أما بعد: عبد الله! عقلك عقلك، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول؛ راجيًا أن يتسع صدرك احتسابًا لما أقول. ثم حلِّقْ معي بخيالك متخيلاً ما هو واقع، ومتصوراً ما هو حقيقة على الحقيقة.

حقيقة الموقف وأهوال القيامة

حقيقة الموقف وأهوال القيامة تخيل وليداً عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين. وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافياً عارياً أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالاً ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش. السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت. والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت. والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت. العِشَار عُطِّلت الوحوش حُشِرت البحار فُجِّرت وسُجِّرت. الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ. الكواكب انتثرت النجوم انكدرت الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت. الأمم ازدحمت وتدافعت الأقدام اختلفت الأجواف احترقت الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت. فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين. والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس. الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها. اللسان كليل القلب حسير كسير الجوارح اضطربت الألوان تغيرت لِمَا رأت الفرائص ارتعدت القلوب بالنداء قُرِعت والموءودة سُئلت والجحيم سُعِّرت والجنة أُزلِفَت. عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت. زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت. وأحضروا للعرض والحساب وانقطعت علائق الأنساب وارتكمت سحائب الأهوال وانعجم البليغ في المقال وعنت الوجوه للقيوم واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم وساوت الملوك للأجناد وجيء بالكتاب والأشهاد وشهد الأعضاء والجوارح وبدت السوءات والفضائح وابتُليت هنالك السرائر وانكشف المخفي في الضمائر هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟! ما اقترف ذنباً، وما ارتكب جُرْماً، ااًلأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعوراً قلبه، اشتعل رأسه شيباً في الحال؛ لهول ما يرى. فيالله لذلك الموقف: يوم عبوس قمطرير شرُّه وتشيب منه مفارق الولدان هذا بلا ذنب يخاف مصيره كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟! قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17]. عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!

المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة

المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين. أي أمر هذا أيها المؤمنون؟ إنه وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] ويقول تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72]. أي تقوى تنجي بين يدي الله؟ أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟ أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟ كلا. ما كل منتسب للقول قوَّال. لو أن أسباب العفاف بلا تقى نفعت لقد نفعت إذاً إبليس فهو القائل: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها كُنهها ماهيتها مضمونها. فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟ إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان: وثالث مرتبة الإحسان وتلك أعلاها لدى الرحمن وهي رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعيان

حقيقة الاتباع عند الصحابة

حقيقة الاتباع عند الصحابة بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقاً ونظاماً، رابطة وأخوة. هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة. هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكاراً ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكاً محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها: خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاغوه واقعاً حيّاً نابضاً انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم. صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. إذا ما دُعوا للهدى هرولوا وإن تدعهم للهوى قرفصوا روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: {كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلاناً وفلاناً وفلاناً، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منادياً ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة}، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا. لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا. ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالاً لأمر الله، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ عليه السلام، فاستعبرت عينا كعب رضيَ الله عنه ورجع كسير البال، كاسف الحال. فأمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب رضي الله عنه وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها: ما بعث نفسي إلا لله عز وجلِّ فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئاً سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: {بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا}. توحيد في الاتباع. فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي بل كان الناس إذا نزلوا منزلاً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: {إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم} تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. هم ذلك السلف الذين لسانهم تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها حقاً يقال لمثله أطْرق كرى أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى

حقيقة التقوى

حقيقة التقوى مما سمعتم -أيها المؤمنون- يتجلى لنا مظهر أفراد المجتمع المسلم في ظل إدراكهم الصحيح لمفهوم الإسلام، فليست المسألة عندهم فرائض يفرضها هذا الدين على الناس بلا موجب إلا رغبة التحكم في العباد، بل هي مسألة وجود الإنسان إذا رغب أن يكون إنساناً حقاً، لا مجرد كائن يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويقضي أيامه على الأرض كيفما اتفق؟! بل هي وضع للإنسان في وضعه الصحيح كإنسان، يستشعر رقابة المولى، وتلك حقيقة التقوى. عباد الله: هل استشعر رقابة الله واتقى الله حقيقة من يشهد أن لا إله إلا الله، ويصبح دائباً مُجدّاً مجتهداً في مطعم حرام، وملبس حرام، وغذاء حرام؟ يصبح وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، ووقع في عِرْض ذاك وذا. يصغر ذا بأراجيفه ويرجو بذلك أن يكبرا ولو عاش في عالم أمثل لكان من الحتم أن يصغرا هل استشعر رقابة الله من يجلب النار ليحرق بيته وأهله؟ من يخرب بيته بيده بوسائل لا تزال تمطره بوابل أو طلٍّ من أغانٍ وأفلام ماجنة، وقصص سافلة، وترويض للنفوس على الكذب والنفاق وقلب الحقائق؟ قائم على هدم بيته كالدودة التي تخرج من الميت، ثم لا تأكل إلا ذاك الميت. ألم يستشعر أنه لو مات على حالته تلك؛ مات غاشّاً لرعيته، خائناً لأمانته، حاملاً وزره ووزر ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدر ما أفسدت هذه الوسائل في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً. والله! لا يُعفيك من حساب الله، ولا من لوم الناس، ولا تأنيب الضمير أن تقول: أنا ضحية، وما البديل، وما البدل، وما المبدل منه، وبيتك حقلٌ لاستقبال الأفكار والأوضار والأقذار، تنبت فيه وتنمو وتترعرع، وأنت تسأل ماذا أفعل؟ لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسدِّه لتستريح. ألا إن الشَّراب له إناءُ فإن دنَّسته دَنِس الشَّراب أَمَا في هذه الدنيا أمورٌ سوى الشهوات تحرزها الطلاب أما في هذه الدنيا أسودٌ كما في هذه الدنيا كلاب بلى. يمنع الليث حِمَاه أن يرى فيه كلباً عادياً إن زأرا هل استشعر رقابة الله من يتعبد بأعمال ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته ازدياد الخير، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريد للخير لا يصيبه؟ أي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصِّصت بفضل لم يُخصّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. هل استشعر رقابة الله من ليله سَهَر على ما حرم الله، ويصبح مجاهراً بمعصية الله؟ من إذا وصل إلى بيئة أجنبية لا يُعرف أَمِن اليهود هو، أم من النصارى والمجوس والذين أشركوا؟ كلفظ ما له معنى كتمثال من الجبس يسير لغير ما هدف ويصبح غير ما يمسي حقيقة الكلمة: لَجَأٌ إلى الله، وتَعرَّفٌ عليه في الشدة والرخاء، لا على سواه، عرَّافاً كان أو ساحراً أو كاهناً أو مقبوراً: لا قبة ترجى ولا وثن ولا قبر ولا نصب من الأنصاب الله ينفعني ويدفع ما بي بالله ثق وله أنب وبه استعن فإذا فعلت فأنت خير مُعَانٍ

سيد المتقين عبادته وإخباته

سيد المتقين عبادته وإخباته ها هو سيد المتقين -صلوات الله وسلامه عليه- في الشدة والرخاء لا تراه إلا أوَّاهاً منيباً مخبتاً إلى ربه؛ فبهداه يهتدي المقتدون.

حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الرخاء

حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الرخاء ثبت عند ابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: {دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضيَ الله عنها فقال عبيد: حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي. قالت: قلت: والله! إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك. فقام وتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم لم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض من حوله، وجاء بلال ليؤذنه بصلاة الفجر، فلمَّا رآه يبكي بكى، وقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، تبكي وقد غُفر لك؟! قال: يا بلال! أفلا أكون عبداً شكوراً؟ آيات أُنزلت عليَّ الليلة، ويلٌ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، وويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]} هذا في رخائه صلى الله عليه وسلم. يا نائماً مستغرقاً في المنام قم فاذكر الحي الذي لا ينام

حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدة

حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدة وفي الشدة تنقل لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضاً -كما ثبت في البخاري - أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب} يالله! يعيش قضيته بكل أحاسيسه ومشاعره، هَمٌّ بلغ برسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يشعر بنفسه من الطائف إلى السيل الكبير. فيم كان يفكر؟ ترى فيم استغرق هذا الاستغراق الطويل؟ لعله كان يُفِّكر في أمر دعوته التي مضى عليها عشر سنين ولم يستطع نشر الإسلام بالحجم الذي كان يتمنى، لعله كان يُفكِّر كيف سيدخل مكة؟ فهو بين عدّويْن: عدو خَلَّفه وراء ظهره أساء إليه ولم يقبل دعوته، وعدوٌ أمامه ينتظره ليوقع به الأذى، يقول صلى الله عليه وسلم: {فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل -لطف الله ورحمة الله لمن يتعرفون عليه في الرخاء- فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال: فسلم عليّ، ثم قال: يامحمد! ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين}. الله ينصر من يقوم بنصره والله يخذل ناصر الشيطان كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بقومه، فما أرسل إلا رحمة للعالمين. الأمل في هدايتهم يفوق في إحساسه الشعور في الرغبة بالانتقام من أعدائه، والتشفي من قومه الذين أوقعوا به صنوف الأذى، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: {كلا. بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكان ما رجاه وأمَّلَه؛ بذرة طيبة في أرض خصبة لم تلبث أن صارت شجرة مُورِقَة. يبني الرجال وغيره يبني القُرى شتان بين قرى وبين رجال رخاء وشدة لله، وتلك حقيقة تقوى الله.

حقيقة الكلمة نظرات وتأملات

حقيقة الكلمة نظرات وتأملات حقيقة الكلمة: أن تكون كراكب على ظهر خشبة في عرض البحر، تتقاذفك الأمواج والأثباج، وأنت تدعو: يا رب! يا رب! لعلَّ الله أن ينجيك. حالك ومقالك: يا مالك الملك جُدْ لي بالرضا كرماً فأنت لي محسن في سائر العمر يا رب زدنيَ توفيقاً ومعرفة وحسن عاقبة في الورد والصدر

إعداد الجواب بين يدي الله

إعداد الجواب بين يدي الله حقيقة الكلمة: ألا تنطق بكلمة ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا وقد أعددت له جواباً بين يديْ الله؛ فإنك مسئول، فأعدَّ للسؤال جواباً صواباً. وعندها يثبِّت المهيمن بثابت القول الذين آمنوا ويوقن المرتاب عند ذلك بأنما مورده المهالك

اليقظة وعدم الغفلة عن مكر الله

اليقظة وعدم الغفلة عن مكر الله حقيقة الكلمة: حذار أن يأخذك الله وأنت على غفلة، ألا يحضر حق لله إلا وأنت متهيء له، ألا تكون عدواً لإبليس علانية صديقاً له في السر. حقيقة الكلمة: استشعار قدرة الله خصوصاً عند إرادة الظلم لعباد الله؛ عاملاً أو خادماً كائناً من كان، يحسب المرء أنه يعجز الله فيلهو ويملأ الأرض ظلماً. روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مسعود البدري قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسَّوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود! فألقيت السوط من يدي هيبةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يُكرِّر: اعلم أبا مسعود! للهُ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً يا رسول الله! هو حرٌ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تفعل ذلك لَلَفَحَتْك النَّار- أو لمسَّتْك النار-}. من سار في درب الردى غاله الردى ومن سار في درب الخلاص تخلصا ثبت عن عبد الله بن أنيس -كما في المسند - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله بصوت يَسمعه مَنْ بَعُد كما يَسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملك أنا الديان! لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى اللطمة}. من يعمل السوءى سيجزى مثلها أو يعمل الحسنى يفز بجِنَان خُلِق الظلم: أُمه قلة الدين، وسوء الأخلاق أبوه.

نصرة ونجدة المظلومين

نصرة ونجدة المظلومين حقيقة الكلمة: نصرة ونجدة المظلومين، وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة. ليس من شأن المسلم المتقي لله حقاً أن يدع أخاه فريسة في يد مَنْ يظلمه أو يذلّه، وهو قادر على أن ينصره، من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره، أذلَّه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة. ثبت عند ابن ماجة في سننه عن جابر قال: {لما رجعت مهاجرة البحر -مهاجرة الحبشة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّةُ من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتها، فلمَّا قامت التفتت إليه وقالت: سوف تعلم يا غدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، كيف يكون أمري وأمرك عنده غداً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتْ! صدقت! كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟! أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم. إن من الضعفاء من لو أقسم على الله لأبرَّه}. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] كم يستغيثون؟ كم هم يَئِنُّون؟ كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان والعالم اليوم شاهد بذا. المستذل الحر والمزدرى عالي الـ ذرى والأوضع الأشرف كم في المسلمين من ذوى حاجة، وأصحاب هموم، وصرعى مظالم، وفقراء وجرحى قلوب، في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين أنَّى اتجهت: كبلوهم قتلوهم مثَّلوا بذوات الخدر عاثوا باليتامى ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم يرحموا طفلاً ولم يبقوه غلاما هدموا الدُّور استحلُّوا كل ما حرَّم الله ولم يَرْعَوْا ذِمَاما أين من أضلاعنا أفئدة تنصر المظلوم تأبى أن يضاما نسأل الله الذي يكلؤنا نصرة المظلوم شيخاً أو أيَامى. لا تكن العصافير أحسن مروءةً منا، إذا أُوذي أحد العصافير صاح فاجتمعت لنصرته ونجدته كلها، بل إذا وقع فرخ لطائر منها طِرْن جميعاً حوله يعلِّمْنَه الطَّيران؛ فأين المسلم الإنسان؟ إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما انصر الحق والمظلوم حيث كان، ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا إن كنت فاعلاً متفاعلاً، نصيراً بكلمة بشفاعة بإعانة بإشارة خير بدعاء بعزم ومضاء. عَبِّئْ له العزم واهْتِف مِلء مَسْمَعِه لابد لليل مهما طال من فلق هذا عرينك لكن أين هيبته والليث ليث فتيّاً كان أو هَرِمَا على الليالي على الأيام في ثقةٍ نقِّل خطاك وإلا فابتر القدما كالسيل منطلقاً كالليل مهتدماً حتى ترى حائط الطغيان منهدما

تقديم حب الله ورضاه على كل ما عداه

تقديم حب الله ورضاه على كل ما عداه حقيقة الكلمة: إيثار رضا الله على رضا كل أحد، وإن عظمت المحن، وثقلت المُؤن، وضعف الطَّوْل والبدن. تقديم حب الله على حب كل أحد؛ إن كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو ابناً أو مالاً سكناً: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]. لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها، واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه، فما تلكئوا، ولا ترددوا، بل خرجوا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. تركوا الأهل والوطن، تركوا المال والولد، لم يبقَ منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف، وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين وُلدوا بـ مكة، ونشئوا بها، ومع ذا هاجروا منها؛ استجابةً لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم: مرحباً بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا ثم مرضوا بـ المدينة، وأصابتهم الحمى، فأباحوا بأشعار وأقوال أثناء المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم، فها هي عائشة تأتي إلى أبيها أبي بكر رضيَ الله عنهما وقد أصيب بالحمَّى، يرعد كما ترعد السَّعفة في مهبِّ الريح، وتقول له: كيف تجدك يا أبي؟ فيقول: كل امرئ مصبَّح في أهله والموت أدني من شراك نعله فتقول عائشة: والله ما يدري أبي ما يقول. وبلال رضي الله عنه محموم يُسائل نفسه: هل سيرى سوق مجنة ومجاز، وجبال مكة كـ شامة وطفيل، ونباتها كالإذخر والجليل، ثم يرفع عقيرته، فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدو لي شامة وطفيل ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضَّه ذلك وآلمه، إذ كان يعزّ عليه عنتهم صلوات الله وسلامه عليه فدعا ربه: {اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة} فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه. حالهم: اختر لنفسك منزلاً تعلو به أو مت كريماً تحت ظل القسطلِ وإذا نبا بك منزل فتحولِ أخيراً: هذه مشاعر مسلم حول الهجرة، هو أبو أحمد بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، يصورها مع زوجته بأسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله بهجرته، ولو كان في ذلك شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجياً ألا يخيبه الله كما يروى، فيقول: ولما رأتني أم أحمد غادياً بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول فإما كنت لابد فاعل فيمِّن بنا البلدان ولتنأ يثرب فقلت لها بل يثرب اليوم وجهنا وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم إلى الله يوماً وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم وناصح ونائحة تبكي بدمع وتندب ترى أن موتاً نأينا عن بلادنا ونحن نرى أن الرغائب نطلب بهذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم، فماذا يضرهم والله مولاهم؟ حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في الجنة مولاهم، فغلَّبوا الأعلى على الأدنى، والأنفس على الأرخص، والأسمى على الأخس: شتان بين امرئ في نفسه حرم قدس وبين امرئ في قلبه صنم خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته واقبل مقبض بابه خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه إنها الجنة والذي نفسي بيده! لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤساً قط، فاسمع وعِ: لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان ألا رُبَّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه اليوم مهين لها غداً، ادفعوا سيئات الأمس بحسنات اليوم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت

لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وأُصلي وأُسلم على النبي الأمين، وآله وصحبه والتابعين. أما بعد: عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، فمن حقيقة هذه الكلمة: ألا تنظر إلى صغر الخطيئة، بل تنظر إلى عظمة من عصيت. إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ المصور كم من ذنب حقير استهان به العبد فكان هلاكاً له: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. ثبت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: {كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فناما واستيقظا وهو نائم لم يهيء لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لنئوم -أي: كثير النوم- ثم أيقظاه، وقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما، فرجع فأخبرهما، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكما قد ائتدمتما! ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدمنما، فبأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: فاستغفر لنا يا رسول الله! قال: بل مُروه هو فليستغفر لكما}. عباد الله: إن أبا بكر وعمر ما نظرا إلى ما قالا، فإنها كلمة قد نقول أعلى منها مئات المرات، لكنهما نظرا إلى عظمة من عصو، إنه الله! وتلك حقيقة تقوى الله. فإيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن لها من الله طالباً. لا تحقرنَّ صغيرة إن الجبال من الحصى والقَطْر منه تدفَّق الخُلْجَان.

الحذر من استحلال محارم الله

الحذر من استحلال محارم الله حقيقة الكلمة أخيراً: الحذر من استحلال محارم الله بالمكر والاحتيال، وأن يعلم العبد أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً من الأقوال والأفعال، فإن لله يوماً تعك فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتجري أحكام الله على القصود والنيات، كما جرت على ظاهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من الصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والمكر والاحتيال، هنا يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم يخدعون، وبها يمكرون: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف:169]. هذه بعض حقائق الكلمة، جعلنا الله من المتقين حقّاً. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم زكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت أرحم الراحمين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك. اللهم ارحم سائلك ومؤمِّلك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك. اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همهم، ونفِّس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم. اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء. اللهم ارحم موتى المسلمين اللهم ارحم موتى المسلمين اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم. اللهم زد في حسناتهم، اللهم زد في حسناتهم اللهم زد في حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم، أنت أرحم بهم، وأنت أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حياض النجاة

حياض النجاة في الدنيا طريقان لا ثالث لهما: طريق الطاعة والنجاة، وطريق المعصية والهلاك. وقد يحصل لمن يسير في طريق الطاعة والنجاة بعض الغفلة والكبوة فعليه أن يبادر بالتوبة، ويسارع بالأوبة وهناك إشارات ومحفزات تشجع العائدين إلى الله على المضيِّ في هذا الطريق.

حقيقة الربح والخسران

حقيقة الربح والخسران الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه. طرد إبليس فأصمَّه وأعماه وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلاً ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب ناراً فشرَّفه الله وناداه. {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. حمداً لمن نبيه قد بعثا فدوَّخت بعوثه مَن قد عثا ثم الصلاة والسلام ما حكت حمائم حمائماً إذا بكت وهزَّت الغصون أنفاس الصبا فهيَّجا صبابة لمن صبا وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكف وطاف بالبيت منيب واعتكف على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله وصحبه وتابعي منواله {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. عباد الله: إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجح ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكا، وصعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا، أعتق نفسه وشرَّفها وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها. فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، وأقبلَ على الدنيا لاهِثاً في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة. باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يوماً أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة. فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا خائب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها. فكان كفاقئ عينيه عمداً فأصبح لا يضيء له نهار بل كان كالحمار لا يُذكى فيدفع الجوع ولا يُزكَّى شاد للأولى فهلا كان للأخرى يشيد {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ} [فصلت:46] لا نعجب من خطئه واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبساً بذلك مصرّاً عليه، آمناً مكر الله به ووعيده له: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] يقول ابن القيم رحمه الله: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم. من حاد حب الكمال تعنُّتاً يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَا فاغتنم حياتك عمرك فلكل غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار.

دعوة إلى التوبة والعودة إلى أفياء الطاعة

دعوة إلى التوبة والعودة إلى أفياء الطاعة يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك! عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سدة الباب، وقم في الدُّجا، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع: يا أيها العزيز! مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ. هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد. فلابد من ساعة طاهرة تكون الرءوس بها فاغرة إذا استوفت النفس مكيالها وزُلْزِلت الأرض زلزالها فما لك من فرصة للإياب ولن يرجع العمر بعد الذهاب تقدم فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيماً} [النساء:27] رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ بادر قبل أن تُبَادَر! بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة. بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء:18]. بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر. أرأيت لو أن رجلاً أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم إلى الذي يليه إلى الذي يليه فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه -غالباً- وقت المشيب. فمن العناء رياضة الهَرِم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويماً من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غداً أشد عجزاً. فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد فبادر! يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ} [الزمر:22] ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يُهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.

قصة رجل ارتد عن دينه

قصة رجل ارتد عن دينه ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية، في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي -بتصرف- قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: {قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وكم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات. كان كمن أدخل في جحر يدا فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَا نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها؛ هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد صلى الله وسلم على نبينا محمد فأجابها، وقال -ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها. لا إله إلا الله! نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. المعاصي بريد الكفر، وكم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة. ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمّاً شديداً، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان! لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يـ ابن عبد الرحيم ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟ فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين -لكأنه المَعْنِيُ بهما- {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:2 - 3] ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني: صار منهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب! اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب! ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان، نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي وربي لحظات حاسمة، ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة. بادر قبل أن تُبَادَر! هل تنتظر إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هِرَماً مفنِّداً، أو موتاً مُجْهِزاً، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ.

ضرورة الصدق في التوبة

ضرورة الصدق في التوبة إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين. بادر قبل أن تبادر! واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحاً خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} [التحريم:8] ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فلو داواك كل طبيب داء بغير كلام ربي ما شفاك الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفاً منه، مُشْفِقاً، وَجِلاً، باكياً، نادِماً مستحياً من ربه، نَاكِساً الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب. روى مسلم في صحيحه: أن امرأة وقعت في كبيرة الزنا في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت، بشعور عظيم بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: {يا رسول الله! طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه -كان يكفيها ذلك- لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ ماعز بن مالك، والله! إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله! قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك. وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله! قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه -وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله! -قلبها: كأنه مهجة نِضْو ببلقعةٍ يعتادها الضاريان الذئب والأسد - دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان في من رجمها خالد رضي الله عنه وأرضاه، فتنضَّخ الدم على وجه خالد، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً يا خالد! فو الذي نفس محمد بيده! لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له}. ما ضرها، وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة، بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها. بالصدق زكا الأصل فطاب الفرع وطاب المولد فزكا المَحْتِد. فنبِّه فؤاداك من رقدة فإن الموفَّق مَن ينتبه وإن كنتُ لم أنتبه بالذي وُعِظْتُ به فانتبه أنت به

عدم اليأس والقنوط

عدم اليأس والقنوط بادر قبل أن تُبَادَر! ولا تيئس ولا تقنط وإن عَظُم الذَّنْب: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهَوَام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم} فيارب! ارأف بعين حرمت طِيب الكَرَى تشكو ودمع المقلتين قد جرى في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: {قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأة من السبي تبتغي وليداً لها، وتسعى، حتى إذا وجدت صبياً أخذته، ألصقته ببطنها -أرضعته- فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}. لا إله إلا هو! هو الغني بذاته سبحانه، جلَّ ثناؤه وتعالى شأنه! العفو أحب إليه من الانتقام، والرَّحمة أحب إليه من العقوبة، سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، الفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، لا إله إلا هو! يورد ابن القيم رحمه الله عن بعض العارفين: أنه رأى في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت. فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا مَنْ يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً مُغْلَقاً، فتوسَّدَه ووضع خدَّه على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلمَّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَت بنفسها عليه والْتزمته تُقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ من يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم ضمَّتْه إلى صدرها، ودخلت به بيتها. فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم: {لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها} فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ رحمة الله هل تُنال بالتواني والكسل، أم بالجدِّ والعمل؟ لمن كتبها الله؟ اسمعوا معشر المؤمنين إلى قول الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل} [الأعراف:156 - 157] إنها للعاملين. كتبها الله للعاملين لا للخاملين البطَّالين. أتخطب الحور لم تهد الصَدَاق لها ولم تقدم لها عقداً ولا قُرْطاً أم تشتري الخلد بالمغشوش من عملٍ وسلعة الله لا تُشرى بما خُلِطَا

ضرورة معرفة فضل الله على العبد

ضرورة معرفة فضل الله على العبد فيا عبد الله! اعرف عزة الله في قضائه، وبرِّه في ستره، وحلمه في إمهالك، وفضله في مغفرته، فلله عليك أفضال وأفضال: أولها: ستره عليك حال ارتكابك للذنب، أما -والله- لو شاء الله لفضحك على رءوس الخلائق، فما جلست مجلساً، ولا حضرت مَجْمَعاً إلا وعُيِّرت بذلك الذنب؛ فكم من عاصٍ نفس معصيتك فُضِحَ وسترك الله الذي لا إله إلا هو! ويا عجباً! لأقوام باتوا يسترهم الله، فأصبحوا يتحدثون بذنوبهم، قد هتكوا ستر الله عليهم! أولئك غير معافين، إنهم المجاهرون، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين، فاشكر ربك أنْ سترك، وتب إليه قبل أن يفعل بك ما فعل بغيرك، وقل: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب. ثانيها: حلم الله عليك. حلم الله عليك في إمهالك، ولو شاء الله لعاجلك بالعقوبة، فما كنت ممن يسمع الآن سعة رحمته. ثالثها -وهو من أعظمها-: فرح الله عز وجل بتوبتك، فرح إحسان وبرّ ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، فلن يَتَكثَّر بك من قِلَّة، ولن يتعزز بك من ذلَّة، ولن ينتصر بك من غَلَبَة، تبارك الله وجل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم: {لَلهُ أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة مهلكة قَفْر خالية، معه راحلة عليها طعامه وشرابه، فنام، ثم استيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، توسَّد ساعده ينتظر موته؛ فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه وزاده، فأخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك} لا إله إلا الله! كيف بلغ به الفرح حتى أخطأ فقال: أنت عبدي وأنا ربك؟! فرح لا تنقله الألفاظ، وحب الله للعبد أشد من حب العبد لله. فيفرح بتوبته، ويجازيه بأن يجعل في قلبه من اللذة والفرح والسعادة والسرور ما يُرى بادياً على قسمات وجهه إن صدق ونصح وأخلص، والله ما هو إلا كرجل برز للقتل، ثم عفي عنه، والجزاء من جنس العمل. رابعها: تبديل السيئات إلى حسنات. قال الله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70] فما النتيجة؟ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:70]. فإن هوى بك إبليسُ لمعصية فأَهْلِكَنْه بالاستغفار يَنْتَحِبِ بسجدة لك في الأسحار خاشعة سجود مُعْترف لله مُغْتَرب روى المنذري بسند جيد عن عبد الرحمن بن جبير قال: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هَرِم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدَّعمُ على عصا -أي: متكئاً على عصا- حتى قام بين يديْ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجَّة ولا حاجَّة إلا أتاها، لو قُسِّمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم -لأهلكتهم- أله من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! قال: نعم. وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر! الله أكبر! ثم ادَّعم على عصاه، فلم يزل يردد: الله أكبر! حتى توارى عن الأنظار}. فضل الله واسع، لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر إليه الإشارة، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تجترئ على معصية الله، وتب كلما أذنبت. قال بعضهم لشيخه: إني أذنب. قال: تب. قال: ثم أعود. قال: تب. قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، ودَّ لو ظفر منك باليأس والقنوط. دعاكم رب بالندى يعرف يا من على أنفسهم أسرفوا لا تقنطوا من رحمتي واعرفوا إني لغفار الذنوب العظام يا من وسِعْتَ برحمةٍ كل الورى من قد أطاع ومن غدا يتأثَّمُ إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المُجْرمُ

عدم النظر إلى صغر الخطيئة بل النظر إلى عظمة من عصيت

عدم النظر إلى صغر الخطيئة بل النظر إلى عظمة من عصيت بادر قبل أن تُبَادر! بادر ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت: إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ والمصوِّر باري البرايا منشئ الخلائق مبدعهم بلا مثالٍ سابق الأول المبدي بلا ابتداءٍ والآخر الباقي بلا انتهاءٍ الأحد الفرد القدير الأزلي الصَّمد البرُّ المهيمن العلي علو قَهْر وعلو الشان جلَّ عن الأضداد والأعوان من نظر إلى عظمة الله وجلاله؛ عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيراً، لكأنه الجبل هو في أصله يخشى أن يقع عليه فيهلكه، فقلبه كأنه بين جناحيْ طائر، تجده منكسر القلب، غزير الدمع، قلق الأحشاء، له في كل واقعة عبْرَة، إذا هدل الحمام بكى، وإذا صاح الطير ناح، وإذا شدا البلبل تذكَّر، وإذا لمع البرق اهتزَّ قلبه خوفاً ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الذلُّ قد علاه، والحزن قد وَهَّاه، يذم نفسه على هواه، ويصدع بأوَّاه. أواه من غفلاتي ومن عسى ولعلا يا من عليه اعتمادي بك اهتديت ومن لم يَرْجُ الهدى منك ضلا بادر وإياك ومحقِّرات الذّنوب! فإن لها من الله طالباً، بادر وردَّ المظالم إلى أهلها، أو تحلَّلْ منهم واطلب المسامحة؛ فإنها لا تتم التوبة إلا بذلك. صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء}. وقال صلى الله عليه وسلم: {من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مَظْلَمَتِه، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه}. وفي حديث ابن أنيس: {يقول الله يوم القيامة: أنا الملك، أنا الدَّيَّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد عنده مظلمة حتى اللطمة} قال الله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]. لما حضرت عبادة بن الصامت رضي الله عنه الوفاة قال: [[أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، قال: اجمعوا لي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ. فجمعوهم له، فقال: إني لأرى يومي هذا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا، وليلتي هذه أول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعلّه فَرَطَ مني إليكم شيء بيدي أو بلساني هو والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة، أحرِّج على أحد منكم في نفسه عليَّ شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج روحي، فبكوا جميعاً وضجُّوا وقالوا: بل كنت والداً، وكنت مربياً، وكنت مؤدباً، ولم يكن قال لخادم قط سوءاً، قال: تجودون لي بالدمع، وما يغني الدمع. أغفرتم لي؟ فضجُّوا وقالوا: أن نعم، قال: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد أشهد أن لا إله إلا الله]] ثم لقيَ الله. الخلد تدعو فهل من مجيب والحور تهفو للقاء الحبيب وآفرحتاه لكل عبد منيب لبَّى ندا الداعي لدار السلام فبادر بردِّ المظالم أو التحلل منها؛ فلن يجاوز جسر جهنم إلى الجنة ظالم حتى يؤدي مظلمته. خفف عن ظهرك؛ فظهرك لا يطيق كل ما تجني؛ ظلم هذا، وأكل مال هذا، والوقوع في عرض ذاك، وشتم ذا، خفِّفْ قد خاب من حمل ظلماً، قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].

مجالسة الصالحين والابتعاد عن الفجار

مجالسة الصالحين والابتعاد عن الفجار بادرْ قبل أن تُبادَر! ولا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لو أنك مثله، وطبعك يسرق منه، والمرء على دين خليله. لا تسكن أرضاً موبوءة؛ فإن جرثومة المرض تسري فتفري، اهجر المعصية ومكانها، وعليك بقوم يعبدون الله بأي أرض، فاحبس نفسك معهم؛ فإن بيئة المعصية بيئة سوء، والله الذي لا إله إلا هو، لأن تنقل الحجارة، وتأكل الحجارة، وتنام على الحجارة مع الأبرار، خير لك من أكل الحلوى، والجلوس على الحرير، والنوم على الحرير مع الفجار؛ أولئك يدعون إلى الجنة، وأولاء يدعون إلى النار. فما ينفع الجرباء قُرْبُ صحيحة إليها ولكن الصحيحة تجربُ قال الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. اهجر مكان المعصية، وأطِلْ الصمت، وأَدْمِن السُّكوت، ولا تخُض مع الخائضين، وقف على أحوال التائبين، وإذا رأيت العصاة فلا تشمخ بأنفك، واحمد ربك، ودُلَّهم على ما أنت فيه، وقل: {كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ففي ذلك ذكرى للمؤمنين. هاهو أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقد أجهدهم الحصار، وقد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد، فقام إليه الرجال والنساء والأطفال يبكون، فرقَّ لهم، فقالوا: [[أننزل على حكم محمد؟ صلى الله وسلم على نبينا محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يقول: فوالذي لا إله إلا هو! ما زالت قدماي من مكانها حتى علمت أني خنت الله ورسوله]] ورجع نادماً أسيفاً، عظَّم الله عز وجل فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رجع فارتبط بجذع في المسجد، لا يُطلق منه إلا ليصلي، ثم يعود إلى ذلك الجذع، يتلمس عفو الله، ولطف الله، ورحمة الله، وتوبة الله، حتى إذا ما نزلت توبته، أَبْشِرْ بخير يوم مرَّ عليك يا أبا لبابة؛ لقد تِيبَ عليك. خرَّ ساجداً لله عز وجل، ثم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه، فقال -وهو يرسم منهجاً لهجر المعصية، ومكان المعصية، وبيئة المعصية-: {يا رسول الله! والذي لا إله إلا هو! ما وطئت قدمايَ أرض بني قريظة ما حييت، والله لا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً}.

أتبع السيئة الحسنة تمحها

أتبع السيئة الحسنة تمحها بادر قبل أن تُبَادر! وأتبع السيئة الحسنة تمحها، قال الله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] لما راجع عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فقال: {ألست نبي الله حقّاً؟! أو لسنا المؤمنين؟! أو لسنا على الحق وهم على الباطل؟! فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا ولمَّا يحكم الله بيننا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري}. وقال أبو بكر: [[الزم غرزه يـ ابن الخطاب! فوالذي نفسي بيده إنه لعلى الحق]]. يقول عمر: [[فعملت لذلك أعمالاً، يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق؛ مخافة مراجعتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية]]. بادر ولا تعجز إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة. واذكر مسير العمر ما أسرعه وارقب هجوم الموت ما أفظعه وبادر قبل أن تبادر! دع المحدثات والبدع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته} صحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب، تدري أخي أين طريق الجنة؟! طريقها القرآن، ثم السُّنة. وخير أمور الدين ما كان سُنَّة وشر الأمور المحدثاتُ البدائع

الوقوف على أحوال التائبين

الوقوف على أحوال التائبين بادر وقف معي على أحوال التائبين؛ فإنها ذكريات متألِّمين، وذكرى المتألم تنفع المؤمنين بإذن رب العالمين، يقول صاحب رسالة: أخي الشاب إلى أين تسير: قال صاحب القصة: كنَّا ثلاثة من الأصدقاء يجمعنا الطَّيش والعبث، لا بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، نذهب لاصطياد أعراض المسلمين بالكلام المعسول، نستدرجهن إلى الاستراحات في المزارع البعيدة بعد موت قلوبنا وأحاسيسنا ومشاعرنا. يقول: هكذا كانت حياتنا، يقول: أيامنا ليالينا في المزارع والمخيَّمات في السيارات على الشواطئ، إلى أن جاء يوم وذاك اليوم لا يُنسى. ذهبت إلى المزرعة مع أصحابي، كل شيء جاهز، الشراب جاهز -ونعوذ بالله- الفريسة جاهزة -ونعوذ بالله- نسينا الطعام، ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته في حوالي السادسة تقريباً، مرت الساعات تلو الساعات دون أن يعود. وفي العاشرة شعرت بالقلق، شعرت بالضيق، انطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت ألسنة النيران تندلع على جانبي الطريق، يا للهول! فوجئت بأنها سيارة صديقي، النار تلتهمها، مقلوبة على أحد جانبيها، كالمجنون أسرعت أحاول إخراجه من السيارة، وجدت نصف جسده قد تفحَّم، لم يزل على قيد الحياة، سحبته إلى الأرض، فتح عينيه وأخذ يهذي: النار، النار، النار، قررت حمله بسيارتي إلى المستشفى. فقال بصوت باكٍ حزين: لا فائدة، لن أصل، (ما عسى يُغني غريق عن غريق) خنقتني الدموع، أراه يموت أمامي، ثم فوجئت به يصرخ بأعلى صوته: ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! دُهشت وقلت له: من هو؟ قال: الله، الله، ماذا أقول له؟ ثم صرخ صرخة مدوِّية، ولفظ آخر أنفاسه. اجتاح الرعب جسدي ومشاعري، صورته لم تفارقني، يصرخ: النار، النار. والنار تلتهمه، وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ تساءلت، وقلت: وأنا ماذا أقول له؟ لا إله إلا الله! فاضت عيناي، اقشعرَّ جسدي، وإذا بالمنادي ينادي: الله أكبر، الله أكبر، نداء صلاة الفجر، أحيا فيَّ كل جارحة، أحسست لأول مرة أنه نداء خاص بي، يهز أعماقي، يدعوني لإسدال الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى الهداية، إلى السعادة، اغتسلت، تطهرت، أسقطت عن جسدي وروحي ثقل رذائل غرقت فيها سنوات وسنوات، أدَّيت صلاة الفجر، ومن يومها لم تَفُتْنِي فريضة، والحمد لله رب العالمين! واأسفاه من حياة على غرور، وموت على غفلة، ومنقلب إلى حسرة، ووقوف يوم الحساب بلا حجَّة! ازرع لكي تحصد يوم الزحام يا ويل من يلهيه عنه الحطام يا عبد الله! أيها الشاب! مثِّل نفسك -أجارك الله- صاحب الحادث، ثم لا تسوِّف، عجِّل عجِّل، هيا هيا، إلى الله لا طاقة لقذارة الوسخ مع بياض الصابون، قل قلباً وقالباً: أيا ملك الملوك أقل عثاري فإني عنك أنأتني الذنوب وأمرضني الهوى لهوانِ نفسي ولكن ليس غيرك لي طبيب أيا ديان يوم الدين فرِّجْ هموماً في الفؤاد لها دبيبُ

عدم الاغترار بكثرة العمل

عدم الاغترار بكثرة العمل وبادر قبل أن تُبَادَر! بادر قبل أن تُبادَر ولا تغترَّ بكثير عملك؛ فأعمالك الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنِّه عليك، ومع هذا فليست ثمناً لجزائه وثوابه، بل غايتها أنها بعد النصح والوقوع على أكمل وجه شُكْرٌ له على بعض نِعَمِه سبحانه وبحمده، فلذلك لو عذَّب الله أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم. في الحديث المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لن يُدخل أحد منكم الجنة عملُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل} ألا إن المنفي هنا استحقاق الجنة بمجرد العمل، وكون العمل ثمناً وعوضاً لها. فما العمل ولو عظم يساوي نعمة البصر؟! فادرِ وانتبه، وليكن حالك ومقالك: إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رِقِّهم عَتَقُوهُم عتقَ أبرارِ وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرِّقِّ فاعتقني من النَّار أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن أبي مليكة، عن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه استأذن لـ ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة وهي تموت، وهي في سكرات الموت، وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقال لها: هذا ابن عباس يستأذن عليك، وهو من خير بنيك، فقالت: دعني من ابن عباس ومن تزكيته! فقال لها عبد الله: يا أماه! إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، حبيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأذني له فليسلم عليك وليودعكِ، قالت: فَأْذَن له إن شئت. فأذن له فدخل وسلَّم وجلس، ثم قال: أبشري يا أمَّ المؤمنين، والله ما بينك وبين أن يذهب عنكِ كل أذى ونَصَب وَوَصَب، وتلقي الأحبة؛ محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه إلا أن تفارق الروح الجسد، قالت: إيه وأيضاً، فقال: إن كنتِ لأحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيباً. قالت: وأيضاً، قال: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجدٌ في الأرض إلا وهو يتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ منْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور:11] قالت: وأيضاً، قال: وسقطت قلادتك بـ الأبواء، فَاحْتبِس النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه في ابتغائها وطلبها، حتى أصبح القوم على غير ماء، فأنزل الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فكانت رخصة عامة للناس بسببك إلى يوم القيامة. فوالذي لا إله إلا هو! إنك لمباركة، فأجهشت وقالت: دعني مِن هذا يـ ابن عباس! والذي لا إله إلا هو! لوددتُ أني كنت نسياً منسياً، لوددت أني كنت نسياً منسياً. تناست كل فضائلها أمام قوة استحضار الحياة الآخرة في قلبها، وخشيتها لله تعالى، وكذلك يكون رسوخ اليقين، وقوة الإيمان برب العالمين. وهذا ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {الغُليِّم المعلَّم}: يقول: [[والذي لا إله إلا هو! لوددت أني انقلب روثة، ثم أُدعى عبد الله روثة، وأن الله غفر لي ذنباً واحداً]]. فبادر ولا تغتر، واحمد الله؛ فله المنَّة: {لَمَغْفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157] يا رب أنت المرجَّى، أنت العزيز القدير. يا رب أنت المجير قد مسَّنا ما يضير فلا تكلنا لنفسٍ فيها تمادى الغرور

ضرورة الاستعانة بالله للثبات على الطريق

ضرورة الاستعانة بالله للثبات على الطريق بادر -أخيراً- قبل أن تُبَادَر! واستعن بمولاك يُعنك مولاك، قال أحد السلف لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إن سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: الأمر بك يطول، أرأيت إن مررت بغنم، فنبحك كلبها، ومنعك العبور، ما تصنع؟ قال: أجاهده على العبور، قال: فإن لم تستطع العبور؟ قال: أجاهده، قال: فإن لم تستطع؟ قال: أجاهده، قال: الأمر بك يطول، استعن بصاحب الغنم يكفَّ وعنك كلبه: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هو السَمِيعٌ العَلِيمٌ} [فصلت:36]. أقسم الشيطان قال سوف لا أترككم إلا شقياً أو تقياً يقول أحد السلف: [[رأيت كل أحد له عدو، من اغتابني فليس بعدوي، ومن أخذ مني شيئاً فليس بعدوي، عدوي مَن إذا كنت في طاعة الله أمرني بمعصية الله، حتى إذا ما زلَلْت في معصية الله آيسني من رحمة الله]] إنه إبليس وأعوانه من شياطين الجن والإنس، قد قطع العهد: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] فالْبس لأمَةَ الحرب، وجرِّد السيف من الغِمْد، وأخرج سهامك من كنانتها، واتَّخذ موقفاً في صف جند الرحمن، وابدأ المعركة مع إبليس وأعوانه، واستعن بمولاك يعنك مولاك. ذهب الزمان وأنت تقول عسى وأرجُو ربما الماء عندك قد طمى ولم تزل تشكو الظَمَا بادر قبل أن تُبَادَر! وقِفْ بالباب وأنت الذليل الحقير، واضرع إلى العلي الكبير تضرُّع الأسير بقلب كسير. وقل: يا إله العالمين! يا أكرم الأكرمين! عبدك أسير الخطايا، صاحب الهفوات والرزايا، واقفٌ ببابك ينتظر رحمتك، الخير دأبك، والحكم حكمك، وأنت أرحم الراحمين، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأسألك سؤال الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه. اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، وتبدو السوءات والفضائح. يا رب من للبائس الفقير غير الكريم المالك القدير فحسبنا الله ونعم الملتجى وحسبنا الله ونعم المرتجى ثم الصلاة ما تغنى الشادي على محمد النبي الهادي ما هتفت وَرْقَاء بالنِّياح وغرَّد القُمْرِيُ بالصباح سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

رسالة إلى شاب

رسالة إلى شاب إن الله سبحانه وتعالى خلقنا لغاية نبيلة، ولحكمة جليلة ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، فحثنا على التفكر في مخلوقاته، وبين لنا صراطه المستقيم، ورغبنا في جنته ورهبنا من ناره، وجعل باب التوبة مفتوح، فهل من مبادرة ورجوع إلى الله؟

الحث على التفكر في مخلوقات الله

الحث على التفكر في مخلوقات الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنىً له طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة: شكر الله لكم هذا الترحيب الحار، ونسأل الله عز وجل أن يجعل جمعنا وإياكم على الخير دائماً وأبداً، نسأله أن يجعل جمعنا حباً فيه، فهو الرباط الذي لا ينفصم، وإذا كان الحب في الله ثبت ونبت وآتى ثماره، وإذا كان الحب لغرض آخر -وحاشاه أن يكون بيننا- فسرعان ما يذهب وكأن لم يكن، ما كان لله يبقى دائماً وما كان لغير الله يذهب سريعاً. يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي لا إله غيره لو أنفقت مالي كله في سبيل الله، ثم صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم أصبحت لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي]]. أي رباط نرتبط به أيها الأحبة؟! نحن نرتبط بلا إله إلا الله، ولاؤنا فيها، وعداؤنا لمن لم يقم بها. أيها الأحبة: أسأل الله عز وجل الذي جمعنا وإياكم في هذه الروضة أن يجمعنا وإياكم في روضة الخير في جنات ونهر، في معقد صدق عند مليك مقتدر. ما أريد أن أتحدث به إليكم أيها الأحبة، هو حديث الأخ لإخوته، وحديث الأب لأبنائه، حديث ربما سمعتموه وعرفتموه ولكننا نكرره ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين. يا أيها الأحبة: ألا كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي تنادينا من المنية كل وقت فما نصغي إلى قول المنادي فلو كنا جماداً لاتعضنا ولكنا أشد من الجمادي وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنوب إلى ازديادي إذا ما الشرع قارنه اضطرار فليس دواؤه غير الحصادي كأنك بالمشيب وقد تبدى وبالأخرى مناديها ينادي وقالوا قد قضى فاقضوا عليه سلامكم إلى يوم التنادي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. سؤال يا أيها الأحبة! من القائل لهاتين الآيتين؟ من المتكلم بهاتين الآيتين؟ ومن المتكلم بقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] كأني بكل واحد منكم يقول: إنه الله الذي لا إله إلا هو. الكواكب من كوكبها؟ السماء من رفعها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو الذي قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ما صفاتهم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. يا أيها الأحبة: تساؤل أتساءله وأقول لكم قبل هذا التساؤل: يا أيها الأحبة! كل شيء في هذا الوجود ينطق بوحدانية الله عز وجل، وسأضرب لكم على ذلك أمثلة ولستم في حاجة إلى أن تضرب الأمثلة، لكن من باب التأكيد على ذلك، ومن باب طرح الأنظار، ومن باب التفكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض. ورقة التوت -يا أيها الأحبة- هذه الورقة إذا أكلتها النحلة تخرج عسلاً، فإذا أكلتها الشاة أخرجت روثاً، فإذا أكلتها دودة القز تخرج حريراً! ورقة واحدة تأكلها ثلاثة مخلوقات فيكون الإخراج مختلفاً ما بين طيب ونافع وخبيث!! إن ورقة التوت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لسان حالها ينطق بذلك، ولسان مقالها ينطق بذلك. أيها الأحبة: هي ورقة تشهد أن لا إله إلا الله، وإن بشراً أنعم الله عليه بقلب وعقل وعين وأذن ونعم لا تعد ولا تحصى ثم لا يعرف أن الله هو الذي لا إله إلا هو! فإن ورقة التوت في هذه أعلى منه وأعظم منه وأعلى وأحب عند الله عز وجل من هذا الذي انتكس فهمه، فلم يعرف مَنْ خلقه، ولم يعرف من يجرد نفسه له، ومن يتحرك له ومن يعبده، ورقة التوت أولى منه بذلك. تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنية كالخيال ومن فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا؟ قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عفاكا؟ قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟ قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا؟ بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا؟ قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا؟ قل للوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا؟ وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا؟ واسأله يا ثعبان كيف تعيش أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟ واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا؟ بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا؟ ستجيب ما في الكون من آياته عجباً عجاباً لو ترى عيناكا ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً وليس لواحد إلاكا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كل شيء ينطق بوحدانيته، وكل شيء ينطق بقدرته، وكل شيء ينطق بأنه سبحانه المعبود بحق وما عداه فطاغوت عبد من دونه. لا إله إلا الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] موكب عظيم سار إلى الله، انفلت منه من انفلت، فشقي، ومشى في ركاب هذا الموكب من مشى فسعد بإذن ربه سبحانه وتعالى.

الحكمة من خلق الإنسان

الحكمة من خلق الإنسان أسأل سؤالاً آخر من خلقك أيها الشاب؟ من خلقك أيها العبد؟ سؤال قد يكون ساذجاً لكن لابد له من إجابة، إنه الله الذي لا إله إلا هو. هل خلقك عبثاً؟ هل تركك هملاً؟ هل خلقك والبهائم سواء، تأكل كما تأكل البهائم أم كلفك وشرفك؟ إنه قد كلفك وشرفك وجعل حكمة لخلقك وإيجادك، فما الحكمة من خلقك وإيجادك؟ ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:26 - 58]. إذاً لماذا خلقت؟ أللهو خلقت؟ أللعبث خلقت؟ هل تركت سدىً أم كلفت بأشياء لابد أن توقف أمام الله وتسأل عنها واحدة واحدة في سجلات محكمة وثيقة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها؟ ستجد ما عملته في سجلات أمامك فإما وجه مبيض -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا الصنف- وإما وجه مسود -أسأل الله ألا يشقي أحدنا فيكون من أهل هذه الوجوه السوداء-. إذاً: خلقنا الله لحكمة وهي عبادته سبحانه وتعالى، ثم اعلم أنه لا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك، وإنما تضرك معصيتك وتنفعك طاعتك لله عز وجل، فيا لخسارة من ضيع هذه الحكمة فاستعمل هذا الجسم وهذه الجوارح وذاك العقل في غير ما يرضي الله جل وعلا. أحد السلف يمر بصبية صغار يلعبون، وهناك طفل ينظر إليهم ويبكي، فيمر عليه ظن أنه يبكي؛ لأنه ليس له لعبة كما لهم لعبة فقال له: يا بني! أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل شاب صغير عرف الله جل وعلا. قال: لمَ تبكي؟ قال: أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أو لم يسمعوا قول الله موبخاً أهل النار: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] فقال هذا الرجل وقد دهش من جواب هذا الشاب الذي تربى على القرآن ففهم معاني القرآن وطبقها حياً واقعاً، ماذا قال؟ قال هذا الرجل له وقد أعجب به: يا بني إنك لذو لب (لذو عقل) وإن كنت صغيراً فعظني. قال له بيتاً واحداً: فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباقي موعظة عظيمة أيها الأحبة! أما والله لو علم الأنام لمَ خلقوا لما هجعوا وناموا لقد خلقوا ليوم لو رأته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا ممات ثم نشر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد عملت أناس فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام

الصراط المستقيم

الصراط المستقيم أيها الأحبة: رسم الله لنا طريقاً مستقيماً، وجعل له مواصفات من اتبعها هدي وكفي ووقي، ومن تنكفها فويل له ثم ويل له، ألم تسمعوا لقول الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] طريق واحد مرسوم له مواصفات، وله مقاييس، قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، فانقسم الناس من ذلك الحين إلى حزبين، ثم انقسم حزب إلى أحزاب وإلى شيع وإلى فرق حتى افترقت هذه الأمة كما أخبر المصطفى أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ما مواصفات هذه الفرقة الناجية؟ ما مقاييسها؟ ما موازينها؟ ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: {من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي} من كان على مثل ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، من كان على مثل ما كان عليه سلف الأمة الكرام، هو الذي لا زال على الصراط المستقيم، فهل جندت نفسك أيها الشاب لتكون من أهل هذه الفرقة؟ هل جندت نفسك لتكون ممن يستحق أن يأخذ لقب هذه الفرقة؟ كلنا يدعي ذلك، وكلنا يقول: أنا من السلف، أنا من أهل السنة والجماعة، لكن لابد لكل ادعاء من بينة وكلٌ يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا فليكن حالك يوم تسمع مثل هذا السؤال تقول: حاشاي يغويه سراب خادع ومعي كتاب الله يسطع في يدي ليكن لسان الحال لنا جميعاً لن نضل أو نقتدي بشرق أو بغرب وإنما هدينا الكتاب والسنة نتمسك به وإن خالفنا الناس جميعاً.

الحث على طاعة الله

الحث على طاعة الله اختبر نفسك يوم تسمع نداء الله جل وعلا، يوم يناديك ويشرفك باسم الإيمان وباسم الإسلام، ويدخلك تحت عموم الناس مرة أخرى، اسمع إليه يوم يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:20 - 22] أسمعت نداء الله؟ أقرأته؟ لقد قرأته كثيراً وسمعته كثيراً فأسأل الله أن يجعلك ممن أطاع الله ورسوله، هل أطعت الله ورسوله بحق؟ بشرى لك! بأي شيء؟ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] بشرى لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في دار قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها في الأثر أن الله عز وجل يقول: {إني إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية} سبحانه وبحمده! أما الآخر الذي عصى ولم يطع الله ولم يطع رسوله، فماذا قال الله عز وجل له في مثل هذا الأثر؟ قال: {وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب} وعد من الله عز وجل وفرصة لك يا من عملت ما يغضب الله أن تعود إلى الله عز وجل: فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحاً يا صاح

حال الخلق في يوم القيامة

حال الخلق في يوم القيامة ثم اعلم أن كل شيء خلا الله باطل، وكل شيء خلا الله زائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] كتب الفناء على كل مخلوق، واختص نفسه بالبقاء سبحانه وبحمده، ووالله لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيناً، ووالله إن الموت مع سكرته ومع شدته أهون مما سيليه، وإن القبر مع ظلمته ووحشته أهون مما سيليه، كل ذلك يا أيها الأحبة هين متى؟ إذا قورن بالوقوف بين يدي علام الغيوب، وتلفت المرء يميناً فلم ير إلا ما قدم، وتلفت شمالاً فلم ير إلا ما قدم، وتلفت أمام وجهه فلم ير إلا النار، قد غضب الرب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله قط، الشهود منك وفيك، أيدٍ تشهد، وألسنة تشهد، وآذان تشهد، وجوارح تشهد، الناس وأنت منهم قد جاءوا حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، ذاهلة قلوبهم، قد تفطرت قلوبهم، وقد تفتت أكبادهم، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، فبلغ العرق منهم مبلغاً حتى ألجم بعضهم إلجاماً: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حشروا بلا طعام ولا شراب، تتقطع منهم الأكباد وتتفطر القلوب، وتحترق الأجواف.

عذاب أهل النار

عذاب أهل النار ثم تنصب الموازين ثم يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: أخرج بعث النار من ذريتك. قال: وما بعث النار من ذريتي يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، عند ذلك: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. تذكر يوم ينصب الميزان، ثم يقول الله للملائكة في سعي المجرم: {خُذُوهُ} [الدخان:47] فيبتدره سبعون ألف ملك، كل ملك لو أذن الله أن يلتقم السماوات السبع والأرض في لقمة واحدة لفعل، فيتفتت في أيديهم ويقول: ألا ترحموني؟ قالوا: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:12 - 16]. أوقد عليها ثلاثة آلاف عام: ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا يطفأ شررها: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] تشهق على الكافر شهقة البغلة الجوعاء إلى الشعير فلا يبقى ملك مقرب إلا خر على ركبتيه جاثياً، حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعامها زقوم وصديد، ومقامعها حديد. إنها جهنم التي يكذب بها المجرمون، ما أشد عقابهم! وما أعظم عذابهم! {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء-56] إذا بلغ العذاب بهم مبلغه لجئوا إلى الله يستغيثون: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يلقي الله عليهم عطشاً عظيماً حتى تحترق أجوافهم ثم ينشئ الله لهم سحابة سوداء، ويقول: ما تبغون، ما تريدون؟ فيقولون: يا رب الشراب الشراب، يا رب الشراب الشراب. فيمطرهم الله أغلالاً إلى أغلالهم، وسلاسل إلى سلاسلهم، وجمراً ونيراناً إلى جمرهم ونيرانهم. ثم يأتون بعدها بالحميم، فلا إله إلا الله! أي أجسام تتحمل ذاك العذاب يا أيها الأحبة؟!! يؤتون بالحميم ليشربه ولابد له من شربه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17] قبل أن يشربه تسقط فروة وجهه عند قدميه من شدة حره، ولما يشربه بعد، ثم لابد له من شربه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17] فإذا شربه قطع أمعاءه وسلت ما في بطنه مع قدميه، فذلك قول الله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يأتيه من تحت شعره ومن تحت أظفاره ومن تحت كل مفصل من مفاصله، تعلق نفسه عند حنجرته لا تخرج فيستريح ولا تعود إلى مكانها، يمشي على النار، لا يهدأ ولا ينام ولا يستريح، طعامه من النار، وشرابه من النار، وحياته في النار: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74]. ثم يلجئون بعد ذلك إلى خزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50] يتجهون بعدها إلى خازن النار إلى مالك، فيقولون: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود. فيرد عليهم بعد أربعين عاماً -كما قال الأعمش - يرد عليهم بعد أربعين عاماً فيقول: إنكم ماكثون. فيلجئون إلى أرحم الرحمين، سبحانه وبحمده لا إله إلا هو، فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108] فلا ينبس أحدهم ببنت شفة، لا يتكلم أحدهم بكلمة وإنما هو الشهيق والزفير، يبكون الدموع حتى تنتهي حتى لو أرسلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت، نسأل الله العافية والسلامة. هذا جزاء المعرضين عن طاعة الله ورسوله، ذكرت ذلك ترهيباً لا ترغيباً؛ لأني أرى قلبي وقلوبكم قد قست، وقلوب الأمة كلها قد قست، فلابد يا أيها الأحبة أن نعود إلى القرآن، ولابد أن نعود إلى آيات القرآن لتلين القلوب فإذا لانت القلوب فأبشروا بخير أيها الأحبة. أشبابنا فلتسمعوا مني النصيحة والعتاب من مخلص في حبكم يرجو لكم حسن الثواب يخشى على هذى الوجوه من الحميم من العذاب أحبابنا لا تغضبوا فالحق أولى أن يجاب

استشعار معية الله

استشعار معية الله إن أوصيتكم بوصية فأوصيكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في السراء والضراء، الجئوا إلى الله، اجعلوا رقيبكم هو الله، اجعلوا حسيبكم هو الله، لا رقيب إلا هو ولا حسيب إلا هو، لا مهرب منه إلا إليه، لا منجا منه إلا إليه سبحانه وتعالى، لا ملتجأ إلا إلى الله عز وجل. يا أيها الأحبة! خلق الله السماوات سبعاً والأرضين سبعاً، جعل سبحانه وتعالى -كما في الأحاديث- ما بين السماء الدنيا والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، والله عز وجل من فوق ذلك فوق عرشه بائن على خلقه مستوى على عرشه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] هل استشعرنا هذه المعية يا أيها الأحبة؟ لو استشعرنا هذه المعية لاستقام الحال. إذاً: من هو الرقيب على تصرفاتنا وأعمالنا؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

باب التوبة مفتوح

باب التوبة مفتوح سبحان الله وبحمده، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، فلا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، امتثل أمر الله واجتنب نهي الله عز وجل، واستسلم واخضع وانقدْ لله عز وجل، ثم إن حصل منك تفريط فراجع نفسك وتب إلى ربك، واعلم أنه سبحانه يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] هو القائل كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} هو القائل: {يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}. يا أيها الشاب! يا أيها الحبيب! إن أخطأت وزللت فاعلم أنك لم تخف عن عين الله وعن رقابة الله جل وعلا، هو الرقيب والحسيب، إذا استترت بالجدران والحيطان والظلام فاعلم أنه رب الظلام ورب كل شيء سبحانه وبحمده فارجع عن ذلك، إذا كنت في فراشك ثم جاءك النداء من الله "حيّ على الصلاة، حي على الفلاح" فأنت أحد شابين: إما مطيع لله ورسوله، وإما عاص لله ورسوله وحاشاك أن تكون كذلك، إن أطعت الله فقمت وذهبت وأديت ما عليك؛ كان لك عند الله ما أعده لك: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] نحتاج إلى التقوى عندما نقوم إلى للصلاة، نحتاج إلى التقوى يوم نأخذ الريال لنذهب به إلى المدرسة، نعرف من أين أخذنا هذا الريال وأين سننفقه، لا ينفق إلا في طاعة لله عز وجل؛ لأن هذا الريال ستقف أمام الله عرياناً كما خلقك فيسألك عن هذا الريال من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ بأي لسان تجيب ربك سبحانه وتعالى إن أنفقته في معصية؟ يا أيها الحبيب! إذا سمعت صوتاً يغضب الله عز وجل، فاعلم أن الله أنعم عليك بهذه الأذن فأصمها عن سماع هذا الصوت، وإن استطعت أن تغيره فغيره. يا أيها الحبيب! إذا نظرت إلى منظر لا يحل لك أن تنظره، فالأُولى لك، ثم اذهب بعينك، واعلم أنك محاسب على هذه النظرة ممن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يا أيها الشاب! جوارح سوف تشهد عليك بين يدي الله، يوم تنفرد لوحدك، اعلم أن الشاهد سيكون من نفسك يوم تقف بين يدي الله، يد تشهد ورجل تشهد، وعين تشهد، وأذن تشهد، وكل شيء يشهد: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24].

نموذج من سلف الأمة في الإقبال على الله

نموذج من سلف الأمة في الإقبال على الله يا أيها الأحبة! أريد في الختام أن أذكر لكم نماذج، وهذا النماذج حافزة لكم أن تكونوا مثلها، للصغار أقول يا أيها الأحبة: في موقعة بدر -أول وقعة للمسلمين- والتي أثخن فيها المسلمون المشركين ماذا كان بطفل بمثل أعماركم؟ ماذا كان من شاب بمثل أعماركم؟ إنه عمير بن أبي وقاص، شاب صغير عرف قدر نعمة الله عليه عز وجل بالإسلام، فتوجه إلى الله جل وعلا يوم بدر، فكان أن أخذ حمائل السيف، وكانت طويلة عليه فأخذها سعد وربطها فأصبح يسحب في الأرض من قصر الرجل وطول السيف عليه! ويتجه إلى الله، ماذا يقدم؟ هل يقدم ركعة -وإن كانت عظيمة-؟ هل يقدم كلمة -وإن كانت عظيمة-؟ إنه لم يرض للجنة ثمناً إلا أن يقدم دمه لله عز وجل، فيأخذ السيف ويتوارى بين صفوف المسلمين؛ لأنه لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لرده، فرآه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال لـ عمير: ارجع. فماذا كان من عمير؟ أفرح والسيوف تنتظره هناك؟ بل دمعت عيناه ورجع هذا الصبي حسيراً كسيراً، فيقول أخوه سعد بعد أن تأثر من منظره: يا رسول الله! والله ما خرج إلا ليقتل في سبيل الله فلا تحرمه الشهادة في هذا اليوم، فيسمح له النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل غزوة بدر فينتصر المسلمون ليكون أحد شهدائها بإذن الله، عمير بن أبي وقاص. كم عمره آنذاك؟ عمره بمثل أصغر أعماركم الآن، وما ذلك على الله بعزيز أن نرى من شبابنا عميراً وعميراً وعميراً، نسأل الله أن يجمعنا بـ عمير وأمثاله في جنة عدن، فهو الرحيم سبحانه وبحمده. أيها الأحبة: هذا مثل من الماضي لكن هل الماضي فقط؟ والله يا أيها الأحبة إن من شبابنا هذه الأيام، بل من أطفالنا هذه الأيام من يحمل هم الدين ويحمل هم الإسلام أفضل ممن عمره المائة عام، إن هذا الطفل ليحمل بين طياته أعظم مما يحمل أبو المائة عام. شاب من الشباب يأتي إلى أبيه يوماً من الأيام ويعترض عليه ويقول: يا أبتاه! نحن في نعمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، وعندنا في كل شارع من الشوارع هذه الثلاجة التي نضع فيها الريال فتخرج لنا من هناك عصيراً أو ما أشبهه، ففكر هذا الشاب كيف يخدم دينه من خلال هذه، الشراب ليس ضرورياً، البيبسي ليس ضرورياً، هذه المشروبات جميعاً ليست ضرورية، إن أيقاظ القلوب وغذاء الأرواح أهم من هذه، ماذا فكر هذا الصبي؟ قال: لتملأ هذه الثلاجة بالأشرطة الإسلامية فيأتي الواحد فيضع الريال فيخرج له شريطاً، إن كان من الذين يحبون هذا فهذا شيء طيب، وإن لم يكن من هؤلاء فقد ذهب الريال ولن يعود إليه ولابد أن يأخذه لعله يستفيد منه تفكير صبي من الصبيان إنه تفكير عظيم يا أيها الأحبة! فنحتاج إلى هذا التفكير كيف نخدم ديننا؟ لا نخدم ديننا يا أيها الأحبة إلا بعد أن نتشبع من هذا العلم، العلم الشرعي الذي يقربنا من الله عز وجل، يوم تمتلئ قلوبكم علماً ويقيناً تتجهون إلى الله عز وجل، ويوم يصد الإنسان يعم الله بصيرته، لكن نقول للصاد: عد تجد الله تواباً رحيماً واحمد الله أن أمهلك. شاب من شباب هذا البلد كان يعصي الله عز وجل في حرم الله -ويا أيها الإخوة هذه نعمة نحن فيها إن استغلينا هذه النعمة، فإن انعكست فويل ثم ويل لنا أن نعصي الله في حرم الله- هذا الشاب كان صاداً وناداً عن الله عز وجل، لا يكاد يرعوي فيأتيه أحد الشباب الطيبين أمثالكم ويقول له: يا أخي! اتق الله، تعصي الله في حرم الله؟! اللهم لا تغفر له. وهذا يأس من هذا الشاب، ولكن ذاك زُئر ودهش وتذكر قدومه على الله عز وجل، وتذكر أن الذي لا يغفر له مصيره إلى النار التي سمعتم بعض أوصافها قبل قليل، فماذا كان منه؟ قال: يا رب أسألك بحسن ظني فيك إلا قبلتني، اللهم إني ألقيت إليك مقاليد أمري فاقبلني، اللهم قد أقلعت وتبت وندمت وعدت إليك فاقبلني، ويذهب حسيراً كسيراً نادماً على المعصية التي فرط فيها، يوم صحا قلبه وتأثرت روحه ورقت، رجع إلى الله عز وجل. يقول: فقام يصوم نهاره ويقوم ليله، ويأتي فيذهب ليحرم من خارج الحرم، ويدخل إلى الحرم وبينما هو يطوف بالبيت وبين الركن والحجر يسقط هناك ميتاً حسن خاتمة بإذن الله جل وعلا. من عاد إلى الله عز وجل بصدق بلغه الله عز وجل حسن الخاتمة، وما بعد حسن الخاتمة إلا كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى.

الحث على طلب العلم

الحث على طلب العلم فيا أيها الأحبة! أدعوكم إلى أن تطلبوا العلم بإخلاص، ثم تعلموا لما خلقتم وأن باب التوبة مفتوح فإياكم أن يغلق الباب وأنتم تقولون سوف وسوف وسوف أعماركم تمضي بسوف وربما لا تجتنون سوى عسى ولعلما هم المسوف كالتعلق بالسما أعماركم تمضي عجالا إنما أنتم سفارا من الأسفاري فيا أيها الحبيب! اتق الله وقصر الأملا ليس في الدنيا خلودٌ للملا أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما قلنا وسمعتم، وأن يجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا يوم نلقى الله عز وجل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة .

التحذير من الغيبة

التحذير من الغيبة Q بعض الإخوة بالله لا يتركون الغيبة فأرجو النصيحة. A يا أيها الأحبة: داء الغيبة خطير، يقول الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] أيحب أحدنا أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ إن الذي يغتاب هذا الأخ في الله عز وجل، نقول له: أنت تأكل لحمه حياً ليس ميتا، فما بالك إن كان ميتا، أما تخشى الله أن تأتي في آخر نهارك بصلاة وذكرٍ لله عز وجل، ثم يسلم منك اليهود ويسلم منك النصارى، ويسلم منك جميع أعداء الدين ثم لا يسلم منك إخوانك يا أيها الحبيب! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرج به إلى السماء: {ومررت على قومٍ لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس ويأكلون أعراضهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فانتبه أن تحول ما لديك من حسنات لغيرك، والقصاص بين يدي الله عز وجل.

عرض النفس على القرآن

عرض النفس على القرآن Q كيف أعرف نفسي هل أنا صالحٌ أم طالح؟ A أنا أقول: اختبر نفسك عندما تقرأ القرآن إن وجدت نفسك مع القرآن تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه فأنت إن شاء الله صالح، وإن وجدت نفسك وأنت تقرأ القرآن لا تلقي له بالاً، فاسأل الله أن يمن عليك بقلبٍ فإنه لا قلب لك.

صور وعبر

صور وعبر عمر بن الخطاب الذي زلزل عروش الظالمين، ودك قلاع الأكاسرة والقياصرة. عمر نور أضاء سطور التاريخ، وهو غرة في جبين الزمان. أمة في رجل إمام همام مميت الفتن ومحيي السنن. في هذا الدرس وقفات من حياة عمر زهده جهاده تفقده لرعيته ونصحه لهم أدب الخلاف عنده حزمه مع من يرفض حكم رسول الله، وفي الأخير قصة وفاته رضي الله عنه وأرضاه.

فضل الصحابة رضي الله عنهم

فضل الصحابة رضي الله عنهم الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفَّقه فهو الرشيد، يعلم ما ظهر وما بطن، وما خفي وما علن، وما هَجُن وما حَسُن، وهو أقرب إلى الكل من حبل الوريد. قسَّم الخلْق قسمين، وجعل لهم منزلتين، فريق في الجنة وفريق في السعير، إنَّ ربك فعال لما يريد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. أحمده وهو أهل الحمد والتحميد، وأشكره والشكر لديه من أسباب المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، والبطش الشديد، شهادة تكْفُل لي عنده أعلى درجات أهل التوحيد، في دار القرار والتأييد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، أشرف من أظلَّت السَّماء، وأقلَّت البِيدُ، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وأصحابه أولي العون على الطاعة والتأييد، صلاةً دائمةً في كل حين تنمو وتزيد، ولا تنفد ما دامت الدنيا والآخرة ولا تبيد. روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت بأنَّه خير مبعوثٍ من البشرِ عمَّت فضائله كل البلاد كما عمَّ البرية ضوء الشمس والقمرِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع ذخرًا لي ولكم في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. اللهم اكتب لنا به أجرًا، وارفع به ذكرًا، واجعله لنا ذخرًا. اللهم اجعل سرائرنا خيرًا من علانيتنا، وأعمالنا خيرًا من أقوالنا اللهم أنِرْ بصائرنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، واجعل حديثنا حديث قلب لقلوب، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يُرْتَجَى منه حسن الختام. صور وعبر الحلقة الثانية: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى} [يوسف:111]. أحبتي في الله: إن الصحابة الأبرار -كما تعلمون- هم حملة الإسلام وحفظته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه، ونشر رسالته من بعده عدَّلهم وزكَّاهم، ووصفهم بأوصاف الكمال في غير ما آية من كتابه، رضي الله عنهم ورضوا عنه نوعٌ فريد من الرجال، عدول ثقات صالحون، حازوا قَصبَ السبق في كل شيء، لم تعرف البشرية لهم نظيرًا قمة في التقوى والورع آية في التجرد والإخلاص مِشْعَل في العلم والعمل نِبْرَاس في الدعوة إلى الله. تالله لقد وردوا الماء عذبًا زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحدٍ مقالاً فتحوا القلوب بالقرآن، وفتحوا القرى والمدائن به وبالسنان هم أنصار الدين في مبتدأ نشأته، بذلوا المُهج يوم بخل أهل الدراهم بدراهمهم رجال المغارم يوم يندس المغرورون في ثيابهم، هم لله -عز وجل- قلوبًا وأبدانًا ودماءً وأموالاً. لم يجعلوا همَّهم حشو البطون ولا لبس الحرير ولا الإغراق في النعم حفظوا الشرع من أهواء الزائغين، وحموا الملة من زحف المناوئين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل حملوا الوحْيَين، وحضروا البيعتين، وصلَّوا أو أغلبهم صلى إلى القبلتين. كلهم له همٌّ، وهمهم رفعة لا إله إلا الله، وكلهم له قصد، وقصدهم الجليل في علاه خرجوا من أموالهم لله ولرسوله، فما شفا ذلك لهم غليلاً، فأبوا إلا أن يقدموا الجماجم، ويسيلوا الدماء، ويستعذبوا العذاب في ذات ربهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأكرم في جنات الخلد مثواهم: بيضُ الوجوه ترى بطون أَكُفِّهِم تندى إذا اعتذر الزمانُ الممحلُ من كان متأسيًا فليتأس بهم؛ فهم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالاً. همُ الرجال بأفياء الجهاد نَمَوْا وتحت سقفِ المعالي والنَّدى وُلِدُوا جباهُهم ما انحنت إلا لخالقها وغير من أبدع الأكوان ما عبدوا الخاطبون من الغايات أكرمها والسابقون وغير الله ما قَصَدُوا

مقدمة عن عمر بن الخطاب

مقدمة عن عمر بن الخطاب ومن هنا؛ فإن الكلام عن هؤلاء العظماء، وكشف الستار عن الصفحات الناصعة التي سطروها، واجب محتم علينا في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار، واضطراب الموازين، وموالاة الكفار، والوقوع في الصحابة الأبرار واجب لردع أهل الهوى من الزنادقة والملاحدة، وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبُّوا خير جيل وطائفة وُجِدَت على وجه الأرض؛ لا لشيءٍ إلا لأنهم حَمَلة الإسلام، ورواة الأحاديث التي تهدم بِدَعهم، وتُظهر ضلالهم، وتُبْرز خُبْث طويتهم، قاتلهم الله! وقاتل كل من حادَ عن كتاب الله وسُنَّة مصطفاه، واتَّبع غير سبيل المؤمنين! فهَلُمَّ هلم، وحيهلا بكم -أيها الأحبة- لنعيش الليلة معكم في ظلال محطة صور، ومائدة عبر، من حياة عَلَم آخر في سلسلة أعلام هذه الأمة المباركة علم يجب على الأمة أن تجعله وصحبه حديث شيوخها في السمر، وقصص أطفالها الذين لطالما أشغلوا بالقصص الهابط، والرسوم المتحركة، وحديث شبابها في منتدياتهم ونواديهم التي لطالما شُغلت بالحديث عن اللاعبين والفنانين والساقطين والساقطات. إنه من أظهر إسلامه يوم كانوا يخفونه إنه من تقلَّد سيفه وتنكب قوسه، وأخرج أسهمه، وأتى الكعبة وأشراف قريش في فنائها، فطاف سبعًا رغم أنوفهم، وصلى ركعتين، وأتى حلقهم واحدة واحدة يقول: [[شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي]] فما تبعه أحد. إنَّه مرقع القميص، وبين يديه الغالي والنفيس، إنَّه من يسلك الشيطان فجًا غير فجه، إنَّه الوقَّاف عند كتاب الله، المجاهد في سبيل الله، إنَّه القِيَم والمُثُل بعينها، وما أروع المثل يوم تكون رجالاً فتكون الأخلاق فِعالاً! إنَّه العادل إنْ ذكر العادلون، هو من سهر لينام الناس، وجاع ليشبع الناس، هو من جعل كبير المسلمين أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا. هو من لا تأخذه في الله لومة لائم، هو قائل الحق ولو كان مرًّا، إنَّه من اشترى أعراض المسلمين من أحد الشعراء بثلاثة آلاف درهم، حتى قال ذلك الشاعر: وأخذت أطراف الكلام فلم تدعْ شَتْمًا يضر ولا مديحًا ينفعُ ومنعتني عِرض البخيل فلم يَخَفْ شتمي وأصبح آمنا لا يفزعُ زلزل عروش الظالمين، ودكَّ قلاع الأكاسرة والقياصرة، وخضعت لعدالته الجبابرة والأباطرة، وهَوَت عناكب الظلم أمام رايات عدله الخفَّاقة وفتوحاته المظفرة، فَأَرْغَم أنوف الروم، وحطم كبرياء الفرس، وأخرج المغضوب عليهم -اليهود- من جزيرة العرب؛ لغدرهم ونقضهم العهود، أخرجهم أذلةً صاغرين. إنَّه الزاهد العالم العابد الغيور الخائف من الله وكفى. أظنكم قد عرفتموه، إنَّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعنة الله على من أبغضه وعاداه. نور أضاء سطور التاريخ، وغرة في جبين الزمان، أُمَّة في رجل، إمام همام، مميت الفتن، ومحيي السُّنَنَ. عمر الذي لا يجهله أحد، وفي نفس اللحظة قلَّ أن يعرفه أحد في هذا العصر. يعرف بعضهم بعض أخباره، ونتفًا من نسبه وأعماله، أما روح تلك الأخبار فلا يدركها إلا من تأملها من الأخيار، وإني لأرجو الله أن نكون وإياكم من أولئك الأبرار. مراكبُ أهل الهوى أتخمت نزولاً ومركبنا صاعدُ إذا عدد الناس أربابهم فنحن لنا ربنا الواحدُ إلى صور ذات عبر من حياته، وعذرًا لن نفيه حقه في هذه العُجالة: فأعلامُه في كل أرض خوافقُ يدين بها شرقٌ ويخضع مغربُ لكن حسبنا أن نقف عند بعض صور من حياته؛ وقفة عظة وتدبر واقتداء، ولأهل الهوى ردع وزجر. هاهي محطتنا الليلة محطة عُمَريَّة، فهل أنتم نازلون؟ وهذه مائدتنا فهل أنتم إليها مائلون؛ أم أنكم لا ترغبون؟ معذرة لأصحاب البطون؛ أعني: من لأجل رفع مستواهم المعيشي يكدون ويقلقون وفي الكلام عن المسكن والسيارة والأثاث والراتب لا يملون، وعلى هامش الحياة بلا رسالة يعيشون، بهائم في مسالخ البشر وهم لا يشعرون، هتافهم دائماً وأبداً: أين الصُحُون؟ مائدتنا تعتذرهم ثم تعتذرهم وتقول: إلي إليَّ أيها المتيقظون العاقلون المتدبرون، ومن بِسَلَف الأمة يقتدون، ومن عن التُرَّهات يترفَّعون، أنتم جميعًا مدعوون، وأنتم -إن شاء الله- رابحون: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] يارب: أنت العليم بظاهري وبباطني بالسر بل أخفى وبالإعلانِ أنت السميع لمنطقي وحروفه أنت الخبير بموقفي ومكاني إن لم أكن أهلاً لتوفيقٍ فمُن فلأنت أهل المَنِّ والإحسانِ يا رب أنت المُرتجى والمُبتَغَى وأنا الفقير بذلتي وهواني اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحَزنَ إذا شئت سهلاً.

عمر وتفقده للرعية

عمر وتفقده للرعية

عظم شعور عمر بالمسئولية

عظم شعور عمر بالمسئولية الصورة الأولى: علم عمر -رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات، ويقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ قوي، حازم رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية -كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر -: [[لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة -وفي رواية- لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر؟]] يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار؛ فلا عبقري يفري فريه. وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو -رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: [[لا تُزْعِجُوا طائراً نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير]]. فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل مع العدول رضوان الله عليهم! أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما. وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما. ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجتمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمناها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّم في بيتها، ورضيعٍ في مهده، هو القائل: [[ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين! قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم]].

جوع عمر في عام الرمادة

جوع عمر في عام الرمادة في عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه وقال: [[يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله! لا أطعمه]]. إن جاع في شدةٍ قومٌ شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان مُوليها يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول- كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح-: [[والله! لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأواقي، والله! لا تشبع حتى يحيا الناس]] عقمت نساء الأرض أن يُنْجِبْن مثلك يا عمر. يقول أسلم -كما في تاريخ عمر لـ ابن الجوزي -: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة. وحدث الواقدي قال: حدثنا هشام عن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة فأمر عمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل. أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا وحملانًا ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملوا الطعام، ونفد ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير.

عمر وتفقده للرعية ليلا

عمر وتفقده للرعية ليلاً يروي ابن كثير في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين! قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون. فيا لله! ماذا يفعل عمر؟ قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان إدامه الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخُشي عليه خشية عظيمة - رضي الله عنه وأرضاه - وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين. فعن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: [[رأيت عمر خرج بنا عام الرمادة إلى المصلى يستسقي؛ فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه. ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله- عز وجل- فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله]] وأذن الله للناس بالغياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا. أيها الأحبة: هذه مؤهلات الفرج، وهذه مؤهلات الغوث من رب العالمين؛ الجباه الساجدة لله، والعيون الدامعة من خشية الله، والأكف المتوضئة المرتفعة: يا رب يا رب، ومطعمها حلال، ومشربها حلال، وتغذيتها حلال فأنى يرد من هذا حاله؟ يقول أسلم: فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين. رحم الله عمر ورضي عن ذلك النموذج، قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، عفَّ فعفوا، وصدق فصدقوا، ولو رتع لرتعوا: ما كان إلا الشمس يسطع ضوءها والخصب في أرض الضلال الماحلِ قف أيها التاريخ سجل صفحةً غراء تنطق بالخلود الكاملِ حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست وغدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ

عمر وموقفه مع امرأة فقيرة وعيالها

عمر وموقفه مع امرأة فقيرة وعيالها صورة أخرى: روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل، قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: [[خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر: أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع. فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ لهؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بـ عمر؟ - يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه. قال أسلم: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق. فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟! قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العِدْل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: ثرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام. ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم؛ فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا. كنت أولى بهذا الأمر من عمر. قال: قولي خيرًا قولي خيرًا، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم وقد رَبَضَ مَرْبَضًا يراقبهم، يقول أسلم: فقلت: إن له لشأنًا، وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت]]. يا لها من كلمة! تكشف عن رهافة الحس ونقاء الضمير! كل ذلك قبل أن يعرف العالم حقوق الطفولة، وقبل أن تُنْشأ لها المنظمات العالمية، سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الطفولة والأسرة، فرضي الله عن عمر وعن صحبه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرر مثل هذه الحقوق.

عمر وتفقده لامرأة عمياء

عمر وتفقده لامرأة عمياء أيها الأحبة: إن هذه الصورة لتذكرنا بصورة أخرى مضيئة في حياة عمر - رضي الله عنه وأرضاه- يذكر الأوزاعي أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتًا، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة. فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيرًا. فيقول طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتتبع؟ يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟ لا. إنه الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، فلا والله! لا تنساه الأيامى والثكالى واليتامى مادام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة والأكباد الظامئة ما دام في الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى. فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه ومن يحاول للفاروقِ تشبيها ومن رآه أمام القدر منبطحًا والنارُ تأخذ منه وهو يُذكيها وقد تخلل في أثناء لحيته منها الدخان وغاب فُوهُ فِي فِيهَا رأى هناك أمير المؤمنين على حالٍ تروع لعَمْرِ الله رائِيْهَا يستقبل النارَ خوف النارِ في غَدِه والعَيْنُ من خشيةٍ سالت مآقِيها

صور من تواضع عمر

صور من تواضع عمر صورة أخرى: كان -رضي الله عنه- عظيم التواضع للخلق والحق، وكل الصور تدل على ذلك. رفعه الله بتواضعه درجات في الجنة. [[فعن الفضل بن عميرة أن الأحنف بن قيس قدم على عمر في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ شديد الحر وهو محتجز بعباءة، يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف! ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة ليكفيك هذا. قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف؛ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة]]. فيا لله! ورب عمر إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها. يقول عبد الله بن عمر بن حفص: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يحمل القِرْبَة على عنقه، فيقال له في ذلك فيقول: إن نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلها. بل إنه لربما أخذ بيد الصبي يلقاه، فيقول له: ادْعُ لي؛ فإنك لم تذنب قط. بل إن ابن عباس -رضي الله عنه- دخل عليه يوم طُعِنَ فقال: [[أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان. فقال عمر: أعد، أعد. فأعاد. فقال عمر: المغرور مَنْ غُرَّ. ولو أن لي ما على ظهرها من بيضاءَ وصفراءَ لافتديتُ به من هَوْلِ المطلع، وددتُ أني أنجو كَفافًا لا أجر لي ولا وزر]]. {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وكان متواضعًا للحق يقبله في السر والعلن، لقد كان بينه وبين رجل كلام في شيءٍ - كما أورد ابن الجوزي في تاريخه - فقال له الرجل: [[اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! فقال له عمر على الفور: دعه، فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم]]. يا ليت هذه الكلمة تكون عنواناً ولجامًا يلجم به نفسه كل من ولي من أمر المسلمين شيئًا صَغُر أو كَبُر؛ إذًا لصلح الحال، وتغيرت الأحوال، وكسدت سوق النفاق، ولكن أشد عيوبنا أنَّا إذا ما نُصِحْنَا خَدَّرتْنَا الكبرياء.

شدة خوف عمر من الله

شدة خوف عمر من الله كان خوفه من الله عظيمًا، بل ما قاده وحداه لتلك الأعمال المُشْرِقَة الخالدة إلا خوفه من الله - عز وجل - كان يمر بالآية فيغلبه البكاء وهو يصلي بالناس، حتى يقول ابنه عبد الله: [[إني لأسمع حنينه من وراء ثلاثة صفوف، وإنَّه لينشج حتى أقول: اختلفت أضلاعه]]. بل ذُكِر أنَّه خرج يعس ليلة من الليالي فمر بدار رجل من الأنصار، فوافقه قائمًا يصلي -يوم كانت دور المسلمين تعمر بالقرآن لها دوي كدوي النحل- وقف يستمع لقراءته فقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فقال عمر: قسم حق ورب الكعبة، ثم نزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًا به ما به، ثم رجع إلى منزله فعاده الناس، لا يدرون ما مرضه. هذه حاله مع آية من آيات القرآن. فما حالنا مع كتاب الله؟ عُمْيٌ عن الذكر والآيات تَنْدُبُنَا لو كلَّم الذِّكْر جُلْمُودًا لأبكاهُ كان شديد المحاسبة لنفسه، يقول أنس: [[خرجت مع عمر فدخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]]. فهلا خلا أحدٌ منَّا بنفسه يعاتبها ويحاسبها، علها أن تذكر الله فتسيل دمعة يستحق بها أن يكون ممن يستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله. نشكو إلى الله قسوة قلوبنا وغفلتنا، ونسأله بعزته وقدرته أن يلين قلوبنا فيه حتى تكون ألين من الزبد. هو ولي ذلك والقادر عليه.

زهد عمر بن الخطاب

زهد عمر بن الخطاب صورة أخرى أيها الأحبة: إن الزهد في الدنيا، والإعراض عن طلب زينتها، والعزوف عن شهواتها، من كمال الإيمان، ورجاحة العقول. إذ الدنيا حقيرة، وزينتها خداع وسراب، شهواتها آلام تدفع بآلام، عرف ذلك الفاروق فركلها وقد أناخت عند قدميه. وذلك -والله- هو الزهد بعينه. ذكر السيوطي في كتابه: تاريخ الخلفاء أن ابن سعد أخرج [[أن حفصة وعبد الله -ابني عمر - كلما عمر فقالا له: لو أكلت طعامًا طيبًا كان أقوى لك على الحق. قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم. قال: قد علمت نصحكم لي، ولكني تركته، لقد تركني صاحباي على جادة -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل]]: له أمنياتٌ قَدَّسَ الله سِرَّها لتحقيقها في الأرض يرسو ويبحرُ يَكِلُّ جناح النسر دون بلوغها وفي دربها الخيل الأصيلة تعثرُ يذكر القرطبي في تفسيره عن قتادة أنه قال: [[ذُكِرَ لنا أن عمر-رضي الله عنه-قال: لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعامًا وألينكم لباسًا، ولكني أستبقى طيباتي للآخرة. قال: ولما قدم الشام صُنِعَ له طعامٌ لم يُرَ مثله، قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير، فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة. فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من هذه الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً]] ثم أجهش بالبكاء: يهفو إليهم لعل العيش يهنأ له ما بين صحب وأرحام وإخوان.

عمر يتلقى الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم

عمر يتلقى الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم لقد تلَقَّى الزهد دروسًا عملية تربوية من سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، فاسمع يوم يروي مسلم فيقول: {دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، فالتفت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد شيئًا يَرُدُّ البصرَ إلا جلودًا قد سطع ريحها، ورسول الله مضطجع قد أثرت حبال السرير في جنبه الشريف - صلى الله عليه وسلم فتدمع عينا عمر رضي الله عنه فيقول صلى الله عليه وسلم: ما بك يا عمر؟ فيقول: أنت رسول الله وخِيرته من خلقه على هذا، وكسرى وقيصر في الديباج والحرير وما تعلم؟! فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسًا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك أقوام عُجِّلَت لهم طيباتهم في الدنيا. أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الأخرى} أو كما قال صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35] تموت الأُسْد في الغابات جوعاً ولحمُ الضأن تأكله الكلابُ وعبد قد ينام على حرير وذو نسب مفارشه الترابُ

بعض أقوال عمر في الزهد

بعض أقوال عمر في الزهد بمثل هذا الدرس النبوي الشريف تشبعت روح عمر بمعاني الكمال، وأصبح في ذلك نعم المثال. يدخل بيته ذات يوم وقد أصابه الجوع، فقال: [[أعندكم شيء؟ فقالت امرأته: نعم. ما تحت السرير، فتناول وعاءً من تحت السرير فيه تمر فأكل ثم شرب من الماء ثم مسح على بطنه، وقال: الحمد لله، ويل لمن أدخله بطنه النار! ويل لمن أدخله بطنه النار!]] ونهدي هذه المقالة للذين لا يتورعون أأكلوا من حلال أو حرام؟ ويل لمن أدخله بطنه النار! هاهو عمر والرهط المؤمنون معه أمام غنائم كسرى من الفرس؛ بساط كسرى وسواريه وجواهره وحلله وأمواله، وبينما هو كذلك إذ بعينه تذرف الدموع حَرَّى يكفكفها بطرف ثوبه؛ ويدهش الصحابة، ويقولون: [[ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فينهد باكياً قائلاً: فدت نفسي رسول الله هو الأحب إلى الله منا، فدت نفسي أبا بكر وهو عند الله خير منا، والَهْفَ نفسي! مَضَوا إلى الله وخلفونا، ولم يَرَوا من زهرة الدنيا شيئًا، ثم فُتِحَ علينا من الدنيا ما ترون، وأخشى أن تكون طيبات عجلت لنا]]. فضج المسجد بالبكاء فما تسمع إلا النشيج والحنين والأنين. إيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر

عمر ونيل مصر

عمر ونيل مصر صورة أخرى: أورد ابن كثير في تاريخه عن قيس بن الحجاج قال: [[لما فُتِحَت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل (بؤنة) -شهر من أشهر العجم- فقالوا له: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّةٌ لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كانت ثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو -رضي الله عنه-: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، ومنعهم فأقاموا ثلاثة أشهر والنيل لا يجري منه قليل ولا كثير؛ فتنة وابتلاء من الله حتى هموا بالجلاء عن مصر، فلما رأى عمرو بن العاص ذلك الأمر وما حل بهم، كتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بذلك، فكتب إليه عمر: لقد أصبت بالذي فعلت، والإسلام يهدم ما قبله، ثم كتب بطاقة داخل كتابه، وقال لـ عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل إذا أتاك الكتاب. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأله أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنها لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة]] فقطع الله عادة السوء تلك عن أهل مصر إلى اليوم. الله أكبر! من أطاع الله وصدق وأخلص مع الله طَوَّعَ الله له كل شيءٍ، طَوَّع له الجبال والأنهار والقلوب والأرواح وأتته الدنيا راغمة: فتقوى الله خير الزاد ذخرًا وعند الله للأتقى مزيدُ

أدب الخلاف عند عمر بن الخطاب

أدب الخلاف عند عمر بن الخطاب صورة أخرى: لقد كان عمر -رضي الله عنه- فقيهًا متأدبًا بأدب الخلاف، وكذلك كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم، فالخلاف عندهم لا يفسد الود. لِمَ؟ لأن الهدف عندهم هو إحقاق حق وإبطال باطل، فليظهر الحق على أي لسان.

أدب الخلاف بين عمر وابن مسعود

أدب الخلاف بين عمر وابن مسعود يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لقد اختلفت مع عمر رضي الله عنه في مسائل تربو على مائة مسألة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل أنقص هذا من حب عمر عند ابن مسعود أو العكس؟ لا والله! والشواهد تشهد بذلك. يقبل ابن مسعود يومًا على عمر رضي الله عنه وهو جالس، فلما رآه عمر هشَّ له وبشَّ وقال: كُنَيْفٌ مُلئ علمًا وفقهًا. هكذا كانت نظرة عمر -رضي الله عنه- لأخيه؛ نظرة تجردت عن الهوى والشهوة، فالحق مقصدها والصدق غايتها. فما نظرة ابن مسعود لـ عمر الذي اختلف معه فيما يربو على مائة مسألة؟ اسمع أخي الكريم: يأتي ابن مسعود اثنان، أحدهما قد قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر، فيقول ابن مسعود للأول: من أقرأك القرآن؟ قال: أقرأنيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى ابتلت الحصى بدموعه، ويقول: [[اقرأ كما أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل فيه الناس ولا يخرجون، فلما أُصِيْبَ عمر انْثلم الحصن]]. لا غرابة في هذا القول من ابن مسعود رضي الله عنه؛ فهو القائل بعد وفاة عمر -كما روى الإمام أحمد في فضائله بسند حسن-: [[لقد أحببتُ عمر حبًّا حتى لقد خفت الله، والله! لو أني أعلم كلبًا يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادمًا لـ عمر حتى أموت، ولقد وجَدَ فَقْده كل شئ حتى العصاة؛ إن إسلامه كان فتحًا، وهجرته نصرًا، وسلطانه رحمة]]، ثم يقول أخرى -كما أخرج الطبراني-: [[لمجلس واحد من عمر أوثق عندي من عمل سنة، لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر-رضي الله عنه- بعلمهم، ولقد ذهب بتسعة أعشار العلم]].

أدب الخلاف عند أتباع عمر

أدب الخلاف عند أتباع عمر أيها الأحبة: إن هذه الصور المضيئة من تاريخنا لتذكرنا بصفحات أخرى من صفحات سلفنا الكرام في أدب الخلاف؛ فإليكُمُوها فَعُوها واسمعوها: يتناظر ذات يوم يونس بن عبد الأعلى والشافعي -عليهما رحمة الله- فاختلفا في مسألة، وانفضت المناظرة، ولم يتفقا. يقول يونس: فوالله -الذي لا إله إلا هو- ما رأيت أعقل من الشافعي، جاءني في بيتي، وطرق بابي، ودخل وسلَّم عليَّ، ثم أمسك بيدي بحنان وتحنان، وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ لا ريب أن يقول ذلك الشافعي -رحمه الله- وهو القائل: ما جادلت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق بجانبه. هذا الكلام المضيء؛ نهديه إلى الذين تضج بهم الساحة الإسلامية هذه الأيام، ممن يخيل لأحدهم أنه أعلم العلماء وأحكم الحكماء، فلا يعرف توقيرًا لكبير، ولا يجلُّ عالمًا، ولا ينظر إلى أحد أنه يستحق الاحترام إلا نفسه، فيقع في عِرْض هذا، ويعدِّل هذا، ويَجْرَح هذا. وليس جراحهم في الجسم لكن جراح النفس تفتك بالرجالِ زيادة على نصاب العلم كواو عمرو أو كنون الملحق تجد الواحد منهم يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، ويرى بعين غيره، ما قاله فلان هو الحق وما عداه فهو الباطل. فلو لبس الحمارُ ثياب خَزٍ لقال العمى يالك من حمارِ ونقول لهم وللكل: ألا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا تمامًا في كل مسألة؟ منذ متى اتفق الناس؟ هاهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة؛ يختلفون. لكن انظر إلى اختلافهم وهم الأسوة والقدوة؛ تجده رفيعًا لا يفسد ودًا، ولا يكسر قلبًا، ولا يخدش عرضًا، إنما يحق حقًا ويبطل باطلاً. يا طالب العلم: يا أخي الكريم! أتفرقني عنك مسألة؟ فترفع عقيرتك عليَّ، ولا تجمعني بك ألف مسألة اتفقنا عليها! هل هذا من العدل؟ هل هذا من الإحسان؟ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] هلا جمعتنا أخوة الإيمان؟ كل شيءٍ بعد ذلك يأتي، ستكون الأخوة أقوى فتطغى. وكلنا ينشد الحق، والحق أحق أن يتبع، والتجرد عن الهوى مطلب، لكنه عزيز المنال صعب المدرك، وما يلقَّاه إلا الصابرون. هاهو الإمام مالك بن أنس -عليه رحمة الله- دخل المسجد ذات يوم وجلس، فغضب عليه أحد الغلمان قائلا له: قُم فَصَلِّ ركعتين، فقام وصلى ركعتين، فأنكر عليه بعض شياطين الإنس قائلاً: أتسمع لغلام وأنت الإمام؟ فقال الإمام مالك: خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]. الله أكبر! أين نحن -طلبة العلم -من هذا الفقه، وأولئك الفقهاء الذين بطريقتهم تلك استصغروا أنفسهم في الحق فاستعظمهم الناس، وتحركت بأعمالهم عوالم بأسرها وما زالت تتحرك؟ إن من طلبة العلم اليوم من يتسرب إلى نفسه الكمال الزائف، فيرى في نفسه العلم كله والحكمة كلها، ويحصر فيها الهداية الكاملة، ويستفقد كل ذلك في الآخرين. أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل إن دعاة الأمة وعلماءها المخلصين الصادقين هم الذين يلتزمون منهج القرآن في كل شيء، يلتزمونه في الحوار، وفي الرد، ولا ينساقون وراء حب الظهور والانتصار للنفس والتشفي، ولا يفرون من مرارة الصبر على الاعتراف بالخطأ الذي يمثل عاملاً مُهِمًّا في تأهيل أئمة يهدون بأمر الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

نصيحة عمر للأمة بحسن الظن

نصيحة عمر للأمة بحسن الظن صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها ابن سعد في طبقاته، قال فيها: [[أيها الناس! ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينزل الوحي وينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا وإنه قد أتى عليَّ حين وإنما أنا أحسب أن مَن قرأ القرآن يريد الله وما عنده، ثم خُيِّل إليَّ بآخرة أن رجالاً قد قرءوه يريدون ما عند الناس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني -والله- ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلتهم ليعلِّموكم دينكم وسننكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنَّه -أي: لأجرين عليه حكم القصاص- فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أفرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أكنت مقصُّه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده؛ لأقصنه، كيف لا أقصه وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم المهالك فتضيعوهم، فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار]]. يا للكلام! كلام ذوي الألباب أهوى وأشتهي كما يشتهي الماءَ المبردَ شاربُه الله أكبر! إنه الحق والسكينة ينطقان على لسان عمر -رضي الله عنه وأرضاه-. هذه رسالة من عمر موزَّعة إلى ثلاثة أصناف: أما الأولى: فإلى من وليَ من أمر المسلمين شيئًا صَغُر، أو كَبُر تُبَيِّن أن مهمتهم تعليم الدين والسنن، لا إذلال المسلمين، ومنعهم حقوقهم، وضربهم، وإنزالهم المهالك. وهي كذلك رسالة إلى حملة كتاب الله أن يريدوا الله بقراءته. فليسائل حملة كتاب الله أنفسهم: ماذا زرع القرآن في قلوبهم ونفوسهم؟ وهي أولاً الرسالة إلى من يحكم على النيَّات بالفساد، فيظن بكلمات المسلمين شرًا وهو يجد لها في الخير محملاً: تعمى بصائرهم عن كل منحرف ويرصدون ذوي التقوى بمرصاد والرسالة الأخيرة هذه تذكر برسالة أخرى، وبصفحة أخرى مضيئة في تاريخ هذه الأمة. يوم يدخل الربيع بن سليمان على الشافعي وهو مريض يعوده، فيقول من ضمن دعائه له: قوَّى الله ضعفك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! لو قوى ضعفي لقتلني، قال الربيع على الفور: والله -الذي لا إله إلا هو- ما قصدت ذلك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! والذي لا إله إلا هو لو شتمتني صراحًا لعلمت وتيقنت أنك لم تقصد ذلك. يا لله! نهدي هذا الكلام مع التحية لبعض الذين يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر. والله! إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين من ينتسبون لعقيدة واحدة، ومنهج واحد إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم، ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحضور النفس تؤزُّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا. أهل السنة لا ننكر أنهم قد يختلفون، فقد يقع بينهم الاختلاف حول بعض المسائل التي يجوز فيها الاختلاف، لكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب أبداً. يا طلاب العلم المخلصين! يا دعاة الحق المبين! ألا من رجعة صادقة إلى الله نرتفع بها على ذواتنا وأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية؟! ألا من رجل رشيد يفكر بعمق المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها؟! والله! إن لم نسعَ لرَأْبِ الصَّدْع، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن فإن هناك فتنة وفسادًا كبيرًا سيحل بنا إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده، يجمع الله بها شتات القلوب وتتوحد بها كلمات دعاته المخلصين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فأي خير إن صدر من أخيك ما لم يمكن حمله على الخير فليُتَعذَّر عنه. ولن يعدم قاصد الخير أن يجد لإخوانه ما يبقي صدره سليمًا، ونفسه رَضِيَّه، فإن لم يكن ولم تستطع ذلك فما كافأ عبد من عصى الله فيه بمثل أن يطيع الله فيه: فوالله ما مال الفتى بذخيرة ولكن إخوانَ الثقات الذخائرُ صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقبه عن سعيد بن أبي بردة قال: [[كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري قائلا: أما بعد: فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته، إياك أن تزيغ فيزيغ عمالك فيكون مثلك في ذلك مثل البهيمة: نظرت إلى خضرة الأرض فرعت فيها ترجو بذلك السمن وإنما حسبها في سمنها -بمعنى: أنها إذا سمنت ذبحت- والسلام عليك]]. يا للكلام المزين بالفعال. قولوا لمن ملأ الزمان تشدقاً بالعدل أين العدل يا متشدق؟! نصيحة توجه إلى من ولي ولاية صغيرة أو كبيرة فهو الناصح رضي الله عنه. والمؤمنون من طبعهم النصح والمنافقون من طبعهم الغش {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.

الجهاد في عهد عمر

الجهاد في عهد عمر صورة أخرى: أتمَّ عمر الشوط الكبير الذي بدأه أبو بكر، فأخذ يعدُّ العدَّة لفتح العراق وبلاد فارس بعد أن اطمأن على سلامة الجيش الإسلامي في بلاد الشام، وعرف أن الروم ارتدوا على أعقابهم بعد اليرموك. والمسلمون في عهده من نصر إلى نصر. رغب عمر أن يقود الجيوش بنفسه، وتَاقَت نفسه إلى الجهاد في سبيل الله، لكن جمهرة المسلمين أشاروا عليه بـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه فوافقهم على ذلك، فكانت وقعة القادسية التي ظهرت فيها عزة المسلمين، وذل وهزيمة الكافرين، وقُتل عشرات الآلاف من عُبَّاد النار من المجوس، وأيَّد الله دينه ورفع كلمته، وهاب الكفرُ الإسلامَ، فانتشر الإسلام، وتقلَّص الظلام، وفُتِحت المدائن، وعُبِرت الأنهار بفضل الله الواحد القهار. أكرمهم الله بأن يسيروا على الأنهار كما نسير على البيداء، وحاز المسلمون كنوز كسرى وقيصر، ولبس سراقة سواري كسري، وتحققت نبوءة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في ذلك. كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا أرواحنا يا رب فوق أكُفِّنا نبغي ثوابك مَغْنَمًا وجوارا ندعو جهارًا لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا ومن القادسية إلى نهاوند. فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نَظْمٌ من الشعر أو نثر من الخطب

أطفئت نار المجوس في عهد عمر

أطفئت نار المجوس في عهد عمر وأُطْفئت نار المجوس، وتمزق مُلْك كسرى، ولم تقم للمجوس قائمة، وفتحت الشام، ومصر، وفتح بيت المقدس، وتسلم مفاتيحه عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو يخوض مخاضة الطين، ويقول: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله]]. وسلمها عمر أمانة لكل من يَخْلُفه، فأين الأمانة يا مسلمون؟ ما الخبر بعد عمر؟ إنه الذل والهوان المكتوب على الأمة متى ما حادت عن دينها. لقد ابتعد المسلمون عن مصادر عزهم فذلوا، وحادوا عن رشدهم فضلوا، وألغوا عقولهم فهانوا، عصوا الله وهم يعرفونه فسلط عليهم من لا يعرفه؛ فكان الهوان والضياع. وضاعت القدس، ضاعت يوم أميتت في القلوب آل عمران والأنفال وبراءة، ضاعت يوم أُصِمَّت الآذان، واسْتُغْشِيت الثياب عن أصوات الناصحين الصادقين، ضاعت يوم ذُلَّ الأتقياء، وعُزَّ الأشقياء، وأغمدت سيوف الحق، ورفعت سيوف الباطل، يومها فُجِعْنَا بضياعه؛ لأننا أمة لا تستحق أن تُنْصَر. لكل فاجعة في الدهر سُلْوان وما لنكبة أرض القدس سلوان هذي مآذنه خرساء ذاهلة فلا أذان ولا في الناس آذان بيت مشى أمس في ساحاته عمر فكيف يمرح فيه اليوم شيطان ورفع الله الأتقياء بـ عمر، وسقط المجرمون، وشرَّق الإسلام في عهده وغرَّب، وأُدِيلت دول، وفُتِحت بلاد، ومُصِّرت أمصار. يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أُدْمُ له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فَرَقًا من خوفه وملوك الروم تخشاه أيها الأحبة: إن السؤال الذي يطرح نفسه في ثنايا تلك الانتصارات: ما التوجيه الذي كانت تتلقاه الجيوش المؤمنة في ذلك العهد؟ إنه -ولا شك- قراءة سورة الأنفال تحت كل راية من رايات المسلمين، فتهشُّ لها القلوب والعيون المؤمنة، وتتنزل معها السكينة والطمأنينة، فيكون النصر. والسؤال الآخر: ما ليل جند الله في جيش عمر؟ يقول سعد بن أبي وقاص: لقد كانوا يدوُّون بالقرآن إذا جن الليل كدويِّ النَّحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقيَ إلا بالشهادة إذ لم تكتب لهم. تحيا بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم في بقاع الأرض أمطارُ عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخدِّ أجراهُ وأُسْدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه فاسألوا عن كل نصر خالدا ً واسألوا عن كل عدل عمرا يا رجال الليل قد طال المدى بلغ السَّيل الزبى وانحدرا اصبروا إن عظم الخطب فما يدرك النصر سوى من صبرا وانصروا الله يهبكم نصره واشكروه يعط من شكرا

معركة القادسية من الداخل

معركة القادسية من الداخل ونحن في ثنايا انتصارات عمر علينا أن ندرس بعض الصور فيها من داخلها. ففي القادسية صور مضيئة جديرة بأن نقف عندها وقفة تأمل واعتبار واقتداء. ومنها: أنها ضمت في صفوفها ما يربو على ثلاثمائة صحابي، منهم تسعون بدرياً، فهي تتميز بذلك عن غيرها من المعارك. ثم انظر بعين بصيرتك إلى عمر يوم يقول لـ سعد موصيًا ومودعًا -وتأمل الوصية وانظر وتفكر-[[يا سعد بن وهيب لا يغرنَّك إن قيل: خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه ليس بين الله وبين أحد نسب إلا بالتقوى]] وتأملوا الميزان والمعيار التي قد تختلف عليه الأشكال، لكن الحقيقة واحدة، في اليرموك وفي بدر وأحد وفي زمن قتيبة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. النسب واحد؛ هو التقوى، والمعيار والميزان هو التقوى، عَضُّوا عليها. وإن كان سعد خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سعد مبشراً بالجنة، وإن كان ممن جمع له الرسول صلى الله عليه وسلم أبويه، وإن كان من قال فيه: {هذا خالي فليرني امرؤ خاله} نعم. حذار يا سعد! من الاغترار، توجيه عمريٌ، لا تغتر بكلام الناس، والتقوى فالزم فهي المؤهَّل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. كيف لو أن عمر -يا أيها الأحبة- يرى وينظر إلى وسائلنا -وسائل الأمة المسلمة- هذه الأيام لرأى عجبًا وهي تدمر المسئولين في الأمة المسلمة، وتحوِّلهم من بشر يصيب ويخطئ ويُحاسَب إلى أناس لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، بل لا يسألون عما يفعلون. ويُرْفع شأن مختلس وغاو ويُجْفى كل ذي عقل رزين والله! أيها الأحبة: يوم يدخل المرء داخل معركة القادسية وغيرها، يعرف ماذا كان يجري في جيش المسلمين، وفي جيش الكافرين، يعرف حينها عوامل النصر، ومؤهلات العز، وعوامل الهزيمة. فادخل معي إلى المعركة، واسمع. كما تعلمون تبدأ المعارك -غالبًا- بالمبارزة، وبدأت المبارزة بين الصفين؛ بين صف يقول: لا إله إلا الله، وبين صفٍّ يعبد النار من دون الله، فقام علج من الفرس ما عرف الله لحظة من اللحظات، ودخل الساحة، فخرج إليه رجل من المسلمين، فتجاولا وتصاولا، فلم يلبث العلج الفارسي أن قتل المسلم. والمبارزة كما تعلمون لها تأثير نفسي -غالباً- على الجيش وعلى مستقبل المعركة، فخرج إليه رجل آخر من المسلمين وبدأت المبارزة مرة أخرى، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، ففتَّ ذلك في عَضُد المسلمين، ثم خرج ثالث من المسلمين -يتهاوون على الموت، يريدون ما عند الله- وتجاولا، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، فوهن ذلك في عزم المسلمين وهنًا شديدًا، كافر يقتل ثلاثة من المسلمين في تلك اللحظة الحرجة! كان في جيش المسلمين شيخ كبير قد بلغ ما يربو على ثمانين عامًا، لا يزال يجاهد والمؤمن في جهاد حتى يلقى الله ممتثلاً قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] خرج هذا الشيخ الكبير على فرسه لسان حاله يقول: أخي ظمئتْ للقتال السيوفُ فأورد شَبَاها الدمَ المُصْعَداَ فإمَّا حياة تسرُّ الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا ويصاول ذلك العلج الذي انتفخ ريشه وتكبر؛ لأنه قتل ثلاثة من المسلمين، فتطاول معه زمناً طويلاً، لكن هذا الشيخ المسلم ما لبث أن قفز من خيله إلى خيل ذلك الفارسي فصارا على خيل واحدة، ثم حمل هذا الفارسي بيده وهو مدجج بالسلاح والدروع فرفعه بيديه، ثم أنزله على ركبتيه فكسر ظهره نصفين، ثم رمى به، وقال: هذا علج خبيث، لا يستحق أن يضرب بالسيف. فكبر المسلمون ودارت المعركة فكان النصر لمن ينصرون الله. هذا هو الإيمان درب نجاتنا فما بالنا عن دربنا نتنكَّب ما بالنا نرنو إلى أعدائنا وسهامهم نحو الصدور تُصَوَّب ما بالنا نرنو إلى أعدائنا والله للإنسان منهم أقرب صعب طريق الموت مرٌّ طَعْمُه حقًا ولكن الدَّنيَّة أصعب أين تربى ذلك الشيخ -أيها الأحبة- الذي عمره فوق ثمانين؟ إنه -ولا شك- في رياض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تربى عليهما عرف مهمته في الحياة، وهي إعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله. بذل كل شئ في حياته لتحقيق هذه المهمة، وهكذا كان الواحد من سلفنا، عنده بصيرة يتحرك بها على الأرض، ويعرف كيف ينصر دينه، ويفكر كيف ينصر دينه، وبالتالي نُصِرُوا. من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنْصَرُ هذه صفحة في ثنايا القادسية التي ما هي -والله الذي لا إله إلا هو- إلا جزء من جهاد في ثنايا جهاد عمر وصحبه رضوان الله عليهم الذين أرهبوا أعداء الله، ومكنوا لدين الله في الأرض، فما الحال، وما الواقع اليوم والأمة تدَّعي الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة؟

وقفة مع الأقصى

وقفة مع الأقصى إن الواقع مرير، ويجب أن نعلم مرارته، لعلنا نرفع هذه المرارة، وإن الأمة ممزقة، وإن التكالب على المسلمين ورميهم عن قوس واحدة حاصل، وإن الغفلة عظيمة، وما أشبه ليلة القدس بـ أندلس البارحة: أين اللواء وخيل الله يبعثها عمرو ويصرخ في آثارها عمر هذا هو الأقصى يُهَوَّدُ جهرةً وببؤسه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يهود جهرة وجموعنا يا مسلمون نثار أليس لكم قلب يفيء لربه أليس لكم عين أليس لكم فم المال مقتسم والعرض منتهك والقَدْرُ محتقر والدم طوفان لا راية لبني الإسلام ظاهرة إذا تداعى خنازير وصُلْبَان أين الجيوش التي تزهو بقوتها؟ كأنها في نهار العَرْضِ بركان أين الملايين من أموال أمتنا؟ فما لها في مجال الفعل برهان هل عندكم نبأ مما يُعَدُّ لكم أم خدَّر القومَ لعَّابٌ وفنَّانُ؟ هل عندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم رُكْبَان؟ واليوم مسرى نبي الله ضجَّ وقد غشاه مرٌ من التنكيل ألوان ذل وضعف وتمثيل ومَلْحَمَة ما ذاقها في مدار الدهر إنسان الخمر تُشْرب والأوتار صاخِبَة وللرياضة فينا القَدْرُ والشَّان أَمَا لنا في كتاب الله من عظة فقد دعانا لنصر الحق قرآنُ أَمَا لنا في طلوع الفجر من أملٍ أما تبدد عنا الشك والرَّانُ يا أمتي مزقي الأغلال وانتفضي فالمجدُ لا يمتطيه اليومَ وَسْنَانُ عودي إلى الله فالأبواب مُشْرَعةٌ وعزَّة الله للأوَّابِ عُنْوانُ واستبشري فشعاع الفجر منتشرٌ وإن تجاهل نورَ الفجرِ عُمْيَانُ وإن تراكم غَيْمُ الظلم واحتجبت شمسُ النَّهار فللإشراق إبَّانُ أيها الأحبة: ألا نملك مثل هذه الطاقات التي كانت في صفوف القادسية من أبناء العشرين إلى الثمانين إلى المائة؟ بلى والله! إنَّا لنملك بعضًا منها، والقصور عن السلف أمر لابد منه، لكننا لا نحسن التعامل معها. تهينها الأمة وتمتهنها وتقتلها ولا تنتفع بها وهي أحوج ما تكون إليها: كالعِيسُ في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها مَحْمُول والله الذي لا إله إلا هو لا نُنْصر ما دام هذا دَيْدَن الأمة مع طاقاتها. إنه حين تُدمَّر النفوس، ويُهَان المخلصون، ويرفع المجرمون إلى مرتبة الأتقياء، ولا يُسمع الناصحون، والله! لا تنفع عندها لا دبابات، ولا طائرات، ولا أساطيل، لأنه أمر الله بالتدمير، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم: من أين يرعى الله أمتنا التي ذل التقي بها وعز المُذْنب من أين يأتيها السلام وقلبها خاوٍ وفيها الغاشِم المستكلب ومع ذلك فوالله الذي لا إله إلا هو! إنَّا لمتفائلون كثيرًا، فلا يأس، ولا قنوط، ولا خشية من نصارى ولا مجوس ولا يهود، العهد من الله تعالى لنا بالنصر. ديننا الحق، والكفر ذا دينهم كل دين سوى ديننا باطل يا قدس مهما باعدوا بيننا ففي غدٍ جيش الهدى يزحف لابد من يوم يزول الخَنَا عهد من الله لا يُخْلف لابد من يومٍ لنطق الحجر وعْدٌ من الله لا يُكْذَب ولو أن كل مسلم بصق بصقة فقذف اليهود بها لغرقوا، أو نفخ نفخة مؤمن حقاً لطاروا. طريقنا واضح كالشمس تعرفه أجيالنا بابه عزم وإيمان آمالنا لم تزل خضراء يانعة في القلب مُنْتَجَع منها وبستان وللباطل مهما اشتط وطغى ساعة، وللحق وأهله زمان آخر لا ينتهي إلى قيام الساعة. شريعة الله رغم الكفر خالدة والزيف يفنى ويفنى من له عبد ولينا الله لا نرضى به بدلاً وكيف ييئس من مولاه رحمان

اشفاق عمر ونصحه لرعيته

اشفاق عمر ونصحه لرعيته صورة أخرى: روى ابن سعد في طبقاته أن عمر -رضي الله عنه- كان في سفر، فلما كان قريبًا من الروحاء سمع صوت راعٍ في جبل، فعدل إليه ونادى عمر: يا راعي الغنم! فقال له الراعي وقد عرفه: نعم يا راعيها! -يعني: يا راعي الأمة- قال عمر: لقد مررت بمكان هو أخصب من مكانك هذا، هو المكان الفلاني، وإن كل راع مسئول عن رعيته، ثم مضى عمر في طريقه. الله أكبر! يوم ترى خليفة المسلمين ينصح راعي غنم، ويدله على مكان هو أخصب من المكان الذي هو فيه، ويذكِّره بأن كل راع مسئول عن رعيته بأن يختار لها ما هو أنفع، وأن يؤثر مصالحها في كل موقف. عمر ينادي الراعي: يا راعي الغنم! والراعي يجيبه بقوله: نعم يا راعيها! أي: يا راعي الأمة، لا فرق في التزام المسئولية بين هذا وذاك. مسلمون حقًا، ومؤمنون صدقاً: {يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم}. إن سيرة عمر -رضي الله عنه- شاهدُ صدقٍ على أن الوالي المسلم راع مشفق، وناصح أمين، ورائد لا يكذب أهله. عمر هو الذي كان يعالج البعير الأجرب ويقول للبعير: إني لخائف أن أسأل عما بك، ما أروعها من كلمات يستضيء بها كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين صغر الأمر أو كبر! فالمسئولية تحتِّم على كل من ائتمنه المسلمون على مصلحة من مصالحهم أن يتقي الله فيها، وأن يُحسن القيام بها؛ لينجو من العقاب غدًا. هكذا كان الراعي مشفقًا على الرعية، شديدًا على نفسه، لعله يلقى العيش الرخي في دار الخلود. من لي بجيل مستجدٍّ لم يرث إلا عن الجد القديم الأبْعَدِ يرث أبا حفص في أصالةِ رأيه أو خالداً في عزمه المتوقِّد جيل إذا سِيمَ الهوان أَبَى وإن يطلب إليه البذل لم يتردد يهوى الحياة عقيدة، ويعافها فوضى ويُدْعى للفداء فيفتدي

عمر وحزمه مع المنافقين

عمر وحزمه مع المنافقين صورة أخرى: أخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا من المنافقين يقال له: بشر؛ خاصم يهوديًا، فدعاه اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهما؛ لأن هذا اليهودي يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق، وأن ما جاء به هو الحق، ولكنهم قوم يستكبرون، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلم يرضَ المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إليه، وقال اليهودي لـ عمر: لقد قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضَ هذا بقضائه، وجئنا لتقضي بيننا، فقال عمر لهذا المنافق: أكذلك؟ قال: نعم. قال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر، واشتمل على سيفه، ثم خرج إليهما، فضرب عنق المنافق بالسيف حتى برز، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ما أحوج الأمة إلى ذلكم السيف العمريُ ليضرب ضربته فيمن يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به. ليضربها فيمن إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم يصدون. ليضربها فيمن إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون. ليضربها في الذين يرفضون التحاكم إلى شرع الله إذا كان الحق عليهم، ويرضون بالتحاكم إليه إذا كان الحق لهم. إلى أولئك جميعًا {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

وفاة عمر بن الخطاب

وفاة عمر بن الخطاب الصورة الأخيرة: ويحج عمر -رضي الله عنه- فلم يضرب في طريقه فسطاطًا، وإنما كان يلقي الرداء على شجرة فيستظل بظل تلك الشجرة، وينتهي من حجِّه ولما نفر من منى رفع يديه قائلاً: [[اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرِّط ولا مضيع. اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك]] أخرجه البخاري. ويتقبل الله من المتقين. ويرجع إلى المدينة النبوية، ويخطب يوم الجمعة، ويذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر -رضي الله عنه- تعلوه الكآبة والحزن، ثم يقول: رأيت كأن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين الستة الذي توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض. يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا حزيناً من ذلك اليوم.

اغتيال عمر في صلاة الفجر

اغتيال عمر في صلاة الفجر في صباح يوم من أيام -أبعدها الله- يصلي بالناس صلاة الفجر، ويكبر ويبدأ في القراءة يبكي، وبينما هو كذلك إذ تقدمت إليه يد من أيدي الأعداء التي لا تتسلل إلا في الظلام، يد آثمة، يد مجوسية ما سجدت لله سجدة، ولا عرفت الله، لتمزق الأديم الطاهر، فيهوي صريعًا والدماء تثعب منه، فما راع الناس إلا تكبير عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- إذ أخذه عمر -رضي الله عنه- بيده فقدمه، فصلوا صلاة الفجر يومئذ صلاة خفيفة، وأما ذلك العلج فما كان منه إلا أن قتل نفسه. وحُمِل عمر إلى بيته وهو في دمه، لم يصل صلاة الفجر، فقيل: يا أمير المؤمنين! الصلاة الصلاة، قال: ها، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم وثب ليقوم، فانبعث جرحه دمًا، فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب بها جرحه ثم صلَّى، لم يمنعه ما هو فيه من أداء الفريضة -فلا نامت أعين من يترك الصلاة-. ولما سلَّم من صلاته قال: أيها الناس! هل كان هذا على ملأ منكم؛ أي: كان طعنه على ملأ منكم؟ قال علي: والله! لا أدري من الطاعن من خلق الله، أنفسنا تفدي نفسك، ودماؤنا تفدي دمك، لوددنا أن الله زاد في عمرك من أعمارنا. ثم علم أن طاعنه عدو الله أبو لؤلؤة المجوسي؛ غلام المغيرة، فقال عمر: قاتله الله! لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها قط. كان على فخذ ابنه عبد الله فقال: يا بني! ضع خدي على التراب؛ علَّ الله أن يرحمني، فلم يفعل عبد الله فأعادها قائلاً: ضع خدي على التراب لا أمَّ لك يا عبد الله! يقول عبد الله: فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من بين أضغاث التراب، وبكى حتى التصق الطين بعينيه، وأصغيت إليه لأسمع ما يقول، فإذا به يقول: ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه، ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه. ويدخل الصحابة يعودونه ومن بينهم علي يقول: [[هنيئًا لك الشهادة؛ لطالما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فبكى وقال: ليتني أنجو كفافًا لا لي ولا عليّ]] أو كما قال. ثم قال لابنه: انظر كم عليّ من الدين؟ قال: فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، فقال: يا عبد الله! إن وَفَى لها مال آل عمر فأدِّها من أموالهم، وإن لم تفِ فاسأل فيها بني عدي، وإن لم تفِ فاسأل فيها قريشًا، ولا تعدهم إلى غيرهم. يا لله! خليفة المسلمين ميزانية الأمة تحت يديه ويموت ودينه يربو على ثمانين ألفًا! إن قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم من لو أراد أن تجري الجبال له ذهبًا لكان، مات ودرعه مرهونة عند يهودي في أصوع من شعير، فلا ريب ولا غرابة. أولئك أقوام ما إن ذكرتهم جرت عَبَرات الدمع حَرَّى تصبَّبُ هاهو عمر على فراش الموت في حالة ارتحال من دار الفناء إلى دار البقاء، ولا زال يعطي الدروس للأمة. يدخل عليه مسبل من الشباب فيعوده ويدعو له ويخرج، فيقول: أعيدوه عليَّ، فيرجع الشاب فيقول: [[ارفع إزارك فهو أتقى لربك، وأنقى وأبقى لثوبك]]. رضي الله عن عمر، لم يشغله ما هو فيه عن أن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر رضي الله عنه وأرضاه. ويختم حياته بأهم مالديه وهو أن يدفن بجوار قدوته الحبيب الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار أخيه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

دفن عمر جوار رسول الله

دفن عمر جوار رسول الله يحدث الإمام البخاري عن عمرو بن ميمون أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا عبد الله بن عمر انطلق إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم عبد الله على عائشة واستأذن ودخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فجهشت بالبكاء، وقالت: كنت أريد ذلك المكان لنفسي، ولأوثرنَّ به عمر اليوم على نفسي، ورجع عبد الله، فلما أقبل على عمر قيل له: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه فقال لـ عبد الله ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! قد أذنت لك، وتهلل وجهه، لسان حاله: وافرحاه واطرباه: الآن ألقى الأحبَّة محمدًا وحزبه أما لسان مقاله: فالحمد لله ما كان من شيء أهم إليّ من ذلك المضجع. ثم قال: يا عبد الله! إذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّم على عائشة أخرى وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن لم تأذن فردني إلى مقابر المسلمين. وأسلم عمر الروح إلى بارئها. وحمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، فما أصابهم حزن مثل حزنهم إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. ودفن حيث أكرمه الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي وأضع ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله! ما دخلته إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر]]. فإلى السَّافرات، إلى الكاسيات العاريات نهدي هذا الكلام. دفن عمر ولم تدفن سيرته ولا أعماله، وإنما هي باقية بقاء هذا الدين لكل مقتد من المسلمين: فلقاه ربي في الجنان تحية ومن كسوة الفردوس ما لم يمزق نِلْتَ الشهادة فاهنأ أيها العمر بمثل عدلك تبنى مجدها الدول أمامك الجنة الخضراء فاهنأ بها لا يُرْتَجَى العمر يومًا إن دنا الأجل انْعَم بخلدك في أبهائها فرحاً إنَّ الخلود جزاء أيها البطل فالآن تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر فسقى رفاتك وَابِلٌ من ماء غيث مُنْهَمِر رحم الله عمر، وجمعنا به في دار كرامته؛ فقد عظم شخصه، وقوي خطره على أعداء الدين، كان شديدًا في سبيل إعزاز ورفعة العقيدة والدين، وفي ذات الوقت كان رقيق المشاعر، مرهف الحواس، تُشْجِيه أنَّات طفل صغير، أو نَشِيج فقير بائس، أو زفرات مهموم مغموم مكروب. لقد كان بدرًا يستضاء بنوره فأضحى رهينًا في المقابر ثاويا تغمده الرب الكريم بفضله ولا زال هَطَّال من العفو هاميا على قبره يهمي عشياً وبكرة وبوَّأه قصراً من الخلد عاليا

السعي السعي للاقتداء بالصحابة

السعي السعي للاقتداء بالصحابة أحبتي في الله: هذه بعض صور من حياة السلف وأخلاقهم ومناهجهم وتوجيهم وتربيتهم وثقافتهم وجهادهم، فما أحوالنا؟ وما أخلاقنا؟ وما ثقافتنا؟ وما توجيهنا؟ وما تربيتنا؟ أين نحن من هذه الأخلاق السامية الجليلة؟ إن المتأمل لأحوال المسلمين اليوم يجد البَونَ شاسعاً بيننا وبين أولئك الصَّحْب، ولكن المحب لهم بحق يسعى للتأسِّي بهم، ويجاهد نفسه ليقترب من خيامهم. وعندما يعلم الله سبحانه وتعالى صدق التوجه في الوصول إلى هذه الأخلاق العظيمة، فإنه سبحانه يعين مَنْ هذه حَالُهُ، ويأخذ بيده ويهديه سبيله المستقيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. ومع أن القصور عن السلف الصالح ملازم لمن جاء بعدهم، ولكن حسبنا أننا نحبهم ونجلهم وإن قصرت أخلاقنا وأعمالنا عنهم، ونحتسب عند الله جلَّ وعلا الكريم أن يجعلنا معهم، ويحشرنا في زمرتهم كما جاء هذا الوعد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بذلك. ثم قال: فإني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي لهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم}. فاللهم إنَّا نشهدك على حبنا لنبيك محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، والتابعين لهم بإحسان. اللهم ألحقنا بهم، اللهم احشرنا في زمرتهم وإن قصرت أعمالنا وأخلاقنا عنهم. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم ارحم هذه الأمة رحمة عامة، يُعزُّ فيها أولياؤك، ويُذَلُّ فيها أعداؤك. اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم أغننا عمن أغنيته عنا، اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك. يا ذا الجلال والإكرام! لك الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. الحمد لله ثم الحمد لله. الحمد لله الذي من فضله ألقى علي السِّتْر ثم كساني وهدى فؤادي كي يصوغ حديثه صوراً تفيد الشِّيب والشُّبَّان يا رب فاجعلها لوجهك كلها متكرمًا ثقِّلْ بها ميزاني واغفر لكل المسلمين وآلهم يوم النشور ودورة الأجفان واشمل بفضلك والديَّ برحمة وأَجِرْهُمَا من حمأة النيران ثم الصلاة على النبي وآله ما صاح صدَّاح على الأفنان والصحب والأتباع من ساروا على سبل الهدى والخير في البلدان وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كشف الكربة عند فقد الأحبة

كشف الكربة عند فقد الأحبة ما خلق الله الخلق في الدنيا إلا ليعبدوه، وما مشى على وجه البسيطة إلا مصاب حتى ولو بشسع نعله، ولكل داء دواء، ولكل مصيبة دافع، سواء كان حسياً أو معنوياً. ولكن ليحذر أصحاب المصائب من أن تجتمع عليهم المصائب مع وزر الجزع على المصاب. فهاك أخي القارئ العديد من وسائل كشف الكرب عند المصائب والمحن؛ التزمها واعمل بها لعل الله ينفع بها.

كل الناس مبتلى ومصاب

كل الناس مبتلى ومصاب الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحد الأحد، ذي العزة والستر، لا نِدَّ له فيُبارى، ولا شريك له فيدارى. كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقَوْا وعقبى الكافرين النار. قدَّر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً. جعل للمحسنين الدرجات، وللمسيئين الدَّركات؛ فحمداً لك اللهم مفرج الهموم، ومُنفِّس الكروب، ومُبدِّد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجاً، لم يخلِّ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعَطِيَّة. نحمده على حلوِ القضاء ومُرِّه، ونعوذ به من سطواته ومكره، ونشكره على ما أنفذ من أمره، وعلى كل حالٍ نحمده. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عدة الصابرين، وسلوان المصابين، الكريم، الشكور، الرحيم، الغفور، المُنزَّه عن أن يظلم أو يجور، الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون. ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخِيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أعرف الخلق به، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكرهم على نعمه. أعلاهم عند الله منزلة، وأعظمهم عند الله جاهاً، بعثه للإيمان منادياً، وفي مرضاته ساعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً. بلَّغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وتحمل ما لم يتحمله بشر سواه، وقام لله بالصبر حتى بلَّغه رضاه. دعانا إلى الجنة، وأرشدنا إلى اتباع السنة، وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً، من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً، وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. لا أملك أمام ما سمعت إلا أن أقول: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. أما بعد: فإن الله تعالى جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان؛ فلا مَفرَّ لأحد من الموت ولا أمان: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ساوى فيه بين العبد والحر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]. فالكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر، والمؤمن من تيقَّن بصبره الثواب على المصيبة والضرر. أيها الأحبة: كُرُب الزمان وفقد الأحبة عموماً مع أخصية الأبناء والأحفاد والآباء خَطْب مؤلم، وحدث موجع، وأمر مهول مزعج؛ بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان. نار تستعر، وحرقة تضطرم، تحترق به الكبد، ويفت به العضد؛ إذ هو الريحانة للفؤاد، والزينة بين العباد، لكن مع هذا نقول: فلرُبَّ أمر محزن لك في عواقبه الرضا ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه! كم من خير منشور، وشر مستور! ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب! {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216]. لا تكره المكروه عند حلوله إن العواقب لم تزل متباينه كم نعمة لا يُستهان بشكرها لله في طي المكاره كامنه لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور، ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها -وإن حسنت صورتها- خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟! وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع. طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار إنها على ذا وضعت، لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس؛ اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان: والمرء رهن مصائب ما تنقضي حتى يوسد جسمه في رَمسِه فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة دقَّت أو جلَّت حتى في قطع شسع نعله؟ الجواب معلوم: لا. وألف لا، ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، كما ورد عن أحد السلف: ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويُسْر وعسر ثم سقم وعافية

وسائل كشف الكربة

وسائل كشف الكربة أحببت أن أجمع هذه الكلمات اللطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة، عَنْوَنْتُها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو: كشف الكربة عند فقد الأحبة راجياً من الملك الديَّان أن ينفعني بها وسائر الإخوان، وأن يجعلها تذكرة لأولي الألباب، وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب، تشرح صدره، وتجلب صبره، وتهون خطبه، وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره. والله تعالى هو المسئول أن يجعل لي ولها القبول، لا رب غيره، ولا إله سواه، هو المأمول، وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات، وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي، وألاَّ يحرمني ثواب هذه الكلمات؛ فالمُصاب -حقاً- من حُرِم الثواب، نفع الله بها وأثاب، إنه الكريم الوهاب. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.

من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة

من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: التأمل والتملي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما ما تقرُّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن له -تبعاً لذلك- الجوارح مما منحه الله ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل؛ فلو قارن المكروب بين ما أٌخذ منه وما أعطي لاشك أنه سيجد أن ما أُعطيَ من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجلَّ، وكل ذلك عنده بحكمة، وكل شيء عنده بمقدار. فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب. قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ. ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]. فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل. هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟ إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة! فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟ إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس فيما هنالك ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان. يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها} قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟ - قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]]. صلى عليه الله جل جلاله ما لاح نور في البروق اللُّمَّع وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}. وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}. وفي سنن الترمذي: {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}. وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72]. وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله. فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب! وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام. وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه. فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}. أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم. هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف: فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء. قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي. قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء. قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}. يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون! أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى: يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج اللهُ اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ الله يحدث بعد الكرب ميسرةً لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ إذا بُليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ واللهِ مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ

من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم

من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم ومن وسائل كشف الكربة: تذكُّر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء. وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة: {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}. إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟ ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى. فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة: {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}. ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد. ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟! إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}. وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين. فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟! إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم. يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد كلا ما إليه سبيل هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم. نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن. أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدِ؟ من لم يُصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست عنه بأوحدِ فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ومن وسائل كشف الكربة: أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23] إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاء وتبديداً لجميع الكرب والأدواء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. كم من عليلٍ قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعُوَّد ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المُصاب؛ فها هي إحدى المكروبات المصابات تقول -عند مصيبتها بأحد أبنائها-: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير. فما أبرم الله لم ينتقض وما نقض الله لم يبرم ومات ولد لـ أنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: [[الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله]] ولسان حاله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]. وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: [[إنك امرؤ لا يبقى لك ولد. فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه. وتموت ابنة لـ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: [[الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله]] ثم ركب، ومضى في رعاية الله. والله يفعل ما يشاء فَكِلِ الأمور إلى القضاء ومات لـ عبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر -كما تعلمون- مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم. يمضى الصغير إذا انقضت أيامه إثر الكبير ويولد المولود والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد وفي سلوة الحزين: يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ! إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيّاً عمَّا في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرمِلون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون. اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة. فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكريم فإن ذلك أسلم وإذا ابُتليت بكربة فالْبسْ لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعد ما دفنه قائلاً: كل ذلك في كتاب، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه. اللهم فحقِّقْ رجائي فيه، وآمِنْ خوفي عليه. حاله: أبكيه ثم أقول معتذرا له وُفِّقْتَ حين تركت أَلأَمَ دارِ جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه شتان بين جواره وجوارِي يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحارِ دُرَّتْ عليك من الغمام مراضع وتكنَّفتْك من النجوم جَوارِي فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلِّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار. ما قد قُضى يا نفسي فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدر ثم اعلمي أن المقدَّر كائن حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري

من وسائل كشف الكربة: الاستعانة بالله على الكربة

من وسائل كشف الكربة: الاستعانة بالله على الكربة ومما يكشف الكربة: الاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه، والتسليم لقدره. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: {ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى. قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال صلى الله عليه وسلم: عجبت للمؤمن إن الله عز وجل لا يقضي قضاءً إلا كان خيراً له}. فليعلم المكروب أن حظَّه من المصيبة ما يحدث له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. من رضى بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله. فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه. جعلنا الله وإياكم من الراضين بقضاء الله وقدره.

قصص لمن سلموا للقضاء والقدر

قصص لمن سلموا للقضاء والقدر ولنعِشْ -أيها الأحبة- مع الراضين دقائق غالية قليلة لنتخذهم قدوة وأسوة ومثلاً، من باب: سيروا كما ساروا لتَجْنُوا ما جَنَوْا وتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم

عمر بن عبد العزيز وجلده في المصائب

عمر بن عبد العزيز وجلده في المصائب قال أبو الحسن المدائني -عليه رحمة الله- دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك في مرضه -رحمهما الله جميعاً- فقال: يا بني! كيف تجدك؟ قال: تجدني -أبتاه- في الموت. قال: يا بني! لأن تكون في ميزاني أحب إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال الابن: يا أبتِ! والله لأن يكون ما تحبُّه أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أحبُّه، ثم مات -عليه رحمة الله-. ويروي الإمام أحمد في الزهد عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر -رحمه الله -حين دفن عبد الملك ابنه قد استوى قائماً عند القبر، وأحاط به الناس، فقال: والله -يا بني- لقد كنت بارّاً بأبيك، والله ما زلت مسرورًا بك منذ وهبك الله لي إلى أن استودعتك الله في المنزل الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافعٍ يشفع لك بخير شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمر الله، والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم انصرف ورجع إلى مجلسه. وكان قبل وفاة عبد الملك قد هلك أخوه سهل -وهو من أحب إخوته- وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه، كل ذلك في أوقات متتابعة، فلما استوى في مجلسه جاء الربيع بن سبرة -عليه رحمة الله- فقال: عظَّم الله أجرك يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً أصيب بأعظمَ من مصيبتك؛ ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط. فطأطأ رأسه عمر -رحمه الله- فقال أحد الحاضرين: لقد هيَّجت عليه، قال: ثم رفع رأسه، فقال: كيف قلت يا ربيع؟ أعد. قال: فأعدت عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئًا كان من ذلك لم يكن. فيا أيها الكون منه استمع ويا أذن الدهر عنه افهمي وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى؛ فلما نزل في قبره قال له رجل: والله! إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات. فلله ما أحسن فهمهم! ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم وثقتهم بما أعطى الله -عز وجل- من ثواب للصابرين!

معاذ بن جبل وصبره على الطاعون

معاذ بن جبل وصبره على الطاعون ولا يُنَسى إن نُسي أمرٌ يوم وقع الطاعون بأرض الشام -كما في السير للذهبي - فخطب الناس عمرو -رضي الله عنه- فقال: إن هذا الطاعون رجس؛ ففروا منه في الأودية والشعاب، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة -رضي الله عنه- فغضب، وجاء يجرُّ ثوبه، ونعلاه في يده، قائلاً: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا: [[الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، يستشهد الله به أنفسكم، ويزكي أعمالكم]]. فبلغ ذلك معاذاً -رضي الله عنه، وهو يتوق إلى الشهادة في سبيل الله- فقال: [[اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه]]؛ لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب ابنتاه الاثنتان، وتموتان، فدفنهما في قبر واحد، وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن -وهو من أعز أبنائه- فقال معاذ لابنه: كيف تجدك؟ قال: أبتاه! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]. فقال معاذ -رضي الله عنه-: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. ثم توفي -رحمه الله- ثم أصاب الطاعون كفَّ معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- فجعل يقبلها، ويقول: [[لَهِيَ أحب إليَّ من حمر النعم، ثم يُغشى عليه فإذا سرِّيَ عنه قال: يا رب! غُمّ غمك، واخنق خنقتك؛ فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك]] ثم لقي الله جل وعلا بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً؛ فما كان إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره. وقبل ذلك لـ معاذ يروى عن المعاف بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غنم قال: دخلنا على معاذ -رضي الله عنه- وهو قائم عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه؛ فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال: [[مه! فوالله لأن يعلم الله برضائي بهذا أحب إليّ من كل غزاة غزوتها، من كان عليه عزيز وبه ضنين، فصبر على مصيبته واحتسب أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان]] قال: فما برحنا حتى قضى الغلام، فقام فغسله وحنَّطه وكفَّنه وصلينا عليه، ثم نزل في قبره ووضعه، ثم سوَّى عليه التراب، ثم رجع إلى مجلسه، فدعى بدهن فادَّهن، وبكحل فاكتحل، وببردة جميلة فلبسها وأكثر من التبسم -ينوي ما ينوي- ثم قال: [[إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون]]. لسان حاله: كل ما كان من قضاء فيحلو بفؤادي نزوله ويطيب أيها الأحبة: لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.

الفضيل بن عياض ورضاه بالقدر

الفضيل بن عياض ورضاه بالقدر يقول أبو علي -رحمه الله- صحبت الفضيل بن عياض -رحمه الله- ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً متبسماً إلا يوم مات ابنه علي -رحمه الله-، فقلت: ما هذا؟ قال: إن الله -سبحانه- أحب أمراً، فأحببت أن أحبَّ ما أحب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وضحك أحد السلف يوم مات ابنه، فقيل له: أتضحك في مثل هذا الحال؟! قال: نعم. أردت أن أرغم الشيطان، وقضى الله القضاء، فأحب أن أرضى بقضائه؛ فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ويشتكي ابن لـ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- فيشتدُّ وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، وشاء الله، فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته، وما رجل أبدى سروراً إلا ابن عمر، فقيل: ما هذا، قد خشينا عليك يا بن عمر؟! قال: [[إنما تلك كانت رحمة به؛ فلما وقع أمر الله رضينا به]] لا تعجبوا، ولا تدهشوا إنه ابن عمر بن الخطاب، والفرع للأصل ينسب رضي الله عن الجميع، الذي قال يوماً ما: [[ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبد الله بن عمر؛ فإني أرجو أن يطول عمره لعلمي بمنفعته للناس، والأعمال بالنيات]] ولكل امرئ ما نوى.

شريح القاضي واحتسابه الأجر

شريح القاضي واحتسابه الأجر ويروى أن شريحاً القاضي مات له صبي، فجهزه وغسله ودفنه بالليل، ولم يشعر به أحد، ولما جلس للقضاء من الغد جاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه، فقال: الحمد لله، الآن فقد الأنين والوجع، ففرح الناس وظنوا أنه قد عوفي من مرضه، فقال -وهو يضحك-: احتسبناه في جنب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

من عجائب الصبر

من عجائب الصبر ويذكر ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في عيون الحكايات قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق؛ فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا؛ فإذا عجوز ترد السلام، ثم قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، وأَنِسْنَا بكم، وقوم جياع. قالت: ولُّوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل. ففعلنا، وجلسنا على فراش ألْقَتْهُ لنا، وإذا ببعير مقبل، عليه راكب، وإذا بها تقول: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي. جاء الراكب، وقال: يا أم عقيل! السلام عليك أعظم الله أجرك في عقيل، فقالت: ويحك! أوقد مات عقيل؟ قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل، ودفعت له كبشاً، ونحن مدهوشون، فذبحه وأصلحه، وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نتعجب من صبرها؛ فلما فرغنا قالت: هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله -عز وجل- شيئاً فقلنا: نعم. قالت: فاقرءوا عليَّ آيات أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلت: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] قالت: آللهِ إنها لفي كتاب الله؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبراً جميلاً، وعند الله أحتسب عقيلاً. اللهم إني فعلت ما أمرتني به؛ فانجزني ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته. قال: فخرجنا، ونحن نقول: ما أكمل منها ولا أجزل! لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يرد هالكاً؛ رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم، فاحتسبت ابنها عند الله -عز وجل- ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة. فما أجمل الرضا بقضاء الله في كشف محن المصاب ومكروباته! هذه سجايا السلف؛ صبرٌ واحتسابٌ، وتجلُّدٌ وتحمُّلٌ، ورضا واسترجاعٌ، وبُعْدٌ عن الجزع والتسخُّط والتذمُّر عند المصاب. لهم قدرهم باعتبار الرجال وسمعتهم في ذرى الأنجم أنتم كهُم ومن يشابهْ أبه فما ظلم

موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم

موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم وليُعلم أن البكاء الذي لا صوت معه ولا تسخط لا يعارض الرضا؛ فأشد الناس حرصاً على رضا مولاهم هم الأنبياء، وأرضاهم وأرضى الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه إبراهيم رأفة ورحمة منه للولد ورقة عليه، وقلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئ بالرضا، ولسانه مشتغل بحمد الله وذكره، وهذا هو أكمل هدي وأتم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حملته الرحمة بالطفل على البكاء، ومحبة الله على الرضا، وخير الهدْي هديُه صلى الله عليه وسلم. ففي الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! قال: يا بن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لَمحزونون}. وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم-} وفي الصحيح -أيضاً- عن أسامة بن زيد: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه ابن ابنته، وهو في الموت نفسه تُقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله -تعالى- في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.

عودة إلى وسائل كشف الكربة

عودة إلى وسائل كشف الكربة أيها الأحبة: الله يقضي؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. ومن استعان بالله، وشكر الله في السراء والضراء، ورضي بقدر الله انكشف كربه، ورضيت نفسه؛ فهو في حياة طيبة على كل حال؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الجزع لا يرد المصيبة

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الجزع لا يرد المصيبة ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة؛ بل يضاعفها؛ فالجازع يزيد مصيبته، ويُشمِّتُ أعداءه، ويسوء أصدقاءه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه. أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه. هذا هو الثبات في الأمر؛ فنسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات. يقول بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلى سلوَّ البهائم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى. إذا أنت لم تَسْلُ اصطباراً وحسبةً سلَوْتَ على الأيام مثل البهائم وكل أحد لابد أن يصبر على بعض ما يكره؛ فإما باختيار، وإما باضطرار؛ فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه، ويُذَمُّ في المقابل على الجزع، ويعلم أنه إن لم يصبر لم يُعِدْ عليه الجزاء فائتاُ، ولم ينتزع منه مكروهاُ، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُكتب لا حيلة في تحصيله؛ فالجزع ضرُّه أقرب من نفعه؛ فما دام أن آخر الأمر الصبر، والعبد معه غير محمود؛ فما أحسن أن يُستقبَلَ الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره. إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمَسَرَّة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه لكان كاشف لكربه لو تأمل ذلك. يروى عن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {تُنصَبُ الموازين يوم القيامة، فيُؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج، فيُوَفَّوْن أجورهم بالموازين، ثم يُؤتى بأهل البلاء، فلا يُنصب لهم ميزان، ولا يُنشر لهم ديوان، ويُصبُّ عليهم الأجر صباً بغير حساب، ثم قرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]} وفي الترمذي مرفوعاً: {يودُّ أناسٌ لو أن جلودهم كانت تُقرض بالمقاريض لِما يَروْن من ثواب أهل البلاء} فسبحان من يرحم ببلائه! قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها، فجاءوا يعزونها، ويقولون: يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: الحمد لله، وإنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع. لسان حالها: كلما ازدادت عليَّ المِحَن وتوالت إِحَنٌ لا تَهِنُ وكروب تُصطفى في زمن فلِتطهيرٍ وتدريب عميق واختبار الذهب الصرف الحقيقي فالجزع -وإن بلغ غايته وإن بلغ نهايته- فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب؛ فإنه استسلم للقدر رغم أنفه، وهذا ليس من الصبر. على هذا يُذكر أن أعرابياً مات له ولد، فبكي عليه بكاء عظيماً، وجزع عليه جزعاً عظيماً؛ فلما همَّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر، فقال: إن أَفِقْ من حزن هاج حزن ففؤادي ما له اليوم سكن فكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلى عليهم من حزن فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن النعم زائلة

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن النعم زائلة ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن النعم زائرة، وأنها -لا محالة- زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت، وأنها لا تُفرح بإقبالها فرحاً حتى تُعقب بفراقها تَرَحاً؛ فعلى قدر السرور يكون الحزن، والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية من يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حَسُن عزاؤه عند نزول البلاء، سُنة الله ولن تجد لسُنة الله تبديلاً.

من وسائل كشف الكربة: العلم بتفاوت المصائب

من وسائل كشف الكربة: العلم بتفاوت المصائب سابعاً: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بتفاوت المصائب؛ فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين؛ فإنها هيِّنة سهلة يسيرة؛ لأن مصيبة الدين هي أعظم وأفدح مصيبة. ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت، فإذا حصَّلت الأدنى من المصائب فتسلَّ بذلك عن ما هو أعلى وأعظم واحْمَدِ الله على ذلك. قال السفاريني -عليه رحمة الله-: المصائب تتفاوت؛ فأعظمُها المصيبةُ في الدين -نعوذ بالله من ذلك- فإنها أعظم من كل مصيبة، والمسلوب من سُلب دينه. وكل كسر لعل الله جابره وما لكسر قناة الدين جُبرانُ فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب والخطايا، من فوات للجمعة والجماعة وأوقات الطاعة، من ولوغ في المحرمات، من انتهاك للحرمات، ومن انتهاك لحدود الله وتجاوز لها؛ فاعلم أنه المُصابُ حقّاً، ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يُحس بألم المصيبة ولا يشعر: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52]. وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس، ثم في الأهل، ثم في المال، وكلها تتفاوت بحسب ضخامة المصاب فيه وحقارته، فتندرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وشسع النعل في غاية الخسة كما تعلمون. ولذا يقول شريح -عليه رحمة الله-: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله -عز وجل- عليها أربع مرات؛ أحمده إذا لم يجعلها أعظم مما هي عليه، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني؛ فإن من كل شيء عوضًا إلا الدين. من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الدين إذا ضيعت من عوض

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الدنيا فانية

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الدنيا فانية ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن الدنيا فانية زائلة، كل ما فيها يتغير ويحول ويضمحل ويفنى ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، وأمل يحققه -بإذن الله- عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يُجزى كل امرئٍ بما فعل. إنها الدنيا إن حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإن كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وإن دَنَتْ أَوْدَنَتْ، وكم من ملكِ فيها رُفعت له علامات فلما علا مات. هي الأيام لا يبقى عزيز وساعات السرور بها قليله إذا نشر الضياء عليك نجم وأشرق فارتقب يوماً أُفُولُه إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متَّعت يسيراً منعت طويلاً. لا يبقى لها حبور ولا يدوم فيها ثبور اليوم عندك دلُّها وحديثها وغداً لغيرك كفُّها والمِعصمِ قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ما أدقَّ التعبير القرآني! يوم يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم تُوزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً ضخماً، لكنها حين تُقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل هو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه المصائر بعد لعبة الحياة الدنيا، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ثم تأتي الصورة القرآنية المبدعة لتصور الدنيا كزرع يعجب الزُّراع نباته، ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل، ثم يهيج، فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد؛ فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً، ويبلغ أجله قريباً، ثم يكون حُطاماً، وينتهي شريط الحياة بمشهد الحُطام، ويا لها من نهاية! وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن! يستحق شأنها أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه ويُستعد له: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كالنبات البالغ أجله؛ بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] متاع يستمد قوامه من الغرور الخادع يُلهي وينسي، وينتهي بأهله إلى غرور خادع؛ فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على هذا الغرور الخادع ليحقق عقيدته، ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها؛ فما هي إلا حطام أو كظلٍ أو سراب. روى الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن قال: قال صلى الله عليه وسلم: {مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها}. أحلام نوم أو كظلٍ زائلٍ إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ يقول بعض أهل العلم: لَنِعَم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه منها فيما بسط لنا فيها؛ ذلك أن الله لم يرضَ لنبيِّه الدنيا؛ فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ إليّ من أن أكون فيما كره له وسخط. وأجمل بقول ابن القيم -عليه رحمة الله- من قول، يوم قال يشبه الدنيا: أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة، وهو في تقلُّص وانقباض، تتبعه لتدركه؛ فلا تلحقه. وأشبه الأشياء بالدنيا السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب. وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره؛ فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له. ترجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير منتقل حياتها رصدٌ وشربها كدرٌ وعيشها نكد وملكها دُوَلُ من ذا الذي قد نال راحة فكره في عسره من عمره أو يُسره؟ يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره فيظل هذا ساخطاً في قُلِّه ويظل هذا ناصباً في كُثرهِ سُنَّ البلى ولكل شمل فرقة يُرمى بها في يومه أو شهره والجن مثل الإنس يجري فيهم حكم القضاء بحلوِه وبمرِّه أوَما ترى الرجل العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره فيسرُّه خير وفي أعقابه همٌّ تضيق به جوانب صدره وأخو التجارة لاهث متفكر مما يلاقي في خسارة سعره وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل الوحيد كمينة في صدره ولرُبَّ طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره والطفل من بطن أمه يخرج إلى غُصَص الفطام تروعه في صُغره ولقد خبرت الطير في أوكارها فوجدت منها ما يُصاد بوكره والوحش يأتيه الردى في برِّه والحوت يأتي حتفه في بحره ولربما تأتي السباع لميت فاستخرجته من قرارة قبره تالله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره متلذذاً معه بكل لذيذةٍ متنعماً بالعيش مدة عمره لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره كيف الفعال أيا أخي فيما ترى صبراً على حُلوِ القضاء ومرِّه صبراً فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاء وبؤس وبلاء، وغمسة في النار -عياذًا بالله- تنسي كل لذة ونعيم. لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سرَّه زمن ساءته أزمان كم من مؤملٍ أدركه الموت قبل تحقيق أمله! وكم من زرعٍ عاش ومات زارعه! فاسمع: لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي -رحمه الله- وضع رأسه في حجر أخيه، ثم أغمي عليه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده، فأفاق من غشيته متمثلاً بقول القائل: يؤمِل دنيا لتبقى له فمات المؤمِل قبل الأمل وبات يروِّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل ثم قال لأخيه: أخيين كنا، ففرق الله بيننا إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهر، ثم لقي الله عز وجل. هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون. إنما الدنيا هبات وعَوارٍ مستردة شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة

من وسائل كشف الكربة: تذكر ما في البلاء من فوائد

من وسائل كشف الكربة: تذكر ما في البلاء من فوائد ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: تذكُّر ما في البلاء من لطائف وفوائد، منها على سبيل المثال: أولاً: تذكير العبد بذنوبه؛ فربما تاب إلى الله عز وجل، فلتوبته إلى الله عز وجل أعظم عزاء له من كل شيء. يقول بعض السلف: [[إن العبد لَيُصاب بالمصيبة، فيذكر ذنوبه، فيخرج من عينه مثلُ رأس الذباب دمعاً من خشية الله، فيغفر الله عز وجل له]]. ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل، وذلك ملاحظ في المصائب، وذلك -والله- خير من كثير من طاعات الطائعين؛ فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع. ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل، والوقوف ببابه، والتضرع له، والاستكانة والدعاء، وذلك من أعظم فوائد البلاء؛ ففي بعض الآثار: {إن الله ليبتلي العبد -وهو يحبه- ليسمع تضرُّعَه ودعاءه}. رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده لا شريك له؛ فالمشركون -وهم مشركون- حكى الله عنهم إخلاص الدعاء له عند الشدائد: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] فكيف بالمؤمنين؟!. خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم؛ فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رقَّ قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم. أخيراً: معرفة قدر نعمة العافية؛ فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فَقْدِها؛ فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.

من وسائل كشف الكربة: لطيف التعزية

من وسائل كشف الكربة: لطيف التعزية فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به، وانشرح صدره، وانفرج همُّه بإذن ربه. ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: لطيف التعزية عند فقد الأعزة؛ فإن الكلمة الطيبة للمصاب يُثبَّت بها -بإذن الله- ويعان، ويغدو الصبر عليه سهلاً يسيراً؛ فإن المؤمن -كما تعلمون- قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، شديد بأعوانه؛ فإذا وجد هذا يُعزِّيه، وهذا يُسليه سهلت عليه الأمور العظام، وكُشِفَ ما به بإذن الله رب الأرض والسماء. ولذا فإن الشارع -بحكمته البالغة- شرع لنا التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف، وللميت بالرحمة والمغفرة؛ فعزاء الله الذي نتعزَّى به دائماً وأبداً: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة عزَّى أصحابه عند نزول المصائب، وواساهم -كما في السُنة الصحيحة- والسلف اقتدوا به في ذلك؛ فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة وأقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، وفي السنة وأقوال السلف غُنيةٌ عن غيرهما، وخير الهدْيِ هديُه صلى الله عليه وسلم: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف في صحيح مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة -وقد شخص بصره- فأغمضه، ثم قال: {إن الروح إذا قُبضت تبعها البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثم قال -واسمعوا إلى العزاء-: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله -يا رب العالمين- وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه}. فدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: {أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه، وتخبره أن لها صبياً في الموت، فقال: ارجع إليها، فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر، ولتحتسب}. وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلل الكرامة يوم القيامة}. وروي عن علي رضى الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب: [[إنك إن صبرت جَرَتْ عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور]] وروي البيهقي -بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله-: أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي! عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور، وحرمان أجر؛ فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألْهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، ثم أنشد قائلاً: إني معزيك لا أَنِّي على ثقة من الحياة ولكن سُنة الدين فلا المعُزَّى بباقٍ بعد ميته ولا المُعزِّى ولو عاشا إلى حين ويشاء الله -عز وجل- فيموت بعدها ابن للشافعي -رحمه الله تعالى- الذي كان يُعزِّي أصبح يُعزَّى. جاءوا يعزونه، فأنشد قائلاً: وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزية مالٍ أو فراق حبيب ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يُسمَع بمثله، فجلس وجاء الناس يعزونه، فأمر ألا يُحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة، ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية ابن شبة -رحمه الله- يوم قال: أعطاك الله -يا أمير المؤمنين- على ما رُزئت أجراً، وأعقبك خيراً، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرَّى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية. ويقول أحد المعزِّين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ -وقد توفيت أمه- قال له: إن كانت وفاتها عظةً لك؛ فعظَّم الله أجرك على موتها، وإن لم يكن عظة لك؛ فعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي! أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة، ولم يرد عليك أحد حكماً؛ فكيف بحكمٍ واحدٍ عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟! فسري عنه، وكشف ما به، وقال: تعزَّيت، تعزَّيت. وعزَّى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابنٍ له مات، فقال: أيسرُّك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى؟! يشير إلى قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ويشير في الثانية إلى قول الله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فلله ما أعطى، ولله ما حوى. وليس لأيام الرزية كالصبرِ: فحسبك منهم موحشاً فَقْدُ برِّهمُ وحسبك منهم مُسْلياً طلب الأجرِ وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لـ عمر بن عبد العزيز ورجاء: إني لأجد في كبدي جمرة لا يُطفئها إلا عبرة، فقال عمر بن عبد العزيز: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر؛ فهو أقرب وسيلة إلى الله، وليس الجزع بمحيي من مات، وبالله العصمة؛ فلا تحبطنَّ أجرك. قال: فنظر إلى رجاء، فقال رجاء لأمير المؤمنين: اقضها يا أمير المؤمنين؛ فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ولم يقل ما يُسخط ربه، فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع. فقال عمر لـ رجاء -معاتبًا-: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين، فقال رجاء: دعه -يا عمر - يقضي من بكائه وطراً؛ فلو لم يُخرج من صدره ما ترى لخفت عليه، ثم دعا بماء، فغسل وجهه، ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزَّاه، فقال: عليكم نزل الكتاب، وأنتم أعرف به مِنَّا، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه، ولا نذكرك شيئاً قد تنساه، لكنا نعزيك ونواسيك ثم أنشد قائلاً: وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً قال: أعد، فقال: وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً فقال: يا غلام! هات الغداء فأكل وشرب، وحمد الله، وسُرَّي عنه. ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس، وقد توفي له ولد اسمه العباس، فعزاه، ثم قال: اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة، فجزع، فجاء أخ له، فقال: عظَّم الله أجرك، وأحسن عزاءك: أخي ما بال قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقّاً ألا يا بن الذين مضوا وبادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى فكُشف ما به. ومات لرجل من السلف ولد، فعزَّاه سفيان بن عيينة -رحمه الله- وهو في كرب شديد، وعزاه آخرون؛ فلم يُكشف ما به حتى جاء الفضيل، فقال: يا هذا! أرأيت لو كنت وابنك في سجن، فأُفرج عن ابنك قبلك أوما كنت تفرح؟ قال: بلى. قال: فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك. قال: فسُرَّي عن الرجل، وانكشف همه، وقال: تعزيت. وأخيرًا: فإن من ألْطف وأقوى ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية وسلف الأمة -رضوان الله عليهم- ما قاله ابن سناء الملك، وقد مات لأحد أقاربه ميت، فجزع عليه هذا جزعاً عظيماً، فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله، إلى متى هذا الجزع الصبياني، والهلع النسواني، إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك، بل يميت دينك، ويسلب هدوءك، ويشمت فيك عدوك. أما على هذا مضى الزمان، وعلى هذا درج الثقلان، وللخراب بُني العمران، وللانتقال سكن السكان، وللموت ولد المولود، وللعدم خلق الوجود. أتحب أن تبقى ويبقى من تحب فذا خلود، إنا لله وإنا إليه راجعون، أفضل قول الصابر، وفي سبيل الله، وإلى رحمة الله من حُسب في أهل المقابر، أجزل الله أجرك، وأحيا على دفينك صبرك، ووسع لهذه النازلة صدرك، وأنزل على قلبك السكينة ربك، وخفَّف عن قلبك وطيئة كربك، لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب، وجمع الله عليك النعمتين نعمة الجلد ونعمة الاحتساب، إني -والله- لشريكك في المصاب، ونصيبي منه لأكثر، ودمع عيني لأغزر: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ولكنني في ساحة الصبر أجمل أخي المصاب: لعل فيما سمعته عزاء لك؛ فلست أول ولا آخر مصاب، جعل الله التعزية لك لا عنك، والخلف عليك لا منك، في الله -عز جل- عزاء من كل هالك، وخلف من كل فائت، وعوض من كل مصيبة، وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها: لابد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد ولا يفوتني هنا أن انبه بهذا الكاشف إلى ما يلي: أولاً: ينبغي تجنب الاجتماع والجلوس عند أهل الميت للتعزية؛ لأن في ذلك تجديداً للحزن وتكليفاً للمعزى، ومخالفة لهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت بعد دفنه من النياحة} فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شئونهم وحوائجهم، فمن صادفهم عزَّاهم في المسجد، في العمل، في الشارع، في السوق وهكذا. ثانياً: أن ما يُفعل اليوم في التعزية من نصب للخيام والجلوس فيها، من قيل وقال، وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للمشروع، وواجب علينا أن نتبع فقد كُفينا. يقول ابن القيم -عليه رحمة الله-: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء، ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة. ثالثاً: ألا يُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام -كما يفعل كثير من النساء- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، فليُعلم كما في الصحيح: عليكم بهدي الرسول الكريم ومنهاج قرآنه المحكم رزقنا الله اتباع السنة، ورحمنا الله وموتانا بكرمه ومنِّه.

من وسائل كشف الكربة: التأسي بأهل المصائب

من وسائل كشف الكربة: التأسي بأهل المصائب ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: برد التأسي بأهل المصائب؛ ففي ذلك إطفاء لنار المصيبة، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب؛ فمنهم من أصيب مرة، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب سيصاب بنفسه يوماً ما، أسوة بأمثاله ممن تقدمه؛ فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة، ويسرة إلا حسرة. ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّياً في ذكاء قائلاً: يا أماه! إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قراراً. إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه. فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة، فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: بني! من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حياً وميتاً. فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره. قيل لرجل: كم لك من ولد؟ قال: تسعة. قيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً. فقال: الحمد لله، كان لي عشرة، فقدمت تسعة، أحتسبهم عند الباري الرحيم، وبقى لي واحد لا أدري أنا له أم هو لي؟ لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل وهاهي أعرابية اسمها أم غسان -كما في عيون الأخبار - فقدت جميع أبنائها، وفوق ذلك كُفَّ بصرها. مصيبة وأي مصيبة! كانت تعيش بمِغْزَلِها، وتقول: الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء، ثم تُصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثُّها أشجانها وأحزانها، فيقال لها: أين فلانة؟ فتقول: الحمد لله على قضاء الله، والرجعة إلى الله. تقسم جاراتها بيتها وسارت إلى بيتها الأدلج وفي العاقبة للإشبيلي يروي أن امرأة من الأعراب حجَّت، ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق، ومات، فدفنته بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه، وقالت: يا بني! والله لقد غذوتك رضيعاً، وفقدتك سريعاً، وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذُّ بها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك، ثم قالت: اللهم منك العدل، ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين، فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السَّراء والضَّراء. اللهم ارحم غربته، واستر عورته يوم تُكشف العورات وتظهر السوءات، رحم الله من ترحَّم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى. ثم لما أرادت الانصراف قالت: أي بني! لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادُك لسفرك ويوم ميعادك؟! اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه. اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه. أستودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء. من شاء بعدك فليمُت فعليك كنت أحاذر كنت السواد لناظري فعمى عليك الناظر ليت المنازل والديار حفائرُ ومقابر إني وغيري لا محالة حيث صرت لصائر وأخرج ابن أبي الدنيا من الاعتبار عن الكندي قال: كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد دخلت بهم -ذات يوم- غاراً، ثم خرجت لحاجة، وتركتهم في الغار، ولما رجعت سقط الغار عليهم، وانطبق، فجعلت تسمع أنينهم وتتلظَّى بجحيم عويلهم، لا تملك لهم حولاً ولا طولاً، تَئنُّ وتزفر زفرات قطَّعت أحشاءها والذي عانا البلايا عرف، حتى فقدت أنينهم؛ فلم تسمع لهم أنيناً، فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت هذا الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم، فكانت تردد وتقول: ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا أُفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ وكل أم وإن سُرَّت بما ولدت يوماً ستفقد من ربَّت من الولدِ وأخيراً: فلقد حدثني من أثق به من الصالحين -كما أحسبه والله حسيبه- أن هناك رجلاً كان له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وأمان وسعادة وسكينة واطمئنان، وذات يوم جاءهم أضياف، فقام الأب وذبح لأضيافه كبشاً، والأولاد ينظرون، ودخل للجلوس مع أضيافه في انتظار إعداد الطعام، وقامت الأم بتغسيل وتنظيف أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء، أخذ أكبر الأولاد السكين يقلد أباه في ذبح الشياه، وقام على أخيه الأوسط، فأضجعه، ثم ذبحه ذبح الشاه، وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في ذهول في وعاء الماء، فغرق الصغير في وعاء الماء، وخرجت إلى الأوسط فإذا هو يتشحط في دمه! وهرب أكبرهم إلى الشارع، فاعترضته سيارة، فدهسته! ذُهلت الأم، وثكلت جميع أبنائها، وجاء الأب فإذا بها تترنح، وتخبره الخبر، ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة، ولا إله إلا الله! صُبَّت عليها مصائب لو أنها صُبت على الأيام عدن لياليا أما الأب فحمد الله -عز وجل- وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ودخل إلى أضيافه، وطلب منهم أن يحفروا قبوراً، وأخبرهم الخبر، وياله من خبر! ويالها من ضيافة! حفروا القبور، وصلُّوا على الجميع، ودعوا للميت والحي، واستعدَّ كل ضيف منهم أن يقدم ابنته زوجة لذلك الأب الصابر المحتسب، ويختار ابنة واحد منهم ويتزوجها، فيذكر لي من نقل لي هذا أن له -الآن- ثلاثة عشراً ولداً من هذه الزوجة، حدث عظيم وخطب أليم؛ فهلا نظرت لمثل هذا المَصاب أيها المُصاب. فما مصابك مع مثل هذا المصاب؟ ستهون عليك مصيبتك ولا شك، واعلم أن هناك من هو أعظم منه مصاباً؛ فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش العالم كله لم يرَ فيهم إلا مبتلى؛ إما بفوات محبوب، أو بحصول مكروه سُرِّي عنه؛ فسرور الدنيا أحلام نوم إن أضحكت أَبكتْ، وإن سرَّتْ ساءت، وما ملئت دار حبرة إلا مُلئت عبرة، وما حصل للشخص في يوم من سرور إلا وأعقبه شرور؛ فلكل فرحة ترحة، وما كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء. فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين -أيها المصاب- فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب، وقطرة في بحار الكروب. تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى مضَوْا ولهم ذكر جميل مُخلَّد فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى لما مات خير الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه.

من وسائل كشف الكربة: الدعاء واللجوء إلى الله

من وسائل كشف الكربة: الدعاء واللجوء إلى الله وآخراً: فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: الدعاء والتضرُّع واللجأ إلى الله رب الأرض والسماء؛ فهو كاشف الضراء، وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء. وفي السنة الغرَّاء من الأدعية النبوية الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أصاب عبداً همٌّ قط ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً} رواه الإمام أحمد. فالدعاء الدعاء! فالله عز وجل يقول {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. يا أيها المكروب خاصة! ويا أيها الناس عامة: ادعوا ربكم تضرُّعاً وخُفية، وأَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام فإليه المفزع، وفيه المطمع، لا إله إلا هو. من لكم غيره يجبر كسركم! من لكم غيره يبدِّد أحزانكم وأشجانكم! من لكم غيره يؤنسكم في كربكم ووحشتكم! من لكم إذا دُفِعْتم عن الأبواب إلا بابه! من لكم إذا صُرِفتم وخاب الرجاء فيمن سواه إلا رجاه! من لكم غيره أعز مطلوب وأشرف مرغوب! لا إله إلا هو! أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات، وكظمتم من الأنَّات، وجعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمَّنكم من الفزع يوم تُنشر السِّجلات، وتقَبَّل منا ومنكم، وكتب لنا السعادة في الحياة والممات.

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الله لا يقدر شيئا عبثا

من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الله لا يقدر شيئاً عبثاً وآخر ما يكشف الكرب: اعلم أن الذي قدَّر عليك الأقدار حكيم خبير عليم، لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقدر شيئاً سُدى؛ بل هو رحيم تنوَّعت رحمته -سبحانه وبحمده- يرحم العبد فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ثم يرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه، ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته، ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها ويهون مشقتها، ثم يتمم أجرها. فرحمة الله متقدمة على التدابير السارة والضارة، ومتأخرة عنها و: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. أحبتي في الله: هذه الكلمات جمعتها من كتيبات ومن كتب، وصغتها لكم صياغة فقط -بعون من الله وتوفيق منه وتسديد- إن أكن أصبت فذاك الذي أردت، وإن تكن الأخرى فحسبي أن ذاك وسعي وجهدي وحسب معرفتي وقدرتي: لكن قدرة مثلي غير خافية والنمل يُعْذَر في القدر الذي حملا عظَّم الله أجر الجميع، وجبر الله كسرهم، وعوَّضهم خيرَيْ الدنيا والآخرة فيما فقدوا، وجعل هذه الكلمات في صحائف الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات خالصة لوجه رب الأرض والسماوات. اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. يا الله! يا حي! يا قيوم! يا من لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم! يا بديع السماوات والأرض! يا فالق الحب والنوى! يا ذا الجلال والإكرام! يا عظيم العفو! يا واسع المغفرة! يا قريب الرحمة! نسألك بعزِّك الذي لا يُرام، وملكك الذي لا يُضام، يا هادي المضلين! ويا راحم المذنبين! يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، وفاضت له العَبَرَات، ورغمت له الأنوف! انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك؛ نسألك أن تكفينا ما أهمَّنا وأغمَّنا، وأن تجبر كسرنا، وأن تعظم أجرنا، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا، وأن ترحم موتانا، وأن تلطف بمبتلانا، وأن ترحم غربتنا في الدنيا، ومصرعنا عند الموت، ووقوفنا بين يديك، وأن تقينا من ميتة السوء، ومن يوم السوء، وساعة السوء، وليلة السوء، وجار السوء، وصاحب السوء، وأن تعيذنا من النفاق وسوء الأخلاق. اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه. اللهم اكشف كروبنا، ونفِّسْ همومنا واقضِ حاجاتنا. اللهم هبْنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك، ورضِّنا بقضائك. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء. اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً. اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً، اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً. اللهم إنهم عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، احتاجوا لرحمتك، وأنت غني عن عذابهم. اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ فأنت أرحم بهم من أمهاتهم. لا إله غيرك، ولا معبود سواك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. اللهم يا رب: ومن قد عاش في الدنيا على الأمر بالتقى وعن موبقات الإثم ما زال ناهيا تغمدْه يا رب عفواً بفضلك ولا زال هطَّالُ من العفو هاميا على قبره يهني عشياً وبكرة وبوِّأه قصراً من الخلد عاليا وصلِّ إلهي كلما هبَّت الصِّبَا وما انهلَّت لجُون الغدَاف العواديا على المصطفى والآل والصَّحْب كلهم وتابعهم والتابعين الهواديا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كل منا ممتحن

كل منا ممتحن كل راع في هذه الدنيا مسئول أمام الله يوم القيامة عن رعيته، فمن نجح في ذلك الامتحان فهوالنجاح الأبدي ومن رسب فهوكذلك رسوب أبدي إلى جهنم وبئس المصير. وكما أن كل والد يهتم بامتحان ابنه في اختبارات الدنيا لابد أن يجعل الأساس لهذا الاهتمام هواهتمامه باختبار الآخرة، ومن فعل ذلك فله في من سلف خير قدوة.

بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة

بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: والأمة تمتحن امتحانات يصنع تاريخها من خلالها، غداً يخوض أبناؤنا وإخواننا ذكوراً وإناثاً غمار الامتحانات الدراسية، وبهذه المناسبة تجد القلوب وَجِلَة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلاً لم تعلن فيه حالة الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعوالله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر. لكن أيها الأب الحنون! وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام، فأنت به الآن مشغول، تسعى وتصول وتجول، تهتم به وترعى، وتحس أنك عنه مسئول؛ فهلا كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه، هلاَّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته في حياته. علمك وما علمك؟! مسئوليتك وما مسئوليتك؟! أحاطت بعلوم الدنيا فأهملت الأخرى الباقية، شغلت به في حياته، وأهملته بعد مماته، بنيت له بيت الطين والإسمنت في دنياه، وحرمته بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في أخراه. نظرتك وما نظرتك؟! طموحك، أمَلُك، غاية مُنَاكَ أن يكون طبيباً أومهندساً أوطياراً أوعسكرياً. ويا لله كل الأماني دنيوية! السعي والجد للفانية مع إهمال الباقية. هذه ليست حالة نادرة، بل قسم من الناس على ذلك. تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبنائهم أجساداً وعقولاً، وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أوبها يشقون. هذا هوالواقع، والأدلة على ما نقول هاكها أيها الأب الحنون: هب أن ابنك تأخر في نومه عن وقت الامتحان، ما حالتك؟ ما شعورك؟ ألا تسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا تنام بعدها بنصف عين لئلا يفوته الامتحان؟ كأن الجواب يقول: بلى. هل كان شعورك حين نام عن صلاة الفجر كشعورك حين نام عن امتحانه؟ ألا تسأله كل يوم عن امتحانه؟ ماذا عمل؟ وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحاً؟ فهل سألته عن أمر دينه يوماً ما؟ ألا يضيق صدرك ويعلو همُّك حين تعلم أن ابنك قصَّر في الإجابة؟ فهل ضاق صدرك حين قصَّر في سنن دينه وواجباته؟ ألا تأتيه بالمدرس الخصوصي إن لم يستطع تجاوز الامتحان، وتعطيه ما يريد؟ ألا تمنعه من الملاهي التي رحبت بها في بيتك من فيديو وتلفاز وصحف ومجلات لئلا تشغله عن المذاكرة والاستعداد للامتحان؟ فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثان، ولا إعادة، ولا حمل للمواد؟ فقط نجاح أورسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار أبد الآبدين، معناه الخسران المبين، والعذاب المهين؟ ماذا تغني عنه شهادته ومركزه وماله إذا أُوتيَ كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28]. ما أغنى عني مركزي، ما أغنى عني سلطاني، ما أغنى عني علمي الدنيوي وشهادتي، كل ذلك هَلَك واندَثَر: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:29 - 31]. خسارة ورسوب، وأي خسارة وأي رسوب؟ تكون في الدنيا طبيباً أومهندِساً أورسَّاماً أومُدرِّساً، أما الآخرة فمؤمن وكافر، فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير. لا نقول: اهملوا أبناءكم، ولا نقول: دعوهم، لا والله، بل نقول: إن الآخرة هي أولى بالاهتمام، وأجدر بالسعي، وأحق بالعمل.

تربية الأبناء على عبادة الله

تربية الأبناء على عبادة الله أيها الأحبة: مَن أب حرص على جلب مرب لابنه يعلمه القرآن ويدارسه السُّنَّة؟ قليل من فعل ذلك، وليت الذي لم يفعل إذ لم يفعل جَنَّب ابنه عوامل الفساد والإفساد، لكن البعض حَشَفاً وسوء كيل، جلب لابنه سائقاً وخادماً وسيارة، وهيأ له بيتاً ملأه بكل الملهيات عن ذكر الله وطاعته. من أب فيكم أعطى لابنه جائزة يوم حفظ جزءاً من القرآن، أوتعلَّم حديثاً لخير نبي الإنسان عليه الصلاة والسلام؟ قليل من فعل ذلك، ونسأل الله أن يبارك في القليل. لكنَّ البعض منا يَعِد ابنه إن نجح بقضاء أمتع الأوقات على الشواطئ في أي البلاد، وما وعد ابنه مرة إن نجح بزيارة مسجد رسول الأنام عليه الصلاة والسلام. فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: أن نشأ نشء منا مِن أبنائنا يعرفون بلاد الكفر أكثر مما يعرفون مكة والمدينة النبوية. النتيجة: أن اتجه شبابنا إلى الملاعب يوم نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح. النتيجة: أن حلّ محل المصحف مجلة، ومحل السواك سيجارة. النتيجة: أن نشأ فينا نشء كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون. إن ابناً بنيناه جسداً حَريٌ بنا أن نربي عقله وقلبه، ونهتم بحياته بعد موته، وأول خطوة إلى ذلك: أن نصلح أنفسنا؛ ففي صلاحنا وبصلاحنا تكون استقامتهم، ورعاية الله لهم، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82]. وثانيها: أن نجعل التربية الإسلامية غاية وهدفاً، لا مانع من تعلُّم العلوم الدنيوية، ولكن ليس على حساب الاهتمام بالآخرة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. فيا عبد الله: اتقِ الله في رعيَّتك؛ فأنت عنهم مسئول أمام الله. اتق الله أن يستأمنك الله عليهم فتشرع لهم أبواب الفتن؛ من أفلام وأجهزة خبيثة عديدة، ومجلات فاتنة صفيقة. يا عبد الله: يوم تهتم هذا الاهتمام المادي بابنك يصبح ابنك مركِّزاً كل همِّه في ثوبه وغترته ومسكنه ومأكله ومشربه وسيارته. جزاك الله خيراً على اهتمامك به مادياً، لكن ماذا فعلت لتؤنسه في وحدته إذا ما دفنته في التراب؟ ما أنت صانع بشهادته؟ قد يرسب الآن في مادة أومادتين، قد ينجح فيهما غداً أوبعد غد، والمجال مفتوح للتعويض، لكن لا تعويض في الآخرة. أعمال العمر كله تعرض للتصحيح في وقت واحد، عليها لِجَان دقيقة، وسجلات وثيقة، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، لجنة كالمحْكَمَة؛ رئيس وأعضاء وشهود ومحام ومدعٍ عام، أما الرئيس - فسبحانه وبحمده - أحكم الحاكمين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأما أعضاء المحكمة فملائكة الحساب، وأما الشهود فمنك وفيك؛ هم الأعضاء: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يكسبون} [النور:24]. وأما المدَّعي العام فهي الرسالة التي بلغتك من الله، عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما المحامي فهوالقرآن الذي يأتي يوم القيامة حجيجاً لك أوحجيجاً عليك. يا عبد الله: يوم غد ليس مضموناً، قد تسعى وتتعب وتزرع فلا تحصد، قد تدرس وتختبر فلا تدرك النتيجة، أما وقد بلغتك الرسالة فقد وجب الامتحان ووجبت النتيجة.

وصية لقمان لابنه

وصية لقمان لابنه يا أيها الأب الحنون: أدعوك إلى التأمل في وصية لقمان لابنه الذي يحبه، ويفتديه بالغالي والنفيس. هل أوصاه بدنيا؟ هل أوصاه بزخرف؟ لا. بل دعاه لما يحييه حياة طيبة، وينجيه من العذاب الأليم، نهاه أن يشرك بالله: {إنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمُ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وأخبره أن الله محيط بكل شيء، فلا يعجزه شيء، ودلَّه على ما ينجيه من الله؛ ألا هوالهرب منه إليه -تبارك وتعالى- بإقامة الصلاة، بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بصبر على ما يصيبه من جرَّاء ذلك، ثم يدلَّه على مكارم الأخلاق التي تسمو بها نفسه، ويعلو بها مركزه. فلا تكبُّر على الخلق، ولا ذلة مع قصد في المشية، وخفض في الصوت: {إنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} [لقمان:19]. تلك -يا عبد الله- جملة وصية الأب الحنون حقاً، فهل رجعت إلى القرآن فقرأت هذه الوصايا، فعملت بهذه الوصية مع ابنك؟ هل أوصيته ببعضها أوبها جميعها؟ لا إله إلا الله! إن ديدن بعض الأباء تثبيط هِمَم أبنائهم، وتكسير مجاديفهم -أقول ذلك ونحن نعيش التدريس عن كثب- إذا ما هدى الله ابن بعضهم ذعروا وهبُّوا ووصفوه بالوساوس، ووسموه بالعُقَدِ النَّفسية، سخروا منه وهزئوا به، ولا أدري أيسخرون من شخصه أم من دينه الذي يحمله ويمثله: {أَفِي قُلُوبِهِم مرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عليهم} [النور:50]. أهذه هي الأمانة أيها الأب؟ {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}. عباد الله: ولنا في سِيَر الأخيار عظات وعِبَر، لقد امتحنوا فنجحوا وتفوَّقوا: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاح

وصية عمر لأبنائه

وصية عمر لأبنائه هاهو عمر بن عبد العزيز -عليه رحمات رب الجليل- يعود يوماً بعد صلاة العشاء إلى داره -وهوخليفة المسلمين، مقدرات الأمة بين يديه- فيلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجه: ما شأنهن؟ قالت: لم يكن لديهن ما يتعشين به سوى عدس وبصل، فكرهن أن تشم من أفواههن رائحة البصل، فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسئولية، فميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول: [[يا بنياتي! أينفعكن أن تتعشين أطيب الطعام والشراب، وتكتسين أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُأمر بأبيكن إلى النار؟]] قلن: لا. لا. ثم اندفعن يبكين. فلا والله لا تسمع في البيت إلا الخنين والأنين. لما حلَّت به سكرات الموت -عليه رحمة الله- دخل عليه مسلمة وقال: لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوصِ بهم إليَّ أوإلى أحد من أهل بيتك، وكان مضطجعاً قال: أسندوني، ثم صرخ: [[والله! ما منعت أبنائي حقاً لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أوإلى غيرك فلا، إن وصيَّ ووليَّ فيهم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، إن بنيَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله]]. ثم طلب جميع أولاده -وهم بضعة عشر- فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعاً حارةً، وقال: [[أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني! إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أوتفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]]].

امتحان صلاح الدين

امتحان صلاح الدين عباد الله: كلنا في امتحان، فبين راسب وناجح، والمادة هي لا إله إلا الله محمد رسول الله، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقناً محباً منقاداً مستسلماً، صدق بها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح! وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق، وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار. هاهي رسالة امتحان تأتي لـ صلاح الدين من أحد المسلمين على لسان المسجد الأقصى الأسير في يد الصليبيين يوم ذاك -واليهود اليوم مع الصليبيين- تقول الرسالة وهي امتحان واختبار لـ صلاح الدين: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكَّس جاءت إليك ظِلامَةٌ تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهِّرت وأنا على شرفي منجَّس فقام صلاح الدين يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ الأمة الإسلامية، ويصدر أوامره ألا يضحك أحد، ولا يمزح أحد، ولا يفكر أحد إلا باسترداد بيت المقدس، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، بعد استعداد جيد للامتحان، فيدمر الصليب، ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى؛ ليكون قدوة لمن يريد استعادة الأقصى السليب. ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الإخوة؟ استيقظ اليهود يوم نمنا فدنَّسوه، ودخلوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه، وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فيا ليت صلاح الدين يرى المؤامرات على أقصانا، وما هدم العدو وما استباح، ليته يرى كيف بغى اليهود، وكيف أحسنَّا الصياح. إن أسئلة الامتحان التي قُدِّمت لـ صلاح الدين، أسئلة الآن تُقدَّم لنا، لكن صلاح الدين حلَّ الأسئلة بنفسه، ونحن أحلنا حلَّ الأسئلة إلى غيرنا، فكان ما كان. سقوا فلسطين أحلاماً منوِّمَة وأطعموها سخيف القول والخُطَب لكني أقول: يا عباد الله! لا يأس، لا قنوط، سَتُحلُّ الأسئلة، وستبقى طائفة على الحق؛ لتقود الأمة ليعود الأقصى، وتعود فلسطين والعاقبة للمتقين: لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلِلَّه أوس قادمون وخزرج أيها الآباء: وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، اعلموا وعلموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى، علِّموهم أن الامتحان والنجاح بقَصْر النفس على ما يرضي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا أنتم أنه لن ينصرف أحد من الموقف وله عند أحد مَظْلَمَة. يفرح ابنك أن يجد عندك مظلمة، تفرح زوجتك أن تجد عندك مظلمة، يأتي ابنك يقف يحاجّك بين يدي الله قائلاً: يا رب! سل أبي لِمَ ضيعني عن العمل لما يرضيك، ورباني كالبهيمة، ما يكون جوابك أيها الأب الحنون؟ أَعِدَّ للسؤالِ جواباً. يا أيها الابن تيقَّظ وانتبه وأقبل بقلب على مولاك تظفر باهتدا وقف بالباب واطلب منه فتحاً عسى تحظى به صبح امتحان اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من الفائزين الناجين يوم القُدُوم عليك يا أكرم الأكرمين! اللهم إنا نسألك التوفيق لأبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا. اللهم لا تضيِّع تعبهم، ولا تبدِّد جهدهم. اللهم ذكِّرهم ما نسوا، وعلِّمهم ما جهلوا، ووفِّقهم لخَيرَي الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الاستعداد لامتحان الآخرة

الاستعداد لامتحان الآخرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: إن يوم القيامة هو الامتحان الأكبر، وعندها يتبين الصادق من غيره. هل صليت وصمت لله يا عبد الله؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل تحب الخير وأهله؟ هذه أسئلة تتردد على مسامعكم، هل تبغض الشر وأهله؟ هل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ هل تحب للناس ما تحب لنفسك؟ هل سلمت أعراض المسلمين من لسانك؟ هل يطمئن قلبك بذكر الله؟ هل يتعلق قلبك بالله في الشدة والرَّخاء؟ هل نزّهت أذنك عن سماع ما يغضب الله؟ هل غضضت بصرك عن محارم الله؟ هل غضبت لله؟ هل أحببت في الله؟ هل أبغضت في الله؟ هل أعطيت ومنعت لله؟ هل استسلمت لأمر الله؟ هل استسلمت لأمره يوم يأمرك بالحجاب فحجبت أهل بيتك امتثالاً لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]؟ الأسئلة كثيرة تتردد عليك صباح مساء، إن كان الجواب بنعم: فأنت من الناجحين الفائزين بإذن رب العالمين، وإن كان الجواب بلا. فعُدْ إلى الله ما دمت في زمن الإمهال، واندم وأقلع وردّ المظالم لأهلها قبل وضع الميزان، وتطاير الصحف، وعبور الصراط يوم ينسى الخليل خليله، والصاحب صاحبه، وكلٌ يقول: نفسي نفسي، والرسل تقول: اللهم سلِّم سلِّم. أيها المُمْتَحِن -وكلنا مُمْتحَن-: تذكر وقوفك لاستلام النتيجة؛ يوم يوقف العبد بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق: لقد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً. ذاك هوالنجاح، عندها يطرب ويفرح ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَه} [الحاقة:19]. وإن خفَّ ميزانه نادى المَلك بصوت يُسْمع الخلائق: لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً. فذاك هوالرسوب، عندها يقول: {يَا لَيتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه} [الحاقة:25]. لا إله إلا الله! ما عساك فاعل يوم ينادى باسمك يا فلان بن فلان هلم إلى العرض على الله؟ قمت ولم يقم غيرك يا لضعفك! يا لشدة خوفك! يا لخفقان قلبك! يوم تقف بين يدي الملك الحق المبين، وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. يا لله لك! يوم تقرأ صحيفتك بلسانٍ كليل وقلبٍ كسير وحياءٍ من الله عظيم، بأي لسان تجيبه حين يسألك عن عملك القبيح؟ بأي لسان تجيب يوم يسألك -يا أيها الممتحن- عن عمرك فيما أفنيته، وشبابك فيما أبليته، ومالك -يا من جعلت الربا والفوائد عنواناً له- من أين اكتسبته، وفيما أنفقته؟ وعن علمك ماذا عملت فيه؟ بأي قدمٍ تقف غداً بين يديه؟ بأي عين تنظر إليه؟ بأي قلب تجيب عليه؟ ما تقول له إذا قال لك: يا عبدي ما أجللتني؟ أما استحييت مني؟ أما راقبتني؟ أستخففت نظري إليك؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟ عندها تكاد تسقط فروة وجهك حياء من الله، فكيف بك إن شقيت؟ فيا أيها الممتحنون غداً -وكلنا ممتحن-: لمثل هذه المواقف فأعدوا، وتذكروا بامتحان الدنيا وقوفكم بين يدي المولى، استعدوا وأعدوا وتزودوا وخير الزاد التقوى. جد واتعب -أيها الطالب- وانصب، فوالذي نفسي بيده! لن تجد طعم الراحة إلا عند أول قدم تضعها في الجنة: فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل أفق قد بنى الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فِيهِ المهيمن يختم فاتق الله وقًصِّر أملاً ليس في الدنيا خلود للملا ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وأهله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين. اللهم انصر عبادك الموحدين. اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه، واجعل كيده في نحره، وزلزل الأرض من تحت قدميه، اللهم لا ترفع له راية واجعله لمن خلفه آية، يا كريم! يا قوي! يا جبار! اللهم برحمتك اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك. اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالثلج والماء والبرد. اللهم ارحمنا برحمتك إذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

كل يغدو

كل يغدو الناس في مسيرهم إلى الله منقسمون إلى فريقين اثنين: إما غاد لإيباق نفسه وإما غاد لإعتاق نفسه. وفي هذه المحاضرة المباركة توضيح لهذين الطريقين، وتبيين لبعض معالمها. فانظر -أيها القارئ الكريم- أي الغاديين أنت، واتبع سبيل النجاة تسعد في دنياك وأخراك.

بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول المولى -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وأسأل الله الذي جمعني وإياكم في هذه الروضة، أن يجمعنا وإياكم في روضات الجنان، إنه سميع مجيب وعلى كل شيء قدير. إني مُسَائِل مساءلة: إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموتِ بالأَرْوَاح حادي فلو كنا جماداً لاتعظنا ولكنا أشد من الجمادِ تنادينا المنيةُ كلَ وقتٍ وما نصغي إلى قولِ المُنادِي وأنفاسُ النفوسِ إلى انتقاصٍ ولكن الذنوبَ إلى ازديادِ إذا ما الزرعُ قارنه اصفرار فليس دواؤه غير الحصادِ كأنك بالمَشِيبِ وقد تَبَّدى وبالأُخرى مُناديها ينادي وقالوا قد قضى فاقْرُوا عليه سلامَكم إلى يومِ التَنَادي إخوة الدين والعقيدة: لم خلقنا؟ لم أُوجدنا؟ ما الهدف وما الغاية؟ آلهدف أن نأكل؟ آلهدف أن نشرب، أن نلبس، أن نتمتع؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد ما خُلِقنا إلا لعبادة الله جل وعلا القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، والقائل تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. أما والله لو عَلِمَ الأنامُ لما خُلِقوا لما هَجَعُوا وناموا مماتٌ ثم حشرٌ ثم نشرُ وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ ليومِ الحشرِ قد عملت أناسٌ فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أُمِرنا أو نُهِينا كأهلِ الكهفِ أيقاظٌ نِيامُ جعل الله لنا طريقًا مستقيماً فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:153] وأنزل لنا القرآن، حجة لنا أو علينا، وأرسل إلينا رسولا شاهداً علينا ومبشراً ونذيراً صلى الله عليه وسلم جاءنا بالآيات الباهرات، وبالآيات البينات، وبالمعجزات الظاهرات، هاكم بعض هذه المعجزات قبل أن نبدأ فيما نحن نريد أن نبدأ فيه.

أعظم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم

أعظم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم أول معجزة جاءنا بها المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا القرآن الذي بين أيدينا، والذي هجرناه وتركناه؛ فكان لنا ما كان، حبل الله المتين، من تمسك به هُدِي، ومن ابتعدَ عنه ضلَّ وانحرف وإلى النار وبئس القرار، وجاءت معه الآيات الأخرى؛ لتقيم الحُجَج على الذين يريدون أن يتنكبوا الطريق.

الذئب يشهد بالرسالة

الذئب يشهد بالرسالة روى الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده: أن أعرابياً خرج بغنمه على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرعى الغنم، وبينما هو مع غنمه إذ بذئب يعدو على شاة، فيتقدم فيأخذ الشاة من فم هذا الذئب، فيكون من هذا الذئب أن يُقعِي عنه بعيداً، ويقول له -ويتكلم كلام الإنس-: أما تتق الله؟! تأخذ رزقًا ساقه الله إليَّ. فقال: يا عجبي! ذئب يتكلم كلام الإنس. قال الذئب: وأعجب من ذلك رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بشر يخبركم بأنباء من سبق. فلم يملك الأعرابي نفسه، وأخذ غنمه وسار بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيدخل بها المسجد، ويضعها في زاوية من زوايا المسجد؛ ليدخل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن نادى في الناس: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس كلهم، فقال للراعي: قل لهم ما رأيت، وما سمعت، فقام فذكر قصته مع الذئب، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {صدق والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس} ولقد حصل هذا على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذه آية حصلت على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فانقسم الناس أمامها إلى فريقين؛ فريق آمن وصدق، وفريق آخر تنكب الطريق، والفريقان مقتسمان إلى قيام الساعة.

حادثة انشقاق القمر

حادثة انشقاق القمر روى مسلم: أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ليؤمنوا به، فطلب من الله جل وعلا أن يريهم آية، فانفلق القمر في تمامه نصفين، نصف على جبل أبي قبيص ونصف على الجبل المقابل له، فماذا كان منهم؟ هل صدقوا وآمنوا كما وعدوا؟ ما كان منهم إلا أن تنكبوا، وقالوا: هذا سحر، سحر أعيننا محمد. وقال المنصف منهم: نذهب إلى أهل البادية، ونرى هل رأوه في تلك الليلة قد انفلق فلقتين على الجبلين؟ فذهبوا إلى أهل البادية وسألوهم، فأخبروهم بأنهم قد رأوه قد انفلق فلقتين على الجبلين في تلك الليلة، فقالوا: سحر مستمر، عم الحاضرة والبادية! نسأل الله العافية! إذا طمست البصيرة فلا تنفع آية، ولكنها حجج تقذف عليهم لتقام عليهم أمام الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2] سحر عمَّ الحاضرة والبادية.

مخاطبة الحجر والشجر للرسول صلى الله عليه وسلم

مخاطبة الحجر والشجر للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث: أنه كان يمر على الشجر فيقول: السلام عليك يا رسول الله! ويمر على الحجر فيقول: السلام عليك يا رسول الله! روى مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله! إني لأعلم حجراً كان يسلِّم عليَّ بـ مكة قبل أن أبعث} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

شكوى الظبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

شكوى الظبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والآيات كثيرة، وأكتفي بآية أخيرة ذكرها أبو نعيم في دلائل النبوة، يقول: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ذات يوم خارج المدينة، وإذ بفسطاط -خيمة- ومشدود بهذا الفسطاط ظبية -غزالة- وإذ بها لما رأت المصطفى صلى الله عليه وسلم ذرفت عيونها الدموع، فتقدم إليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! إن لي خشفين صغيرين -وليدين صغيرين- وأمسكوا بي ولم أرضعهما منذ الصباح، فأذن لي لأذهب لأرضعهما وأعود. فقال: من صاحب الظبية؟ من صاحب الغزالة؟ قالوا: نحن يا رسول الله! قال: ائذنوا لها لتذهب وتعود. قالوا: من يضمن ذلك يا رسول الله؟ قال: أنا. فأطلقوها، فذهبت وأرضعت خشفيها، وعادت إليهم؛ وفاءً بالعهد -يوم ضاع الوفاء بين كثير من الناس- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتبيعونها؟ قالوا: هي لك يا رسول الله! بلا بيع؛ فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الضب يشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة

الضب يشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة آيات وآيات الضب يأتي به الأعرابي، ويرفعه في يده، ويقول: لا أومن حتى يشهد أنك رسول الله. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم للضب: {أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: أشهد أنك رسول الله}. والآيات كثيرة وكثيرة. لكن مع هذه الآيات، ومع أعظمها؛ وهو القرآن وجدت عقول جامدة، وقلوب فارغة ساهية لاهية غافلة، لا تقبل الحق ولا تؤمن به، كالكوز مُجَخِّياً، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً. أرأيتم لو أن كوباً وضع على وجهه، وأدخلنا فيه من المياه، وهو منصوب على ظهره لن يدخل فيه قطرة واحدة، وهم يستحقون أن يوصفوا بهذا الوصف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].

أحوال الناس في مسيرهم إلى الله

أحوال الناس في مسيرهم إلى الله هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد، بل وقف يوم نزل عليه قول الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فنادى، وعمَّ وخصَّ، وقال: {يا بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا يغني أحد عن أحد}. فغدا البعض بعد هذا وانقسموا إلى قسمين، غدا البعض منهم لإعتاق نفسه من النار؛ فهو الفائز، وغدا البعض الآخر ليوبق نفسه، ويهلك نفسه، فهو الخاسر. وكل يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها، وهذا هو عنوان المحاضرة. انظر من أي الفريقين أنت؟ وصنف نفسك مع أي الصنفين تكون، وانظر أي الغاديين أنت، حدد موقعك، واعرف مصيرك، فأنت أحد غاديين لا محالة.

أحوال الناس مع التوحيد

أحوال الناس مع التوحيد أما غاد فيغدو من بيته ليهلك نفسه، وليوبق نفسه؛ بالإشراك بالله -الذي لا إله إلا هو، إن تكلم فلا تسمع إلا ألفاظ الشرك تفوح من فمه، وألفاظ الشرك ما أكثرها، متعددة بين الخلق الآن وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يخرج الرجل من بيته، وفي أدنى المواقف لا تسمعه إلا يستعين بغير الله جل وعلا: خذوه واعملوا به وافعلوا به وفي صلاته يردد بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أين الاستعانة التي قصرتها على الله جل وعلا أتقولها في المسجد، فتخرج من المسجد فتخالف هذه الكلمة، فتوبق نفسك وتهلك نفسك؟ اتق الله يا عبد الله في هذه الألفاظ، وإياك أن تكررها فإنها شرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فاعصم لسانك من هذه الكلمة، فإن زللت ووقعت منك فعد إلى الله، وقل بعدها: لا إله إلا الله. إن أصيب أحدهم بمصيبة، بمرض في نفسه، أو أهل بيته، أو في أبنائه، لم يعد إلى الله عز وجل لم يعد إلى من يشفي، لم يعد إلى من بيده الشفاء، وإنما يذهب إلى السحرة، والكهنة، والمشعوذين، فيبيع دينه ودنياه، ناسيًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهنا أو عرَّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}. يغدو الغادي من هؤلاء فيحلف بكل شئ إلا بالله، يحلف بالطلاق، يحلف بالحياة، يحلف بالأمانة، يحلف بالذمة، يحلف بالحرام، لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحلف بالله العظيم الذي يستحق أن يعظم، والحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، ناسياً أو متناسياً قول مصطفاه صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} {من حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله} {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت}، وإذا حلف لك بالله -يا عبد الله- فإياك أن توبق نفسك، وارض بهذه اليمين، وكِلْ السرائر إلى الله جل وعلا. هاهو كما في البخاري: إسرائيلي يحتاج إلى دنانير، فيذهب إلى آخر فيطلب منه قرض مائة دينار، فيقول له: هل لك من كفيل؟ قال: والله ما لي من كفيل إلا الله، قال: كفى بالله كفيلاً، فهل لك من شاهد؟ قال: ما لي من شهيد إلا الله، قال: كفى بالله شهيداً. فدفع له المائة دينار، وأخذها وواعده على أن يفي بهذا الوعد، وأن يرد له هذه القرضة في يوم معين، وعبر البحر إلى الشاطئ الآخر، وذهب إلى أهله وجمع هذه المائة دينار، وجاء ليرجع بها ليوصلها إلى من أقرضه إياها، ورضي بالله كفيلاً وشهيداً، جاء إلى ساحل البحر فلم يجد سفينة توصله إلى هناك، فبقي اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، ثم في اليوم الثالث أخذ خشبة؛ عوداً من حطب، وحفر فيه حفرة، ثم أخذ المائة الدينار وأدخلها فيه، وذاك ينتظر على الشاطئ الآخر ثلاثة أيام، يريد أن تعاد له قرضته، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل. ظن أنه خانه، ظن أنه غدر به، وما كان من هذا إلا أن أخذ الدراهم والدنانير ووضعها في الخشبة، ثم قال: يا رب؛ اللهم إني استقرضته فأقرضني، فلم أجد كفيلاً إلا أنت فرضي بك، ولم أجد شهيداً إلا أنت فرضي بك، اللهم فبلغه هذه الدنانير، ثم رمى بالخشبة في البحر. ويرسل الله الريح، وتأخذ الخشبة إلى الشاطئ الثاني، ويقابلها هذا هناك وهو ينتظر السفينة فلم يجد، قال: أعود بهذا العود حطباً لأهلي خير من أن أعود بلا شيء، فأخذ هذا العود، وهو لا يعلم ما بداخله، وذهب به إلى أهله يريد أن يجعله حطباً، وجاء ليكسر العود وإذ بالمائة دينار في وسطه، فقال: لا إله إلا الله، من رضي بالله كفاه الله، من توكل على الله كفاه الله. فهل رضينا بالله؟! غادٍ يغدو ويُحْلف له بالله فلا يرضى بالله، ويحلف له بغير الله فيرضى بذلك: {وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}. وذاك غاد آخر يغدو لإعتاق نفسه، إن تكلم فبذكر الله، وإن استعان فبالله القادر، وإن سأل فبالله المعطي. لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ الله يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَي آدمَ حين يُسْألُ يغضبُ إن أصيب بأمر من الأمور بمرض من الأمراض بمصيبة، لجأ إلى الله الذي يجبر كسر المصابين، ثم طلب الأسباب الشرعية، لا الأسباب الشركية، إن حلف فبالله، وإن حُلِفَ له بالله رضي، فهو غاد في حفظ الله، وعائد في عناية الله، وكل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع الصلاة

أحوال الناس مع الصلاة وغاد آخر يغدو ليترك الصلوات، ويتبع الشهوات، فيوبق نفسه، كأنه لم يسمع قول ربه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وقال في الآية الأخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وويل وغي أودية في جهنم، تستعيذ جهنم من حرها، لو سيِّرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]. ويغدو بعض الناس إلى الملاعب ويترك المساجد، يغدو إلى كل مكان إلا هذه البقعة التي فيها الصلة بالله جل وعلا. الصلاة ركن مهم، ومن أهميته فرضه الله عز وجل من فوق سبع سماوات، يُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى، لتفرض عليه خمسين صلاة، ثم تخفف إلى خمس بأجر خمسين، فضلا من الله ونعمة، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً. ومع ذلك يغدو الغادي فيتركها، ألا إن من تركها فقد كفر. ذاك قول نبينا صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر}. والكفر يترتب عليه أمور -الذي يترك الصلاة وينصح فلا يعود- لا يزوج، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ويفسخ العقد ولا تطلق؛ لأنها اختلفت الملة هاهنا، وإذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، ولا يستغفر له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] وهناك غاد آخر ما ترك الصلاة، لكنه غدا ليصليها في بيته، وقد فوت على نفسه أجراً عظيماً، وارتكب إثماً كبيراً، إن الله جل وعلا يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ويقول أيضًا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {يكون النبي صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله؛ يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعجن عجينه، فإذا سمع الله أكبر، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}، ناداه منادي الله جل وعلا فترك كل شيء وذهب إلى المسجد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو القائل -كما في البخاري - روى سمرة بن جندب في رؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- ورؤيا الأنبياء حق ووحي- يقول: {أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي حتى أتينا على رجل مضطجع -ممدود- وآخر قائم عليه بصخرة، فإذا هو يثلغ رأسه بالصخرة، فيتدهده الحجر، ويشدخ رأسه، ثم يصحُّ رأسه ويعود كما كان، ثم يأخذ الحجر مرة أخرى ويفعل به مثلما فعل في المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله! ما هذا؟ قال: هذا الرجل يقرأ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة}. أما إن الذي لا يصلي مع المسلمين والذي يترك الصلاة قد رفض القرآن أولاً، ونام عن الصلاة المكتوبة ثانياً، وكفاه عقاباً مثل هذا الحديث، كفاه تهديداً مثل هذا الحديث إن كان له قلب: {ثلاثة لعنهم الله: رجل أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب}. يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً، خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجب]]. وكانت علامة المنافقين: أنهم إذا سمعوا حي على الصلاة تأخروا وأعرضوا، لذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معي معهم حزم من حطب فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}. وفي رواية أخرى: {ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. أفيغدو الغادي فيترك الصلاة؟! أفيغدو الغادي فيترك الجماعة؟! والله! لو لم يكن في الجماعة إلا يوم أن تخرج من بيتك، فما من خطوة تخطوها إلى المسجد إلا كان لك بهذه الخطوة حسنة، ومُحِي عنك سيئة، ورفعت لك بها درجة، والله من فرط في هذا الأجر فهو لما سواه أكثر تفريطاً، وهو لما سواه أكثر غفلة وسهواً -يا أيها الإخوة- فهذا غاد وكلكم غاد، فمنكم من يوبق النفس، ومنكم من ينجيها ويعتقها. أما الآخر: وهو الذي عرف الله جل وعلا، وعلم أن الله عليه رقيب، وأنه له حسيب، فيغدو إلى المسجد ليصلي مع جماعة المسلمين، فيعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح، ويا لها من منقبة عظيمة -ناهيك عما ذكرت قبل قليل- ساهم فيها المسلمون، وركض إليها صحابة رسول الله، ولا زال يركض الراكضون لهذه الفضيلة، أن يعد لك في الجنة منزلاً كلما غدوت وكلما رحت. هاهو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير كان كثيرًا ما يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. فيقول أبناؤه: أبتاه! تكثر من هذه الدعوة، فما الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد. وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب، فيقول لأبنائه -وقد سمع المنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر-: احملوني إلى المسجد، قالوا: قد عذرك الله من فوق سبع سماوات، أنت مريض، أنت معذور، قال: لا أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، احملوني إلى المسجد، فأخذوه بينهم حتى وضعوه وأقاموه بالصف وهو في سكرات الموت، فأدخلوه في الصف، فصلى وعندما سجد كانت السجدة الأخيرة؛ ليلقى الله عز وجل وهو ساجد: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]؟ وهاهو حاتم الأصم -عليه رحمة الله- يتخلف مرة واحدة عن الجماعة، فيأتيه بعض أصحابه يعزونه في تخلفه عن الجماعة -وكان يعزي بعضهم بعضاً في تخلفهم عن الجماعة- قالوا: أحسن الله عزاءك في جماعة قد فاتتك، وكانوا قلة، فبكى -رحمه الله- قالوا: ما يبكيك؟ قال: فاتتني جماعة فلم يأتني إلا بعض أهل هذه المدينة، ولو مات أحد أبنائي لعزاني أهل المدينة كلها، ووالله لفوات أبنائي جميعا أهون عليَّ من فوات هذه الجماعة؛ لأنه يعلم أن هذه تنفعه، أما الولد فالله أعلم، هل ينفعه أم لا ينفعه؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع الدعوة إلى الله

أحوال الناس مع الدعوة إلى الله غاد آخر يغدو لإهلاك نفسه، فيسلط قلمه، ويسلط لسانه، ويسلط سنانه -أعلى المجوس؟ أعلى اليهود؟ أعلى النصارى؟ ليس على هؤلاء كلهم وإنما يسلطها- على إخوانه المسلمين، ويا له من غاد أوبق نفسه، يسخر بالمسلمين، ويستهزئ بدين الله، ويستهزئ بآيات الله؛ ليرتكب جريمة هي أعظم جريمة، ويا ليتها تكفي لوحدها! لكن هي دعوة إلى ضلال، قد يتبعه غيره، فيكون عليه هذا الوزر، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وما أكثر دعوات الضلال! -يا أيها الإخوة- ما أكثر الذين يسخرون بدين الله في هذا الوقت، ويحاولون إنقاص رجال العلم والتقوى في نظر الناس، ليفقدوا أهميتهم عند الناس، فيضل الناس، ما أكثر هؤلاء! لكن نقول لهم: ليبوءوا بالكفر، من مات بغيظه منهم له كفن. يطالعنا أحدهم ويغدو ليخرج ما في جعبته من السموم التي أبت إلا أن تخرج، أبى النفاق إلا أن يلقي براقعه إذ حان حين الواقعة، يخرج أحدهم ليكتب ما سمعتم وما تسمعون، ويخرج الآخر ليقول: لم يبق من كتبِ السَّماءِ كتابُ مات الإله وعاشت الأنصابُ جل الله تبارك وتعالى، هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. ويغدو الآخر ليسخر بدين الله، ويسود الصفحات بالسخرية بدين الله - جل وعلا- ممثلاً في رجال الحسبة، رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا زالوا يرقعون ويسدون في سفينة نجاة الأمة، وهؤلاء يخرقون كل يوم خرقاً. نقول لهؤلاء: اتقوا الله جل وعلا إن كنتم تعلمون أنكم ستعودون إلى الله، عودوا إلى الله جل وعلا ويا ليت هذا الكلام كان من غيرهم، لكن نقول -يا أيها الإخوة- ما قال القائل: ولو أني بُلِيتُ بهاشمي خؤولته بنو عبد المدانِ لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السُّها للشمس أنت كسيفة وقال الدجا للبدر وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل إن الاستهزاء بآيات الله كفر وأي كفر. تعلمون وقعة تبوك، وماذا كان موقعها؟ وماذا كانت المسافة فيها؟ وماذا كان الجو في تلك الموقعة؟ يخرجون من المدينة في شدة الحر، وفي مفاوز في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، يقطعون الفيافي والقفار تحت حرارة الشمس، ما معهم إلا الدواب التي تعرفون، أصابهم الجوع حتى إن أحدهم في ليلة من الليالي، قام ليبول فبال على جلد فأحس أنه جلد، فنفضه من البول، وأحرقه وأكله من شدة الجوع، سبعمائة كيلو متر يقطعونها في تلك الفيافي والقفار. وبعد هذا كله تقوم مجموعة منهم فتقول: تعالوا نقطع الطريق بالحديث، نتكلم ونتسلى، نخوض ونلعب كما يقولون، فماذا قالوا؟ قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والكلام يتجدد ويتجدد، وسودت به الصفحات في هذه الأيام: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] ماذا كان منهم؟ كان منهم أن جاء الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالوقعة، وأعلن كفرهم من فوق سبع سماوات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. وآخر يغدو ليعتق نفسه، فيدعو الناس إلى توحيد الله، يدعو بقلمه، ويدعو بلسانه، ويدعو بهيئته، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يهدي الله به الضال، فيكون له مثل أجره لا ينقص من أجر ذلك شيء: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أعتقوا أنفسهم، وغدوا في عتق أنفسهم. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع الرضا بقدر الله

أحوال الناس مع الرضا بقدر الله وذاك غاد آخر في دنياه، ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه، ويهلكها، يتسخط من قضاء الله، ويعترض على قدر الله، ما علم أن المصائب متى ما احتسبت رفعت الدرجات، ليلقى المؤمن ربه وما عليه خطيئة من الخطايا، وما علم أن الله مع الصابرين، يصاب ذلك في دنياه، فيجعل الإصابة في دينه. وكلُّ كسرٍ لعل اللهَ جابِره وما لكسر قناة الدين جُبْران يقول عندما يصدم الصدمة الأولى، يوم يفقد حبيباً، يوم يصاب بمصيبة يقول: لم يا رب؟ يعترض على الله جل وعلا، ويتسخط من قضاء الله، يشق الجيب، ويلطم الخد، ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، والملائكة تؤمن على ما يقول، فإذا به قد خسر حبيبه، وإذا به قد خسر دينه مع حبيبه -نسأل الله العافية والسلامة- فإذا المصيبة مصيبتان. يا أيها الإخوة: هل سيعود ميت إن ذهب؟ هل سمعتم بميت دُفن ثم عاد إليكم؟ ما سمعنا بذلك، الذي ذهب لا يعود، مرتهنون في القبور، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون. هاهو شاب من شباب السلف، كانت له زوجة تحبه حباً جماً، ويقضي الله عليه بالموت الذي لابد أن يقضى على كل نفس في هذه الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجزعت عليه، ولم تصبر، وإنما بكت، وتأثرت، وأقسمت لتبكين عليه عاماً كاملاً، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام يأمر بالصبر، ويأمر بأن يثبت الإنسان عند المصيبة، ويُرْجع الأمور إلى الله جل وعلا. ما كان منها؟ أقسمت لتضعن خيمة عند قبره، وتجلس عنده عاماً كاملاً، تبكيه هذا العام الكامل كله، وذهبت بأولاده وجلست عاماً كاملاً تبكي، فما خرج إليها في يوم من الأيام يقول لها: أحسنت، أو ما قصرت، لم يخرج إلى أولاده يوماً من الأيام، ليمسح دمعة أحدهم عن خده، لم يخرج إليهم، ووالله لو خرج إليهم ما قبلهم، ولا نظر إليهم، وإنما اغتنم الفرصة في ركعة، أو سجدة، أو تسبيحة، أو قول لا إله إلا الله التي هم بحاجة إليها وحيل بينهم وبينها. وبعد العام الكامل، بعد ما انتهى هذا العام أخذت أطناب خيمتها، وعادت إلى بيتها، لم تستفد إلا أنها جزعت، ولها جزاء الجازعين، وحينما جمعت أطناب الخيمة، إذ بهاتف يهتف ويقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ وإذا بهاتف آخر يرد: ما وجدوا ما فقدوا، بل يئسوا فانقلبوا. يئسوا فرجعوا إلى بيوتهم، الذي يذهب -يا أيها الإخوة- لا يعود، فما عليك يا أيها المؤمن المصاب إلا الصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا وحبيبنا وإمامنا، ماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ ابنه إبراهيم يوم يبلغ السنتين يموت بين يديه، فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم رحمة بهذا الطفل، فماذا يقول؟ يقول: {القلب يحزن، والعين تبكي، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}، لا نقول إلا ما يرضي الرب وهو قدوتنا. ترسل إليه إحدى بناته بأن ابنها في النزع الأخير، في حالة الاحتضار، ترسل إليه ليحضر، فيقول لرسولها الذي أرسلته: {مرها فلتصبر ولتحتسب، لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شئ عنده بأجل مسمى} تسليم لله، له ما أخذ وله ما أبقى تبارك وتعالى. ويعقوب عليه السلام يفقد ابنه وفلذة كبده؛ يوسف حبيبه يفقده أربعين عاماً حتى إن الملائكة جاءت إليه تعرض الخدمات عليه، وتقول: ألا تشكو؟ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] مرد الأمور إلى الله. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. أما الآخر فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله، فيعوضه الله ويبشره الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن من جزاء عندي إذا قبضت صفيه -أو خليله- من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ما له من جزاء إلا الجنة، ونعم الجزاء الجنة يا أيها الإخوة. وعند الترمذي: {أن الله يقول للملائكة: قبضتم ابن عبدي؟ -والله أعلم بذلك- قالوا: نعم. قال: أقبضتم فلذة كبده؟ قالوا: نعم. قال: فماذا قال؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى- قالوا: حمدك واسترجع -قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد؛ فهو كالكوكب الدري الغابر في الأفق في سماء الجنة} هذا هو جزاء الصابرين. ولقد ذكر لنا التاريخ: أناساً كان منهم أن أصيبوا بمصائب فتحملوا، واحتسبوا، فمنهم: عروة بن الزبير، ذلك المثل الحي للصبر، عروة يوم تأتي الآكلة فتصيبه في قدمه، فيقول الأطباء: نقطع القدم، قال: أصبر وأحتسب. قالوا: نقطعها من الركبة. قال: أصبر وأحتسب، وعندما زادت ورأى أنها ستسري إلى جسده كله، قال: الله المستعان، جاء الأطباء وتجمعوا يريدون قطع رجله، جاءوا بمناشيرهم -ما كان هناك مخدر- وقالوا له: تناول كأساً من خمر عله أن يذهب عقلك، فلا تجد ألم القطع، قال: كأس من خمر أشربه! عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من خمر؟ لا والله! ولكن إذا توضأت، ودخلت في صلاتي، وسبحت مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما تشاءون. تركوه حتى وقف بين يدي الله، وتعلق قلبه بالله - يوم كانوا يصلون فيخشعون لله، ويعلمون أن الله قِبَل وجوههم- فيأتون عليه بالمناشير، فيقطعوا رجله، وتنزف الدماء، ويسقط مغشياً عليه، وفي هذه اللحظة ترفس دابة ابنه محمد فيموت، مصيبتان في آن واحد، رجله تذهب، وابنه يذهب، ويفيق من غشيته، فيقول له أصحابه: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد، قال: الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، رب إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة من الأطراف وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وأعطيتني أربعة من الأولاد وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. ويذهب ليدخل مجلس الوليد بن عبد الملك، ويوم دخل المجلس كان هناك طفل، فقال طفل الوليد للوليد: ما أظن أصاب عروة ما أصابه إلا بذنب قد ارتكبه، فسمع ذلك، فقال: وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي فقال الوليد: ابحثوا لنا عن أهل مصائب في هذا العام، عله يتسلى بهم، فإن مصيبته عظيمة. وما علموا أنه فوض أمره إلى الله جل وعلا. فخرجوا فوجدوا رجلاً عبدياً أعمى وراء قصر الوليد، فأخذوه وأدخلوه على الخليفة، قال: ما مصيبتك وما خبرك؟ قال: والله! ما كان في بني عبد رجل أغنى وأكثر مالاً وولداً مني، وجئت يومًا من الأيام فعزب لي قطيع من الإبل، فذهبت وراءه أتلمسه، وتركت أهلي، ومالي، وولدي في هذا الوادي، وبقيت ليلتين، وعدت بالقطيع، فإذا الديار خراب بلقع ليس بها داع ولا مجيب، جاء سيل فاقتشعهم كلهم؛ بقره، وغنمه، وكل ما يملك، ولم يبق إلا طفل صغير معلق في شجرة، لا زال في مهده، قال: فذهبت إليه وضممته إلى صدري، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: ثم ندَّ بعير من الأبعرة، فلحقت به -لم يبق له إلا هذا القطيع الذي عزب- وإذ بصوت الطفل يصيح، فنظرت فإذا الذئب قد أخذه، وإذا به في فمه، فلم يبق له لا مال ولا أهل ولا ولد ولا أنيس، ما بقي إلا هذه المجموعة من الإبل، لكن من كان الله معه فلا يخاف، قال: فبقيت وراء هذا البعير أطرده لأرده، فرفسني برجله فأعمى بصري فبقيت في الصحراء أتلمس، لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، ولا أنيس، ولا حبيب، وجئت إليك هنا، ووالله! ما جئت شاكياً، لكن جئت إليك لأخبرك أن من عباد الله أناساً يرضون بقضاء الله، ويسلمون إذا قضى الله أمراً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. ولا بأس بأن نذكر -أيضًا- حادثة أخرى، أبو ذؤيب الهذلي: ثمانية من أبنائه يصابون بالطاعون في يوم واحد، ويموتون كلهم في يوم واحد، فيسترجع ويحمد الله -عز وجل- ثم يتنفس بأبيات بعد ذلك، كانت من أم المراثي في الأدب العربي، يقول: ولقد حرصتُ بأن أدافعَ عنهم وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدْفعُ وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ وتجلدي للشامتين أُرِيهمُ أني لِرِيَبِ الدهر لا أَتَضَعْضَعُ وكل يغدو!

أحوال الناس مع ظلم العباد

أحوال الناس مع ظلم العباد وذاك غاد آخر ليهلك نفسه، ويهلك نفسه بأي شئ؟ بظلم عباد الله، ناسياً قول الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] متناسياً أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، متناسياً أن الله يرفع دعوة المظلوم فوق الغمام، ويقول: {وعزتي وجلالي! لأنصرنك ولو بعد حين}. قطع من الله وعهد من الله، يوم يجمع الأولين والآخرين، يقول: {أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وعزتي وجلالي! لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم} لن يجاوز جسر جهنم أحد وهو ظالم، حتى يقتص الله تبارك وتعالى منه وهو العدل سبحانه وتعالى ويأبى الظلم حتى لو كان على كافر. هاهو سعيد بن زيد تأتيه امرأة فتشكوه إلى معاوية -رضي الله عنه- بأنه غصبها أرضها -وما كان لمثل سعيد أن يغصبها أرضها- فيقول: لقد ادعت عليك بأنك اغتصبت أرضها، فتدمع عيونه، ويقول: والله! ما كنت لأفعل ذلك، فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين}. أو كما قال، فلتضم أرضي إلى أرضها، وبئري إلى بئرها، ونخلي إلى نخلها، فإن كانت صادقة فذاك، وإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها، وأرداها في أرضها. ويشاء الله ويعمي بصرها، وتذهب في هذه الأرض لا ترى، فتسقط في البئر متردية بدعوة المظلوم التي سرت في جوف الليل. والبرامكة في عهد هارون الرشيد ماذا كان منهم؟ ما كان منهم إلا أن طغوا، وتجبروا، وظلموا، وتكبروا، حتى إنهم طلوا قصورهم بالذهب والفضة، ويوم يشاء الله عز وجل أن يقتص للمظلومين في هذه الحياة، وينتقم للمظلومين في هذه الحياة، فيسلط الله عليهم الخليفة، فيسجنوا ويقتل منهم من يقتل، ويسجن كبيرهم، ويدخل عليه أحد أبنائه في يوم عيد ويقول: أبتاه! بعد العز والغنى أصبحت في السجن وعلى التراب، قال: ألا تدري؟ قال: لا. قال: يا بني! دعوة مظلوم سرت في جوف الليل، نمنا عنها وليس الله عنها بنائم. لكن المظلوم لا ينام، لا تنام له عين، وإنما يناجي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وبعض الناس -يا أيها الإخوة- جنَّد ظلمه على عباد الله، على الذين يريدون أن ينشروا النور بين عباد الله، فله عند الله -إذ هو من الصادين عن سبيله- النار وبئس القرار إن لم يعد إلى الله جل وعلا. أما صنف آخر: دنيء سلط ظلمه على الحيوانات، شجاع لكن على القطط، جريء لكن على الكلاب، تجده يعبث فيها، يدوسها بسيارته، يقتلها، يتفنن في قتلها، وسأذكر لكم حادثة لهذه الحيوانات: في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا من حيطان الأنصار -بستان- وإذ ببعير يأتي يجرجر وتذرف دموعه من عيونه - دموع البعير- فيقترب من النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لمن هذا البعير؟ قال فتى من الأنصار: لي أنا يا رسول الله، قال: أما تتق الله في هذه الدابة التي ملككها الله؟! تجيعها وتتعبها، لقد شكا إلي مما يلاقي منك}. بهيمة سخرها الله لك، أفتظلمها وهي لا تستطيع أن تمتنع منك؟! ورجل آخر أعرفه في قرية من قرى الجنوب، هذا الرجل جاء يوماً من الأيام فجاءه حمار على برسيم له، وتقدم على هذا البرسيم فأكل منه، فطرده، فجاءه في اليوم التالي، وكل يوم يذهب ويعود إلى هذا البستان ليأكل من هذا البرسيم، فأخذه في ليلة من الليالي -يوم قلَّت مراقبة الله عز وجل في قلبه- وربطه بسيارته وهو حي، ومشى به على الأسفلت حتى قطعه قطعاً، ويوم عاد ليدخل بيته، فإذا بيته مليء بالبعوض، فأخذ المبيد الحشري، ثم قام يرشه في هذه الغرفة، ويرشه حتى امتلأت بهذا المبيد، ثم أراد أن يضيء المصباح، ومع إضاءة المصباح قدحت هناك شرارة، فاشتعلت الغرفة عليه فأحرقته، وبعد ثلاثة أيام يلقى الله جل وعلا. نسأل الله أن يعاملنا وإياكم برحمته، وأن يختم لنا بحسن الختام. يا أيها الإخوة: ظلم الحيوانات ظلم كبير يا أيها الإخوة! فما بالكم بمن يظلم الإنسان الذي كرمه الله عز وجل؟ والأمثلة كثيرة: طاغية كان له قصر- ذكر ذلك وهب بن منبه، ذكره الذهبي في كتاب الكبائر - وجاءت عجوز ليس لها إلا الله عز وجل فبنت كوخاً خلف القصر، وخرجت يوماً من الأيام تبحث عن رزقها، فنزل هذا الرجل يتفرج في قصره، وإذ بهذا الكوخ يشوه منظر القصر، فما كان منه إلا أن قال: لمن هذا الكوخ؟ قالوا: لعجوز لا تملك إلا هذا، قال: اهدموه، فهدموه، فجاءت -ويوم جاءت- فإذا هو مهدوم، قالت: من هدم كوخي؟ قالوا: هذا الطاغية. فرفعت يديها إلى الله، وقالت: يا رب! إن كنت أنا غائبة فأين أنت؟ فقلب الله القصر على من فيه: {وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم}. يا ليت الظلمة يعلمون ذلك: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا}. يأتي رجل من الدعاة إلى الله ينصح وزيراً من الوزراء، يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، يريد حياته، وذاك يريد موته، فيلطمه لطمة على خده، فيرفع يديه، ويقول: اللهم إنه لا ناصر لي إلا أنت، أسألك يا رب أن تقطع يده كما لطم خدي، وبعد أيام يؤخذ من قصره، وتقطع يده، وتؤخذ أمواله، ويوضع في السجن طريداً وحيداً فريداً، فقام يكتب على الحيطان: ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا يميني بانت يميني فبِيْنِي ويكتب على الحيطان ويبكي: إذا ما مات بعضك فابك بعضاً فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريبُ {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. آخر يغدو: ليعتق نفسه، لا يظلم أحداً، إن تكلم فبالعدل، إن حكم فبالعدل، إن خاصم فبالعدل، إن عاهد فبالعدل: {والمقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع صلة الأرحام وبر الوالدين

أحوال الناس مع صلة الأرحام وبر الوالدين وذاك يغدو: فإلى أين يغدو؟ يغدو ليقطع رحمه، يغدو ليوبق نفسه، يغدو لتحل به اللعنة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] {لما خلق الله الرحم -كما ثبت- تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله عز وجل: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى رضيت}. فمن وصل الرحم وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وبعضهم يغدو: ليعق والديه؛ والداه اللذان كانا في يوم من الأيام يجوعان ليشبع، ويظمآن ليروى، ويعريان ليكسى، ثم يأتي جزاء الإحسان عكسياً، أتعق والديك والله يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]؟! قرنها مع عبادة الله جل وعلا، ويوم يجيل المسلم سمعه وبصره، يوم يجيل هذا يسمع ويرى، ويا ليته لا يسمع ولا يرى، غُيِّر اسم الأب عند بعض الناس، وأُهِينت الأم في بيوت كثير من شباب الإسلام، فما تسمع إلا شيبة النحس، وعجوز الشؤم، والدعاء بالراحة منهما، يوم كانا سبباً في وجوده بعد الله جل وعلا. إن رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله عز وجل في سخط الوالدين. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين}. دعوة الوالدين -يا أيها الإخوة- لا ترد، دعوة الوالدين مستجابة، كم من دعوة من والدٍ أوبقت دنيا الولد وأخراه، وكم دعوة أخرى أسعدت دنيا هذا الولد وأخراه. يقول أبان بن عياش: خرجت من عند أنس بن مالك بـ البصرة، قال: وإذ بجنازة يحملها أربعة نفر، قال: فقلت: مسلم يموت يمر بسوق البصرة، لا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، وإذ بامرأة وراء هؤلاء الأربعة، ويذهبون ويدفنونه وعندما انتهوا قال: ما هذا الرجل؟ وما حكاية هذا الرجل لا يدفنه إلا أربعة؟ أين المسلمون؟ قالوا: سل تلك المرأة، استأجرتنا لدفن هذا الرجل. قال: فذهبت وراء المرأة حتى دخلت بيتها، وطرقت عليها الباب فخرجت، وقلت لها: يا أمة الله! ما هذا الرجل الذي دفنتموه اليوم؟ قالت: إنه ابني، كان مسرفًا على نفسه، عصى الله، وارتكب الموبقات، ويوم حلت به سكرات الموت، قال: أماه! أتريدين لي السعادة؟ قلت: نعم، قال: إذا حضرتني الوفاة فلقنيني كلمة التوحيد، ثم ضعي قدمك على خدي بعد أن أموت، ثم ارفعي يديك إلى الله، وقولي: اللهم إني أمسيت راضية عنه، فارض عنه، قالت: وكان منه ما كان، ثم قال: ولا تخبري أحداً بموتي، فإنهم يعلمون عصياني، فلن يشهدوا جنازتي، ففعلت الفعلة، قال: فماذا حدث؟ قال: فضحكت، قال: قلت: ما يضحكك؟ قالت: والله بعد أن دفنته، سمعت صوته يهتف ويقول: يا أماه! بدعوتك قدمت على رب رحيم، غير غضبان عليَّ ولا ساخط. دعوة الوالدين مستجابة، دعوة الوالدين تحتاج إلى أن نكسبها ولو بذلنا في ذلك كل شيء، ولو بذلنا الأبناء، ولو بذلنا الزوجات، ولو بذلنا كل شئ في سبيل هذه الدعوة لهان ذلك. منازل! مثل للعقوق عند العرب، شاب منهمك في اللهو والمعاصي، لا يفيق من سكرة إلا ويطيح بسكرة شهوة أخرى، من لذة إلى لذة، وأبوه يدعوه إلى الله، ويطلب منه أن يكف عن هذه المعاصي، وأن يرعوي فيلطمه يومًا من الأيام، فيحلف بالله ليحجن البيت، وليتعلقن بأستار الكعبة يدعو عليه، ويحج إلى البيت، ويتعلق بأستار الكعبة، ويقول: يا من إليه أتى الحجاجُ قد قطعوا أرضَ المَهَامِه من قربٍ ومن بُعدِ هذا منازل لا يرتد عن عَقَقِي فخذُْ بحقي يا رحمنُ من ولدي وشلَّ منه بحولٍ منك جانِبَه يا من تقدَّس لم يُولد ولم يَلِد فشل جانبه الأيمن. دعوة الوالد مستجابة، دعوة الوالد لا ترد، والأمثلة على ذلك كثيرة. وأذكر لكم مثلاً من الواقع، حكاه لي أحد الإخوة الذين أثق بهم، يقول: كان له جد لا ترد له دعوة، وكان أبوه راعياً للغنم في فترة مضت، قال: وكان هذا الأب قد سمع في تلك الأيام بأن السلك العسكري فتح أبوابه ليتوظف الناس، وهو في قرية، فقال: أترك الغنم، وأذهب لأتوظف، وذهب إلى أبيه وقال: يا أبتاه! أريد أن أذهب وأتوظف، وأصرف عليكم، خير لي من أن أبقى وراء هذه الغنم، ابحث عمن يرعاها، قال: لا آذن لك. قال إذاً أذهب. قال: والله لا أستطيع منعك، ولكن ما لي عليك إلا سهم أوجهه في وسط الليل إلى الله جل وعلا قال: فذهب وخاف ولم يستطع أن يذهب، وبقي أياماً وإذا الناس يتوافدون للدخول في السلك العسكري. قال: وجئت في يوم من الأيام فأعطيت الغنم أحد جيراني، وذهبت مع مجموعة من الشباب، ولم أستأذنه في هذه المرة، فذهبت ولم يخبروا أبي إلا في اليوم الثاني أنني قد ذهبت، قال: فرفع يديه إلى الله جل وعلا وبينما هم في الطريق لم يصلوا إلى الطائف بعد، وإذ به يعمى وهو بينهم، فذهبوا به إلى الطائف، فقالوا: هذا لا يسجل، هذا أعمى أعيدوه إلى أهله، فأخذوه ودخلوا به على والده، ويوم دخل في فناء البيت، وإذ بأبيه يسمعه ويعرفه -ولا أريد أن أذكر اسمه- وإذ به يقول: أأصاب السهم يا بني أم لم يصب؟ قال: إي -والله- دخلت عليك أعمى. فأدخلوه عليه فتأثر، وندم، وود أنه لم يدع عليه هذه الدعوة، وقام ليله كله -يقول هذا الأخ- وهو يبكي، ويضرع إلى الله أن يرد بصر ولده، قال: يبكي ومن كثرة تأثره بما أصاب ولده، يأتي إليه فيلحس عينه بلسانه، ثم يعود يصلي، ويدعو الله -عز وجل-. يقول: وما طلع الفجر إلا وقد عاد بصيراً كما كان. وهو رجل وداعية معروف، ووالده داعية معروف، وجده داعية معروف، لا أريد ذكر اسمه. المهم أن دعوة الوالدين يجب أن نكسبها، ويجب أن نجعلها في أيدينا دائماً؛ لتنير لنا الطريق - بإذن الله- إلى الجنة، لكن الصور السيئة أكثر وأكثر، وهي صور -أيضًا- من الواقع، صورة بسيطة حدثت في منطقة الجنوب أيضاً: بائع مجوهرات يحكي لي ويقول: جاءتني مجموعة في آخر رمضان، رجل وزوجته، وأمه، وابن هذا الرجل، قال: فجاءوا ودخلوا علي، قال: وكانت الأم على حياء واستحياء، معها ابن هذا الرجل -ابن ولدها، وابن الابن عند الأم كالابن- فأخذته ووقفت في الجانب، وجاءت زوجته، وأخذت من الذهب ما يساوي عشرين ألفاً، قال: وتقدمت الأم وأخذت خاتماً واحداً من ذهب قيمته تساوي مائة ريال. قال: وعندما جاء ليدفع الحساب دفع العشرين ألفاً، ويوم دفع العشرين ألفاً قال صاحب المحل: بقي مائة ريال، قال: لأي شيء؟ قال: لهذا الخاتم الذي أخذته أمك -أخذته العجوز- قال: العجائز ليس لهن ذهب، وأخذه من يدها ورماه على الطاولة. فما كان من الأم إلا أن تجرعت غصصها، وأخذت ابنه بين يديها وخرجت إلى السيارة، فأنبته زوجته، قالت: إنها ستخرج من عندنا، والزوجة لم تكن حريصة إلا على أن تمسك ابنها لها، لكن الأم ذاقت من المرارة ما ذاقت، ابنها يبخل عليها بمائة، ويعطي زوجته بعشرين ألفاً. أي ظلم هذا يا أيها الإخوة؟! قال: وعندما أنبته زوجته أخذ الخاتم، وذهب به إليها، قالت: والله لا لبست ذهبا ما حييت أبداً، ما كنت أريد سوى أن أفرح به يوم العيد مع الناس، فقتلت هذه الفرحة في نفسي، فسامحك الله. إلى أين يذهب هؤلاء يا أيها الإخوة؟! هذه صور من الواقع، وهذا جزء مما أعرف، وهذا يدل على أن هناك خلل في التربية، وخلل في البيوت، فلابد من إصلاح هذا الخلل، يصبح الابن مطواعاً، والله ما أطاع الله عبد إلا سهل له ولداً صالحاً يدعو له ويقوم على خدمته بإذنه تعالى، فضلاً من الله ومنَّة. حق الوالدين عظيم يا أيها الإخوة: يطوف أحد الطائفين في أيام الحج، وعلى ظهره أمه، ويراه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيقول لـ عبد الله: يا عبد الله! أتراني أوفيتها حقها؟ هي أمي، قال: ولا طلقة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها. طلقة واحدة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها. بروا تبروا، البر دين، البر قرضة متى ما أعطيت اليوم براً وجدت براً بإذن الله جل وعلا والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً. يذكر أهل السير أن رجلا بلغ من الكبر عتياً، فوقف عليه ابنه يخدمه حتى ملَّ منه، ثم أخذه يوماً من الأيام على ظهر دابة، وخرج به إلى الصحراء، وجاء به إلى صخرة، قال: ما بك يا بني؟ قال: أريد أن أذبحك، مللت منك، ولا أستطيع القيام بخدمتك، قال: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: لابد من قتلك، قال: إن أبيت إلا قتلي فاذبحني عند تلك الصخرة، قال: فما ضرك أن تكون هذه أو تلك؟ سأذبحك، قال: لقد ذبحت أبي عند تلك الصخرة. فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة، ولك يا بني مثلها، يقول: سيمتد بك الزمان، وسيهيئ الله لك من يذبحك عند تلك الصخرة وكل يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها. والآخر يغدو ليبر والديه، ويصل رحمه، فيبره الله جل وعلا، ويصله الله عز وجل، ويدخله فوق ذلك الجنة. شعاره: {ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها}. هاهي الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، رضعت معه في بادية بني سعد في الطائف، رضعت معه وهي لا زالت في المهد هي وإياه، وبعد أربعين عاماً تسمع بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد انتصب وأصبح رسولاً نبياً وهو في المدينة، فما كان منها إلا أن جهزت رواحلها، وجهزت كل ما تأخذه من متاع من بادية بني سعد بـ الطائف، تريد أن تذهب إلى أخيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، تقطع الفيافي والقفار، وتذهب إلى هناك. ويوم وصلت وإذا النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة يجيش الجيوش، ويدبر أمر الأمة، وإذ بـ عمر يلتقي بها فتقول: ائذن لي بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنت؟ قالت: أنا الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتني وإياه حليمة السعدية. فما كان منه إلا أن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فترقرقت عيونه بالدموع وترك مجلسه، وقام ليقابلها، تذكر الوشيجة، وتذكر تلك الرضعات، وتذكر القرابة، وتذكر صلة الرحم، وقام ليلقاها، ويعانقها عناقاً حاراً، عناق الأخ لأخته بعد أربعين عاماً، ثم يقول لها: أهلاً بك يا شيماء! -أو كما يقول- ويرحب بها، ثم يجلسها صلى الله عليه وسلم في مكانه، ثم يظللها من الشمس، ثم يسألها عن أهلها، وعن أهل بلدها، وعن ربعها هناك. ثم يخيرها فيما بعد ويقول يا شيماء: إن شئت الحياة حياتي، والموت موتي، وإلا إن شئت أن ترجعي لأهلك، فأنت بالخيار-أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاختارت أن ترجع إلى أهلها، فجهز لها ما جهز، وعادت إلى أهلها؛ ليضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في صلة الرحم لرضعات بينه وبين الشيماء، ماذا كان منه؟ كان منه أن أجلسها في مكانه، وظللها، وجعل الحياة حياته، والموت موته، خيرها بين كل شيء، برضعات بينه وبينها. فأين الذين قطعوا أمهاتهم، وقطعوا خالاتهم، وقطعوا عماتهم؟ بِمَ يلقون الله جل وعلا؟ كل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع الذكر

أحوال الناس مع الذكر والناس رجلان غاديان؛ غاد إلى حلقات الذكر، يذكر الله، تحفه الملائكة، وتتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده، وآخر معرض عن ذكر الله عز وجل فما مثل هذا إلا كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].

أحوال الناس مع الشهادة

أحوال الناس مع الشهادة غاد يغدو ليهلك نفسه، فيشهد شهادة الزور- يوم أصبحت شهادة الزور قرضة يتبادلها الناس- اشهد لي زوراً وأشهد لك زوراً، هذه عنوان غالب الناس، وما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقوم شاهد الزور من مكانه حتى تجب له النار}.

أحوال الناس مع الرزق

أحوال الناس مع الرزق وآخر يغدو: ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، بيعه حرام، وماله كله حرام، إن تصدق من هذا المال لم يقبل منه، وإن خلَّفه وراء ظهره كان زاداً له إلى النار: {إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً} ومع ذلك ولغ البعض من الناس، في الربا، واستحلوه وسموه بغير اسمه، وما علموا أن: {الربا بضع وسبعون شعبة: أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخبر: {أن درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية} والربا عمَّ وطمَّ، وسمي بغير اسمه، وتدول بين الناس، وما كأنَّا سمعنا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] ومن ذا يحارب الله ورسوله؟! تداوله من أوبقوا أنفسهم، ولو لم يكن في التعامل بالربا إلا أنه لا ترفع لهذا العبد دعوة لكفى بذلك زاجراً. والآخر يغدو ليعتق نفسه، يبحث عن اللقمة الحلال- وهي نادرة- فمطعمه حلال، ومشربه حلال، وغذي بالحلال، ذاك يغدو ليهلك نفسه، وهذا يغدو ليعتق نفسه. هاهو أبو بكر-رضي الله عنه- يأتيه غلام بطعام فيأكل منه لقمة واحدة، ثم يسأله: من أين لك هذا الطعام؟ قال: من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية. ثمن لكهانة! فما كان منه إلا أن وضع إصبعيه في فمه يريد أن يخرج ما أكل، وكادت تخرج روحه وما خرجت، فلاموه، فقال: والله! إن لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به}. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أحوال الناس مع أعراض المسلمين

أحوال الناس مع أعراض المسلمين وذاك يغدو: ليهلك نفسه فيسلط لسانه على عباد الله؛ يغتابهم ويبهتهم في غيابهم، ناسياً قول الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوم عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس، ويأكلون أعراضهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والآخر يغدو ليدافع عن أعراض المسلمين، ليرد عن أعراض المسلمين فيرد الله عن وجهه النار يوم القيامة. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. وذاك يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة، والوشاية، ناسياً قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام}. والآخر يغدو للإصلاح بين الناس فأجره على أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده.

أحوال الناس مع الغناء

أحوال الناس مع الغناء وذاك يغدو ليهلك نفسه، ويقسي قلبه بسماع الغناء الماجن، الذي حرمه الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] وكأنه لم يسمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف}. والمعازف جميع آلات اللهو بأنواعها، ومع ذلك نشتري الخنا بدراهمنا وأموالنا، وندخله إلى بيوتنا لتتفسخ الأسر، ولتتحلل الأسر، وبأموالنا نضعه في بيوتنا، فيخرج الأبناء منها عققة، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام. والآخر يغدو ليسمع آيات الله، ليسمع كلام الله عز وجل يقرع قلبه، فيلين قلبه، وتدمع عينه، ويطيع ربه، ويدخر الله له غناء ليس كهذا الغناء، غناء الحور العين في جنة عدن، عند مليك مقتدر. وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. والكلام يطول في هذه العبارة. فيا من غدا لإعتاق نفسه! جِد واجتهد، واغتنم، ولا تأمن، وسل الله الثبات حتى الممات، وأكثر من قول: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك. ويا من غدا لإهلاك نفسه وإيباقها! وأمهله الله عز وجل دعوة لك، ودعوة إلى كل من أمهله الله عز وجل: عد إلى الله، بادر في فكاك نفسك ورقبتك من النار في زمن الإمكان، عد إلى الله تجد الله تواباً رحيماً، هو القائل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] هو القائل تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] ونعم الجزاء جزاؤهم، هو القائل: {يا بن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة} {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها}. هو القائل: {يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم}. هو الرحيم تبارك وتعالى، هو من سبقت رحمته غضبه تبارك وتعالى وإليكم هذا الحديث: جاء سبي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين السبي امرأة والهة على ولدها، ضيعت ولدها، رسول الله يراقبها، تبحث بين الأولاد عن ولدها، تأخذ هذا وترمي هذا، وعندما وجدت ولدها أخذته وضمته على صدرها، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا والله، وهي تستطيع ألا تطرحه، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}. فيا من رحمته وسعت كل شيء: ارحمنا برحمتك.

صورة لغاد في إعتاق نفسه

صورة لغاد في إعتاق نفسه أخيراً أيها الإخوة قد غدا الغادون، فمن غدا لإيباق نفسه؛ ومن غدا لإنقاذها. وهذه صورة أختم بها هذه المحاضرة، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها. شاب من الشباب -ذكر أحداث هذه الحادثة الشيخ أحمد الطويل حفظه الله- كانت أحداثها في مدينة الرياض شاب بين الثلاثين والأربعين، ما عرف قدر نعمة الله عز وجل عليه، هذا الشباب ما ينام ليلة إلا على كأس خمر، أو على زنا، ويشاء الله -عز وجل- أن يتزوج، وتكون له ابنة، وظنوا أنه يوم تزوج أنه سيعود إلى الله -عز وجل- وسيرجع إلى الله -عز وجل- وسيكتفي بالحلال الذي بين يديه عن الحرام، لكنه كان يترك زوجته ويذهب يبحث عن الحرام، يقول: لا أنام ليلة من الليالي إلا على زنا، أو على كأس خمر، وكان أن تواعد مع أصحابه بعد أن جاءت له طفلة، فما كانت تراه أبداً، ترعرعت وهي لا تراه أبداً، بالليل مع قرناء السوء، وفي النهار في عمله، فلا تكاد تراه إلا قليلاً، وبلغت الخامسة من عمرها لا تعرف أباها إلا نادراً. وما كان منه في ليلة من الليالي إلا أن تواعد مع قرناء السوء- الذين أفسدوا شباب الإسلام- تواعدوا على أن يجتمعوا على شرب الخمر، ويشاء الله عز وجل أن يتخلف عنهم، يوم أراد الله عز وجل أن يعتق نفسه، فتخلف عنهم قال: فذهبت أبحث عنهم يمنة ويسرة فما وجدتهم، ووالله ما كان ذلك حباً فيهم، ولكني أقول: كيف أبات ليلة من الليالي لا أشرب كأس خمر؟ ولمَّا لم يجدهم ذهب إلى قرين سوء آخر، لديه بضاعة من نوع آخر؛ وهي الأفلام الخليعة، ذهب وأخذ فيلماُ خليعاُ، يقول: يستحي إبليس من رؤية هذا الفيلم، قال: ورجعت إلى بيتي في الساعة الثانية ليلاً في ساعة يتنزل فيها الرب تبارك وتعالى فيقول: {هل من مستغفر فأغفر له؟} دموع الطائعين الذين يريدون إعتاق أنفسهم تهراق على وجوههم من خشية الله في تلك الساعة، والعاصون الموبقون لأنفسهم يرضعون المعاصي في تلك الساعة. قال: دخلت البيت ونظرت لزوجتي وابنتي فإذا هما نائمتان، قال: فدخلت غرفة فيها هذا الجهاز جهاز الفيديو الذي لطالما أفسد بيوت المسلمين، ومع ذلك نشتريه بأموالنا ونجعله قنبلة موقوتة في بيوتنا، الله أعلم متى تنفجر قال: وأدخل وأضعه في الجهاز، وأبقى لأستمع وأرى، قال: وإذ بالباب يُفْتح، قال: دهشت وخفت، وقلت: من يدخل عليَّ في هذه الساعة؟ قال: ونظرت فإذا هي ابنتي الصغيرة، تنظر إليَّ بنظرات حادة، نظرات قاسية، وتقول: عيب عليك يا والدي اتق الله! قال: ثم رجعت، فدهشت وتحيرت وقلت: من أنطقها؟ من علمها؟ بقيت في حيرتي، قال: فقمت ونظرت إليها فإذا هي نائمة، وأمها نائمة. قال: ورجعت وأقفلت هذا الجهاز، وخرجت أهيم في الشارع، وإذ بمنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر - نداء يحرمه كثير من الغافلين في تلك اللحظة، نداء صلاة الفجر- يوم سمع هذا النداء قال: فاستجابت نفسي للذهاب إلى المسجد، قال: فذهبت، ودخلت دورات المياه، وتوضأت واغتسلت، ودخلت مع الإمام، وعندما سجدت انفجرت بالبكاء، قال: وانتهت الصلاة، فقال صاحبي الذي بجانبي: ما يبكيك يا أخي؟ قال: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي - لا إله إلا الله! سبع سنوات لم يسجد فيها لله سجدة، بأي وجه يلاقي ربه- فعزاه هذا، وقال: الله تواب رحيم، عد إليه تجده تواباً رحيماً، خرج الناس من المسجد، وبقي في مكانه لم يخرج، تذكر ذنوبه، وتذكر فضائحه، وتذكر جرائمه. وحان وقت الدوام، وذهب إلى دوامه، فدخل على زميل له صالح لطالما نصحه، ولطالما حاول أن يعيده إلى الله فما أفلح، وإذ به يدخل عليه قال: والله! إنك بوجه غير الذي أعرفه منك، قال: إن نبأي عظيم، وخبري عجيب، وأخبره بقصته مع ابنته، ثم قال له: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك وأنطقها، فوالله ما أنطقها إلا رب الأرباب، ولم يرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك، وأنت على الحالة التي تعرف. ثم استأذن وذهب، وأراد أن يذهب إلى البيت لكنه ما ذهب إلى البيت، بل ذهب إلى مصلى الدائرة التي يعمل فيها، وبقي يصلي، به شوق عظيم إلى الصلاة، ونزل هذا الزميل في وقت صلاة الظهر، وإذ به أمامه يصلي، قال: ما بك؟ ألم تذهب لترتاح؟ قال: يا أخي! إن بي شوقاً عظيماً للصلاة، سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي؟! ويذهب إلى بيته، ويتواعد مع زميله على أن يتجاذبا أطراف الحديث بعد صلاة العشاء، ويذهب إلى البيت، فما رأى ابنته أبداً، دخل إلى البيت وإذ بزوجته تصرخ وتبكي وتقول: ابنتك ماتت، فينفجر من البكاء، ويتردد وينهار ويردد مقالتها: عيب عليك يا والدي اتقِ الله! ثم يتصل بزميله، ويأتي ويغسلونها، ويذهبون بها إلى المقبرة، بعد أن صلوا عليها صلاة العصر قال: وعندما وصلنا إلى المقبرة قال زميله: خذ ابنتك وضعها في لحدها، وكأنه يقول له: موعدك أيضًا هذا اللحد، فأخذ ابنته بين يديه، ثم دخل ليضعها في اللحد ودموعه تقطر على وجنتيه: وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيلُ فتقطرُ روحه تسيل من دمعه، قال بصوت حزين أبكى جميع من حضر الدفن: أنا والله لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور. هذه البنت ردته إلى الله جل وعلا بإذن ربه، أرته نور الهداية بعد أن كان في الضلالة والغواية. فيا من أخطأ! ويا من أسرف! -وكلنا ذلك المخطئ، وكلنا ذلك المسرف-: لنعد إلى الله فنعتق أنفسنا. اللهم إنا نسألك أن تيسر الهدى لنا، وأن تهدي بنا، وأن تهدينا. يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كلنا ذوو خطأ

كلنا ذوو خطأ إن استشعار معية الله وعظمته لها أثرها الجلي في حياة الفرد والمجتمع، إذ أن الإنسان مجبولٌ على الخطأ والزلل والتقصير، فكلما مسه طائف من الشيطان أو انتابته غفلة أو تقصير تذكر عظمة الله فأقبل على مولاه، فتجده لا يفتر عن صلاة وصيام وقيام، ولنا في سلفنا الصالح قدوة ونموذج في التوبة والإقبال على الله، وفي هذا العصر أيضاً مبشرات ونماذج مشرقة في العودة إلى الله.

أهمية استشعار عظمة الله في حياة المسلم

أهمية استشعار عظمة الله في حياة المسلم الحمد لله الواحد الأحد الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التَّوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويغفر للمخطئين المستغفرين، ويقيل عثرات العاثرين، ويمحو بحلمه إساءة المذنبين، ويقبل اعتذار المعتذرين، لا إله إلا هو إله الأولين والآخرين، وديَّان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون. اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم يجمعنا بكم سرمدية أبدية في جنات ونهر بحبكم فيه. واسأله أن يظلنا وإياكم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك، اللهم لا تعذب أعيناً ترجو لذة النظر إلى وجهك، يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! اللهم كلنا ذوو خطأ، وما لنا إلا عفوك وحسن الظن بك، وحب من تحب، فأقل عثراتنا، وتجاوز عن أخطائنا، وأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني ومالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني اللهم اجعلني خيراً مما يظن الظانُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤآخذني بما يقولون. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت. أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. راقبوا الله جل وعلا فما راقبه عبد وزل وأخطأ إلا آب وعاد وحاله: رحماك يا رب رحماك رب يا رب ويا رب الورى ما ترى في عبد سوء ما ترى خلق الله السماوات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وفي مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحاح: أن ما بين الأرض وما بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه ربنا سبحانه وبحمده بائن من خلقه، مستو على عرشه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] متى ما علمت هذا واستشعرته فأنت من المتقين. إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

صور من أحوال السلف مع الله

صور من أحوال السلف مع الله

خوف عمر بن الخطاب من الله ومراقبته له

خوف عمر بن الخطاب من الله ومراقبته له ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار، وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه وهو لا يراه، وإذا بـ عمر يقف وقفة محاسبة، ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول: [[عمر أمير المؤمنين! بخ بخ، والله لتتقيّن الله يا عمر! أو ليعذبنك الله، والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]]. عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرص الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، ويقف على رأسه ويقول: يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه وكن لنا في ذا الزمان جنه أقسم بالله لتفعلن قال: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأمضين قال: وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال: والله عنهن لتسألن يوم تكون الأعطيات منه وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما إلى جنه فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه، ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع رداءه وقال: خذ هذه يوم تكون الأعطيات منة، وموقف قف المسئول بينهن، إما إلى نار وإما جنة. هكذا تكون مراقبة الله عز وجل وهكذا تكون تقوى الله عز وجل.

خوف عمر بن عبد العزيز من الله

خوف عمر بن عبد العزيز من الله وعمر الثاني عمر بن عبد العزيز وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ويفيء الله على المسلمين فيئاً وهذا الفيء تفاح، فأراد أن يقسمه على الرعية، وبينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه -طفل صغير- فأخذ تفاحة ووضعها في فمه، فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه، واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح، والطفل يبكي -ابن عمر يبكي- ويخرج ويذهب إلى أمه يذكر لها الحادثة. فترسل غلاماً من البيت ليشتري لهم تفاحاً وعمر بن عبد العزيز يقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة، ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته، فيقول: [[من أين لكم هذا ووالله ما جئتكم بتفاحة واحدة؟]] فأخبرته الخبر، قالت: جاء ابنك يبكي، فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح، قال: [[يا فاطمة! والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء]]. هكذا تكون مراقبة الله جل وعلا، وهكذا تكون تقوى الله جل وعلا، وبها النجاة: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} [الزمر:61]. ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع، ما راقب عبد ربه فزلت به قدمه فأخطأ، فارتكب فاحشة إلا عاد نادماً حسيراً كسيراً؛ فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه.

بيان عظم رحمة الله بعباده

بيان عظم رحمة الله بعباده الله عز وجل رحيم بل هو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه سبحانه وبحمده، له مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم ناطقهم والأعجم، صغيرهم والكبير، حتى إن الدابة لترفع رجلها لوليدها ليرضع منها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة عنده سبحانه وبحمده، فيتطاول إبليس ويظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك. اسمع لنبيك صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري يوم يأتيه سبي وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته، لا تلوي على شيء، كلما وجدت طفلاً قلبته ونظرت فيه فإذا به ليس طفلها، ثم تجد ابنها بعد مشقة وعناء فتلصقه ببطنها وترضعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يرقبون الموقف، وإذا بها تذرف الدموع -دموع الفرح- على ابنها وهو على ثديها، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قال الصحابة: لا والله يا رسول الله. فقال رسول الله: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}. يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50]. أحبتي في الله: كثيراً ما يضل الإنسان في الطريق، وينحرف عن الجادة، بوازع الجهل والهوى أحياناً واستجابة لإغراء عابث أحياناً، أو لشهوة جامحة قوية، الأمر الذي يهبط بمستواه الإنساني ويحول بينه وبين الطهر والتسامي؛ فتسقط قيمته، وينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة والعار، تتجه قواه كلها إلى إشباع غرائزه وإيثار لذائذه؛ فيسقط إلى منزلة البهيمة، حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع، وبعين لا تبصر، وبقلب لا يفقه، تجده بهيمة في مسلاخ بشر، والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيها قواه، ويغفو فيها ضميره، وتستيقظ غرائزه؛ فيسقط صريع الهوى والشهوة والشبهة، فيا له من سقوط، ويا لحقارتها من لذة مؤقتة تورث النار. تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وكلنا ذوو خطأ! والمعصوم من عصمه الله جل وعلا، على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكاً كريماً، ولم يخلق بشراً معصوماً، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة، وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم -كما قال ابن القيم -عليه رحمة الله- و {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}. كلنا ذوو خطأ! في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم}، فلابد من الخطأ، ولابد من التقصير، وكلنا ذوو خطأ! من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نار تفوح بلا دخان لكن إياك أن تبقى على الخطأ! إياك أن تدوم على المعصية! فإن المعصية شؤم، وإن المعصية عذاب، وإن المعصية وحشة، وإن المعصية غضب من الله الواحد الديان، وقد يحبس عن أمة خير بمعصية من فرد واحد لم يأمروه ولم ينهوه، نسأل الله ألا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.

بيان شؤم المعصية على الفرد والمجتمع

بيان شؤم المعصية على الفرد والمجتمع هاهم بنو إسرائيل -كما في كتاب التوابين لـ ابن قدامة - يلحق بهم قحط على عهد موسى عليه السلام، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا: يا نبي الله! ادعُ لنا ربك أن يسقينا الغيث. فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُتَّع، والشيوخ الرُّكَّع، فما ازدادت السماء إلا تقشعاً، ذهب السحاب الذي في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة، فقال: يا رب! استسقيناك فلم تسقِنا، فقال: يا موسى إن فيكم عبداً يبارزني بالمعصية منذ أربعين عاماً، فمُرْهُ أن يخرج من بين أظهركم؛ فبشؤم ذنبه مُنِعْتم القطر من السماء، قال: يا رب! عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، أين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه -سبحانه وبحمده-: منك النداء وعلينا البلاغ. فقام ينادي في سبعين ألفاً، قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي بارز الله بالمعصية أربعين عاماً! اخرج من بين أظهرنا؛ فبشؤم ذنبك مُنِعْنَا القطر من السماء، فيوحي الله إلى موسى أنه تلفت هذا العبد يميناً وشمالاً لعله يخرج غيره، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا جميعاً بالقحط والجدب. فماذا كان منه؟ ما كان منه إلا أن أدخل رأسه في ثيابه، وقال: يا رب! عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعاً تائباً نادماً، فاقبلني واسترني بين الخلق هؤلاء يا أكرم الأكرمين! فلم يستتم الكلام حتى علتْ السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال كليم الله لربه: يا رب! سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد. فقال: يا موسى! أسقيتكم بالذي منعتكم به -بنفس العبد الذي منعتكم به أسقيتكم به- قال: يا رب! أرني هذا العبد الطائع التائب النادم، قال: يا موسى! لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟! يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره لا إله إلا الله! ما أرحم الله! ما أحلم الله! هو القائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ما جزاؤهم؟ {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مغْفِرَةٌ من ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] هو القائل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخَطَا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، هو القائل كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} هو القائل في كتابه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]. ما أكرم الله جل وعلا! ما أكرم الله سبحانه وتعالى! {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] ولن يهلك على الله إلا هالك. فيا مخطئاً! وكلنا ذوو خطأ، ويا من سقط في المعصية! وكلنا ذاك الرجل؛ ويا من زلَّتْ قدمه! وكلنا ذاك الرجل؛ صحح أخطاءك، وعالج أمراضك، وغسِّل نفسك مما قد ران عليها، واستأنف الحياة في ثوب التوبة النقي النظيف، واسمع لداعي الله جل وعلا يوم يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. توضأ بماء التوبة اليوم نادماً به ترق أبواب الجنان الثمانيا

نماذج من التوبة في السلف الصالح

نماذج من التوبة في السلف الصالح كلنا ذوو خطأ! والله يمهل ولا يهمل، ويحب التوابين والمتطهرين، ولذلك فتح باب التوبة أمام المخطئين ليتوبوا ويئوبوا ويعودوا إلى رشدهم، فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطيئة، وموبقة وصغيرة وكبيرة؛ فله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

قصة رجل من بني إسرائيل

قصة رجل من بني إسرائيل هاهو كما في البخاري: رجل من بني إسرائيل، أسرف على نفسه كثيراً، وهو موحد لم يشرك بالله جل وعلا، قتل وزنا، وسرق وغش، وكذب واحتال، وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع أبناءه في تلك الساعة، ساعة لا ينفع فيها مال، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيراً قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ ناراً، ثم ألقوني في النار حتى أصير فحماً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح. فمات فنفّذوا وصيته وأضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحماً، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، وتفرق على ذرى الجبال، وعلى رءوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد والأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده. قال الله له: كن؛ فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة. فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! {وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رحِيماً} [النساء:110] وكلنا ذوو خطأ!

قصة العابد والمرأة البغي

قصة العابد والمرأة البغي هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار. ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل. فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالساً. قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه؟ قال: بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها. أما هو فذهب وخرج نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب. أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين -. فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين. فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نئوب. أيها الأحبة. قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب، إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها سبحانه وبحمده القائل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ خالف هواك إذا دعاك لريبة فلرب خير في مخالفة الهوى حتى متى لا ترعوي يا صاحبي حتى متى وإلى متى وإلى متى

قصة أبي محجن رضي الله عنه

قصة أبي محجن رضي الله عنه هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو محجن الثقفي، ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه تمادى في شرب الخمر، في تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل لامرأة سعد بن أبي وقاص، وقد كان مسجوناً في بيت سعد، قائلاً: يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخُلي عني، وتعيريني البلقاء -فرس سعد بن أبي وقاص - فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول: كفى حزناً أن تُردي الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلِّقت مصارع دوني قد تصمُّ المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا فلله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا فقالت سلمى: لقد اخترت الله، ورضيت بعهدك. فأطلقته، وأعطته فرس سعد الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحاً. فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفاً عظيماً، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد. ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى هُزم أعداء الله عز وجل، ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وجاء سعد، فقالت امرأته: هنيئاً لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقوا، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، قالت: والله إنه لـ أبي محجن، وذكرت له ما كان من أمره. فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبداً، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبداً، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبداً. فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا} [البقرة:268] فمن تجيب أخي المسلم؟ العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذَلَّه الله

توبة الغانية التي أرادت إفساد الربيع

توبة الغانية التي أرادت إفساد الربيع هاهو شاب قوي وسيم -وأنا لا أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111]- شاب قوي وسيم حييٌّ، عالم، في أوْج شهوته وشدة شهوته، لكن شهوته مربوطة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عمره لا يجاوز الثلاثين؛ هو الربيع بن خثيم، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد الربيع فقط، بل هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار. تواصوا على إفساد الربيع، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله عز وجل، تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت، أو في أي زمان كنت: {اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44]. وكلنا ذوو خطأ! لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحتقر ذنباً، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر: {وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره} يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك للصحابة والتابعين. أيها الحبيب! إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله سبحانه وبحمده، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده. فيا أيها المخطئون! إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه. خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُّقَى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندماً يورث العين دمعاً، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعته، لو قال: في الدنيا يا رب لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدي، أشهدكم أني قد غفرت له. وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذوو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسئولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحاً، وتراه مسروراً، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلاً حسيراً وَجِلاً خائفاً كسيراً مهاناً: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40] شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. يا من قسا قلبه! ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلّا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله عز وجل لهم؟ لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك قريباً ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة القبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران إن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده وإن يك شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد

قصة دينار العيار

قصة دينار العيَّار هاهو دينار العيَّار: كان مسرفاً على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة، فتذكر مصيره، وتذكر نهايته، وتذكر أنه على الله قادم، أخذ عظْماً نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفس! كأني بك غداً قد صار عظمك رفاتاً، وجسمك تراباً، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار! ألك قوة على النار؟ يا دينار! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟! وظل على ذلك أياماً، يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلاً، فقال: يا أماه! دعيني أتعب قليلاً لعلي أستريح طويلاً، يا أماه! إن لي موقفاً بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناءً لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه. قالت: بنياه! أكثرت من إتعاب نفسك. قال: راحتها أريد، يا أماه! ليتك كنت بي عقيماً، إن لابنك في القبر حبساً طويلاً، وإن له من بعد ذلك وقوفاً بين يديْ الرحمن طويلاً، وتمر ليالٍ فيقوم ليلة بقول الله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشياً عليه. فيا مخطئاً -وكلنا ذوو خطأ-: {أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16].

قصة مالك بن دينار

قصة مالك بن دينار هاهو مالك بن دينار -كما يذكر أهل السِيَر-: كان شرطياً من شُرط بني العباس، وكان يشرب الخمر، وكان صادّاً نادّاً عن الله عز وجل، ويشاء الله عز وجل أن يتزوج بامرأة أحبها حباً عظيماً، لكنه كان لا يترك الخمر، يشربها في الصباح والمساء. ويشاء الله عز وجل أن يرزق بمولودة من هذه المرأة، فما كان منه إلا أن ملكت عليه لبه هذه الطفلة، وملكت عليه لبه، وملكت عليه قلبه، فكان لا ينتهي من عمله حتى يأتي إليها ليداعبها ويمازحها، وكان يؤتى بالخمر، فإذا رأته يشرب الخمر ذهبت وكأنها تريد أن تعتنقه، فأسقطت الخمر من يده وكأنها تقول: يا أبت اتقِ الله! ما الخمر لمسلم أبداً. هكذا حالها معه، وفي يوم من الأيام يأتي من عمله ويأتي ليداعبها ويلاعبها ويرميها فتسقط ميتة، فيحزن حزناً عظيماً، ويجِدُ عليها وَجْداً عظيماً، فما كان منه في تلك الليلة -كما يخبر عن نفسه- إلا أن شرب الخمر، ثم شرب ثم شرب حتى الثمالة، قال: ثم نمت في تلك الليلة وبي من الهمِّ ما لا يعلمه إلا الله، قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من القبور حفاة عراة غرلاً بُهماً، يدوك الناس في عرصات القيامة، وإذ بهذا الثعبان العظيم فاغراً فاه، يقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعهم، ويأتي إليَّ يريد أن يبتلعني، قال: وأهرب منه ويطاردني، وأهرب منه ويطاردني، كاد قلبي أن يخرج من بين أضلاعي، وإذا أنا بهذا الشيخ الحسن السَّمْت، الرجل الوقور، قال: فتقدمت إليه فقلت: بالله عليك أنقذني، قال: لا أستطيع، ولكن اذهب إلى من ينقذك. قال: فبقي يطاردني، فما وقفت إلا على شفير جهنم قال: فبقى من ورائي، وجهنم من أمامي. قال: فقلت أرمي بنفسي في جهنم، وإذا بهاتف يهتف، ويقول: ارجع، لست من أهلها. قال: فرجعت لأدوك في عرصات القيامة وهو ورائي يطاردني، ورجعت إلى ذلك الشيخ الوقور، فقلت له: أسألك بالله أن أنقذني أو دلني، قال: فأما إنقاذك فلا، ولكني أدلُّك على ذلك القصر، لعل لك فيه وديعة. قال: فانطلقت إلى القصر، وهو لا يزال يطاردني، قال: وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، وإذا بالسُتُر ينادي بفتحها: افتحوا السُتُر، قال: ففتحت الستر عن أطفال مثل فلق القمر، وإذا بكل واحدة وواحد ينظر إلى هذا المنظر المهول، وإذا بابنتي من بينهن تقول: أبتاه! ثم ترمي بنفسها من القصر بيني وبين الثعبان، قال: ثم تقول للثعبان بيمناها -هكذا- فينصرف. فتضرب على لحيتي، ثم تضرب على صدري، وتقول: أبتاه! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قلت: بل آن! بل آن! ثم قلت: ما ذاك الثعبان؟ قالت: ذلك عملك السيء كاد يرديك في جهنم، قال: وما ذلك الشيخ الوقور؟ قالت: ذلك عملك الحسن ضعفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيء، قال: ثم تضرب صدري ثانية، وتقول: أبتاه! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحديد:16]. قال: ففزعت من نومي، وقلت: بل آن! بل آن! قال: ثم توضأت، ثم انطلقت إلى المسجد، فذهبت لأداء صلاة الفجر، قال: وإذا بالإمام يقرأ الفاتحة، ثم يبدأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فقلت: والله ما كأنه يعني إلا إياي. فيا أيها الأحبة: أعمالكم أعمالكم، أعماركم أعماركم. كلنا ذوو خطأ! كلنا ذوو خطأ! ها هو عبد من بني إسرائيل أطاع الله أربعين عاماً، ثم انقلبت هذه المضغة فانتكس ورجع وارتد على عقبيه فعصى الله أربعين عاماً أخرى فقال: وقد رفع يديه إلى الله: يا رب! أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل لي من توبة إن أنا تبت وأُبْت وعدت إليك يا رب؟ قال: فسمعت هاتفاً يهتف ويقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك. فلا إله إلا الله، ما أحلم الله بعباده! ما أرحم الله بعباده! ما ألطف الله بعباده! أسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته.

حال سلفنا مع قيام الليل

حال سلفنا مع قيام الليل هاهم سلفنا -أيها الأحبة- قلوبهم بالخوف وجلة، وأعينهم باكية، يقول قائلهم: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى الصراط مرورنا، والوقوف بين يدي الله مشهدنا، كيف نفرح؟! {كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. يأتي أحدهم إلى فراشه فيلمسه في الليل، فإذا هو ناعم لين، فيقول مخاطباً فراشه: يا فراشي -والله- إنك لليِّنٌ، ولكن فراش الجنة ألْيَنُ. ثم يقوم ليله كله حتى يصبح: {كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. يناجي أحدهم ويقول: يا قوم -والله- لا أسكن ولا يهدأ روعي حتى أترك جسر جهنم ورائي، والله لا أهدأ ولا أسكن حتى أترك جسر جهنم ورائي. ويجب أن نكون كذلك. كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وكادت أن تنخلع خوفاً من الله جل وعلا، خافوا الله جل وعلا فأمَّنَهم؛ فهو القائل كما في الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفيْن، ولا أجمع له أمنيْن؛ إن أمنني في الدنيا خوَّفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:28]. كان لسان حال الواحد من سلفنا وهو يناجي ربه في ثلث الليل الآخر، ثلث الآيبين ثلث التوابين ثلث المستغفرين، ثلث المخطئين ثلث النادمين الذي ضيعناه، والذي سهرنا إلى تلك اللحظة ثم رمينا أنفسنا كالجِيف، ونسأل الله أن يعاملنا برحمته، وإن عاملنا بعدله لعذبنا، ثم لم يظلمنا سبحانه وبحمده، كان لسان حال الواحد منهم: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه بكشف الضر أعتمدُ أشكو إليك ذنوباً أنت تعلمها مالي على حملها صبر ولا جَلَدُ وقد مددت يدي بالذل معترفاً إليك يا خير من مدَّت إليه يد فلا تردَّنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل مَن يرِدُ

حال الأمة في ليلها ونهارها

حال الأمة في ليلها ونهارها هذه حال سلفنا، فما حالنا يا أيها الأحبة؟ ما حالنا في ليلنا؟ وما حالنا في نهارنا؟ أما ليلنا -إلا ما رحم الله- فعلى الأغنيات والمسلسلات والتمثيليات، وعلى الأفلام، وعلى قيل وقال إلى الثلث الذي ينزل فيه الرب سبحانه نزولاً يليق بجلاله، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وفي تلك اللحظة نحن على قسمين -أيضاً- منَّا مَن هو كالجيفة البطَّال، ومنَّا من لا زال مواصلاً في غيِّة وظلمه، يدعوه الله إلى التوبة وهو مازال على فسقه وعلى فجوره، أما يخشى أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} [هود:108]. يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

قصة رياح بن عمر القيسي

قصة رياح بن عمر القيسي كيف كان ليل سلفنا؟ هاهو أحدهم؛ وهو رياح بن عمر القيسي عليه رحمة الله، أحد التابعين، تزوج امرأة صالحة، وأراد أن يختبرها، هل هي من اللاتي ركن إلى زخارف الدنيا؟ هل هي الصائمة القائمة أم هي المشغولة بقيل وقال وبالأزياء والموديلات وما أشبه ذلك من زخارف الدنيا؟ يوم جاء الصباح ما كان منه إلا أن رآها تعجن عجينها، وتعمل عمل البيت وتقم ببيتها، فقال: يا دؤابة -واسمها دؤابة - أتريدين أن أشتري لك أَمَة لتخدمك؟ قالت: يا رياح! إني تزوجت رياحاً، وما تزوجت جباراً عنيداً. ثم جاء الليل، فقام يتناوم، فقامت ربع الليل الأول، وقالت له: يا رياح! قم. قال: أقوم. ثم نام مرة أخرى، فقامت الربع الثاني، وقالت: يا رياح! قم. فتناوم -أيضاً- مرة أخرى، ثم قامت ربع الليل الثالث، ثم قالت: يا رياح! قم. فقال: أقوم. ولم يقم، فقالت: يا رياح! قد فاز المحسنون، وعسكر المعسكرون، يا ليت شعري من غرَّني بك؟! يا ليت شعري من غرني بك؟! تقول: اغتررت فيك ووقعت بإنسان لا يقوم الليل، مع أنه يقوم الليل، ولكنه أراد أن يختبرها. فهل جعلنا لثلث الليل الآخر منا ولو ركعتين؛ علّ الله أن ينظر إلينا بنظرة رحمة، وبنظرة عطف؛ فيرحمنا في الدنيا والآخرة؛ فنسعد في الدنيا والآخرة سعادة الأبد. نسأله سبحانه وبحمده أن يجعلنا من المرحومين المغفور لهم. أما في النهار فما حالنا؟ منا -والله أيها الأحبة- مَن يخرج الصباح مِن بيته فيبحث عن الحرام أنى كان فيجمعه فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام. فما حال سلفك يا عبد الله؟ إن امرأة من السلف يوم يخرج زوجها في الصباح تقول له: اتقِ الله ولا تطعمنا إلا حلالاً، فإنا نصبر على الجوع، لكنا لا نصبر على النار، فهل قال لنا نساؤنا كذلك ونحن نخرج؟ يا أيها الأحبة! بعد هذه الأعمال، وبعد هذا الليل المخزي، وبعد هذا النهار المخزي، نرجو النجاة؟! ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَس ركوبك النعش ينسيك الركوب على ما كنت تركب من بغل ومن فرس يوم القيامة لا مال ولا ولد وضمَّة القبر تنسي ليلة العرْس

تربية الأمة لأبنائها

تربية الأمة لأبنائها أبناؤنا كيف نربيهم؟ ربيناهم تربية مادية، وهيَّأناهم تهيئة مادية، فجعل الواحد همَّه في سيارة وفي ثوب وفي زخرف من زخارف الدنيا وفي قصر، ونسي قصور الجنة، وأنهار الجنة، ونعيم الجنة، أشغلناه بهذا عن ذاك، ربيناه تربية البهائم، سمَّنَّاه كما تُسمَّن العجول، ثم ماذا يكون؟! هل هذه هي المسئولية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقك: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} هيَّأنا لهم كل مادة، لكنا لم نرب أرواحهم، ثم نرجو نجاتهم، فوالله ما مثلنا إلا كقول القائل: ألقاه في الماء مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

قصة خيثمة بن الحارث وابنه

قصة خيثمة بن الحارث وابنه أما أبناء سلفنا فكيف كانوا؟ -سأضع لكم نموذجاً، كيف كان السلف يربون أبناءهم؟ وكيف كانوا يتعاملون معهم؟ وكيف تربوا فأصبح الطفل منهم كالرجل منا، بل كالعابد الزاهد منا. هاهو خيثمة بن الحارث -عليه رضوان الله ورحمته- ما كان منه يوم أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للنُفرة إلى غزوة بدر إلا أن جاء إلى ابن له اسمه سعد -ابن صغير- وكان معه من النساء الكثير، ومعه من البنات والأخوات يعولهن هذا الرجل الكبير خيثمة بن الحارث فقال لابنه سعد: يا بني! تعلم نساءنا، وليس لهن من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن وأذهب لأجاهد في سبيل الله جل وعلا، قال: [[يا أبتاه! للنساء رب يحميهن، والله ما تطمع نفسي في هذه الدنيا بشيء دونك، لكنها الجنة يا أبتاه، والله لو كان غير الجنة لآثرتك به]]. وانطلق يجاهد في سبيل الله، وجلس الأب الكبير مع هؤلاء النساء، وقُتِل هذا الطفل شهيداً -بإذن الله- في سبيل الله، ويوم جاء الخبر أباه في اليوم الثاني قالوا له: لقد قتل ونحتسبه شهيداً عند الله -جل وعلا- فما كان منه إلا أن قال: [[أواه أواه، والله لقد فاز بها دوني، والله لقد كان أعقل مني، لقد رأيته البارحة يسرح ويمرح في أنهار الجنة وثمارها وأزهارها، ويقول: يا أبتاه! الْحَقْ بنا، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]]. إن مع الظلام الذي نراه الآن، فهناك بشائر -ولله الحمد- والباب مفتوح يا أيها الأحبة! ولن يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها أو غرغرة الروح في الحلقوم.

نماذج من التوبة في العصر الحاضر

نماذج من التوبة في العصر الحاضر المبشرات كما قلت كثيرة وكثيرة ولله الحمد، والصور المضيئة كثيرة وكثيرة، والخير في الأمة لا زال ولن يزال بإذن الله إلى قيام الساعة: {لا تزال طائفة على الحق منصورة} ولولا هذه المبشرات لضاقت علينا الأرض بما رحبت، ولكن من فضل الله -سبحانه وتعالى- علينا. كانت النماذج -يا أيها الأحبة- من الماضي، فإليكم النماذج من الحاضر، وهي مبشرات أقولها لكل من آلمَه ما يرى من تدهور حال الأمة المسلمة وذهابها إلى الهاوية، هناك بشائر تبشر وسأذكر لكم بعض الأمثلة على ذلك:

عابدة في الرياض

عابدة في الرياض هاهي عجوز بلغت الثمانين من عمرها في مدينة الرياض، هذه العجوز جلست مع النساء فرأت أنهن لا ينتفعن بأوقاتهن، جلساتهن في قيل وقال، في غيبة ونميمة، في فلانة قصيرة وفلانة طويلة وفلانة عندها كذا، وفلانة ليس عندها كذا، وفلانة طُلقت، وفلانة تزوجت، كلام إن لم يبعدهن عن الله عز وجل فهو تضييع لأوقاتهن. فاعتزلت النساء وجلست في بيتها تذكر الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، وكان أن وضعت لها سجادة في البيت تقوم من الليل أكثره، وفي ليلة من الليالي -ولها ولد بار بها، لا تملك غير هذا الولد من هذه الدنيا بعد الله جل وعلا- ما كان منها إلا أن قامت لتصلي في ليلة من الليالي، وفي آخر الليل يقول ابنها: وإذا بها تنادي، قال: فتقدمت وذهبت إليها، فإذا هي ساجدة -على هيئة السجود- وتقول: يا بني ما يتحرك فيَّ الآن سوى لساني، قال: إذاً أذهب بك إلى المستشفى، قالت: لا. وإنما أَقْعِدني هنا، قال: لا. والله لأذهبن بك إلى المستشفى -وقد كان حريصاً على برِّها جزاه الله خيراً- فأخذها وذهب بها إلى المستشفى، وتجمع الأطباء وقام كل منهم يدلي بما لديه من الأسباب، لكن لا ينجي حذر من قدر. إن الطبيب بطبِّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحْبٍ قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يُبرئ مثله فيما مضى مات المداوِي والمداوَى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى حلَّلوا وفعلوا وعملوا، ولكن الشفاء بيد الله سبحانه وبحمده، قالت: أسألك بالله إلا رددتني على سجادتي في بيتي، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ويوم ذهب إلى البيت وضَّأها ثم أعادها على سجادتها، فقامت تصلي. يقول: وقبل الفجر بوقت ليس بالطويل، وإذ بها تناديني، وتقول: يا بني! أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لتلفظ نفسها إلى بارئها سبحانه وبحمده. فما كان من ولدها إلا أن قام فغسَّلها وهي ساجدة، وكفَّنها وهي ساجدة، وحملوها إلى الصلاة عليها وهي ساجدة، وحملوها بنعشها إلى المقبرة وهي ساجدة، وجاءوا بها إلى القبر فزادوا في عرض القبر لتدفن وهي ساجدة، ومن مات على شيء بُعثَ عليه، تبعث بإذن ربها ساجدة: {يُثَبِّتُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. أيعجز شبابنا، أتعجز شاباتنا، أتعجز نساؤنا، أيعجز رجالنا أن يفعلوا كما فعلت هذه المرأة؛ أن يقوموا من ليلهم ولو بعضه؛ ليقفوا بين يدي الله، ليلقوه وقد غفر لهم ما اقترفوا من إثم وخطيئة؟! أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

توبة سائق الإسعاف

توبة سائق الإسعاف المبشرات كثيرة جداً -كما قلت- أيها الأحبة: أورد صاحب كتاب قصص السعداء والأشقياء هذا الحدث وفيه عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع. سائق الإسعاف كان فظاً غليظاً، لا يتذكر إذا ذُكِّر، ولا يتعظ إذا وُعظ، يباشر الحوادث الشنيعة فيحمل أشلاء المصابين، رأس المصاب في يد، ورجل المصاب الآخر في يد أخرى، فلا يهزُّه ذلك المنظر، ولا يؤثر فيه، كان تاركاً للصلاة، مرتكباً للموبقات. ويشاء الله عز وجل -كما يقول هو- أن بُلِّغ ليلة من الليالي عن حادث من الحوادث على مدخل مدينة الرياض، قال: في الساعة الواحدة ليلاً، قال: ركبت السيارة، وانطلقت مسرعاً نحو الحادث، ووصلت إلى موقع الحادث؛ فإذا بي أجد سيارة بيضاء قد ارتطمت بأحد أعمدة الإنارة -أحد أعمدة الكهرباء- قال: وأدت إلى انطفاء الكهرباء في تلك المنطقة، قال: والغريب أني أرى نوراً خافتاً ينبعث من السيارة. قال: فانطلقت متوجهاً إلى باب السيارة، وكان في يدي سيجارة، قال: فإذا بي أرى رجلاً كَثَّ اللحية، مستنير الوجه -وجهه كأنه فلقة قمر- قد ملأ نور وجهه السيارة، وقد ارتطمت أجزاؤه السفلى بمقود السيارة، قال: فحاولت أن أعيد المقعد إلى الخلف لأنقذه، فقال: أتريد أن تنقذني يا بني؟ قلت: نعم. قال: إذا سمحت أطفئ سيجارتك، واتق الله جل وعلا. قال: فما كان مني إلا أن أطفأتها، ورجعت أحاول إنقاذه، قال: وما استطعت أن أخرجه كما ينبغي، قال: أتريد أن تنقذني فعلاً، قال: نعم. قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه} والله! يا بني لا أملك لك مكافأة على إنقاذي إلا نصيحة أوجهها إليك، فهل تقبل ذلك؟ قال: قلت: تفضل، قال: عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله، وإياك ورفقة السوء. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم مات. قال: فارتجفت مكاني، وأخذته من هناك، وأخذته في السيارة، وسلمته لقسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، قال: ولم أستطع النوم، كلماته لازالت تَرِنُّ في أذني، قال: وقمت إلى صلاة الفجر، وتوضأت وصليت، وأخبرت إمام المسجد الذي بالحي بما حصل، فقال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، وادع الله عز وجل له فخير ما تكافئه به الدعاء. ثم يقول هذا الرجل: فأسأل الله أن يرحمه، وأن يغفر له، وأن يجمعني به في الجنة: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}. أرأيتم أيها الأحبة! رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلم أنه مسئول أمام الله أن يأمر وينهي، فماذا كان منه؟ يقول له: أطفئ سيجارتك. ويقول له: اتقِ الله. وبعضنا يرى المنكرات والعظائم أمام عينه فلا تهتز فيه شعرة، ويذهب ويخرس كالشيطان لا يتكلم بكلمة، ألا فاتقوا الله، وقولوا كلمة الحق، ولا تخشوا في الله لومة لائم؛ فإن الله ينفع بها: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خير لك من حُمر النِّعم}.

توبة رجل بسبب دعوة ابنته

توبة رجل بسبب دعوة ابنته وهاهو حدث آخر حدث في مدينة الرياض، وقد نقلته قبل ذلك في محاضرة: (كل يغدو) ولكن أرى أن المقام مناسب له الآن، رجل عمره ما بين الثلاثين والأربعين، شاب في مقتبل شبابه، لا يرتاح ليلة من الليالي إلا على كأس خمر يشربها، أو امرأة يزني بها، حياته مظلمة، عربدة وفساد وعناد وبُعد عن الله الواحد الدَّيان، تمر به الأيام والليالي، ويشاء الله أن يتزوج بزوجة، وبعد زواجه يزداد طغيانه، ويزداد عصيانه، ويرزقه الله عز وجل بابنة من زوجته لتترعرع وتبلغ الخامسة من عمرها، ترعرعت وبلغت الخامسة من عمرها وهي لا ترى أباها إلا قليلاً، يسهر ليله على معصية الله، ثم يأتي مُنهكاً لينام، ونادراً ما تراه ابنته، في الليل نائمة وهو سهران على المعاصي، وفي النهار في عمله وهي في البيت. تمر الأيام وتمر الليالي فلا يزداد إلا سوءاً، وفي ليلة يتفق مع بعض قرناء السوء ليجتمعوا على شرب الخمور، ويقدِّر الرحمن أن يتأخر عن هؤلاء الرفقة السيئين، ثم يقول هو عن نفسه: ذهبت وفتشت عنهم يمنة ويسرة، نظرت إليهم هنا وهناك -يبحث عنهم- فلم أجدهم. قال: فما كان مني إلا أن ذهبت إلى صديق سوء آخر، وأخذت منه فيلماً ماجناً خليعاً جنسياً يستحي إبليس أن ينظر إليه، فكيف بالبشر؟! قال: ثم أخذته وعدت به في الساعة الثانية ليلاً. ولا إله إلا الله! ثلث الليل الآخر يتنزل الرب، هل من داعٍ فأستجيب له؟ ومنا من تهراق دموعه على خدِّه من خشية الله، فذلك هو الفائز، ومِنَّا من يرضع المعاصي في تلك الساعة وخاصة هذه الأيام مع قدوم البث المباشر، في الساعة الثانية ليلاً الله يقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟} والناس ينظرون إلى ما يغضب الله جل وعلا. قال: فدخلت إلى بيتي ونظرت إلى زوجتي وابنتي فوجدتهما نائمتين، قال: ودخلت إلى غرفة ذلك الجهاز -يقصد الفيديو- الذي خرب بيوت كثير من المسلمين، وأضاع شباب المسلمين، قال: فدخلت ووضعت الشريط في ذلك الجهاز، ثم جلست، وبينما أنا جالس وإذ بالباب يفتح، وإذا بها ابنتي -عمرها خمس سنوات- وإذا بها تدخل وتنظر إليّ بنظرات حادة قوية وتقول: عيب عليك يا والدي! اتقِ الله! عيب عليك يا والدي! اتقِ الله! قال: ذهلت ودهشت، وقلت: من علَّمها؟ من أنطقها؟ إنه رب الأرباب سبحانه وبحمده. قال: وأغلقت الجهاز، وخرجت ونظرت إليها، فإذا هي نائمة، قال: فخرجت وأنا أتذكر قولتها: عيب عليك يا والدي! اتق الله! بقيت في الشارع أمشي وآتي، وإذا بمنادٍ ينادي: (الله أكبر، الله أكبر). نداء صلاة الفجر الذي حُرِمَه كثير من المسلمين، والذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من عِظَم الأجر فيه لو لم يكن من الإنسان إلا أن يأتي حبواً لتلك الصلاة لجاء حبواً، قال: فذهبت وتوضأت ودخلت في المسجد، وما كنت أصلي أبداً، قال: وكبرت مع الإمام، ويوم سجدت انفجرت من البكاء، وعندما انتهى الإمام من صلاته، قال الرجل الذي بجانبه: ما بك يا أخي؟ قال: قلت له: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي؟ سبع سنوات ما ركع فيها لله ركعة، بأي وجه يلاقي الله جل وعلا. قال: ثم ذهب الناس، وبقيت أتذكر جرائمي وفضائحي، وذنوبي التي عظُمت وعظمت وعظمت، قال: ونظرت في الساعة، فإذا وقت الدوام يحين، قال: فانطلقت إلى عملي، وكان لي زميل لطالما ذكرني بالله جل وعلا ولكنني لم أتذكر، قال: دخلت عليه ونظر إلي وقال: والله إني لأرى بوجهك اليوم شيئاً غير الذي أراه منك كل يوم، قال: لقد كان من أمري البارحة كذا وكذا وكذا وقص عليه قصته، فقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك لتوقظك وما أرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك. ثم قال: إني لم أنَمْ البارحة، وأريد أن تأذن لي لأذهب لأنام، فأذن له فخرج من عنده، وذهب ودخل في مصلى الدائرة التي يعمل فيها، ثم قام يصلي من الساعة العاشرة إلى صلاة الظهر، قال: وجئته وظننت أنه ذهب إلى البيت، قال: فتقدمت إليه، ولما رآني انفجر بالبكاء، فقلت له: لِمَ لَمْ تذهب وتسترح؟ قال: يا أخي! سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي؟ والله إن بي شوقاً عظيماً إلى الصلاة -والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وجعلت قرة عيني في الصلاة} - وتواعد هو وإياه على ليلة جديدة وعلى عُمْر جديد؛ ليكون عمره تلك الليلة، وليكون عمره بدايته في ذلك اليوم، وما مضى فعُمْر لا يتشرف به. وذهب إلى بيته يريد أن يرى ابنته التي لم يرَها منذ أن قالت له كلمتها، ويدخل البيت، وإذا بزوجته تصرخ في وجهه وتقول له: أين أنت؟ نتصل عليك فلم نجدك، لقد ماتت ابنتك منذ ساعات، فما كان منه إلا أن انهار، لم يتمالك نفسه إلا وهو يردد كلماتها: عيب عليك يا والدي! اتق الله! عيب عليك يا والدي! اتق الله! ثم ماذا كان؟ كان منه أن اتصل بزميل الصلاح وأخبره، فجاء وكفَّنوها وصلوا عليها في صلاة العصر، وذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصل إلى المقبرة قال: خذ ابنتك -يقول زميله- وضَعْها في لحدها، فأخذها ودموعه تقطر على كفنها. وليس الذي يجرى من العين ماؤها ولكنها روح تسيل وتقطر ما كان منه إلا أن وضعها في القبر، ويوم وضعها في القبر قال كلاماً أبكى جميع من حضر الدفن، قال: يا أيها الناس! أنا لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور، هذه البنت أخرجتني من الظلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه وبحمده- فأسأل الله أن يجمعني وإياها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أرأيتم أيها الأحبة يوم يعود العبد إلى الله فيجد الله سبحانه وتعالى توَّاباً رحيماً.

الحث على محاسبة النفس

الحث على محاسبة النفس يا أيها المذنبون -وكلنا ذوو خطأ- المولود إذا ولد أُذِّن في أذنه اليمنى، وإذا مات صُلِّيَ عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان إلى الصلاة، ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! إن للموت أَخْذَة تسبق اللمح بالبصر، إياكم والتسويف فإن (سوف) جندي من جنود إبليس. أعماركم تمضى بسوف وربما لا تغنمون سوى عسى ولعلما فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تُسْترد فإنهن عوارِ اذكروا أن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وإذا كانت نظرة الخلق إليك تمنعك من المعصية؛ فإن الله أولى بذلك، أَصْلح ما بينك وبين الله، وتقرَّب إليه بطاعته؛ عسى أن تكون ممن يبدل الله سيئاتهم حسنات؛ فإنك عما قريب تُحمل على أكتاف الرجال، ونفسك إن كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، وإن كانت طالحة تصيح بصرخات تقض منها المضاجع: يا ويلها، أين تذهبون بها؟!

فضل محاسبة النفس

فضل محاسبة النفس أحبتي في الله! أسعد ساعة في العمر، وأصدق لحظة في الحياة؛ تلك الساعة التي يقف العبد فيها مع نفسه محاسباً، وقفة العتاب، وقفة الملامة، إنها ساعة المخطئين المنيبين إلى رب العالمين، إنها ساعة المنكسرين من خشية إله الأولين والآخرين، إنها ساعة العتاب، إنها ساعة الحساب التي يتذكر فيها العبد ما أصاب، أيام خلت وليالٍ مضت قد قصر فيها في جنب الله، إذا تذكر السيئات وما أصاب من الأوزار رق قلبه، وانكسر فؤاده من خشية الله، تذكر حقوقاً لله ضيعها، وحدوداً لله جاوزها، ومحارم لله انتهكها؛ فانكسر فؤاده من خشية الله، ورقَّ قلبه خوفاً من الله، إنها ساعة الحزن والندامة والأسى على التفريط في جنب الله، لكن سرعان ما يزداد الألم والندم إذا تذكر أنه إلى الله صائر وراجع ومسئول، وأنه مرتحل من هذه الدنيا ليقف بين يديْ جبار السماء والأرض، ثم يسأل نفسه، كيف ألقاه وحقوقه ضيعت؟! كيف ألقاه ومحارمه انتهكت؟! كيف ألقاه وحدوده تجاوزت؟! كيف ألقاه؟! بأيِّ وجه ألقاه؟! بأيِّ قدم أقف بين يديْه؟! عندها ينكسر قلبه ويرقُّ فؤاده، ولا يجد إلا أن يدمع من خشية الله، ثم لا يملك إلا أن يرفع يديْه، ربَّاه أسأت، ربَّاه ظلمت، ربَّاه أسرفت، ربَّاه ذنوبي من أرجو لها سواك؟ من يفتح الباب إن أغلقتَه؟ من يعطي العطاء إن منعتَه؟ فيصلح الحال، وتُبدَّل السيئات -بإذن الرب- إلى حسنات؛ فالبدار البدار.

ضرورة التوبة قبل إغلاق الباب

ضرورة التوبة قبل إغلاق الباب انتبه عبد الله وتيقظ وادخل باب التوبة المفتوح -قبل إغلاقه- مبادراً منكسراً: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الْذِينَ يَتَّبِعُونُ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]. أحبتي في الله! العيون تذنب، والآذان تذنب، والقلوب تذنب، والأبصار تذنب، والأرجل تذنب، وكلنا ذوو خطأ وذنب. والله لا يغسل هذه الذنوب إلا التوبة النصوح، التوبة التوبة لعلكم تفلحون، الأوبة الأوبة، متى ما أقبلتم على الله فاستغلوا ذلك الإقبال؛ فإن النفس كالحديدة لا تلين بيد الحدَّاد إلا إذا كانت ساخنة، فإذا بردت جمدت وصارت أشدَّ من الحجارة. ألا واستغلوا اندفاع الأنفس إلى الخيرات؛ فإن لكل نفس إقبالاً وإدباراً، ولكل خافق سكوناً: إذا هبت رياحك فاغتمنها فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها فلا تدرى السكون متى يكون إن صاحب الشِمال -المَلَك الموكَّل بالسيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ؛ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه واحدة فضلاً مِن الله ومِنَّة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، التوبة على عَجَل قبل دنوِّ الأجل، لنندم ونقلع، ونرد المظالم، ولنخالط الصالحين؛ فبخلطة الصالحين نتذكر رب العالمين. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17]. يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الـ ـرحمن غفار الذنوب إن المنايا كالريا ح عليك دائمة الهبوب ... يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُحَّل اغفر لجمع تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول نسألك اللهم باسمك الأعظم، نسألك اللهم بعزِّك وذلِّنا إلا رحمتنا. نسألك بقوتك وضعفنا، وبغناك وفقرنا إليك إلا غفرت لنا. هذه نواصينا الخاطئة الكاذبة بين يديك. عبيدك سوانا كثير ولا رب لنا سواك. لا ملجأ ولا منجى إلا إليك، لا مهرب منك إلا إليك. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، ونسألك سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه إلا رحمتنا وتقبلتنا. من يغفر الذنوب إلا أنت؟ من يستر العيوب إلا أنت؟ اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوزْ عن سيئ ما عملنا. ربَّاه! من يفتح الباب إن أغلقته، من يعطينا العطاء إن منعته، اللهم تقبلنا في التائبين، واغفر ذنوب المذنبين. اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك في حاجة إلى رحمتك، وأنت في غنى عن عذابنا، اللهم جازِنا بالإحسان إحساناً، وبالإساءة عفواً وغفراناً. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعُلى والجُود وعلى النبي محمد صلواته ما ناح قُمْري وأورق عُود

الأسئلة

الأسئلة

ضرورة الدعوة إلى الله

ضرورة الدعوة إلى الله Q يقول أحدهم: حبذا لو دعوت الشباب إلى أن يأخذوا في طريقهم -قبل أن يأتوا إلى حضور حلقات الذكر- إخوانهم الذين ربما انشغلوا وربما غفلوا. A فأقول لهم: يا أيها الأحبة! {لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيؤمن برسالته، ثم يخرج من عنده ويرجع وقد أدخل في دين الله -بإذن الله- ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة وهم في ميزان حسناته. فهلا ركزت جهدك على أن تأتي بواحد لتذيقه ما ذُقتَه من حلاوة الإيمان. إن من أعظم الأخوة علينا أن نشارك غيرنا فيما نشترك فيه في حلقات الذكر، إن المؤمنين وهم في الجنة على مقاعدهم إخواناً على سُرُر متقابلين يتذكرون بعض إخوانهم من أصحاب الكبائر، فيقولون: يا رب! كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ فيأذن الله عز وجل بالشفاعة لكل رجل جلس مع آخر ولو لساعة واحدة يذكر فيها الله عز وجل: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتذاكرونه ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده} أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أنى اتَّجهنا. وسبحان الله وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، أحمده وأستغفره وأتوب إليه.

مكانة المرأة في الإسلام

مكانة المرأة في الإسلام لقد واجهت المرأة في ظل الجاهليات القديمة والحديثة أسوأ معاملة، ولقد جاء هذا الدين فرفع من قيمتها، وأعلى مكانتها، وقرر حقوقها فأصبحت بحق في ظل الإسلام مخلوقاً له مكانته في المجتمع. وقد ضربت المرأة المسلمة أروع الأمثلة في الصبر والتضحية لهذا الدين.

عزة المسلمين في إسلامهم

عزة المسلمين في إسلامهم الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض فكل الحمد لك. اللهم لك الشكر ملء السماوات والأرض فكل الشكر لك، نحمدك على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن، ونحمدك على أن هديتنا للإسلام وجعلتنا من أمة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه، نشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الدقائق في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات في يوم الحسرات، وأن يجعل من تسبب في ذلك بشيء قليل أو كثير يجعل هذه في ميزانه وأن يجعلها له من الباقيات الصالحات هو ولي ذلك والقادر عليه. أيتها الأخوات المؤمنات: إدارة ومعلمات وطالبات ومنسوبات، أوصيكن ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور. يوم تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، يوم الحاقة والطامة والقارعة والزلزلة والصاخة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. أيتها الأخوات: من أنتن لولا الإسلام والإيمان والقرآن؟ أنتن بالإسلام وبالإيمان والقرآن شيء وبدونها والله لا شيء، ولعلكنَّ تُعِرنني أسماعكنَّ قليلاً، لتعرفن تلك النعمة التي أنتنَّ تعِشْنَها في هذه الأيام، يوم تسمعْن لحال المرأة في عصور الجاهلية، وأنتنَّ تتبوأن نعمة الهداية، كيف كانت المرأة؟

حال المرأة قبل الإسلام

حال المرأة قبل الإسلام كانت المرأة سلعة تُباع وتُشترى، يُتشاءم منها وتُزدرى، تُبَاع كالبهيمة والمتاع، تُكْرَه على الزواج والبِغَاء، تُورث ولا تَرث، تُملَك ولا تَمْلِك، للزوج حق التصرف في مالها -إن ملكت مالها- بدون إذنها، بل لقد اُخْتلِفَ فيها في بعض الجاهليات، هل هي إنسان ذو نفس وروح كالرجل أم لا؟ ويقرر أحد المجامع الروسية أنها حيوان نَجِس يجب عليه الخدمة فحسب، فهي ككلب عَقُور، تُمنَع من الضَّحِك أيضاً؛ لأنها أحبولة شيطان، وتتعدد الجاهليات، والنهاية والنتيجة واحدة. جاهلية تبيح للوالد بيع ابنته، بل له حق قتلها ووأدها في مهدها، ثم لا قِصاص ولا قَصاص في من قتلها ولا دِيَة، إن بُشِّر بها ظلَّ وجهه مسوداً وهو كظيم: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]. وعند اليهود إذا حاضت تكون نجسة، تنجس البيت، وكل ما تَمسُّه من طعام أو إنسان أو حيوان، وبعضهم يطردها من بيته؛ لأنها نجسة، فإذا تطهَّرت عادت لبيتها، وكان بعضهم ينصب لها خيمة عند بابه، ويضع أمامها خبزاً وماءً كالدابة، ويجعلها فيها حتى تطهر. وعند الهنود الوثنيين عُبَّاد البقر: يجب على كل زوجة يموت زوجها أن يُحرق جسدها حية على جسد زوجها المحروق. وعند بعض النصارى: أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئات، وهي للرجل باب من أبواب جهنم، هذا كله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. فهل أتاكنَّ أيتها المؤمنات المسلمات القانتات، بل هل أتاكنَّ يا بنات حواء في هذا العالم كله أنباء ما جاء به نبي الرحمة والهدى محمد صلى الله عليه وسلم من التعاليم في حقِّكنَّ فحمدتنَّ الله على ما تبوأتنَّ به من هذه النعمة؟

حال المرأة في الإسلام

حال المرأة في الإسلام بعد تلك المهانة والذِلَّة يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع مكانة المرأة، وليُعلي شأنها، فإذا به صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بيعة مستقلة عن الرجال، وإذا بالآيات تتنزل، وإذا المرأة فيها إلى جانب الرجل تكُلَّف كما يُكَلَّف الرجل إلا فيما اختصت به {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] صفات صالحة في الرجال، ما ذكرها الله إلا وذكر في جانبها النساء، والطالحة كذلك. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} [التوبة:71] {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [لمائدة:38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]. وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مدة ليست باليسيرة يقول: {إنما النساء شقائق الرجال} وإذا به صلى الله عليه وسلم بعدها يقول في خطبته الشهيرة: {استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عَوَان} يعني: أسيرات. ثم يقول صلى الله عليه وسلم رافعاً شأن المرأة، وشأن من اهتم بالمرأة على ضوابط الشرع؛ خياركم خياركم لنسائهم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} صلوات الله وسلامه عليه، يأتيه ابن عاصم المنقري؛ ليحدثه عن ضحاياه من الموءودات، وعن جهله المُطْبِق فيقول: {لقد وأدت يا رسول الله اثنتي عشرة منهن، فيقول صلى الله عليه وسلم: من لا يَرحم لا يُرحم، من كانت له أنثى فلم يَئدْها، ولم يُهِنْها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله عز وجل بها الجنة}. ثم يقول صلوات الله وسلامه عليه: {من عَالَ جاريتيْن حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضمَّ بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه}. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم لا يفتر، أو كالصائم لا يفطر} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. أمٌّ مكرَّمَة مع الأب، أُمِرْنَا بحسن القول لهما: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] وحسن الرعاية: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وحسن الاستماع إليهما والخطاب: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً} [الإسراء:23] وحسن الدعاء لهما: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]. أمٌّ مكرَّمة مقدَّمة على الأبِّ في البرِّ: {من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك}. يأتي جاهمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد في سبيل الله من اليمن، قد قطع الوِهَاد والنجاد حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أردت يا رسول الله أن أغزو وجئت لأستشيرك، فقال صلى الله عليه وسلم: {هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: الْزمها؛ فإن الجنة عند رجليها} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. بل أوصى صلى الله عليه وسلم بالأم وإن كانت غير مسلمة، فها هي أسماء تقول: {قدمت أمي عليَّ وهي ما زالت مشركة، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قدمت أمي وهي راغبة أَفأَصِلُها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. صِلي أمك}. ليس هذا فحسب، بل أنزل الله فيكِ سورة كاملة باسم سورة النساء، وخصَّكِ بأحكام خاصة، وكرَّمك، وطهَّرك، واصطفاك، ورفع منزلتك، ووعظك، وذكَّرك، وجعلك راعية ومسئولة، وأرجو من الله -عز وجل- أن تكوني كذلك، فالأمل والله فيكن أيتها المؤمنات المتعلمات كبير، والمسئولية والله عليكن عظيمة وجسيمة. فأنتن راعيات في المدارس، راعيات في البيوت، فلتكنَّ قدوات: قدوات في المظاهر، وقدوات في المخابر، قدوات في القول، وفي العمل، وفي كل أمورِكن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفع شأنكن بهذا الدين يقول: {وما من راعٍ استرعاه الله رعية فضيَّعهم، أو بات غاشاً لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة}. منذ بزوغ فجر الرسالة -يا أيتها المسلمة- والمرأة مُكرَّمة معزَّزة تقوم بدورها إلى جانب الرجل تؤازره، وتشد من عزمه، وتقوي همَّته، وتناصره. تحفظه إن غاب، وتسرُّهُ إذا حضر إليها، ثم تنال بعد ذلك نصيبها في شرف الدعوة إلى الله عز وجل. وتنال نصيبها من الإيذاء في سبيل الله. فها هي سمية ما سمية؟! سمية أول شهيدة في الإسلام، وهاهو ابنها وزوجها يُعذَّبون، يُلبسون أذرع الحديد، ثم يُصهرون في الشمس في رمضاء مكة، وما أدراكم ما تلك الرمضاء؟! ثم يمرُّ صلى الله عليه وسلم وهم يُعذَّبون بـ الأبطح، وهو في بداية دعوته لا يملك لنفسه شيئاً بل لا يملك ما يدفع به عنهم وعنها، فيقول: {اصبروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة} وذات يوم بالعشي يأتي أبو جهل إلى سمية، فيسبها، ويشتمها، ويتكلم بكل كلمة وَقِحَة ومهينة، وهي ثابتة بإيمانها، راسخة بيقينها، لا تلتفت إلى وقاحته، ولا تنظر إلى سفالته، وإنما رنت عينها مباشرة إلى جِنَانٍ زاكية، وإلى منازل ذاكية، في دار النعيم والرِّضوان والتكريم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، نظرت إلى هناك ولم ترد عليه ليتقدم -أخزاه الله- إلى تلك العجوز الضعيفة الكبيرة فيطعنها بالحربة في موطن عِفَّتِها، لم يرحم ضعفها ولا عَجْزَهَا، لتسقط فتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يموت زوجها بعد ذلك بالعذاب فيحتسبه أبناؤه، ويشاء الله أن يعيش ابنها عمار حتى يرى قاتل أمه يوم بدر مجندلاً على الأرض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: {قتل الله قاتل أمك يا عمار، قتل الله قاتل أمك يا عمار}.

جاهلية تعيشها المرأة في هذا القرن

جاهلية تعيشها المرأة في هذا القرن أخواتي المؤمنات؛ ونَعِمَت المرأة في ظل الإسلام قروناً، ولا زالت تنعم بذلك حتى جاءت جاهلية هذا القرن والذي قبله، فوأدت المرأة وأداً معنوياً، أشد خطراً من وأد الجاهلية؛ فإن الموءودة في الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أما موءودة هذا القرن فهي التي وأدت نفسها، وباعت عفَّتها، وأهدرت حياءها، فلا تجد الجنة، ولا تجد ريحها، كاسية عارية، مائلة مُمِيلة، لا تجد عرف الجنة، وإن ريح الجنة ليوجد من مسافة كذا وكذا. أصغت بأذنها إلى الدعاة على أبواب جهنم، فقذفوها في جهنم، فشقيت وخسرت دنياها وأخراها، فهي تعض أصابع الندم هنا ويوم القيامة، نسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنَّا، وعن العاصيات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. يا أمَةَ الله! تجيء جاهلية هذا القرن في صور متعددة؛ في صورة المشفق عليك، الضاحك ظاهراً، وهو يريد قتلك باطناً. إذا رأيت نِيُوبَ اللَّيثِ بارزةً فلا تظنِّي أنَّ اللَّيث يبتسمُ جاءت هذه الجاهلية في صورة المشفق عن طريق مجلة، أو عن طريق صفحة جريدة، أو أغنية فاجرة، أو مسلسل، أو تمثيلية، أو جهاز استقبال، يريدون منكِ أن تكوني عاهرة، سافرة، فاجرة، يريدون أن تكوني بهيمة في مِسْلاخِ بشر، حاشاك يا بنة الإسلام! ويا حفيدة سمية وأسماء! اسمعي لقائلهم سمع اعتبار يوم يقول، وهو أحد الكفار الذي يتربص بك وبأخواتك وبالمؤمنين الدوائر يقول: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي لنا حتى يُرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويُغطَّى به القرآن، وحتى تؤتى الفواحش والمنكرات. وخاب وخَسِر. ويقول الآخر: مزِّقيه مزِّقيه بلا ريث فقد كان حارساً كذاباً يخاطب بذلك الحجاب. ويقول الآخر: إلى متى تحملين هذه الخيمة؟ ويقول آخر: ينبغي أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة والكليَّة. ويقول آخر: لابد أن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا، ونخلِّصها من قيود الدين. خاب وخسر. ويقول الآخر: إن الحجاب خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأين تنطلي مثل هذه الأمور؟ وأين هذا من القرآن؟ إنه لم يعرف القرآن، ولو عرف القرآن لقرأ قول الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]. ويقول أحدهم -وهو قاسم أمين، من الذين تأثروا بالغرب-: إن الحجاب ضرر على المرأة؛ فهو معرقل لحياتها اليومية. يضرب بالآيات عرض الحائط، ويحكِّم عقله، وينظر إلى الغرب الهائم؛ فعامله الله عز وجل بما يستحق. وآخر يقول: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع؛ فأغرقوهم في الشهوات والملذَّات. كيف جاءت هذه الأمور؟ إنها لم تأتنا إلا من أعداء الإسلام، على طريقة من؟! على طريقة الذين رُبُّوا على أفكار أولئك. يخرج سعد زغلول منفياً مُرتباً له من مصر إلى بريطانيا أيام الاحتلال، ليعود من هناك وهو بطل وزعيم وطني قومي -وقد رُتِّب له الأمر- فإذا بسرادق النساء في استقباله، وإذا بزوجته صفية زغلول -انتسبت إليه، ولا تنسب إلى أبيها على طريقة الغربيات الكافرات- تأتي معه على ظهر الباخرة، وتصل إلى هناك، ولمَّا وصلت إلى هناك، وجاءوا لاستقباله -إذ الأمر مرتب- ينزل وينطلق مباشرة إلى سرادق النساء، إلى سرادق الحريم المحجبات فتقوم هدى شعراوي -عاملها الله بما تستحق- تقوم إليه محجبة، فينطلق إليها ليمد يده -وقد مدَّ اليهودي قبل ذلك يده فدفع ثمن ذلك نفسه- يمد يده إلى حجابها ويرفع ذلك، وهي تضحك وتصفِّق، وهو يضحك ويصفِّق، ثم يصفقن النساء لِيُعْلِنَّ الرَّذيلة من ذلك اليوم، وليبدأنَ في تقليد الكافرات، هذا هو عمله، فماذا فعلت التي قامت بالدور بعد ذلك هدى وصفية؟ انطلقا في مظاهرة ظاهرها وهدفها مناوأة الاحتلال الإنجليزي، وانطلقا إلى ميدان الإسماعيلية، ليقفا في ذلك الميدان محجبات سود كالغربان، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لحاجة في نفسهن، رمين الحجاب ودُسْنَهُ بالأقدام، ثم أحرقْنَه في تلك الساحات، ليُعلنَّ التمرد على القيم والأخلاق الإسلامية، فماذا كان بعد ذلك؟! حصل في مصر ما حصل، حصل فيها أن بدأ التغريب هناك على يد هؤلاء، وبين أيادي المؤمنات، وعلى مرأى المسلمين والمسلمات، ماذا حصل؟! انطلقوا مباشرة فإذا بالرجل ينطلق إلى جنب المرأة مباشرة، وإذا به يعمل معها، وإذا به يخالطها في المدرسة تلميذاً ومعلِّماً فيما بعد، وإذا بالأمور تنفرط ليس هناك فحسب، بل تدب العدوى إلى بلاد عربية، حتى يكاد لا يَسْلَم من ذلك بلد إلا من رحم الله، وقليل ما هم. وإذا بنا نئن ونشكو من اختلاط، ورذيلة. ومن طهر وعفاف يوأد، وإذا الفساد ينتشر، وإذا الداعية يصيح هنا وهناك، فإذا الآذان صُمَّت، واتجهت تقلِّد الغرب حتى في لباسها، قامت تقلدهم في الموضة والأزياء. جاءت هذه الصرعات فاستنفذت البيوت واستنفذت ميزانيات الأسر، حتى إنك لترى التي بلغت الخامسة عشرة لا زال لباسها من فوق ركبتها، وتقول: لازلت صغيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وما -والله- ذكرت من هؤلاء، سواء هدىأو قاسم أو زغلول أو غيرهم من الدعاة هنا وهناك إلا نماذج للدعاة على أبواب جهنم الذين ألقوا بحجابهم وداسوه بالأقدام، إنما يتَحَدَّوْن مشاعر المسلمين، والذين يكتبون لتحرير المرأة، والذين وقفوا بذلك الميدان وسموه: ميدان التحرير إنما هو التحرر من الفضيلة والخُلُق والطُّهر ولاشك، يكتبون والله يكتب ما يُبيِّتون هم وأذنابهم إلى يوم يبعثون: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. أختي المؤمنة: هل لهؤلاء ومن على أدرابهم من الكُتَّاب والراقصات والعاهرات أهلٌ لأن يَكُنَّ قدوة للصالحات المؤمنات القانتات الصابرات الخاشعات؟ نعوذ بالله من الانتكاس، ونسأل الله الثبات حتى الممات. أنتِ الطهر، وأنتِ الفضيلة، وأنت السُّمُو، والطهر لا يقتدي بالرِّجس والمهين، والفضيلة لا تقتدي بالرذيلة، والسمو لا يقتدي بالسُّفْل. خابوا وخسروا وتعسوا وانتكسوا. أغيظيهم وقولي بلسان حالك ومقالك: دعهم يعضوا على صُمِّ الحَصَى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن

نماذج مشرفة من صبر المرأة المسلمة

نماذج مشرفة من صبر المرأة المسلمة إن آمالنا في المسلمة المتعلِّمة والمعلِّمة أن تكون أقوى من التحدِّيات، آمالنا في المسلمة في كل مكان، وآمالنا في المسلمة في هذه الجزيرة أن تكون أقوى من التحديات، تعتز بدينها، تتمسك بعقيدتها ومبادئها وأخلاقها، بل وتدعو إليها؛ فذلك من دينها.

صبر ماشطة ابنة فرعون

صبر ماشطة ابنة فرعون هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر ليلة الإسراء فيقول: {فلما كانت الليلة التي أُسْرِيَ بي أتت علي رائحة طيِّبة، فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها}. أتدرون ما خبر هذه المرأة؟ وما خبر هذه الماشطة؟ اسمعنَ إليها؛ فلعل فيها ما يثبِّت المرأة أمام شهواتها، وأمام رغباتها، والترغيب والترهيب عموماً. هذه كانت تمشط بنت فرعون، وذات يوم من الأيام، وبينما هي تمشِّط بنت فرعون -وهو الذي يقول: أنا ربكم الأعلى- وإذا بالمِدْرَى يسقط من يديها -المشط أو المِفْرَق التي تفرق به الشعر يسقط من يديها- ويوم سقط من يديها قالت: باسم الله، وقد كانت تخفي إيمانها قبل ذلك، فقالت بنت فرعون: أبي؟ قالت: باسم الله ربي ورب أبيك وربك رب العالمين جميعاً، فقالت: إذاً أخبره بذلك. قالت: افعلي. فذهبت وأخبرت أباها، فجاء في تكبُّره وتجبُّره، ووقف عندها، وقال: أو إنَّ لك رباً غيري؟ قالت: ربي وربك ورب الجميع رب العالمين سبحانه وبحمده، فاغتاظ، وقال: أما أنت بمنتهية؟ قالت: لا. فقال: إذاً أعذب أو أقتل، قالت: اقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا. فانطلق يعذِّبها، أوتد يديْها ورجليْها، وصنف عليها أنواع العذاب، فكانت تمزج حلاوة إيمانها بمرارة العذاب، فتطفو حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فتشتاق وتقول: إنما هي ساعات، وإلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. يرسل عليها العقارب لتلسعها علَّه أن يصل إلى قلبها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، فيعود ليرسل عليها الحيَّات لتنهشها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين. ينوِّع عليها العذاب، ويصنف عليها ذلك، وهي راسخة بإيمانها وعقيدتها، قد علمت إنما هي سويعات، ثم تعود إلى الله عز وجل، فماذا حصل. قال: إذاً أقتلك وأحرقك بالنَّار، قالت: اقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فأمر ببقرة من نحاس، قيل أنه قدِر على صورة بقرة، وقيل: إنها بقرة أُذِيبت، ثم جيء بها وبأولادها ليقفوا على طرف هذه النار، ثم يأخذ واحداً من أولادها، وقبل أن يأخذه قالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أولادي، ثم تدفننا في ثوب واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم رمى الولد الأول فوقفت، فوقف أخوه الثاني وقال: اصبري يا أماه، فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ثم رمى بالثاني، فقال الثالث: اصبري يا أماه؛ فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ويرمي بهم واحداً بعد الآخر، وهي تقول: ربي وربك الله رب العالمين. لم يبقَ سوى طفل على ثديها رضيع لم ينطق بعد في شهوره الأولى، فما كان منها إلا أن ترددت أن تلقي بنفسها مع أولادها من أجل هذا الرضيع، ويشاء الله فيطلق الثدي وينطقه الله الذي تعبده؛ ربها ورب كل شيء، فيقول: يا أماه! اقتحمي؛ لَعذابُ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فتقتحم مع طفلها لتلقى الله عز وجل. راسخة ثابتة بإيمانها؛ فعليها رحمة الله ورضوانه.

صبر آسيا زوجة فرعون

صبر آسيا زوجة فرعون لم يقف الأمر عند ذلك، بل كانت آسيا بنت مزاحم زوج فرعون، والتي ربت موسى صلوات الله وسلامه عليه والتي قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] كانت تراقب الموقف وهي مؤمنة، ولم تعلن إيمانها بعد؛ خوفاً من أن يفتنها عن دينها، ولما رأت من الماشطة ما رأت، فقوي في قلبها إيمانها، وتعلقت بربها؛ رب العالمين. فجاء إليها ليخبرها متبجحاُ وقد علمت ما حصل، فقال: فعلت بالماشطة كذا وكذا، فقالت: الويل لك، ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله! قال: لقد اعتراك جنون الماشطة، قالت: بل آمَنْتُ بالله ربي ورب الماشطة، وربك رب العالمين. فذهب إلى والدتها، وقال: لأذيقنَّها ما ذاقته الماشطة أو لترجع، فجاءت أمها -برحمتها وشفقتها عليها- تعرض عليها أن تتنازل عن دينها وهي إنما تتنازل عن الجنة التي عرضها السماوات والأرض- فماذا كان منها؟ قالت: يا أماه! أما أن أكفر بالله، فوالله لا أكفر بالله، عندها بدأ في التعذيب، أوتد يديْها ورجليها، وعرَّضها لأشعة الشمس، ووكَّلَ من يعذبها ويصنف عليها أنواع العذاب ويقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: لن أنتهي حتى ألقى الله، أو كما قالت. فيأتي بعد ذلك، ويقول: لأرمينك بكذا وكذا من الصخور - يهدِّد - قالت: لا أرجع عن ذلك أبدًا، فماذا يحصل بعد ذلك؟ كان الذين يعذبونها في حرارة الشمس ينصرفون عنها ويذهبون بعيداً عنها، فإذا ذهبوا، نزلت الملائكة لتظلَّها بأجنحتها. ثم يرجع إليها ويعرض عليها الكفر مرة أخرى فترفض؛ فيرمي بالصخرة عليها ويقبض الله روحها قبل نزول الصخرة عليها لتلقى الله عز وجل ثابتة بإيمانها. هذا خبر من قبلنا من الأمم، فما خبر من بعد البعثة؟

تثبيت خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم

تثبيت خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم إن الخبر ليستلزم أن نقف عند خديجة رضي الله عنها تلك المؤمنة صاحبة الثراء، وصاحبة الجاه، وصاحبة المال، التي تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أول مؤمنة به، وآزرته في محنته، وثبَّتته يوم خاف، ويوم عاصرت نزول القرآن من أول لحظاته، كانت أول مثبت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد، وكان يذكر ذلك لها بعد موتها، رضي الله عنها وصلى الله عليه وسلم. جاء إليها يوماً من الأيام وهي تبكي بعد موت ابنها القاسم، فيقول: ما بك؟ قالت: دَرَّت لُبَينَة القاسم، فكان بودِّي لو عاش حتى يستكمل رضاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن له في الجنة مرضعاً تستكمل له رضاعته} فهان عليها ما كان. وقامت معه عندما أنزل عليه الوحي، وجاء إليها يرتعش خائفاً مرتعداً؛ لما رأى جبريل وهو يقول له: اقرأ، وهو يقول لها: زملوني، دثِّروني، فيقول لها: والله يا خديجة! لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتُقْرِى الضَّيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. وقفت معه صلى الله عليه وسلم فقاسمته شدَّته ومحنته، وما تراجعت عن ذلك مع أنها صاحبة الجاه، وصاحبة السؤدد، وصاحبة المال، فزادت بذلك سؤدداً ومالاً وجاهاً. واقتدي بتلك المرأة التي أتت تبحث عن جثة ابنها بين القتلى وهي مختمرة، فقال لها الصحابة: اكشفي خمارك حتى ترينه. فقالت: لأن أفقد ولدي خير لي من أن أفقد حيائي وديني، إن الله خاطب رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] ووالله ما أنا بخير منهن. فتخلقي بأخلاق أهل الإسلام، وارجعي إلى سِيَر هؤلاء الأعلام، وادعي إلى الله عز وجل فإنك مسئولة عن علمك، ماذا عملت به أيتها المؤمنة، فما عسى يكون الجواب؟

نموذج من ثبات داعية معاصرة

نموذج من ثبات داعية معاصرة المرأة المسلمة على ثغرة عظيمة، فاللهَ اللهَ أن تؤتى البيوت من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن يؤتى أبناء المسلمين من قبلك. هاهي مَثَل لك؛ لأن الخير يستمر في الأمة إلى قيام الساعة والأمثلة كثيرة في هذا العصر والذي قبله. هاهي بنان الطنطاوي؛ ابنة الشيخ الوقور علي الطنطاوي غفر الله لنا وله، وتجاوز عنا وعنه؛ زوجة عصام العطار علمت مسئولية الزوجة في البيت، وآمنت بربها، ودعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله عز وجل. انطلق يرد الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الهدى والهداية، فأغاظ ذلك المنافقين، والذين يَشْرَقُونَ بالنور، والذين ما يعيشون إلا في الظلام، فما كان منهم إلا أن سجنوه في سجن من السجون، فأرسلت إليه رسالة، فما فحوى هذه الرسالة يا أيتها الداعية، يا أيتها المعلِّمة، يا أيتها المتعلِّمة؟ اسمعي إلى هذه الرسالة ماذا تقول لزوجها وهو في سجنه. تقول له: لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا -والله- لا نطلب منك شيئاً يخصُّنا، وإنما نطلبك بالموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم. انظري إلى هذه الكلمات، كيف وقفت معه وهو بعيد عنها، وقفت معه لأنها تعلم أنها على ثغرة وأنَّ ثغرةً ذهبت فسدَّت تلك الثغرة. ثم يشاء الله أن يخرج من ذلك السجن ليُشرَّد في ديار الغرب، وما أُخرج وما نُقِم منه إلا أن قال: ربي الله، واعتز بدينه ومبادئه، شُرِّد في بلاد الغرب، ويبتليه الله عز وجل هناك أيضاً ليرفع درجته بإذن الله عز وجل، ويوم ابتلاه الله عز وجل هناك بكونه يعيش بين الكفار، وكونه مشرداً عن أهله وغيرهم، يُبتلى بالشلل، يُشلُّ في ديار الغرب، لا أهل، ولا صاحب، ولا صديق، لكن له الله الذي أُخْرِج من أجله، وله الله الذي سُجِنَ من أجله، وله الله الذي دعا من أجله، فماذا فعلت هذه الزوجة؟ بعيدة عنه، بعيدة بجسمها لكن قلبها معه، وروحها معه، هدفها وهدفه واحد؛ وهو نشر دين الله، ولقاء الله، والتعامل مع الله عز وجل، كتبت إليه رسالة هناك، وقالت: لا تحزن يا عصام! ولا تأس، يرفع الله من يبتليه، إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، الله معك ولن يَتِرَك، ولن يضيع لك ما أنت فيه، ثم تنطلق بعد ذلك لتلحق به في ديار الغرب إلى هناك لا لتجلس بجانبه تندب حظَّها، ولا لتجلس بجانبه وتقول: جَنَت الدعوة عليه، وإنما لتجلس بجانبه هناك لتأخذ أفكاره، وتأخذ علمه، فيكتب هو بيدها، ويسير بقدمها، فتنشئ مركزاً إسلامياً في ديار الكفر، فلا إله إلا الله! كم من تائبة تابت على يديها هناك، وكم من ضالة كافرةٍ لا تعرف شيئاً إلا الحياة البهيمية ردها الله على يد بنان الطنطاوي، وهي هناك مع زوجها تستشيره ليعطيها المعلومات فتنطلق، ويأبى أولئك الذين يَشْرَقُون بهذا الدين أن يروا للخير قولة أو جولة، ويأتي ثلاثة رجال يبحثون عن ذلك المشلول في تلك البلاد، وما أن دلُّوا على شقته، حتى جاءوا فاقتحموها، وتقدموا إلى هذه الداعية المسكينة -امرأة في بيت غربة، وبعيدة، لكن معها الله الذي قدمت نفسها له- فإذا بها يُطلق عليها خمس رصاصات؛ في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، لتسقط مضرجة بدمائها. أسأل الله أن يجعلها من أهل الفردوس الأعلى. وأسأل الله أن يكتب لها ولمن بعدها من أهلها النعيم المقيم السرمدي الأبدي الذي لا يزول، وأسأل الله أن يوقظ في بنات المسلمين ومعلمات ومتعلمات المسلمين نماذج مثل تلك النماذج، وأَعْظَمَ من تلك النماذج. إن الأمة تنتظر منك الكثير والكثير.

طريق الجنة والنار

طريق الجنة والنار اعلمي أخيراً أن طريق الجنة صعب، وأنه محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة؛ أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم يوم يقول: {إن الله عز وجل لما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر ما أعددت لعبادي الصالحين فيها، فذهب؛ فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فرجع إلى ربه، وقال: يا رب! وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها -لِما فيها من النعيم- ثم حفَّها الله بالمكاره -بما تكره النفس من التكاليف؛ من الأوامر، من النواهي، من الضوابط الشرعية التي يتنقل الإنسان بينها وفيها، حفَّها بهذا كله- ثم قال: ارجع فانظر إليها، فنظر إليها، فإذا هي حفَّت بكل ما تكرهه النفس، فماذا قال؟ رجع إلى ربه، وقال: وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد}. يا أيها الأحبة: والله! لا يدخلها إلا من زكىَّ نفسه، اسمعوا إلى الله وهو يقسم، مرات بعد مرات، يقسم بالضحى، وله أن يقسم بما شاء: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] ثم يقول هناك: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8]. ثم الجواب يأتيك بعد هذه الأقسام المتعددة المغلظة العظيمة من الرب العظيم يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] فوالله لن يفلح إلا من زكَّى نفسه بالإيمان بالله، والدعوة إلى الله عز وجل. وطريق النار سهل، ولكنه محفوف بالشهوات، وآخره الشقاء الأبدي السرمدي الذي لا يزول: {لمَّا خلق الله النار -في نفس الحديث السابق- قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب إليها، فإذا هي سوداء مظلمة، يحطم بعضها بعضاً، ترمي بشرر كالقصر، كأنه جِمَالت صُفْر، فرجع إلى ربه وقال: وعزتك وجلالك ما يسمع بها أحد فيدخلها، ثم حفَّها الله بالشهوات -وبكل ما تشتهيه النفس، وبكل ما ترتاح له النفس، وبكل ما تهواه النفس- ثم قال: ارجع فانظر إليها، فرجع فنظر إليها، فإذا هي قد حفت بكل ما تشتهيه النفس، فرجع إلى ربه وقال: لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها}. إن التعامل مع الله عظيم، وإن المتعامل مع الله لا يخيبه الله رجلاً كان أو امرأة. فيا أيتها المؤمنة: انوِ الخير، واعملي الخير، فوالله! لن تزالي بخير ما نويت الخير، وما عملت الخير. اسمعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة}. فضلاً من الله ومِنَّة. فيا ويل ويا ويل ويا ثبور من غلبت آحاده عشراته! حسنة واحدة أو سيئة واحدة تغلب عشرات الحسنات، يا ويل من كان حاله على ذلك. فانتبهن وتقربن إلى الله عز وجل بما يرضى الله. تقربن إليه بالفرائض؛ فإن أحب ما يتقرب به إلى الله الفرائض، ثم تقربن بالنوافل؛ فإنه لا تزال المرأة تتقرب، والرجل يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله كما قال في الحديث القدسي: {فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}. فالهِمَّة الهمة؛ فإنها طريق إلى القمة، أسرعي ولا تنظري إلى الخلف، لا تنظري إلى أي عائق، واعلمي أن شبراً بذراع، وأن ذراعاً بباع، وأن مشياً بهرولة، فضلا من الله ومِنَّة. اصبري، وجِدِّي، ولا تسأمي، ولا تملي بالنصح، بالدعوة، بالقيام بما أوجب الله عليكِ، فلا تنظري إلى لوم لائم، ولا إلى عتاب عاتب، ولا إلى هوى نفس أو شيطان. وإذا اجتمعت عليكِ هذه كلها، فانظري إلى منازل زاكية في جنان ورضوان، أدنى أهل الجنة فيها من يأتي بعد ما دخل أهل الجنة، فيقول الله له: {ادخل الجنة، فيقول: يا رب! وقد أخذ الناس منازلهم وسكنوا مساكنهم - يخيَّل إليه أنها ملأى- فيقول الله: ألا ترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ قال: بلى رضيت يا رب، قال: فإن لك مثله ومثله ومثله ومثله، وفي الخامسة يقول: رضيت يا رب رضيت. فيقول: ولك عشرة أمثاله، وما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك وأنت فيها} قولي خيراً، وادعي خيراً، وتكلمي خيراً أو اصمتي؛ فكم كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان: {وإن المرء ليقول الكلمة من سخط الله يكتب الله عز وجل له بها سخطه إلى أن يلقاه}. أخيراً: توبي إلى الله، واستغفري الله؛ فإن الشيطان قد قطع على نفسه عهداً، فقال: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله يقطع العهد على نفسه -ورغمت أنف إبليس- وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. فاللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأقرَّ أعيننا بصلاح المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى أن تجعلنا من الصالحين، وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن تجعلنا ممن باع نفسه لله، فجعل همَّه الله والدار الآخرة. أسأل الله أن يرينا من بنات المسلمين، وأمهات المسلمين، وأخوات المسلمين ما تقَرُّ به الأعين، صالحات، قانتات، تائبات، عابدات. أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، من كان سبباً في هذا الاجتماع، ومن ساهم فيه بأي مساهمة صَغُرَت أو كَبُرَت أن تجعل له ذلك في ميزان الحسنات عظيماً عظيماً؛ فأنت أهل التقوى، وأهل المغفرة. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

من منشورات العلماء

من منشورات العلماء الحديث عن العلماء لا يمل ولا ينبغي أن يمل، ففي حياتهم عبرة، وفي سيرهم ذكرى، وفي طلبهم للعلم والعمل به عظة لمن بعدهم، وفي هذا الدرس ينثر الشيخ طرفاً من أخبارهم وملحهم، فما أطيب ذكرهم!

فضل العلماء الربانيين وأهمية سيرهم

فضل العلماء الربانيين وأهمية سيرهم الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولا حزن إلا ما جعلته حزناً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا تسمع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأنت على كل شيء قدير. أيها الإخوة في الله! إن موضوعنا في هذه الليلة حول أخبار ومنح ووصايا من أخبار العلماء وكلماتهم ومُلَحِهم وآثارهم، ولهذا الموضوع أهمية، فإن كلمات العلماء وآثارهم ومُلَحِهم ووصاياهم وأقوالهم نابعةٌ من مشكاة النبوة التي ينهلون منها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} وقال: {إن العلماء ورثة الأنبياء} فورثوا عنهم أقوالهم وأقوال الله عز وجل، ولذلك أصطبغت حياتهم وأقوالهم ومعيشتهم وكانت وصاياهم متأثرة أشد التأثر بما ارتووا منه؛ ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أخص بكلامي هذا العلماء الربانيين الذين قال الله سبحانه وتعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] الذين يعلمون كتاب الله حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى فيه، والذين يعلمون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسق المذكور في كتاب الله؛ حفظاً، وفهماً، وتدبراً وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى في سبيل ذلك كله، فإن الله عز وجل أمرنا بأن نكون كذلك، فقال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا يكون العالم ربانياً حتى يعلم ويعمل ويدعو ويصبر على الأذى]] ونقل عنه رضي الله عنه وأرضاه: [[العلماء الربانيون هم الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره]] يعني: يأخذون الناس بالتدرج خطوة خطوة، لا يقفزون بهم إلى أمور كبار لا تدركها عقولهم، فقد روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة} ونقل أيضاً في الصحيح: {خاطبوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله}. فهؤلاء العلماء الربانيون الذين أفنوا أعمارهم في تعلم كتاب الله، وفي تعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا بحق كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير: أشار جل وعلا بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، بعد قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] أشار بهذا إلى أن الذين يعلمون حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفة: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[يعرف حامل القرآن بليله إذا الناس راقدون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.

أهمية سير العلماء

أهمية سير العلماء فأخبار هؤلاء القوم الذين أفنوا أعمارهم في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعلماً وتدبراً ودعوةً وصبراً حقيقةٌ؛ بأن نعقد المجالس لنتدبرها ونتذاكرها، ونتناقل أخبارهم؛ علَّ الله عز وجل أن يشحذ فينا الهمة، فنبلغ ولو جزءاً يسيراً مما بلغوا، وقديماً قيل: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "سير الرجال أحب إليَّ من كثير من الفقه" وما ذاك إلا لأن سير الرجال، وأخبار القوم من العلماء الربانيين تشحذ الهمم حينما يستمع إليها الطالب فتعينه على مواصلة طريقه في طلب العلم، وتعينه على الاجتهاد وبذل التضحيات اقتداءً وتأسياً بأولئك السابقين الذين يقرءون ويتدبرون ويتناقلون أخبارهم. وقال الإمام ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: "واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة، من أهمها أن يطلع بذلك على عجائب الأمور، وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء: قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح؛ قيل له: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل له: فما بقي لك من لذة الدنيا؟ قال: أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب" إذاً: فخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر ونهي، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاحتذاء بسير الأجلاء الأسلاف؛ خير سبيل إلى ذلك كله هو قراءة سير لبعض العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجدين. وبعد هذه المقدمة نبدأ في سرد بعض أخبارهم رحمة الله عليهم ورضي عنهم.

ضوابط في الجرح والتعديل عند أهل العلم

ضوابط في الجرح والتعديل عند أهل العلم فعن مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: " سألت سعيد بن المسيب: إنه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فقال: [[من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله]]. وهذه درة عظيمة من سعيد بن المسيب وأما الرواية التي تنقل عنه أنه قال: [[سيبوني سيبهم الله]] فهي رواية غير ثابتة كما ذكر ذلك بعض المحققين، فالمقصود أن سعيد بن المسيب رحمة الله عليه، يقول: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. وهذه قاعدة عظيمة جليلة ينبغي لطلبة العلم أن يجعلوها نصب أعينهم دائماً، فهي قاعدة في الجرح والتعديل، إذ ينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم المأمور بحفظ اللسان عن الوقيعة في العلماء، عن الوقيعة في الأخيار من العباد الصلحاء، فمن غلب جانب فضله تغوضي عن نقصه، ولم يشهر به، ولم ينكر عليه، ولم يحذر منه بسبب ما فيه من نقص وتقصير؛ لأن الفضل الكثير يغمر النقص القليل، وقديماً قيل مستدلين بحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث}. وقال الذهبي رحمة الله عليه في ترجمته لـ قتادة بن دعامة السدوسي: وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع فإنه مدلس معروف بذلك وقيل كان يرى القدر- نسأل الله العفو والعافية- ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، قال الذهبي رحمة الله عليه مسترسلاً: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه تغفر له زلاته، ولا نضلله ونصطرفه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. وهذه في سابقتها نادرة عظيمة ينبغي أن يضعها طلبة العلم في أذهانهم، وأن يجعلوها نصب أعينهم عند تقويمهم للرجال. وعن ابن المديني سمعت سفيان يقول: [[كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر، فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه]]. وهكذا يجب أن يكون طالب العلم إذا بلغه عن أحد من الناس أنه يقع فيه، أو يشتمه، أو يتأو يتكلم فيه، أو يقدح؛ فإن الواجب عليه أن يلقاه ويتأكد من صحة الخبر، ثم بعد ذلك يقول له هذه المقالة: إنك إن عصيت الله فينا، فلن نعصي الله فيك، بل سنطيع الله فيك، ولا نقدح فيك، ولا نتكلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك} وقال الله جل وعلا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96] وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: ادفع سيئة من أساء إليك بالحسنة التي هي أحسن، أي: الكلمة والخصلة التي هي أحسن {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: صديق عزيز شديد الصداقة لك بسبب أنك رددت إساءته بالإحسان. وروى عبدان بن عثمان عن عبد الله بن المبارك -وهذا أيضاً ضابط في الجرح والتعديل- قال: [[إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن]]. فالعبرة بأغلب حاله وبمجمله وأكثره، فإن كان أكثر أحواله المحاسن والصلاح، والخير والدعوة والنصح للأمة وللمسلمين، تغوضي عن سيئاته، ولم يشهر به، وأسر بها إسراراً إليه، وإن كان غالب حاله الضلال والفساد والإضلال والمساوئ، فإن جانب المساوئ يغلَّب، ويُحذَّر منه.

من أخبار أهل العلم في الطلب

من أخبار أهل العلم في الطلب

من أخلاق الإمام الشافعي في الخلاف

من أخلاق الإمام الشافعي في الخلاف قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي - ظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى؛ ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة. يعني: على الرغم من خلافي معك في مسألة من مسائل العلم، فإن الواجب أن تظل أخوتنا، ومودتنا، ولا يعادي بعضنا بعضاً بسبب اختلافنا في مسألة من مسائل العلم.

موقف عمر ممن يرد على ابن مسعود

موقف عمر ممن يرد على ابن مسعود وقد كان السلف رحمة الله عليهم من طلبة العلم يُجلون العلماء ويرفعون قدرهم؛ أيما إجلال وأيما تقدير. مما نقل عن الصحابة في ذلك ما رواه أبو وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً قد أسبل إزاره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وصح عنه صلى الله عليه وسلم: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} فالمقصود أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال للرجل المسبل: [[ارفع إزارك، فقال ذلك الرجل المسبل: وأنت يـ ابن مسعود فارفع إزارك. فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس]] فبين عذره في إنزال إزاره. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ذلك الرجل رد على عبد الله بن مسعود، وقال له: [[وأنت لماذا لم ترفع إزارك؟ - فجعل عمر يضرب الرجل، ويقول له: أهكذا ترد على ابن مسعود! أهكذا ترد على ابن مسعود!]]. وما ذاك من عمر إلا تأديباً لهذا الرجل وأمثاله لكي يستقيم أدبهم مع أهل العلم والإيمان والفضل.

أدب الطلب عند ابن عباس

أدب الطلب عند ابن عباس عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: [[أن ابن عباس رضي الله عنهما قام إلى زيد بن ثابت، فأخذ له بركابه، فقال: تنح يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا]] وهذا من أدبه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك حصل ذلك العلم الجم استجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل}.

الخليفة بين يدي عطاء

الخليفة بين يدي عطاء وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إلى عطاء في مكة، وكان مفتيها في زمانه رضي الله عنه وأرضاه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تقصرا ولا تتعبا في طلب العلم- فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد. يعني: أن أمير المؤمنين وخليفة الناس الذي ملك الناس في زمانه، بل كل الدولة الإسلامية جاء عند عطاء بن أبي رباح وكان مولى لامرأة، ثم أعتق، فجلس إليه يسأله عن العلم، وعطاء لا يلتفت إليه مستقبلاً القبلة يجيبهم على أسئلتهم وهم قريب من قفاه رضي الله عن عطاء وأرضاه، فالمقصود أن سليمان أخذ من هذا درساً، وقال لبنيه: لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد، وسماه العبد باعتبار ما كان. وقيل في عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه من شدة علمه: كان أشل، وكان أعور، وكان أفطس، وكان بحراً بالعلوم، ولذلك قال بعضهم: أشل أعور أفطس ومن بحوره العلوم تقتبس رحمة الله عليه. وعن عمر بن المدرك، قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا أشعث بن شعبة النشيطي، قال: قدم الرشيد - يعني: هارون الرشيد - الرقة؛ فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، صادف أن عبد الله بن المبارك قدم في نفس الوقت الذي قدم فيه أمير المؤمنين، فـ عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين بالحديث، وهارون الرشيد أمير المؤمنين في زمانه، فقدما الرقة في وقت واحد، قال: فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال من الزحام، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج القصر، فقالت: ما هذا؟ فقالوا: هذا عالم من أهل خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك قدم، قالت: والله هذا الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.

نصيحة لابن مهدي في الحث على الطلب

نصيحة لابن مهدي في الحث على الطلب قال عبد الرحمن بن مهدي: كان يقال: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، وإذا لقي من هو مثله في العلم، دراسه، أي: تدارس معه العلم. وبهذه المناسبة أيها الأحبة، فإنني أذكر إخوتي طلبة العلم بأن هناك دورة علمية، أو أكثر من دورة علمية ستقام في إجازة الربيع إن شاء الله لبعض العلماء الأجلاء من الذين قدموا من الرياض ومن غيرها لإقامة دورات علمية في الفقه، وفي الحديث، وفي العقيدة، وفي اللغة، وفي الأصول، فأنصح بملازمة هذه الحلقات، ثم إنني أنصح بأمر آخر، وهو أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على مجالسة أهل العلم ويتلقى العلم عنهم، فإن فاته ذلك، فهناك ما يسمى بالتجارب كما يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمة الله عليه، يقول: كان يقال إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، أي: فليغتنم هذا اليوم، وليتعلم منه تعلماً عظيماً، وإذا لقي من هو مثله -أي من مثله في العلم- دراسه، ولذلك فإنني أنصح إخواني بالمدارسة؛ كأن تخصص لنفسك وقتاً بعد صلاة الفجر تلتقي فيه مع من هو مثلك في العلم قد لا يزيد عليك، فتلتقي أنت وهو فتحفظون مثلاً عمدة الأحكام في الحديث، أو بلوغ المرام، أو الأربعين النووية إن لم تكونوا حفظتموها، أو كتاب الله أولاً وقبل كل شيء إن لم تكونوا قد حفظتموه، وهكذا يكون لكم ورد يومي بعد صلاة الفجر أنت وأحد أقرانك يعلم بعضكم بعضاً، وينفع بعضكم بعضاً، ويخبر بعضهم الآخر بما فاته من العلم، وبما سمعه من العلماء، فإن هذا باب عظيم كان السلف يتبعونه كما يقول ابن مهدي: وإذا لقي من هو مثله، دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً من حدث عن كل أحد، ولا من يحدث بالشاذ. هذه بعض أخبارهم في طلب العلم، ومن ذلك ما نقل عن إبراهيم الحربي -وهو أحد علماء السلف الكبار رحمة الله عليه- قال: كان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم، بلغه أن قوماً من الذين كانوا يدالفونه -يفضلونه على أحمد بن حنبل - فوقفهم على ذلك، فأقروا به، يعني: سألهم هل تفضلوني على أحمد بن حنبل؟ قالوا: نعم، فعاقبهم إبراهيم عقوبة شديدة، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لم أشبهه، ولم ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم، والسبب أنهم قدموه وأنزلوه فوق منزلته حسب نظره رحمة الله عليه. ومن أخبار السلف رحمة الله عليهم ورضي الله عنهم ما ذكره ابن جريج رحمه الله، قال: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنةً، أي: وهو منقطع عن العلم ينام في المسجد، ويتدبر العلم ليله ونهاره. وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يجيد الصمت، فإذا تكلم خيل إلينا أنه مؤيد، يعني: كأنما تمده الملائكة بما يقول، وكان أسود أفطس أعور أشل أعرج ثم عمي، يعني: اجتمعت فيه خمسة عاهات، ففي جسمه خمسة عيوب منها: أنه أسود، وأفطس، وأعور، وأشل، وأعرج، وفي النهاية صار أعمى، فهذه خمسة عيوب كانت في جسمه رحمة الله عليه، ولكنه كان ركناً من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقةً فقيهاً حج نيفاً وسبعين حجة.

الزهري لا ينام الليل يبحث عن حديث

الزهري لا ينام الليل يبحث عن حديث قال الليث بن سعد: تذاكر محمد بن شهاب الزهري -الحافظ المحدث الفقيه، التابعي الجليل عالم الحجاز رحمه الله -ليلة بعد العشاء حديثاً وهو جالس متوضئ، فما زال ذلك مجلسه وهو يبحث في الحديث حتى طلع الصبح، قال مروان: جعل يتذاكر الحديث، وهو في مجلسه يذكر الحديث ويبحث في كتب العلم بعد صلاة العشاء وهو على الوضوء حتى طلع الفجر وهو كذلك رحمة الله عليه.

الشنقيطي يبحث في مسألة فقهية

الشنقيطي يبحث في مسألة فقهية وقريباً من هذه القصة نقل عن الشيخ الإمام العابد الزاهد القدوة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان الذي توفي بـ مكة عام 1392 للهجرة حيث نقل عن نفسه رحمة الله عليه أنه لما كان في بلاده يطلب العلم عن مشايخه شرحت له مسألة في الفقه، فلم يفهمها، فسأل شيخه عنها، فلم يستطع أن يفهمها إياه، قال: فلما انصرفت في الضحى من عند شيخي، ذهبت إلى الكتب والشروحات والمطولات، فأخذت أفتشها وأقرأ فيها، وأبحث عن شرح هذه المسألة حتى أدركتني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقال: فلما صار المغرب وأظلم الليل، أمرت خادمي أن يوقد لي النار لأستضيء بها -وكنت في الصحراء- قال: فجلست أقرأ على ضوء النار حتى طلع الفجر، فقمت فصليت الفجر، ثم جلست أقرأ حتى طلعت الشمس، ثم إنني ما طلعت الشمس حتى كانت المسألة عندي واضحة كل الوضوح، وفهمتها وعقلتها وتبينتها. فهو رحمة الله عليه بدأ بالبحث قبل صلاة العصر وأدركته صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر وهو في جلسة واحدة لا يقوم منها إلا لصلاة، أو لطعام رحمة الله عليه، ولم يرقد طوال ليله، وهكذا كان السلف يشغلهم العلم حتى ينسيهم أنفسهم رحمة الله عليهم. وقال فضيل بن غزوان: كنا نجلس أنا والمغيرة، -وعدد أناساً- نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر. يجلسون بعد العشاء يتذاكرون الفقه والعلم، فربما لا يقومون من مجلسهم حتى يؤذن، أو يسمعون نداء صلاة الفجر، فيتفرقون رحمة الله عليهم.

همة حبر الأمة في الطلب

همة حبر الأمة في الطلب عن عكرمة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال ابن عباس: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب آخر معي من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتعلم منهم، فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس! أترى أن الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم]] يعني: أن العلماء موجودون، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، أتظن يا ابن عباس أن الناس يحتاجون إليك، وأنت شاب صغير في الثالثة عشرة من عمرك؟ وهذه في الحقيقة كلمة فيها تثبيط، وكثيراً ما نسمعها من طلبة العلم اليوم، فنجد بعض طلبة العلم لا يجتهد في الطلب، ولا يترك أحداً يجتهد، ولا يعين مجتهداً، بل يكون همه التثبيط، فإذا رأى طالب علم شمر عن ساعد الجد واجتهد في طلبه للعلم لينال فيه القدح المعلا، تجده يفتنه فيه في الغالب حتى يصرفه عن حلقات العلم، وحتى يصرفه عن تحصيل العلم، فلا هو بالذي حصَّل بنفسه ولا هو الذي حث غيره، وهذا لم يكف المسلمين من شره ولم يجتهد هو في الخير، وهذه من شر الخصال، والواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن يطلب العلم بنفسه ويحث غيره، فإن عجز فلا أقل من أن يطلب العلم، فإن عجز فلا أقل من أن يكف الناس من شره، ولا يثبط طالب علم مشمر عن ساعد الجد سالك السبيل. والعبرة في قصة ابن عباس أنه لم ينثنِ، ولم ينفتل، ولم يتراجع عن عزيمته القوية على طلب العلم، ولم يصغ إلى كلام هذا الشاب الأنصاري الذي أراد أن يصرفه عن ذلك، ويقول له: اقعد، فالعلماء كثير وأبو بكر موجود وعمر وعثمان وعلي، والعلماء كثر، ولن يحتاج الناس إليك، لم يسمع لكلامه، بل شمر ابن عباس عن ساعد الجد وطلب العلم. يقول ابن عباس: [[فترك ذاك -يعني: ترك العلم- وأقبلت أنا على المسألة -يعني: أقبل يسأل العلماء من الصحابة من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من علماء الصحابة؛ يجمع منهم ويروي عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فإن كنت لآتي الرجل في الحديث الواحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]]. في أيامهم رضي الله عنهم لم يكن العلم ميسراً كما هو الآن، فتجد الواحد منا يمسك صحيح البخاري ويجد فيه خمسة آلاف حديث، وصحيح مسلم، وغيرها من كتب الحديث، كلها موجودة بين أيدينا في ورق، في مكان صغير يجتمع عشرات الألوف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليها الإنسان بكل سهولة، أما الصحابة فلم تكن عندهم كتب، ولم تكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي كتب القرآن الكريم فقط، فكان الواحد منهم يسمع أن فلان بن فلان من الصحابة عنده حديث، فيسافر إليه سفراً طويلاً من أجل أن يأخذ عنه هذا الحديث، يقول ابن عباس: [[فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلاً -يعني: نائماً وقت القيلولة في منتصف النهار- فأتوسد ردائي على بابه -فلا يطرق عليه بابه في وقت من أوقات العورات التي قال الله عز وجل فيها: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] قال: فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قد قال: فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي التراب]] رضي الله عنه وأرضاه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام ويتوسد رداءه على بيت عالم من علماء الصحابة من أجل ألا يطرق عليه الباب فيزعجه ويوقظه من نومه، بل ينتظره عند بابه ويتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب وهو ينتظر أن يخرج الرجل من بيته حتى يسأله عن حديث واحد رضي الله عنه وأرضاه. ولذلك كان ابن عباس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} كان عالماً جليلاً من علماء الصحابة رضي الله عنهم، بل هو من أكابر العلماء في الفقه والتفسير، وفي فهم كتاب الله، وتعلمون قصته التي رد بها على الخوارج، وكانوا ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف كما نقل في السير والأخبار، فناقشهم ابن عباس في العلم فرجع منهم أربعة آلاف هداهم الله عز وجل بسبب علم ابن عباس واطلاعه. فقد جاءهم وعليه ثوب غالي الثمن، ثوب جميل لبسه ابن عباس لما ذهب ليناظرهم، فقالوا: تلبس هذا الثوب بهذا الثمن الغالي وبهذا الثمن الباهظ، فرد عليهم ابن عباس بكتاب الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] فأفحمهم بكتاب الله. ثم إنه ناظرهم في مسألة الحكم لما قالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 7] وعلي حكم الرجال، فقال لهم ابن عباس: لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون عن قولكم؟ لأن الخوارج يحتجون بأن علياً حكم الرجال، يعني: حكم أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، مع أن الله عز وجل يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:7] ويقول: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] فالحكم له وحده وعلي حكَّم الرجال هكذا كانوا يقولون. فقال: أرأيتكم لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون؟ قالوا: نعم، فذكر لهم قول الله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وقال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] قال: ألم تروا أن الله عز وجل نصب حكاماً من الخلق في مسائل في طير يقتل بالحرم، قالوا: بلى. فالشاهد: أنه ناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وهداهم الله عز وجل على يدي ابن عباس ذلك العالم الرباني الذي طلب العلم، وبذل جهده الواسع في سبيل تحصيله حتى كان إماماً في الدين، وهدى الله على يديه هذه الأمة الكبيرة، ويناله أجرهم بإذن الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من دل على هدى كان له مثل أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً} ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ من الدنيا وما فيها} ويقول ابن عباس: [[فكانت الريح تسفي التراب على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج، قال: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك -الصحابي يقول لـ ابن عباس: لو أرسلت إليَّ حتى آتيك أنا بدل أن تأتي إلى بيتي وتتوسد ردائك وتسفي الريح التراب على وجهك- فيقول ابن عباس: لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك]]. وهذه الواقعة تعددت وحصلت عدة مرات من ابن عباس رضي الله عنهما، يقول ابن عباس: [[فكان الرجل -يعني: الشاب الأنصاري الذي اقترح عليه أن يجتهد في طلب العلم في أول أيام شبابهما- بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: العلماء الكبار من الصحابة- واجتمع الناس حولي يسألونني عن العلم، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني]] أي: الصحابي الشاب الذي اقترح على ابن عباس أن يجمع العلم من الصحابة فرفض، ورأى ابن عباس بعد سنين طويلة أكثر من عشرين أو ثلاثين أو أكثر من ذلك من السنين رآه وقد مات علماء الصحابة الكبار وبقي ابن عباس، والتف الناس حوله يسألونه عن العلم، فرآه ذلك الشاب الذي كان شاباً، فيقول: كان هذا الفتى أعقل مني. قال الحاكم عقب هذا الخبر: هذا الحديث أصلٌ في طلب الحديث وتوقير المحدث. وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بسنده عن ابن عباس قال: [[وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم-أقيل: أقضي وقت القائلة -ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأُذن لي، يعني: وأنا أعلم أني لو طرقت الباب، لأذنوا لي وفتحوا الباب، لكني ما كنت أفعل ذلك حتى لا أزعجه، وحتى لا يتذمر مني، وحتى يقبل عليَّ بنفس منشرحة وقد ارتاح واطمأن]] وهذا من توقير ابن عباس رضي الله عنهما للعلم وأهله، فلم يكن يسعى لإزعاج من عنده العلم، ومن عنده الفهم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسعى لإزعاجه، بل كان يتلطف تلطفاً؛ مع أنه لو طرق عليه الباب لخرج له، يقول: ولو شئت أن يؤذن لي عليه، لأُذن لي، ولكني أبتغي بذلك طيب نفسه، يعني: لا يريد أن يعكر مزاجه ويحدثه وهو سيء المزاج وهو متعب متكدر.

العلماء وإنكار المنكر

العلماء وإنكار المنكر ومما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن السلف من العلماء الأجلاء إنكار المنكر وصدعهم بالحق، لأن هذا هو ضريبة العلم، لأن كل إنسان أعطاه الله العلم، فعليه أن يصدع به، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39] وقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. الشاهد: أن الواجب على من علمه الله العلم، وآتاه الكتاب أن يبينه للناس، ولا يكتمه.

عبادة بن الصامت ينكر على مادح معاوية

عبادة بن الصامت ينكر على مادح معاوية فمما نقل في ذلك عن السلف ما ذكره أحد السلف عن عبادة، قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً، فأذن يوماً، فقام خطيبٌ من الخطباء يمدح معاوية ويثني عليه، وكان معاوية في ذلك الوقت هو خليفة المسلمين، فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاوية رضي الله عنه وأرضاه. فقال له عبادة: [[إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا وعلى أثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا رأيتم المداحين، فحثوا في أفواههم التراب} فأنا أفعل ذلك طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن غضبت]]. ومما نقل عن السلف في هذا الباب: عن الأوزاعي قال: حدثني أبو كثير عن أبيه، قال: أتيت أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجلٌ، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع أبو ذر رأسه، ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم السماطة على هذه، وأشار بيده على قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها.

العمري يعظ الرشيد على الصفا

العمري يعظ الرشيد على الصفا ومن ذلك ما ذكر عن سعيد بن سليمان، قال: كنت في مكة في زقاق، وإذا جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد، فقال له إنسان: يا أبا عبد الرحمن! هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، فقال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا؛ ً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً، يعني: ما دام أخبرتني أن أمير المؤمنين في المسعى، فقد كلفتني بأمر عظيم كنت في سعة منه، وكنت غنياً عنه، وهو أن أقوم إلى أمير المؤمنين، فآمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر. ثم تعلق نعليه -يعني: أخذ نعليه معه- وقام، قال: فتبعته، وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح فيه العمري رحمه الله: يا هارون، فلما نظر إليه هارون. قال: لبيك يا عمي. قال: ارق الصفا، فرقي هارون الرشيد، فلما رقيه، قال له العمري: ارم بطرفك إلى الكعبة -يعني: انظر إلى الكعبة- قال: قد فعلت، قال: كم هم؟ يعني: كم الذين يطوفون حول الكعبة؟ قال هارون: ومن يحصيهم؟ قال: فكم من الناس مثلهم غيرهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله. قال العمري: اعلم يا هارون الرشيد! أن كل واحد من هؤلاء يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم يوم القيامة، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون الرشيد وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً للدموع. قال العمري: وأخرى أقولها لك يا هارون. قال: قل يا عمي. قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في بيت مال المسلمين. ثم مضى وهارون يبكي. فرحمة الله على هارون الرشيد، ورحمة الله على من نصحه، وبهذه القصة العطرة أختم هذه الجلسة المباركة إن شاء الله، والتي طفنا فيها في بعض أخبار العلماء وآثارهم وملحهم رحمة الله عليهم. وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من العلماء الربانيين الذين يعملون بالكتاب ويدرِّسون كما قال الله جل وعلا: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39]. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاَ ولساناً ذاكراً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا وقاراً، ربنا زدنا هدى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مواقف من الصدق

مواقف من الصدق إن البلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، فينتفي بالابتلاء الزيف والرياء، وقصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك تكشف صدقهم وإخلاصهم، فقد صدقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان جزاؤهم نزول قرآن كريم يجلي قصتهم يتلوها المؤمنون إلى قيام الساعة، لقد صبروا على مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لهم، فلم ينتكسوا ولم يرتدوا، بل صبروا ففازوا.

قصة الثلاثة الذين خلفوا

قصة الثلاثة الذين خلِّفوا الحمد لله العزيز الغفار، مقلب القلوب والأبصار، أحمده سبحانه وأشكره، ومن مساوئ عملي أستغفره، نعمه تترى، وفضله مدرار. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رفع الأغلال والآصار، وكشف -بإذن ربه- الغشاوة عن البصائر والأبصار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه المصطفَيْن الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]. عباد الله: إن البلايا والمِحَن محكٌّ يكشف عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور، ينتفي بالابتلاء الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة والصدق معه بجلاء. إنها تطهير ليس معه زيف ولا دَخَل، وتصحيح لا يبقى فيه غبَش ولا خلل. إنها تفتح في القلوب منافذَ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاء يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط. إن الابتلاء محكٌّ لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في ذلك كالشدة، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء. قد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والتجرد والنزاهة؛ فإذا نزل البلاء، ووقعت الواقعة تبيَّن من بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، ومن الخير له أن يعتبر ويتَّعِظ، ويستدرك قبل أن يكون عبرة، ويقع ضحية: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:145]. بالابتلاء تستيقظ النفوس، وترقُّ القلوب بعد طول غفلة؛ فيتوجَّهُ العبد لربه، ويتضرع إليه، ويطلب رحمته وعفْوَه، ويُعلن تمام العبودية له وحده، والتسليم الكامل لله رب العالمين لا سواه، وكفى بالتضرُّع دليلاً على الرجوع إلى الله ولجوءاً إليه وأملاً في الفرج من عنده، وحِرْزاً واقياً من الغفلة. فلا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلمِّات سواه، لا ملاذ إلا بجانبه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه؛ المَفْزَع إليه، لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن، هو المتصرف في الملك، لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو. ومن تصفَّح الكتب وجد فيها من الابتلاءات وصدق الصادقين خبراً، ووجد من تدليس المنافقين والمُلْتَوِين في السِيَر عِبَراً. اقرءوا التاريخ إذ فيه العِبَر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر عباد الله: ما أجمل الحديث عن القِيَم! وما أعظم الكلام عن المُثُل! وأروع من ذلك أن ترى المُثُل رجالاً، والأخلاق فعالاً. ألا فلنقف معكم دقائق موقف صدق من مواقف الصحب البرَرَة. إن قلم الكاتب ولسان الخطيب -مهما أوتيَ من براعة وبلاغة- عاجزان عن وصف تلك الحادثة، عن وصفها في مِحنتها وابتلاءاتها، عن وصفها في صدق رجالها وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء بهجر الأقربين، وبلاء بتزلُّف المناوئين والكافرين. قصة كلها عِبَر وعَبَرات، وفكر ونظرات، ودموع حرَّاء وحسرات. قصة تحكي مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم مثال المتانة في البناء، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك، يوم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم. فلا إله إلا الله! من آيات وأحداث تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. هاهو الإمام أحمد شيخ أهل السنة، وإمام هذه الأمة، كان لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات. وحديث كعب في تفصيل أخبارها وأحداثها مُبكٍ مُحزِن مُوجِد لمن كان له قلب. هاهو صلى الله عليه وسلم يستنفر المسلمين لملاقاة الروم يوم بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام، يوم أحسُّوا بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاريها. يوم فُتِحَت مكة فأخذت الأفواج تِلْوَ الأفواج تدخل في دين الله، فتحرك الروم بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم، وعندها استنفر صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فكان التهيؤ في أيام قائظة، وظروف قاسية، وجهد مضنٍ، ونفقات باهظة؛ إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة. وما أدراكم ما ذاك الجيش، وما تلك الغزوة! وصْفُها في كتاب الله استغرق آيات طوالاً، استغرق في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين. يجيء فيها المُعذِّرون ليؤذَن لهم، ويتولى البكاءون بفيض دموعهم حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون.

تخلف كعب عن غزوة تبوك

تخلف كعب عن غزوة تبوك ألا فاسمعوا -رحمكم الله- إلى وصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة والتوبة من كعب. اسمعوا لوصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة من كعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا -رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111]. والقصة في الصحيحين مثبتة، وراويها كعب بنفسه؛ فها هو كعب يقول: {وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله! ما جمعت قبلها راحلتيْن -قط- حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلى عندها للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهبة غزوهم، أخبرهم بوجهتهم التي يريد، والمسلمون يومها مع رسول الله كثير، فقلما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة يوم طابت الثمار، ويوم طاب الظلال. فها هو يتجهز والمسلمون معه. يقول كعب: وطفقت أغدو لكي أتجهَّز معه، فأرجع، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرع الجيش، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، فأُدركُهم فيا ليتني فعلت}. ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. لسان حاله يقول: ندمت ندامة لو أن نفسي تُطاوِعني إذاً لقطعت خمسي ولسان مقاله يقول: {فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني وآلَمني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين صحبه-: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه، ويذبُّ عن عرضه معاذ -رضي الله عنه- فيقول: بئس ما قلت، والله يا رسول الله! ما علمنا عنه إلا خيراً؛ فسكت صلى الله عليه وسلم. يقول كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثِّي وحزني وغمي وهمي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل وانزاح، حتى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء إلا بالصدق، فأجمعت صدقه صلى الله عليه وسلم، وجاء المُخلَّفون بأعذارهم، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم ظاهرهم، ووكَل سرائرهم إلى من لا تخفى عليه خافية}.

سبب تخلف كعب عن غزوة تبوك

سبب تخلف كعب عن غزوة تبوك يقول كعب: {فجئت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -أي اشتريت مركوباً- قال: قلت: يا رسول الله! والله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعْطيتُ -والله- جدلاً، لكني -والله- قد علمت لَئِنَّ حدثتك -اليوم- حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله! ما كان لي من عذر، والله! ما كنت -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك}. فلا إله إلا الله! صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، وهكذا كان صحب محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون: والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث ييئسون عندها جاء إليه رجال من بني قومه يريدون منه الاعتذار كما اعتذر المخلفون. يقول كعب: {فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمت بخبر الرجليْن الصالحيْن من أهل بدر، واللذيْن صدقَا، فقلت: لي فيهما أسوة وهما هلال الواقفي، ومرارة بن الربيع}.

مقاطعة الصحابة للذين خلفوا

مقاطعة الصحابة للذين خلفوا وأُعلِنَت المقاطعة؛ بل أُعلِنت التربية المحمدية؛ وأعلن الهجر والتأديب من مربي البشرية صلى الله عليه وسلم. يقول كعب: {فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثةَ من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، لبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحبايَ فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق -فلا والله ما يكلمني أحد- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فلا والله لا أدري هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم وأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني}. طالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء، وضاقت عليه المسالك، فقصد ابن عم له اسمه أبو قتادة في بستان له، يقول: {وتسوَّرْت جدار حائط أبي قتادة -وهو من أحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. قال: قلت: يا أبا قتادة أنشدُك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، قال: فكررت المناشدة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. عندها فاضت عيناي، وولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، وجعلت أهيم على وجهي حتى دخلت السوق. وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ بنبطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: قد بلغني أن صاحبك قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك. قال: فلما قرأتُها قلت: هذا أيضاً والله من البلاء والامتحان والاختبار، فقصدت التَّنور، فأوقدته بها}. يا أيها المسلمون: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فَيَمَّمَ بها التنور، فأوقده بها. ولا يزال البلاء به -رضيَ الله عنه- حتى جاءه رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته. يقول كعب: {فقلت: أُطلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها فلا تقربها. فقلت لها: الْحقي بأَهلِك حتى يقضي الله في هذا الأمر}.

نزول التوبة على الثلاثة الذين خلفوا

نزول التوبة على الثلاثة الذين خلفوا وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: {بينا أنا أجلس على الحالة التي ذكر الله تعالى في كتابه قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ حتى لا أجد من يُكلمني، بل ولا من يردُّ عليَّ السلام، قد صليت صلاة الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وإذا بي أسمع صوت صارخ بأعلى صوته على جبل سِلْع: يا كعب بن مالك! أبشر. يا كعب بن مالك! أبشر. قال: فوالله ما ملكت إلا أن أخرَّ ساجداً باكياً شكراً لله تعالى، وقلت: قد جاء فرج}. فَلرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المَخْرَجُ ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت وكنت أظنُّها لا تُفرج وتتنزل التوبة على كعب وعلى صاحبيْه، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله؟ بشرى بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الأوسمة والجوائز. يقول كعب: {فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُهما إياه لبشراه لي، والله ما أملك غير هذيْن الثوبيْن، فاستعرت ثوبيْن ولبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك. قال كعب: فدخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله! ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله! ما أنساها لـ طلحة بن عبيد الله. قال: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور، كأنه فلقة قمر: أبشرْ يا كعب، أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك. فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عز وجل، ثم تلا قول الله: {لَقَد تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:117 - 118]}. وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين. يا أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خُرِّجُوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الحديث، وصدق في المواقف، وصٌبر عند اللقاء، واعتراف بالخطيئة، قبول في حال الرضا والغضب من غير تنميق عبارات من أجل تلفيق اعتذارات؛ فهل عقمت النساء أن يلدْن في هذا العصر آلافاً من مثل أولئك الصادقين؟ لا. لم تعقُم النساء، لكن الشباب والشيب والنساء في حاجة إلى تربية إسلامية تغرس في نفوسهم الصدق والإخلاص، وتُبعد عنهم النفاق والرياء والالْتواء، وتقول لهم بكل عزة: قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته فمنَّا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون. اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره. اللهم أقِم دولة الإسلام في كل مكان، وارزقنا اللهم فيها العزة والقوة والمنعة تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله. اللهم انصر دينك وكتابك وأولياءك، إنك سميع مجيب الدعوات. أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ربح كعب وأصحابه وخسارة الكاذبين

ربح كعب وأصحابه وخسارة الكاذبين الحمد لله؛ وعد بحسن العاقبة للصادقين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. واعلموا أن الصدق من أكرم الصفات الإنسانية، وأعظم الفضائل الخلقية؛ فهو أهم الأسس في بناء الأمة وسعادة المجتمع؛ إذ به يرتبط كل شأن من شئون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح الناس، ولذلك أمر الله به، وجعله خُلُقاً لحَمَلَة وحْيِه ومبلِّغي رسالاته؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة ومثلاً أعلى للصدق في القول والعمل منذ نشأته حتى لحق بربه صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون. وما عاش المجتمع الإسلامي الأول في ظل الأمن والاستقرار والسعادة إلا لأن أفراده كانوا يتحرَّوْن الحقَّ، ويتصفون بالصدق في علاقاتهم وعباداتهم ومعاملاتهم؛ بل في كل حياتهم الخاصة والعامة، والمؤمنون كذلك صُدُق في كل زمان ومكان. ولنرجع معك أخي المسلم إلى قصة كعب؛ فلم تنتهِ بعدُ، لم تقف القصة عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول، إنما جلس كعب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك، ثم قال: يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما حييت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدْتُ كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة -قط- بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا}. إن الله قال للذين كذبوا شرَّ ما قاله لأحد يوم قال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96]. فيا عبد الله: الصدق فضيلة وطمأنينة بل صفة من صفات المؤمنين؛ فلتكن متعلقاً به، وليكن قدوتك كعباً وصحبه -رضوان الله عليهم- فليس بينك وبينهم حاجب يحجبك عن التشبُّهِ بهم، اقتدِ بهم تكن بعضهم. إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على الصدق والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك ليكن قدوتَك الإمام ابن شهاب الزهري يوم يقول: [[والله! لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت]]. ألا عباد الله: تحرَّوْا الصدق، وإن رأيتم الهلكة فيه؛ فإن النجاة فيه، وتجنبوا الكذب، وإن رأيتم النجاة فيه؛ فإن الهلكة فيه، ألا واتقوا الله، وكونوا مع الصادقين، وتوبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديداً تفوزوا فوزاً عظيماً؛ فالصدق أبلج، والكذب لجلج. والكذب ساعة، والصدق إلى قيام الساعة. والحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسألُ وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدلُ ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى أهله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم أصلح من بصلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. رباه! إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك، وحملة كتابك وأتباع رسولك وحبيبك؛ قد تمزق شملهم، وتفرق جمعهم، وذهبت هيبتهم، ونال منهم عدوهم، وطمع فيهم الأذلاء، وسلط عليهم بذنوبهم من لا يخافك ولا يرحمهم. اللهم فالطف بهم بلطفك الخفي والجلي، اللهم الطف بهم بلطفك الخفي والجلي، اللهم لا تعاملهم بما فعل السفهاء والكبراء منهم يا رحيم يا منان. اللهم ارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة يعز فيها أولياؤك، وينصر جندك، ويذل فيها أعداؤك وأعداء دينك وشريعتك وكتابك العظيم. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الطيب الطاهر المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت نسألك فرجاً عاجلاً للمضطهدين والمستضعفين من المسلمين، وهلاكاً للطغاة والظلمة المجرمين، تباركت أسماؤك وتقدست صفاتك ولا إله غيرك. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا. اللهم احفظ شباب هذه الأمة الذي آمن بك رباً وبنبيك قائداً وبدينك منهاجاً وطريقاً. اللهم احفظهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين من أعداء دينك وصراطك المستقيم. اللهم ثبتهم على الحق، وانصر بهم دينك، واجعلنا وهم من الصادقين والصابرين والمجاهدين في سبيلك يا أرحم الراحمين! اللهم وأقم دولة القرآن في كل مكان، وأحينا بها سعداء كرماء أو أمتنا دونها شهداء، واجعلنا من أهل الصلاح والفلاح والنجاح يا سميع الدعاء. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، اللهم وأهلك الكفرة الفجرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك وعبادك الصالحين. اللهم أنزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم يا قريباً لمن دعاك! يا مغيثاً لمن لاذ بحماك! يا معيذاً من استعاذ بك، نسألك أن تعيذنا من النار ومن دار الخزي والبوار. اللهم حقق رجاءنا، واقبل دعاءنا فإنك أنت القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، وأنت الرحيم الرحمن الحليم المنان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم فلا تردنا خائبين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

هلموا إلى القرآن

هلموا إلى القرآن القرآن إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. القرآن سبب لكل خير في هذه الأمة، وتركه والابتعاد عنه سبب لكل عقوبة تقع في هذه الأمة. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا فضله، وكان يسمعه من غيره، وإذا سمع آيات من كلام الله دمعت عيناه. القرآن في عهد الصحابة جعلوه في صدورهم، فرفعوا، وتركه غيرهم فوضغوا.

القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة

القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: {الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت جسمك فيما فيه خسران أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان عباد الله: وأنتم تعيشون شهر القرآن اتقوا الله، واعلموا أن لكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام معجزة اِختُصَّ بها بين الرسل؛ ليصدقه قومه وليعلن التوحيد فيهم بالبراهين. فكان لموسى عليه السلام معجزة العصا، يوم خرج في قومٍ بلغوا في السحر ذروته ومنتهاه، فأتت عصاه تلقف ما صنعوا: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118]. وبلغ قوم عيسى مبلغاً عظيماً في الطب، فأتى إليهم عيسى بطب من الواحد الأحد، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فوقع الحق واندحر الباطل. وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فبعث في أمةٍ فصيحة في لغتها، مجيدة في بيانها، خطيبها أخطب الخطباء، وشاعرها أرقى الشعراء، فأتى إليهم صلى الله عليه وسلم بالقرآن، سمعوه فدهشوا من بيانه، وبهتوا من بلاغته وفصاحته، فما استطاعوا أن ينكروا ذلك رغم جحودهم، حتى يقول كبيرهم الوليد بن المغيرة - وقد سمع القرآن فدهش:- واللات والعزى، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه. لا إله إلا الله! الحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسأل وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدل ما زال به قومه -بـ الوليد - حتى رجع عن مقالته، وكذب نفسه فيما قاله عن القرآن، فقال منتكساً كما حكى الله عنه: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] ويتولى الله الرد عليه ويعنفه ويتهدده: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:26 - 28]. ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُرَبِّي هذه الأمة على هذا الكتاب العظيم الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فتربت الأمة وتهذبت. وأصبح عابد والأصنام قُدماً حماة البيت والركن اليماني تربت على كتاب ما قرأه قارئ إلا آجره الله، وما تدبره متدبر إلا وفقه الله. كتابٌ مَن حكم به عدل، ومن استمع إليه استفاد، ومَن اتعظ بمواعظه انتفع. كتاب من قرأه علَّمه الله علم الأولين والآخرين. كتاب من استنار بنوره دخل الجنة، ومن تقفاه وجعله خلف ظهره قذفه على وجهه في النار. كتاب من تدبره أخرج النفاق والشك والريبة من قلبه، هو شفاء لما في الصدور، مَن التمس الهداية فيه هداه الله وسدده، ومن التمس الهدى من غيره أضله الله وأهانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ويقول جل ذكره: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] والمعنى: ما بهم لا يتدبرون ما فيه من العظات؟ ما بهم لا يعيشون مع الآيات البينات؟ و A رانَ على قلوبهم؛ فأقفلت فلا تسمع، وأوصدت فلا تنتفع، ولو أنها تدَّبرت لفهمت كلام ربها فاهتدت بهدي باريها. ويقول تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] والاختلاف الكثير تجده في الكتب غير كتاب الله عز وجل، أما كتابه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] من قرأه بارك الله في عمره، وبارك في ولده، وبارك في ماله، ومن أعرض عنه محق الله عمره، وأزال هيبته، وأفنى كابره وصاغره، وجعل معيشته ضنكاً، وحشر يوم القيامة أعمى.

حث النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن

حث النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كان عليه الصلاة والسلام ينادي الناس -جميعاً- لقراءة القرآن، والتلذذ بتلاوته وألا يهجروه، فيقول صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} يأتيك القرآن يوم القيامة فيشفع لك عند من أنزله، وعند من تكلم به في يوم لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ، فيدخلك الجنة بإذن الله تعالى. ويقول صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة} متفق عليه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرءا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ فأنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما فِرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما} {اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة} يعني السحرة. رواه مسلم {إن في سورة البقرة آية الكرسي مَن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظاً ولا يقربه شيطان حتى يصبح} ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يفاضل بين الناس: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}. علامة الصدق والإيمان: كثرة قراءة القرآن، وعلامة القبول: تدبر القرآن، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين} قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد ولاته على مكة وقد ترك مكة ولقيه في الطريق: كيف تركت مكة وأتيتني؟! قال: وليت عليها فلاناً يا أمير المؤمنين! قال: ومن هو ذا؟ قال: مولى لنا، وعبد من عبيدنا، قال عمر: ثكلتك أمك تولي على مكة مولى! قال: يا أمير المؤمنين! إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فدمعت عينا عمر وقال: صدق رسول الله: {إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}. يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه، ويضع به من أعرضوا عنه فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به، والعجيب! أن تسمع من بعض هذه الأمة من يقول لأخيه وهو يحاوره: والله ما قرأت القرآن ستة أشهر! لا إله إلا الله! أي قلب يعيش وهو لم يمر على كتاب الله ستة أشهر، وهو يمر بالصحف اليومية والمجلات والقيل والقال والخزعبلات وآراء الماجنين والماجنات: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].

هجر القرآن

هجر القرآن يقول الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]. يقول ابن عباس رضى الله عنه وأرضاه: [[مَن لم يختم القرآن في شهر فقد هجره]] وهَجْرِ القرآن على أضرب: مِن الناس مَن يهجر العمل به، وتلك -والله- هي الطامة، ومنهم من يهجر تلاوته؛ فيقدم صحف ومؤلفات البشر على كلام رب البشر، يسهر على المذكرات يُعللها ويلخص فوائدها وليس بها فوائد، لكنَّ كتاب الله يشكوه إلى الله، كتاب الله يشكونا، هجرناه وأهملناه وضيعناه وخالفنا أوامره ونواهيه، قرآننا صار يشكو ما قرأناه: عميٌ عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأحياه يقول صلى الله عليه وسلم يستثير الهمم لتطلب الأجر والثواب من عند باريها: {اتلوا القرآن! فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} فعُد -يا عبد الله- واقرأ واحتسب الأجر عند الله؛ فإنك تأتي يوم القيامة وقد نصب لك في الجنة سلماً بدرجات، يقول الله لك بلا ترجمان: {اقرأ وارق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} فمن كان يقرأ في القرآن كثيراً رقى حتى يصبح كالكوكب الدُّري في سماء الجنة، ثم هم على منازل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163]. عباد الله: من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه، لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها، لا حسد إلا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، بيتٌ لا يقرأ فيه القرآن عششت فيه الهموم والغموم والنفاق، بيتٌ سكنته المعاصي والله لا يخرجها إلا القرآن، وليس كل المؤمنين يجب عليهم قراءة كل القرآن كاملاً، فمنهم من لا يقرأ القرآن وهو تقي عابد بار صالح خير؛ لأنه لا يقرأ أصلاً، فواجب مثل هؤلاء الذين فاتتهم القراءة أن يرددوا ما تيسر من سورٍ يحفظونها، وأن يسبحوا الله، ويحمدوا الله، ويهللوا ويكبروا ويصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلموا القرآن، وإن شق عليهم فإن لهم أجرين عند الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن بل كتابه الذي تربَّى عليه القرآن. ولم يكن عند الصحابة مؤلفات ولا صحف ولا مجلات، معهم القرآن مُعلَّق في طرف البيت والسيف معلق في الطرف الأخر، كانوا يمشون على الأرض وكل واحد منهم قرآن، فتحوا الدنيا بآيات الله البينات، وهذه معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكتاب فيتوارث منه العلماء مجلدات ومجلدات تملأ البيوت والمكتبات في كل الدهور والعصور. أتى النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بعظيمٍ غير مُنْصَرِمِ آياته كلما طال المدى جُددُ يَزِيِنُهُنَّ جلالِ العِتْقِ والقِدَمِ فيا أمة القرآن! ويا حفظة كتاب الله! من يقرأ القرآن إن لم تقرءوه؟ مَن يتدبره إن لم تتدبروه؟ من يعمل به إن لم تعملوا به؟ أما سمعتم أساطين الكفر في كل مكان بدءوا -الآن- في الدخول في دين الله زرافات ووحداناً، بعد أن قال القرآن فيهم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] في وقت يخرج منه أبناء هذا الدين. الموازين عطلت وغدا القرد ليثاً وأفلتت الغنم

حال السلف مع القرآن

حال السلف مع القرآن عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يحب سماع القرآن، كيف لا وهو كلام الله عز وجل؟

حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن

حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن ولذلك يقول لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: {يا عبد الله! اقرأ عليّ القرآن -فيخجل عبد الله ويستحي من شيخه صلى الله عليه وسلم- فيقول ابن مسعود: كيف أقرأ القرآن عليك وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فاندفعت أقرأ في سورة النساء، فلما بلغت قول الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك حسبك، فنظرت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان} تأثر من كلام الله الذي يقود النفوس إلى باريها، وتذكر ذلك اليوم الذي يكون فيه شهيداً على العالمين.

أبو موسى وتحبيره القرآن

أبو موسى وتحبيره القرآن وهاهو صلى الله عليه وسلم يخرج بعد أن أظلم الليل يمر ببيوت الأنصار يستمع لحالهم في الليل، يوم كانت بيوتهم حية بكتاب الله، يوم لم تمت بالأغاني والتمثيليات والمسلسلات والأفلام، يوم كان ليلهم تعبداً هم فيه سجداً، يمر ببيت أبي موسى فينصت لـ أبي موسى وهو يقرأ القرآن، فلمَّا جاء اليوم الثاني قال: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لك، لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود. فيقول: يا رسول الله! أإنك كنت تستمع لي البارحة؟ قال: إي والذي نفسي بيده} وفى بعض الروايات: {أنه استمع صلى الله عليه وسلم له من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر يقول أبو موسى: يا رسول الله! والذي نفسي بيدي لو أعلم أنك تستمع لي لَحَبَّرْتُهَ لك تَحْبِيِراً} أي: جودته وحسنته تحسيناً؛ فانظروا كيف كان صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن وللقرآن، وكيف كان صحابته رضوان الله عليهم.

عثمان وتلاوته وتدبره للقرآن

عثمان وتلاوته وتدبره للقرآن هاهو عثمان رضي الله عنه كان ينشر المصحف من بعد الفجر إلى صلاة الظهر، يقرأ ودموعه تنهمر على كتاب الله، فيقول له الناس: لو خففت عن نفسك، قال: [[أما والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]].

حال أمة الإسلام اليوم مع القرآن

حال أمة الإسلام اليوم مع القرآن والذي نلاحظه -يا عباد الله- في أنفسنا وإخواننا المسلمين عامة هو قلة الاهتمام بكتاب الله، والإعراض عن كتاب الله، والاستغناء بكتب البشر، والصدود والإعراض إلا ممن رحم الله، وقلة التجويد حتى من بعض أئمة المساجد، وقلة الحفظ والتدبر، وكثرة المشاغل حتى بين طلبة العلم، لا تجد إلا القليل النادر ممن يحفظ القرآن أو يحفظ بعضه، وإذا كُلِّفَ أحدنا بحفظ شيء من القرآن استصعب ذلك حتى كأن جبال الدنيا على كاهله. ومعنى ذلك: هزيمة الإسلام والمسلمين وذهاب الإيمان، فوالله لا نصر ولا تمكين ولا عزة إلا بهذا القرآن، والله متى تركناه ونسيناه ابتلينا بكل خزيٍ وفضيحةٍ في الدنيا والآخرة. يقول أحد أعداء الإسلام: من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء الإسلام؟ فيرد أحد الأشقياء ويقول: نأتي إلى المصحف فنمزقه، قال: لا. لا ينفع، نريد أن نُمزَّقه من قلوبهم وقلوب أبنائهم. ويقول عدو آخر للإسلام: ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم؛ القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين، فإذا قضي على هذه قُضَي على الإسلام والمسلمين. ولذلك جاء أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم من شيعة وباطنيين ورافضة جاءوا إلى القرآن فهونوا من شأنه، وقالوا: إنه مختلق، بل اِدَّعُوا نقصه، فعلماؤهم لا يحفظون من كتاب الله إلا القليل، وعالمهم -أقصد عالم الرافضة - لا يعرف قراءة القرآن: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] وأتوا إلى منبر الجمعة فأرادوا تعطيله ليتحول إلى مناقشة قضايا تافهة لا تمت إلى الإيمان بصلة: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر:25].

عودة عودة إلى القرآن

عودة عودة إلى القرآن فيا أيتها الأمة المسلمة! يا من أخرجها الله من الظلمات إلى النور! أقبلوا على بيوتكم وقلوبكم وأبنائكم، أقبلوا عليها بتغذيتها بكتاب الله، استرشدوه يرشدكم، تدبروه يعنكم بإذن الله، استهدوه يهدكم من أنزله، يغفر الله لكم ذنوبكم ما تقدم منها وما تأخر، يُحيي بيوتكم على الإيمان، يردَّكم إليه رداً جميلاً. هذا شهر القرآن، هذا شهر التلاوة، هذا شهر مضاعفة الأجور، أقرءوا فيه القرآن فإن الله يأجركم على تدَّبره وتلاوته والنظر فيه، ملأ الله بيوتكم وقلوبكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، وملأ صدوركم إيماناً ويقيناً وخيراً وبراً، عاشروا القرآن، جالسوا القرآن؛ ليعظم في قلوبكم القرآن. اللهم أعنا على تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار، اللهم اجعلنا ممن يقرءوه فيقودهم إلى جنات النعيم، اللهم وتقَّبل منا رمضان صيامه وقيامه، وتلاوته وصدقته، وكل عمل صالح فيه إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

بعض آداب قراءة القرآن

بعض آداب قراءة القرآن الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: شهر رمضان هو شهر القرآن، وأنتم أمة القرآن وحملة القرآن، ينبغي أن تُعْرَفوا بليلكم إذا الناس ينامون، وبنهاركم إذا الناس يكدون ويلهون ويلعبون، وببكائكم إذا الناس يضحكون، وبورعكم إذ الناس يخلطون، وبتواضعكم إذ الناس يختالون، وبصمتكم إذ الناس يخوضون، وبحزنكم إذ الناس يفرحون، لسان حال الواحد منكم يخاطب نفسه ويقول: وَيْحُكِ يا نَفْسُ أَلاَ تَيَقَّظِي للنفع قبل أن تزل قدمي مضى الزمان في ثوانٍ وهوى فاستدركي ما قد بقي واغتنمي أُمَّة القرآن: لتلاوة القرآن آداب نقف عندها وقفات قصيرة علَّ الله أن ينفع بها. وأولها بل جماعها: الإخلاص لله، فمن قرأه رياءً أو سمعة كبه الله على وجهه في النار. ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بحامل القرآن رياءً فيقول الله له: ماذا عملت؟ قال: تعلَّمت فيك القرآن وعلَّمته، قال: كذبت وإنما تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ، فقد قيل ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار} فلا إله إلا الله! لا يُقْرَأ القرآن إلا لوجه الله، فأخلصوا النية في قراءته تؤجروا وتثابوا وتكونوا مع السفرة الكرام البررة ويشفع لكم يوم القيامة، فيقول: يا رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفع فيه القرآن. ومن آداب التلاوة: أن يقرأ على طهارة؛ لأن ذلك من تعظيم كلام الله عز وجل، فإذا تطهر العبد فليُرتل وليتدبر القرآن، ولا يقرأه في أماكن مستقذرة، أو في جمع لا ينصت فيه له؛ لأن قراءته في مثل ذلك إهانة له، والقرآن مُنَّزه عن ذلك؛ لأنه كلام الله. وليستعذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم عند القراءة، يقول عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ولتحضر قلبك عند تلاوة القرآن، ولتعلم أن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الإنس والجان، فامتثل أمره واجتنب نهيه. ولا ترفع صوتك إن كان حولك من يُصلي أو يتلو فتشوش عليهم، وهذا ما يقع فيه البعض وهو من علامة الجهل وعدم الفقه في الدين، يأتي أحدهم ليقرأ فيرفع صوته ليشوش على المصلي في صلاته، وعلى التالي في تلاوته، وعلى الذاكر في ذكره، وكأن ليس في المسجد سواه، أَلاَ إن كان بجانبك من يستمع منك فلا بأس أن تسمعه، وإن كان بجانبك مصلي فإياك أن ترفع صوتك لئلا تُشَوِّشْ عليه واسمع للمصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يخرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فيقول: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض، لا يؤذي بعضكم بعضا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. واسمع إلى الإمام مالك رحمه الله يوم يقول: أرى في من يرفع صوته ويُشوش على المصلين أن يُضْرَْب ويُخْرَج من المسجد. ومن آداب التلاوة: أن يكون للعبد المسلم حزب من القرآن فأكثر، لا يَفْتُرْ عنه يومياً لو تغير كل شيء في الكون ما تغير عن حزبه، فهو علامة الإيمان، ألا فليكن لكل واحدٍ منا في كل يوم حزب لا يتركه أبداً، لتعظم الصلة بالقرآن وبرب القرآن والإنس والجان. ومِن آدابه: أن يُعَلَّم الناس ما تعلمناه منه، وحظنا من تعليمه الأجر والمثوبة، ولنبدأ بتعليم أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأمهاتنا وآبائنا فهم رعايانا، ونحن عنهم مسئولون وأمام الله محاسبون. يقول صلى الله عليه وسلم: {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} ومن أعظم الغش ألا تعلِّم من استرعاك الله عليه القرآن. ويا من حمل القرآن: إياك إياك أن تخالف أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يُمَثَّلُ القرآن يوم القيامة رجلاً، فيُؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيُمَثَّل له خَصْماً -ومن ذا يُخاصِمُ القرآن؟! - فيقول القرآن: يا رب! حَمَّلْتَه إياي فبئس الحامل، تعدَّى حدودي، وضيَّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يخلف عليه بالحُجَجِ حتى يقال شأنك به، فيأخذه بيده فما يُرسله حتى يُكِّبه على وجهه في النار} نعوذ بالله من النار. يا أمة القرآن: في شهر القرآن: قفوا عند أحكام القرآن واتلوه في كل حين وآن، فهو شافع مشفع مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار وبئس القرار.

حث القرآن على الإنفاق في سبيل الله

حث القرآن على الإنفاق في سبيل الله يا أمة القرآن: إن مما دعاكم له القرآن: أن تُنفقوا في سبيل الله مما رزقكم وجعلكم مستخلفين فيه، وأنتم في شهر الإنفاق، وفي شهر الصدقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصدقة صدقة في رمضان}. فيا أخي الصائم: للصدقة في رمضان مزية وخصوصية ليست في غيره، فبادر إليها فلعلك لا تدرك رمضان آخر، أطعم الطعام لتكن ممن امتدحهم القرآن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8]. واسمع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {أيما عبد مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم}. فلا إله إلا الله ما أعظم الأجر! وما أيسر العمل على من يسره الله عليه! ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من فطَّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة} لا إله إلا الله! هبت رياح الجنة في رمضان فاغتنموها يا عباد الله! ألا لا يخرج أحد من بيت الله هذا إلاَّ وقد فَطَّرَ -في أقل القليل- عشرة من الصوَّام أو أقل أو أكثر، وكل صائم بعشرة ريالات، والجزاء من أكرم الأكرمين، توضع هذه في صناديق موجودة على يمينك ويسارك وأنت خارج من هذا المسجد، وستقوم الهيئة بجمعها وإرسالها فوراً، فبادر أيها الصائم إلى الغنيمة الباردة، ضيوفك اليوم عشرة صائمين أو أقل أو أكثر، والأجر من أكرم الأكرمين، لك مثل أجرهم لا ينقص من أجرهم شيئاً، وكلٌ على قدر استطاعته. الله أعطاك فابذل من عطاياه فالمال عارية والعمر رحال ويا أهل الخير في هذا المسجد وكلكم أهل خير: أطفال أيتام توجد استماراتهم في مكاتب الهيئة هنا، كفالة الواحد منهم في العام ألف ومائتا ريال ينتظرون من يكفلهم، بادروا إلى كفالتهم، ولكم الجنة من أكرم الأكرمين، والضمين رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: {أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة} ألا لا يأتين أحدكم يوم القيامة وخصمه أحد هؤلاء يقول: يا رب! عُرِضت عليهم في يوم كذا في مسجد كذا، فتركوني فخذ لي بحقي منهم. عباد الله: اقرءوا القرآن وتصدقوا قبل ألا تتصدقوا، وكل يوم جمعة في رمضان سيكون لفقراء المسلمين معكم لقاء، لقاء ضيافة والجزاء من أكرم الأكرمين، فاحتسبوا الأجر والثواب ممن يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، أطعمكم الله من ثمار الجنة وسقاكم من الرحيق المختوم. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أُمِرتم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم شَفِّع فينا القرآن، اللهم ارفعنا بالقرآن، اللهم أحينا على الإسلام والإيمان والقرآن وتوفنا على الإسلام والإيمان والقرآن. اللهم اجعلنا ممن يأخذ بيده القرآن إلى رضوانك والجنة، ونعوذ بك أن يكون القرآن خصماً علينا يوم الوقوف بين يديك. اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ويعمل بأوامره ويتلوه على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، وبما فيه من الحكم معتبرين. اللهم انفعنا بما فرجت به من الآيات وكفر عنا به السيئات، وارفع لنا به الدرجات، وهون علينا به السكرات عند الممات. اللهم وأوجب لنا به الشرف والمزيد وألحقنا بكل بر سعيد ووفقنا جميعاً للعمل الصالح الرشيد. اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، بنو إمائك نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا وهمومنا. وسابِقَنَا ودليلنا إليك وإلى جنانك جنات النعيم، اللهم ألبسنا به الحلل وأَسْكِنَّا به الظلل وادفع به عنا النقم واجعلنا به عند الجزاء من الفائزين وعند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين فشغلته بالدنيا عن الدين فأصبح من الخاسرين وفى الآخرة من النادمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم واجعلنا من المنفقين المبتغين جنة عدن بحورها العين. اللهم تقَّبل منا صيامنا وقيامنا وسائر عملنا، اللهم لا تصرف هذا الجمع إلا بذنب مغفور، وعيب مستور وعمل مقبول، وتجارة لن تبور، اللهم لا ترُدَّ هذا الجمع خائبين، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم بما تصنعون.

بلسم الحياة

بلسم الحياة الإنسان بطبيعة الحال يسعى وراء الحياة الطيبة، ولكن الناس في سعيهم لهذه الحياة يختلفون في الطرق الموصلة لها. وفي هذه المادة -أيها القارئ الكريم- تجد حقيقة الطريق المؤدية إلى الحياة الطيبة، وصوراً من واقع من سار في هذا الطريق، وما وجد فيه من السعادة.

أثر فقد الإيمان في الحياة

أثر فقد الإيمان في الحياة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. فصلِّ يا رب على خير الورى ما صدحت قُمْرية على الذرا والآل والأزواج والأصحاب والتابعين من أولي الألباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أما بعد: فيا عباد الله: لم يزل كثير من الخلق يلهثون وينصبون، ويسعون ويكدون، فمنهم: من يسعى لجمع المال من أي القنوات. ومنهم: من يلهث في بهيمية خلف الشهوات وأوضار القنوات. ومنهم: من يهرول وراء الشهرة والجاه والسلطان في سبات التيه قد أمضى رحلات. ومنهم: من يعدو وراء الأماني والأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح. كمهمهٍ فيه السراب يلمح يدأب فيه القوم حتى يطلحوا ثم يظلون كأن لم يبرحوا كأنما أمسوا بحيث أصبحوا ضياع أعمار نفيسة في طلب أغراض خسيسة، أَمَا إنك لو سألتهم جميعاً من وراء ذلك السعي واللهث ما تريدون؟ لأي شيء تهدفون؟ لأجابوك: الحياة الطيبة نريد، إلى السعادة نهدف، نركض ونعدو إلى سرور النفس ولذة القلب، ونعيم الروح وغذائها ودوائها وحياتها وقرة عينها نتوق. أرادوها فأخطئوا طريقها، وتاهوا فعطشوا وجاعوا، وعلى الوهم عاشوا؛ فصار حالهم كمن سقي على الظمأ بالسراب والآل، وكانوا كمن تغدى في المنام، وفي تيههم فقدوا حاسة الشم والذوق فلم يفرقوا بين الروائح العطرة من الكدرة، ولا العذب في الفرات؛ فشقوا وتعسوا ويظنون أنهم سيسعدون. غفلوا في تيههم عن داعي الحق على الطريق وهو يندبهم ويقول: مهلاً مهلاً. والله لا يُسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها، ولا يُذهب غمها وهمَّها وقلقها، ويسد جوعتها وظمأها، ويعيد لها شمها وذوقها، إلا الإيمان بالله رب العالمين بلسم الحياة ومفتاح السعادة، قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. هذا خبر من أيها المؤمنون؟ ينبيك عنه ابن القيم بما ملخصه -في تصرف-: إنه خبر أصدق الصادقين، وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر: أنه لابد لكل من عمل صالحاً مؤمناً أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6]. وأما الجفاة الأغلاظ لا يعلمون، غلطوا في مسمى هذه الحياة؛ فظنوها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، ولذة الرياسة والمال وقهر الأعداء، والتفنُّن بأنواع الشهوات والملذَّات، حال أحدهم: إذا تغديت وطابت نفسي فليس في الحي غلام مثلي إلا غلام قد تغدى قبلي فنصف النهار لترياسه، ونصف لمأكله أجمع. لا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام والبهائم فذلك مسكين ينادى عليه من مكان بعيد، هِمَّتُه هِمَّةٌ خسيسةٌ دنيئةٌ، همة حُشّ. كل داءٍ في سقوط الهمم يجعل الأحياء مثل الرمم نامت الأُسْد بسحر الغنم سمت العجز ارتقاء الأمم

صور لمن ذاقوا بلسم الحياة

صور لمن ذاقوا بلسم الحياة أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب سلا صاحبه عن الأبناء والنساء والإخوان والأموال والمساكن والمراكب والمناكح والأوطان، ثم رضي بتركها كلها والخروج منها رأساً وهو وادع النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، لعلمه أن الجنة حُفَّت بالمكاره، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه في سبيل الله، أو قتلهم إن كانوا أعداء الله. فلم يكن في سبيل الله تأخذه ملامة الناس والرحمن مولاه فإذا بأحدهم يتلقى سنان الرمح بظهره فيخرج من بين ثدييه، والدماء تثعب منه، فينضح من هذه الدماء على وجهه وجسده، ويقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]]، حتى قال قاتله: فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قتلت الرجل؟ فما زال يسأل حتى أُخبر أنه فاز بالشهادة وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال قاتله: فاز لعمر الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إن بعض النفوس، تظل في شك من مصداقية هذا الدين، حتى ترى قسمات الفرح بادية على وجوه أفراده بشراً وسروراً وسكينةً واطمئناناً، وهم يواجهون الموت في سبيله! لنقاءٍ ونماء ولإيمان وثيق قتلهم في الله أشهى من رحيق فازوا من الدنيا بمجد خالد ولهم خلود الفوز يوم الموعد ويستطيل الآخر حياته، فيلقى قوت يومه من تمرات يوم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قوموا إلى جنة عرضها الأرض والسماوات} يقول: [[لئن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة!]] ثم يتقدم للموت فرحاً مسروراً. آية المؤمن أن يلقى الردى بَاسِم الثغر سروراً ورضا ليس يدنو الخوف منه أبداً ليس غير الله يخشى أحداً ويلبس بلال رضي الله عنه أدرع الحديد، ويصهر في الشمس يئن تحت وطأة صخرة عظيمة، فوق رمضاء قاسية في يوم قائظ في مكة -وأهل مكة أدرى بقيظ مكة - يراود على كلمة الكفر، ومن الميسور عليه أن يقولها لو أراد وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه ذاق حلاوة الإيمان، فمزجها بمرارة العذاب والحرمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأطلقها كلمات تتقطع لها قلوب معذبيه حنقاً وغيظاً؛ ليرغم أنوفهم بها قائلاً: [[أحد أحد، لو وجدت أحنق منها وأغْيَظ لكم منها لقلتها]]. هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وثبت فكانت العاقبة، فإذا به يعلو الكعبة فيصدح بالأذان ليرغم به من المشركين القلوب والآذان، حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قامت زوجه تقول: وا بلالاه! وا حزناه! فيقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[بل وافرحاه! واطرباه!]] غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه. أرسلتها كلمات منك صادقة بيضاء آذانها الأخلاد والقلل بريقها وهي تهوي في مسامعهم بلاغة خشيت لألاءها المُقَل وإذا بسيف الله خالد أبي سليمان فارس الإسلام وليث المَشَاهد رضى الله عنه يقول حين ذاق بلسم الحياة وخالطت بشاشته قلبه: [[والله! ما ليلة تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشَّر فيها بغلام، بأحب من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أنتظر فيها الصبح لأغير على أعداء الله]]. كأنما الموت في أفواههم عسل من ريق نحل الشَّفا حدث ولا حرجا حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قال: [[لقد طلبت القتل مظانّه، فلم يقدر لي أن أموت إلا على فراشي، ولا والله الذي لا إله إلا هو ما عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على أعداء الله، لقد شهدت كذا وكذا مشهداً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء، عدتي وعتادي في سبيل الله]] ثم لقي الله رضى الله عنه وأرضاه. الدم الزاكي جرى في عرقهم فاض مسكاً وتندى عنبراً فاسألوا عن كل نصرٍ خالداً واسألوا عن كل عدلٍ عمرَ وإذا بـ ابن تيمية رحمه الله يدخل سجن القلعة ويغلق عليه الباب، فيبرز بلسم الحياة في تلك اللحظة -أعني الإيمان- فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رُحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان. المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، والله لو بذلت ملء القلعة ذهباً ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، حاله: أنا لست إلا مؤمناً بالله في سري وجهري أنا نبضة في صدر هذا الكون فهل يضيق صدري يقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: وعلم الله! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والتنعم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، ومع ذلك فهو من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. رجحوا حلماً وخفوا همماً ونشوا سِيداً وشبوا عُلَما علموا من أين ينزاح الشقا فأزاحوه وعاشوا سعدا إنه بلسم الحياة. وإذا بآخر يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه، فما يزيد على أن يَفتَّرَ عن ابتسامة من ثغره نابعة من صدر مطمئن هادئ، يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه ذلك القتل فَيفتَّر ثغره عن ابتسامة نابعة من صدر مطمئن هادئ، واثق بموعود الله كما يُحكى، فيقال له: ما تنتظر؟ قال: أنتظر القدوم على ربي، لقد عملت لهذا المصرع خمسة عشر عاماً، وإني لأرجو الله أن تكون شهادة في سبيله. فوالله إني أرى مصرعي ولكن أرغدُّ إليه الخطا وتالله هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا وآخر كان يعيش حياة الضياع والحرمان والتعاسة وعدم المبالاة، فيمر على مسجد بعد صلاة المغرب، وإذا بالمتكلم يتكلم فيه حول قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] فألقى سمعه وقلبه، وصار في حالة من الذهول، سمع مصيره ومآله -ولا عدة له- تذكر أيامه السوداء البائسة، ووقوفه بين يدَيْ ربه لا تخفى على الله منه خافية، استفاق قلبه، استيقظ إيمانه، تغلغلت الموعظة إلى سويداء قلبه، اندفع يبكي وينتحب، ويقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله، غفرانك يا رب، رحمتك يا أرحم الراحمين! بادر واغتسل وصلّى صلاة المغرب، وذهب إلى هذا الداعية المتكلم، فقصَّ عليه قصته، وأوصاه الداعية بوصايا، وسأل الله له الثبات، أقبل على تنفيذ هذه الوصايا إقبال الظامئ على الماء البارد في يوم قائظ. يقول هذا التائب -وقد ذاق ذلكم البلسم-: والذي لا إله إلا هو ما نمت تلك الليلة من فرحي بالهداية والإقبال على الله، وتالله لقد حفظت القرآن في أربعة أشهر عن ظهر قلب، صلح حالي، وانشرح بالي، وذهبت غمومي وهمومي، تراه طلق المُحيَّا، بشوشاً يختم القرآن في كل ثلاث، وصدق الله جل وعلا يوم قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. سعادة الدين والدنيا مقيدة بمنهج الله فهو الشرط والسبب وإذا بالآخر يقول مع فقره وحاجته: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وإذا بالأعرج يوم أحد كما في المسند بسند حسن يقول: {يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. تقول زوجته: لكأني أنظر إليه وقد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً -وقاتل حتى قتل- فمر عليه صلى الله عليه وسلم فقال: لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة} إيهٍ إيهٍ!! ليرفعها من حضيض التراب إلى الأفق الأرحب الأكرم وإذا بالآخر في القادسية يبارز مجوسياً، فيقتل المجوسي ويعينه الله -عز وجل- عليه، لكنه رحمه الله يصاب في بطنه، فتنتثر أمعاؤه، ويمر به رجل من المسلمين فيقول: أعنِّي على بطني، فأدخل له أمعاءه في بطنه، ثم أخذ بصفاق بطنه يزحف نحو أعداء الله على هذه الحال، فيدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه، وهو يقول: أرجو بها من ربنا ثوابا قد كنت ممن أحسن الضرابا ثم فاضت نفسه رحمه الله. يعانقون ظباها وهي هاوية كأنما الطعن في لبَّاتهم قُبَلُ إنه الإيمان بلسم الحياة. وإذا بالزوج يتوعد زوجته حين غضب عليها، فيقول: والله لأشقينك ولأتعسنك. فتقول حين خالط الإيمان بشاشة قلبها في هدوء: والله لا تستطيع أن تشقيني كما أنك لا تملك أن تسعدني، لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو في زينة وحلي لحرمتنيها، لكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون. قال: وما هو؟ قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي وعملي، وقلبي في يدي ربي؛ لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربي. هات ما عندك هات معي الإيمان يهديني في بحر الظلمات بلسم الإيمان ينجي مركبي والموج عاتي هل ترى الإعصار يوماً هزَّ شُمّاً راسيات كلاَّ. وإذا بالآخر يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل له: وما أطيب ما فيها؟! قال: محبة الله، ومعرفته وذكره، والله الذي لا إله إلا هو لأهل الليل في ليلهم مع الله ألذُّ من أهل اللهو في لهوِهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم، إنهم لفي عيش طيب.

سبب الخلل في حياة المسلمين

سبب الخلل في حياة المسلمين عباد الله: هذه أقوال ومواقف، أَطَلْت فيها لأنني أعايش فيها شيئاً لا أراه في نفسي ولا في من حولي، أرى أنهم يتذوقون طعماً لم نتذوقه، ويولعون بشيء لم نعشقه. إنه الإيمان بلسم الحياة. أقف وأتساءل من الأعماق، هل هذا الإيمان الذي نعيشه هو الإيمان الذي عاشوه وأحبوه؟! هل البلاء في الأشخاص، أم في الزمان، أم في الإيمان؟! إن الإيمان هو الإيمان أيها المؤمنون، والزمان هو الزمان، والأجساد هي الأجساد لم يتغير شيء، لكن الذي اختل فقط: هو العلاقة بين الشخص والإيمان، إنهما لم يلتقيا بعد اللقاء الحقيقي! أما -والله- لو التقى الأشخاص مع الإيمان لقاءً حقيقياً لا شعاراً، لقاءً عميقاً في تشبث واعتزاز، لكان ما كان مما قد سمعتموه، لذة لا يعدلها لذة، وحلاوة لا ينعم من لم يذقها، كيف؟ إنه الإيمان بلسم الحياة، وأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشدائد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمى. المؤمن في كل أحواله وأعماله الصالحة مثل أم موسى عليه السلام، ترضع ولدها، وتطفئ بذلك ظمأ نفسها وشغف قلبها، وتأخذ على ذلك أجراً، فكذلك المؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثواب إيمانه في الآخرة، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فهل زلزلت أنفس جامدات فهبت لتغسل أوحالها

حال الإنسان بلا إيمان

حال الإنسان بلا إيمان الفرد بغير إيمان: ريشة في مهب الريح لا تستقر على حال ولا تسكن إلى قرار. الفرد بلا إيمان: ليس له امتداد ولا جذور، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينتزعه منه بعد حين. النفس بلا إيمان: مضطربة، حائرة، متبرمة، قلقة، تائهة، خائفة، كسفينة تتقاذفها الريح في ثبج البحر وأمواجه. الفرد بلا إيمان: حيوان شَرِهٌ فاتك لا تُحدُّ شراهته، ولا تُقلَّم أظفاره، سئم حديده، فعجم عوده، وحطَّم قيوده. الفرد بلا إيمان: يكون أدنى رتبة في سلم المخلوقات، من أذل البهائم، وأضعف وأحقر الحشرات، وأشرس الضواري، كما يقول صاحب قصة الإيمان: البهائم تجوع كما نجوع؛ لكنها في سلامة من همِّ الرزق، وخوف الفقر، وكرب الحاجة، وذل السؤال. البهائم تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، لكنها في راحة من هلع المَثْكَلة وجزع الميتمة، وهمِّ اليتامى والمستضعفين والمضطهدين والمظلومين. البهائم تتلذذ كما نتلذذ، وتَأْلَم كما نأْلَم، لكنها في راحة مما يأكل القلوب ويُقرِّح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشَّمل، ويخرب البيوت من مهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والخيانة والنفاق والعقوق ونكران الجميل. البهائم تُعرف بنوع من الإدراك أعطاها الله إياه ما يضرها وما ينفعها، لكنها في سلامة من أعباء التكاليف، وثقل الأوزار، ومضض الشك، وعذاب الضمير، وهمِّ السؤال بين يدي الحكيم الخبير. البهائم تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، لكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب بعد الممات، وسكرات الموت ومصير ما وراء القبور من حشرٍ ونشور.

علاج الخلل ومثال من الواقع

علاج الخلل ومثال من الواقع يبقى هذا الإنسان الضعيف الهلوع الجزوع، المطماع المختال الفخور المتكبر المترف، شقياً تعيساً، سيء الحظ، عظيم البلاء، منحط الرُّتبة، بائس المصير حين يكون تفكيره بلا إيمان، ولا غرابة. فمن يزرع الريح في أرضه فلا بد أن يحصد الزوبعة ولا والله الذي لا إله إلا هو إنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، يقويه، يعزِّيه، يسلِّيه، يمنِّيه، يرضيه، يُحْييه حياة طيبة على الحقيقة، يعلو يقينه، ينفسح صدره، تعظم سعادته، وحين يفقد ذلك يشقى، ويضيق عليه صدره، ويأسى، ويحزن، ويكتئب؛ فيتداوى بالداء، يلجأ إلى المخدرات والانتحار، ظناً منه أنه يتخلص من الشقاء، وإنما هو في الحقيقية يتقلب في شقاء الدنيا -إن لم يعفُ الله عنه- إلى شقاء الآخرة، ومن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة إن لم يتداركه ربه برحمة منه وَمَنٍّ، نسأل الله العافية. اسمع معي عبد الله لهذا الشاب التائب كما أورد ذلك صاحب طريق السعادة بتصرف، قال الشاب التائب: مرَّ عشرون عاماً من عمري وأنا في ظلام دامس، أتخبط خبط عشواء، لا أحس للدنيا طعماً، مالي كثير، أخلائي كثير، في نفسي جوعة، في صدري ضيق، ماذا يشبع تلك الجوعة؟! ماذا يشرح ذلك الضيق؟! معازف لم تشرح صدري بل معها الجوعة ازدادت، والضيق ازداد، بَدَّلت أخلائي، بدّلت أفلامي، سافرت وعدت، سهرت كثيراً، شربت كثيراً، لهوت كثيراً، تعبت، الجوعة تزداد والضيق كذلك: {حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] أحسست كأني مسجون في دنياي، وأن الأرض برحابتها لا تسعني، فكرت طويلاً وطويلاً، وأخيراً ظهر الحل، الآن أشعر بالراحة -كما أزعم حينها- أخذت سكيناً وقلت: هذه سكيني بيدي تلمع باسمة راضية عن هذا الحل، الناس هجوع، الأهل نيام، السكون عام، أقول -في نفسي-: لم يبق سوى لحظات وأعيش ساعات الراحة كما أزعم، وفي تلك اللحظات سكيني في يدي تقترب من قلبي الميت، أريد أن أنتحر، أريد أن أتخلص من هذا الشقاء، وإذا بصوت يشق عنان السماء، يقطع الصمت، ويدوي في الكون، وترتج به المدينة. الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر. نداء صلاة الفجر، ويْحها من قلوبٍ لا تجيبه ما أتعسها! ما أشقاها! سقطت سكيني من يدي عند سماع الصوت، وسرى في جسدي ما قد سرى، تحرك قلبي الميت على ذلك الصوت، استيقظت بعد طول سبات، ويح نفسي ماذا جدّ؟ أغريب هذا الصوت؟ عشرون خريفاً تسمعه، أما أحسست معناه إلا الآن؟ أجبت هذا الصوت، وجئت بالماء أهريقه على وجهي وجسدي المرهق؛ فيطفئ لظى الشقاء، ويعيد الهدوء إلى نفسي شيئاً فشيئاً، خرجت متجهاً نحو المسجد لأول مرة من عشرين عاماً، الكون مخيف بهدوئه، لا صوت يعلو، لا ضوضاء، دخلت مع إقامة صلاة الفجر، وقفت في الصف مع الناس، صنف من الناس لم أعهده في حياتي. وجوه يشع منها النور، نفوس طيبة مرتاحة، تقدم من بينهم الإمام، وأقبل يحث على تسوية الصفوف، كبر وزلزل كياني تكبيره، شرعت أصلي خلفه، نفسي هادئة، صدري منشرح، يقرأ الآيات وأنصت في تلك اللحظات، لكلام لم أسمعه منذ سنوات وسنوات. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37]. تتسابق مني العَبَرَات، أحسست بملوحتها في فمي، شعرت بلسعاتها، أجهشت ببكاء صادق صنع في صدري أزيزاً كأزيز المرجل، انهال الدمع غزيراً، سال على خدي، سقى أرضاً مجدبة في قلب ميت، فأحيا بكلام الله موت فؤادي وبمعية ذلك الغيث صوت الرعد -رعد الرحمة- صوت نحيبي وبكائي من خشية الله رب العالمين، بعد إعراض دام عشرين، فالحمد لله رب العالمين، فالحمد لله رب العالمين.

طريق السعادة الحقيقية

طريق السعادة الحقيقية يا أيها الشاب! ويا ذا الشيبة! والله إن طريق المسجد طريق السعادة، ووالله ما عرفها من لم يعرف تلك الطريق. إن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه حين تضيق عليه الأرض وما تضيق، وتشتد عليه الخطوب يقول: {أرحنا بها يا بلال أرحنا بها يا بلال} فاتصل بالله. ما خاب فؤاد لاذ بالله وما خاب منيب! فيا عزيز المرام! أين الحضيض من الذرا؟ شتان ما بين الثريا والثرى. كيف تعيش في مستنقع آسن، ودرك هابط، وعندك مرتع زاكٍ، ومرتقى عالٍ، شتان بين من ذاق برد اليقين ومن ذاق ضنك الإعراض عن رب العالمين، لا يستوي الليل والنهار، ولا ظلمة وضياء، ولا الأحياء ولا الأموات، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] كلا والله. قال شيخ الإسلام وتلميذه -رحمهما الله-: إن القلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، ومحبته والإنابة إليه، فلو حصل على كل ما يتلذذ به المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي، واضطرار وحاجة إلى ربه ومعبوده ومحبوبه ومطلوبه بالفطرة، لا يسعد ولا يطمئن ولا يَقِرُّ إلا بالإيمان بالله رب العالمين، فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقِر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وإنما يصدِّق هذا من في قلبه حياة. فوا أسفاه! ووا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب، ما شم لهذا البلسم رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل فيها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً، وموته كمداً، ومعاده حسرة وأسفاً؟! اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. فيا أيها الذين آمَنوا! آمِنوا. ويا من أعرضوا أقبلوا تسعدوا. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] اللهم ارزقنا إيماناً نجد حلاوته، وقلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعيناً من خشيتك مدرارة، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين. صلى عليه الله ما جنَّ الدُّجى وما جَرَتْ في فَلَكٍ شمس الضحى أما بعد: فيا عباد الله! إن الشواهد في القلوب لتشهد بأن السعادة في الطاعة والإقبال على الله، شواهد تشهد بها النفوس المؤمنة، والقلوب السليمة، والفِطَر المستقيمة، هذا الباب باب شريف، وقصر منيف لا يدخله إلا النفوس الأبية التي لا ترضى بالدون، ولا تبيع الأدنى بالأعلى بيع الخاسر المغبون، فإن كنت أهلاً لذلك فادخل، وإلا فردّ الباب وارجع والسلام. عبد الله! كم أطعت الله فوجدت حلاوة في قلبك، وانشراحاً في صدرك، وإقبالاً على الله عز وجل ربك، وأنساً وفرحاً بقربه منك؟ كم وُفِّقت إلى قيام ليلة، أو صيام يوم، أو إلى إصلاح بين الناس، أو صدقة على مسكين؛ فوجدت أثر ذلك بقلبك سعادة وانشراحاً؟ لاشك أنك لن تجد من حلاوة الإيمان ما وجده صحابي من الصحابة، ولكن كلٌ بحسبه، هذا -والله- شاهد قوي على أن طريق السعادة هو طريق الطاعة لا غير. من عاش في كنف الإيمان كان له أمناً وعاش رَضِيَّ النفس مغتبطا عبد الله! كم عصيت الله فوجدت ضيقاً في صدرك، وشقاءً في قلبك، ووحشة بينك وبين الله ربك، ووحشة بينك وبين عباد الله الصالحين؟ كم أطلقت بصرك فيما حرم الله، وتكلمت فيما لا يعنيك؛ فوجدت غِب ذلك ضيقاً ونكداً، وتعاسة وشقاءً؟ كيف بمن يقارف الكبائر والفواحش، وينتقل من معصية إلى معصية دون استغفار أو توبة، لا شك أنه في ضيق وشقاء وعَنَتٍ وعناء. المسألة باختصار -أيها المؤمنون- أن من أطاع الله قرَّبه وأدناه؛ فأنس به وسعد واستغنى، ومن عصى الله طرده وأبعده بقدر ذنبه فاستوحش وشقي وافتقر. أترجو مواهب نعمائه وأنت إلى صف أعدائه كلاّ. فلا تشتغل بما ضمنه الله لك، وأقبل على الله تجده غفوراً رحيماً، وتسعد سعداً عظيماً. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كلام قيم ما ملخصه: فرِّغ خاطرك للهمِّ بما أمرت به، ولا تشغله بما ضُمِنَ لك، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، وإذا سد الله عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه وأكمل. فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه؛ وهو الدم من طريق واحدٍ وهو السُّرة، فلما خرج من بطن أمه وانقطعت تلك الطريق، فتح الله له طريقين اثنين؛ أعني الثديين وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول؛ لبناً خالصاً سائغاً. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام، فتح طرقاً أربعاً أكمل منها، هما طعامان وشرابان؛ فالطعامان من حيوان ونبات؛ والشرابان من مياه وألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذِّ. فإذا مات وانقطعت عنه هذه الطرق الأربع، فتح الله له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية؛ هي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، نسأل الله من فضله. فالله لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع، وليس ذلك لغير المؤمن، إن الله يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ليعطيه الأعلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وكرم ربه ورحمته لا يعرف التفاوت بين ما مُنع منه وما ادخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاُ، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً، ولو أنصف العبدُ ربه -وأنَّى له ذلك- لعلم أن فضله عليه فيما منعه في الدنيا ولذاتها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها. فما منعه إلا ليعطيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطرق الموصلة إليه: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] وأبى الظالمون إلا كفوراً، والله المستعان. أيها المؤمنون! إن الحديد إذا لم يستعمل غَشِيه الصدأ حتى يفسده، فكذلك القلب، إذا عُطِّل عن الإيمان بالله وحبه وذكره والإقبال عليه بالعمل الصالح غلبه الجهل والهوى والران حتى يميته ويهلكه؛ فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، مرباداً أسود كالكوز مجخياً. فيا أيها المؤمنون! ويا شباب الأمة خاصة! الإيمان بلسم الحياة؛ فسيروا في ركابه تسعدوا. سيروا فإن لكم خيلاً ومضمارا وفجروا الصخر ريحاناً ونوَّارا سيروا على بركات الله وانطلقوا فنحن نُرْهِف آذاناً وأبصارا وذكرونا بأيام لنا سلفت فقد نسينا شرحبيلاً وعمارا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة والسلام عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأَصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم كن للمستضعفين، اللهم انصر المسلمين على عدوك وعدوهم، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّجْ همَّهم، ونفِّسْ كُربهم. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وارفع درجاتهم، واخلفهم في أهلهم.

دعوة للتأمل

دعوة للتأمل هذه دعوة للتأمل في آيات الله، والتجول في صفحات هذا الكون وآياته ومعرفة عظمة الخالق فله في كل شيء آية يُعرف منها العظمة، والقدرة والتفرد والكمال. الماء والهواء، والليل والنهار، والشمس والقمر، والحيوان والنبات واختلاف الألسنة والألوان كلها آيات تلهج بذكر الله، وتدل على وحدانيته، فهل من معتبر؟!

الحث على التفكر في آيات الله في الكون

الحث على التفكر في آيات الله في الكون الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ، عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ. الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحَذِرتَه النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عينٍ آنية. أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية. فهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وهو العليم بما يوسوس عبده في نفسه من غير نطق لسان بل يستوي في علمه الداني مع الـ ـقاصي وذو الإصرار والإعلان فهو العليم بما يكون غداً وما قد كان والمعلوم في ذا الآن وبكل شي لم يكن لو كان كيف يكون موجوداً لذي الأعيان فهو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سرٍ ومن إعلان فلكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والدَّاني ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى ويرى كذاك تقلُّب الأجفان لهو البصير يرى دبيب النملة السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها إي والذي برأ الورى وبَرَانِي فهو الحميد بكل حمدٍ واقع أو كان مفروضاً على الأزمان هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني ولك المحامد ربنا حمًدا كما يرضيك لا يفنى على الأزمان ملء السماوات العلى والأرض والموجود بعد ومنتهى الإمكان مما تشاء وراء ذلك كله حمداً بغير نهاية بزمان وعلى رسولك أفضل الصلوات والتسليم منك وأكمل الرضوان صلى الإله على النبي محمد ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان وعلى جميع بناته ونسائه وعلى جميع الصَّحب والإخوان وعلى صحابته جميعاً والأُلَى تبعوهم من بعد بالإحسان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أما بعد: أحبتي في الله: إنها دعوة؛ دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة العابدة الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون إلى أولي الألباب إلى أولي الأبصار إلى أولي الأحلام والنُّهَى إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ} [القصص:70] ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم وكذلك يفعلون. وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون. إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرءوه. إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6]. إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علماً يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وهي أيضاً دعوى إلى تعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين: الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز. والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلقه وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته وأسمائه وصفاته. كيف والكون كتاب مفتوح يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زاداً من الحق إن أراد التطلع إلى الحق. إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب. يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم. يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان ليس له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب. يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63]. إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلاً بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان. وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم: (لعلهم يذكَّرون) (لعلهم يتفكرون) (لعلهم يتَّقون) (لعلهم يرجعون) كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} [الفرقان:44]. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع. والحق شمس والعيون نواظر لا يختفي إلا على العميان والشرع والقرآن أكبر عُدَّة فهما لقطع لجاجهم سيفان

جولة في صفحات الكون الدالة على توحيد الله

جولة في صفحات الكون الدالة على توحيد الله فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين متدبِّرين: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلاً. تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنيئة كالخيال ومن فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ واركب جواد العزم في الجولان واجعل كتاب الله درعاً سابغاً والشرع سيفك وابْدُ في الميدان السماء بغير عمدٍ ترونها، من رفعها؟ بل الكواكب من زيَّنها؟ الجبال: من نصبها؟ الأرض: من سطحها وذلَّلها وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]؟ الطبيب: من أرداه وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟ المريض وقد يُئِس منه: من عافاه؟ الصحيح: من بالمنايا رماه؟ البصير: في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام: من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ: من يرعاه؟ الوليد: من أبكاه؟ الثعبان: من أحياه والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد: من حلاَّه؟ اللبن: من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه الأعين: من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء: من أرْبَاه؟ البدر: من أتمَّه وأسراه؟ النخل: من شقَّ نواه؟ الجبل: من أرساه؟ الصخر: من فجَّر منه المياه؟ النهر: من أجراه؟ البحر: من أطغاه؟ الليل: من حاك دُجَاه؟ الصُّبح: من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم: من جعله وفاة، واليقظة منه بعثاً وحياة؟ العقل: من منحه وأعطاه؟ النحل: من هداه؟ الطير في جو السماء: من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ الجبار: من يقصمه؟ المضطَّر: من يجيبه؟ الملهوف: من يغيثه؟ الضال: من يهديه؟ الحيران: من يرشده؟ العاري: من يكسوه؟ الجائع: من يشبعه؟ الكسير: من يجبره؟ الفقير: من يغنيه؟ أنت أنت: مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؛ ولو اختفت لاختلت وظائف فمك؟ من هداك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه. لا إله إلا هو! أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقاً كونه موحداً خالقاً وكونك عبداً مخلوقاً. الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحاً وتوحيداً، وذراته تهتف تمجيداً: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان:11].

قصيدة إيمانية

قصيدة إيمانية لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداكا ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا والكون مشحون بأسرار إذا حاولْتَ تفسيراً لها أعياكا قل للطبيب تخطَّفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرْدَاكا قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا قل للوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السمُّ يملأ فَاكا واسأل بطون النَّحل كيف تقا طرت شهداً وقل للشهد من حلاَّكا بل سائل اللبن المُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياكا قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس من أخفاكا قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاكا وإذا رأيت النَّبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكا وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فاسأله من أسْرَاكا واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناكا؟ قل للمرير من الثمار من الذي بالمرِّ من دون الثمار غذاكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شقَّ نواكا وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراكا وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحا قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساكا وإذا ترى صخراً تفجر بالمياه فسله من بالماء شقَّ صَفَاكا وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال جرى فسَلْه من الذي أجراكا وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج طغى فسَلْه من الذي أطغاكا وإذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله من يا ليل حاك دُجاكا وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيا فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاكا ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً وليس لواحد إلاَّكا يا مدرك الأبصار والأبصار لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكا إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين عُلاكا يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى ما خاب يوماً من دعا ورَجَاكا يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكا

من آيات الله في الجنين

من آيات الله في الجنين أحبتي في الله: الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21]. وتحسب أنك جرْم صغير وفيك انطوى عالم أكبر تأمل أخي مدى معرفة الناس بالجنين قبل حوالي ثلاثين عاماً، لقد كان كائناً حياً لا يُعْلَم عنه إلا حركاته التي يصدرها داخل بطن أمه، ومع تطور وسائل الملاحظة والمشاهدة، ووصولها إلى بطن الجسم الإنساني -وكل ذلك بإذن الله - كالتصوير والتسجيل الضوئي والصوتي، علم أن للجنين نفسية لا ينفصل فيها عن أمه تماماً، فتراه في حالات انكماش واكتئاب مرة، وحالات انشراح وانبساط أخرى، بل يبدي الانزعاج لبعض مخالفات أمه؛ كالتدخين مثلاً، عافانا الله وإياكم والمسلمين عموماً. يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس -كانت تعتاد التدخين- أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة سيجارة -عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعاً لاضطراب قلب أمه. فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه أمه تبعاً وإن لم تشعر أمه بذلك! أمكنهم أن يروه مضطرباً حينما تقع أمه في أزمة انفعال حادة؛ كغضب وخجل، أو في تأثر جسدي كوقوع على الأرض، أو اصطدام بشيء تبعاً لتأثر أمه بذلك، ثم أمكن الأطباء أن يروه هادئاً عندما تنصت أمه لسماع ما تستريح إليه من قرآن وأناشيد وغيرها. وحينما تسمع صوت أبيه، فتنصت له، رأوه كالمنصت له تبعاً لأمه، أما بعد الولادة، في أسبوعه الأول وجدوه أنه يأنس ويتبسم لصوت أبيه دون سائر الأصوات. إنها أمور مذهلة، بل آيات بيِّنة بالغة، دالَّة على عظمة الله سبحانه وتعالى، وعلى أحقِّيَّته بالتَّفرُّد في العبادة لا شريك له. أيضاً رأوا أنه حين ترغب الأم في الحمل ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجاً وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها، ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين!. وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشاً، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح سقطاً فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأً للعناد والرفض والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته. يذكر صاحب: سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟ ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أياماً على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حواراً مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته. فسبحان الله رب العالمين! إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئاً بنص قول الله جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئاً مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجياً، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه سبحانه وبحمده. طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في دمشق كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن -بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظاً وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين! موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفاً بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالباً، لسان حاله: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. فيا أيها العبد العاصي: ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟ {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَه} [يس:77 - 78] تحتَجُّ على مولاك وقد هداك؟! وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد سها ولها ونسيَ المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى، السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟ وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ عند الله لعصمك من المعاصي. يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه ومن الكروب جميعها نجَّاكا ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاَّكا ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].

من آيات الله في النوم

من آيات الله في النوم النوم: ما النوم؟ هل تأملته يوماً من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] {والله جل وعلا لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} كما في صحيح مسلم. حي وقيوم فلا ينام وجلَّ أن يشبه الأنام لا تأخذه سنةٍ ولا نوم، لا إله إلاّ هو. هل تأملت ما يجري للإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم، كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكَرَى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم. في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالاً، يتوقف البصر -أولاً- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة. الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع، فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضاً: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:11] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25] وتحقيقاً لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله تعالى السَّمع عنهم: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]. أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير، فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل تردداً، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم. هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما، ألم يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفاً بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق:37]. يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا مع النبيين والأبرار في الخلْد هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟! يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصاً نهض من فراشه نائماً، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئاً مما حدث له، لقد كان يتحرك وهو نائم، بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوه ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه. من الذي قاد خطاه؟! إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت، والنوم والانتباه، هو الإله المتصرف فيهم جميعاً؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور. لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة أعلى من الشكر عند الله في الثمن إذاً منحتكها ربي مهذبة شكراً على صنع ما أوليت من حسن اللهم لك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

من آيات الله في السماوات والأرض

من آيات الله في السماوات والأرض إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إن هناك مَا هو أعظم وأكبر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر:57]. تأمل السماء، ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، دورانها، وطلوعها، وغروبها، واختلاف ألوانها وكثرتها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور ولا تغير في سيرها، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها. تأمل: تجد أنه ما من كوكب إلا ولله من خَلْقِه حِكْمَة، في مقداره، في شكله، في لونه، في موضعه في السماء، في قربه من وسطها وبُعْدِه، في قربه من الكواكب التي تليه وبعده، على صفحة سماوات ترونها أُمْسِكت مع عِظَمِها وَعِظَم ما فيها، فثبتت بلا علائق من فوقها، ولا عُمُدٍ من تحتها: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج:65] والإنسان العاقل أمام بديع صنع الله في سماواته يتوقف طويلاً أمام أصغر جسم، وأعظم جسم، يرى فيها فتثبت له أدلة الإيمان، بعظمة الخالق في ملكوته، فما يملك إلا أن تخشع جوارحه، وتخضع، وتذل، وتستجيب، فتَقْدُر الله حقَّ قَدْرِه، وتفرده بالعبادة وحده لا شريك له. فسبحان الله لا يَقْدُر الخَلْقَ قَدْرِه ومن هو فوق العرش فردٌ موحَّد {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1].

من أقوال علماء الفلك الباحثين في أسرار الكون

من أقوال علماء الفلك الباحثين في أسرار الكون نظر أحد علماء الفلك الكفار إلى السماء من خلال منظار بَنَاه بنفسه، فرأى ما أذهله في هذا الكون، فقال: إن الإنسانية لن تنتهي من سَبْر أغوار الكون، ولن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه من نقطة ماء في محيط عظيم. فهل آمن مع ذلك وصدَّق؟ لا. وصدق الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]. وقال آخر أيضاً: إن وضع الأجرام السماوية ليس مجرد مصادفة وعشوائية، بل هي موضوعة في الفضاء بدقة وإتقان؛ إذ أن القمر لو اقترب من الأرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لأغرق مدّ البحر الأرض كلها، وما علاقة القمر بالبحر؟! الله يعلمها الذي قال وصدق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. ولا يزال علماء الفلك يكتشفون من خلال تجاربهم ومراصدهم ومناظيرهم كل يوم ما يشْدَه ويدهش العقول في هذا الكون الفسيح، حتى قال مكتشف الجاذبية معبراً عن اكتشافه وضآلة ما اكتشفه بجانب ذلك الخلق العظيم، يقول: لست أدري كيف أبدو في نظر العالم، ولكني في نظر نفسي وأنا أبحث في هذا الكون أبدو كما لو كنت غلاماً يلعب على شاطئ البحر، ويلهو بين حين وآخر بالعثور على حَجَر أملس، أو مَحَارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره. نعم. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] لقد رأى البروج الصغيرة وهي تتألف من عشرة ملايين نجم قد عُرِف منها ما عُرِف، ورأى العملاقة وقد وصل عدد نجومها المعروفة لنا إلى عشرة آلاف مليار نجم يرتبط بعضها ببعض في غاية دقة وإحكام. الله أحكم خلق ذلك كله صنعاً وأتقن أيما إتقان نعم. لقد رأى مجموعة النظام الشمسي وقد تألَّفت من مائة مليار نجم قد عُرِف وعرف منها الشمس، وتبدو هذه المجموعة كقرص قطره تسعون ألف سنة ضوئية، وسمكه خمسة آلاف سنة ضوئية، ومع هذا البعد الشاسع فإن ضوء الشمس يصلنا في لحظات وكذلك نور القمر. بل قد رأى هناك مجموعات تكبرها بعشرات المرات، أحصى منها مائة مليار مجموعة تجري، كلها في نظام دقيق بسرعة هائلة، كل في مساره الخاص دون اصطدام، كل يجري لأجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان:61] هذا الذي رآه، وما لم يره أكثر، فقد قال الله عز وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39]. ويقول أحد كبار علماء الفلك -وهو يهودي-: أريد أن أعرف كيف خلق الله الكون، أريد أن أعرف أفكاره، الله بارع حاذق ليس بشرِّير، الله لا يلعب بالنرد مع الكون. تعالى الله! وجلَّ الله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81]. كيف لو اطَّلع على ما جاء في القرآن؟ لربما كان من المؤمنين حقاً، نعم. الله لا يلعب مع الكون، عز وجل وتبارك وتعالى وتقدس هو القائل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:16 - 18]. أحبتي في الله: ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء الربع الخالي تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم والكواكب المنتشرة في الكون. أما إننا لو علمنا ذلك يقيناً لاعترانا رهبة وخشوع يقود إلى امتثال لأمر الله في غاية حب وذل، وعندها نزكو مَن نفسَه زكَّاها. إن السماء وتناثر الكواكب فيها أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه أبداً، ولهذا -أخي المسلم- فإني أدعوك إلى أن تتطلع على شيء من علم الفلك، ثم اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، وغاب قمره، ثم تأمل عالم النجوم، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من مائة مليار مجموعة قد عرفت وكثير منها لم يعرف، كل منها في مسارها يسير، لا يختلط بغيره. وأنت تتأمل انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله؛ راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى قيام الساعة: {أطَّت السماء وحقَّ لها أن تئط} كما جاء في الصحيح. ثم انقل نفسك أخرى وتجاوز تفكيرك إلى بصيرة يسير قلبك بها إلى عرش الرحمن، وقد علمت بالنقل سعته وعظمته ورفعته، عندها تعلم أن السماوات بملائكتها، ونجومها، ومجرَّاتها، ومجموعاتها، والأرضين بجبالها، وبحارها، وما بينهما بالنسبة للعرش كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة. فلا إله إلا الله! وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون، ويحمدون، ويقدسون، ويكبرون، والأمر يتنزل من الله بتدبير الممالك التي لا يعلمها إلا الله، يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قوم، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، وردّ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، وإغاثة ملهوف، وإعانة عاجز، وانتقام من ظالم، وكف عدوان من معتدٍ. مراسيم تدور بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ أقطار العالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو! ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين، عندها حق للقلب والجوارح أن تسجد مطرقة لهيبته، عانية لعزَّته، سجدة لا يرفع الرأس منها إلى يوم المزيد، يلْهَج صاحبها مردداً: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارَ} [آل عمران:191]

آيات في اختلاف الألسنة واللغات

آيات في اختلاف الألسنة واللغات هل تأملت اختلاف الألسنة واللغات وتباينها من عربية وعجمية؛ كرومية وفارسية وتركية، وغيرها من اللغات، لا لغة تشبه لغة، ولا صوت يشبه صوتاً، إِنَّ في ذلك لآَية. ثم هل تأملت اختلاف الألوان من بيض وسود وحمر وصفر وخضر، لا لون يشبه لوناً، حتى صار كل واحدٍ متميزاً بينكم لا يلتبس هذا بذاك. بل في كل فرد ما يميزه عن غيره، مع أن الجميع أولاد رجل واحد، وامرأة واحدة؛ آدم وحواء عليهما السلام. إن في هذا من بديع قدرة الله ما يستحق أن يفرد معه بالعبودية، وما يعقله إلا العَالِمُون، ولا يفهمه إلا المتفكرون: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} [الروم:22].

آيات في تعاقب الليل والنهار

آيات في تعاقب الليل والنهار تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وتفاوت الليل عن النهار، وكلاً عن مثله، فلا ليل يشبه ليلاً، ولا نهار يشبه نهاراً مذ خلق الله الخلق وحتى قيام الساعة، إن ذلك من أعجب وأبدع آيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته وحكمته: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار} [فصلت:37] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]. إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلاً بلا نهار، أو نهاراً بلا ليل، كيف تكون الحياة؟! {قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72] أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]. يقول رائد الفضاء السوفيتي الملحد عندما أصبح حول الأرض، ونظر من كُوَّة مركبته فرأى بديع خلق الله في السماوات والأرض، فقال: ماذا أرى؟! أنا في حلم أم سُحِرَت عيناي، ثم يقول: في الفضاء يحل الليل بصورة مفاجئة، وبسرعة تقطع الأنفاس، وتعمي العيون بلا تدرج كما هو الحال على الأرض، وليل الفضاء الخارجي من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي، يقول: ثم تظهر الشمس فجأة، وتلمع كأنها ضوء صاعقة مبدّدة خلال ثوانٍ في وسط الليل الحالك، فلا تدرج في الفضاء، بل ثوان وأنت في ليل مظلم في أَحْلَك الظلمات، وثوان أخرى وأنت في نهار ساطع النور وهاج يبدد الظلمات. فيا لها من نعمة؛ نعمة الشروق والغروب، والليل والنهار، التي أقسم الله -عز وجل- بها في عدة آيات فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:40 - 41] وقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:3 - 4]. ولك أن تتأمل أخرى، في قائل هذه الكلمات الشيوعي الملحد؛ فالبرَّغم من بديع ما رأى خلال دورانه حول الأرض؛ إلاّ أنه لم يَرِد على لسانه سوى الإعجاب بما صنعه الإنسان، والذُّهول أمام عظمة الكون، ثم السكوت المطلق عن خالق الكون ومبدعه، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، فسبحان الله! {مَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف:186] {وإِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. تأمل كيف جعل الله الليل سكناً ولباساً، يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، وإلى أوكارها الطير والحشرات، تستجمُّ فيه النفوس، ومن كَدِّ السعي والنَّصَب فيه تستريح، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها وتطلَّعت إلى معاشها جاء فالق الإصباح -سبحانه- بالنهار يقدُمه بشير الصباح، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون؛ فينتشر الحيوان، وتخرج الطير من أوْكارِها لتطلب معاشها ومصالحها؛ فيا له من معادٍ ونشأة دالة على قدرة الله على المعاد الأكبر! {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. ويا سبحان الله! كيف يُعْمِي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها، ولا يبصرها؛ كمن هو واقف في الماء، إلى حَلْقِه وهو يستغيث من شدة العطش وينكر وجود الماء. يهدي الله من يشاء، ويضل من يشاء، يحكم لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو له الحكم وإليه ترجعون.

آية الخسف والزلزلة

آية الخسف والزلزلة تأمل في هذه الأرض: بينما هي هادئة ساكنة وادعة؛ مهاد وفراش، قرار وذلول، خاشعة، إذا بها تهتز، تتحرك، تثور، تتفجر، تدمّر، تبتلع، تتصدع، زلازل، خَسْف، براكين، تجدها آية من آيات الله، وكم لله من آية يخوف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون! وهي مع ذلك جزاء لمن حقَّ عليه القول، وهي -أيضاً- تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون. يذكر صاحب: علوم الأرض القرآنية أنه قبل حوالي خمسة قرون ضرب زلزال شمال الصين عشر ثوان فقط، هلك بسببه أربعمائة ألف وثلاثون ألف شخص، وقبل ثلاثة قرون ضرب زلزال مدينة لشبونة في البرتغال لعدة ثوان، هلك فيه ستمائة ألف، وشعر الناس برعب وهَلَع وجزع إثر ارتجاج الأرض تحت أقدامهم على مساحة ملايين الأميال، فنعوذ بالله أن نُغْتَال من تحتنا. وانفجرت جزيرة كاراكات في المحيط الهندي قبل قرن، فسُمِع الانفجار إلى مسافة خمسة آلاف كيلو متر، وسجلته آلات الرصد في العالم، وتحولت معه في ثوان جزيرة حجمها عشرون كيلو متراً مربعاً إلى قطع نثرها الانفجار على مساحة مليون كيلو متر مربع، وارتفعت أعمدة الدخان والرَّماد إلى خمسة وثلاثين كيلو متر في الفضاء، وأظلمت السماء على مساحة مئات الكيلو مترات حاجبة نور الشمس لمدة سنتين، وارتفعت أمواج البحر إلى علوّ ثلاثين متراً، فأغرقت ستة وثلاثين ألف نسمة من سكان جاوا وسمطرا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو} [المدثر:31] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام:65].

قتل الإنسان ما أكفره

قتل الإنسان ما أكفره {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ *} [عبس:17] يسمع ويرى آيات الله من زلازل وبراكين وأعاصير وأوبئة تحصد الآلاف في ثوانٍ فلا يتأمل ولا يتدبر ولا يرعوي ولا يقدر الله حق قدره بل يعيد ذلك أحياناً إلى الطبيعة في بلادة وبلاهة لا مثيل لها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] لا يملك المسلم إزاء هذه البلاهة والبلادة إلا أن يقول بقول الله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:75 - 76] فإلى أولي الألباب: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17].

آية الهواء

آية الهواء تأمل الهواء: تجده آية من آيات الله الباهرة، وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى، جعله الله ملكاً للجميع ولو أمكن الإنسان التسلط عليه لباعه واشتراه وتقاتل مع غيره عليه كما فعل في أكثر الأشياء التي سخرها المولى له وجعلها أمانة بين يديه، والله بحكمته جعل الهواء يجري بين السماء والأرض، الطير فيه محلقة سابحة كما تسبح حيوانات البحر في مائه، ويضطرب عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر عند هيجانها، يحركه الله بأمره فيجعله رياحاً رخاءً وبشرى بين يدي رحمته فبين مبشرات ولواقح، وذاريات، ومرسلات، ويحركه فيجعله عذاباً عاصفاً قاصفاً في البحر وعقيماً صرصراً في البر: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5]. تتوزع على سطح الأرض تحت نظام محكم فتلقح الأزهار والسحاب؛ فتبارك من جعلها سائقة للسحاب تذروه إلى حيث شاء الله، فهل تأملت يوماً من الأيام سحاباً مظلماً قد اجتمع في جوٍ صافٍ لا كدر فيه، وهو لينٌ رخو حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، حتى إذا أذن له خالقه أرسل الريح تلقحه وتسوقه فينزل قطرة قطرة، لا تختلط قطرة بأخرى، ولا تدرك قطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل كل واحدة في طريق مرسوم لها حتى تصيب الأرض التي عينت لها لا تتعداها إلى غيرها، لا قطرة إلا وينزل نحوها ملك إلى الآكام والقيعان، هل تأملت ذلك؟ أحسب أنك تقول: نعم، ومعها: لا إله إلا الله! (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل:63].

آيات الله في البحر

آيات الله في البحر تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله، ومن عجائب مصنوعاته، وكم لله من آية، ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض، فما الأرض بجبالها، ومدنها، وسهولها، وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب، وطبعه العلو، ولولا إمساك الرب -سبحانه وبحمده- له بقدرته ومشيئته؛ لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين. ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر ابن القيم ذلك في مفتاح دار السعادة، قال ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلاً، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر والمرجان، فسبحان الخالق الرحيم الرحمن! ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء، فذاك قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:32 - 33]. نعم. سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته، فلك الحمد ربنا، ولك الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي صنع الإنجليز باخرة عظيمة، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها: الباخرة التي لا تقهر، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته: حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب. جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يحيي ويميت: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:47] وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صنّاعها وركّابها تصطدم بجبل جليدي عائم؛ فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً- طعنت فانبجست- وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر -كما زعموا- في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربعة ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار وخلطها، وجعل مع ذلك بينها حاجزاً ومكاناً محفوظاً، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه:54] في إيران أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها، ونهر الأمازون يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها. وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض، فمياه البحر الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود، فتبارك الذي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:53] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله. كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها، فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها، ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور. نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف شيئاً وجاء بشيء فيه إبداع، فقال في دهشة بعد ترجمة الآية: إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته وأمواجه، إن هذا من عند عليم خبير، ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين الله نعم. لا يملك إلا ذلك. من واصف الظلمات في قعر الـ بحار سوى الله العليم الباري سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان لا إله إلا الله! كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ} [النمل:63]، سأل رجل أحد السلف عن الله، فقال له: ألم تركب البحر؟ قال: بلى. قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم. قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم. قال: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم. قال: فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23]. ومن عجائب البحر التي تدل على إدراكه وعبوديته لله جل وعلا: أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله عز وجل مع حلم الله عليه، فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك عصاة بني آدم، بل ويستأذن ربه في ذلك، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس من ليلة إلا والبحر يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم -أي على العصاة- فيكفه الله بمنه وكرمه} فلا إله إلا الله! البحر يتمعر، ويتمنى إغراق العصاة، ويستطيع لكنه مأمور، ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكناً، تُنْتَهَك حرمات الله، وتُتَجَاوز حدوده، وتُضَيَّع فرائضه، ويعادى أولياؤه، ثم لا تتمعر الوجوه، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟ إن في ذلك لآية وكم لله من آية، فتأملوا يا أولي الألباب!

آيات الله في النمل

آيات الله في النمل تأمل تلك النملة الضعيفة، وما أعطيت من فطنة وحيلة في جمع القوت وادخاره، وحفظه ودفع الآفة عنه، ترى عبراً وآيات باهرات تنطق بقدرة رب الأرض والسماوات وتقول: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62]. انظر إليها تخرج من أسرابها طالبة أقواتها، فإذا ظفرت بها شرعت في نقلها على فرقتين اثنتين، فرقة تحملها إلى بيوتها ذاهبة، وأخرى خارجة من بيوتها إلى القوت، لا تخالط فرقة أخرى كخيطين أو جماعتين من الناس، الذاهبون في طريق والراجعون في أخرى في تناسق عجيب. ثم إذا ثقل عليها حمل شيء، استغاثت بأخواتها فتعاونت معها على حملها، ثم خلوا بينها وبينه، وبلا أجرة، تنقل الحب إلى مساكنها ثم تكسره اثنتين أو أربعة، لئلا ينبت إذا أصابه بلل، وإذا خافت عليه العفن، أخرجته إلى الشمس حتى يجف، ثم ترده إلى بيوتها، ولعلك قد مررت يوماً عليها وعلى أبواب مساكنها حب مكسر، ثم تعود عن قريب فلا ترى منه حبة واحدة. والنمل مع ذلك يعتني بالزراعة وفلاحة الأرض، فقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما فيها أرز قصير من نوع بري مساحة القطعة خمسة أقدام في ثلاثة، ويترائى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أن أحداً لا بد أن يعتني بها، الطينة مشققة، والأعشاب مستأصلة والغريب أنه ليس هناك مناطق أرز حول ذلك المكان. ولاحظ ذلك العالم أن طوائف من النمل تأتي إلى هذه المزرعة الصغيرة وتذهب، فانبطح على الأرض ذات يوم ليراقب ماذا يصنع النمل، فإذا به يفاجأ أن النمل هو صاحب المزرعة، وإنه اتخذ الزراعة مهنة تشغل كل وقته، فبعضه يشق الأرض ويحرث، والبعض يزيل الأعشاب الضارة وينظف، وطال الأرز واستوى ونضج، وبدأ موسم الحصاد، وهذا لا زال بمناظيره يراقب، فيشاهد صفاً من النمل وهو في وقت الحصاد متسلقاً شجر الأرز، إلى أن يصل إلى الحبوب فتنزع كل نملة حبة من تلك الحبوب، ثم تهبط سريعاً إلى الأرض، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض لتخزنها ثم تعودَ. وطائفة أخرى أعجب من ذلك تتسلق مجموعة كبيرة منها أعواد الأرز، فتلقط الحب وتلقي به فبينما هي كذلك، إذ بمجموعة أخرى تحتها تتلقى هذا الحب وتذهب به إلى المخازن. ويعيش النمل هناك عيشة مدنية في بيوت، بل في شقق وأدوار، أجزاء منها تحت الأرض، وأجزاء أخرى فوقها، له حراس وخدم وعبيد وهناك ممرضات تعنى بالمرضى ليلاً ونهاراً، وقسم آخر يرفع جثث الموتى ويشيعها ليدفنها، كل هذا يتم بغريزة أودعها الله في هذا القلب، فتبارك الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]. عالم النمل عالم عجيب، من تأمله ازداد إيماناً ويقيناً بأن وراء ذلك التنظيم المحكم حكيماً خبيراً، بإفراد العبادة له جديراً لا شريك له. إنها تعرف ربها، وتعرف أنه فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بيده كل شيء يوم ضل من ضل، روى الإمام أحمد في الزهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: {خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تدعو ربها، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بغيركم}. للنمل مدافن جماعية يدفن فيها موتاه كالإنسان، والنمل ذكي جد ذكي، ويصطاد بطريقة ذكية، يأتي إلى شجرة فينقسم إلى قسمين، قسم يرابط تحت الشجرة قرب جذعها، وآخر يتسلق جذعها لمهاجمة الحشرات التي تكون عليها، وبذلك يحكم الطوق على كل حشرة لا تطير، فتسقط التي تنجو من النمل المتسلق فتقع في شباك النمل المتربص بها عند قاعدتها، من هداها؟ من هيأ لها رزقها؟ إنه القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] ألا له الخلق والأمر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.

آيات الله في الحيوانات

آيات الله في الحيوانات وقفة ولعلها استراحة مع عجائب الأحياء، يذكر صاحب من الثوابت العلمية في القرآن من بعض التصرفات الذكية الألمعية عند الحيوان، ما يلقي الضوء على معنى قول الله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50]. يذْكَرُ أن طبيباً وجد في طريقه كلباً كسرت إحدى قوائمه، فأخذه إلى عيادته واهتم بها وقومها وجبرها، واعتنى به حتى شفي تماماً، ثم أطلق سراحه، وبعد ذلك بزمن سمع الطبيب قرعاً لطيفاً على باب عيادته فوجد الكلب نفسه مصطحباً معه كلباً آخر مكسور الرجل، جاء به إلى المعاينة والعلاج، فسبحان الله ولا إله إلا الله! هذه عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها أذنك والأعجب من ذلك قصة هرٍ اعتاد أن يجد طعامه اليومي أمام بيت أحد المهتمين به فيأكله، وفي أحد الأيام لاحظ رب البيت أن الهر لم يعد يكتفي بالقليل مما كان يقدم له من قبل، بل أصبح يسرق غير ذلك، فقام رب البيت يرصده ويراقبه فوجده يذهب بالطعام إلى هرٍ أعمى فيضع الطعام أمامه، فتبارك الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] و {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:56].

من آيات الله في الخيل

من آيات الله في الخيل ويذكر أيضاً صاحب عجائب الأحياء: أن فرساً صغيراً ماتت أمه عنه، فقام صاحبها الأعرابي واسمه الزعتري الذي يسكن مصر برعاية الفرس اليتيم رعاية بلغت حد التدليل، فكان يقدم له الشعير مخلوطاً بالسكر، وإذا مرض استدعى له الطبيب البيطري لفحصه إذا أصابه ما أصابه، ولا غرابة في ذلك الاهتمام أيها الأحبة، إذا علمتم ما ثبت في صحيح الجامع عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنه ليس من فرس عربي إلا وُيؤَذَنُ له مع كل فجر فيدعو بدعوة فيقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه} فالفرس العربي يتجه بالدعاء إلى من يستحق الدعاء، والله عز وجل يجيبه فيجعله من أحب أهل ومال الإنسان إليه والواقع يشهد بذلك، ولا عجب فإن جذع النخلة وهو جماد بكى وأنَّ وتألم وحزن وخار وتصدع لفراق الذكر حتى مسحه صلى الله عليه وسلم، فسكن أحسن ما يكون السكون. حن جذع إليه وهو جماد فعجيب أن تجمد الأحياء ويمرض الأعرابي الزعتري فيفقد الفرس شهيته ويترك حظيرته ليرابط أمام خيمة صاحبه، وظل كذلك أياماً، ثم مات الزعتري وحمل المشيعون جنازته، فسار الفرس خلفهم حزيناً منكس الرأس حتى دُفِنَ صاحبه العزيز عليه في التراب، ولما هم المشيعون بالرجوع انطلق الفرس المفجوع كالبرق وظل منطلقاً حتى وصل إلى تلٍ عالٍ فصعده ثم ألقى بنفسه من قمته ليلقى حتفه وسط دهشة الجميع، فسبحان من رزقه تلك الأحاسيس والمشاعر ومن سلبها كثيراً ممن كرمه الله من بني آدم. ومن عجيب أمر القردة ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: [[رأيت في الجاهلية قرداً وقردةً زنيا فاجتمع عليهم القرود فرجموهما حتى ماتا]] عجباً لها من قرود، تقيم الحدود حين عطلها بعض بني آدم، إن هدايتها فوق هداية أكثر الناس: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]. ومن عجيب أمر الفأر ما ذكره صاحب العقيدة في الله: أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة ينقص ويعز عليها الوصول إليه في أسفل الجرة فتذهب وتحمل في أفواهها الماء ثم تصبه في الجرة، حتى يرتفع الزيت ويقترب منها ثم تشربه: من علمها ذلك؟ إنه الله أحق مَن عُبِدَ وصُلِّيَ لَهُ وسُجِد. سبحان من يجري الأمور بحكمة في الخلق بالإرزاق والحرمان من علم الذئب إذا نام أن يناوب بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام وفتح بها الثانية: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم من علم الطاوس أن يلقي ريشه في الخريف إذا ألقى الشجر ورقه، فإذا اكتسى الشجر اكتسى أيضاً؟ وبإذن من؟! من علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث؟ فلا يسمعها عصفور حولها حتى يجيء فيطير الجميع حول الفرخ ويحركونه ويحدثون له همة وقوة وحركة حتى يطير معهم، ذاكم هو الله القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]. واستطراداً فما أجمل قول سفيان بن عيينة رحمه الله حول قول الله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] يوم قال: [[فما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يختال كالطاوس، ومنهم من يشبه الخنازير التي إذا ألقي إليها أطيب الطعام عافته، فإذا قام الرجل عن غائطه ولغت فيه، فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها]] رحم الله سفيان. نعم. وإن أخطأ أخوه حفظ ذلك الخطأ وشنع عليه بلا هدى تحت طيش الهوى وحب الغلبة ورغبة الاستعلاء، وإرادة خفض الغير، تحريش غامض وتصنيف ساقط بلا برهان ولا بينة كفى أخي ثم كفى. إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد أحبتي في الله: إن فيما أودع الله في مخلوقاته ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب إجلالاً من معرفة حكمته وقدرته، وما به يعلم العاقل أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك سُدى، فلله في كل مخلوق حكمة باهرة، وآية ظاهرة وبرهان قاطع يدل على أنه المنفرد بكل كمال، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، قد خلق الخلق ليعبدوه.

آيات الله في النحل

آيات الله في النحل هل تأملت النحل وأحواله وأعماله وما فيها من العبر والآيات الباهرات، ألم تر أقراص شمعها السداسية في دقتها الحسابية وإتقان بنائها وإحكام صنعها، الذي أدهش وما زال يدهش علماء النحل والحساب؟ ما هي آلات الحساب والمقاييس التي سمحت لهذا المخلوق بالوصول إلى هذا العمل الهندسي الدقيق؟ هل هذا بواسطة قرنين استشعار والفكين الذين يدعي علماء الأحياء أن الطبيعة زودتها بهما؟ سبحان الله! وتبارك الله! عجيب وغريب منطق هؤلاء، يتسترون وراء كلمات جوفاء كالطبيعة والتطور والصدفة، كلما وقفوا أمام بديع صنع الله وإعجازه في الخلق فأنى يؤفكون! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل:14]. أفتستر الشمس المضيئة بالسها أم هل يقاس البحر بالخلجان سبحان الله! لله في كل شيءٍ آية، وتعمى عنها عيون أو تتعامى. فقل للعيون الرُّمد إياكِ أن تري سنا الشمس واستغشي ظلام اللياليا خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولاءمها قِطْعٌ من الليل باديا فجالت وصالت فيه حتى إذا النهار بدا استخفت وأعطت تواريا فيا محنة الحسناء تُهْدى إلى امرئٍ ضريرٍ وعِنِّين من الوجد خاليا النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافاً لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل من التبغ فلا تأكل إلا الطيبات. فهل يعتبر بذلك أهل الغفلات؟ زودها الله بقرنين استشعار، وجعل فيهما شعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفاً تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها! للنحلة عيون كثيرة، في حافتي الرأس عينان، وعينان أخريان في أعلى الرأس وتحتهما عين ثالثة، مما جعل لها سعة أفق في النظر، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد، علماً بأن عيونها لا تتحرك. ولذا فالنحل يعيش في أماكن يعيش فيها السحاب معظم شهور السنة، مع أن رؤية الشمس كما هو معلوم ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي فيها غذاء النحل، وهنا تكمن الحكمة في قوة رؤية النحل، فبإمكانها رؤية الشمس من خلال السحب، كل ذلك لئلا يموت جوعاً في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام، كما هو في بعض البلدان. إنها لحقيقة مذهلة، تدل على حكمة الله، وقدرة الله، ووحدانية الله، وكمال تدبيره فتبارك الله أحسن الخالقين! أما فم النحلة فمن أعاجيب خلق الله في خلقه، إذ هو مزود بما يمكنه من أداء جميع الوظائف الحيوية، فهو يقضم ويلحس ويمضغ ويمتص، وهو مع هذا شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبعياً، ولا يتحرج من المواد المرة، إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه فسبحانه وبحمده لا شريك له! أما سمع النحل فدقيق جداً، يتأثر بأصوات وذبذبات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان، فسبحان من زودها به! وتحمل مع ذلك النحلة ضعفي وزنها، وبسرعة أربعمائة خفقة جناح في الثانية الواحدة، فسبحان الله، سبحان من خلق فسوى وقدر فهدى، عُبِدَ وَوُحِّدَ، وصُلِّيَ له وسُجِدَ له. هناك من النحل مرشدات، عندما تجد مصدراً للغذاء تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية الجانيات للرحيق، وعندما ينضب وينتهي الرحيق تفرز عليه المرشدات مواد منفرة منه، حتى لا يضيع الوقت في البحث فيه، ثم تنتقل إلى مصدر آخر، من علمها وأرشدها؟ إنه الله، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فلا إله إلا هو. تستطيع العاملة خارج الخلية الرجوع إلى خليتها والتعرف عليها من بين عشرات الخلايا، بلا عناء ولا تعب، ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال، ولذا يقول أحد علماء الأحياء الكفار، وقد رصد النحل بمناظيره فترة طويلة، يقول: يا عجباً لها! تنطلق آلاف الأميال من شجرة إلى ثمرة إلى زهرة، ثم تعود ولا تخطئ طريقها، ربما أن لها ذبذبات مع الخلية، أو أنها تحمل لاسلكياً يربطها بالخلية، ربما ربما. ثم يقف حائراً بليداً تائهاً، أما نحن فلا، إنا نوقن أن الله ألهمها ذلك، وأوحى إليها، وعندنا سورة في كتاب الله تسمى سورة النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68 - 69]. تأمل قدرة الله بخلقه يوم جعل من النحل حراساً للخلية يستطيعون أن يميزوا كل غريب ودخيل عليهم من النحل، فيطرحوه خارجاً أو يقتلوه، علماً أن تعداد الخلية يصل إلى ثمانين ألف نحلة أو أكثر فسبحان من ألهمه! سبحان من ألهمه معرفة صاحبه من غيره! سبحان ربك رب العِزِّ مِنْ مَلِكٍ من اهتدى بهدى رب العباد هُدِي الكل في النحل يعمل في الخلية لأجل الكل، لا حياة لفرد عند النحل بدون جماعة، ولذلك أذهل ذلك علماء النحل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]. والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه وأنظفه، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها، بل تطير ثم تلقيها بعيداً عنها، وتأبى النتن والروائح الكريهة، تأبى القذارة، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية، وقف على باب الخلية بواب منها، ومعه أعوان كثر، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد فيها رائحة منكرة، أو رأى بها قَذَراً منعها من الدخول وعزلها إلى أن يدخل النحل كله، ثم يرجع إلى الممنوعات المعزولات فيتبين ويتثبت، ويتفقدها مرة أخرى، فمن وجدها وقعت على شيء نجس أو منتن، قدها وقطعها نصفين، ومن كانت جنايتها خفيفة، بها رائحة وليس عليها قَذَر، تركها خارج الخلية حتى يزول ما بها ثم يسمح لها بالدخول، وهذا دأب وطريقة البواب كل يوم في كل عشية. فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها، لا تضل عنها تسيح سهلاً وجبلاً خماصاً، فتأكل من على رءوس الأشجار والأزهار، فتجني أطيب ما فيها ثم تعود إلى بيوتها بطاناً، فتصب فيها شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية. أما ملكتها أو ملكها فلا يكثر الخروج، بل لا يخرج إلا نادراً، إذا اشتهى التنزه خرج بحاشيته وخدمه فيطوف المروج والبساتين والرياض ساعة من نهار ثم يعود إلى خليته، ومن عجيب أمره أنه إذا لحقه أذى من صاحب الخلية غضب، وغضبه يعرفه أصحاب النحل، ثم يخرج من الخلية، فيتبعه جميع النحل حتى تبقى الخلية خالية. يذهب حتى يحط رحاله على رءوس الشجر المرتفع، ويجتمع عليه النحل كله حتى يصير كالعنقود، عندها يضطر صاحب الخلية إلى الاحتيال عليه لاسترجاعه وطلب مرضاته، فيأخذ عصاً طويلة ويضع على رأسها حزمة من نبات طيب الرائحة، ويدنيه من هذا الكبير لها، من ملكها على الشجرة فلا يزال يحركه ويستجديه ويستعطفه إلى أن يرضى، فينزل على حزمة النبات الطيب الرائحة، فيحمله صاحب الخلية إلى الخلية، فينزل ويدخلها مع جنوده، ثم يتبعه جميع النحل عائداً إلى الخلية. تأمل نتاجها تجد عجبا، تنطلق إلى البساتين، فتأخذ تلك الأجزاء الصافية من على ورق الزهر والورد، فتمصه لتكون مادة العسل، ثم تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها ثم تذهب لتملأ بها المسدسات الفارغة، ثم يقوم يعسوبها على بيته فينفخ فيه، ثم يطوف على تلك البيوت بيتاً بيتاً وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بأمر الله بعد حين، فتخرج نحلاً صغاراً بإذن الله، وتلك آية قلما يتفطن الخلق لها كما قال ابن القيم رحمه الله. كل هذا من ثمرة الوحي الإلهي تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَى ومن يُخَاف جعل الله لكل مخلوق قوة وقدرة يدافع بها عن نفسه، ومن تلك المخلوقات النحل، كيف يدافع عن نفسه وعن نتاجه، يذكر أن ألد أعداء النحل هو الفأر، يهاجم الخلية فيأكل العسل ويلوث أجواء الخلية، فماذا تفعل تلك النحلة الصغيرة أمام هذا الفأر الذي هو لها كجبل عظيم، إنها تطلق عليه مجموعة من العاملات فتلدغه حتى يموت، كيف تخرجه؟ إن بقي أفسد العسل، ولوث أجواء الخلية، ولو اجتمع نحل الدنيا كله لإخراجه ما استطاع، فماذا يفعل، جعل الله عز وجل له مادة شمعية يفرزها ويغلف بها ذلك الفأر فلا ينتن ولا يتغير ولو بقي ألف عام، حتى يأتي صاحب الخلية فيخرجه، فسبحان من قدر فهدى وخلق فسوى. إن في ذلك لآية، وكم لله من آية مما يبصره العباد وما لا يبصرونه، وتفنى الأعمار دون الإحاطة بجميع تفاصيلها، ولكن أكثر الناس لا يفقهون: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].

آيات الله في النبات

آيات الله في النبات ومن عجائب النبات، ما ذكره صاحب كتاب نوادر الكتب: من أن شجرة غريبة في جنوب الصين، تكون أوراقها في الأحوال الجوية العادية خضراء كأوراق الأشجار، وقبل حدوث الفيضانات أو هطول الأمطار تتغير فتصبح حمراء، فأصبحت عند سكان تلك المنطقة كمراقبة للأحوال الجوية، وبلا تعليق إنها بلسان حالها تقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102]. عجباً ثم عجباً ثم عجباً، لا ينقضي العجب ولو كنا في شهر رجب، كل الكون بكائناته يوحد ويسلم ويستسلم وينقاد لله رب العالمين ثم يبقى هذا الإنسان في هذا الكون، إنه لظلوم مبين: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]. الكون كله بكائناته يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتدهش وتعجب لكثير من الإنس والجن يوم تعمى أبصارهم عن الحق فيكذبون بالرسالة ويكذبون الرسول صلوات الله وسلامه عليه، في قمة بلاهة وبلادة، فهم نشاز في هذا الكون، ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: {أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا إلى حائط في بني النجار، فإذا فيه جَمَل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هاتوا خطاماً فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال -واسمعوا إلى ما قال صلوات الله وسلامه عليه-: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا ويعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس} فسبحان من هدى هذه الكائنات للإيمان يوم ضل بعض بني الإنسان والجان! لا إله إلا الله، كم من مركوب هو خير من راكبه! يا قوم هذا صراط الله فاتبعوا لا تسلكوا سبلاً تفضي إلى النار

وإن من شيء إلا يسبح بحمده

وإن من شيء إلا يسبح بحمده إن الكون بكائناته جميعاً يسبح الله، ويثني على الله، ويمجد الله تسبيحاً وثناءً لا نفهمه، الله سبحانه وتعالى يعلمه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)} [الإسراء:44] سبحت الكائنات بحمده فملأ الكون تسبيحها، سبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده، سبحته الحيتان في البحار الزاخرات، سبحته الوحوش في الفلوات، تسبحه نغمات الطيور، يسبحه الظل تحت الشجر، يسبحه النبع بين المروج، يسبحه النَور بين الغصون، وسحر المساء وضوء القمر، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما تستقل الشمس، فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، غباء وأي غباء أن يسخر الله لك كل ما حولك بمنه وكرمه، ثم يسبحه كل مسخر لك وأنت غافل غبي أخرس أحمق. سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ليس شيءٍ إلا وهو أضرع لله من بني آدم، الكون كله بكائناته يسجد لله ويخضع ويذل وتبقى فئة من الناس صادةٌ نادةٌ نشازٌ في هذا الكون لا تستحق الحياة، فانظر إلى تلك الحشود -كما يقول سيد قطب رحمه الله- حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وحشد من الأفلاك مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، حشد من الملائكة، حشد من الجبال والشجر والدواب، حشد من خلق الله كلها في موكب خاشع ذليل تسجد لله وتتجه إليه لا إلى سواه في تناسق ونظام عجيب؛ إلا هذا الإنسان يتفرق فجزء منه يتنكب الموكب نشاز لا يستحق الحياة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. فانظر إلى قهره، وانظر إلى ذل خلقه، كل ما في الكون يأتي خاضعاً ذليلاً ساجداً لله. يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر يدين له الفرخ في عشه ونسر السما الجارح الكاسر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين له الأُسْدُ في غابها وظبي الفلا الشارد النافر يدين له الذر في سعيه يدين له الزاحف والناشر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له البَرُّ والفاجر يدين الجلي يدين الخفي يدين له الجهر والخاطر تدين الحياة يدين الوجود يدين المقدر والحاضر وكل العباد إليه رجوع وفوق العباد هو القاهر الشجر والحجر والمدر يلبي ويوحد الله مع الحاج الملبي، ثبت في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا}. تفاعل الكون كله مع توحيد الله عز وجل. كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم بل إن الشجر ليشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الدارمي بإسنادٍ صحيح كما قال صاحب المشكاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأقبل أعرابيٌ فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السلمة -حِجرة السلمة- فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في شاطئ الوادي فأقبلت تهز الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها صلى الله عليه وسلم فشهدت ثلاثاً أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم رجعت إلى منبتها} إن في ذلك لآية. وروى الترمذي أيضاً كما في الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! بم أعرف أنك نبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن دعوت هذا العذق شهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل العذق من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: ارجع، فرجع إلى مكانه، فقال الأعرابي: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ودخل في دين الله}. ألم يمر بذهنك وأنت تعلم عبودية الشجر لله ما روى البخاري عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها} فاشتاقت نفسك لظل هذه الشجرة فأحسنت التعامل مع الله لتكون من أهلها بإذن الله.

الجبال والحجارة تخشى الله

الجبال والحجارة تخشى الله وأرجو الله أن نكون جميعاً من أهلها، الجبال والحجارة تخشى الله، فأين الخشية والخوف من الله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] يا عجباً! من مضغة لحمٍ أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى فلا تلين ولا تخشع، من حكمة الله أن جعل لها ناراً إذا لم تلن بذكره ومواعظه فبها تلين، فمن لم يلن قلبه في هذه الدار ولم يتب إلى الله ويخشه فليتمتع قليلاً فإن المرد إلى عالم الغيب والشهادة. فنشكو إلى الله القلوب التي قست وران عليها كسب تلك المآثمِ من خشية المولى هوى الجبل الذي في الطور لانت قسوة الأحجار أو لم يئن وقت الخشوع فلا تغرن الحياة سوى مغرار

أهمية الصلاة في الحياة

أهمية الصلاة في الحياة الطير تصلي صلاةً لا ركوع فيهلا ولا سجود، الله يعلمها ونحن لا نعلمها. {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] ما ميزان الصلاة عند الإنسان؟ إنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ختم بها حياته، ومع ذلك فرط فيها من فرط، وضاع فيها من ضاع، وذل بتركها من ذل بعد العز، فاسمع إلى ما يقول صاحب وحي الواقع، بعد مجزرة الأقصى في رمضان المشهود التي راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، تقابل مسلم ويهودي، فقال المسلم: مهما طال بكم الزمن يا أحفاد القردة والخنازير لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، وسيكون معنا الشجر والحجر في حربكم، قال اليهودي: نعم. وهذا صحيح، نقرأه في كتبنا ويعلمه عالمنا وجاهلنا، ولكن لستم أنتم، قال المسلم: فمن هم؟ قال: هم الذين يكون عدد مصليهم في صلاة الفجر بقدر عدد المصلين في صلاة الظهر. وصدق فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وضيعها، إن الصلاة لتدعو الله لحافظها: حفظك الله كما حفظتني، وعلى مضيعها: ضيعك الله كما ضيعتني، فلا إله إلا الله كم من ضائع ساقط لا قيمة له بتضييع الصلاة ودعائها عليه! إن الديك ليوقظ للصلاة ويدعو لها ويؤذن، بل أمرنا إذا سمعنا صوته أن نسأل الله من فضله لأنه رأى ملكاً، فلا إله إلا الله، كم من ديك هو خير من إنسان عند الله، وهو يأكله، فكم من مأكول هو خير من آكله! وأنت تعلم هذا، أقبل ببصيرتك لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح الجامع يوم قال: {إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك، سبحانك ما أعظمك} فهلا عظمَّت الله وقدَّرته حق قدره فانقدت واستسلمت وأخلصت وأنبت وانسجمت مع هذا الكون صغيره وكبيره فكان حالك ومقالك: سبحانك ما أعظمك! سبحان من لو سجدنا بالعيون له على شبا الشوك والمحمى من الإبر لم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشراً من العشر أحبتي في الله: الأدلة على وحدانية الله، وأنه المستحق للعبادة لا شريك له كثيرة لا تعد ولا تحصى ولعل فيما تقدم ما يكفي لأولي الأحلام والنهى.

الحجب المانعة من معرفة الله

الحجب المانعة من معرفة الله وبعد هذا كله أخي لعلك تقول: فما الذي يحول بين الناس وبين العلم بالله وأن يوحدوه، ويقدروه حق قدره لا إله إلا هو، فيعظموا حرماته ويحفظوا فرائضه، ويقفوا عند حدوده ويعظموا شعائره؟ و A أن هناك حجباً كثيفة، تحول بين البعض وبين العلم بالله، والإيمان به وتعظيمه وهي مما كسبت أيدي الناس ولا ريب.

حجاب الغفلة عن الله

حجاب الغفلة عن الله وأول هذه الحجب هي: الغفلة عن الله التي تصيب العقل بالشلل عن المعرفة، والقلب بالعطل عن الإدراك. فهمُّ أهل الغفلة ملء بطونهم وإشباع شهواتهم، والتمتع بما تتمتع به الأنعام: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:17].

حجاب التقليد

حجاب التقليد وثاني هذه الحجب: التقليد. والتقليد شر مستطيل يفقد الإنسان شخصيته، فتجد صاحبه يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، وينطق من فيَّ غيره، ذيل إمعة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فما العاقبة؟ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].

حجاب المكابرة والعناد

حجاب المكابرة والعناد وحجاب ثالث: أكثف وأغلظ ألا هو المكابرة والعناد، والعزة بالإثم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:20]. هناك نوعية من الناس رخيصة يجادلون ليشوشوا لا ليفهموا، يلاججون ليغلبوا لا ليستمعوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر:69] المكابر والمعاند لا يقنعه دليل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15] {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25] {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:18] {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:10].

حجاب الشهوات والشبهات

حجاب الشهوات والشبهات ومن الحجب: الشهوات والشبهات والهوى والوساوس والخطرات وغيرها كثير وكثير عافنا الله وإياكم أيها المسلمون. أحبتي في الله: الوحي المعصوم، وصفحات الكون المنظوم، مقنعة لمن يريد أن يقتنع، هادية لمن يريد أن يهتدي، مذكية لمن يريد أن يرتقي، إنهما كتاب ميسور، وآخر منظور، من تدبرهما وجد فيهما إجابات جليلة، ترفع يقينه، وتشفي عليله، وتحيي فؤاده، وتروي غليله، وتجرد توحيده، وتوقظ ضميره، وتدحض شبهته، وتطفئ شهوته، وترد الشيطان إلى كيد الوسوسة. تأمل خطوب الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها فصامتها يهدي ومن هو قائل ختاماً: فإنه لا يوصف بالعلم حقاً إلا من كان عالماً بالله، متلبساً بخشية الله، وعالماً بالطريق الموصل إلى الله، متعبداً إلى الله بمقتضى ذلك العلم، متعرفاً على ما يحب الله فيلزمه وعلى ما يبغض الله فيجتنبه، وحاله: ربنا أنت أحق من عبد، وأحق من ذكر، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، كل شيء دال عليك، ومرشد إليك، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، نسألك بكل اسم هو لك، أن تلزمنا عتبة العبودية، وترزقنا السعادة الأبدية، وأن تكشف عنا وعن إخواننا كل كرب وبلية، اللهم يا من ذلت له جميع الرقاب، وجرى بأمره السحاب، كن لنا وامكر لنا، وانصرنا وثبتنا وإخواننا بالحال والمآل، وألهمنا التزود بالتقوى قبل حلول التراب، وأرشدنا عن السؤال إلى صحيح الجواب. وهب لشيبنا قوى الشباب، وارزقنا عمارة القلوب الخراب يا كريم يا وهاب. يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، اللهم كن للمستضعفين والمظلومين، اللهم كن للمستضعفين والمظلومين، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء. اللهم من كان من أمة محمد على غير الحق وهو يظن أنه على الحق، فرده إلى الحق رداً جميلاً حتى يكون من أهل الحق، آمين يا رب العالمين. والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. حمداً لك اللهم أقولها في البؤس والإيسار والإعسار وعلى الرسول الهاشمي وآله ليلي أصلي دائباً ونهاري سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

اقصد البحر وخل القنوات

اقصد البحر وخل القنوات تمر الأمة الإسلامية بفترة عصيبة من الفتن المتداخلة التي قد تفتن المسلم في دينه، كما أنها تعيش صحوة إسلامية مباركة تحدو الناس صوب المنهل العذب، ولكن في خضم الأحداث الجارية، والفتن المتشابكة قد يختل السير، وتضل عن الطريق بعض العير، وهذه المحاضرة هي توجيه للأمة الإسلامية، وأبناء الصحوة خاصة بمواصلة السير في الطريق الصحيح والاجتهاد لذلك.

اختلاط المشارب والغبش الحاصل في الطريق

اختلاط المشارب والغبش الحاصل في الطريق الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحضر، فأحلَّ وحرَّم وأباح وحظر؛ لا يغيب عن بصره وسمعه دبيب النمل في الليل إذا سرى، يعلم السرَّ وأَخفى، ويسمع أنين المضطَّر ويرى، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأَرض ولا في السَّما. اصطفى آدم ثم تاب عليه وهدى، وابتعث نوحاً فبنى الفلك وسرى، ونَجَّى الخليل من النار فصار حرُّها ثرى، ثمَّ ابتلاه بذبحِ ولده فأدهش بصبره الورى. أَحْمده ما قُطِع نهار بسير وليل بسُرى، أحمده حمداً يدوم ما هبَّت جنوب وصَبَا. وأصلِّي وأُسلِّم على رسول الله محمد، أشرف الخلق عَجماً وعَرباً، المبعوث في أم القرى، صلوات الله عليه وسلامه ما تحركت الأَلْسن والشِّفا، وعلى أبي بكر الذي أنفق المال وبذل النفس وصاحبه في الدار والغار بلا مِرَا: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وعلى عمر الذي من هيبته ولَّى الشَّيطان وهربا، من أغَصَّ كسرى وقيصر بالرِّيق وما وَنَى، وعلى عثمان مجهز جيش العُسْرة زوجُ ابنتيه ما كان حديثاً يفترى، حيَّته الشهادة فقال: مرحباً، وعلى علي أَسد الشرى، ما فُلَّ سيف شجاعته قط ولا نبا، وعلى جميع الأَهل والآل والأصحاب والأتباع ما تعاقب صبح ومسا: صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدا {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أحبتي في الله: إنَّ الإسلام عقيدة استعلاء، تبعث في روح المسلم إحساس العزة من غير كِبْر، ورُوح الثِّقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تَوَاكل، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدةٌ تعلمه كيف يتغلب على شهوات النفس ومألوفات الحياة في سبيل الله، تُعلمه نِسيان حظوظ النَّفس في سبيل إعلاء دين الله، تُعلمه كيف يستقبل الشدائد في سبيل الله بثغرٍ باسمٍ، ونفسٍ هانِئة مطمئنة، عقيدة تُشعر المؤمن بالتَبِعة المُلقاة على كاهله، تبعة الدعوة للبشرية الضَّالة، لانتشالها من الضَّلالة إلى الهداية، وإخراجها من الظُّلمات إلى النور: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110] فسبحان من قدَّمنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس، وأنعم علينا بعلو الهمة وقال لنا: {كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. مَنْ تأمل وتدبر ونظر؛ وجد الأمة قد مرت بها فترات خَيْرِية، كانت فيها هادية الناس إلى باريها، قائدة رائدة: كتيبةٌ زيَّنها مَولاها لا كَهْلها هُدَّ ولا فَتَاها وفي العُصور المُتأَخرة تمرُّ بالأمة فترة عصيبة كادت تفقد فيها هويتها؛ لتصبح تابعةً مسخاً إمَّعة، فإذا المسلم يُجِيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، فيرتَّد بصره خاسئاً وهو حَسِير، يوم يرى جموعاً تسير في دروب متشابكة متعرجة في ليل بهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، ثم لا تصل إلى البحر الذي تريد، تُحدِّد أهدافاً، وتقصد غاياتٍ، ولمَّا تظن أنْها قاربت أهدافها، تُفاجأ بأن الأهداف سراب خادع، ويُطمئنك أنه في وسط تلك الدروب ترى طريقاً واحداً مستقيماً، لا ينحرف يميناً ولا شمالاً، تهب عليه الأَعاصير، تكاد معالمه تَنْدثر، فإذا بأقوام يقومون بكشف الرِّمال عنه من جديد، يُوضحون معالمه، ويجددون رسومه، يقلون على هذا الطريق ويكثرون، لكنه لا يكاد يخلو من سائر يُقيضه الله بمَنِّه وكرمه؛ ليرد على الأمة في ذاك الطريق إيمانها بدينها، ويصحح مسارها، ويُعِيد لها ثِقَتها بطريقها؛ لتفهم رسالتها؛ من مُصْلحين وأَئِمة يتعاقبون فيها إلى يومنا هذا كـ ابن عبد الوهاب رحمه الله وغيره ممن يريدون العزيز الوهاب، يُثْبتون أن الأمة كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره، ولذا صَوَّت حادي المصلحين في ظلام الليل البهيم على ذاك الطريق: إنَّ هذا العصرَ ليلٌ فأَنِر أيُّها المسلمُ ليلَ الحائرين وسَفِينُ الحقِ في لُجِّ الهَوى لا يُرى غيرَك ربَّانَ السَّفِين وتجاوبت بالصَّدى الأرجاء، وأقبل الناس على دين الله من كل حَدْب وصَوب على ذاك الطريق، والحمد لله رب الأرض والسماء؛ فما من أرض إلا وقد وصلتها الصحوة المباركة، رغم الكبت والتضليل والحصار، فالهُتاف يملأ الأنحاء، ويشق عنان السَّماء: أنَّا لا نريد غير الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجاً: وهاتف الكل أن الله غايتنا فنحن لا نبتغي جاهاً وسلطاناً وإنما نبتغي للنَّاس قاطبةً خيراً ومنفعةً دوماً وإحساناً هُتاف يستحث كل مسلم غيور، أو مُتَبلدٍ ويُذَكِّره بأن مسئوليته ضخمةٌ، وأنه يملك بصيرةً تجعله جديراً أن يكون له نصيب من التوجيه والتربية والحُداء للركب السائر على ذاك الطريق. هُتافٌ يصرخ: الزَّمن يُسرع، ولا انتظار لبطيءٍ أو متثاقلٍ أو قاعدٍ، ومَنْ يَنْفر مع بزوغ الفجر فسيسبق من توقظه الشمس؛ لأن الطريق سيزدحم.

الفتور في التربية مما حرف البعض عن الهدف

الفتور في التربية مما حرف البعض عن الهدف وبدأت الصحوة تُؤتي ثِمَارها والحمد لله رب العالمين؛ لكنه نظراً للفتور والتقاعس والتباطؤ في التوجيه والتربية، والقيام بالمسئولية، وغيرها من العوامل تجاه هذه الجموع، ظهر في الأُفُقِ سَحَائب تخاذلٍ وضَعف، أو غُلُوٍ وتنطع على نفس الطريق. وبعبارةٍ أدق: ظهر تعلق بالأطراف والشواطئ والقنوات، وهُجِرت لُجة البحر والعمق والخِضَم، فإذا أنت ترى من تعلق بطرف أعلى يكاد يسقط فتُدق عنقه، وما هو أعز من عنقه، جاوز الحد؛ هلك ثم هلك. وآخَرُ في الطرف الأدنى يحتضر لا يكاد يعرف هويته، يحمل اسم الإسلام ويجهل كُنْهه، قد ربط الوهم أقدامه المسرعة، وطوى أشرعته المبسوطة، وثقلت به أجنحته المُرفرفة، يَنْدب حظه وكفى. وآخَر راكب متجه نحو هدفه، فلمَّا رأى السَّراب أراق ماءه؛ ظناً منه أنه بلغ هدفه، فلما جاءه لم يجده شيئاً، ثم ندم حيث لم ينفعه الندم. وآَخر اتَّخذ الوسائل غاياتٍ؛ فبقى في القنوات وهجر لُجَّة البحر. وآخر اكتفى بالكلام، وركل العطاء والعمل. وآخر هجر الكيف واهتم بالكم، عمل غير النَّافع وترك النافع، عمل غير المُهم وترك المهم والأهم، ما حاله إلا كمن صنع ساقية، لكنِّها لا تسقى الزرع، بل تأخذ الماء من النهر فترده في النهر، تَعَجَّب النَّاس من فعله الأحمق! قالوا: ما هذا السَّفه؟! تعمل ولا نتيجة لعملك، تأخذ الماء من النهر وتعيده إلى النهر؟! قال: يكفيني من السَّاقية نَعِيْرُها -يكفيه صوتها-. وآخر رضيَ بالزرع، واتبع أذناب البقر، وترك الجهاد، وَرَهَقَه الذُّل، ومع ذلك لم يَجْنِ من الزرع الثمر، ولم يأخذ من البقر اللبن، بل بقيَ عالة يتكفَّف ويسأل، ويُنشد مع ذلك: أَرى ماءً وبي عطشٌ شديد ولكنْ لا سبيلَ إلى الوُرودِ وآخر اتَّضح طريقه، وحُددت غايته، وهُيئت وسيلته، وأصابه في وسط الطريق همٌ دوَّخه، غبشٌ جاءه في وسط الطريق استولى عليه، فهو أحوج ما يكون لحادٍ يحدوه إلى البحر. لهذا كله كان لِزاماً على كل مسلم يملك أدنى صوت للتوجيه؛ أن يرفع الأذان ليخرق الآذان، علَّه يصل إلى الجنان، ليرد ذلك المتجاوز، ويُحيي ويوقظ ذاك الرمِّة الغافل، ويُطلق الأقدام، ويبسط الأشرعة، ومعه تُرفرف الأجنحة ليُهتم بالنافع الأهم، ويهجر الكم. من هذا المنطلق كانت هذه الكلمات بعنوان: اقصد البحر وخلِ القنوات.

الثمرة المرجوة من هذا المقصد

الثمرة المرجوة من هذا المقصد اقصد البحر وخلِّ القنوات: هي دعوة للعمل بشرع الله وله، من غير ما زيادة ولا نقصان، مع هجرٍ لقنوات التَّفلت والتَّميع والتَّجاوز، بل وسطية في اتزان؛ أوجهها لنفسي أولاً، وللمسلمين ثانياً؛ علَّها تُحرك القلوب إلى علام الغيوب، وتحدو النفوس للعمل لما يرضي الملك القدوس. هي مع ذلك صرخةٌ وحُداء؛ صرخة تهتف: أن أغلق باب الدعة والسكون والراحة، وافتح على المصراعين باب العمل بهمة وطُموح في اتزان وبصيرةٍ، وانْزِل السَّاحة، والأهم فالأهم تكن الراحة. أن أغلق باب الكرى، وافتح باب النَّصب والعمل، رقياً مشروعاً مع أولي النُّهى، أَمِط عن رأسك قناع الغافلين، ولا تتجاوز الحد في المشروع تكن مع الهالكين، سِر بخُطى ثابتة في الميدان، ولا تَغربَنَّ عليك الشمس وأنت لازلت في تواكل أو توان، سَدِّد وقارب، فما النَّاس -وأنا وأنت منهم- إلا كإبل مائة هُزَال مترنحة مسترخية، ولا تكاد تجد فيها راحلة. يثْقلون الأرضَ من كثرتهم ثمَّ لا يُغْنون في أمرٍ جَلل ومُختار القليل أقل منه! غريب -يا أيُّها الأحبة- غريب! أتُختار الحياض وماؤها غُثاء وبحر الدين تصفو مناهله؟ فِرَّ في اعتدال إلى الله، واصبر على اللأواء والموعد الله. لا لؤلؤ البحرِ ولا أصدافه إلا وراء الهَوْل مِنْ عُبابه وهي كذلك -أعني هذه الكلمات- حُداء سريع لجميع الأطراف، أطوِّف فيه تطوافاً حثيثاً كأشواط الرّمْل في طواف القدوم أُرَدد فيها: أيُّها الساعي لكحْل المُقَلِ غافلاً عمَّا به من كَحَلِ اسْمعْ وعِ لا تَغْفلنْ وسَبباً لا تُهْمِلَنْ وأخْلِصْ اتْبَع تَنْجُون مَع الدَّليل تَجْرِيَن واثْبُت ودفعاً للثَّمن ميِّز برفقٍ أَجِبَن وحقِ ذي حقّ أَعْطِين وفاضلَ الأَمر اقْصدن وخَيْر خَيْرين اتَّبَعن وشَر شَرَّين ادْفَعَن وكنْ ذكياً واتَّزِن بِكثْرةٍ لا تُعْجبنْ وبعد هذا البحر فاقْـ صدْ وقناةً خَلِّيِنْ ذلك -يعلم الله مني- جهد المقل، وقوة الضعيف الذي لا يكاد يمضي حتى يَكِل، وما أنا وهذا الأمر وأين ما أقع منه إي والله؟! إن أنا إلا رجل يقرأ ليجمع، ويكتب ليقرأ ما وسعه أن يتفرج ويندب، فإن أصاب فلكم ولا همّ، وإن أخطأ فعليه وخلاكم ذمٌّ. أعوذ بالله من فتنة القول وزوره، وخَطَل الرَّأي وغروره. اللهم تجاوز عن زلاتي وجرأتي، ولا تجعل حظِّي من ديني لفظي، وارْزقني الصِّدق في نيَّتِي وقولي وعملي. اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذُّل إلا لك، ومن الخوف إلا منك. اللهم إني أعوذ بك أن أقول زوراً، أو أغشى فجوراً، أو أن أكون بك مغروراً. اللهم إني أبرأ إليك من حولي وقوتي، وألجأ إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. اللهمَّ لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.

أهمية الإخلاص والمتابعة في السير إلى الله

أهمية الإخلاص والمتابعة في السير إلى الله فتى الإسلام: اقصد البحر بأسباب وخض هول العُباب إيَّاك والتواكل؛ فإنه التخاذل وليس بالتوكل. لكل شيءٍ سبب قدره المقتدر المالك المنفرد فاطرق بحزم سبباً وابذر بجد حباً وثَمراً لا تنتظر نتيجةً لا تملكن فالأمر للإله الواحد القهار لا تكن -أخي- كمن يريد أن يزرع اليوم ولا أرض ليحصد غداً، ويغرس في الصباح ولا بذر، ليجني في المساء، ذاك محال وخلاف سنة الله رب الأرض والسماء. أتَطمعُ أنْ تَرى غَرْساً وتَهْفُو إلى ثَمَراته قَبْل الغِرَاس محال؛ إن الله عز وجل كان قادراً أن ينصر نوحاً صلوات الله وسلامه عليه ومن معه من أول الأمر، لكنه تركه يأخذ بالسبب، يدعو ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم نجَّاه الله بسفينة صنعها بيديه، ولم تنزل له من السماء، سُنة الله، ولن تجد لسنه الله تبديلاً. فمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمنِّي ولَكنْ القِ دَلوَك فِي الدِّلاءِ أحبتي: إن طالب علم يريد حفظ كتاب الله، ولمَّا ينتظم في حلقة تحفيظ، ولم يفتح المصحف، إنما يطلب المحال، ويسخر مع ذلك من نفسه. إن طالباً يريد العلم، ولم يثنِ ركبته عند عالم، ولم يفتح كتاباً، ولم يجعل للعلم وقتاً فرضاً، لا يمكن أن يحوي علماً، أو أن ينتظم في سلك طلاب العلم طالباً، إنما مثله كرجل له بستان مثمر مورق يجاور نهراً، بينه وبين النهر كف من تراب، وذبل البستان، وجفت الثمار، وسقطت الأوراق؛ كل ذلك من الظمأ، فقام الرجل بدلاً من أن يزيل الكف من التراب ليصل ماء النهر إلى البستان، قام ليتوضأ من النهر، ويصلى صلاة الاستسقاء، ويدعو الله أن يغيث بستانه. تواكل وخَور وعجز وضعف! هل يطير طائر بلا ريش؟ هل السماء بالذهب تمطر؟ لا. كل شيء بسبب، ومن برز بلا سبب قعد دون الرجال حسيراً مغموراً، وقعد عن نيل المعالي ملوماً محسوراً، وإذا أدركته المنية مضى وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً. لو كَان هَذَا العِلمُ يَحصلُ بالمُنَى مَا كَان يَبقَى في البَرِيَّةِ جَاهِل فاعقل. توكل. بادر. وانهض إلى المعالي واطلب ولا تبالي واحذر من التواني والعيش في الأماني واقصد البحر بأسباب ودع عنك سراب القنوات!

أثر الإخلاص والمتابعة في الطريق إلى الله

أثر الإخلاص والمتابعة في الطريق إلى الله يا فتى الإسلام: إنْ كُنتَ تَطلبُ لُجَّة الأعمَاقِ أَخلصْ أصِب حلِّق بغيرِ تَوانٍ جناحان لا ينفكان: إخلاص لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تحليق بواحد منهما: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك:2]. منْ عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وصال لم ترد صولته، ومن تكلم بهما علت على الخصوم كلمته. هما روح الأعمال، ومحك الأحوال في أيام الفتن والمحن، لا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون؛ يُشرَّفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض، ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ ولذا سئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم: ما حجم ذاك الكلام؟ فقال: والله ما فهمت منه شيئاً، إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل. فوالله! ما مُنح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الثابت. تقول بعض الروايات: إن أحد جواسيس الفرنجة، توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلاً تحت شجرة يبكي، فسأله: ما يبكيك يا بني؟ قال: لأنني لم أستطع إصابة الهدف الذي حُدِّد لي؛ وهو صيد العصفور فوق الشجرة. فقال الجاسوس: هوِّن عليك، وعاود الكرَّة أخرى. فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور؛ يبكيني أن قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد، فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غداً؟ دُهش الجاسوس، وبلَّغ الواقعة إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل، يحمل من يُصادره، ولهم نيَّات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف. وصدق وهو كذوب. فَكَمْ زكِمتْ أُنوفُ الفِسقِ دَوماً بعِطرِ القَولِ مِن فَمِ صَادقِينَا

طلب وجه الله في العمل مهما كلف من تبعات

طلب وجه الله في العمل مهما كلف من تبعات يا طالب العلم! ويا قاصد بحره! انصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشية الله، اجعل همك مرضاة الله لا مرضاة عباد الله؛ فإنك قد تُضطر إلى إغضاب عباد الله في سبيل مرضاة الله، ولا ضير. إن تفعل ذلك، يكفك الله مئونة الخلق. زِن عملك بميزان مرضاة الله، فما رجحت به كفة الميزان فاقبله وارتضه، وما شالت به الكفة فأعرض عنه واجفه. عندها تستقيم المقاييس، ويتضح أمام العين الطريق القصد، والسبيل القويم؛ في خوض لجج البحر، فلن تقع بعدها -بإذن الله- في تلك المتناقضات المضحكة السخيفة، كأن تُرى تطيع الله في أمر، وتعصيه في آخر، إذ أنه لا مجال للتناقضات ما دامت المنطلقات صحيحة، والمنهج بيناً، والمقاييس ثابتة، مرضاة الله أولاً في اتباع وآخراً. لا لَكَ الدُّنيَا ولا أنْتَ لَها فَاجعَل الهمَّينِ همّاً وَاحِدَا إني لأربأ بك وتربأ بنفسك -يا قاصد البحر- أن تُرى في المسجد مصلياً خاشعاً، ثم تُرى في السوق مرابِياً أو ترى في المسجد خاشعاً، ثم تُرى في البيت والشارع والمدرسة والمنتدى غير مُحكِّم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك ومن تعول. كيف يليق بقاصد البحر أن ينظم مركبه وبيته والحياة من حوله، ثم يترك الفوضى في قلبه ويقصد لُجج البحر؟! تَرجُو النَّجاةَ ولمْ تسلُكْ مَسالِكَها إنَّ السفينةَ لا تجرِي على اليَبَسِ {إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. وايم الله لو مرضت قلوبكم، وصحت أجسامكم، لكنتم أهون على الله من الجعلان. فكَيف يَصنعُ مَنْ أقصاه خَالقه لا لَيسَ ينفعُه طِبُّ الأطبَّاء مَنْ غصَّ دَاوَى بشُربِ المَاء غُصَّتَه فَكيفَ يَصنَعُ مَنْ قَد غَصَّ بالمَاءِ إنَّ الفيصل استقامة السر: متى استقام باطنك استقامت لك الأمور، وصدَّق عندها الفعل القول، والعلانية السر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسَّام بالنهار، بكَّاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، أو كسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص. الحال ينطق: دع الذي يفنى لما هو باقٍ

التخلص من حب المدح والثناء سبب للوصول إلى الله

التخلص من حب المدح والثناء سبب للوصول إلى الله يا قاصد البحر: إني أُعيذك بالله أن تكون في نفسك عظيماً، وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين في طريقك إلى البحر بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تتصور أن تجمع في قلبك الإخلاص مع حب المدح والثناء؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً. اسمع إلى ابن القيم رحمه الله يوم يقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الآخرة في الدنيا، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء، سَهُل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يُسهل علىّ ذبح الطمع والزهد في الثناء؟ قلت: -أي ابن القيم - أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس شيئاً يُطمع فيه إلا وبيد الله خزائنه لا يملكها غيره. وصدق ابن القيم رحمه الله؛ فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول أصل الأصول، والعز ألذُّ من كل لذة، والخروج عن رقَّة المِنن ولو بسفِّ التراب أفضل. وهل عِزٌّ أعز من القناعة؟ سُئل أحدهم عن سر قوة الإمام الحسن البصري رحمه الله: فقال في صراحة: احتجنا إلى دينه، واستغنى عن دنيانا. مُرُّ الحياةِ لمَن يريدُ كَرامَةً حُلوٌ ويُفلِّحُ مَن يريدُ فَلاحاً أما الزهد في الثناء؛ فيسهله عليك علمك أن ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين، إلا الله وحده؛ فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين، كنت كمن أراد السفر في البحر من غير مركب.

الثبات مع الصدق حياة للأعمال وخلود للأقوال

الثبات مع الصدق حياة للأعمال وخلود للأقوال يا قاصد البحر: حلِّق، ثم خُض لُجة اليم بقلب مخلص كالجبل لا يتزحزح أبداً، أو بقلب كالنخلة أصلها ثابت وتهزها الريح، وإياك أن يكون قلبك الثالث كالريشة: أينما الريح تميِّلها تَمِل وجاهد فبالمجاهدة تُوفَّق وتُسدد وَإذَا الأَرضُ أَجدَبتْ ذَاتَ يَومٍ فَهْيَ تَبغِي مِن زَارِعِيها اجْتِهَادا يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصناً واحداً، فتُسقى فينتشر، ثم تُسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يُستظل به، وثمرة يؤكل منها. كذلك الصدق مع الله، يبدو في القلب ضعيفا، فيتفقَّده صاحبه ويزيده الله، ويتفقده ويزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ليحيي الله به الفئام من الناس وصاحبه لا يعلم بذلك. يروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع رحمة الله عليه، وقد كان يقول القاص: ما لي لا أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قِبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب. يكفيك أن أقواماً تحيا القلوب بذكرهم، ناهيك عن كلامهم، وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب بل تموت بذكرهم، ناهيك عن كلامهم. نعم -والله- يا من قصدت البحر، كم من كلمات ولدت ميتة، ومن ثَمَّ جُعلت هباء مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور، وكم من كلمات ولدت حية، وبقيت فيها الحياة مع حياة أصحابها وبعد مماتهم، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. بَينَ الجَوَانِحِ فِي الأَعمَاقِ سُكنَاهَا فَكيفَ تُنَسى ومَن فِي النَّاسِ يَنسَاهَا الأُذْنُ سَامِعَةٌ وَالعَينُ دَامِعَةٌ وَالرُّوحُ خَاشِعَةٌ والقَلبُ يَهوَاهَا والسر؛ إنه الإخلاص والصدق يمنح الكلمات روحاً، فتبقى فيها الحياة أبداً سرمداً، أو ينعدم الصدق والإخلاص ويضمحل، فإذا بالكلمات لا تهز أحياءً، ولا تنفع موتى، نَوحٌ مستأجرٌ بلا روح، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة. لا يعرف الشَّوق إلا مَنْ يُكَابده ولا الصَّبابة إلا مَنْ يُعانِيها

حقيقة الإخلاص

حقيقة الإخلاص أخي طالب العلم: اقصد البحر وحَلِّق، ثم خُض، وكن صحيحاً سليماً في سرك، تكن فصيحاً في علانيتك، فإنما صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَّى صُفِّي له، ومن خلَّط خُلِّط عليه، وإنما يُكال للعبد كما كال، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وقد يبلغ الرجل بنيته ما لم يبلغ بعمله. ثم اعلم أن الإخلاص لا يعني الانقطاع عن العمل خشية الرياء كما يفهم البعض، لكن الإخلاص أن تعرف لله قدره، فلا تصرف العمل إلا له وحده لا شريك له، سبحانه وبحمده. ثم اعلم بعد ذلك أن ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وعلامته أن تكون في الخَلوة كالجَلوة، بل خير من ذلك، ضحك في الملا، وبكاء في الخلا. فاعقد مع الله عقداً -لا يكون للشيطان فيه نصيب- على صلاح النية والاتباع، وانوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، وعامل الله؛ فما خاب من عامله، واتقِ الله واقصد من ينفعك قصده، ولا تتشاغل بمدح من لا ينفعك مدحه، وأحسب أن عينك عين موفق، عين فرس يرى في الظلمة كما يرى في النور، والصدق منار، ومن لا يخلص في عِثَار، والعاقبة العار والنار. فكيف يبلغ في دُنياه غايَته مَنْ تَسْتوي عنده الظلماءُ والنورُ لا لا يا قيود الأرض؛ صفقة غبن لمن قصد البحر أن يرضى بمدح أو ثناء عن الفردوس الأعلى، لا يُحصَّل عظيم خطير كالإخلاص إلا بخطر، والدرّ في عُقر اليم، والراحة عند أول قدم توضع في الجنة، ومن أراد أن يعلم ما له عند الله؛ فليعلم ولينظر ما لله عنده، ومن لم تبكِ عليه الدنيا لم تضحك له الآخرة. وصلاحُ الأَجْساد سهلٌ ولكن في صَلاح القلوبِ يعيا الطبيبُ والمجاهدة توفيق: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. فاقصد البحر بإخلاص وصواب، وخلِّ القنوات.

علو الهمة

علو الهمة يا فتى الإسلام: أما وقد أخذت بالسبب، وحلقت بجناحي الإخلاص والمتابعة تقصد البحر، فألحقْ ذلك بهمَّةٍ عالية؛ فإن الهمة طريق إلى القمة، بادر ولا تعجل، أسرع ولا تضجر، أقبل ولا إلى الخلف تنظر. إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، ما يتردد ولا يتلكأ فيها إلا الذي لا يعرفها، أو يعرفها ويتقي متاعبها، والطرق شتى، طريق الحق واحدة: والسالكون طريق الحق أفذاذ. فبادر وسر إلى الله بهمِّة الحازم، فإنما هو شبر بذارع، وذراع بباع، ومشي بهرولة. كما في الحديث القدسي الصحيح: {وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة}. همٌ بالحسنة حسنة، وهم بالسيئة بلا عمل لها حسنة، حسنة بعشر وسيئة بمثلها، وفي الحديث القدسي الصحيح: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}، لا يهلك إلا هالك، ولا يُحرم إلا محروم. إذا كنتَ في الدُنيا عن الخيرِ عاجزاً فما أنت في يوم القيامةِ صانعُ أين المبادرون؟ أين أصحاب الهمم؟ إنما هي خمس أو عشر سنين فحسب. يا نفس ما هو إلا صبرُ أيامِ كأن مدَّتها أضْغاثُ أحلامِ إن عاش الرجل ستين سنة، نام الليل فذهب نصفها ثلاثون سنة نوماً، ونام ثلث النهار راحة وقيلولة، فذهب ثلثاها؛ أربعون سنة نوماً، وبقي عشرون سنة، منها خمسة عشر سنة قبل البلوغ والتكليف، فبقي العمر الحقيقي لابن الستين، خمس أو عشر سنوات، لله ما أقلها! ذاك لابن الستين، فكيف بابن الثلاثين والعشرين؟! يا نفسُ قومِي فقد نام الوَرى إن تصنعي الخيرَ فَذو العَرْش يَرى وأَنتِ يا عينُ دَعِي عنك الكَرى عند الصباح يَحْمد القومُ السرى

حمل النفس على الجد محمود العواقب

حمل النفس على الجد محمود العواقب النَفْس. ما النَفْس؟! إذا عودتها البَطالة اعتادت، وإنْ عودَّتها العمل والجد والسهر سهرت وجدَّت وعملت. وقل مَنْ جَدَّ في أمر تطلبه واستصحب الصَّبر إلا فاز بالظَّفرِ ولله الهمم ما أعجب شأنها! ما أعجبه لمتأمل! وما أشد تفاوتها! همة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُش، وبتفاوت الهمم تتفاوت الأعمال والدرجات. ومَا كلُّ من جَر العَبَاءة سيداً يُخْشى ولا كلُّ المَظاهر تبهرُ إني لأسأل: أين تعب عالم دَرس العلم خمسين سنة؟! ذهب التعب وحصل العلم. وأين لذة البطال خمسين سنة؟! ذهبت الراحة وبقي الندم. اتباع الهوى، وما اتباع الهوى؟! يُغْلق على العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان: {وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] وأما من أطاع الهوى فوالله لقد هوى، ولا يزال الهوى يُمسك بتلابيب النفس، ويملك عليها أقطارها، حتى يصير لها إلهاً، تعطيه معنى الطاعة والعبادة، وتصير له عبداً تعطيه ما هو أكثر من الطاعة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ} [الجاثية:23]. أحبتي في الله: النَّفْس خلق عجيب، آية من آيات الله، بطبيعتها تميل إلى الأسهل وإلى الأدنى، كالماء الجاري، يهبط الأودية والشعاب والمنخفضات، ورفعه يحتاج لهمة وكلفة، وصبر وعناء، ومشقة ومجاهدة؛ كذلك النفس تحتاج لذلك كله؛ لترقى وتسمو وتحلِّق، والبحرَ تقصد. يقول ابن الجوزي عليه رحمة الله: لو أُمر الناس بالصبر على الجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، يقولون: ما مُنعنا منه إلا لشيء، والواقع يشهد: وأحَبُ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا لماذا؟ لأن النفس محصورة مسجونة في البدن، فلا تحب أن تسجن وتحصر أخرى بالتكاليف في الأوامر والنواهي: يا نفس! افعلي، ويا نفس! لا تفعلي، هذا حرام وهذا حلال وهكذا. ولذلك لو قعد الإنسان في بيته شهراً باختياره ما صَعُب عليه ذلك، لكن لو قال له أبوه: لا تخرج هذا اليوم من بيتك، وقَفَلَ عليه باب غرفته لثقل عليه ذلك اليوم، وكأنه شهر، لماذا؟ لأن النفس تحب التحرر من القيود، والانطلاق والتفلت، فتراها تستلذ الحرام والشهوات، همها هواها، لكن صاحب الهمة العاقل الحازم يمنعها هواها، ويداريها، فيأخذها تارة بالعزائم، وتارة بالرخص، ويستعيذ بالله من شرها، ويدعو بتزكيتها، لتزكو وتتربى، وتسمو وتترقى. هي من خلق الله عز وجل، والله أعلم بخلقه سبحانه وبحمده. يُقْسم الله في كتابه أحد عشر قسماً متتالية، قسماً يتلوه قسم، ولله أن يُقْسم بما شاء من مخلوقاته -سبحانه وبحمده- يُقْسم على فلاح من زكاها، وخيبة من دساها، فيقول سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8] أين جواب القسم؟ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. وتزكيتها لا تكون إلا بهمة عليّة، يعقبها عمل خالص صالح صواب.

بين الصالح والبطال علو الهمة

بين الصالح والبطال علو الهمة فيا من قصد البحر بهمةٍ: زَكِّها؛ قد أفلح من زكاها، أبواب الخير المشروعة مُشْرَعة لك لتدخلها بهمة حازم. وأول هذه الأبواب: الفرائض. فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من الفرائض، وهذه الأبواب نفعها قاصر، ونوع آخر نفعه متعد للغير، وما كان متعدياً فهو أولى، فخض لُجْة البحر بهمة، وادخل من كل باب، واضرب في كل غنيمة بسهم، وعش مع كل طائفة على أحسن ما فيها، وخلِّ القنوات! من هذه الأبواب -بلا ترتيب- حفظ كتاب الله وتدبره، والوقوف عند حدوده، والائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، تحكيمه والرضا به. فمالك إن تركت هذا الباب؟ اسمع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح الجامع: {لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار، يجيء القرآن يوم القيامة شفيعاً لصاحبه، فيقول: يا رب! حَلِّهِ، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول القرآن: يا رب! زده، فيُلبس حلة الكرامة، فيقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى الله عنه، فيقول القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} حرف منه بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، آلم بثلاثين ويا خيبة البطالين! الحرفُ منه مُضَاعفٌ وميسرُ شَقي الذي عن حُكمهِ قدْ أعْرضا هُبُّوا إليه لحِفْظِه وتَأهبُوا وارجوا رِضَا الرحمنِ صُبْحا والمَسَا ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الجامع: {لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ خير لي من أن أعتق أربع رقاب، ومن أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه حتى فَرْجِه بفرجه}. يا للغنيمة الباردة! والله لا تتحقق اليوم إلا لأهل تحفيظ القرآن، أهل حلقات التحفيظ؛ هنيئاً لهم ثم هنيئاً. يا فَتى التَّحفيظ: كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأملِ وَسِر إلى الله في جِدٍ بلا هَزَلِ وإن شَعرتَ بنْقصٍ فيك تَعْرفهُ فَغَذِّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ وحَارِب النفسَ وامْنَعْها غِوَايَتَها فالنَّفسُ تَهوَى الذي يَدعُو إلى الزلل {بشر المشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} {من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نُزُلاً كلما غدا أو راح} كيف لو أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يوماً؟ ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار}. هلا حاولت وجاهدت نفسك لهذا الفضل العظيم؟ قد تدركها ثلاثين يوماً، وقد تدركها تسعة وثلاثين يوماً، وقد تدركها أربعين يوماً إلا فرضاً واحداً، ثم تنخرم القاعدة، لكن عُد من جديد، وجاهد نفسك، وستجد -بإذن الله- لذة المجاهدة على هذا الفضل ماثلة ظاهرة. والشيءُ صَعبٌ عَلى مَن لا يُجِرِّبه، لكن من جَدَّ وَجَد. مَا كُنتُ أَرجُوهُ إذ كُنتُ ابْنَ عِشرِينَا مَلَكْتُهُ بَعدَ أَنْ جُزتُ الثَّمَانِينَا

أمثلة لأبواب الخير تدرك بالهمة العالية

أمثلة لأبواب الخير تدرك بالهمة العالية إن سعيد بن المسيب رحمه الله يتحدث بنعمة الله عليه في آخر حياته فيقول لابنته: [[والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين سنة، وما رأيت ظهر مُصلٍّ في الصلاة أبداً]]. بمعني: أنه في الصف الأول دائماً، وما يُلقَّاها إلا من صبر، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يُؤخرون. عيادة المريض. ما عيادة المريض؟ ثبت في الصحيح عن علي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح}. وفي حديث ثوبان: {ولم يزل في خُرْفة الجنة حتى يرجع} ومع ذلك المنادي ينادي: {طبت وطاب ممشاك، وتبوّأت من الجنة منزلاً}. إنها الغنيمة يا أهل الغنيمة، فأين صاحب الهمة المشمر؟ فَمَا العُمرُ إلا صَفحةٌ سَوفَ تَنطوِي ومَا المَرءُ إلا زَهرةٌ سَوفَ تَذبلُ الطواف بالبيت يا أهل البيت الحرام: ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من طاف بالبيت أسبوعاً -يعني سبعة أشواط- كان كعتق رقبة، ولا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة} لأهل السوق ما هو خير من كل ربح يربحونه. ثبت -أيضاً- في صحيح الجامع {أن من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة}. فهل تذكَّرنا ذلك عند دخول الأسواق؟ ما أعظم الأجر، وأيسر الأمر! والله لحسنة من هذه خير من الدنيا وحُطامها وزخارفها ولذَّاتها. {من أنظر معسراً فله بكل يوم مثل دينه صدقة، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثل دينه مرتين صدقة}. فضل من الله ونعمة. وثبت في صحيح الجامع: {أن فيك يابن آدم ثلاثمائة وستين عظمة -أو مفصلاً- على كل مفصل في كل يوم صدقة}. تحتاج إلى ثلاثمائة وستين صدقة، على كل مفصل صدقة: والكلمة الطيبة صدقة، عون الرجل أخاه صدقة، الشربة من الماء تسقيها صدقة، تبسمك في وجه أخيك صدقة، أمر بالمعروف ونهي عن منكر صدقة، إرشاد الرجل في أرض الضلال صدقة، بصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، إماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة، إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، في كل كبد رطب صدقة، تسبيحة صدقة، تهليلة صدقة، تكبيرة صدقة، مَنْ عَلَّم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تُليت، ومن علمَّ علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء، الشفاعة في غير حدود الله صدقة، اشفعوا تؤجروا، والبخيل من بخل بجاهه، ذَبُّكَ عن عرض أخيك قربة من أعظم القُرب، يَذُبُّ بها الله عز وجل النار عن وجهك، عدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل ليُحمل على دابته صدقة، ترفع متاعه على دابته صدقة، كل خطوة إلى الصلاة صدقة، كل ما تصنع لأهلك من معروف صدقة، كل قرض صدقة، كفِّ الشر عن الناس صدقة، كل معروف تقدمه لغني أو فقير صدقة، إسماع الأصم صدقة، البيان عن الأعجم صدقة، من نَفَّس عن مَدينِه أو عفا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة، من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة، من ستر مسلماً ستره الله في الدار الآخرة. من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، إنقاذ الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور أفضل قربة: {فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النِّعم}. وكلما كان نفع العمل متعدياً إلى الغير، كان أعظم أجراً. ولك أن تتصور هذه الأمة اليوم، كل مسبِّح ومهلِّل وذاكر ومستغفر ومجاهد ومتصدق وحاج وصائم، كل أعمالهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلها؛ لأنه السبب في هذه الهداية، ولأنه هو الذي حمل الخير إلى الأمة، فمن يستطيع أن يأتي بأعمال تضاهي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يوم يأتي بعمله هو وعمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها في ميزانه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] فنسأل الله من فضله. ثبت في صحيح الجامع أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً}. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً -يعني مسجده صلى الله عليه وسلم- ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً لو شاء أن يُمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له؛ أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل}. إذا الرَّوضُ أمسَى مُجدِباً في ربِيعهِ ففِي أيِّ حِينٍّ يَستنِيرُ ويُخصِب أخي صاحب الهمة وقاصد البحر: لا تنس أن قيام الليل وتلاوة القرآن زاد يومي، لا غنى للمسلم عنه في مواجهة تكاليف الحياة وأعبائها، والدعوة إلى الله خاصة، وما ذكرته ما هو إلا أمثلة، وإلا فأبواب الخير لا حصر لها أبداً. تَناوَلْ مِن الأَغصَانِ مَا تَستَطِيعهُ وَجاهِد عَلى الغُصنِ الذي لا تُطَاوِلُهْ آنَ لكَ أن تقولَ بملءِ فيكَ: مضى عهد النوم. يا مرتاد القمم! بادر واغتنم، فإنما هي خمس أو عشر سنوات، انتهز الفرصة في وقتها، وخذ الثمرة في كمال نضجها، ولا تعجل فتطلب الشيء قبل وقته فلا تدركه، وتقطف الثمرة قبل نضجها فلا تنتفع بها، فمن طلب المعالي استقبل العوالي، ومن لزم الرقاد فاته المراد، وإن لم يُثمر العود، فقطع العود أولى به. والعَاجزُ الرأيِ مِضيَاعٌ لِفرصَتِهِ حَّتى إذَا فَاتَ أَمرٌ عَاتَبَ القَدَرَا والراضي بالدون دنيء. وَلَم أَرَ فِي عُيوبِ الناسِ عَيباً كَنقصِ القَادِرينَ علَى التَّمَامِ

أمثلة من قصص السلف في علو الهمة

أمثلة من قصص السلف في علو الهمة يا من قصد البحر بهمَّة! لا تستوحش إن قلَّ السالكون، فقد سبقك السابقون، ولعلك تزيد من همتك بالوقوف على بعض مواقفهم، فإليهم إليهم بلا اختيار، قد صوَّت حاديهم بك: مَنازلَ مَن تَهوَى رُوَيدَكَ فَانزِلِ

إبراهيم الحربي يكتب اثني عشر ألف جزء

إبراهيم الحربي يكتب اثني عشر ألف جزء هاهو المحدث الفقيه الأديب إبراهيم الحربي، يعتلُّ في آخر حياته، حتى يصبح صفر اليدين من متاع الدنيا؛ فليس في بيته إلا الخبز الجاف والملح، ولا غرو. قَد يَنالُ العُصفُورُ وَفْراً وَيبقَى فِي سِجلِّ الخُمولِ تِلكَ الصُّقورُ ويبعث له الخليفة بألف دينار، فيرفض أن يأخذها، فينصرف رسول الخليفة إلى الخليفة، ويخبره، فيقول الخليفة: ليفرقها في جيرانه. فرجع رسول الخليفة إلى إبراهيم وقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقها في جيرانك. فقال: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفريقه، قُلْ لأمير المؤمنين: إن لم يتركنا تحولنا عن جواره. سمعت ابنته هذا الحوار، فغضبت وآلمها أن يرفض أبوها المال، وهم في أمسِّ الحاجة له، وجاء عمها لزيارتهم، فقالت: يا عم! نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا نحن ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا من طعام إلا كِسْرٌ يابسة وملح، وربما عَدمنا الكسر، وربما عدمنا الملح، وقد أرسل الخليفة بألف دينار فلم يأخذها، وأرسل فلان فلم يأخذ منه، وهو عليل كما ترى يا عماه. فنظر عمها إلى أبيها؛ يريد أن يجيبها، فالتفت إبراهيم إلى ابنته وتبسم وقال لها: يا بُنية! أو إنما تخافين الفقر؟ قالت: نعم. قال: انظري إلى تلك الزاوية. فنظرت في زاوية البيت، فإذا كتب بعضها فوق بعض، قالت: أبتاه! ماذا تغني هذه عنا؟ فقال: هذه اثنا عشر ألف جزء في الحديث والفقه واللغة، كتبتها بيميني، إذا أنا مِت، فبيعي كل جزء منها بدرهم، أو يفتقر من يملك اثني عشر ألف درهم؟ حاله: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، جوع قليل، وعُريٌ قليل، وبرد قليل، وذل قليل، وصبر قليل، وإلى الله المصير. لَيسَ السَّعِيدُ الذي دُنيَاهُ تُسعدُهُ إنَّ السَّعيدَ الذي يَنجُو مِن النَّارِ إنها الهمم؛ تجعل في قلب صاحبها نار تتقد، كنار تتقد في قلب من يجد ابنه مريضاً لا يملك له شيئاً، أو من لا يجد في بيته شيئاً يَسُدُّ به رمق أولاده وهم يتضاغون عند قدميه، يقلق ويضطر إلى بذل الجهد والسعي. إنها اثنا عشر ألف جزء، وبيمينه خطها، والإمكانات غير متوفرة، فلله الهمم ما أعلاها وأسماها! وَالعَبدُ عَبْدُ النَّفسِ فِي شَهوَاتِهَا وَالحُرُّ يَشبَعُ مَرَّةً وَيَجُوعُ يقول أبو العباس ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغةٍ ولا فقه منذ خمسين سنة. لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا

طلب العلم عند بعض السلف

طلب العلم عند بعض السلف ابن عباس ينام على عتبة زيد بن ثابت يطلب العلم رضى الله عنه وأرضاه. والإمام عيسى بن موسى يقول: مكثت ثلاثين سنة أشتهي الهريسة، ولا أقدر على شرائها؛ لأن وقت بيعها في السوق هو وقت سماعي الحديث. شَتَّانَ بَينَ النَّاسِ فِي أَهدَافِهِم شَتَّانَ بَينَ عَصاً وبين َحُسَامِ وأحد السلف في سكرات الموت يقول: أجلسوني لأصلي ركعتين. فيقولون: عافاك الله أفي مثل هذه الحال؟ قال: نعم، الآن تُطوى صحيفتي، وأريد أن أختمها بركعتين، علّ الله أن يرحمني. َفَنالُوا المُرادَ وفَازُوا بِهِ فَطُوبَى لَهُم ثُمَّ طُوبَى لَهُم

من همم صبية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

من همم صبية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست الهمة في الرجال فحسب، بل إنها في النساء، وفي الصبيان فاسمع: في معركة أحد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ مجموعة من الفتيان لم يبلغوا، وكان منهم رافع وسمرة، ولشوقهما للجهاد في سبيل الله لم يستسلما للأمر، قام كل منهم يستعرض ما لديه من قدرات، تثبت كفاءته للقتال، يرفع نفسه، يمشى على أطراف أصابعه؛ ليبين أنه بلغ مبلغ الرجال. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رافعاً رام الخامسة عشر. فأجازه صلى الله عليه وسلم فقال سمرة: يا رسول الله! أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال صلى الله عليه وسلم: دونكه -يعنى صارعه- فتصارعا، فصرعه سمرة، فأجازه صلى الله عليه وسلم. فيا لله! شباب امتلأت قلوبهم بالإيمان، واختلطت بحيوية الشباب وقوة البدن، فسخروها فيما يرضي الله، فرضي الله عنهم وأرضاهم. فهل من مقتدٍ بهم يا شباب الأمة؟ أَوَ مَن يُفكرُ فِي الصُّعُود كَمَنْ يُفَكِّرُ فِي النُّزُولْ مَنْ يَبتَغِ هَدَفاً بِغَير الحَقِّ يعيا بِالوُصُولْ

همة سفيان بن عيينة في طلب الحديث

همة سفيان بن عيينة في طلب الحديث وهاهو سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: كان أبي صيرفيّاً بـ الكوفة، فركبه الدَّيْن، فحملنا إلى مكة، وأنا يومئذ صبي - سفيان لا زال صبياً- يقول: وسرنا إلى المسجد لصلاة الظهر، ولما كنت على باب المسجد، إذا شيخ على حمار، هيئته هيئة صاحب حديث، فقال لي: يا غلام! أمسك عليّ هذا الحمار حتى أدخل المسجد، فأركع. قلت: ما أنا بفاعل حتى تحدثني. قال: وما تصنع أنت بالحديث؟ واستصغرني وردني، فقلت: حدثني أو لا أمسك لك الحمار. قال: فسرد علي ثمانية أحاديث بأسانيدها، فأمسكت حماره، وجعلت أكرر ما حدثني به. فلما خرج من المسجد، قال: ما نفعك ما حدثتك به يا غلام! قد حبستني عن الصلاة. فقلت: حدثتني بكذا وكذا وكذا. وسردت عليه جميع ما حدثني به، فقال: بارك الله فيك، تعال غداً إلى مجلسي. فإذا هو عمرو بن دينار المحدث المعروف. اسمع بعدها لـ نصر الهلالي يوم يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، إذ دخل علينا صبي صغير ذلك المجلس، فكأن أهل الحديث تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان مغضباً من أهل الحديث: كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم. ثم قال سفيان: يا نصر! -ويتكلم الآن عن نفسه سفيان وهو صغير- لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، أكمامي قصار، ذيلي بمقدار، نعلي كآذان الفار، أختلف إلى الزهري وعمرو بن دينار، وأمثالهم من علماء الأمصار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتيِ كالجوزة، ومُقلتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا لي: أوسعوا للشيخ الصغير. لو رأيتني يا نصر! حين ذاك لَمَا احتقرتَ ما رأيتَ. مَن يَجعَل الرَّحمنَ مَقصِدَ قَلبِهِ يَبقَى شَريفاً فِي الحَياةِ نَزِيهَا ويذكر الخطيب البغدادي رحمه الله عن علي بن عاص، قال: دفع إليَّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديث -هكذا تكون الولاية- فهجر الوطن والأهل، وضحى بماله ووقته وجهده، وحصل على أكثر مما طُلب منه، فصار يُحدث ويُسمع منه. وهذه أهديها لأولياء الأمور، وأقول لهم: إنْ كُنتَ تَرجُو أنْ تُصيبَ رَميَّةً فَاثقِفْ سِهَامَكَ قَبلَ أنْ تَرمِيهَا كَذاكَ الفَخرُ يَا هِمَمَ الرِّجَالِ تَعالَيْ فَانظُرِي كَيفَ التَّعَالِي

العبرة من القصص السالفة الذكر

العبرة من القصص السالفة الذكر يا طالب العلم! ويا داعية الإسلام! كن على جادتهم وإن أبطأ بك المسير، فإن قدوة القوم يرعى القافلة، أنت لا تملك نفسك، حتى يسوغ لك أن تمنحها إجازة. يا من أنت الآن في إجازة: إنما أنت وَقْف لله، فإذا لمع لك فجر الأجر، فليهُن ظلام التكليف. إذا ضاقت عليك قناة أو طريق، فشُق إلى البحر ألف طريق. إذا أغلق عليك باب دون البحر، فافتح لك ألف باب، ولن تعدم وسيلة. اعمل ولو ساعة، وللحقوق -ومنها التعلم- بقية الساعات، إذا بزغ لك نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، فأردفه بقمر العزيمة؛ لتُشرق الأرض بنور ربها. إنما أنت همة علية، ونفس تضيء، وهمة تتوقد. أنت لا تعيش لنفسك، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها، جِد تجد، ليس كمن سهر من رقد، هذا دبيب الليالي يُسارقك أنفاسك، وسلع المعالي غاليات الثمن، فانظر لنفسك، واغتنم وقتك، فالثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والخطر عظيم، والعقبة كئود، والناقد بصير. يا من قصد البحر بهمة! ائتِ الديار البكر، وارتد كل يوم منزل فضل، وخض ميدان التنافس، وائتِ بجديد، فإن قال لك البطالون الكُسالى: لو تفرغت لنا، فاقرع أسماعهم بصوت عمر بن عبد العزيز: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ، لا فراغ. والله لا مُستراح للمؤمن إلا تحت شجرة طوبى. أحبتي في الله: إن النفس الإنسانية لابد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر، ولم تتحرك للخير، بقى فيها فراغ وخواء، قد يردها إلى الفساد، فالعبد سائر لا واقف، فإذا سار فإما إلى فوق وإما إلى تحت، وإما إلى الإمام وإما إلى الوراء، ليس هناك وقوف ألبتة، إنما هي مراحل تُطوى إلى الجنة، مُسرع ومُبطئ، ومُتقدم ومتأخر: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] كُلُّ نَفسٍ سَوفَ تَلقَى فِعلَهَا وَيحَ نَفسٍ بِهَواهَا شُغِلَتْ والله! لا تتم حقيقة الإيمان في القلب حتى يتعرض القلب للمجاهدة في هذا الدين، بدءاً من كراهية الباطل، إلى السعي في الإصلاح، إلى نقل الناس من الغواية إلى الهدى. إنها باختصار: الدعوة إلى الله، التي تغير ماهية الشيء، فتجعل من الرجل غير الرجل، ومن القلب غير القلب، تجعل صاحبها كالنحلة؛ لا تأكل إلا طيباً، ولا تُخرج إلا طيباً، وإن وقفتْ على عود نخر لم تكسره، بل مثل النخلة؛ ما أخذت منها من شيء نفعك. ونتيقن ونجزم -أيها الأحبة- أن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال، والهمم المَنُوطة بالرجال عظام، و: عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزَائِمُ وَتَأتِي عَلى قَدرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ وَتَعظُمُ فِي عَينِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا وَتَصغُرُ فِي عَينِ العَظِيمِ العَظَائِمُ

المطلوب من المؤمن تجاه دينه

المطلوب من المؤمن تجاه دينه كأني بكم تقولون: ماذا يُراد منا؟ ونقول: يراد منكم الكثير.

الإنفاق في سبيل نشر الدين بالمستطاع

الإنفاق في سبيل نشر الدين بالمستطاع نريد من الأُسَر أن تحمل همَّ دِينها، أن تدخر من قوتها في كل شهر ثمناً لكتاب قيم يهدى لمن ينتفع به، ومبلغاً لمسلم محتاج، وشريطاً نافعاً للدعوة بالقول والعمل؛ لأننا نفترض في الأسر أنها صلحت؛ ونريدها مصلحة بناءة. نريد من طالب المدرسة أن يعمل بما علم، أن يدخر في الشهر ولو ريالاً واحداً يُسهم به في الدعوة إلى الله، نريد تمعُراً من الوجوه لانتهاك حدود الله، يعقبه تغيير أو إنكار. نريد من التاجر أن يدعو بماله؛ يقتطع مبلغاً شهرياً يجعله في مصالح المسلمين، يطبع كتاباً ينفع الله به المسلمين، ينظر معسراً، ينفس كرباً، يقضى ديناً، يطرد جوعاً. نريد من المربين والمربيات، من المعلمين والمعلمات، أن يقوموا بدورهم في غرس الإيمان في قلوب أبناء الأمة، فو الله! إنهم لمسئولون عن أبناء الأمة. نريد أقلاماً قوية بليغة، عندها المقدرة البيانية، والطلاوة الأدبية، وحلاوة التعبير الذي تنفذ الدعوة بها إلى عقول الناس وقلوبهم. نريد قلوباً تعرف الخشوع، ونريد عيوناً تعرف الدموع. مَن ذَا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكِي بِهَا أَرأَيتَ عَيناً لِلدُّموعِ تُعَارُ؟

التربية السليمة على منهاج السلف

التربية السليمة على منهاج السلف نريد تربية كتربية أبي بكر وعمر وصحبهم رضى الله عنهم، لا نريد أن تربَّي فراخ الصقور تربية بُغاث الطير، فهذا جور، ولا أن تربَّي الأسد تربية الخراف، فهذا ميل وظلم. نريد أن تميز بين الصحيح والزائف، فليس كل لين حريراً. نريد كل جهد مهما ضؤُل حجمه، وصغرت مساحته، وقلّ عدده، فعند الله لا يضيع مثقال ذرة.

ترك النواح والإقبال على العمل

ترك النواح والإقبال على العمل نريد مضاعفة الجهد وتكثيف العطاء، ونريد ترجمة الكلام إلى عمل. نريد أن نتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بين المسلمين، تعوق خطانا عن السير؛ ألا وهي كثرة النواح وقلة العمل. والنواح لا يحيي ما مات، ولا يرد ما فات. آفتنا كثرة الشاكين المتوجعين، وقلة المداوين، كثرة من يسبون الظلام، وقلة من يوقدون الشموع. نعم يا قاصد البحر: كثرت الشكوى من الأدواء والمآسي، ولعلك ترى ذلك وتلمسه، لم يعد هناك أحد إلا ويشكو، فمن المشكو منه إذن؟! كلنا شاكٍ ومشكو منه. ذكر صاحب أين الخلل ما نصه: حّدثوا أن واعظاً بليغاً وعظ الناس يوماً حتى بكوا من تأثير الموعظة، وكان معه كتاب، ثم بحث عن كتابه بعد الموعظة، فوجده قد سُرق، نظر إلى الحاضرين، عله أن يلمح بينهم وجهاً تلوح عليه آثار الجريمة، لكنه وجد الجميع متأثرين يبكون، فقال لهم: كلكم يبكي فعلاً فمن سرق الكتاب؟! نعم. كلنا نشكو، فمن المشكو منه؟! إن علينا أن ننتقل من دائرة الشكوى إلى دائرة العمل المتواصل الدءوب، العمل للحاضر والمستقبل، وإن لم نشكُ فلا نريد أن نكون من المتفرجين، وممن ينتظر العمل من الآخرين. بل يعمل الجميع، وكلٌ على قدر جهده وطاقته. وعوداً على بدء؛ للرجل دوره، وللمرأة دورها، وللصبي والكبير والغني والفقير دوره، المهم أن يعمل الجميع، وأن يضع كلٌ منا نفسه في المكان الملائم، من استطاع أن يُميط شوكة عن طريق فليُمطها، ومن أمكنه أن يبذر حبة في الأرض فليبذرها.

حمل الدعوة كل وفق تخصصه

حمل الدعوة كل وفق تخصصه نريد باختصار حمل هَمِّ الدعوة من كل واحد منا، أينما حلَّ وأينما رحل، كلٌّ وفق تخصصه، وينفق مما لديه: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا أتَاهَا} [الطلاق:7] إنْ كان عنده علم دعا به، مالٌ دعا به، ولا مبرر للقعود أبداً؛ فالمسئولية على الجميع مشتركة وتتفاوت؛ فمسئولية العالم أكبر من مسئولية الجاهل، ومسئولية صاحب السلطة أكبر من مسئولية من لا سلطة له، ومسئولية صاحب المال أكبر من مسئولية من لا مال له، وإن كان الكل مسئولاً. كل مسلم رجل يعمل لدينه، والأمة كلها مسئولة عن فرائض الله، وأحكام الله، وشرائع الله. ذُكر أن أحد المستمعين قال لأحد الدُعاة يوماً، بعد محاضرة ألقاها ذاك الداعية: قد مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون، فماذا صنعتم؟ وكان جواب الداعية مفاجئاً له حين قال: وأنتم مضى لكم ثلاثون سنة صامتون تستمعون، فماذا صنعتم؟! هذا حق. على المستمع كما على المتكلم مسئولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى وقائع، وإن اختلفت درجة المسئولية. المسلم مطالب بالعمل إلى آخر رمق، حتى لو قامت الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها إن أمكنه. فَلينطَلِقْ كُلُّ فَردٍ حَسْبَ طَاقَتِهِ يَدعُو إلَى اللهِ إخفَاءً وَإعلاناً ولْنَترُك الَّلومَ لا نَجعلْهُ عُدَّتَنَا وَلْنَجعَل الفِعلَ بَعدَ اليَوم مِيزَانَا نريد أن نكون كتلة كالمطر، لا يُدرَي أوله خير أم آخره؟ كتلة فيها الكفاية في كل ناحية، كتلة هي في غِنى عن العالم، وليس العالم في غِنى عنها، تملأ كل ثغر، وتسد كل عِوَز وعجز؛ فإنه -والله- لا عمل أبقى وأنفع للمسلم من عمل يقضيه في الدعوة إلى الله؛ بياناً باللسان، وجهاداً باليد، ونفقة من العلم والمال والوقت، وكل مسلم على ثغرة من ثغور الإسلام، وعليه أن يسدها أياً كان تخصصه ومستواه وموقعه؛ إن كان في الحراسة ففي الحراسة، وإن كان في الساقة ففي الساقة، همه أداء الواجب، والمشاركة، والقيام بالمسئولية وفق ما لديه من استطاعة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].

المضي في الدعوة والعمل وترك الالتفات إلى الخلف

المضي في الدعوة والعمل وترك الالتفات إلى الخلف يا قاصد البحر! لعلها فتحت لك آفاق، وشحنت همتك فحدد أهدافك، وسر وحلق مع الهمم العالية، وإياك والنظر إلى الخلف؛ لئلا تضعف فتؤكل، فالقلب كالطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما هبط احتوشته الآفات. وما المرء إلا حيث يجعل نفسه خذ من الأسباب ما يقوي همتك؛ من مجاهدة ودعاء صادق أن يعلي الله همتك، وقراءة لسير سلفك أهل الهمم، ومصاحبة لأهل الهمم، والأهم فالمهم فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل: إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون فكن رجل رجله في الثرى وهامة همته في الثريا واقصد البحر بإخلاص وصواب وهمة وخل القنوات! فتى الإسلام: يا من قصد البحر بإخلاص وصواب وهمة! اعلم أن سنة الله التي لا تتبدل، ألا ينال ما يرجى ويؤمل إلا بثمن، ليس هناك شيء بالمجان، وكلما كانت السلعة نفيسة كان الثمن أنفس وأغلى، وهذا ما أدركه القائل يوم قال: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب قلما تجد ثمرة إلا ومعها زنبور، ولا لذة إلا وإلى جانبها شيء محذور، ولن يظهر أحد بمطالبه شفعاً، مهما كد وسعى، بل مرعى بلا ماء، وماء بلا مرعى، ونحلة مع الشهد، وشوكة مع الورد: أرض بها عشب زاك وليس بها ماء وأخرى بها ماء بلا عشب كيف ينال الفضل والجسم خامل وادع؟! وكيف يؤتى المجد والوفر وافر؟! أي مطلوب نيل من غير مشقة؟! أي مرغوب لم تبعد على طالبه الشقة؟! المال لا يحصل إلا بالتعب، والعلم لا يدرك إلا بالنصب، واسم الجواد لا يناله بخيل، ولقب الشجاع لا يحصل إلا بنزل طويل لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، سلعة الله أغلى وأعلى، سلعة الله الجنة. قد يكون الثمن جهداً ووقتاً، وقد يكون مالاً وامتحاناً، وقد يكون دماً مراقاً وبلاءً. لا ضير مادامت السلعة تستحق فإن المر حين يسر حلو وإن الحلو حين يضر مر فخذ مراً تصادف منه نفعاً ولا تعجل إلى حلو يضر ادفع الثمن وسابق، واقصد البحر وخل القنوات!

اقصد طريق اليمن وخل طريق الشام

اقصد طريق اليمن وخل طريق الشام فتى الإسلام: يا من قصد البحر بإخلاص وصواب، وهمة وعلم الثمن! اطلب الثبات وسل الله الثبات؛ فإن الثبات عزيز. إذا عشقت طريق اليمن فلا تتجه إلى الشام وأعني باليمن اليمين وبالشام الشمال، وليكن لسان حالك ومقالك: لا أحب السير إلا مصاعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا

الثبات على الدين

الثبات على الدين الطريق واضح، والمبادئ بينة، وأحسب أنك مستيقن بالحق الذي عندك لا تشك فيه أبداً، تكره أن تعود في الكفر كما تكره أن تلقى في النار، ترتضي أن تجود بالروح، وأن تحرق بالنار، وتنشر بالمنشار، أو تقطع بالسيوف على أن تترك ذاك الطريق أليس كذلك؟ أحسب أن A بلي. لماذا؟ لأني أحسبك مطمئناً لمبدئك اطمئناناً يثمر الانتفاع بطريق في اليمن بعمل دءوب متواصل إلى نهاية الأجل، غير آبهٍ ولا ملتفت إلى طريق الشام، وأحسب أنه لم تكثر الأشياء الكثيرة بنفسك يوماً ما؛ لأنها نفس مطمئنة، في حين تعلم وترى بأم عينك نفوساً اضطربت بأطماعها وشهواتها، فباعت بعرضٍ دينها؛ لأنها مبتلاة بهموم كثرة خيالية؛ مثلها في الهمم كطفيلي يحزن لأنه لا يأكل في بطنين، أما أنت فأحسب أنك ربيت نفسك على أن تعطي في هذه الدنيا ولا تأخذ شيئاً، قد علقت نفسك بالآخرة حيث الأجر والثواب، فقمت لله فلم يقم لك شيء، لو كادتك السماوات والأرض والجبال لكفاك الله، وجعل لك منها فرجاً ومخرجاً.

الإمام أحمد ومحنة خلق القرآن

الإمام أحمد ومحنة خلق القرآن ألم يأتك نبأ الإمام أحمد رحمه الله يوم امتحن على القول بخلق القرآن، فثبت على الحق ثبوت الجبال، حتى أنه كان إذا أريد على ذلك تدور حماليق عينيه كالمجنون. يؤتى بالسياط للمعتصم وبجلادين غلاظ القلوب قساة الأفئدة، ليأمر كل واحد منهم أن يتقدم ليضرب الإمام بكل ما لديه من قوة سوطين وكفى، والمعتصم يقول للضارب: شد قطع الله يدك. ثم يقول المعتصم: يا أحمد! علام تقتل نفسك، إني والله عليك لشفيق. ويقول آخر: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم. ويقول بعض بطانته الخبيثة -التي هي أخبث من بطانة فرعون- يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي. فيقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟ فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به؛ ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، فيغضب ثم يقول للجلاد: تقدم، أوجعه قطع الله يدك. فيضرب الإمام والمعتصم يقول: أجبني ويحك إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به. فيأمر الجميع بضربه ويقول: شدوا قطع الله أيديكم، حتى ذهب عقل الإمام، وأغمى عليه؛ داسوه بالأقدام، كبوه على وجهه، طرحوه على ظهره، ثم يفيق ودماؤه تسيل؛ خلعت أكتافه وهو ثابت كالطود الأشم. هنا ينتقلون إلى أسلوب المناظرة فيتقدم أحدهم يناظر ويقول: أولست تحسن كتاب الله يا أحمد! إن الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] أي: نخلقها مهاداً ويقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] أي: خلقناه قرآناً عربياً، فقال الإمام أحمد في هدوء المؤمن؛ والله تعالى يقول: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أهي: بمعنى خلقهم كعصف مأكول؟ فألجم وسكت. وتقدم آخر فقال: الله يقول {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] أو ليس القرآن شيئاً، فقال الإمام والله يقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فهل دمرت كل شيء أم دمرت ما أراد ربها؟ فبهت وسكت؛ ولا غرو: من ذا يساوي بين تغريد البلابل والنعيق. يقول أحدهم مغضباً: وأنت لا تقول إلا كتاب سنة كتاب سنة، فكان حال الإمام ينطق: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]. لسنا وإن عزبت أحلامنا وخوت منا الرءوس بقول الزور ننبهر وثبت الإمام أحمد عليه رحمة الله، ونصر الله به السنة، وكان بحق إمام هذه الأمة في علمه وثباته وتواضعه؛ يقول أحدهم له: جزاك الله خيراً عن الإسلام يا إمام، فيقول: بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ من أنا وما أنا؟ رحمه الله من قدوة ماثلة إلى الآن. قاد الهوى الفجار فانقادوا له وأبت عليه مقادة الأبرار وبالعهد نفسه يراد أبو يعقوب البويطي على القول بخلق القرآن، فيمتنع، فيحبس في بغداد حتى مات في الحبس، يقول قبل موته: والذي لا إله إلا هو! لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] ومن لاذ بالله في دربه كفاه المهيمن من كل شر سيد رحمه الله يحكم عليه بالإعدام وتأتي أخته فتقول: اعتذر لعله يخفف عنك. قال: أأعتذر عن العمل مع الله؟ والله! لو كان التعامل مع غير الله لاعتذرت ولكنه مع الله حاله: إن بقي شيء في الأجل فلن يقدم؛ وإن لم يبق شيء فلن يؤخر. إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا أخي سالك طريق اليمن: ربِّ نفسك، وليزمجر بحرك: الله غايتنا وهل من غاية أسمى وأغلى من رضا الرحمن أعدها للبيع على الله عز وجل؛ فإنه يوشك من أهمل نفسه أن ينهزم قلبه، وتخونه نفسه عند أول اختبار وبادرة هزة، فيتراءى لك أنه حي يرزق، ولكنه في الحقيقة ميت. غمد محلى بلا سيف، وجدول غير ثابت. إن طريق العقيدة الصحيحة والدعوة إليها طريق الأنبياء؛ شاق تتقاصر دونه الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، وتجزع دونه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية: طريق الحق محفوف بشوك ومحتاج إلى طول المراس إن العقيدة -والله- لا تحتاجنا، بيد أنا نحتاجها لنتذوق طعم الحياة بها، فاسلك طريق الإيمان وتدبر القرآن، وتعرف في الرخاء على الرحمن، واستيقن أن الرزق مضمون والأجل محدود، وقف على أخبار من ثبت؛ تطمئن وتسكن؛ فإذا حصل اطمئنانك إلى أن ما تفعله حق وأنه لله واستعنت بالله؛ فليكن حداؤك ودعاؤك: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. ثم اسلك طريق اليمن قاصداً البحر، ولا تلتفت لطريق الشام وخل القنوات!

تميز الداعية في حياته

تميز الداعية في حياته فتى الإسلام: بل يا قاصد البحر! التميز التميز؛ إذ هو في حياتك عمدة، وضرورة خاصة في عصور طغيان الحياة المادية على الحياة. تميز المسلم يتمثل في تمسكه وقبضه على دينه عقيدة وعبادة وسلوكاً؛ بمعنى: ألا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد، وضغط الواقع، ومسايرة المجتمع كما يقال. نعم. إنه ليعرف بإصراره على دينه والغيرة على محارم الله أن تنتهك، وأي دين وأي خير وأي تميز لمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس ما بلية الدين إلا من هؤلاء، الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ومشاربهم؛ فلا مبالاة بما يجري على الدين، لقد بلوا بأعظم بلية؛ ألا وهي موت القلب وهم لا يشعرون عافانا الله وإياكم. يتميز المسلم بصحة معتقده عند مسائل الاعتقاد، بالتزام السنة عند نشوب البدعة، بصدق الإيمان عند نشوب النفاق، بعبادته إذا الناس يلهون، بأخلاقه إذا أهدرت القيم، بالصدق في المعاملة إذا فشا الغش، بصمته إذا كثر الخلط، بمحاسبته نفسه إذا أهملها الغير، بدعوته بجهاده إذا أقبلت الدنيا على أهلها فغرقوا في لجتها، بالإنصاف حتى مع الشنآن. لا يخجل من انتمائه لدينه، لا يخجل من منهاجه وشريعته، لا يخجل من أن يتحدث بلغته؛ لغة القرآن، ولا يخجل من لباسه الذي يخالف به الكفار. التميز ضرورة للسائرين على الدرب ليقدم منهجه للعالمين عملياً قوياً. يذكر أبو الحسن الندوي حفظه الله ورحمه؛ أنه وقع نزاع بين الهندوك والمسلمين في قرية من الهند على أرض؛ يقول الهندوك: إنها معبد لهم، ويقول المسلمون: إنها لهم مسجد، وتحاكموا إلى الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت، فسمع حجة الفريقين، وتحاجوا، ولم يطمئن إلى نتيجة معينة في محاكمته، فسأل الهندوك: هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته لأحكم على رأيه؟ قالوا: نعم. فلان. وسموا شيخاً من صالحي المسلمين وعلمائهم، فهو تميز حتى بين الكافرين، فأرسل الحاكم في طلبه إلى المحكمة، فقال: قد حلفت ألا أرى وجه إفرنجي ما حييت، فأخبروا الحاكم بمقالة العالم، فقال: لا بأس! يحضر ويدلي برأيه في القضية ولا يلزم أن يراني، فحضر الشيخ متميزاً قد ولى دبره إلى الحاكم وقال: الحق في هذه القضية مع الهندوك، والأرض أرضهم ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، فقضى الحاكم بذلك، وخسر المسلمون القضية، ولربما غضب بعضهم ولكنهم كسبوا قلوب أولئك فأسلم منهم جمع. أرأيت كيف يكون التميز؟ إن العلم عارية ووديعة من الله لا تباع كسلعة في السوق، لا يتعاون به على إثم آثم أو عدوان معتد أو ظلم ظالم. فيا طلاب العلم: ميزوا الأنفس عن رق الهوى وإلى الإسلام سيروا تبعا

توجيهات تعين الداعية على التميز

توجيهات تعين الداعية على التميز ومن كمال التميز -يا قاصد البحر- أن تضع في حسابك أموراً وأنت تخالط الناس وتشاهدهم، وتأكل وتشرب معهم، وتزور وتزار: أن تحرص على أن تظهر بمظهر الدقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين. أنت قدوة ينظر إليه: أكثر من الاغتسال أيام الحر. لا تكثر من التنخم والتمخط بصوت عال. لا تظهر التجشؤ كما يفعل البعض. لا تأكل ثوماً، ولا تصنع لضيفك طعاماً فيه ثوم؛ فإن ذلك من التميز، ولا تتكلف كثيراً لضيفك لئلا تحرجه، وإن كنت ضيفاً على أحد فكل أكلك المعتاد؛ لأن صاحب المائدة الكريم يحب أن يأكل الضيف ويكثر في الزيارة. لا تزر وقت قيلولة أو راحة أو منتصف ليل، واستأذن قبلها بالهاتف إن أمكن، واطرق الباب برفق ثلاثاً وإلا فارجع هو أزكى لك، وقف إلى جانب الباب لا أمامه إذ ربما تفتح امرأة. ثم لا تطل وقت الزيارة فالوقت أنفاس لا تعود. لا تصافح أخاك بيد مرتخية ولا بأخرى حديدية، وكن وسطاً؛ لا تناد أخاك بمزمار السيارة كما يفعل الطائشون. في الهاتف: لا تطل الكلام ولا ترفع صوتك، واذكر اسمك لمن تكلمه مباشرة. إن خدمك خادم أو عمل لك عامل فأجزل له الأجرة ولا تماطله. في الكلام: لا تسابق وأنصت حتى يبرأ مخاطبك. في التعزية: لا تبادر إلى تعزية مسافر فلعله لا يعلم ما حدث. واحذر ثم احذر مما يوجب الخجل. وإياك وما يعتذر منه ويسلب المروءة؛ فإن الشافعي قد طبق هذا المعنى فقال: والله! لو علمت أن الماء البارد يسلب مروءتي ما شربته إلا حاراً. تميز عام حتى في اللعب، حتى في الرائحة، في كل الأمور؛ فإن العِرْف يُعرف بغصنه والقول يعرف بلحنه، والصبح لا يتمارى بإسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على إشراق أنواره: وما كل من قال القريض بشاعر وما كل من عاش الهوى بمتيم فاقصد البحر تميَّز وخل القنوات!

الاتزان والعدل في كل الأمور

الاتزان والعدل في كل الأمور يا فتى الإسلام! اقصد البحر معتدلاً متزناً في حبك وبغضك وولائك وعدواتك، واحمل معك ميزان السنة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوم يقول في فتاواه: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ومن العداوة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة. ثم أتبع ذلك بقول الخطيب البغدادي: فليس من شريف ولا عالم غير الأنبياء إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. ولذا نقل ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام قوله: انظر لموسى صلوات الله وسلامه عليه: رمى الألواح التي فيها كلام الله فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون عليه السلام، ولطم أعين ملك الموت ففقأها، وربه تعالى يحتمل له كل ذلك ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تعالى تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له فرعون، وصدع بأمر الله، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتان كهذه الأمم معالجتها شديدة أليمة، يعبدون بقرة ثم يتوقفون في ذبح بقرة، ثم يعبرون البحر فيقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فكانت هذه الأمور كلها كالشعرة في البحر. لا غرو. إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية. فيا قاصد البحر: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً؛ فإن من الناس من إذا أحب كلف كما يكلف الصبي فلا يستغني عن محبوبه طرفة عين، وإذا أبغض أحب لصاحبه التلف. إن الذي لا عيب فيه غير الأنبياء لم يخلق بعد، والكمال لصاحب الكمال. وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه فاربأ بنفسك وأنا أربأ بك أن تكون ممن تستفزه كلمة فينسى معها قاموس التآخي، ويجرد أصحابه من كل فضل كأن لم تكن بينه وبينهم مودة: ولقد رأيت معاشراً جمحت بهم تلك الطبيعة نحو كل زيار تهوى نفوسهم أذى إخوانهم شغلاً بكل دناءة وصغار تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى منه الهوان بأهله فحذار فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عار صحح الأخطاء، واعدل، ولا تمس المشاعر، وامدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب؛ ولا خير في المبالغة في شيء. واقصد البحر بعدل واتزن وخلِّ القنوات. عرِّف نفسك قدرها، وانهج بها نهج بكر بن عبد الله يوم يقول: إن رأيت من هو أكبر مني سناً قلت: سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن رأيت من هو أصغر مني فأقول: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإن أكرمني إخوتي قلت: تفضلوا علي فجزاهم ربي خيراً، وإن أهانني إخوتي قلت: ذاك لذنب أصبته، وعهد بيني وبين الله ضيعته، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه. فاقصد البحر وقَدْر النفس فاعرف وخلِّ القنوات!

الرفق في التعامل

الرفق في التعامل فتى الإسلام: خذهم بالرُقى إن المَهَارى يهيِّجها على السير الحُداء لين القول أدعى للقبول، بالتي هي أحسن، بالموعظة الحسنة، وقولوا للناس حُسناً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] {فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} {وإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله} {ومن يُحرم الرفق يحرم الخير كله} لا مُداهنة ولا نفاق، بل نصح في أسلوب دمث مؤثر، يفتح القلوب، ويشرح الصدور. في الحديث الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى حنين بعث إلى صفوان بن أمية -وهو كافر- يطلب منه أن يعيره مائة درع، وما يُصلحها من عدتها وعتادها، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا. بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، فأعار النبي صلى الله عليه وسلم الدروع، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملها إلى حنين فحملها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم غانماً من حنين، وقد تلفت بعض الدروع في الحرب، قال لـ صفوان: إن شئت غرمتها لك يا صفوان! فقال صفوان: لا. وجعل ينظر إلى شعب مليء بنعم وشاة ورعاء، ويديم النظر إلى ذلك النعم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أبا وهب! أيعجبك هذا؟ قال: نعم. قال: فهو لك. فقال صفوان: مه، والله ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا لله، وأنك رسول الله، ودخل في دين الله}. خذهم بالرقى إن المهارى يهيجها على السير الحُداء. وثبت في مستدرك الحاكم أن زيد بن سعنة؛ أحد أحبار اليهود اشترى تمراً معلوماً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أجل معلوم، وقبل الموعد بأيام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرغ من صلاة الجنازة على أحد المسلمين، ودنا إلى جدار ليجلس متعباً صلى الله عليه وسلم، فيتقدم زيد فيأخذ بمجامع قميصه وردائه، وينظر إليه بوجه غليظ متجهم، ويقول: يا محمد! ألا تقضني حقي؟ والله! إنكم لمطل يا بني عبد المطلب. عند ذلك نظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه من الغضب، ثم قال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله ما أسمع، وتصنع ما أرى؟! والذي بعثه بالحق، لولا ما أُحاذر من لومه لضربت بسيفي هذا رأسك. فيرتعد ويخاف ويضطرب إذ الكلام من عمر، وما أدراك ما عمر؟! وينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى عمر صلى الله عليه وسلم ويبتسم في سكون وتؤدة، ثم يقول: {يا عمر! أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر! فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً جزاء ما روعته}. انطلق عمر وأعطى الرجل حقه، وزاده عشرين صاعاً. فقال زيد: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك جزاء ما روعتك، فتلألئ وجه زيد بالبشر، قال: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا. قال: أنا زيد؛ حبر اليهود، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه رسول الله إلا علامتين؛ أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد عرفتهما الآن، فأشهدك -يا عمر - أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأشهدك يا عمر فوق ذلك أن شطر مالي صدقه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. يا لله! شدة وعنف تقابل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلم عظيم تجعل ذلك ينضم لهذا الدين، ويبذل له نصف ماله في أول لحظات إسلامه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. فيا قاصد البحر! ويا أيها الداعي إلى الله! تذكر أن الكلمة القاسية الجافة؛ لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي نفس المعنى بلا أذى، وفي المثل: إنَّ نقطة العسل تصيد من الذباب ما لا يصيده برميل علقم فبالعوراء لا تنطق ولكن بما يرضى الإله من الكلام يمر أحد الصالحين بقرية يدعوهم فيها إلى الهدى، فيسبونه ويشتمونه، فيدعو لهم بالصلاح والهداية، فقال أصحابه: تدعو لهم وهم يريدون بك شراً، وترد عليهم خيراً؟! قال في سُمُو خلق، ورقة نفس، وسعة صدر: كلٌ ينفق مما عنده. إن كريم الأصلَ كالغصنِ كُلما ازداد من خيرٍ تواضعَ وانحنى فخذهم بالرقى إن المهارى يهيجها على السير الحداء فاقصد البحر برفق وخل القنوات!

الشعور بالمسئولية

الشعور بالمسئولية أخيراً: يا من قصد البحر! بسبب وصحبة إخلاص وصدق وصواب، وهمة مقرونة بها، يعقبه عمل، وقد نقد الثمن بثبات وتميز واتزان، اعلم أنك مسئول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] فليتق الله قاصد البحر في كل كلمة يقولها، وكل حركة أو سكون؛ فإن الله سائله. ذُكر عن بعض العلماء رحمهم الله أنه ولي القضاء، فحكم على رجل فاجر سفيه طائش فقال له: والله! ما أردت بحكمك هذا وجه الله، ولقد ظلمتني. فقال العالم: أو تقول ذاك؟ قال: نعم. وأقسم عليه. قال العالم -واسمعوا لما قال- قال: والذي لا إله إلا هو! ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل! فيا قاصد البحر: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به} فماذا عسى يكون الجواب؟ أعدَّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، واقصد البحر بإعداد وخل القنوات. أخي قاصد البحر: -ولعل الكل قاصد- بقي أمور لابد لي من سردها نظراً للضيق. أعط كل ذي حق حقه، وقدم فاضل الأعمال على مفضولها، واعرف خير الخيرين لتتبع، وشر الشرين، ومع الدليل تدور ولا تغتر بالكثرة، والبر البر تفلح، والقصد تبلغ، ولا تكن خباً ولا الخب يخدعك: وابذل الخير تجني كل صلاح يبتذل الخير إذ تطيب البذور واعلم أن الكلام في الموضوع يطول، وما قلته سوى وميض حداء على الطريق، اكتفيت فيه من القلادة بما أحاط بالعنق، عجزاً في ضيق وقت، فما وجدت من صواب وحق فاقبله وما وجدت من خطأ فاعلم أني لم آلوا جهداً في الصواب، ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال، والنقص في أصل الطبيعة كامن، وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؛ لكن: إن تجد عيباً فسد الخللا جل من لا عيب فيه وعلا واقصد البحر وخل القنوات! أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً. اللهم كن لنا، وامكر لنا، وانصرنا وأعنا، واهدنا واهد بنا، ويسِّر الهدى لنا. اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين. اللهم اجبر كسرهم، وتولَّ أمرهم، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء. اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأمر بالمعروف

الأمر بالمعروف إن من أهم خصائص الأمة الإسلامية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام بها أصبحت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وبسبب تركها لعنت أمم، وطردت من رحمة الله. فالواجب على المسلم أن يقوم بها في كل وقت ومكان، كل بحسب حاله ومكانه، والأمر بالمعروف له شروط وضوابط ووسائل يجب أن ينضبط بها.

ضرورة الانقياد للكتاب والسنة

ضرورة الانقياد للكتاب والسنة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تعين ونار الشر تستعر متى الفواق وقد ضمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمت بنا العبر متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر أكل يوم يرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر عباد الله: ونحن نعيش زمناً عصيباً، ووقتاً دقيقاً وحرجاً، يتعلق بمصير أمتنا، أقول: إن النجاة في انقيادنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كتب الله لهذه الأمة حين تحيد عن كتاب الله أن تتقلب في ثنايا الإهانات، وتتنقل من هزيمة إلى هزيمة. فلنرفع الغطاء عن أعيننا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا، كفانا نكبات، وكفانا كوارث، وكفانا نكسات، وكفانا تلمس النصر في ثنايا البشر من دون الله، كفانا كوننا عن كتاب الله بعيدين، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حائدين، ولنعُد إلى الحق المبين، فاسمعوا إليه يوم يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ألا فاتقوا الله حق تقواه يا عباد الله! واعلموا أن من أسباب النجاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أسباب السقوط والهلاك: السكوت عن المنكرات، قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165].

الأمر بالمعروف من خصائص هذه الأمة

الأمر بالمعروف من خصائص هذه الأمة ألا فاعلموا أن من أعظم خصائص أمتنا أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن علماءها يغضبون إذا انتُهكت محارم الله، ودعاتها يشتاطون غيظاً وغضباً لانتهاك حدود الله، فهي المأمورة بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. ألا فلتكن طائفة تقف على حدود الله؛ ترعى المجتمع، تنظر لأحوال الأمة لا تسمح للجريمة، غَضِبَ مَنْ غضب ورَضِيَ مَنْ رضي، ليكن منكم علماء ودعاة يقفون أمام الشرور والمنكرات، يؤدون رسالة الله؛ ليرحمنا الله عز وجل: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]. يوم يترك الأمر بالمعروف، فلنعلم أننا نحارب الله، ولنعلم أن غضب الله قد طوَّقنا، وأن سخط الله قد قرب منا. فإن تمادَتْ بنا الأهواء والخور فهي العقوبة لا تُبقي ولا تذر ما نتيجة أن يقر الناس على الجريمة، ويسكت على الفاحشة، ويقدم العاصي، ويؤخر المؤمن المرضي الراضي؟ ما نتيجة ترك الصلوات؟ وتعاطي المخدرات؟ والركون إلى الذين ظلموا وسماع الأغاني الماجنات، والجري وراء الشهوات، والمجاهرة بكل هذه المنكرات؟ ما نتيجة الرضا بكل هذه المنكرات، وما نتيجة السكوت على هذه المنكرات؟ إن نتيجة ذلك ومعناه سوف تختل الأمور، ويغضب الله وملائكته، معناه: أن البركة نزعت؛ لأننا سمعنا ورأينا وسكتنا، فما حرَّكنا ساكناً، وإلا لماذا كنا خير أمة أخرجت للناس؟ كنا كذلك بالأمر والنهي؛ نأمر بالمعروف بالمعروف، وننهى عن المنكر بالمعروف، وإلا فإن العذاب والسوء ينتظرنا.

عاقبة التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عاقبة التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأثر: أن الله جل وعلا أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة سبأ على من فيها -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، وله ستمائة جناح، بجناح واحد حمل أربع قرى- فرفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل عاليهم سافلهم، أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها، فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلاناً، لم يعصِك طرفة عين، قال الله: فبه فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط. لا إله إلا الله! يصلي ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] لم لعنوا؟ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم والمنكرات، وعدم تشخيصها وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة، وذهبت إلى الدمار، والعار، والنار: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. الزنا ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والضغينة والمنكرات فاحت رائحتها، وعلماء بني إسرائيل ساكتون، صامتون، ملجمون، لماذا سكتوا؟ رغبةً أم رهبةً، والسكوت دائماً إما رغبة وإما رهبة؛ إما رغبة في حطام فانٍ أو منازل ومناصب، أو وظائف لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما رهبة من سوط وقسوة بعض الظلمة، فسكتوا، فماذا كان الجزاء؟ قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قال أهل العلم: كان في الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي: {إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله، وعمَّهم بعقاب وغضب من عنده، وكان صلى الله عليه وسلم متكئًا فتربع، وجلس، وقال: كلا والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم}. لا إله إلا الله! نعوذ بالله من لعنة الله، وغضب الله: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم}، {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم}. أترضون أن يعم الشر؛ فيُؤخَذ الصالح والطالح، وأن تنزل لعنة الله، وإذا تنزلت لا ترفع؟! أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟! أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أما اتكلنا على غير الله؟ أما عمت الشعوذة والخرافة في بعض القرى والبوادي؟ أما انتشر الفحش؟ أما استبدل القرآن في بيوت كثير من الناس بالأغنية؟ أما عوض في متاع القرآن باللهو والمجون؟ أما ضيعت الصلوات- إلا في بيوت من رحم الله-؟ أما تُهُوِّنَ بالجماعات؟ أما انتشر الربا وسُكت عليه؟ أما قطعت الأرحام؟ أما أُعلن الإلحاد؟ أما سُبَّ الإله؟ أما سُبَّ محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما قُتِّل المسلمون؟ أما أُحييت الليالي الماجنات من المغنين والمغنيات على (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، (ارفع ستار الخجل)، وغيرها من الترهات والخزعبلات؟ أما أُخذ الميراث؟ أما عُقَّ الوالدان؟ ولم يؤخذ على أيدي هؤلاء والدعاة مئات ومئات، والعلماء كذلك، والجامعات والمعاهد والمدارس تخرج؟

مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيا طلبة العلم! ويا أيها العلماء! ويا دعاة الإسلام! هذا وقت الأمر والنهي، من يأمر وينهى إن لم تأمروا وتنهوا؟ إنا لا ندعو لمضاربة الناس، ولا لشتمهم، ولا لجرح شعورهم، ولا للتشهير بهم، حاشا وكلا، لكن ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، ندعو إلى إنقاذ الناس من النار؛ ندعو إلى أخذ الناس لمركب النجاة، ندعو إلى الأخذ بحبل الله؛ بكلمة الحق في أي مكان، بالنصيحة في الشارع، بالقدوة الحسنة، بالزيارات. يقول محمد صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}، وفي رواية: {وليس بعد ذلك مثقال حبة خردل من إيمان}، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، فمنا من وفى بذلك؛ فأجره على الله]]. ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله {من أرضى الناس بسخط الله: سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس: رضي الله عليه وأرضى عليه الناس}، والله إذا علم منك أنك تريد إرضاءه، أرضى عنك الناس، وحماك وسددك وكفاك وآواك. ألا فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة. صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل القائم في حدود الله- أي: الذي يأمر وينهى- والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان قوم أعلاها، وقوم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على الذين في أعلاها، فظنوا أنهم آذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في الجانب السفلي لما آذينا الذين فوقنا} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فإذا تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً} وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم، ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال، والشباب تائهين، ضائعين، حائرين، ثم لا يقول هذا هو الطريق؛ ليبقى وديعاً، هادئ البال، مطمئناً مرتاحاً. من كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرى الجرائم ولا يتكلم بكلمة، أما -والله- لو أن أحدنا أمر بأمر بسيط، أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن لصلح حالنا.

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ننتظر أن يصلح حالنا إذا ما أصلحنا؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] لكن يشترط في من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط: أولها: أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خالصاً لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثراً ولا فائدة ولا نفعاً، وأن يكون ذا علم، وذا بصيرة وحكمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وأن يكون عاملاً بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه! لن تقبل دعوته. لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكراً بمنكر ما فعل شيئاً، بل أعان الشيطان على أخيه. إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثراً لدعوته، يقول الإمام الشافعي -وهو يعلن مبدأ عظيماً من مبادئ الدعوة إلى الله-: تعمدني بنُصحكَ في انفراد وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعَه فإن خالفتني وعصيتَ أمري فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة

صور من معاناة السلف الصالح في الأمر والنهي

صور من معاناة السلف الصالح في الأمر والنهي ألا يا عباد الله: مروا بالمعروف ولا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير في من لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق محمد صلى الله عليه وسلم أوذي فيه، ووضع سلا الجزور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف وما استكان وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده قدوة فيه صلى الله عليه وسلم.

الأوزاعي مع عبد الله بن علي

الأوزاعي مع عبد الله بن علي هاهو عبد الله بن علي الحاكم العباسي عم أبي جعفر المنصور يوم دخل دمشق محتلاً؛ دخلها في يوم واحد فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات؛ كان من جبابرة الدنيا، حتى إنه أدخل الخيول في مسجد بني أمية. ثم دخل قصره وقال: من يعارضني فيما فعلت؟ قالوا: لا يعارضك أحد. قال: أترون أحداً من الناس يمكن أن ينكر عليَّ. قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا الأوزاعي -عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد المحدث الكبير- قال: عليَّ بـ الأوزاعي. فلما نُوِدي الأوزاعي؛ علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوباً ما بعده رسوب؛ علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، فقالوا: للأوزاعى إن عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، والدماء لا زالت تجري على أرض دمشق لم تجف. فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟ لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل. وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي به فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رءوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي. فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي، غضب هذا الأمير غضباً حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي، وقال الأوزاعي في هذه اللحظة: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، والله ما دخلت قصره إلا وقد بعت نفسي من الله عز وجل. قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه. فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟ قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عرياناً كما خلقك؛ فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب. قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم، قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج، قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزة وكرامة. ولما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي -ذلك الجبار- إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، ووالله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزاً. لم خافه. لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فَخَّوف الله منه كل شيء.

أبو مسلم الخولاني مع الأسود العنسي

أبو مسلم الخولاني مع الأسود العنسي وهاهو الأسود العنسي -طاغية اليمن - الكافر الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، وأخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، وحاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت -نار هائلة تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار- ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار ولظاها وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل. كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بـ أبي مسلم يخرج من طرفها الأخر ماشياً على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر ويتبسم وينظر إلى الناس. ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم وتوعدهم؛ ليصدهم عن سبيل الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فاراً بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة -في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ودخل المسجد، وصلى ركعتين. وسمع به عمر -رضي الله عنه- فجاء يغذ السير إليه، فلما رآه قال: [[أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم. قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليماً؟ قال: نعم. فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل إبراهيم الخليل عليه السلام]]. ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجاً ومخرجاً. فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصما فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ

أحد الصالحين مع ابن مقلة

أحد الصالحين مع ابن مقلة وهاهو أحد الصالحين ذكر أهل السير أنه دخل على ابن مقلة -وزير مجرم عباسي- سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك. ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مرت عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان: ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا حياتي بانت يميني فبِيني يبكي ويكتب على الحيطان: إذا ما مات بعضك فابكِ بعضاً فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ

ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره

ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر الجوع، والدمار، والحرب، والخوف، والجفاف، والغضب، والمقت، واللعنة.

هوان أهل جزيرة قبرص

هوان أهل جزيرة قبرص هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض؛ فبكى كثيراً، قيل له: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: [[ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة قاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون]]. ولا نذهب بعيداً بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف ونهي عن منكر بقوة وأخذ على يد الظالم، وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طرداً وإبعاداً من رحمة الله جل وعلا، أقول هذا إعذاراً بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيراً من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

مسخ الله لأصحاب السبت

مسخ الله لأصحاب السبت الحمد لله رب العالمين جعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال الله تعالى مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163 - 166]، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111]. هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلاً، فانقسم الناس حيال أمر الله عز وجل إلى أقسام، وهم في كل زمان بهذه الأقسام: قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهاراً إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد. أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم. وقسم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يسمع لهذا القسم. وقسم آخر: قال اتركوهم، لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم. فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله عز وجل يوم يجمع الأولين والآخرين؛ علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم. بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- بجعل سور بينهم وبين الفجرة الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة. أما القسم الآخر فسكتوا ولم يمكروا، لكنهم رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل. ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير. ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، الذين يقولون في كل زمان: إن الدعوة تطرف وتزمُّت، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم ما احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل ولا يظلم ربك أحداً. أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. إن من يسكت ويقول: نفسي نفسي، سيأخذه الله مع الطالحين: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102]. تداعت علينا الأمم، ونحن كثرة كاثرة، لكن غثاء كغثاء السيل، أيقاظ نيام في الغالب، نؤمر فلا نأتمر، ونُنهى فلا ننتهي-إلا من رحم الله وقليل ما هم- والحوادث شاهدة: حلت بنا الأحداث، وطوقنا الأعداء، وخوفنا الله، فما زادنا ذلك إلا طغياناً كبيراً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57]. أَأُخيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر

التحذير من الإصرار على المعاصي

التحذير من الإصرار على المعاصي قلنا: لعل الحوادث توقظ قلوبنا فنعود إلى الله نأمر وننهى، ونتوب ونعود، ونغير ونبدل، فما حصل شيء من ذلك -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- أسألكم بالله: هل كان الذين يتخلفون عن الجماعة عادوا لحضور الجماعات أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم: هل الذين كانت بيوتهم تعج بالمنكرات، والمغريات، والملهيات، هل خرج شيء من هذه المنكرات في أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم عن الذين يصبح أولادهم على الرسوم المتحركة، ويمسون على الأغنية والفيلم، والمسلسل الرخيص، والتمثيلية التي تدعو إلى الرذيلة، هل غيَّر واحد من برنامجه أثناء هذه الحوادث. أسألكم عن المختلطين -والذين أصبح الاختلاط ديدناً لهم في كل مناسبة- هل تركوا الاختلاط أثناء هذه الحوادث؟ هل اعتبروا؟ هل تفكروا؟ أسألكم عن أسواقنا، وعن المتبرجات، والمنكرات فيها، هل غُيَّر فيها شيء أثناء هذه الحوادث؟ هل نزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى تلك الأسواق؟ أسألكم: هل مسلم لا زال فيه بعض الإسلام حركته هذه الحوادث، فقفل محلاً من محلات الفيديو في هذه البلدة؟ أسألكم: هل رجل صاحب تسجيلات للأغاني في هذه البلدة أقفلها، أو غيرها إلى تسجيلات إسلامية أثناء هذه الحوادث؟ ألا هل علم هؤلاء -أصحاب الفساد- بأنهم يأكلون حراماً؟ أسألكم: هل اتجه الناس أثناء الحوادث إلى المساجد بدلاً من اتجاههم إلى المقاهي والملاعب، أم زاد الاتجاه إلى الملاعب والمقاهي؟ أبالرياضة نبني مجد أمتنا أم بالفنون وبالأفلام ننتصرُ أسألكم: هل رأيتم مسلماً أثناء هذه الحوادث رجع إلى الله، فأعفى لحيته بعد أن كان يحلقها، ورفع إزاره بعد أن كان مرخياً له؟ أسألكم: هل سمعتم بتاجر قد أخذ أمواله ووضعها في مصرف لا يتعامل بالربا أثناء هذه الفتن؟ بل أسألكم عن أهم شيء في مثل هذا الوقت: هل سمعتم بالناس يتحدثون عن الجهاد في سبيل الله أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم: هل تحرك الناس، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أثناء هذه الحوادث؟ يموت الميت في هذه الحوادث فلا نرى مراسم العزاء البدعية أثناء هذه الحوادث تنتهي. ألا هل تغير شيء؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد ما تغير شيء في الغالب، بل ازداد الناس طغياناً، وتوكلاً على غير الله، وكأنهم يقولون: ربنا عجل لنا العذاب، المتخلف عن الجماعة لا زال، والمنكرات والملهيات بدأت تدخل البيوت بحجج واهية شيطانية، الراعي في بيته غش رعيته، فلم يأمرهم ولم ينهَهم، أمسى على الأخبار، والصحف، والأفلام، والمجلة، والمسلسل، وما رفع يده، ورعيته إلى الله رب البرية، ما كأنه سمع قول محمد صلى الله عليه وسلم: {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فأمسى غاشاً لهم إلا لم يرح رائحة الجنة}. الاختلاط كما هو، والأسواق تعج بالمنكرات، وما رأينا آمراً أو ناهياً، الفيديو والتسجيلات الغنائية تزيد يوماً بعد يوم، حلق اللحى يتضاعف، وإسبال الثياب كالنساء يفشو، والحديث عن الجهاد يخبو ويضعف، بل لا يذكر أبداً، والسكوت عن المنكرات يزيد. لا إله إلا الله، ما أحلمك! ما أكرمك!، تمهل الظالم حتى إذا أخذته لم تفلته! اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.

وسائل الأمر بالمعروف

وسائل الأمر بالمعروف يا مسلمون! يا مؤمنون! يا عقلاء! أخاطب فيكم الإسلام، والإيمان، والعقل، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصدقوا، وأخلصوا لله، من عنده علم فليخرجه قبل أن يُلجم بلجام من نار، من عنده منكر فليخرجه وليتخلص منه قبل أن يندم فلا ينفعه ندم، من عنده مال فليسخره للقضاء على المنكرات وليسخره لدعم المسلمين في كل مكان. يا أيها التجار! يا من يملك مالاً! يا من ستسأل عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته! الميدان فسيح لك هذه الأيام، يا أيها التجار! اشتروا محلات الفيديو، اشتروا تسجيلات الغناء، واقلبوها إلى تسجيلات إسلامية، تكونوا بمالكم قد دعوتم إلى الله وأنتم في متاجركم، وقضيتم على المنكرات. يا أيها الشباب: لتنزلوا إلى الأسواق فتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بالمعروف، يا من لا يستطيع هذا ولا ذاك: مر بالمعروف في بيتك وانهَ عن المنكر. واعلموا -يا عباد الله- أن دين الله ليس عليه خطر، ولا على رسالة الله خوف؛ الله تكفل بحفظ دينه من دونكم، لكننا نحن بدين الله نحفظ أنفسنا وأمتنا وجيلنا، نحن بحاجة إلى هذا الدين، فلنراجع أنفسنا، لا يزال الله يمهلنا، انهضوا، وعودوا، وتوبوا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وبادروا إلى الخيرات لعلكم تنجون من عذاب الله القائل: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] يا أيها الأخيار: يا أمراء القبائل! يا مشايخ القبائل: أنتم قدوة لمن أنتم رعاة لهم، بصلاحكم يصلح الله القرى والبوادي، كفى نوماً، وكفى طغياناً، اجتمعوا مع الشباب، وادعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في قراكم، واقضوا على المنكرات؛ ليصلح الله لكم المجتمع، وليؤمنكم مما تخافون. إن السنن الإلهية لا تجامل أحداً، بل تجري على كل من استحقها ولو كان حراً قرشياً، ومن هذه السنن: أنه ما من بلدة أعلنت الحرب على الأمر بالمعروف، إلا جاءها عذاب الله بكرة أو عشية: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم انصر من نصر الدين واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين ولا تجعلنا ممن خذله. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا. اللهم انصرهم وسدِّدهم وثبِّتهم وأيِّدهم يا قوي يا عزيز. اللهم فرِّق جمع أعداء المسلمين. اللهم رد كيدهم، وامكر بهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، ومزِّقه كل ممزق يا قوي يا عزيز! اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك. اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم آنسْ وحشتنا في القبور، وآمِن فزعنا يوم البعث والنشور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حسرات

حسرات قسوة القلوب نسيان الآخرة عدم الاستعداد ليوم الرحيل هجر كتاب علام الغيوب هذه كلها مظاهر لما آل إليه حال الأمة الإسلامية. ومع ذلك تجد إهمالاً شديداً لركيزة الوعظ والتذكير كركيزة تربوية مؤثرة، وتجد من يقلل من أهميتها. وفي هذا الدرس المبارك تجد إحياء لهذه الوسيلة بالكلام عن مواقف الحسرات في يوم القيامة.

أهمية الوعظ والتذكير

أهمية الوعظ والتذكير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أما بعد: عباد الله: اعلموا أن المتأمل لحالنا -نحن المسلمين- اليوم، وحال زماننا وما ظهر فيه من الآفات والفتن، وما حصل فيه من انفتاح كبير على الدنيا وزخرفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها أو مخلدون فيها؛ ليشعر بالرهبة والإشفاق والخوف الشديد من مظاهر وعواقب هذه الحال؛ إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجر كتاب علام الغيوب، بل قُرئ والقلوب لاهية ساهية في لُجَج الدنيا وأوديتها سابحة، كيف لا وقد زينا -غير متبعين- جدران بيوتنا بآيات القرآن، ثم لم نُزين حياتنا بالعمل بالقرآن، يقرؤه البعض منا -غير مقتدين- على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء، بل جعلت البركة في مجرد حمله وتلاوته، وتركت بركته الحقيقية المتمثلة في اتباعه وتحكيمه امتثالاً لقول الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155] غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا، وهذه -لعمر الله- أدهى وأَمَرُّ فينا؛ كثر القلق، وغلب الهم والحزن، وصَاحَبَ ذلك الأَرَق، مُكِر مكر شديد بالليل والنهار بأساليب ووسائل خبيثة ماكرة، تزين الفاحشة وتصدُّ عن الآخرة. فَشَتْ الفواحش والمظالم، ونيل من الأعراض، وأكلت الأموال، وظهرت صور صارخة من الحسد والبغضاء والفُرْقَة والخلاف حتى بين خبراء الفضل والإحسان، وعندها اسُتضعف المسلمون، وتبجح وتسلط الملحدون والمجرمون. قلنا ولم نفعل أمام عدونا وعلى أحبتنا نقول ونفعل قلَّ الاهتمام والعناية بركيزة الوعظ والتذكير كركيزة تربوية مؤثرة مفيدة، فصرت تسمع من يقلل من أهمية كتاب أو محاضرة أو درس يُرَكِّز على هذا الجانب، فيقال: هذا كتاب وعظي، ومحاضره وعظية، ومقال عاطفي، وكبرت من كلمة: إن صح أن الوعظ أصبح فضلة فالموت أرحم للنفوس وأنفع فلولا رياح الوعظ ما خاض زورق ولا عبرت بالمبحرين البواخر عندها عُطلت طاقاتنا الإيمانية. وكيف يعيش في البستان غرس إذا ما عُطلت عنه السواقي هبت رياح المعصية فأطفأت شموع الخشية من قلوبنا، وطال علينا الأمَدُ فَعَلا القلوب قسوة كما قست قلوب أهل الكتاب؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة. أسأنا فهم الدين الذي هو سر تميُّزنا وبقائنا، فشُغلنا بالشكل عن الجوهر، وبالقالب عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، بذكريات مجيدة وتواريخ تليدة، نحتفل غالباً مبتدعين غير متبعين، وأحياناً نهتم بطبع الكتب الشرعية مفتخرين، ثم نتمرد على مضمونها هازئين. حالنا كالذي يقبِّل يد والده ولا يسمع نصحه، إنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين، وإنَّا لنخشى أن نصبح في زمرة من قال الله فيهم: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51] وأسوأ ما تمرُّ به أمة، وأتعس ما تمرُّ به أمة أن يصبح اللهو فيها ديناً، والدين فيها لَهْواً، ثم لا تسمع نصحاً. بُحَّ المنادي والمسامع تشتكي صَمَماً وأصبحت الضَّمَائِر تُشْتَرى تاهت سفائنها فما خاضت بها بحراً ولا هي في الشواطئ تظهر لهذا كله كان لابد من الوقوف على بعض مشاهد الحسرة في الأخرى، لعل النفوس تستيقظ وتخشع وتذل فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشدُّ دفعاً للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يديْ من له الأولى والآخرة. فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، وفي ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة، وسدٌّ منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلام يحزن طالب الآخرة؟ أَعلى أمر حقير يفنى عما قريب؟! كلا. فالآخرة خير وأبقى. المؤمن باليوم الآخر لا تؤثر فيه المصائب؛ لأنه موقن أن المصائب إن لم تَزُل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات. ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف. ذكره يهدد الظَلَمَة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا؛ فكل سيأخذ حقه لا محالة، حتى يقاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم: والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضرٍّ وبلاء وسوء وعناء، وتتطلع لما أعده الله للظالمين من بؤسٍ يُنسى معه كل هناء.

مشاهد من يوم الحسرة

مشاهد من يوم الحسرة فهيا معي -يا عباد الله- إلى مشاهد من الحسرة، أسأل الله ألا تكونوا من أهل الحسرة، علَّ ذلك تصلح به القلوب، وتتجه إلى علام الغيوب، وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح. إنه يوم الحسرة وما أدراك ما الحسرة، يوم أُنذر به وخُوِّف، وتُوعِّد به وهُدِّد، قال الله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] إنذار وإخبار في تخويف وترهيب بيوم الحسرة حين يُقْضَى الأمر، يوم يُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، يُسألون عن أعمالهم؛ فمن آمن واتبع سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ومن تمرَّد وعصى شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً، وخسر نفسه وأهله، وتحسر وندم ندامة تتقطع منها القلوب، وتتصدع منها الأفئدة أسفاً. وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه وناره على وجه لا يمكن معه الرجوع ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله ولا أمل، وقد كان الحال في الدنيا أنهم في غفلة عن هذا الأمر العظيم، فلم يخطر بقلوبهم إلا على سبيل الغفلة حتى واجهوا مصيرهم، فَيَا لَلندم والحسرة! حيث لا ينفع ندم ولا حسرة. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]: {يوم يُجاء بالموت -كما في صحيح البخاري - كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم. هذا الموت. ثم يقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم. هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]}. آهٍ من تأوهٍ حينئذ لا ينفع، ومن عيون صارت كالعيون مما تدمع. إنها حسرة بل حسرات! أنباء مهولات، ندامات وتأسفات ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات، تصدر عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يوم الحسرات، نذكر بعضاً منها في هذه الخطبة. من رسالة: قل هو نبأ عظيم بتصرف يسير، إنها تذكرة وعظات، علَّنا أن نحاسب أنفسنا ما دمنا في مهلة من أعمار وأوقات، وقبل أن نندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرات.

من حسرات يوم الحسرة

من حسرات يوم الحسرة

الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب

الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب فمن هذه الحسرات -أجاركم الله من الحسرات-: الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب، وكدَّرتها مبطلات الأعمال من رياء وعُجْب ومِنَّة؛ فضاعت وصارت هباءً منثوراً في وقتٍ الإنسان فيه أشد ما يكون إلى حسنة واحدة: {وَبَدا لَهُم مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر:47 - 48]. فكيف تقيك من برد خيامٌ إذا كانت ممزقة الرواق الفضل عند الله ليس بصورة الـ أعمال بل بحقائق الإيمان القصد وجه الله بالـ أقوال والطاعات والشكران فبذاك ينجو العبد من حسراته ويصير حقاً عابد الرحمن الحسرة على التفريط في طاعة الله، وتصرُّم العمر القصير في اللهث وراء الدنيا حلالها وحرامها، والاغترار بزيفها مع نسيان الآخرة وأهوالها: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:56 - 59] واضيعة العمر لا الماضي انتفعت به ولا حصلت على علم من الباقي بلى علمت وقد أيقنت وا أسفا أني لكل الذي قدمته لاقي

الحسرة على التفريط في النفس والأهل

الحسرة على التفريط في النفس والأهل الحسرة على التفريط في النفس والأهل أن تقيهم من عذاب جهنم، يوم تفقدهم وتخسرهم مع نفسك بعد ما فُتنت بهم، ذلك هو الخزي والخسار، والحسرة والنار. حالك: بعضي على بعضي يجرد سيفه والسهم مني نحو صدري يُرسل النار توقد في خيام عشيرتي وأنا الذي ياللمصيبة أشعل {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الْذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].

الحسرة على أعمال صالحة ذهبت في المظالم

الحسرة على أعمال صالحة ذهبت في المظالم الحسرة على أعمال صالحة كان الأمل بعد الله عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليوم العصيب إلى من تعديت حدود الله فيهم؛ فظلمتهم في مال أو دم أو عِرْض، فكنت مفلساً حقاً: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] فيأخذ هذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات، فيطرح عليك من سيئات من ظلمتهم، ثم تُطْرح في النار، أجارك الله من سامعٍ من النار، وجنَّبك سخط الجبار بفعل ما يرضي الواحد القهار.

الحسرة على مجالسة أهل السوء

الحسرة على مجالسة أهل السوء حسرة جلساء أهل السوء يوم انساقوا معهم يقودونهم إلى الرذيلة، ويصدونهم عن الفضيلة، إنها لحسرة عظيمة، في يوم الحسرة يعبرون عنها بِعَضِّ الأيدي، يوم لا ينفع عضُّ الأيدي؛ كما قال ربي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان:27 - 29].

حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق

حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق، يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل، فلا ينفعهم ندم ولا حسرة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167]. حسرة الظالمين المفسدين في الأرض الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً حين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم، وحين يسمعون عندها قول الله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وهم بالآخرة كافرون} [الأعراف:44 - 45]. ومن أعظم المشاهد المخزية حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، محتجين ومتبرئين، فذاك قول الله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم من الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً منَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:38 - 39]. فيا حسرة الظَلَمَة وأعوانهم، يوم يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ} {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:47]. فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم، لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا يستطيعون. يقولون: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48] إن لله غضبة لو وعاها من بغى ما غدا يمض اللسانا كم من ظالم يردد: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم من شَيْءٍ إِنهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13]. فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فإنهم يومئذٍ في العذاب والحسرة مشتركون. تصور معي -أخي- ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيِمة على المستضعفين والمستكبرين. أتباع ضعفاء يتهمون زعماءهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان، ومستكبرون يقولون لأتباعهم: أنتم المجرمون، دعوناكم فكنتم مجيبين. لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار -مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء- لرأيت أمراً مهولاً، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنِّب بعضهم بعضاً، ويُلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض. يقول أتباع الضلال الذين استُضعفوا؛ لقادة الضلال الذين استكبروا: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] يقولونها جاهرين بها، صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة؛ كان يمنعهم الذُّل والضعف والاستسلام وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحهم الله إياها، أما اليوم -يوم الحسرة0 - فقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب، فهم يقولونها غير خائفين: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]، حُلْتُم بيننا وبين الإيمان، زيَّنتم لنا الكفران فتبعناكم فأنتم المجرمون، وبالعذاب أنتم جديرون، وله مستحقون، ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعاً، إذ هم في البلاء سواء، ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عندئذٍ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:32] الله أكبر! كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزناً، ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، ولا يقبلون منهم مخالفة بل حتى مناقشة، أما اليوم -يوم الحسرة- فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32] زيَّنا لكم الإجرام؟ نعم، لكننا لم نقهركم عليه، فما لكم علينا من سلطان. أما إنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة، لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة، فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كان لهم يذلون، فيقولون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} [سبأ:33]. مكركم لم يفتر ليلاً ولا نهاراً للصد عن الهدى، تزينون لنا الضلال، وتدعوننا إلى الفساد وتقولون: إنه الحق، ثم تقدحون في الحق، وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا. ويا عباد الله! إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر، ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالاً من الأشعار في المنتديات الجاهلية، تُوَجَّه فيها التهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم، أو بإثارة نعرة الآباء والأجداد والتهويل من خطر تركها. هذا جلُّ ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، ووالله! إنه لعظيم، لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين اليوم، والذي ينطبق تماماً -بلفظه ومعناه- على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع وعشرين ساعة؟! فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز، وما يكاد التلفاز يفتر حتى يأتي دور الفيديو، ثم يأتي دور البث المباشر، ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليك، مَكْرُ بالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ. هل يُعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟ كلا والله لا يعذر؛ لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يديْ الله يوم القيامة بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32] ويرد هؤلاء المستضعفون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]، ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض. علم كل منهم أنه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب، فندم حين لا ينفع الندم، وتمني أن لو كان على الحق والإيمان والهدى سراً: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33]. قطاة غرَّها شَرَك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح فلا في الليل نالت ما تمنت ولا في الصبح كان لها براح قُضِيَ الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار، وهنا يأتي حادي الغواء، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة، يصبها على أوليائه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22]-طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه وقد قُضى الأمر وفات الأوان- {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم من سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] ثم يؤنبهم على أن أطاعوه {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] نفض يده منهم، وهو الذي وعدهم ومنَّاهم ووسوس لهم، وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] فيا للحسرة والندم. الحسرة على أعمال محدثة وعبادات لم يأذن الله بها ولم يُتَّبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسب أهلها أنهم يحسنون صنعاً، لكنها تضيع في وقت الحاجة الماسة إليها، فهم الأخسرون أعمالاً، وساءوا أحوالاً، أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه. يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى وبكل معنىً للضلال تدثَّرَ إن كنت ذا عقل ففكر بُرهة ما خاب ذو عقل إذا ما فكَّرَ

الحسرة على أموال جمعت من وجوه الحرام

الحسرة على أموال جمعت من وجوه الحرام الحسرة على أموال جمعت من وجوه الحرام؛ ربا ورشوة وغش وغصب وسرقة واحتيال وغيرها. فيا لله! أي حسرة أكبر على امرئ من أن يؤتيه الله مالاً في الدنيا فيعمل فيه بمعصية الله، فيرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله، فيكون وزره عليه وأجره لغيره؟! أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً كان الله ملَّكه إياه في الدنيا، يرى في نفسه أنه خير من هذا العبد، فإذا هذا العبد أفضل منه عند الله يوم القيامة؟! أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة، وقد عَمِيَ هو؟! إنَّ تلك الحسرة لعظيمة عظيمة! أي حسرة أكبر على امرئ علَّم علماً، ثم ضيعه ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلَّمه منه فنجيَ به؟! أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. يوم تُبلى السرائر، وينكشف المخفي في الضمائر، ويعرضون لا يخفى على الله منهم خافية، ثم يكون المأوى، الدرك الأسفل من النار، ثم لا يجدون لهم نصيراً. أما الحسرة الكبرى فهي عندما يرى أهل النار أهل الجنة وقد فازوا برضوان الله والنعيم المقيم، وهم يقولون: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]. وحسرة أعظم حين ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِما رَزَقَكُمْ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. وحسرة أَجَلُّ حين ينادي أهل النار مالكاً: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنكُم ماكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78]. ومنتهى الحسرة وقصاراها حين ينادون ربهم عز وجل وتبارك وتقدس: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيجيبهم بعد مدة: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فلا تسل لا ينبسون ببنت شفة، وإنما هو الشهيق والزفير. طال الزفير فلم يرحم تضرعهم هيهات لا رقَّة تغني ولا جزع فيا حسرة المقصرين! ويا خجلة العاصين! لذَّات تمر، وتَبِعات تبقى، تريدون نيل الشهوات والحصول في الآخرة على الدرجات! جمع الاضداد غير ممكن يا تُرَى. هواك نجد وهواه الشام وذا وذا يا خيُّ لا يلتام فدع الذي يفنى لما هو باقِ، واحذر زلل قدمك، وخفْ فلول ندمك، واغتنم شبابك قبل هِرَمِك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك، ثم تتحسر حين لا ينفع ندمك. إذا ما نهاك امرؤ ناصح عن الفاحشات انزجر وانتهي إن دنياً يا أخي من بعدها ظلمة القبر وصوت النائح لا تساوي حبة من خردل أو تساوي ريشة من جانح لا تسل عن قيمة الربح وسل عن أساليب الفريق الرابح جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يوم يخسر المبطلون الأشقياء، ويتحسر المتحسرون التُّعساء، إن ربي وليُّ النعماء، وكاشف الضُّر والبلاء. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

هل آن الأوان للتوبة

هل آن الأوان للتوبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأصلي وأسلم على محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتَّابعين. أما بعد: عباد الله: وبعد هذا البيان من كتاب الرحمن عن صور الخزي والحسرة والخسران، هل آنَ لنا أن نُعِدَّ لهذا الموقف العظيم عُدَّته، ونعمل جاهدين على الخلاص من صفات أهل هذه المواقف المخزية. آنَ لنا أن نخلص العبادة لله وحده، ونجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. آن لنا أن نحذر من كل ناعق ملبِّسٍ خائن، يمكر في الليل والنهار قبل أن تقول نفس: يا حسرتاه، ولات حين مَنَاص. آن الأوان للضَّعَفَة الأتباع أن يتبرءوا من متبوعيهم الظالمين المفسدين، فلا يكونوا أداة لهم في ظلم في دماء أو أموال أو أعراض؛ طمعاً في جَاهٍ أو حطام. آنَ الأوان للإنابة والبراءة من الظالمين قبل أن يتبرءوا من تابعيهم بين يديْ الله، يوم ينقلبون عليهم فيلعن بعضهم بعضاً حيث لا ينفع لعن ولا ندم. آن الأوان للمرأة المسكينة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه المواقف، فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها باسم الحرية والتَّمدُّن ومتابعة الأزياء والموضات، حتى لا تحقّ عليها الحسرة الكبرى عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن الذين أضلوها، ثم لا يغنوا عنها من عذاب الله من شيء إلا الخصام والتلاعن المذكور في كتاب الله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68]. آن الأوان لأتْبَاع الطوائف الضالة المبتدعة أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة، التي ستنقلب حسرة كبرى وعداوة ولعنة بينهم وبين متبوعيهم يوم القيامة: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم من ناصِرِينَ} [العنكبوت:25]. آن الأوان لمن أعطوا قيادهم لجلساء السوء والمفسدين في الأرض ومن هم دعاة على أبواب جهنم يسوقونهم إلى الرذيلة، ويفتحون قلوبهم للمكر والألاعيب والصَّد عن الفضيلة. آن لهم أن ينتهوا ويقطعوا صلتهم بهم، وطاعتهم لهم ما داموا في زمن من مهلة وإمكان، وإن لم يقطعوها في الدنيا فهي لا شك منقطعة يوم القيامة، وستنقلب عداوة وخصاماً وحسرة: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. آن الأوان للمجاهرين عموماً بالمعاصي، والمجاهرين خصوصا برفع أطباق القنوات فوق البيوتات غير معظمين لشعائر الله والحرمات، مَن أشرعوا بيوتهم للضلال والمكر واللهو والعفن والتُّراهات بحجة الأخبار والمباريات. يستقبل الأفكار في عُلَب الهوى والشر فيها لوَّع المستقبلُ عُلَب يغلِّفها العدو وخَتْمُه فيها الصليب ونجمة والمنجلُ آن لهم أن يعلنوها توبة عاجلة نصوحاً قبل الممات، وقبل يوم الحسرات بلا مبررات واهيات، فالحقائق ساطعات غير مستورات وإن تَعَامَتْها نفوس أهل الشهوات. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر معافى إلا المجاهرين، وما من راعٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لهم، إلا حرم الله عليه الجنة، وكلكم راع ومسئول، وما كل راعٍ براع. ما كل ذي لُبَدٍ بلَيْثٍ كاسر وإن ارتدى ثوب الأسود وزمجرا يستخدم الشيطان كل وسيلة لكنَّه يبقى الأذل الأصغرا {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]. آن الأوان لمضيع وقته أمام ما تبثُّه هذه القنوات من محرمات أن يتوب ويئوب. آن الأوان لمن عَقْله في أذنيه، ولُبّه في عينيه، من أَثَّر البهتان فيه، وانطلى الزور عليه، أن يتوب قبل أن يقف أمام الله، فتشهد الأعضاء والجوارح، وتبدو السوءات والفضائح، فيُخْتم على فمه، وتتكلم يده، ويشهد سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب، ثم لا تكون إلا الحسرات، فما تغنِ الحسرات {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مما تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم منَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24]. يا ابن سبعين وعشر وثمان كاملات غرضاً للموت مشغولاً ببث القنوات وَيْكَ لا تعلم ما تُلقى به بعد الممات من صغارٍ موبقات وكبارٍ مهلكات يا بن من قد مات من آبائه والأمهات هل ترى من خالد من بين أهل الشهوات إن من يبتاع بالدين خسيس الشهوات لغبي الرأي محفوف بطول الحسرات عباد الله: في يوم القيامة يبحث كل إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلها تصلح لنجاته من غضب الله، ولذلك تكثر المناقشات والمحاورات بين الأباء والأبناء والأزواج والزوجات، والكبار المتسلطين والصغار التابعين، بين الأغنياء الجبَّارين والفقراء المنافقين، كل يحاول إلقاء التَّبعة على غيره، لكن حيث لا تنفع المحاورات، ولا الخصومات، ولا التَّنصُّل من التَّبِعات، ثم لا يكون إلا الحسرات. إلى الله يا قومي فما خاب راجع إلى ربه يوماً وما خاب صابر اللهم آنس وحشتنا في القبور، اللهم آنس وحشتنا في القبور، اللهم آمن فزعنا يوم البعث والنشور، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسْمع. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين. اللهم فرِّج همَّهم، ونفِّس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم، اللهم أَزِلْ عنهم العناء واكشف عنهم الضُّر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء يا سميع الدعاء. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

صدقوا ما عاهدوا

صدقوا ما عاهدوا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أحبوا الله وأحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهم دلالات على تلك المحبة، منها: اتباعهم لأمر الله ورسوله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله. فهذا صهيب يبذل ماله كله، وحبيب يقدم نفسه قرباناً لله، وثابت بن قيس يجاهد لينال الشهادة، وأبو بكر يجاهد المرتدين ليحافظ على دين الله، والمواقف تتكرر لرجال صدقوا ما عاهدوا الله. فهذه مواقف لرجال صدقوا بفعلهم، أما نحن فقد قلنا ولم نصدق. وهناك دروس مستفادة من الجولة في سيرة هؤلاء الأبرار لعلنا أن نلحق بهم.

الحث على دوام ذكر الله

الحث على دوام ذكر الله الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته. لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه. إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عوُمِل أثاب. لا إله إلا هو سبحانه وبحمده! لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد لك. اللهم لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك. اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك. الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته. سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال، وكل رطب ويابس، وكل حي وميت: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرَّع شرائعه؛ لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد. إنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، لن تزول قدما عبد بين يدي الله حتى يسأل: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلماً وزوراً من دون الله. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين. بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد، وقمع أهل الزيغ والفساد، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أحبتي في الله: أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله صلى وسلم عليه الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح. فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيا الله هذه الوجوه، حيا الله وجوهاً أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله. وهنيئاً لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله. هنيئاً لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. هنيئاً لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله. هنيئاً لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله. هنيئاً لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفوراً لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم. هنيئاً لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل. فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله! لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأباً لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتا ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافاً بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتا ولازم بابه قرعاً عساهُ سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتا ونفسَك ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِواها بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتا فلو بكت الدما عيناك خوفاً لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتا وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتا ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتا فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهواً فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتا ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتا تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتا وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ ألا يا صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتا أحبتي في الله: أوصيكم جميعاً ونفسي بتقوى الله، وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42]. يقول أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: [[ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ بها الرجل قوماً، فيقومون وقد نفعهم الله عز وجل بها]]. {والكلمة الطيبة صدقة} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح. فالكلمة الطيبة مِعْطَاءٌ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس. جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى. طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة -بإذن الله- عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها الفئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله، وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخراً له بعد الممات، ورصيداً له في الحياة. كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله. أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن يجعلها للجميع ذخراً في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله، لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. أما بعد:

قدوتنا جيل رباه النبي صلى الله عليه وسلم

قدوتنا جيل رباه النبي صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد؛ رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج في الأمة من أمثالهم. إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب استيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها. إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي، ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا، لنصل كما وصلوا. ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. غابت شخوصهم، فلنسمع ولْنَعِ أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل: فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال. رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193]. وضعوا أيديهم في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهان عليهم بعد ذلك أبناؤهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه. رجال وأي رجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات. القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ منحوا الحياة جمالاً، ومعنى ومغزى في جميل مبنى: كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ منهم ظواهر أو بطاح أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ عند ذلكَ والسَّماحُ وقفة أقفها معكم إزاء هذه الصفوة المختارة ممن صدقوا ما عاهدوا، ما هي إلا قطوف من أشجار، وقطرات من بحار، ورحلة في أكثر من أربعة عشر قرناً في بساتين الصادقين اليانعة؛ للوقوف على ثمار مجتناه، وزهور منتقاه، وإني لأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله من وصف حال أولئك مع ضعف الاتصاف مني بصفاتهم، بل -والله- ما شممنا رائحتهم، ولكنها محبة القوم تحملنا على التعرف على منزلتهم، وقراءة سيرهم، وإن لم نلحق، فعسى همَّة منا أن تنهض إلى التشبث بساقة القوم ولو من بعيد: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

مواقف من تربية النبي صلى الله عليه وسلم

مواقف من تربية النبي صلى الله عليه وسلم صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرك، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله جل وعلا. فـ سلمان يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق، وأَنْعِمْ به من اقتراح. والخباب يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون. ويوم يُعاد أبو جندل وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين! أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويعزيه ويقول: {اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً}. وإذا بـ عمر -وما عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر - ينفعل مع الموقف، ويمشي بجوار أبي جندل ويقرب سيفه من أبي جندل؛ طمعاً في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية، لكن أبا جندل لم يفعل؛ فأعيد. وانظر إلى الصديق، وما الصديق؟! يوم يتولى الخلافة، فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تكن الجمعة تقام إلا في بعض الأمصار؛ كـ مكة والمدينة، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره: [[ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي]]. شعاره شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي}. وأبو بصير، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن بنود صلح الحديبية، إذ جاء مسلماً فارّاً بدينه من قريش إلى المدينة بعد صلح الحديبية، وبعد توقيع المعاهدة. فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفاءً بالعهد- إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {قد -والله- أوفى الله ذمتك يا رسول الله! فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-كما في البخاري - {ويل أمِّه؛ مسعر حرب لو كان معه أحد}. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم -وكانوا أذكياء- أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير، وكان على رأسهم أبو جندل، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن. تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كـ أبي بصير وأبي جندل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجاً يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو: (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة). كل ذلك في حكمة، وأي حكمة! إذ كان ذلك بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم يوم وصف أبا بصير بأنه مسعر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبا بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269]. وهذا خالد بن الوليد يستلم الراية يوم مؤتة -يوم سقط القوَّاد الثلاثة- بلا تأمير فرضي الله عن الجميع. وفي القادسية تنفر خيل المسلمين من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليصنع فيلاً من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة، فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله على المسلمين. ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، ويعيشون لعقيدتهم. وهذا عبد الرحمن بن عوف يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره: مَضَوْا في الدُّنَا شرقاً فأسلمَ فُرسُها وسَاروا بِها غَرباً فسلَمَ رُومُها زيد يجمع القرآن، وابن عمرو يدوِّن الحديث، وابن عباس يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس. ويتحاور ويتناقش سلمان وأبو الدرداء حول قيام الليل، وحقوق العيال. تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون.

عوامل صدق الصحابة مع الله

عوامل صدق الصحابة مع الله علموا أن الإيجابية إعذار إلى الله من التقصير، فأدوا واجبهم قدر الإمكان، ولم ينتظروا النتائج، على مبدأ: فعلي بِذرُ الحبِّ لا قَطْفُ الجَنَى واللهُ للساعين خيرُ مُعينِ علموا أن التكليف فردي، وكل سيحاسب يوم القيامة فرداً: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84]. فكان كل فرد منهم أمة؛ يوم تربوا على منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم فصدقوا ما عاهدوا.

معاصرتهم نزول الوحيين

معاصرتهم نزول الوحيين صدقوا ما عاهدوا: وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله بـ مكة، فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؟! رأوه وهو يقف على الصفا وحيداً فريداً قد اجتمعوا حوله وهو يقول: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقال عمه: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه. لم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ييئس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في عكاظ ومجنة في المواسم، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة؟ فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه، فيحذرونه غلام قريش لا يفتنه. حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان: والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددٌ والسيفُ ما فَقَدَ المضِاءَ وما نَبَا

معاصرتهم لمحن النبي صلى الله عليه وسلم

معاصرتهم لمحن النبي صلى الله عليه وسلم كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن، وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه، بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذا كما أوذوي في سبيل الله؛ فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا، بل صابروا، وهاجروا فراراً بدينهم هجرتين: إلى الحبشة ثم إلى المدينة رضوان الله عليهم أجمعين. عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار، آووه وصدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه. عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم؛ كيف وهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم -مرابع الطفولة وحياتهم كلها- ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم يقف أمامهم يخاطب مكة بـ الحزورة قائلاً: {والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت}. دموعه تهطل على لحيته صلى الله عليه وسلم؛ فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟ أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها.

معايشتهم لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم فيه

معايشتهم لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم فيه كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفاً يكفرون بالله قد خرجوا بطراً ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله؟! ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ كيف لا يصدقون، وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]؟! كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية، وقد بلغوا ألفاً وأربعمائة وأكثر من ذلك، فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18]؟! كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى مكة التي أخرجوا منها فاتحين، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً شاكراً لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجيء الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله. وإذ بالذين أخرجوه نكست رءوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريماً، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء}. يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم كيف لا يصدقون، وهم ضمن ثلاثين ألفاً يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية، وكان له ذلك؟! كيف لا يصدقون، وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه، على الصفا يكبر ويقول: {خذوا عني مناسككم} في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه صلى الله عليه وسلم، عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين؟! فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألفاً، إلى مائة ألف؛ ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواً بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هو الأقل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه صدقوا ما عاهدوا: صدقوا الله في تلقيهم للقرآن، فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألئ الكواكب في صفحات السماء، ملئوا الجوانح بكلام الله؛ فظهر أثر ذلك على الجوارح. رتَّلوا القرآن ترتيلاً ينمُّ عن التأثر بما يَتْلُونَ، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرءون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا: (يا أيها الذين آمنوا) إلا أصغوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم.

وقفة مع ثابت بن قيس

وقفة مع ثابت بن قيس يأتي أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم هلعاً، فزعاً، جزعاً، ترتعد فرائصه، فيقال له: ما بك؟ قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَ؟ قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو. فمازال صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه حتى قال: {يا ثابت بن قيس! ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى. بلى يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك}. ثم تتنزل آية الحجرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وكان رجلاً جهوري الصوت، يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {من يأتيني بخبر ثابت}، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد؟ قال: شر والله! قال: وما ذاك؟ قال: تعلم أني رجل جهوري الصوت، وكثيراً ما يعلو صوتي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله! ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار. فيرجع الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا. قال: ارجع إليه فقل له: {لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت} فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال. وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أصيب المسلمون؛ ويرتد العرب؛ فيكون في من يردون المرتدين إلى الواحد القهار. جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رءوس المسلمين يقول: [[يا معشر المسلمين! والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء]]. ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه البراء وزيد وسالم، فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وثارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعاً على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه.

وقفة مع عباد بن بشر

وقفة مع عباد بن بشر عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ونزل المسلمون شعباً من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقام عباد بن بشر، وعمار بن ياسر -وقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله! ثم خرجا إلى فم الشعب، فقال عباد لـ عمار: أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار: بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد. بقي عباد يحرس جند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات. ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله صلى الله وسلم على نبينا محمد فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته، ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولَّى المشرك هارباً، وأمَّا عمار فنظر -ويا للهول! أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به؟ فقال عباد -واسمعوا إلى ما يقول-: [[كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه؛ لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها]]. لا نامت أعين الجبناء، لا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين. يا بنَ الهُدَى! يا فَتَى القرآنِ! دعكَ مِنَ الأوْهَامِ؛ جلجَلَ أمرُ الله أنْ أَفِقِ. تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئاً. عبَّر أحدهم عن تلك اللذة بقوله: [[والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه الدنيا. ووالله! إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طرباً بذكر الله، حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم]]. وعبر الآخر عن لذته بمناجاة الله بقوله: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟ قال: لذة مناجاة الله في الخلوات. هذه حالهم يا متأمل! هذه حالهم يا متبصر! فما حالنا؟ كُثُرٌ ولكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ جمعٌ ولكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ شككتْ نفسي مهانتكم أنكمُ يا قومِ منْ مُضَر خَبِّرُونِي أين حِسِّكُم لأزْيَد الوَخْز بالإبرِ نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان: وكانَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ فصارَ البرُّ نُطقاً بالكلامِ

أبو طلحة وجهاده في سبيل الله

أبو طلحة وجهاده في سبيل الله إن الصحابة لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعاً عملياً لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى أبا طلحة الأنصاري وهو يسمع قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وذخرها عند الله. ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني. يا لله! شيخ كبير نيف على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصرت شيخاً كبيراً، فدعنا نغزو عنك، قال: والله! ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازاً لدين الله. فيشاء الله يوم علم صدق نيته أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفاً، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضاً شديداً يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟! ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته، وهو مسجى بينهم، لم يتغير فيه شيء كالنائم تماماً. وفي وسط البحر بعيداً عن الأهل والوطن نائياً عن العشيرة والسكن دفن أبو طلحة، وما يضره أن يدفن بعيداً عن الناس ما دام قريباً من الله عز وجل، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة. لا نامت أعين الجبناء: ويلٌ لكم هل سِوَى الأكفانِ حُجَّتُكُم وهلْ يكونُ سوى الأكفانِ حَظَّكُمُ هيَّا اسلبُوها من الأجْداثِ باليةً ثم البسوها وقُولُوا الإرثُ إرثُكُمُ

الصحابة وصدقهم مع كتاب الله

الصحابة وصدقهم مع كتاب الله صدقوا ما عاهدوا: فكان القرآن فيصلاً في المواقف التي يحار فيها أولو الألباب، ما كانوا يرجعون إلا إلى كتاب الله؛ ففي يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيب المسلمون وفجعوا، وفقد بعض الصحابة الصواب، حتى قال: والله! ما مات، فإذا بـ أبي بكر -تربية القرآن- يتلو ويقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فعلموا بذلك أنه مات، حتى إن بعضهم سقط ما كادت تحمله رجلاه، وحق له ذلك. ويختلف المسلمون بعد ذلك في من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المهاجرون: نحن أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأنصار: نحن أولى بها، وقال بعضهم: بل تكون فينا وفيكم؛ منَّا أمير ومنكم أمير، وكادت تحدث الفتنة، ونبي الله ما زال بين ظهرانيهم ولم يدفن بعد، وإذا بأهل القرآن بكلماتهم الناصعة التي تئد الفتنة في مهدها ينطقون، إذا بـ زيد بن ثابت رضي الله عنه تربية القرآن يقول: [[يا معشر الأنصار! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فخليفته مهاجر مثله، وكنا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنكون أنصاراً لخليفته]] ثم بسط يده إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: هذا خليفتكم فبايعوه؛ فبايعوه ووئدت الفتنة في مهدها. هذا صدقهم مع كتاب الله، أصلحوا سرائرهم ففاح عبير فضلهم، وعبقت القلوب بنشر طيبهم. فالله الله في كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً؛ لأننا جعلناه -ومع الأسف- للمآتم صوتاً ومحدثاً، قبَّلناه وأكثرنا تقبيله، وما قبِلناه ولم يلامس شغاف قلوبنا، ادَّعينا حب من أُنزل عليه القرآن، ثم أحدثنا ما أحدثنا، وكل محدث ضلال، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدث في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه فهو رَدٌّ. فالله الله في القرآن! والله الله في السرائر والأعمال وفق شرع الرحمن وعلى طريقة خير الأنام! فإنه لا ينفع مع فساد السرائر وتنكُّب الاتباع صلاح ظاهر: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44].

عقبة بن عامر وطلبه العلم

عقبة بن عامر وطلبه العلم صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به: {من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين} {وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه}. فإذا براعي الغنم في باديته الذي رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعياً. اجتمعوا يوماً من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة؛ فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم. يقول عقبة وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحداً تلو الآخر، وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس، فطفقوا واحداً بعد الآخر يذهبون ويرجعون، فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا. يقول عقبة: ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس! من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه مشافهة بلا واسطة، والله! لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة، فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيراً ما أردفه صلى الله عليه وسلم على دابته، وربما نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليركب عقبة. جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم العذبة حتى غدا مقرئاً محدِّثاً فقيها فَرَضِياً أديباً فصيحاً شاعراً، بل كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله عز وجل ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله جل وعلا، حتى كان يدعوه عمر -رضي الله عنه- ويقول: [[اعرض عليَّ شيئاً من كتاب الله. فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل دموعه لحيته]]. قاد الجيوش فكان قدوة لكل قائد، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفاً تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟ إنها بضع وسبعون قوساً، أوصى أن تكون في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن.

أقوالهم في طلب العلم

أقوالهم في طلب العلم صدقوا: حتى قيل لأحدهم وقد استغرق طلب العلم وكتابته وتبليغه وقته، قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ إلى متى وأنت تكتب في تلك العلوم؟ فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد. فلا يدري المرء متى يقول الكلمة، فيهدي الله بها خلقاً كثيراً، ولا يدري المرء متى يقول الكلمة أو يكتب الكلمة الصادقة فتنجيه بين يدي الله. حتى إن أحدهم لتعاتبه زوجته على كثرة شراء الكتب فيقول رادّاً عليها: وقائلة أنفقتَ في الكتب ما حَوَتْ يمينُك من مالِ فقلت دعيني لعلِّي أَرَى فيها كتاباً يَدُلني لأخذِ كتابِي آمناً بيميني صدقوا: حتى قيل لأحدهم: بم كنت عالماً من بين أقرانك وأترابك؟ قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لأدرس العلم في الكتب مثلما أنفقوا في شرب الخمور، وفرق بين إنسان بالعلم قد زكاها، وآخر بالمعازف ورنات الكئوس والغفلة قد دساها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].

تضحية الصحابة في سبيل الله

تضحية الصحابة في سبيل الله صدقوا ما عاهدوا: صدقوا فضَحوا بالنَّفس والنفيس في سبيل الله. صدقوا فتحمَّلوا الجوع والعطش والبرد والأذى لخدمة هذا الدين. صبروا على الامتحان، وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فتركوا أموالهم وعشيرتهم وأوطانهم وهاجروا فارين بدينهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم. استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان. فإذا بأحدهم؛ وهو عبادة -رضي الله عنه- يقول للمقوقس: [[وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا]]. بذلوا أرواحهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، أفنحن كذلك؟! اللهم اجعلنا جميعًا كذلك، آمين يا رب العالمين. أحبتي في الله: لم يكن طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان معبَّداً مفروشاً بالزهور والورود، بل كان محفوفاً بالأخطار، وكان الدخول فيها امتحاناً شاقّاً لا تجتازه إلا الهمم الشامخة، والنفوس العالية التي حازت الإيمان والإخلاص والمجاهدة والجهاد: سَلُوا بلالاً وعماراً ووالدَه عنِ السلاسلِ والرَّمْضاءِ والأَلَمِ مر رجل بـ المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- فقال له: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! لوددنا أنَّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فقال المقداد: [[ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه؛ لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنم؛ إذ لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم، وقد كفيتم البلاء بغيركم. والله! لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشد حال بُعث عليه نبي من الأنبياء، في فترة وجاهلية ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق به بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان ليعلم أنه قد هلك من دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه وقريبه في النار، وإنها للتي قال الله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]]]. لقد كان معظم الصحابة فقراء، ومَنْ لم يكن فقيراً فقد ترك ماله يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، وكانت الدولة الناشئة في المدينة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله، في نيل المال أو الجاه أو أي عرض من أعراض الدنيا. ومن طريف الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: [[كانت منَّا امرأة تجعل لها في مزرعة لها سلقاً -نوع من الخضار- فكانت إذا جاء يوم الجمعة تنزع أصول السلق، وتجعله في قدر، ثم تجعل معه قبضة من شعير تطحنه، قال سهل: فكنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرب لنا ذلك الطعام، والله! إنا كنا لنتمنى يوم الجمعة من أجل ذلك الطعام، ونفرح بيوم الجمعة لأجله]] مع أنه طعام لا شحم فيه ولا وَدَك، وما عند الله خير وأبقى.

تنازل صهيب عن ماله من أجل الله

تنازل صهيب عن ماله من أجل الله ثم تجيل نظرك، فإذا أنت بـ صهيب قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسعه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عيناً الليلة. أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ غير قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم -رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته، وهم يعرفون صهيباً وبرى قوسه. وقال: يا معشر قريش! تعلمون أني من أرمى الناس، والله! لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلاً، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شيء، فقال قائلهم: والله! لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكاً فقيراً، فاغتنيت وبلغت ما بلغت، ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فاراً بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله، يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بلغ قباء رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ له وبشَّ وقال: {ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى}. والله! لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي: {ربح البيع أبا يحيى}. علت الفرحة وجه صهيب، وحقاً -والله- ربح البيع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].

حكيم وإنفاقه في سبيل الله

حكيم وإنفاقه في سبيل الله ثم انظر أخرى فإذا أنت بآخر، إنه حكيم، يسلم إسلاماً يملك عليه لبَّه، ويؤمن إيماناً يخالط دمه، ويمازج قلبه، وهو يقطع على نفسه عهداً أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف أضعافها، وقد بَرَّ في قَسَمِه، وصدق فيما عاهد. فإذا بك تنظر فإذا حكيم قد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلاً الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم، فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم! فقال: [[يا بني! ذهبت المكارم كلها ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني! أن أشتري بها داراً في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله]] وربح البيع. ثم انظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقرباً إلى الله تعالى. ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات، ومعه مائة من عبيده، قد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من فضة، نقش عليه عتقاء لله عز وجل ثم يعتقهم جميعاً على عرفات؛ ويسأل الله عز وجل أن يعتق رقبته من النار. ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّباً لله -عزَّ وجلَّ- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة، ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى. يا ناعمَ العَيشِ والأموالُ بائدةٌ أين التبرعُ لا ضَاقتْ بكَ النِّعَمُ كان المال في يده لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله. لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتهم لكِنْ يمرُّ عليها وهو يستبقُ كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره فاحتسبه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقول: [[أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك]]؛ ليلقى الله. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه، ورحم الله أولئك الرجال، طلبوا الدنيا على قدر مكثهم فيها، وطلبوا الآخرة على قدر حاجتهم إليها، لم يضحوا بأموالهم فحسب، بل ضحوا بدمائهم في سبيل الله؛ رجاء ما عند الله، وما عند الله خير للأبرار {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].

حبيب وتضحيته بنفسه

حبيب وتضحيته بنفسه تنظر أخرى فإذا أنت بشاب ناضر الشباب، مؤمن بالله اسمه حبيب يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب. يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد، ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد حتى يبلغ أعالي نجد، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة، فلما قرأها انتفخت أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه. أمر بـ حبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة الحبيب صلى الله عليه وسلم. فلما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر بـ حبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف بإيمانه، التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله -وخسئ-؟ فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول. فيتغير لون وجهه، وترتجف شفتاه غيظاً وحنقاً ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض. ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، صلى الله عليه وسلم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول. فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخص الناس بأبصارهم مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ إنه الثبات من الله. مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، حتى صار قطعاً منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله، محمد رسول الله. إن عذَّبوا الجسمَ فالإيمانُ معتصمٌ بالقلبِ مثلَ اعتصامِ اللَّيثِ بالأَجَمِ ثم يأتي الخبر لأمه، ويا لهول الخبر! وجدير بأمهات المسلمين وبأمهات الشباب والشابات أن يقفن مع هذه الأم ليدرسن سيرتها يوم جاءها خبر ابنها الذي قطع إرباً إرباً وهو يقول: محمد رسول الله، اسمع إلى ذلك المحضر الخالد لذلك الرجل- ما زادت -والله- يوم جاءها الخبر على أن قالت: [[من أجل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً، ووفَّى له اليوم كبيراً، فحمدت الله سبحانه وتعالى كثيراً]]. فلو كانَ النساءُ كمنْ ذكرنا لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٍ ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ هل وقفت عاجزة تبكي ابنها وتندب حظها؟ لا. بل في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف كاللبؤة الثائرة تنادي: أين عدو الله مسيلمة؟ فوجدته مجندلاً على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت نفساً، وقرَّت عيناً {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] مضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير. لقد ضحى الصحابة بكل شيء، وصدقوا الله فصدقهم الله، وأقر أعينهم بنصرة دينه وإعلاء كلمته. مواكب تتلوها مواكب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: مواكبُ الله سارَتْ لا يُزَعْزِعُهَا عاتٍ منَ البحرِ أو عالٍ من الأطم لا يهتفونَ لمخلوقٍ فقدْ علمُوا أنَّ الخلائقَ والدنيا إلَى العَدَمِ

عاقبة الصدق

عاقبة الصدق فإذا أنت ترى أحدهم وهو عقبة بن نافع على أطراف غابة القيروان ينادي ويخاطب السباع والهوام ويقول: نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جئنا لننشر دين الله في الأرض فأخلي لنا المكان، فتخرج السباع والهوام حاملة أولادها على ظهورها؛ لتخلي المكان لجند الله؛ كرامة من الله، أطاعوا الله فطوع الله لهم كل شيء؛ ليبني مدينة القيروان في تلك الغابة، لا ليركن إليها ويجلس فيها ويتنعم بها، بل ينطلق بعد ذلك فاتحاً في الأرض حتى يقف بقوائم فرسه في أطراف المحيط الأطلسي ليقول كلمته الخالدة، وقوائم فرسه قد ابتلت بمياه المحيط الأطلسي: [[والله! لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً وأقواماً لخضته في سبيل الله؛ لأنشر دين الله]]. وإذا بـ قتيبة في الجانب الآخر في شرق الكرة الأرضية -ذاك في غربها وهذا في شرقها- يفتح المدن والقلوب، حتى يقف على أطراف مملكة الصين ويقسم بالله ليطأن بأقدام فرسه تلك المملكة، ويسمع ملكها فيهلع ويخاف ويجزع، ويعلم أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا، فيرسل صِحَافاً من ذهب مملوءة بتربة أرض الصين؛ ليبرَّ قسم قتيبة، وتطأ خيل قتيبة تلك التربة، وتكون الصحاف مقدمة الجزية، وأربعة من أبنائه يوضع عليهم وسام المسلمين، فيا لله! مهلاً حماةَ الضَيْمِ إنَّ لِلَيلِنا فجراً سيطْوِي الضَيم في أطمارهِ هارون الرشيد خليفة المسلمين يخاطب السحابة وهو على كرسيه، ويقول: أمطري أنَّى شئت؛ فسوف يأتيني خراجك. صارت الكرة الأرضية ما بين مسلم حقاً وكافر يدفعُ الجزيةَ عنْ يدٍ وهو صَاغِرٌ. للهدى كانوا أذلاء وللعدلِ والمَعروفِ كانُوا خُلفاءْ لو دعاهم صارخٌ لانتفضوا مِن بطونِ الأرضِ يرمونَ السماءْ تركُوا المنزلَ معموراً لنا ثُمَّ جِئنا فتركناهُ خَلاءْ ضربُوا العِزَّ لنا أخبيةً فنقضنَاها حِبَاءً فخِباءْ ومع هذا: يا أمتي إنْ طالَ ليلُك عابثاً فتَرَقَبي بسمات فجرٍ في الظَّلام جَديدِ ما نامَ جفنُ الحقِّ عنك وإنمَّا هيَ هدأةُ الرِّئبالِ قبلَ نفارِهِ لعلها هدأة الأسد قبل نفاره.

مواقف من الإخلاص

مواقف من الإخلاص صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم من الله، وأنعم به من تطلع لا يعدله شيء من تكريم الدنيا. صح أن أعرابياً قسم له النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر من الغنيمة وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قُسِم له، فجاء الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأدخل الجنة -وأشار إلى حلقه- فقال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا لقتال العدو، وكان له ما أراد، إذ أتي به يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه الله، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه، ودعا له، ثم قال: اللهم هذا عبدك، خرج مجاهداً في سبيلك؛ فقتل شهيداً وأنا عليه شهيد}. أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال قائلهم؛ وهو جابر بن عبد الله: [[والذي لا إله إلا هو! ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة]]. وهاهو أبو الحسن علي رضي الله عنه يوم الخندق يرى عمرو بن ود -فارس العرب بلا منازع- وهو يجتاز الخندق ويندب المسلمين للمبارزة، فيتقدم علي لمبارزته، فيندب الثانية وقد استصغر علياً فيخرج له علي فيندب الثالثة للمبارزة، فما لها إلا علي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روي عنه-: {أخرج إليه منصوراً}، فكان اللقاء، وما هو إلا قليل حتى قتله علي رضي الله عنه. فأين تربَّى علي؟ تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب الإخلاص والتجرد والصدق. والأمرُ من معدنِهِ لا يُستغربُ والفرعُ للأصلِ حتماً يُنسبُ صدقوا ما عاهدوا: فاتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو؛ ركلوا العُجْب والكبر والغرور، فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء في حبور. يقال لأحدهم: يا مراءٍ! فيقول: متى عرفت اسمي؟ وآخر في الحج وقد ازدحم الحُجَّاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء. فيقول: ما عرفني إلا أنت. ويؤتى بالثالث ويقف يوم عرفة آخر النهار متذللاً خاضعاً خاشعاً، قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -وهي من ذنوب وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله! ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي، اللهم لا تردهم من أجلي. ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطْلقهُمْ مِنْ عِقَالٍ وبقيناً أُسَرَاءْ ما لنا نحنُ عَجِبنَا واغْتَرَرْنَا أوَ لسْنَا كُلُنَا طيناً ومَاء لو تبعنا في الهدى آثارهم لانطلقنا وسمونا للعلاء

أقوال في العفو والصفح عن الآخرين

أقوال في العفو والصفح عن الآخرين صدقوا ما عاهدوا: فعفوا وصفحوا. وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم: {لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] كل ذلك يرجون ما عند ربهم. يقال لأحدهم: إن فلاناً من الناس يقع فيك، فيقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]. ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض}. يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. ويقال للثالث: إن فلاناً يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟! من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك. أيها الأحبة: إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج، وبعضنا -ويا للأسف- يتخذ أخاه هدفاً ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح ويعدل ويشي. وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة، ولأولئك أقول: وا أسفاه يوم تسود صحف التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح، ليست المنزلة -والله- بأن تنال لقباً بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزاً، وأن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلاناً. صدقوا ولم نصدق: قلوب امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل -والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛ يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل، مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة. يمر أبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14].

حب الصحابة لرسول الله

حب الصحابة لرسول الله صدقوا في حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحرصوا على رؤيته وصحبته، وقد كان فَقْد صحبته ورؤيته صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من كل شيء. أحبوه وبذلوا المال والنفس والنفيس دونه صلى الله عليه وسلم. أحبوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه. أحبوه فنصروا سنته، وذبُّوا عن شريعته، وما أحدثوا في حبه ما لم يشرع. فليحذر الذين ادعوا حبه ولم يتبعوه واتبعوا أهواءهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، لقد سدَّ الله سبحانه وتعالى دون جنته الطرق، فلن تفتح الجنة لأحد إلا من طريقه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. أحبوه حتى جاء أحدهم إليه يفكر فيما بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي ومن ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، فإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنا إن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يجبه صلى الله عليه وسلم ليتنزل الجواب قرآنا يتلى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].

دليل المحبة عند ربيعة

دليل المحبة عند ربيعة ويقول صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة الأسلمي: {سل شيئاً يا ربيعة! قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: ما هو إلا ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}. كان الناس يسألون ما يملأ بطونهم، ويواري جلودهم مما هم فيه، أما المحب فلا يريد إلا مرافقة حبيبه في الدنيا والآخرة.

أبو بكر وشدة حبه لرسول الله

أبو بكر وشدة حبه لرسول الله وبعد عام من وفاته صلى الله عليه وسلم يقف أبو بكر رضي الله عنه على المنبر ويقول: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف من عامي الأول، ثم استعبر أبو بكر وبكى، ثم قال أخرى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يملك أن خنقته العبرة فبكى، ثم قال ثالثة فخنقته العبرة فبكى، ثم قال -لا يسمع صوته من نشيجه- قال صلى الله عليه وسلم: لم تؤتوا شيئًا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فسلوا الله العافية} نسأل الله العافية.

مواقف دلت على حب رسول الله

مواقف دلت على حب رسول الله أما سعد بن الربيع فهو في آخر رمق يجده زيد بن ثابت بين القتلى، وإذا به يقول: [[بلِّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شِفْر يطرف]]. والآخر يقول يوم أحد وقد كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويجالد فيقول: [[لا تشرف يصبك سهم، نحري دون نحرك يا رسول الله!]] أحبوا فامتثلوا أوامره وبينما بعضهم يصلي صلاة العصر إذ حولت القبلة إلى الكعبة، فمرَّ عليهم رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وُجِّه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم}. نزل تحريم الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فأريقت الخمر حتى جرت بها سكك المدينة ولسان حالهم ومقالهم: انتهينا انتهينا. خلع صلى الله عليه وسلم نعليه وهو يصلي فألقوا نعالهم وراءه، فسألهم: {لم فعلتم ذلك؟ قالوا: رأيناك ألقيت فألقينا، فأخبرهم أن جبريل أتاه فأخبره أن فيهما قذراً}. يقول يوماً وابن رواحة قادم إلى المسجد يريد الدخول: اجلسوا عباد الله! أو كما قال صلى الله عليه وسلم فيجلس ابن رواحة خارج المسجد، ما وسعه إلا الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فيفعلها حبّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحب اتباع لا ابتداع. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بذهب إلى عمر ويقول له: [[انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. قال: فلما انتهينا إليها ورأتنا بكت، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. قالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، ولكن أبكي لأن الوحي انقطع من السماء بموته صلى الله عليه وسلم، ثم انفجرت تبكي رضي الله عنها، فهيجتهم على البكاء، فجعلا يبكيان معها]] إيه يا أم أيمن. يا أم أيمن قد بكيتِ وإنَّنا نلهُو ونمجنُ دونَ معرفةَ الأدب لم تبصري وضع الحديثِ ولا الكذب لم تبصري وضع المعازفِ والطرب لم تشهدي شرب الخَمور أو الزنا لم تلْحَظِي ما قدْ أتانا من عطَب لم تلحظي بدعَ الضلالةَ والهوى لولا مماتُك قدْ رأيتِ بنا العَجَب لم تعلمي فعل العدو وصحبِهم ها نحن نجْثُو لليهودِ على الرُّكَب واحرَّ قلبي من تَمَزُّقِ جَمعِنا أضحتْ أمورُكِ -أمتي- مثلَ اللعب تالله ما عَرفَ البكاءُ صراخَنا ومع التباكي لا وشائجَ أو نَسَب كيف لا يحبونه وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربه، فكان لهم قائداً ومربياً وأباً ورسولاً نبياً، وسراجاً منيراً؟! ولن يؤمن أحد حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ماله وولده وأهله ونفسه والناس أجمعين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وذلك هو الحب أيها الأحبة. إن هذا الحب العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدته، ومع مفاداتهم له بالنفس والنفيس، فإن عقائد المسلمين استقامت بفضل الله، ولم يتجاوزوا صفة النبوة، ولم ينسبوا إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم صفة الألوهية، ولم يعبدوه من دون الله، بل كان صوته يجلجل في عقولهم ويرددون قوله: {أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} القرآن يذكِّر ببشريته: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] والقرآن يذكر أنه يصيبه ما يصيب البشر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فالاتباع خير لو كانوا يعلمون.

أمنيات الصحابة وهممهم

أمنيات الصحابة وهممهم صدقوا الله حتى في أمنياتهم وهممهم، وهمم أهل الدين يجب أن تكون أعلى وأسمى. هكذا كانت مطالب الصحابة رضوان الله عليهم وأمانيهم، اجتمعوا يوماً من الأيام فقال قائلهم: تمنوا. فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل. وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجواهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف. وأما خالد فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، يصبِّح فيها العدو؛ ليجاهد في سبيل الله. وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: [[أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة؛ أستعملهم في طاعة الله]] رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله. يا أيها الأحبة: يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم؛ فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال! كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كـ أبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة. كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كـ أبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير. كم هي حاجة الأمة لأمين كـ أبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام. تداعت علينا الأمم كتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة والله، ولكن لأننا غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا الموت، فكان ما كان. كأني -والله- بقدوة من أولئك الصادقين يقول بلسان حاله وهو مرابط في قبره: وا أسفاه! وا أسفاه! أأنتم أحفادنا؟ أأنتم من قرأتم القرآن؟! أأنتم من درستم سيرة المختار؟! وا أسفاه! نقشتم وصايا المختار على الجدران والأحجار، وكان الأحرى أن تنقشوها على الجنان! وا أسفاه! أما قلت لكم: أقيموا الصلاة؟! فما بالكم تركتم الصلاة، وغادرتم المساجد لتعمروا المسارح والملاعب والملاهي؟! وا أسفاه! أما قلت لكم: صوموا رمضان، وقوموه إيماناً واحتساباً؟! فما بالكم تجعلونه شهر الطعام والفوازير والسهر على الحرام مع ضياع الأوقات؟! وا أسفاه! ألم أقل لكم: تصدقوا؟! فما بالكم بخلتم فما تنفقون درهماً! إلا على أقدام راقصة أو لاعب أو صاحب مزمار أو آلة دمار وعار وأي عار؟! وا أسفاه! ألم أقل لكم: حجوا واعتمروا؟! فما بالكم جُبْتُم أقطار الدنيا، وبيت الله منكم على مرمى حجر يهجر؟! أأنتم بشر؟ وا أسفاه! تغرقون في أزقة الغرب ومواخيرها، ولا تعرفون الخندق ولا بدراً ولا أحداً ولا الحديبية! لا تعرفون المقام ولا الحطيم ولا زمزم، وتعرفون أزقة باريس وما أشبهها! ألم أقل لكم: انصحوا والدين النصيحة؟ فما بالكم أتقنتم صفة النفاق تَغُشُّون وتُغَشُّون، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة! وا أسفاه يا رجال الحق! يا رجال الحق قد جلَّ الأسى أرجال منْ أرى أمْ لا أَرَى؟ ضاعت الأمةُ فِي غفلتكم وتحيرنا لأمرٍ حيَّرا الجوى ينخر في أحشائِكم والهوَى بَينَ خوافِيكُم سَرَى اسألوا عن كلِّ نصرٍ خالداً واسألوا عن كلِّ عدلٍ عمرا يا رجالَ الحق قدْ طالَ الجوَى وبلغَ السيلُ الزبا وانحدرا أنتم القدوة والناسُ بكم تقَتدي فَخراً وتَزْهُو مَفخَرَا وحِّدُوا أشتاتكم واتحدوا واربطُوا أحلامَكم ربطَ العُرَى واصبروا إن عَظُمَ الخطبُ فما يدرك النصرَ سِوى مَنْ صبرا وانصروا الله يَهبْكُم نَصرَهُ واشكروه يُعط من قد شَكَرَا صدقوا ما عاهدوا: فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين؛ رضي الله عنهم أجمعين. أحبتي في الله: هذه بعض الصفات للصادقين الغر الميامين؛ نوجه الجميع للنظر فيها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] والاقتداء المطلق كما تعلمون بنبي الله صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوتهم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ثم يكون الاقتداء بالصالحين الصادقين في الجانب الذي تميز كل واحد فيه بما ينطبق مع أحكام الشرع ومقاصده، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دروس مستفادة من حياة الصحابة

دروس مستفادة من حياة الصحابة وأخيراً وبعد هذه الجولة في رياضهم: فإني أدعو الجميع من خلال ما سمعتم إلى أمور، وأسأل الله عز وجل ألا نكون من الذين إذا نزلوا بقوم خرجوا من عندهم حتى يدعوا الله عز وجل أن يفرج عنهم. هذه أمور من خلال ما ذكر أريد أن أنبه إليها ولعلها خلاصة.

لا تحقرن من المعروف شيئا

لا تحقرن من المعروف شيئاً أولاً: لا تستقلوا قليلاً، ولا تستكثروا كثيراً، وأحسنوا النية؛ فربَّ صغير تعظِّمه النية، ورب عظيم صغرته النية. والقليل أولى من القعود، حتى لو كان حديثاً لأهل، أو كلاماً لطفل، أو مسحاً لرأس يتيم، أو تبسماً لجار، أو نصحاً لرفيق في عمل، أو استماعاً لكلمة أو محاضرة أو قراءة قرآن، حتى لو كان ذلك في السيارة، وداوم فأحب العمل أدومه وإن قل، وكل ذلك يكسب الأجر، ويلحق بالركب. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].

ألحق الطاعة بالطاعة

ألحق الطاعة بالطاعة ثانياً: إذا فرغت فانصب: إذا فرغت من طاعة فانصب في طاعة أخرى، ألحق العمل بالعمل، والتعب بالنَصَب، ولا تغتر بالرأي؛ فالحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى بها. ما ضرك أيها المؤمن بدلاً من صرف الوقت فيما لا ينفع أن تتناول كتاباً لتقرأه وتلخصه، أو تستمع لمحاضرة، أو تطالع في سير الصحابة؟! وما أكثر الأعمال! بل والله أين الأوقات؟ زيارة تكسب فيها صديقاً، أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، تعرفاً على تاجر يعين أنشطة الدعوة الإسلامية بماله، بحثاً عن شيخ يؤثر في مستمعيه، درساً للزوجة والأطفال ولو بالقراءة من كتاب، زيارة للمقابر، ذكراً وتذكراً للآخرة، حضور الجنائز، كثرة السنن، قيام الليل، صيام التطوع، صدقة السر، كل ذلك يكون في غير توان ولا بطالة؛ فإن التواني والبطالة -والله- لا يولدان إلا الخزي والندامة، على حد قول القائل: تزوجت البطالة بالتوانِي فأولَدَهَا غُلاماً مع غُلامَة فأمَّا الابن سموه بفقرٍ وأما البنت سموها ندامة إن تيار الحياة محدود، وفرصة العيش بها قصيرة، فسددوا وقاربوا ولا تجهدوا أنفسكم فتملوا وتتركوا عملكم، وكونوا كما قيل: يمشي الهوينا ويجي في الأول

الاستعجال من الشيطان

الاستعجال من الشيطان ثالثاً: لا تستعجلوا؛ فإن الاستعجال يقود إلى الفشل، فتضطر إلى تكرار العمل، فلو جمعت الوقت الأول مع وقت الإعادة لكان أطول من وقت واحد. أقول هذا لبعض المتعجلين الذين يتهمون أهل الأناة بالتباطؤ؛ لأنهم هم يستعجلون، وليتهم يفلحون ويعملون، لكن لا حاجة يدركون، ولا أرضاً يقطعون، ولا ظهراً يبقون، ولا لساناً يكفون، وفي ذلك يستعجلون: منا الأناةُ وبعضُ القومِ يحسبُنَا أنا بطاءٌ وفي إبطائِنَا سرع

اترك الفراغ

اترك الفراغ رابعا: إياكم والفراغ! فإن من مقت الإنسان أن يكون فارغًا ليس في عمل دنيا ولا آخرة، والوقت هو الحياة فلا يضيع، وما هذا المخيم إلا مساهمة في استغلال الوقت: دقات قلب المرء قائلة له إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني

المسارعة في التوبة وطلب الخيرات

المسارعة في التوبة وطلب الخيرات خامساً: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه ذلك الباب إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون إن حياة بعض الأخيار لا تخلو من ذنوب تضخم أحياناً لحاجة في نفس، ولكني أقول للأخيار -ووالله ما أظن من حضر إلا أخياراً-: إن التوبة تعدل ذلك كله ولا ضير، فصاحب التوبة على كل حال في خير، وكل منصف يعلم أن الكثير من أبناء الأمة غثاء، غفلات وشهوات، شطط وفساد، وعدوان وعداوات، فيهم كل منخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع، فيهم من لوَّثه الربا، وأذهله الخمر. والأخيار -وما أنتم إلا جزء من الأخيار- رغم كل شيء هم أهل المناقب والصدق والعفة، ولا ننزِّه أحداً، ولا نزكِّي أحداً؛ فكلنا ذوو خطأ. من لم يلحظ هذا فهو عن ميزان العدل ناكب! يليق بكم -يا أيها الأخيار- أن تثقوا بأنفسكم أنكم أمثل من على الساحة، وأنكم أهل للإصلاح، وأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أهل لأن تأخذوا الزمام، فلا تلتفتوا إلى وسوسة شيطان أو أكاذيب ملا، أو تخذيل مخذِّل، ولكن اعملوا، ومن أخطأ فليتب. ووالله! ثم والله! ثم والله! لا يسعكم القعود، إبرأوا ممن إذا أقدمتم أحْجَم، وإذا أعربتم أعجم، ألحقوا العمل بالعمل؛ فالعمل يدفع إلى العمل، والحسنة تقود إلى الحسنة، والحركة تولِّد الحركة، والطاعة تجلب الطاعة، وليكن لسان حال الواحد منا: أغارُ عَلَى أمَّتِي أنْ تَتِيهَ بِهَوْجِ العَوَاصِفِ فِي العيلَمِ وتقْعُدُ صَمَّاءَ مَضْرُورَةً وتطربُها لغةُ الأَبكَمِ وتَشْغَلُهَا سَفْسفَاتُِ الأمورِ عن الفَرض والواجبِ الأقدَمِ وتدْفِنَ آمَالَهَا بالضُّحَى وتُمسِي وتُصْبِحُ فِي مَأْتَمِ تُناشِدُ أبْنَاءَهَا عروةً مِنَ الدِّينِ والحَقِّ لَمْ تُفْصَمِ وتَرْجُو لِعِلاتِها مَرْهَماً وَلَيْسَ سِوَى الدِّينِ مِنْ مَرْهَمِ أخِي لا تَلِنْ فالأُلى قُدوة لِمِثْلِي ومِثْلِكَ في المَأزَمِ لهم قدرهم باعتبارِ الرِّجالِ وسُمْعَتُهُم فِي ذُرَا الأْنجُمِ تقَدَّمْ فَأنْتَ الأَبِيُّ الشُّجَاعُ ولا تتهَيَّبْ وَلا تُحْجمِ علَيْكَ بِهَدْي الرَّسُولِ الكَرِيمِ ومنهاجِ قرآنك المُحْكَمِ تحرَّكْ فَأَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ ولو أثَّرَ القيدُ فِي المِعْصِمِ فلا تَتَنَازَلْ ولا تَنْحَرِفْ ولا تتشاءَمْ ولا تَسْأَمِ ولا تكُ مِنْ معشرٍ تافهٍ يَقِيسُ السَّعَادَةَ بالدِّرْهَمِ يعيشُ وليسَ لهُ غايةٌ سِوَى مشرب وسوى مطعم

لتكن لك خبيئة عند الله

لتكن لك خبيئة عند الله أخيراً: ليكن لكل واحد منا خبيئة من عمل، لا يعلم بها إلا علام الغيوب؛ فلعلها الباقية النافعة. أحبتي في الله: عليكم بمدارسة القرآن، ومدارسة السنة، ومدارسة السيرة، واقتدوا بجيل الصحابة، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وما أقوله للرجال أقوله للنساء، ما يقال لهم يقال لهن، ولا أريد أن أزيد على ذلك فقد أطلت. أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجمعنا وإياكم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم يا ذا العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم. وانصرهم على من بغى عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم. اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم. اللهم قوِّ شوكتهم، واجعل الدائرة على عدوهم. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

عوامل بناء النفس

عوامل بناء النفس النفس بطبيعتها ذات طموح إلى الشهوات، ونكوص عن الطاعات، لكن قمعها عن رغباتها إلى رغبات الدين فيه عزها وتمكينها. والناس في بناء النفس مختلفون، يظهر ذلك من خلال استقبال المحن والمنح والإغراء والتحذير، فمن أسس بنيانه على رضوان الله فلا تضره فتنة، وأما من أسس بنيانه على شفا جرف هار فهو كالريشة، تتلاعب به رياح الفتن.

الصنف الأول: بنوا أنفسهم على الحق

الصنف الأول: بنوا أنفسهم على الحق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلِّم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجعل هذا الجمع في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات. أما بعد: أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيِّض وجوهنا يوم نلقى الله {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الصَّاخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:24 - 37].

التباين في بناء النفس

التباين في بناء النفس اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى. ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى. فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ فلا تشتغل إلا بما يُكسب العلى ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّناً جليّاً واضحاً، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة، ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة، صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسراً وعسراً، ثم عمل موازنة، فوجد أن الدهر يومان ذا أمن وذا خطر والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَأَس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبداً، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسان، حال هذا الصنف: أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ مني وشفرة سيف الهند في طرف فلا أبالي بأشواك ولا مِحَنٍ على طريقي ولي عزمي ولي شغفي ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل من كثير.

سعد بن الربيع بناء ثابت

سعد بن الربيع بناء ثابت هاهو مجاهد، جريح من جرحى أحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات. فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟ اسمع ما رواه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه في القتلى، وقال لي: {إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟} قال زيد: فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة -ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟ - وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه رحمه الله. ثبت سعد وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، فما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه. ولئن انتقلت بعيداً عن هذا لوجدت الخير في الأمة لا يزال وسيبقى بإذن الله عز وجل.

الزهري لا تغيره محنة أو منحة

الزهري لا تغيره محنة أو منحة ها هو الزهري عليه رحمة الله ذلكم المحدث الكبير الذي يدخل على هشام بن عبد الملك، فيقول هشام للعلماء -وكانوا حوله-: من الذي تولى كِبر الإفك في حادثة الإفك؟ -وكان هشام يدعي أن الذي تولى كبره هو علي رضي الله عنه وأرضاه، فقال هشام لـ سليمان بن يسار: من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ، فقال هشام: كذبت، هو علي بن أبي طالب، فقال سليمان: الأمير أعلم بما يقول، ثم قال للآخر: من الذي تولى كبره؟ فأجابه وكذَّبه. ثم وصل الدور إلى الإمام الزهري عليه رحمة الله ذلكم الرجل الذي نحسب أنه أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فقال له هشام: من تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ -عليه من الله ما يستحق- قال: كذبت، فانتفض الإمام الزهري، وقال: أنا أكذب لا أبا لك! والذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: أن الكذب حلال ما كذبت، والذي لا إله إلاَّ هو لقد حدثني سعيد وعروة وعبيدة وعلقمة عن عائشة بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي، فارتعد هشام وانتفض، وقال: هيَّجناك يا إمام سامِحْنا، سامِحْنا. إنه الثبات! وإنه بناء النفس الذي لا يضره أي موقف يتعرض إليه من محنة أو منحة! وقبل هذا وذاك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

يوسف عليه السلام الثبات بكل معانيه

يوسف عليه السلام الثبات بكل معانيه هاهو يوسف عليه السلام في عنفوان شبابه، وفي قمة نضجه؛ تخرج وتبرز إليه امرأة العزيز الجميلة، بأبهى حُلَّة، متعطرة، متبهرجة، مبدية لمفاتنها، قد غلَّقت الأبواب، ودَعَتْهُ بصريح العبارة ولم تُكنِّ، فقالت: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] أقبل {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. ولم تقتصر الفتنة عند ذلك؛ بل ازدادت سعيراً حين شملت نساء عِلْيَة القوم؛ حين أُعجِبْنَ بيوسف -عليه السلام- وفُتِنَّ برجولته وجماله؛ فأخذن يطاردْنَه يُردْنه أن يعمل بهن الفاحشة، وتبلغ الأمور ذروتها يوم تأتي امرأة العزيز تهدده، وتقول: {وَلَئِن لمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونن من الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] فماذا رد؟ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. إنه ثبات أنبياء الله أمام الشهوات وأمام التهديدات، عليهم صلوات الله وسلامه، وهم الأسوة والقدوة. إنه الثبات بكل معانيه، والثبات بكل مبانيه أمام الشهوات وأمام الشبهات، والذي لا يوفَّق له إلا مَنْ علم صدقَه ربُّ الأرض والسماوات.

الإمام أحمد ذهب أحمر

الإمام أحمد ذهب أحمر لا يَخْفَاكُم إن خَفَاكُم شيء ما لقيه الإمام أحمد في سبيل عقيدته من أذى وتعذيب، تُخلَع يداه، ويُجلد السياطَ الكثيرة، يختار الظالمون له عدداً من قساة القلوب، وغلاظ الأفئدة ليجلده كل واحدٍ منهم سوطيْن بكل ما أوتي من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبداً، يغمى عليه من شدة التعذيب ثم يفيق، فيعرض عليه الأمر فلا يتراجع، حتى انتصر بإيمانه وبناء نفسه، وبتوفيق الله قبل هذا وذاك، وكان انتصاره دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة. لقد خرج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخل في الكِير فخرج ذهباً أحمر، وتواطأت القلوب على محبته، حتى أصبح حبه شعاراً لـ أهل السنة. فأين الذين عارضوه؟ وأين الذين عذَّبوه؟ وأين الذين نالوا منه؟ ذهبوا إلى ما قدموا. وبقي حيّاً بذكره، والذكر للإنسان عمر ثانٍ، والبغي مهما طال عدوانه، فالله من عدوانه أكبر.

العز بن عبد السلام الإباء والاستعلاء

العز بن عبد السلام الإباء والاستعلاء وتتعاقب النماذج الثابتة المبنية في هذه الأمة، والخير فيها ولو خلت لانقلبت -كما قيل-. ويتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، والثمن تسليم ديار المسلمين، فشهد ذلك الأمر العز بن عبد السلام، وشقَّ عليه الأمر، شقَّ على سلطان العلماء، فأنكر ذلك أيَّما إنكار، وترك الدعاء لـ إسماعيل، وعندئذٍ كتب جواسيس السلطان الذين بثَّهم لاستراق السمع بذلك، ورفعوا التقارير الظالمة، وحرَّفوا القول وزخرفوه، فجاء كتاب السلطان باعتقال العز بن عبد السلام عليه رحمة الله. فسجن وضُيِّق عليه، ثم أطلق ومُنع من الخطابة والتدريس، ومُنع من الاجتماع إليه، وخرج مهاجراً إلى أرض مصر، فأرسل له السلطان رسولاً وطلب منه التلطف مع العز، وعرض عليه بعض الأمور علَّه أن يلين أو يَهِن أو يضعف. وقال: إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله في خيْمة بجانب خيْمتي. فذهب رسول السلطان إلى سلطان العلماء، وقال له: يا إمام! بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فأبى سلطان العلماء إلا الثبوت على محض الحق، وقال قولاً خرَّ من هوله ذلك الرسول صعقاً. قال: يا مسكين! والله الذي لا إله إلا هو ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فأرغى رسول السلطان وأَزْبَدَ وهدده، وأعلن اعتقال الشيخ على الملا، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فاعتقلوه في خيمة بجانب خيمة السلطان، فأخذ الشيخ يرتل آيات الله البينات، يتصل بالله عن طريق التعبد بكلام الله. وكان بعض ملوك الصليبيين عند ذلك السلطان، فقال هذا السلطان: أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال: هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم، فلما سمع ملوك الفرنجة هذه الميوعة الرخيصة من ذلك السلطان أرادوا أن يهينوه ويُذلُّوه؛ لأنه هان واستمرأ الهوان فقالوا: والله لو كان هذا قسيسنا لغسَّلنا رجليْه وشربنا مرقتها. ثم انتصر المسلمون بعد ذلك على الصليبيين، ونجَّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، فدخل مصر آمناً لم يقدم تنازلاً، وازداد في الحق صلابة، فرحمه الله. إنه بناء النفوس، إنه الإباء والاستعلاء، إنها ليست كبرياء إنما هي عزة العقيدة وعلو الراية ولاشك، ولقد تعرض البناة لأنفسهم في كل العصور لمواقف فنجحوا فيها بفضل الله.

بناء النفس يظهر في الفتن

بناء النفس يظهر في الفتن أحدهم يصدع بكلمة الحق فيشْرَق بها المنافقون والظالمون، ويذيقونه في سبيلها ألواناً شتى من التعذيب في السجن لا تضاهيها إلاَّ ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتطارده الساعات، ثم تنقض على لحمه، تنهشه نهشاً إذا توقف عن الجري وهو صابر ثابت، معتصم بالله، لم يرده ذلك عن هدفه، ولم يصده عن بغيته وغايته، فأغاظهم ذلك فماذا يفعلون؟ حكموا عليه بالقتل، وتلك -والله- فتنة أيما فتنة، ثم جاءه الإغراء أن استرحِمْ ذلك الظالم ليخفف عنك الحكم، فقال في إباء واستعلاء: لئن كنت حوكمت بحقٍ فأنا أرتضي الحق، وإن كنت حوكمت بباطل؛ فأنا أعلى من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي التي تشهد لله بالوحدانية كل يوم مرات لترفض أن تقر حكم ظالم أيّاً كان ذلك الظالم ثم يقاد إلى حتفِه، ولسان حاله: الله أسعدني بظل عقيدتي أفيستطيع الخلق أن يشقوني ويأتي أحد علماء السوء الذين باعوا دينهم بعرَضٍ من الدنيا، وما بنَوْا أنفسهم ليلقنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله فيتبسم تبسم المغضب، ويقول: يا مسكين! أنا أقاد إلى الموت من أجل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكل فتات الموائد بلا إله إلا الله، لا نامت أعين الجبناء. إنه البناء الحقيقي للأنفس، إنها الثقة بأنهم على الحق، إنها الثقة بغلبة دين الهدى على دين الهوى وبقوة الله على كل القوى. لا تظنوا -يا أيها الأحبة- أن البناء في الرجال فقط، إنه كذلك في النساء والأطفال.

محمد بن عاصم وبذله من أجل العقيدة

محمد بن عاصم وبذله من أجل العقيدة هاهو أحد المحدثين بـ خراسان، واسمه محمد بن عاصم عليه رحمة الله له بُنيات صغار، لا ولد ذكر يقوم عليهن، انتقل إلى بغداد يوم سمع بمحنة الإمام أحمد ليحدث الناس، ويسد ثغرة قد فُتِحَت في ذلك البلد، ترك بنياته بـ خراسان، وسمع في بغداد بتلك المحنة، فانطلق إلى الإمام أحمد، وقد علم أنه سُجن وعُذِّب وأوذي في الله عز وجل، فقال لأصحابه - وهو يحدث يوماً من الأيام في حلقته-: ألا نقوم فنقول كلمة الحق؟ وقام ليقولها، وتذكر بنياته اللاتي تركهن في خراسان، وعلم أن رجلاً يقوم ليقول كلمة في ذلك المقام ما عاقبته إلا الموت. وهو في هذا الصراع مع نفسه يأتيه كتاب من بنيَّاته يقلن له: يا أبانا! إنا قد سمعنا أن الرجل قد دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، وإنا نأمرك بألا تجيب؛ فوالذي لا إله إلا هو -يا أبانا- لأن يأتينا نعْيُك أحبُّ إلينا من أن نسمع أنك قلت بخلق القرآن. الله أكبر! إنه البناء في أوساط النساء، وفي أوساط البنات، وفي أوساط الرجال، أُسَرٌ لم تعرف إلا ربها فهان في سبيله كل شيء، واستعذب في سبيله كل صعب. كل بذل إذا العقيدة ريعَتْ دون بذل النفوس بذل زهيد مسلم يا صعاب لن تقهريني في فؤادي زمازم ورعود لا أبالي ولو أُقيمت بدربي وطريقي حواجز وسدود من دمائي في مقفرات البراري يطلع الزهر والحيا والورود هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها، لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهناً عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزناً على فائت من الدنيا؟ إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، وليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئاً. هذا هو الصنف الأول من الناس، ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف.

الصنف الثاني: بنوا أنفسهم على شفا جرف هار

الصنف الثاني: بنوا أنفسهم على شفا جرف هار أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ، يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، يذوب أمام المحنة فلا يتماسك، يلعب بعواطفه الخبر البسيط فلا يثبت، يطير فؤاده للنبأ الخفيف فلا يسكن، فؤاده هواه، يعيش موزعاً بين همِّ حياة حاضر ومفاجآت تنتظر، لا تطمئن لقوله، ولا تثق في تصرفاته، بصره زائغ، عقله فارغ، أفكاره تائهة، مغلوب على أمره، لا ينفع في ريادة ولا يُعتمَد عليه في ساقة، جبان مفتون فرَّار غرَّار. يوماً يمانٍ إذا لاقاه ذو يمنٍ وإن تلقى معديّاً فعدناني مثل هذا كالشجرة لا جذور لها ولا ثمرة، لا تثبت أمام الريح، ولا تقوى على مقاومة الآفات، أو كالبناء بلا أساس، سرعان ما يخر سقفه على من فيه، فهو قلق بائس متردد، تعصف به الفتن، وتدمره المِحَن، إن عذلته لم يرعوِ، إن خاطبته لم يفهم. ومن البلية عدل من لا يرعوي عن غيِّه وخطاب من لا يفهم إن المؤمن ليقف شامخاً وهو يرى مثل هذا الصنف البائس، وقد غرق في شهواته الهابطة، وفي نزواته الخليعة السافلة يَعُبُّ منها، لكنها حكمة الله البالغة، التي أرادت أن يقف الإيمان مُجرَّداً من الزينة والطلاء، عاطلاً عن عوامل الإغراء، لا هتاف لذة، ولا دغدغة شهوة، وإنما هو الجهد ليقبل عليه من يقبل وهو على يقين أنه يريد الله والدار الآخرة، ولينصرف عنه من يبتغي المطامع والمنافع الدنيوية، ومن يشتهي الزينة ويطلب المتاع؛ ليحيا من حيَّ عن بينه ويهلك من هلك عن بينة.

ملك غسان وبناؤه المنهار

ملك غسان وبناؤه المنهار هاهو أحد الساقطين الذين بنوا أنفسهم على شفا جرف هار فانهار بهم، إنه جبلة ملك غسان، أسلم وجاء المدينة في موكب عظيم بحاشيته وجنده، ففرح المسلمون بإسلامه كثيراً، فخرجوا للنظر فيه وفي موكبه، فإذا الخيول معقودة أذنابها، وسلاسل الذهب في أعناقها، وعلى رأسه التاج المُرَصَّع بالجوهر، وذهب إلى مكة وجعل يطوف بالبيت، وبينما هو يطوف إذ وطئ رجل فزاري إزاره، فلطم جبلة الفزاري فهشم أنفه، فشكاه الفزاريُ إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه. فبعث عمر إلى جبلة فأتاه، فقال له عمر: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد وطأ إزاري فلطمته، ولولا حرمتك لضربت ما بين عينيه بالسيف، فقال عمر: قد أقررت على نفسك بما فعلت؛ فإما أن تُرضي الرجل، وإلا أقتص له منك بهشم أنفك كما فعلت به. قال: وكيف ذلك وهو سوقة، وأنا ملك؟ قال عمر رضي الله عنه: الإسلام سوَّى بينكما. فلم يرَ جبلة مخرجاً إلا بإعطائه مهلة، فطلب مهلة إلى الغد ليلوذ بالفرار ليلاً؛ ويرتدَّ عن دينه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، سقط عند أول امتحان؛ لأن البناء لم يؤسَّس على تقوى، وإنما أُسِّس على شفا جُرُفٍ هارٍ. كيف يقوى على العواصف غرس جذره في ترابه موءود

أسباب بناء النفس

أسباب بناء النفس أحبتي في الله: بعد الذي سمعتم لعلكم أدركتم أن الحاجة العظيمة ماسَّة إلى بناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. ذلك لعدة أسباب لعلنا أن نقف عليها: أولاً: لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن -لا ريب- إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد -بالطبع- لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر. ثانياً: لكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر. ثالثاً: لأن المسئولية ذاتية، ولأن التبعة فردية: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا} [النحل:111]. رابعاً: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين. خامساً: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو أعجز وأقل من أن يبني غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه كما قيل.

من عوامل بناء النفس

من عوامل بناء النفس لذلك كله كان لابد من الوقوف على بعض العوامل المهمة في بناء النفس بناءً مؤسَّساً على تقوى من الله ورضوان؛ فها هي بين أيديكم -الآن- بعض العوامل غير مرتبة، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

من عوامل البناء التقرب إلى الله بما يحب

من عوامل البناء التقرب إلى الله بما يحب من عوامل بناء النفس: التقرب إلى الله عز وجل- بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله جل وعلا، وعلى رأس هذه الفرائض توحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعاً عظيماً لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله تبارك وتعالى، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء. يقول صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، كما في البخاري: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأًعيذنَّه} ومن فضل الله جل وعلا علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار، ولاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَملُّ ولا تَسْأَمُ. لكن علينا أن ننتبه في هذه القضية إلى أمور: أولاً: الحذر من تحول العبادة إلى عادة؛ لأن البعض يأْلَف بعض العبادات حتى يفقد حلاوتها ولذَّتها؛ فلذلك تراه لا يستشعر أجرها، فتصبح العبادة حركة آلية لا أثر لها في سَمْتٍ أو قول أو عمل أو بناء. ثانياً: الحذر من الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض؛ لأن البعض يُخطئ، فيهتم بالأدنى على حساب الأعلى -وما في العبادات دنيء- فيقوم الليل -مثلاً- ثم ينام عن صلاة الفجر، فليكن لك من كل عبادة نصيب، وعلى حسب الأهمية؛ كالنحلة تجمع الرحيق من كل الزهور، ثم تخرجه عسلاً مصفًّى شهياً سائغاً لذة للآكلين. ثالثاً: إذا تعارض واجب ومستحب؛ فالواجب مقدَّم ولا شك. رابعاً: التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ فالقلوب هي محل الفكر، ومحل التدبُّر، ومحل العلم، والقلب مع الجوارح -كما تعلمون- كالملك مع الجنود: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب}.

من عوامل بناء النفس المجاهدة

من عوامل بناء النفس المجاهدة من عوامل بناء النفس: المجاهدة: وكل فكرة لا يصحبها مجاهدة فهي في طريقها إلى الاضمحلال والذوبان والزوال، يقول الله جل وعلا: {وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ فجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتهمِ إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه طاقة عالية متمثلة في هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي؛ للتغلب على تلك المكاره التي حفَّت بذلك المطلب العالي، ألا وهو الجنة -نسأل الله من فضله- مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله عز وجل، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور، والله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. هاهو ثابت البناني عليه رحمة الله يقول: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها. لا شك -والله- أن هذا نتيجة مجاهدة وصل بها إلى الهداية من الله جل وعلا. ويقال للإمام أحمد: يا إمام! متى الراحة؟ فيقول -وهو يدعو إلى المجاهدة-: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة. إِي والله! إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها. وأعظم المجاهدة -يا أيها الأحبة- مجاهدة النيات: {فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُوراً} [الفرقان:23]. يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثوراً، مع أنهم كانوا يصلون مع المصلين، ويصومون مع الصائمين، ولهم من الليل مثل ما للمصلين وما للمخلصين، لكنهم إذا خلَوْا بمحارم الله انتهكوها؛ أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد نُسَّاك، لكن إذا خلَوا ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً مما يعملون؛ فالنيةَ النية! هاهو صلى الله عليه وسلم يتجه إلى تبوك من المدينة بجيش قوامه ثلاثون ألفاً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، وقت عسرة ووقت شدة حرٌّ ودنوّ ثمار في المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر رضي الله عنه ليقول: [[لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره فينحره، فيعتصر فرثه ثم يشربه]] الحال هذا بعضه. وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا التعب العظيم: {إن بـ المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، ولا وطئتم موطئاً يغيظ الكفار إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر قالوا: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم وهم بـ المدينة؟! قال: نعم، وهم بـ المدينة} إنهم -ولاشك- أقوام حسَّنوا نيَّاتهم. جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! زادٌ وراحلة، لا نملك ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا زاد ولا راحلة} {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] فبحسن النية بلغوا ما بلغ أولئك الذين سمعتم بعض ما حصل لهم. ولذلك يقول الإمام أحمد موصياً ابنه: يا بني! انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.

علامات الإخلاص

علامات الإخلاص ثم اعلم -يا أخي الحبيب- أن للإخلاص علامات اعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك وجاهدها وهي على سبيل المثال لا الحصر: أولاً: استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همّاً واحداً، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أشهد الله أني أمقتك على ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمت من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب. ثانياً: نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم هماً واحداً؛، هل تُقُبِّل هذا العمل أم لم يتقبل، و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. ثالثاً: الحب في الله: حباً يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]. رابعاً: إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفاً من دواعي السُّمْعَة والرياء [[فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل]]. لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل، ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] فما جزاؤهم؟ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفاً من دواعي السمعة والرياء. يصوم أحدهم يوماً، ويفطر يوماً لمدة أربعين سنة لا يعلم أهله به، كان حمَّالاً -يعمل حمالاً- يحمل غداءه معه في الصباح، فيتصدق به في الطريق على أحد المساكين، ويرجع في المساء ليتعشى مع أهله؛ فذاك إفطاره وهو عشاؤهم. بل إن ابن المبارك عليه رحمة الله كان يجاهد في سبيل الله، وكان يضع اللثام على وجهه لئلا يُعرف خوفاً على نيته أن يشوبها شائب من الشوائب. هل عاش أولئك يوماً من الدهر على وجه الأرض. إي والله اللهم إنا نشهدك أنَّا نحبهم، اللهم احشرنا وإياهم في زمرة الصالحين. إيمانهم بالله لا يتزعزع وضميرهم في الله لا يتزلزل قد أرخصوا في الله كل عزيزة ثم استقلُّوا فيه كل مُذلِّل ليست مبادؤهم حديث مُنمِّق زيف اللسان ولا كلام مجمِّلِ صارت مبادؤهم وصارت خلفها أفعالهم في موكب متمثِّل حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا في حملهن على الرماح الدُّبَّل الموت للجبناء منحدر وللهمم الصعود شتان ما بين الثعالب في المعامع والأسود

من عوامل بناء النفس: محاسبة النفس محاسبة دقيقة

من عوامل بناء النفس: محاسبة النفس محاسبة دقيقة من عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة؛ فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، إلى اللذات، إلى الهوى؛ فلابد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير. والأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. ما دمنا نعلم ذلك؛ فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع. لقد عرف السلف الصالح أهمية ذلك، فحققوها في أنفسهم. هاهو أحدهم - كما أورد ابن أبي الدنيا بسنده- جلس مع نفسه ذات يوم محاسباً في آخر عمره، نظر وقلَّب وفكر وقدر؛ فإذا عمره ستون عاماً، حسب أيامها فإذا هي تربو على واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فصرخ وقال: يا ويلتاه! أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة، هذا إن كان ذنباً واحداً؛ فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟! ثم خرَّ مغشياً عليه. فالمحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشية الله، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. والمحاسبة على أقسام: محاسبة قبل العمل: قف عند أول همِّك أو إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ أقدم وأخلص وجِدَّ وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن: {فمن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد} كما قال صلى الله عليه وسلم. ومحاسبة أثناء العمل: هل أنت مخلص صادق أم مراءٍ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله عز وجل ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه. ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع: أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع، وحق الله -كما تعلمون- في الطاعة ستة أمور: الإخلاص في العمل. ثم النصيحة لله فيه. ثم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم شهود مشهد الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه. ثم شهود مِنَّةِ الله عليك في التوفيق لأدائه. ثم شهود تقصيرك فيه بعد ذلك كله. أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيراً لك من فعله. وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلتها؟ ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه. ومما يعين على معرفة عيوب النفس أمور: ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الإخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله -سبحانه وتعالى- آمناً. والمؤمن للمؤمن -كما تعلمون- كاليدين؛ تغسِّل إحداهما الأخرى، وقد لا يُقلع الوسخ أحياناً إلاَّ بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة بعد ذلك ما يحمد به ذلك التخشين؛ فاصبر على مرارة التخشين بتعريفك بعيوبك من إخوانك، لتحمد ذلك ولو بعد حين. ومما يعين على معرفة العيوب، التأمل في النفس بإنصاف وتجرد؛ فمن تأمل في نفسه بإنصاف وتجرُّد عرف عيوبها، فإن عدمت عالماً، وإن عدمت قريناً صالحاً ولم تتأمل في نفسك بإنصاف -وإن شاء الله لا يعدم هؤلاء- فابحث عن عيوبك عند أعدائك، واستفد منهم؛ فالحكمة ضالتك. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا والكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.

من عوامل بناء النفس: طلب العلم

من عوامل بناء النفس: طلب العلم ومن أهم عوامل بناء النفس: طلب العلم المقرب إلى الله جل وعلا، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في تبليغه، أقول هذا لسببيْن اثنيْن؛ لأن العبادة بلا علم توقع في البدع، وما وقع المبتدعة فيما وقعوا فيه إلا عن جهل غالباً، ولأن العلم مادة الدعوة إلى الله جل وعلا، ودعوة إلى الله بلا علم قد تضر ولا تنفع، وقد يصاحبها الانحراف والضلال. وما الداعية بلا علم إلا كواقف على شاطئ البحر ينتظر وينظر؛ فإذا الأمواج تتقاذف سمكة من الأسماك يَمْنَة ويَسْرَة، تطفو بها تارة، وتغوص بها أخرى، فيشفق عليها مما هي فيه، فيأخذها، ثم يرميها على الشاطئ ظناً منه أنه أنقذها، وما علم أنه أهلكها، وإن للخير سبلاً، وكم من مريد للخير -يجهل العلم- لا يدركه. فيا طالب العلم: العلم هام لهاتيْن النقطتيْن، ولك خصال عند الله وميْزات قلَّما توجد لأي شخص من الأشخاص في هذه الحياة، اسمعها وعِها وقف عندها علَّها تكون لك حافزا: ً أولاً: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة} فأنت تسلك طريق الجنة ولا شك، قال ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ثانياً: الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع. ثالثاً: أهل السماوات والأرض -حتى الحيتان في جوف البحر- يصلون على معلم الناس الخير. رابعاً: الخيرية لك {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}. خامساً: النضارة والوضاءة في الدنيا والآخرة، فتجد وجوه طلبة العلم المخلصين عليها النور وعليها الوضاءة في الدنيا وتبيض: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع}. سادساً: التعديل والتزكية لا من البشر القاصرين المخطئين، ولكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين}. العلم أحلى وأغلى ما له استمعت أذن وأعرب عنه ناطق بفم. العلم أشرف مطلوب وطالبه لله أكرم من يمشي على قدم فقدِّس العلم واعرف قدر حرمته في القول والفعل والآدابَ فالتزم يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً فقد ظفرت ورب اللَّوح والقلم واجهد بعزم قوي لا انثناء له لو يعلم المرء قدر العلم لم ينمِ والنية اجعل لوجه الله خالصة إن البناء بدون الأصل لم يقمِ هذه المزايا العظام -يا أيها الأحبة- تحتاج في نيْلها إلى صبر ومصابرة ومجاهدة. فمن لم يصبر على ذل التعلم، بقي طول عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عز في الدنيا والآخرة. طالب العلم -يا أيها الأحبة- يحتاج إلى الصبر، لماذا؟ لأنه يحتاج إلى عالم يذهب إليه، يحتاج -بالطبع- إلى أن يتأدب معه، إلى أن يستأذن عليه، إلى أن يتلطف في السؤال، إلى أن يزاحم طلاب العلم بالرُكَب، إلى قسوة قد يجدها من العالم في لفظ يعنفه به أمام الناس، ومع هذا كله فإن الصعاب تُستعذَب في سبيل الجلوس مع العلماء، للتأدُّب بأدبهم، ونيل العلم الذي يكسبك خشية رب الأرباب؛ فأصل العلم خشية الله جل وعلا.

بناء العلماء لطلابهم

بناء العلماء لطلابهم وللعلماء -يا أيها الأحبة- خطة تربوية عظيمة في تأديب طلاب العلم سابقاً ولاحقاً، تتفاوت من عصر إلى عصر. جدير بنا أن نقف عند هذه الخطة التربوية، لقد كانوا يقسون على طلابهم قسوة عظيمة تصل بهم إلى حدٍّ لا يكاد يحتمل، لماذا؟ لأنها قسوة الحازم ليتأدبوا ويتعلموا. ومن يك حازماً فليقْسُ أحياناً على من يرحم روى الخطيب البغدادي في كتاب: شرف أصحاب الحديث أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الإمام الأعمش عليه رحمة الله أبي محمد سليمان بن مهران؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فكانوا يتهافتون عليه، فأراد أن يؤدبهم وأن يختبرهم ليرى هل هم صادقون أم ليسوا بصادقين. فاشترى كلب صيد، أول ما يسمع قرع الأقدام اقترب من البيت أطلقه عليهم، فيطردهم حتى يخرجوا خارج الحدود، ثم يرجع. وفي اليوم الثاني هل يئس أولئك الطلاب -طلاب العلم-؟ لا؛ بل عاودوا مرة أخرى إلى بيت الأعمش، وهم على حَذَر، وعلى خوف ووَجَل، ولما قربوا أطلق عليهم الكلب مرة أخرى حتى خرجوا خارج الحدود، ثم عاد. وفي اليوم الثالث يأتون، وما يئسوا وما فتروا وما قالوا: لا خير في هذا الإمام، وإنما علموا قدر ما عند هذا الإمام وقدره، فصبروا على كل شيء في سبيل أن يحصلوا على حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا في اليوم الثالث، وتقدموا على خوف ووَجَل يتوجسون أن يرسل عليهم الكلب، ووصلوا إلى البيت فلم يخرج عليهم شيء، فاستأذنوا على الإمام، فأذن لهم، ولمَّا دخلوا بكى، قالوا: ما يبكيك يا إمام؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يعني الكلب. ما ترون لو أن عالماً طرد طالب علم ناهيك عن أن يرسل عليه كلباً، هل سيرجع إليه في هذا العصر الذي ماتت فيه الهمم؟ كلا وألف كلا؛ بل لا يسلم من لسانه أبد الدهر؛ لأن الهِمَم ضعيفة، وأي عائق يعيق الضعيف، وأما السلف فلا، بل أقوياء أتقياء؛ فليكن لنا من سِيَرِهم دافع لأعمالهم. وتشير الأخبار عن الإمام الأعمش -أيضاً- إلى أن تلاميذه كانوا يحتالون عليه ليكتبوا عنه الحديث؛ نظراً لأنه يَضِنُّ عليهم بما لديه، لتربيتهم ولتعريفهم قدر هذا الحديث الذي يأخذونه عنه. ومن ذلك ما يرويه أحد تلاميذه -وهو عيسى بن يونس - يقول: خرجنا في جنازة من الجنائز، ورجل من طلاب العلم كان يقود الإمام الأعمش فلما دُفنت ورجعنا، عدل بالإمام الأعمش قليلاً قليلاً حتى أصحر به -يعني: حتى أصبح بالإمام في الصحراء- ثم قال: يا إمام! أتدري أين أنت الآن؟ قال: لا. قال: في جبّانة كذا وكذا، والله لا أردك حتى تملأ ألواحي هذه حديثاً، طالب علم حريص على الحديث، والأعمش لن يستطيع أن يعود إلى بيته، قال: اكتب، حدثنا فلان عن فلان حتى ملأ الألواح التي بين يديْه، ثم قفل به راجعاً، وهو يعرف ماذا سيكون من هذا الإمام؛ فلما دخل الكوفة، دفع الألواح لطالب علم آخر وقال له: خذها واهرب بها، وذهب بـ الأعمش إلى داره، ولما وصل تعلق الأعمش به، وصاح بالناس، وقال: خذوا الألواح من هذا الطالب، فقال: يا أبا محمد! قد فاتت الألواح. قال: كل ما حدثتك به كذب لئلا ينتفع به، فقال التلميذ -وهو يعرف إمامه- أنت أعلم بالله من أن تكذب. من يقول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب أبداً، وهو الصحيح فلم يكذب عليه أبداً. والسؤال المتبادر إلى الذهن -يا طلاب العلم- هل كانوا يبخلون ويضنون بالحديث على طلبة العلم؟ والله ما كانوا كذلك؛ فأحاديثهم تملأ دواوين الإسلام، لكنهم كانوا يُربون أيَّما تربية. إن هذه الطريقة -يا أيها الأحبة- دواء ناجح لكسر الشموخ والخيلاء التي توجد عند بعض طلبة العلم عندما يتعلم مسألة واحدة من مسائل العلم، فبعضهم يحضر إلى حلقة الشيخ، ويرى أنه هو الشيخ، وبعضهم يحضر إلى الحلقة وقد استحضر نسبه وماله وجاهه؛ فما له إلا أن يؤدب على التواضع للعلم والذل له ليناله؛ فلا ينال العلم مستكبر. ومن لم يذُقْ مر التعلم ساعة تجرَّع ذُل الجهل طول حياته فإذا حضرت مجلس علم -يا طالب العلم- فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً، لا حضور مستغنٍ بما عنده، ولا حضور طالب عثرة تشنعها، أو غريبة تشيعها؛ فهده أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في طلب العلم أبداً؛ فإذا حضرت على هذه النية فقد حصَّلت خيراً على كل حال؛ فإن لم تحضر وهذه النية معك فجلوسك في منزلك أروح لبدنك، وأكرم لخلقك، وأسلم لدينك؛ فإذا حضرت مجلس العلم فإما أن تسكت سكوت الجهال؛ فتحصل على أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس؛ فإن لم تفعل فاسأل سؤال المتعلم؛ فما صفة هذا السؤال؟ أن تسأل عما لا تدري، ولا تسأل عما تدري؛ فإن السؤال عما تعلمه سُخف، وقلة عقل، وقطع لزمانك ولزمان غيرك بما لا فائدة فيه، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو عين الفضول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإذا سألت وأجابك بما فيه كفاية لك، فاقطع الكلام؛ فإن لم يجبك بما فيه الكفاية فاستزده؛ فإن لم تفهم فقل: لم أفهم واستزده؛ فإن لم يزدك أو سكت أو عاد عليك الكلام الأول بلا مزيد فأمسك عنه، وإلا حصلت على العداوة، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة، وإياك وسؤال العَنِت والمُكابِر الذي يطلب الغلبة، ويبين أن عنده علماً؛ فإن ذلك دليل على سوء الخلق، وعلى قلة الدين، وعلى كثرة الفضول، وضعف العقل والسخف: {وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم}.

الوقوف على أخبار العلماء

الوقوف على أخبار العلماء ثم اعلم -أخي طالب العلم- أن الوقوف على بعض أخبار طلبة العلم والعلماء من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفع النفس الضعيفة إلى تحمُّل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلى أعلى الدرجات، في أخبارهم إثارة قوية لمشاعر طالب العلم الذي يسعى جاهداً للوصول إلى المقامات العليَّة في العلوم الشرعية. - ابن القاسم: جاء في ترتيب المدارك: أن ابن القاسم عليه رحمة الله تزوج ابنة عمه، وحملت منه، وقد كان شغوفاً بطلب العلم، فقرر أن يرتحل لطلب العلم، وخيَّرها عند سفره بين البقاء أو الطلاق، فاختارت البقاء معه، فسافر حتى أتى المدينة، وترك زوجه حاملاً في بلاده، فاسمع ما يقول. يقول: كنت آتي كل يوم الإمام مالك عليه رحمة الله في ظلمة الليل -في آخر الليل- في غلس، فأسأله عن مسألتيْن أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراحاً للصدر، فكنت أستغل ذلك الانشراح، فآتيه كل سحر، قال: فجئت يوماً، فتوسدت مرة عتبة بابه، فغلبتني عيناي، فنِمْتُ، وخرج الإمام مالك إلى المسجد، ولم أشعر به. قال: فخرجت جارية سوداء له، فركضتني برجلها، وقالت: إن الإمام قد خرج إلى المسجد، ليس يغفل كما تغفل أنت، إن له اليوم تسعاً وأربعين سنة قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة، يصلي الصبح بوضوء العشاء لمدة تسع وأربعين سنة! يقول ابن القاسم: فأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة أطلب العلم، والله ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً، وإنما أطلب العلم. قال: وبينما أنا عنده إذ أقبل حجاج مصر -بلده- فإذا شاب ملثم دخل علينا، فسلم على مالك، وقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إليَّ، قال: فأقبل علي يقبل عيني ويدي ووجدت منه ريحاً طيبة؛ فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني الذي ذهبت، وهو في بطن أمه قد أصبح شاباً يافعاً فيالله! تركوا كل شيء، وأعطوْا العلم كل شيء، ففتح الله عليهم فتحاً لا يخطر بالبال، ولا يدور بالخيال. لا نقول: أعطُوا ما أعطَوْا؛ فنحن أقلُّ والله. لكن نقول: لنعطِ العلم بعض شيء علَّنا نكون شيئاً، نسأل الله أن ييسر لنا العلم النافع والعمل الصالح، هو ولي ذلك والقادر عليه. - أبو الحسن الفالي: حكى الخطيب التبريزي اللغوي: أن أبا حسن الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لـ ابن دريد وكانت في غاية الجودة، فدعته الحاجة ذات يوم لبيعها، فكتب أبياتاً في آخرها يعبر عن معاناته في بيع أعز ما لديه وهو الكتاب، لكنها الحاجة -ونسأل الله أن يغنينا عمن أغناه عنا- عرضها للبيع فاشتراها منه ابن القاسم -المذكور قبل قليل- بستين ديناراً، ثم قام بتصفحها، فوجد فيها تلك الأبيات بخط بائعها يقول فيها: أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهلُّ شجوني فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكويِّ الفؤاد حزين وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من ربٍّ بِهن ضنين فقرأها وتأثر ابن القاسم، وفاضت عيناه، وذهب وأرجع النسخة له، وترك له الدنانير، فرحم الله الجميع. - البخاري:- وفي البداية يقول ابن كثير: لقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ثم يكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ السراج لينام، ثم يقوم أخرى وأخرى، وكان يتعدد ذلك منه في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة. بل إن الإمام الشافعي تذكر عنه ابنته وتقول: إنه في ليلة واحدة أطفأ وأضاء السراج ستين مرة. فما الذي نَامَهُ هؤلاء من ليلهم، رحمهم الله؟ قد كانت الشدائد في سبيل تحصيل العلم عندهم أشهى وألذَّ وأحلى من جنى النحل في الفم؛ لأنهم يعرفون قدر ما يأخذون. يقول عمرو بن حفص الأشقر: إنهم فقدوا البخاري عليه رحمة الله صاحب الصحيح -نسأل الله أن يرحمه وأن يجعل كتابه في موازين حسناته يوم يلقى الله- فقدوه أياماً من كتابة الحديث، وقد كان من أحرص الناس على كتابة الحديث، قال: فطلبناه نتلمسه، فوجدناه في بيته وهو عريان لا يملك حتى ثوباً يلبسه، قال: وقد نفد كل ما لديه، ولم يبقَ معه شيء، ولم يستطع الخروج؛ لأنه عريان. قال: فاجتمعنا، وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه. قال: ثم اندفع معنا في كتابة الحديث. فماذا يقول من يملك عشرات الثياب؟ ماذا يقول من يملك عشرات الأقلام والأوراق ثم ينام عن حلقة علم يذهب لها لا على قدميْه بل بسيارته في مكان مُكيَّف مُعدٍّ مُهيَّأ لذلك؟ لا نامت أعين الكسالى. لا نامت أعين البطالين. كلنا نلهج بالعلم، ولا أحد منا يباري العلماء. وهاهو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة -عليهما رحمة الله- يموت ابنه ويجهزه ويصلي عليه مع المصلين، ثم يوكِّل أناساً يدفنونه، ويذهب لحلقة إمامه، وهو يقول: ذهب الابن، وأحتسبه عند الله، وأخشى أن تفوتني مسألة لا تذهب حسرتها من قلبي حتى أموت. يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع أما المنذري: فيقول أحد تلاميذه: جاورته ثنتيْ عشرة سنة -بيتي فوق بيته- ما قمت في ساعة من ليل إلا وسراجه مُضاء يكتب أو يصلي. وهذا خبر أخير من أعجب الأخبار وأغربها: وقع لعالم أندلسي ممن رحلوا من الأندلس إلى المشرق، رحل هذا العالم إلى المشرق على قدميْه ليلقى إماماً من أئمته ليأخذ عنه العلم، ولكنه حين وصل إليه وجده محبوساً ممنوعاً من الناس، فتلطف وتحيَّل حتى لقيه، فأخذ العلم عنه بصورة لا تخطر على البال، ولا تدور بالخيال. - بقي بن مخلد:- جاء في السير للذهبي أن بَقي بن مَخْلَد الأندلسي كان جُلُّ بغيته ملاقاة الإمام أحمد والأخذ عنه، فخرج من الأندلس على قدميْه ماشياً. يقول: فلما قربت من بغداد وصلني خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد، وعلمت أنه ممنوع الاجتماع إليه والسماع عنه. قال: فاغتممت لذلك غمّاً شديداً فلم أعرج على شيء؛ بل أنزلت متاعي في بيت اكتريته، ثم أتيت الجامع الكبير، وحضرت بعض الحِلَق، قال: ثم خرجت أستدل على منزل الإمام أحمد، قال: فدُللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إليَّ، وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب الدار، وهذا أول دخولي البلد، وأنا طالب حديث وجامع سنة، ولم تكن -والله الذي لا إله إلا هو- رحلتي إلا إليك يا إمام. فقال: ادخل الممر، ولا تقع عليك عين، فدخلت الممر، وجاء لي، فقال: من أين؟ قلت: من المغرب الأقصى من الأندلس، فقال: إن موضعك لبعيد، وما كان من شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك بعد أن قطعت ما قطعت مقبلاً نحوك، لكن يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي البلد، وأنا مجهول عندكم؛ فإذا أذنت لي أن آتيك في زِيِّ سائل، فأقول ما يقول السائلون المتسولون: الأجر رحمكم الله، فتخرج إلى هذا الممر؛ فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث لكان لي فيه خير عظيم. فقال الإمام أحمد: نعم على شرط ألا تظهر في الحِلَق عند أصحاب الحديث. فكنت آخذ عوداً بيدي وأَلُفُّ رأسي بخرقة، وأجعل ورقتي ودواتي في كُمِّي، ثم آتي بابه، فأصيح: الأجر رحمكم الله، الأجر رحمكم الله. قال: فيخرج إليَّ في الممر ويغلق باب الدار، ثم يحدثني بالحديثين والثلاثة حتى اجتمع لي نحو ثلاثمائة حديث. قال: والْتزمتُ تلك الطريقة حتى زالت المحنة عن الإمام أحمد؛ يوم مات المبتدع، وتولى من كان على السنة. قال: فظهر الإمام، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكنت أحضر له، فيعرف لي حق صبري، ويعرف لي حق تجلدي في طلب العلم؛ فإذا رآني هشَّ وبشَّ، وقال: تعالَ إليَّ، وأفسح لي في مجلسه، وأدناني من نفسه، ثم يقول لطلبة الحديث: هذا هو الذي يستحق أن يطلق عليه اسم طالب العلم، ثم يقص عليهم قصتي. قال: ثم مرضت يوماً من الأيام، فزارني الإمام أحمد؛ فما بقي أحد بعد ذلك إلا زارني، وأَجلَّني الناس لزيارته وخدموني؛ فواحد يأتيني بفراش، وآخر يأتيني بلحاف، وآخر يأتيني بأطايب الأغذية، وكانوا في تمريضي -والله- أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ فرحم الله الجميع، وجزاهم الله عن العلم وأهله خيراً. هذه بعض أخبارهم في رحلاتهم في طلب العلم، في نَصَبِهم، في تعبهم، في هجر النوم، في الصبر على شظف العيش، في مرارة الفقر والجوع والعطش في الهواجر الأيام والساعات، في نفاد أموالهم ونفقاتهم في الغربة، في فقد كتبهم ومصابهم في بيعها؛ لأنها من أعز ما يملكون.

فائدة أخبار العلماء

فائدة أخبار العلماء هذه الأخبار هلاّ كانت -أيها الأحبة- مجلاة للقلوب من الصدأ والكسل، ومدعاة لتحريك الهمة للجد والعمل، أنتم كهم ومن يشابه أبه فما ظلم. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاح قوموا اقرعوا بالعلم أبواب العلى لا تقصروا عن همة القرَّاع واستعذبوا شوك المنايا في اجتنا ورد الأماني رائق الإيناع وتعلموا فالعلم معراج العلا ومفاتح الإخصاب والإمراع وإذا علمتم فاعملوا فالعلم لا يجدي بلا عمل بحسن زمام ثم إن لكل شيء ثمرة، وثمرة العلم العمل والتبليغ، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ومن كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، وما أحوج الأمة في حاضرها إلى الدعوة إلى الله جل وعلا. ما أحوج الأمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى بصيرة، وعلى علم مستوعب للشرع والواقع والبيئة وأحوال الناس. إن تبليغ هذا الدين، يروض النفوس ويكسبها الصبر، ويكسبها الحلم والطمأنينة والسكينة؛ إذ إنه لابد من مخالطة المدعوين، ولابد من الصبر على أذاهم، والحنو عليهم لانتشالهم مما هم فيه، ومن يبني غيره هو أحق بأن يكون ثابت البناء، لا يُزحزَح بسهولة. إن سفينة الأمة تتقاذفها الأمواج يمْنَة ويسرة، ويخرق فيها المفسدون كل يوم خرقاً؛ فإن لم تجد من يصلح تلك الخروق، فلربما تتحطم السفينة، وتغرق ولاشك، وسيغرق من على ظهرها، وركابها بحاجة إلى أن يكونوا على قدر كبير من الوعي والبناء واليقظة لما يراد بهم، وبإصلاح النفوس تصلح السفينة وتسلم ولاشك. هاهو رجل من الصالحين في مدينة الرياض -كما ذكر من نحسب أنه ثقة- يقول: كان له عمل مسائي، وهذا العمل المسائي امتد لمدة شهر، يقول: فكنت أمُرُّ على أحد الأرصفة فأجد عليها أربعة من شباب هذه الأمة يلبسون من الثياب ما يستحيي إبليس أن يلبسه، ومعهم من آلات اللهو ما ينزه المقام عن ذكره. قال: فكنت أتأثر لحالهم، وأذهب لعملي قال: وجئت في اليوم الثاني، وإذ هم على آلات اللهو، وفي جلسةٍ اللهُ يعلمها قال: وأتأثر لذلك، وشهر كامل وأنا أمر عليهم على هذا الرصيف. قال: فجئت في ذلك اليوم، وقلت: والله لئن جلسوا إلى الغد لآتين إليهم ولأذكرنهم بالله -الذي لا إله إلا هو-. قال: وجئت في اليوم الثاني وانطلقت لعملي. قال: ومررت فإذا الأربعة على ما هم عليه. فأوقفت سيارتي بعيداً عنهم. ثم تقدمت إليهم وئيدَ الخُطى؛ علَّهم أن يعدلوا من جلستهم، أو يغيِّروا من بعض المنكرات التي هم عليها. قال: فقاموا فأدخلوا العود في السيارة، وأطفئوا ما معهم من سجائر، وأطفئوا الموسيقى، وجلسوا جلسة معتدلة. قال: فتقدمت إليهم، وسلمت عليهم واستأذنت، فأذنوا لي. قال: فجلست إليهم، وقلت: أنتم تعلمون لِمَ جئت، يا أيها الشباب! أنتم أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم وأرضاهم- أرأيتم لو انحرفت سيارة من هذا الشارع، ثم ارتطمتْ بكم وأنتم على هذا الحال، أيسركم أن تلقوا الله بذلك؟ ثم ذكرتهم بالقبر والمصير الذي ينتظرهم، ثم ذكرتهم بوقوفهم بين يديْ الله عز وجل، وبمصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال: وإذا بدموعهم تنزل على خدودهم، وإذ بأحدهم يقول: وشهر وأنت تمر علينا، لا سامحك الله. قال: ولم؟ قال: أرأيت لو أخذنا الله قبل هذه الليلة، والله لا نسامحك بين يديْ الله جل وعلا. يقول هذا الأخ: فإن الأربعة لأئمةُ مساجد الآن. إن الأمة لأحوج ما تكون إلى كلمة: اتقوا الله عودوا إلى الله أيسرُّكم أن تلقوا الله بم أنتم عليه من المنكرات. كلمات بسيطة، لكن الله عز وجل إذا علم من قائلها الصدق نفع الله عز وجل بها.

تنبيهات لكل داعية

تنبيهات لكل داعية فادع الله يا طالب العلم محتسباً أجرك على الله أكرم الأكرمين. أقول لك: يا طالب العلم! يا أيها الداعية إلى الله! لابد أن تضع نصب عينيْك بعض الأمور الغير مرتبة: أولاً: أن الحكمة مطلوبة، وهي وضع الشيء في موضعه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فالشدة في موضعها حكمة، والرفق في موضعه حكمة، وما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌ كوضع السيف في موضع الندى. ثانياً: رَبِّ نفسك وربِّ الناس، وابنهم على صغار العلم قبل كباره؛ فإن غذاء الكبار -كما يقال- سم الصغار، فلو قدمت لقمة لحم لرضيع لربما تقتله فلينتبه لذلك. فلا بد من التدرج في طلب العلم؛ فالقفزات المحطمة لا خير فيها. ثالثاً: تحديد الهدف، مع الدراسة والتخطيط لاتخاذ الوسائل المناسبة الموصلة إلى الهدف، ومثل الذين يعملون من غير تحديد لأهدافهم كمثل إنسان يضرب في الصحراء دون أن يكون معه دليل يرشده أو قائد يهديه، ولا شك أنه سيظل يسير حتى يَمَلَّ السير، ويضرب في الأرض حتى يضطرب ويختل، وعندئذٍ يتمنى لو يعود من حيث أتى، وهيهات هيهات! ولاشك أن الهدف هو نشر دين الله في الأرض كما أمر؛ فلابد من وسائل صحيحة سليمة ومقدمات معينة توصل للهدف المطلوب، وهي غير خافية على المسلم البصير. رابعاً: ليس كل ما يعرف يقال، ولكل مقام مقال: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!]]. خامساً: علينا أن نتعرف على طبيعة الأرض قبل أن نحرث فيها الحرث؛ بمعني أن نكون على معرفة بأحوال المدعوين النفسية، وظروفهم الاجتماعية، ودراسة البيئة التي ندعو فيها، وخير قدوة لنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان على علم بالأفراد؛ فتعلمون في صلح الحديبية يوم يأتي أحد المشركين للصلح، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل فاجر، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل معه شيء. قال: ويأتي آخر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هذا رجل متألِّه ابعثوا الهدي في وجهه}، فبعثوا الهدي في وجهه، فرجع وهو يقول: ما كان لمثل هؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ويأتي سهيل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {سَهُل أمرُكم}؛ فكان الصلح. بل إنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة، كان يدرس نُظُم الحُكم والبيئات التي حواليه، فيقول لأصحابه: {إن في الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد} فيأمرهم بالهجرة إليه، ويقول لـ معاذ: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}. سادساً: لا يعول على الكثرة من الجماهير في الرخاء وقت الشدة، بل ليكن التعويل على أصحاب السوابق، يا أهل سورة البقرة، ويا أهل بيعة الشجرة. سابعاً: المنبر من أعظم وسائل الدعوة إلى الله، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة؛ فهناك الرسائل، وهناك الهاتف والملصقات والكتب واللقاءات والأشرطة، وما الأشرطة؟ مالئة الدنيا ونافعة الناس، قال فيها أحد العلماء: وفي كل وقت مضى آية وآية هذا الزمان الشريط ولن يعدم قاصد الخير الوسائل الشرعية إن خطط ودرس وأخلص وصدق. ثامناً: الترفع عن مجاراة السفهاء؛ إذ كيف يجاري العالم السفيه؟ وكيف يعامل الحليم من فقد الحلم؟ وكيف يباري الخَلُوقُ سيء الخلق؟ إنه إقحام للنفس في ميدان لا تضمن فيه السلامة، ولا تؤمن فيه العاقبة؛ فأمسك -أيها الداعية ويا طالب العلم- عن مخاطبة السفهاء، ومجاراة السفهاء، والتورُّط معهم، فهم موجودون في كل عصر، وهم موجودون في كل بيئة، مشاغبون مع كل داعية، لا يخلو منهم جيل، ولذا نبه القرآن الكريم على خطرهم، وحذر عن مجاراتهم ومناقشاتهم فقال: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. تاسعاً: لا تلتفت إلى الوراء؛ فإن وراء الداعية نعيقاً وعواءً للباطل لو التفت إليه لربما تأثر به، ولربما ضعف سيره به وانشغل به، عمَّا هو أهم منه، ولذا ضرب ابن القيم عليه رحمة الله مثلاً للملتفت لنعيق الباطل بالظبي، ومثل أهل الباطل بالكلب، فيقول: الظبي أشد سعياً من الكلب، لكن الظبي إذا أحس بالكلب وراءه التفت إليه، فضعف سعيه، فأدركه الكلب، وهو أبطأ منه؛ فالسالك لهذا الطريق ليس في وقته متسع لتشتيته هنا وهناك؛ فكيف يتأثر بأقاويل وادعاءات المبطلين، فإذا وثقت بالطريق الذي تسير فيه وصاحوا لك في طريق سَيرك فلا تلتفت إليهم. عاشراً: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذ العلم من صاحب هوى أو من غافل: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. أخيراً: -وقد أطلت في هذه النقطة لأهميتها- لابد للطلب والدعوة من صبر عظيم كصبر الجماد، وليكن معزيك ما يجده الصابر عند ربه يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، إن المريض ليتجرع الدواء المرَّ لا يكاد يسيغه؛ أملاً في حلاوة العافية ولو بعد حين. صبرت ومن يصبر يجد غبِّ صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم

من عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل

من عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل ومن عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل؛ لأن المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، وصرفٌ لمكايد الشيطان ونوازعه، ولذا لمَّا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل} كما روى البخاري، ويقول صلى الله عليه وسلم: {تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد} فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له -ولاشك- وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب، والشيطان إذا رآك مداوماً على طاعة لله عز وجل فبغاك وبغاك؛ فإن رآك مداوماً مَلَّكَ ورفضك، وإن رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك؛ فداوم على الطاعات؛ فإن الله من فضله وكرمه أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض وفتنة؛ فإن الأجر يجريه الله تعالى لك كما كنت صحيحاً كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً} فضلاً من الله ونعمة فله الحمد.

من عوامل بناء النفس: مجالسة الصالحين

من عوامل بناء النفس: مجالسة الصالحين من عوامل بناء النفس: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل؛ فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء، يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، مرآة لك ولأعمالك، إن افتقرت أغنوك، وإن دعوا الله لم ينسوك {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}. من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، وأحلّوا بدلاً منها حبَّ المصلحة التي تنتهي بنهاية المصلحة، إذا رأيت هؤلاء خشع قلبك، واطمأن وسكن ووصل إلى ما يصل إليه سلفنا -أحياناً- يوم يجد أحدهم حبيبه في الله؛ فيتهلل وجهه بشراً وفرحاً، ويفيض دمعه حينما يرى أحد جلاَّسه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فإذا ظفرت -أخي- بمجالسة مثل هؤلاء؛ فأحبهم وأخبرهم أنك تحبهم واطلب الدعاء منهم -في حال الفراق- في ظهر الغيب، وأطلق وجهك عند لقائهم، وابدأهم بالسلام، ونادهم بأحب الأسماء والكُنَى لديهم، وافسح لهم في المجلس، وزرهم بين آونة وأخرى؛ فالثمرة اليانعة لمجالسة من يذكرونك بالله يقصر العبد عن إحصائها، ويكفي أنها تجعلك تذوق حلاوة الإيمان، وتدخلك في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. ومنها: طلب الوصية من الصالحين، يوم يُقيِّض الله للمرء رجلا صالحاً يعظه، فيثبته الله وينفعه بتلك الكلمات، فتنبني نفسه، وتُسدَّد خطاه يوم يتعرض لفتنة أو بلاء من ربه ليمحصه به. هاهو الإمام أحمد يساق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه حتى قال خادمه: يعز عليَّ يا أبا عبد الله أن المأمون قد سلَّ سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه أقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه ليقتلنك بذلك السيف، وهنا يأتي الصالحون، أهل البصيرة لينتهزوا الفرصة ليلقوا بالوصايا التي تثبت في المواقف الحرجة. ففي السير: أن أبا جعفر الأنباري قال: لما حُمل الإمام أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، وجئته، فسلمت عليه، وقلت: يا إمام! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ خلق كثير، وإن لم تجب ليمتنعن خلق كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبه. والإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون يقول: وصلنا إلى رحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، قال: فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: هذا، فقال: يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى. وأعرابي يعترضه، ويقول: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، إنك رأس الناس فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه؛ فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، إن كنت تحب الله فاصبر؛ فوالله ما بينك وبين الجنة إلاّ أن تقتل. ويقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي. فإن أردت بناء نفسك -أخي الكريم- فاحرص على طلب الوصية من الصالحين، واعقلها إذا تُلِيَت عليك، اطلبها قبل سفرٍ إذا خشيت مما يقع فيه، واطلبها أثناء ابتلاء، أو قبل حدوث محنة متوقعة، واطلبها إذا عُيِّنت في منصب صغر أو كبر، أو ورثت مالاً وصرت ذا غنى، واطلبها في الشدة والرخاء والعسر واليسر لتنبني نفسك، وينبني بها غيرك، والله ولي المؤمنين.

من عوامل بناء النفس: التفرغ للعبادة

من عوامل بناء النفس: التفرغ للعبادة ومنها: الخلوة للتفرغ للعبادة، والتفكر في ملكوت الله والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق، في قيام ليل والناس نيام، في صلاة في بيتٍ عدا المكتوبة، في ذكر لله، في خلوة، عامل مهم في بناء النفس؛ فإن في ذلك صفاء للذهن وسلامة من آفات الرياء والتصنع للناس والمداهنة، وفيه بُعْدٌ عما يتعرض له الإنسان غالباً بالمخالطة من غيبة ونميمة ولهو وضياع وقت ومداهنة، ولعل المرء في خلوة يذكر الله فتفيض عيناه من خشية الله؛ فيكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومع هذا فإن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن اخلُ وخالط، وكلٌ له وقته.

من عوامل بناء النفس: الدعاء

من عوامل بناء النفس: الدعاء ومنها: الدعاء. فهو أهم عامل في بناء النفس؛ إذ هو العبادة -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ففيه الذل والخشوع والانكسار بين يديْ رب الأرباب ومسبب الأسباب، وهو الذي يجعل من الداعي رجلاً يمشي مرفوع الهامة والقامة، لا يخضع لأحد دون الله -الذي لا إله إلا هو- وهو من صفات عباد الله المتقين الذين يعلمون أن القلوب بين إصبعيْن من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء؛ فكان لسان الحال والمقال: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" هلاَّ تحسسنا وتلمسنا مواطن وأسباب إجابة الدعاء؛ لعلنا نحظى بنفحة ربانية تكون بها سعادة الدنيا والآخرة، في ثلث ليل آخر، والناس هاجعون، والناس نائمون. فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقبِل هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريماً قابلاً للمعذرة يَمُنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل

من عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله تعالى

من عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله تعالى ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله جل وعلا، والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:82] كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيراً وعلماً وعملاً وتدبراً، منه ينطلق، وإليه يفيء، أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيراناً، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليهما، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها: وحده أمام الناس عند من يثق به عند من لا يثق به؛ فالله يسمعه سمعاً يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال. هو الذي يرى دبيب الذَّر في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي فيا طلبة العلم؛ ويا أيها الدعاة إلى الله: إن الله يسمع ما تقولون، ويعلم ما تقولون؛ فلا تأسوا ولا تحزنوا. يا أيها الدعاة إلى الشر والضلالة: إن الله يسمع ما تقولون، وما تسرون، وما تعلنون، وما تدبِّرون، وما تخططون؛ فاللهَ اتقوا، أما والله لو تفاعلت النفوس مع أسماء الله لتعلقت القلوب بالله فلا يقول الإنسان ولا يلفظ إلا بميزان، هل هذا الكلام مما يرضي الله الذي هو يسمعه وسيحاسب عليه فأقدم وإلا فلا. في يوم من الأيام، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل رجل على زوجته مغضباً، وكانت مغضبة، وكان حديث عهد بجاهلية، فأغضبته، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، بمعنى أنها حرمت عليه، فنزل الخبر عليها مهولاً كالصاعقة. إلى أين تذهب؟ ذهبت إلى من أرسله الله رحمة للعالمين؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. دخلت عليه في بيت عائشة، وما ذاكم البيت يا أيها الأحبة؟ ما ذاكم البيت يا أصحاب القصور؟ غرفة واحدة، إذا جاء الضيف أو السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وُضع ساتر في وسط الغرفة، وتجلس عائشة في أقصى الغرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع السائل والضيف في أدنى الغرفة. قالت: يا رسول الله! ظاهر مني، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! أكل مالي، وأفنى شبابي، نثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلاّ قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. تجادل وتحاور الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة في الشق الثاني من الغرفة يخفى عليها بعض كلامهم. ويأتي الحل مع جبريل من عند السميع البصير يقول: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] وتنزل كفارة الظهار كما تعلمون، ولك أن تتخيل -يا أيها الأخ الحبيب- عائشة بجانبهم يخفى عليها بعض كلامهم، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسُمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه الرحمن بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه، يسمعها ويسمعهم؛ بل {مَا يَكُونُ مِن نجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] إنه الكمال المطلق لا إله إلا هو السميع البصير، تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[تبارك الذي وسع سمعه السماوات والأرض وكل شيء، لقد سمعها من فوق سبع سماوات، وما سمعتها وما بيني وبينها إلا الحجاب]] أو كما قالت. إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفة تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك. فيا أيها العبد المؤمن إذا لقيت عنتاً وظلماً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن. يا طالب العلم، يا أيها الداعية: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وحصل الإصرار والاستكبار، فلا تحزن؛ إن الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. يا أيها الشاب الملتزم الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية، فسمع زميلاً يسخر منه، ويهزأ به؛ لا تأسَ، ولا تحزن، واثبت، واعلم علم يقين أنك بين يديْ الله يسمع ما تقول وما يقال لك. وسيجزي فاعلاً ما قد فعل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَمَا يَعْزُبُ عَن ربكَ مِن مثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} [يونس:61]. سمعتم -يا أيها الأحبة- ما سمعتم، إن النفوس يوم تربى على تدبر كتاب الله جل وعلا والوقوف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتخذه قدوة مطلقة، وتقتدي بمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم. تُبنى بناءً لا يزعزعه أي عارض في أي شبهة أو شهوة أو ترغيب أو ترهيب أو إغراء أو تحذير؛ بل تعلق باللطيف الخبير السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

إساءة الظن بالنفس

إساءة الظن بالنفس أخيراً: أسئ الظن بنفسك يا عبد الله! لأن حسن الظن بالنفس يمنع عن كمال الإصلاح، ويري المساوئ محاسن والعيوب كمالاً، ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو في أجهل الناس بنفسه، وكم من نفس مستدرجة بالنعم، وهي لا تشعر مفتونة بثناء الجُهَّال عليها، مغرورة بقضاء الله حوائجها وستره عليها. فابنوا على التقوى قواعدكم فما يُبْنَى على غير التقى متداع اللَّهم أنت خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها؛ فزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به أنفس الصالحين، وإن أمَتَّها فاغفر لها وارحمها وأنت خير الراحمين، اللهم أتمم لنا العافية في الآخرة والدنيا والدين، اللهم أتمم لنا العافية في الآخرة والدنيا والدين، أنت ولينا توفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

نظرات في غزوة تبوك

نظرات في غزوة تبوك من سنن الله الكونية صراع الحق والباطل، وهو مستمر إلى قيام الساعة، والحرب سجال، وهنا صراع بين حامل الحق محمد صلى الله عليه وسلم وبين الروم دعاة الباطل، وكان النصر للمصطفى صلى الله عليه وسلم. لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم مر بأحداث أثناء ذهابه إلى تلك الغزوة منها: تثبيط المنافقين للصحابة، وكذلك محاولة التحريش بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرور النبي بديار ثمود وفيها عبر ودروس. وفي طريق العودة محاولة المنافقين اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنها باءت بالفشل ولله الحمد. وهناك دروس مستفادة من هذه الغزوة.

وقائع في الطريق إلى تبوك

وقائع في الطريق إلى تبوك إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرَح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أَعْيُناً عُمْياً وآذاناً صُماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. ثم اعلموا علم يقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بَزَغَ نجم هذا الدين وأعداؤه من يهودٍ ونصارى ومشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا وهم يحاولون دائبين؛ بالعنف والصراع المُسلح تارة، وبالمكر والخداع والخطط والمؤامرات تارة أخرى، ولسنا مجازفين -والله- عندما نقول ذلك؛ فالله يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] والله جل وعلا يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، وأَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم. كلُّ العِدَا قَدْ جَنَّدوا طَاقَاتِهِم ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ إِسلامُنا هَُودِرْعُنَا وَسَِلاحُنَا ومنارنا عَبْرَ الدجى فِي الظُّلْمَةِ هَُوبِالعَقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ فَامْشِ بِظِلِّ لِوَائهَا يَا أُمَّتِي لا الغَْربُ يَقصِد عِزَّنَاكَلا ولا شَرْقُ التَحَلُّلِ إنَّهُ كَالحَيَّةِ الكُلُّ يَقْصدُ ذُلَّنَا وهَوَانَنَا أَفَغَيْرُ رَبِّي مُنْقِذٌ مِنْ شِدَّةِ عبادَ الله: يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعاً والفرق عظيماً، يتحسر يوم يرى تلك الأمة وقد كانت قائدة وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء: متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة؟ متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد وصلاح والقعقاع؟ متى تُحيَا في القلوب آل عِمران والأنفالُ وبَرَاءة؟ قُلْ: عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً: وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ عَوداً والعَود أحمد، عَوداً سريعاً إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَوداً لسيرة من لم يطْرق العالم دعوة كدعوته، ولم يُؤَرِّخ التاريخ عن مُصلِح أعظم منه، ولم تسمع أُذن عن داعية أكرم منه: رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ خَيْرُ مَبْعُوثٍ مِنَ البَشَرِ عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِلادِ كَمَا عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ والقَمَرِ صلوات الله وسلامه عليه ما هَطَلَتْ الغمائم بتهتان المطر، وما هَدَلَتْ الحمائم على أفنان الشجر. العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد؛ هِداية ونور وحبور وبِشْر وسرور، ما أحرانا ونحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرناً؛ لنعيش يوماً من أيام محمد صلى الله عليه وسلم، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة؛ لنأخذ العِبرة والدروس من تلك الساعة في هذه الساعة: اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ عَوْداً بكم إلى السنة التاسعة للهجرة والعود أحمد؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون. ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟ إليكموها، فاسمعوها وعُوها واعتبروا بما فيها. واسألوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمدياً بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة مؤتة التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل؛ بل ولا هزيمتهم، فيا للَّه!! كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله.

موقف المنافقين من غزوة تبوك

موقف المنافقين من غزوة تبوك تساقط المنافقون: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41]. هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم له: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ -أي: الروم- فيقول: يا رسول الله!! ائذن لي ولا تفتني؛ فوالله! لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر: (فر من الموت وفي الموت وقع). أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ وأذلَّه وأنزل فيه قرآناً يُتلى: {ومِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي ولاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحر، قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار، فاعتذروا بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل عُذْرَهم، وتاب الله عليهم وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحاناً لهم فَمُحِصُوا حتى: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ} [التوبة:118]. ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زاداً ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا: وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون يالله! ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء، تنبت حولها الأزهار. وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ويخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته علياً رضي الله عنه، ويخيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفاً. ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون -سخر الله منهم- ويستهزئون -والله يستهزئ بهم- يأتون إلى علي رضي الله عنه ويقولون: ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالاً لك؟ يريد التخفف منك، وعلي بَشَرٌ، تأثَّر لذلك، ولبس دِرعه، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان؟ فتهراق دموعه صلى الله عليه وسلم ويقول: كذبوا يا عليُّ! فاخلفني في أهلك وأهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي} فيقول بلسان الحال: بلى رضيت، بلى رضيت، وعاد علي رضي الله عنه. يَدعُو جَهاراً لا إلهَ سِوى الذِي خَلَقَ الوُجُودَ وقَدَّرَ الأقْدَارَا وقبل مسير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- وهي تزهد في الجهاد-: لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق، ويتولى الحق سبحانه الرد: {وقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوكَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيوت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طلحة رضي الله عنه؛ فيقتحمون الأسوار خوفاً من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، ويفِرُّ الباقون: ويَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهم ويخيب كل منافق خَوَّان

مرور النبي صلى الله عليه وسلم بديار ثمود

مرور النبي صلى الله عليه وسلم بديار ثمود يتوجَّه صلى الله عليه وسلم ويمر بديار ثَمُود، وما أدراكم ما تلك الديار؟! ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطَّلة، وأشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه وهويبكي، ويقول لجيشه: {لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم}. يا لله!! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله في من يجالس الظَلَمَة، ويؤيد الظَلَمَة، ويركَن إلى الظَلَمَة، ويكون لهم أنيساً ولساناً وصاحباً؛ كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]. ويستسقي الناس من بئر في ديار ثَمُود فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً} ففعلوا امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع الغروب يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له حتى تهدأ الريح، وخالف أمره رَجُلان من المسلمين، لضَعف في إيمانهم، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته، وخرج الآخر في طلب بَعِير له، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في جبال طيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ، فَشُفِي، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم وأمَّا الآخر: فسُلِّم للنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة.

حفظ أبي قتادة للرسول صلى الله عليه وسلم

حفظ أبي قتادة للرسول صلى الله عليه وسلم لازال صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك، قد بلَّغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغاً عظيماً، لكن في سبيل الله يهون، ومع السَّحَرِ ينام من التعب صلى الله عليه وسلم على دابَّتِه حتى يكاد يسقط كما في صحيح مسلم فيقترب منه أبوقتادة فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبوقتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم ويقول: {من هذا؟ قال: أنا أبوقتادة -فيُكَافِئَه صلى الله عليه وسلم، فبمَّ كافأه؟ - قال: حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة}. يقول أهل العلم: فوالله مازال أبوقتادة محفوظاً بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا. وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله حفظه الله فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

علامة من علامات النبوة

علامة من علامات النبوة وينزل صلى الله عليه وسلم والمؤمنون منزلاً، يقول عمر في ذلك المنزل: وقد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، وتضل راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج أصحابه يبحثون عنها، فيقوم أحد المنافقين فيقول: إن محمداً يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو الآن لا يدري أين ناقته، ويأتي جبريل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالخبر، ويقول: إنَّ رجلاً منكم يقول: إنَّ محمداً يزعم أنَّه نبي ويخبركم بأمر السماء وهولا يدري أين ناقته، وإني -والله- ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها. يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {هي في هذا الوادي في شعب كذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها} فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلى الله عليه وسلم وظهرت آية نبوته؛ وفُضِحَ هذا المنافق؛ وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد صلى الله عليه وسلم.

أبو ذر يلحق بالجيش

أبو ذر يلحق بالجيش ويمضي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، ويتخلف عنه بعض المسلمين، فيقول الصحابة: {فلان تخلف يا رسول الله! فيقول: دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه} ويتأخر أبو ذر لأن بعيره هزيل، أبطأ به بعيره، فترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله على الطريق، وينظر ناظر المسلمين ويقول: {يا رسول الله! رجلٌ يمشي على الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر كن أبا ذر فيتأمل الصحابة، فيقولون: هو والله أبوذرٍ يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده}. وتمضي الأيام على هذه المقولة، وتمضي الأعوام، ويُنْفَى أبو ذر إلى الربذة، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما: أن يُكَفِّنَاه ويُغَسِّلاه، ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولون: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه. ويفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق؛ ليعتمروا، وما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، كادت الإبل أن تطأها، عندها قام غلام أبي ذر وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكياً يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تمشي وحدك وتموت وحدك} ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه، ودموعهم تَهْراق على خدودهم. وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيل فتَقْطُرُ

صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية الليثي في تبوك

صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية الليثي في تبوك وينتهي المسير بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ويقيم بضع عشر ليلة حافلة بالأحداث المثيرة. روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون أنَّه صلى الله عليه وسلم لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل عليه السلام وقال: {يا رسول الله! قم صَلِّ صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثِي فقد تُوفِى بـ المدينة} من يا ترى معاوية؟ عابد صالح يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وكأنَّه صلى الله عليه وسلم يتساءل لِمَ؟ فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ: {قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قائماً وقاعداً وعلى جنب؛ بالليل والنهار، وقد تُوفِي بـ المدينة وصُلِّيَ عليه هناك، وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، فلا إله إلا الله، قام صلى الله عليه وسلم وصلَّى عليه، وكان قد سافر صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهو مريض فهنيئاً له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة الملائكة عليه.

دفن النبي صلى الله عليه وسلم لذي البجادين في تبوك

دفن النبي صلى الله عليه وسلم لذي البجادين في تبوك لا زالت الأحداث المثيرة تتوالى في تبوك: يقول ابن مسعود رضى الله عنه: {ونِمْنا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل، فالتفت إلى فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، إلى فراش أبي بكر فلم أجده، إلى فراش عمر فلم أجده، وإذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعها؛ فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد حفر قبراً ومعه أبو بكر وعمر، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم سراج بيده قد نزل إلى القبر قال: قلت يا رسول الله من الميت؟ قال هذا أخوك عبد الله ذوالبجادين} من هو؟ إنه أحد الصحابة، حلت به سكرات الموت بالليل، فقام صلى الله عليه وسلم وشهد موته، وودعه ودعا له، وحفر قبره بيده الشريفة وأيقظ أبا بكر وعمر. يقول ابن مسعود: {فو الذي لا إله إلا هو! ما نسيت قوله صلى الله عليه وسلم وهو في القبر، وقد مد ذراعيه لـ ذي البجادين، وهو يقول لـ أبي بكر وعمر: ادنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر ودموعه صلى الله عليه وسلم تتساقط على الكفن. ثم وقف صلى الله عليه وسلم لما وضعه في القبر رافعاً يديْه مستقبلاً القبلة، يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضياً، فارض عنه. يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة، لأنال دعاءه صلى الله عليه وسلم} من هو ذوالبجادين؟ إنه صحابي جليل، أسلم وكان تاجراً، فأخذ قومه أهله ماله؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر، أخذوا حتى لباسه، فذهب فما وجد لباساً غير شملة قطعها إزاراً ورداء - بجادين- وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة. قدم على المصطفىصلى الله عليه وسلم ذوالبجادين، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره: {فقال: تركت مالك لله ورسوله، أبدلك الله ببجاديْك إزاراً ورداء في الجنة، أنت ذوالبجادين} فلُقِّب من تلك اللحظة بـ ذي البجادين، وكان مصرعه في تبوك، ومضى الركب وخلفوه هناك، لكنهم يجتمعون معه في جنة عرضها السماوات والأرض: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]. ويقيم صلى الله عليه وسلم بـ تبوك ويدنو من الروم ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، ويفرض عليهم الجزية، وهم صاغرون، ولم يلق كيداً منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفاً وفزعاً، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:16 - 18].

القبض على ملك دومة الجندل

القبض على ملك دومة الجندل يرسل صلى الله عليه وسلم خالداً على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى أكيدر ملك دومة الجندل، ويخبر صلى الله عليه وسلم خالداً أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش. خرج خالد، ولما بلغ قريباً من حصنه، وجده قد خرج للصيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقته خيل الله بقيادة خالد، فأسرته واستلب خالد منه قباءً مخوصاً بالذهب -قميصاً مخوصاً بالذهب- وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء، فقال صلى الله عليه وسلم مُزهِّداً لهم في زخرف الدنيا: {أتعجبون من هذا؟ لَمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا}. قدم خالد بالـ أكيدر، وحقن دمه صلى الله عليه وسلم وضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عباد الله: ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى ويهود ومشركين، يعود في يوم بهيج، لتستقبله المدينة، لتستقبل نور بصرها صلى الله عليه وسلم، يخرج الأطفال في فرح، ليصطفُّوا على مداخل المدينة، وعلى أفواه الطرقات، ليستقبلوا رسول البرية صلى الله عليه وسلم، أصواتهم كما حقق ابن القيم عليه رحمة الله: طلعَ البدرُ علينَا مِن ثنيات الوداع وجَب الشكر علينَا ما دَعا لله دَاعْ أيها المبعُوث فينَا جئتَ بالأمرِ المُطاعْ جئتَ شرَّفت المدينةْ مرحباً يا خيرَ داعْ وهنا قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ بـ المدينة رجالاً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، ولا وَطَئِتُم موطئاً يغيظ الكفار، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر. قالوا: يا رسول الله! وهم بـ المدينة؟! قال: نعم. وهم بـ المدينة} ويتبسم صلى الله عليه وسلم ويمسح الرءوس، ويقبل ويدعو. وهكذا انتصر المسلمون في تبوك على شهواتهم وأنفسهم، وبالتالي انتصروا على أعدائهم: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. هذه غزوة تبوك قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، جنودها صحابته رضوان الله عليهم، عز فيها المؤمنون، وسقط المنافقون، وذل الكافرون وانهزموا، وبالجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون: والمؤمنون على عنا ية ربهم يتوكلون لا خوف يُرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون اللهم أنت الناصر لدينك، والمعز لأوليائك؛ افتح لنا فتحاً مبيناً، انصرنا نصراً عزيزاً، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، اللهم ثبِّت أقدامنا، وزلزل أعداءنا، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأَبِدْ خضراءهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم، وأورثنا أرضهم، وديارهم وأموالهم، وكن لنا ولياً، وبنا حفيّاً. يا من نصرت بماض ضعف أمتنا على الطواغيت عجل نصرنا الثاني أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دروس وعبر من غزوة تبوك

دروس وعبر من غزوة تبوك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت -كما عرفتم- بنصر المؤمنين، ولئن انتهت، فما انتهى نورها، وما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وفي كل ذكرى منها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. هل يكفي سرد أحاديث الماضي والتغني بالذكر الغابر؟ هل يُجدي هذا وقد تشابكت بأمة الإسلام -في هذه الأعصار- حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، وتداعى عليهم الأكلة من كل فج؟ لا. لابد أن نستفيد مما مضى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:111]. فهاكم بعض دروسها وعظاتها؛ علَّ الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد؛ ضُربت عليها الذلة والمسكنة. دعِ المِداد وسطِّر بالدَّمِ القانِي وأسكتِ الفَمَ واخطبْ بالفمِ الثَّانِي فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ منَ الفصاحةِ ما يزري بسحبانِ وثانيها: أن الله تعالى كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت؛ فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: {ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج:40]. وثالثها: أنه ما تسلل العدو سابقاً ولاحقاً إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]. رابعها: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى، يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، ويتعلقوا به ويثبتوا ويصبروا، وعندها يُنصروا. فهاهو سلفهم ابن رواحة يقول: [[والله ما نقاتل الناس بعَدد ولا عُدد، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به]]. خامسها: أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة. فما هو إلا الوحيُ أوحدُّ مُرهَف تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ فهذا دواء الداء من كل جاهل وهذا دواء الداء من كل عاقلِ دعا المصطفى دهراً بـ مكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف بالكف مسلط له أسلموا واستسلموا وأنابوا سادسها: أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، ولن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد صلى الله عليه وسلم سابقاً ولاحقاً، فهم يُجمعون أمرهم وشركاءهم، ويُعمِلُون مكرهم ودسائسهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. سابعها: في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقياً منافقاً؛ تواطئوا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وتنفيذ الخطة -في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى تبوك ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم- ويصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، حذيفة آخذ بخطام ناقته، وعمار يسوقها، وإذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيولوا مدبرين، ويحفظ الله سيد المرسلين، وينزل الله قوله في المنافقين: {وهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهماً إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، ويدخل إلى قلبه؛ فلم ينجُ منهم أحد؛ فإلى جهنم، وبئس القرار. ومن دسائس أعداء الله أنهم أرسلوا لـ كعب بن مالك رضي الله عنه يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره؛ أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن كعباً مؤمن، علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر:25]. عباد الله: هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء، ويترصدون ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت! وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت! أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب! فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني ثامنها: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى وألف مهند قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، وتعلقت بهذا أوبذاك؛ إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها. من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنصَر تاسعها: ألا وإن من أعظم الدروس -وليكن الأخير من غزوة تبوك -: والمسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة ومتغيراتهم الحثيثة، وهو الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد وكفى، فمن محرابه تنطلق قوافل المجاهدين، وبالجهاد ترد عاديات الطغيان؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة. جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد صلى الله عليه وسلم مهيمناً. فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان: أجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم؛ فإن من لا يذد عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه ذليل حقير غير حقيق بالعزة؛ بل لا تحلو له الحياة. اصبروا، وصابروا، ورابطوا، وبما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، واصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، وثقوا بالله واطمئنوا، وأبشروا، والعاقبة للمتقين: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعي يا أمة الإسلام فانتفضي فإن الجرح غائر والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو مضطرب وحائر وجريحنا الأقصى هوى وديس بالحوافر فهناك تعبث في جوانب أرضه عُصَب الكوافر وتسومهم ذلا وخسفاً كالبهائم في الحظائر يا أمتي فلتنفضي عنك الغبار وتستعدي ولتنفري نحو الجهاد بكل إقدام وجدِّ إن الجهاد به نرد لَجاجة الخصم الألَدِِّ وبدونه نبقى على ما نحن من أخذ وردِّ يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود إلى رحابك واهدِ الولاة لكي يسوسوها بوحي من جنابك وأمدها بالنصر ليس النصر إلا من جنابك هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر، وكتب السيرة تفيض بذلك؛ فاتقوا الله، وعوها، وطريق أسلافكم اسلكوها، عودوا فالعود أحمد، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين. وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام وللمسلمين.

صفة الجنة

صفة الجنة الجنة سلعة الله الغالية، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقد ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر صفة الجنة وما أعده الله لأهلها. وهنا بيان لذلك مع ذكر قصص لمن شمر عن ساعد الجد وعمل ليكون من أهل الجنة.

الغاية من خلق الإنسان

الغاية من خلق الإنسان الحمد لك يا الله جعلت الفردوس لعبادك المؤمنين نُزُلا؛ فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، الحمد لله الذي يسَّرها لنا، ويسَّر الأعمال الصالحة لنا؛ فلم يتخذ السالكون إلى الله سواها شغلاً، وسهل لهم سبلها فلم يسلكوا سواها سبلاً، خلقها قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم، وحفَّها بالمكاره ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأودعها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفوق ذلك: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} [الكهف:108]. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً: قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ شُؤْماً لظالِمِهِ وللمظلومِ لمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في روضة من رياض الجنة، لو أذن الله -عز وجل- لنا أن ننظر من يحفُّنا في هذا المكان لرأينا الملائكة تحفُّنا، ولرأينا السكينة تتنزل علينا، ولرأينا الرحمة تغشانا، وفوق ذلك كله أن الله -عز وجل- يذكرنا في ملئه الأعلى سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فيا عبد الله! طوبى لك يوم جئت إلى هذا البيت في ضيافة الرحمن لتنتفع بذكر قد سمعته ولكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. فَأَكْثِرْ ذكرَهُ في الأرضِ دأباً لِتُذْكَرَ في السماءِ إذا ذُكِرْتَا ونَادِ إذَا سَجدتَّ لَهُ اعتِرافاً بِمَا نَاداهُ ذُو النونِ بنُ متَّى تفِتُّ فؤادَك الأيامُ فتّاً وتَنْحَتُ جِسمَكَ السَّاعات نَحْتاً وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ ألا يَا صَاحِ أنْتَ أرِيدُ أنتا فلا تقل الصِّبَا فيه مَجَالٌ وفكِّرْ كَمْ صبيٍّ قد دَفَنْتَا إذا مَا لَمْ يُفِدْك العلمُ شيئاً فليتَكَ ثمَّ ليتَك ما عَلِمْتَا وإنْ ألقَاكَ فهمُكَ في مَغَاوٍ فليتكَ ثمَّ ليتَكَ ما فَهمْتا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرة أخرى، وأنتقل بكم إلى قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [المؤمنون:115 - 116]. لا إله إلا الله! لم يخلق الناس عبثاً ولم يتركهم سدى؛ بل خلقوا لأمر عظيم وخطب جسيم؛ عرض على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنَه وأشفقْنَ منه، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه ظلماً وجهلاً فانقسم الحاملون له إلى فريقيْن: فريق عطَّل تفكيره، وانساق وراء شهواته وملذاته؛ كل همِّه إرضاء نزواته وإشباع غرائزه؛ بشرٌ في مسلاخ دواب -أجار الله هذه الوجوه أن تكون من هذا الصنف- نظرتهم قاصرة وعلمهم أقصر: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً منَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. أما الفريق الآخر -وأرجو الله أن أكون وأنتم منهم- آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، جعل خوف الله في قلبه، وجعل خشية الله نصب عينيْه، فأتمر بأمر الله وانتهى عن نهيه وراقبه حق المراقبة، وقال عند سماع أوامره: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ومن كمال الألوهية لله سبحانه وتعالى أن جعل للناس يوماً آخر إليه فيه يرجعون، ويوفَّون ما اكتسبوه بالقسطاس المستقيم، فيصدرون من أرض المحشر راضين بعدل الله المطلق: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] بلى. فائزين يُزفون إلى الجنة: {فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمرن:107]. وآخرون خاسرون يساقون إلى النار فهم في العذاب محضرون، يبين ذلك قول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. أيها الإخوة في الله: والإيمان بيوم الجزاء وباليوم الآخر ركن هام من أركان الإيمان؛ من لم يؤمن به لم يؤمن بالله جل وعلا. لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن باليوم الآخر. وعرض الجنة ونعيمها والنار وجحيمها أسلوب ناجح لإصلاح النفوس ولهدايتها ولتهذيبها ولكسر كبريائها أحياناً، ولحبسها أحياناً، فمن الناس من ينفعه الترغيب، ومن الناس من ينفعه الترهيب، ومن الناس من ينتفع بالاثنين معاً، وكل ذلك ورد في كلام الله جل وعلا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تقدم أحدهما مرة، وتأخر أحدهما مرة، واقْترَنَا مرة أخرى، وكل ذلك في كتاب الله جل وعلا. ومن فضل الله عز وجل أن جلَّى لنا أمر الجنة، ووصف نعيمها، وأكَّد خلودها وكمالها من غير نكد ولا تنغيص ولا نقص، لا حر ولا برد، لا تعب ولا صخب ولا نصب، لا عجز ولا هرم؛ غمسة في الجنة تنسي كل شقاء في هذه الحياة، ثم أظهر -سبحانه- في الجانب الآخر حقيقة النار وعذابها؛ لهيب يتصاعد، وصراخ مفزع، وخوف وحميم وزقوم، وتقريع وتوبيخ وأهوال، وشهيق وزفير؛ غمسة فيها تنسي كل نعيم في هذه الحياة، نسأل الله أن يجير هذه الوجوه. ذلك كله لماذا يا عباد الله؟ ليسعى المؤمنون إلى الجنة بلهفة وشوق مشرئبين إلى نعيمها ورياضها وقصورها، ذلك كله -أيضاً- لينأى الخلق عن النار بحذر وخوف، كل ذلك: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] كل ذلك: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]. فيا أيها الإخوة في الله: تلك مقدمة ذكرتها لابد منها.

الترغيب في الجنة

الترغيب في الجنة أما وقفتنا هذه الليلة فوقفة -بإذن ربنا- مع الجانب المشرق ومع الجانب المفرح المشوق، مع الجنة ترغيباً لا ترهيباً، وحفزاً للهمم لتطلب ما عند الله، وتدفع الثمن ولو كان الدماء والأوقات والأموال وكل شيء، فحيهلاً بكم -يا عباد الله- إلى الجنة ورياضها وقصورها ودورها وحورها لنتعرف عليها؛ علَّنا أن نكون من أهلها، ولنعرف من هم أهلها؛ علنا أن نكون متشبهين بهم: إن التشبه بالكرام فلاح. ونعرف السبل الموصلة إليها فنسلكها لنكون مع الذين أنعم الله عليهم، ففي رياضها نعيش وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين، أسكننا الله وإياكم فردوسها الأعلى برحمته ومنِّه وكرمه.

الجنة ما الجنة؟

الجنة ما الجنة؟ الجنة ما الجنة؟! والفردوس ما الفردوس؟! لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر. بناها الله تعالى لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. أما أشجارها، فما أشجارها؟ ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة. أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل. وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل. أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب. ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستظل بظلال أشجارها، إنه غفور رحيم. أما أنهارها فما أنهارها؟ أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلمون -يا عباد الله- أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]} نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة. أما ماؤها -يا عباد الله- فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب. أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور. أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية! فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً. فيها روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان. قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً. فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم. سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزاحم على تلك المصاريع. أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة. أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس! وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!! حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ} [الواقعة:17 - 18]. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:19 - 20]. أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن يا عباد الله! أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [هود:108] في سعادة أبدية. أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود. وأما أزواجهم فالحور العين، ولنا وقفة مع الحور العين يا عباد الله!

أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم

أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم أما أدنى أهلها فيسير في ملكه وقصوره مسيرة ألفي عام؛ فما بالكم بأعلى أهل الجنة، إذا كان أدناهم كذلك؟ واسمعوا كما في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الحكيم سبحانه وتعالى: رجل يأتي بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة. فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول الله عز وجل: ادخل الجنة. فيقول: كيف وقد أخذوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، وأخذوا نعيمهم -يخيل إليه أنها ملأى- فيقول الله عز وجل له: ألا ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ قال: بلى يا رب، وكيف لا أرضى بذلك؟! قال: فإن لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، حتى بلغ الخامسة، فقال هذا العبد: يا رب رضيت رضيت، قال فإن لك ذلك، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت عينك، ولذَّت نفسك، وأنت فيها خالد: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}. وفي الحديث الآخر الذي روي في الصحيحين: {أن الله عز وجل بعد أن يقضي بين العباد، يبقى رجل مقبل بوجهه على النار، قد نجا منها، ولكنه لم يدخل الجنة، ولم يقدم إلى باب الجنة، فيقف، فيقول: يا رب! برحمتك اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها، وآذاني وسمَّني، وأحرقني ذكاؤها ولهبها، فيدعو ما شاء الله عز وجل أن يدعو، فيقول الله عز وجل له: هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فاصرف وجهي عن النار. فيصرف الله الرحيم الحليم الغفور وجهه عن النار. فيبقى ما شاء الله أن يبقى ساكتاً ثم يسأل الله مرة أخرى، فيقول: يا رب! برحمتك قدِّمني إلى باب الجنة، فيقول الله: ويلك يا بن آدم ما أغدرك، وما أظلمك! ألم تُعطِ العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك؟ قال: يا رب! برحمتك قدمني إلى باب الجنة. قال: هل عسيت إن أعطيتك ما سألت ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك. فيقدمه الله عز وجل إلى باب الجنة. فيبقى هناك، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم تنفتح له الجنة، فيرى حورها، ويرى قصورها، ويرى رياضها، ويرى نعيمها، فيقول: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. فيقول الله: ويلك يا بن آدم، ما أغدرك! ما أظلمك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك. قال: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. قال: هل عسيت إن أدخلتك ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسأل غير ذلك، قال الله عز وجل ادخل الجنة -برحمته وكرمه ومَنِّه- فيدخل الجنة فيكفيه هذا. فيقول الله عز وجل له: تمنَّ يا عبدي فيتمنى، ثم يتمنى، ثم يتمنى، ويذكره الله -عز وجل- رحمة منه وفضلاً بالأماني التي يتمناها حتى تنقطع به الأماني، ثم يقول له: تَمنَّ، قال: لا أريد شيئاً يا رب! قال: فإن لك ما أخذت، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، وأنت فيها خالد: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} {يقول موسى -في الحديث الأول-: فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} فلا إله إلا الله! ما أرحم الله! وما ألطف الله! وما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته، سبحانه وبحمده! سُبحَانَ مَنْ يَعفُو وَنَهْفُو دَائِماً ولا يزَل مهما هفا العبد عَفَا يعطي الذي يخطى ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض أو جزءاً واحداً من هذه الرحمة؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس -وهو في الموقف- بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء؛ ارحمنا برحمتك. والله! لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْئسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة. ووالله! لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبداً حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة. إخوتي في الله: هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم.

أزواج أهل الجنة

أزواج أهل الجنة كأني بكم تقولون: ما أزواجهم؟ وأقول لكم: لا إله إلا الله! ماذا يصف الواصفون في أزواج أهل الجنة، إنهن الحور، وما الحور يا عباد الله؟ كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة! قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر! إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين! وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين! يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً. لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله! وسبحان الله والحمد لله والله أكبر! لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم. نصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد على طول الدهور والأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، لا يُمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها؛ فهن قاصرات الطرف، لا تطمح لأحد سوى زوجها، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته؛ فهي معه وهو معها في غاية الأمان، لم يطمثها قبله إنس ولا جان. كلما نظرت إليه ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً. هن الخيرات الحسان، هن العُرُب المتحببات إلى الأزواج. ما ظنُّكم -يا أيها الإخوة في الله- بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة! وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال. إن طال لم يملل وإن هي حدثت ودَّ المُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ سبحان من صورها! سبحان من عدلها! سبحان من أنشأها! سبحان من جعلها للمؤمنين الصادقين! سبحان من جمعني وإياكم في روضة من رياض الجنة، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في روضة من رياض الجنة عنده.

غناء الجنة

غناء الجنة إن غنَّت هذه الحورية فيا لذة الأسماع! ليس كغنائنا؛ فُحش وخنا ومجون وتحلل، وبعضنا -يوم انتكست بصيرته- يأخذ هذا الغناء ليدخله إلى بيته، ليفسد بيته، ولينشر الفحش في بيته، وليخرج ملائكة الرحمن من بيته، وليدعو إلى الرذيلة في بيته، وينسى أن هناك غناء قد يحرمه إن لم يتُب إلى الله جل وعلا. إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً. لكن هناك حوراً من نساء أهل الدنيا صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلاً من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاء. وأقف معكم ومع ابن الجوزي عليه رحمة الله في - رياض السامعين - وهو يصف مشهداً من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيد ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول: فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ضمِنه لنا. انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الإخوة! بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها، قال: فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه، وإذا بها تقول: يا ولي الله! أما لنا فيك دولة؟ أما لنا فيك نصيب؟ تعرض خدماتها عليه، تعرض نفسها عليه، فيقول: بالله من أنت؟ قالت: أنا ممن قال الله فيهن: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب ويقول: لم؟! قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك. قال: أو أنت لي؟! قالت: نعم. جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي. قال: فيعتنقها أربعين عاماً لا تمله ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة. فلا إله إلا الله! أي نعيم هذا النعيم؟! وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74]. يقول: مكتوب بالنور على اليمنى {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] وعلى اليسرى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة -كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين - قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران، فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طرباً من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية. ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام. ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء! يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء! يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الإخوة؟ يقول: فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاء. فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن: نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ طوبى لمن كان لنا وكنا له فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن: نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّ تقول عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن. يا من سمع هذه الكلمات! لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت، إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم. أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة! يرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتاً يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت. قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.

رجال تنافسوا علىالحور

رجال تنافسوا علىالحور لهذا كله بادر المبادرون، وتنافس المتنافسون يوم سمعوا بما سمعوا من هذا الوصف، ماذا كان منهم يا عباد الله؟ أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن لا أنام حتى أختم هذه الثلاثين ختمة، ويختم تسعاً وعشرين فيغلبه النوم، فينام فيرى حورية من حوريات أهل الجنة تأتي فتركله برجلها، وتقول: أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيام فقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد، وقال: برحمة الله لأجتهدن إلى أن أنال هذه الحورية. وأبو سليمان الداراني -عليه رحمة الله- ينام ليلة من الليالي، وهو عابد زاهد عبَد الله، وأخلص لله، وصدق مع الله، يمني نفسه بما في الجنة من نعيم، فيقول في ليلة من الليالي نائماً -والنفس أحياناً تحدث بما ترغب وبما تريد وبما تحب- قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون يا أبا سليمان؟! أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام؟! لا إله إلا الله! فما نام بعدها إلا قليلاً؛ جد وطلب ليلحق بها. وأبو سليمان كانت له رحلة الحج المعروفة، والتي ذكرها صاحب حادي الأرواح -عليه رحمة الله- يقول: رافقه شاب عراقي في طريقه إلى الحج، قال: فما رأيت هذا الشاب إلا باكياً أو تالياً أو مصلياً؛ نركب فيتلو القرآن، ننزل فنصلي فيصلي، ويذكر الله، لا يتكلم بكلام إلا بذكر الله أو بالصلاة والقيام، قال: فقلت: لا أسأله ولا أشغله، وعندما رجعنا من رحلة الحج، ووصلنا إلى بلاد العراق. قال: قلت له: أيها الشاب أسألك بالله؛ ما الذي هيَّجك على العبادة لا تفتر عنها؟ قال: يا أبا سليمان! أما إن سألتني؛ فإني رأيت -فيما يرى النائم- حورية في قصر من ذهب، وقصر من فضة، له شرفتان من زبرجد وياقوت، وبينهما هذه الحورية مرخية شعرها لم أرَ جمالاً كذاك الجمال، وهي تقول لي: جِدّ إلى الله في طلبي؛ فإني أربى لك في الخدور من خمسمائة عام، فوالله برحمة الله! وأقسم على الله برحمته! لأجتهدنَّ حتى أصلها أو أهلك دونها. والله! لا أرتاح حتى أبلغ تلك المنزلة. هيَّجهم ذكر الجنة إلى الجنة، طيَّرت الجنة نوم العابدين من جفونهم، فتركوا الفراش، واتجهوا إلى الله في أسحارهم وفي لياليهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] يبيتون لربهم سجداً وقياماً. يأتي أحدهم، فيفرش فراشه، ثم يضع يده عليه، ويقول: والله! إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَن، فيقوم ليله كله لا ينام. هكذا -يا عباد الله- جَدُّوا إلى الله؛ لأنهم علموا ما عند الله.

سوق أهل الجنة

سوق أهل الجنة وكأني بكم تقولون: هل في الجنة سوق؟ ولا إله إلا الله -أيها الإخوة- كيف حال أسواقنا هذه الأيام؟ أسواقنا أشغلت المصلين عن صلاتهم، وأشغلتهم عن ذكر الله حتى يوم يُذكر الله يهربون من المساجد إلى الأسواق، إلى مجتمع الشياطين، أسواقنا فيها ما لا يعلمه إلا الله، ونسأل الله أن يعدل حال هذه الأسواق، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً؛ فما حالها في أسواقها بل حالها سيء في كثير وكثير، لكن نسأله برحمته أن يردنا إليه رداً جميلاً. وأهل الجنة لهم سوق لكن أي سوق يا عباد الله؟ سوقهم يوم الجمعة، فيوم الجمعة من شرفه أنه سوق -أيضاً- لأهل الجنة؛ فيأتون كل جمعة، فيركبون نجائبهم، ودوابهم من ذهب وفضة ولؤلؤ إلى كثبان المسك، فيجلسون عليها، ثم يأتيهم الريح، فتأخذ من كثبان المسك، فترمي في وجوههم، وفي نواصي خيلهم ونواصي دوابهم، فيرجعون إلى أهلهم، وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلهم وزوجاتهم من الحوريات: والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم -والله- بعدنا لقد ازددتم حسناً وجمالاً. هذا هو سوق أهل الجنة، سوق أهل الجنة يا من أشغله سوق الدنيا عن طلب سوق الجنة! اتق الله، وتاجر مع الله، وإياك إياك أن تقصر رجلك عن مثل هذه المجتمعات، ومثل هذه الروضات، كم من إنسان قصر رجله عن مثل هذا المسجد، فقصرت به قدمه وزلَّت به من على الصراط إلى كلاليب النار. نسأل الله العافية والسلامة. يُعد الله -عز وجل- للذين يأتون إلى المساجد نزلاً في الجنة كلما غدوا وكلما راحوا فضلاً منه ونعمة. نعيم الجنة لا ينفد، نعيم الجنة لا يبيد، نعيم الجنة لا يوصف، وإن من أعظم نعيم أهل الجنة -يا أيها الإخوة- حلول رضوان الله جل وعلا على عباده في الجنة، هذا من أعظم النعيم الذي ينالونه، وأعظم من ذلك التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم جلّ جلاله وتقدست أسماؤه. ذلك اليوم يسمى يوم المزيد، يوم زيارة العزيز الحميد، تصور نفسك والله -عز وجل- يستزيرك ويزورك، لا إله إلا الله! استمع ومَثَّل نفسك في روضات الجنة يوم يأتيك المنادي ينادي أنت وأهل الجنة: يا أهل الجنة! إن ربكم يستزيركم، فحي على زيارته. لا إله إلا الله! من الزائر جل جلاله، وتقدست أسماؤه، سبحانه لا إله إلا هو! يقولون: سمعاً وطاعة. وينهضون إلى الزيارة مبادرين، وإذ بالنجائب أعدت لهم، فيستوون على ظهورها، وينهضون، فيستوون إلى الوادي الأفيح المبارك على كثبان المسك الذي جُعل لهم موعداً، ثم يأمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فيُنصب، ثم يأمر بمنابر لأهل الجنة منابر منوعة على قدر الأعمال من ذهب، من فضة، من لؤلؤ، من نور، من ياقوت، من زبرجد، وأدناهم -وما فيهم دنيء- على كثبان المسك؛ فلا إله إلا الله! ما أعظم نعيم الله في الجنة! حتى إذا استقروا في مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي مرة: يا أهل الجنة! إن لكم موعداً عند الله يريد أن يُنجزكموه، فيقولون -وقد رضوا بما أتاهم من النعيم-: ألم يثقل موازيننا سبحانه وبحمده؟ ألم يزحزحنا عن النار؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يبيض وجوهنا؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبارجل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فيردون بصوت واحد: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم يضحك الله لهم -يقول أحد الأعراب: لا نعدَم خيراً من رب يضحك- ثم يقول: يا أهل الجنة! يا من أطاعوني بالغيب ولم يروني هذا يوم المزيد؛ فسلوني. فيقولون: ربنا قد رضينا فارض عنا. قال: لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، أحللت عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبداً، هذا يوم المزيد فسلوني. لا إله إلا الله ما أكرم الله لا إله إلا الله ما أرحم الله! يا أيها الإخوة: يعرض عليهم عرضاً، فيقولون: أرِنا وجهك نتلذذ بالنظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من النور، ما لولا أن الله عز وجل قضى ألا يحترقوا لاحترقوا من نوره: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [النور:35] لا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا حاضره ربه محاضرة، وكلمه ربه كفاحاً بلا ترجمان. يقول الله: ألم تعمل كذا في يوم كذا ألم تعمل كذا ألم تعمل كذا فيذكره ببعض غدراته وزلاته فيقول: يارب ألم تغفر لي، قال: بمغفرتي بلغت ما بلغت. فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم الغفار {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. فكيف تعلم؟ فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم هذا بعض ما أعده الله عز وجل لنا من النعيم في الجنة، يجمع هذا كله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وإن شئتم فاقرءوا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} إنها الجنة وكفى، إنها الفردوس وكفى، إنها طوبى وكفى. فللَّه ما فِي حشْوِهَا من مَسرةٍ وأصناف لذَّاتٍ بها يَتَنَعَّمُ وللهِ برد العَيشِ بيْنَ خِيامِها وَرَوْضَاتهَا والثَّغْرُ فِي الرَّوض يبسِمُ وللهِ واديهَا الَّذِي هُوَ موعد المزيد لوفد الحب لو كنتَ منهُمُ ولله أفْرَاحُ المحبِّينَ عندمَا يُخاطِبُهُم مَولاهُمُ ويُسلِّمُ ولله كمْ حوريةٍ إنْ تبسمتْ أضاء لها نور من الفَجْرِ أعظمُ فيَا لذَّةَ الأبصارِ إنْ هِيَ أقْبَلتْ ويا لذة الأسماع حين تكلم فيا خاطِبَ الحسناءِ إنْ كنْتَ بَاغِياً فهذا زمانُ المَهرِ فَهْوَ المُقدَّمُ فأقْدِمْ ولا تقنعْ بعيشٍ مُنغصٍ فَمَا فاز باللّذاتُ مَن ليس يَقْدُمُ وإن ضاقتْ الدنيَا عليكَ بأسرِها ولَمْ يكن فيها مَنزِلٌ لك يُعْلَمُ فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنَّها منازلُنَا الأُولَى وفيها المخيمُ

رجال عملوا للجنة

رجال عملوا للجنة يا أيها الإخوة في الله: لما علم الصالحون هذا النعيم، ورأوا أن الفرصة قائمة، وأن السوق رائجة، وأن الثمن الجنة؛ رفعوا رءوسهم فنظروا إلى الأعلام فإذا هي أعلام الجنة قد نصبت، فشمروا إليها، فماذا عملوا؟ قدموا أموالهم ودماءهم وأوقاتهم وكل ذرة ونفس من حياتهم ثمناً للجنة ففازوا وأفلحوا، يحدوهم في ذلك ترغيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الجنة ونعيمها، يوم كان صلى الله عليه وسلم لا يضع جائزة إلا الجنة على أي عمل من الأعمال. يقول النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الأمثلة في الجوائز: {من يجهز جيش العسرة وله الجنة} {من يشتري بئر رومة وله الجنة} من يعمل كذا وله الجنة {من أقبل هذا اليوم ولم يدبر صادقاً محتسباً فله الجنة} فتجده يرفعهم إلى الجنة دائماً، لا يضع شيئاً مادياً عندنا دنيوياً -وإنما يرفعهم على زخرف الدنيا إلى الجنة ونعيمها. أرأيتم إليه يوم يرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه إليه قميصاً مخوصاً بالذهب، والقميص هذا للأكيدر ملك دومة الجندل، يوم ذهب إليه خالد فأخضعه واستأسره وأخذ قميصه الذي عليه وكان مخوصاً بالذهب -موشى بالذهب- فأرسله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، يوم كنا نغزو ولا نغزى، يوم كنا نفرض شروطنا ولا تفرض علينا الشروط: كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه رباه! ارفع ما بالأمة. رباه! ارفع ما بالأمة فإنها قد ذلت وأي ذل! ولا رافع لهذا الذل إلا أنت سبحانك وبحمدك! يا أيها الإخوة: يوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم هذا القميص نظر الصحابة وتجمعوا وقالوا: قميص من ذهب، والواحد منهم ما يجد ما يستر به سوءته، فأعجبوا بهذا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليرفعهم عن هذا الزخرف فقال -كما في البخاري -: {أتعجبون من هذا! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منه} والله! لبعض ذاك المنديل خير من هذا عند الله جل وعلا، فكان يرفعهم فارتفعوا.

أبو بكر من أهل الجنة

أبو بكر من أهل الجنة هاهو أولهم -وهو خير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين- أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان سنداً للمصطفى صلى الله عليه وسلم قدم ماله وأهله وكل شيء في سبيل الله يريد ما عند الله، فماذا قدم الله له من جائزة؟ اسمعوا إليه يوم يأتيه محمد صلى الله عليه وسلم يدعوه ويدعوني ويدعوك ويدعو كل إنسان إلى قيام الساعة فيقول: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا}. يريد أن ينقذهم من النار، لكن بعض الناس كالفراش لا يزال يرى النور فيتركه ويرمي بنفسه في النار. فيقول أبو بكر -ماذا قال؟ أنفكر أو ننظر في هذا الأمر-: ما جربت عليك كذباً، أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، قبل ذلك مُدَّ يدك أبايعك. فكانت أول يد امتدت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هي يد أبي بكر رضي الله عنه الذي هضم حقه ولعنه بعض الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم، فرضي الله عنه وأرضاه ولعن من أبغضه وعاداه. يا أيها الإخوة: هل وقف أبو بكر بعد أن قال لا إله إلا الله؟ لا والله! بل قام بعد ذلك كلما سمع أمراً للمصطفى صلى الله عليه وسلم بلغه، وجاءه الصادون عن سبيل الله -يوم أُسري بالنبي- يقول رسولك -كما تزعم- أنه ذهب وعاد في ليلة، ونحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهراً، كانوا يظنون أن أبا بكر سيقول: أما هذه فلا، قال: إن كان قال فقد صدق. يا ليت ذلك عنوان لنا في كل لحظة من لحظاتنا؛ يوم نسمع أوامر المصطفى؛ يوم نسمع أحاديث المصطفى نقول: إن كان قال فقد صدق، سمعنا وأطعنا. فهل اكتفى بالتصديق فقط؟ لا. بل خرج من عند المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو لم يحفظ سوى بعض آيات من القرآن -لكنه رأى أن المسئولية عظيمة، وأن الخطب جسيم، وأن المؤمن له دور في بيته وفي مجتمعه، له دور سيسأله الله يوم يقف بين يديه: ماذا قدم لهذا الدين؟ وماذا عمل لهذا الدين؟ وعاد وقد أدخل ستة من العشرة المبشرين بالجنة في دين الله. فلا إله إلا الله! يأتي يوم القيامة وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة. يأتي وهم في ميزانه يوم يلقى الله جل وعلا، وهل اكتفى بذلك؟ لا. بل صَفَّى تجارته وأمواله -أربعين ألفاً- ثم أخذها، فإلى أين يذهب؟ رأى المستضعفين من المسلمين ورأى الموالي الذين شهدوا أن لا إله إلا الله يوم رفض الشرفاء -كما يزعمون- والكبراء، رآهم يستضعفون ويذلون، خشي عليهم أن يفتنوا في دينهم، فقال: أتاجر مع الله. ونعمت التجارة في شراء هؤلاء وإعتاقهم لوجه الله تعالى. يمر على بلال في بطاح - مكة - وأهل مكة! أعلم بشدة الحر في هذه البطاح- يمر عليه في الرمضاء وهو يضرب ويوضع فيها وتوضع الحجارة على صدره رضي الله عنه وأرضاه، وإذ به يقول: أحد أحد. يتعلق بالله فيقول له: أحد ينجيك أحد ينجيك. يعني الله الأحد سينجيك يا بلال! ويذهب وهو يحترق لما يرى، فهل جلس في بيته وبقي يتكلم ويقول: إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ لا. بل ذهب وأخذ خمسة أواق من ذهب من حر ماله وذهب بها إلى أمية بن خلف، إلى سيد هذا -مع أن بلالاً سيد له، وما كان سيداً الكافر أبداً- وقال: هذه خمس أواق من ذهب، أتبيعني بلالاً؟ قال: أبيعكه لا خير فيه؛ لأنه استعصى عليه ورفض أن ينساق معه إلى النار، فأخذ منه الخمس الأواقي، وقال: والله! لو أبيت إلا أوقية واحدة لأعطيتك بلالاً، فهو زاهد فيه، قال: والله! لو أبيت إلا مائة أوقية من ذهب لأعطيتك إياها؛ لأن لـ أبي بكر معايير ومقاييس ليست لذاك ولأمثال ذاك من الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم. فهل وقف عند ذلك؟ قام المستهزئون وقام الساخرون يقولون: ما أنفق أبو بكر هذا المال وأعتق بلالاً إلا ليد كانت لـ بلال عنده أي: لنعمة ولمعروف قدمه بلال يريد أن يكافئه أبو بكر، لكن الرد جاء ممن يدافع عن الذين آمنوا، من الله جل وعلا يأتي فوراً الرد وينزل به جبريل على المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] ما لأحد عند أبي بكر من نعمة تجزى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20] ما جزاؤك يا أبا بكر: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21]. من الذي وعده بالرضا؟ الذي خلقه والذي أمره والذي أعد له ما أعد، والذي جعل إعتاق الأرقاء من أعظم الأعمال. فهل توقف أبو بكر عند هذا؟ لا والله! ما توقف وما كان له أن يتوقف. ووالله! لو استرسلنا في كلامنا عن أبي بكر لما كفانا هذا المجلس ولا مجالس أخر ولكن حسبنا منه هذه المواقف. ماذا أعد الله عز وجل له؟ يدعى أما أبو بكر يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية، كل من باب، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. هل أبو بكر فقط؟ ننتقل لغيره لنرى ونعلم أن هناك رجالاً قد قدموا وأننا إذا مشينا على ما مشوا عليه واقتدينا بما اقتدوا به وصلنا إليهم بإذن الله جل وعلا.

أبو الدحداح يشتري نخلة في الجنة

أبو الدحداح يشتري نخلة في الجنة جاءت المصطفى صلى الله عليه وسلم خصومة -كما روى البخاري عليه رحمة الله- بين يتيم وصحابي على نخلة، والناس على الدنيا تجد النزاع بينهم عظيماً، ولم يخل منه حتى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان هناك بستان لهذا الصحابي بجانب بستان آخر لهذا اليتيم وبينهما نخلة، وهذا اليتيم لا زال لم يدرك حق الإدراك، فقال هذا الصحابي: هذه النخلة لي. وقال هذا اليتيم الصغير: هذه النخلة لي. تشاجرا فذهب اليتيم فاشتكي هذا الصحابي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأحضر هذا الصحابي وقال: هذا اليتيم يشكوك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- في نخلة أخذتها له. قال: والله ما كان ذلك لي يا رسول الله! وما كنت لآخذ نخلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً نخرج ونعاين. خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمد على كلام هذا ولا هذا وإنما خرج ليعاين البستانين ويعاين النخلة، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وحكماً بالعدل؛ لأنه يأخذ عن العدل سبحانه وتعالى. وعندما وصل إلى ذاك المكان؛ فإذا بالنخلة في بستان الصحابي واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بغير حكم الله؟ لا. ما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فحكم بالنخلة للصحابي فذرفت دموع اليتيم على خديه؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر كسر قلب هذا اليتيم؛ لأنه لم يدرك الحق. فقال لهذا الصحابي: أتعطيه هذه النخلة ولك بها عذق نخل في الجنة؟ لكن الصحابي كان في وقت غضب إذ كيف يشكوه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم والحق له! وكان في الجلسة رجل يتمنى مثل هذه الفرصة اسمه أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، قال: يا رسول الله! لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي العذق في الجنة؟ قال: لك ذلك. فيلحق بهذا الصحابي ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله. قال: أبيعكها. لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فباعه النخلة بالبستان كله، وذهب إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح! ويا أبناء أبي الدحداح! قد بعناها من الله فاخرجوا منها، فخرج ومع أطفاله بعض الرطب فقام يأخذه ويرميه فيها ويقول: قد بعناها من الله جل وعلا بعذق في الجنة، لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء واشترى عذقاً من نخلة عند الله جل وعلا. فهل قال: انتهينا. لنا في الجنة عذقاً ويكفي، لا نصلي ولا نصوم ولا نعمل أي شيء. لا. فإن الذي بذل هذه سيبذل أعظم منها، بذل المال وبذل الأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة ثم في الأخير يقدم نفسه لله جل وعلا. يخرج في معركة أحد؛ والتي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديداً، وربي فيها المؤمنون تربية عظيمة، وكسرت فيها رباعية المصطفى صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، يوم انتهت المعركة ذهب يفتش صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة عن أصحابه يتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح، وإذ به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: {رحمك الله يا أبا الدحداح! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة}. لا إله إلا الله! ماذا خسر أبو الدحداح؟! خسر تراباً؟! خسر شجيرات؟! خسر نخيلات؟! لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. هل هذا فقط في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ والله! إن الأمثلة لكثيرة وإن النماذج لعظيمة، ولكني أنتقل بكم إلى نموذج آخر قصير.

حنظلة تغسله الملائكة

حنظلة تغسله الملائكة حنظلة وما حنظلة يا أيها الإخوة؟! ذلك العبد الذي يؤمن في يوم ويتزوج وفي ليلته التي يدخل فيها على زوجته وبعد ما يقضي وطره من زوجته، وإذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي. يا خيل الله! اركبي. أيجلس مع هذه في كامل زينتها في أول ليلة من زواجه، خرج وهو جنب ليقدم نفسه إلى الله لتنتهي المعركة ويجدوه مضرجاً بدمائه، والمياه لا زالت تقطر من على رأسه وجسده، من أين جاءته المياه ولا مطر؟ فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة في صحاف من ذهب وفضة؛ فسلوا زوجه. ذهبوا لزوجته ليسألوها قالت: خرج وهو جنب. خرج وهو جنب فغسل في صحاف من ذهب، بشرى له الآن وله عند الله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ذاك غسيل الملائكة والله! لن نبلغ مراتبهم حتى نتبع الطريق الذي اتبعوا، نتبع ذلك النور الذي أخذوا منه، والذي اقتبسوا منه، وإن لم نقتبس ونأخذ من ذلك النور فوالله! إنها الخيبة والندامة. نسأل الله ألا نكون من أهل الخيبة والندامة. لا نقول ذلك فقط، بل سننتقل بكم إلى نموذج آخر في عصر متأخر.

قصة طفل يرويها أبو قدامة الشامي

قصة طفل يرويها أبو قدامة الشامي ويذكر هذا ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الرابع، رجل اسمه أبو قدامة الشامي - وهو غير ابن قدامة - يقول أبو قدامة الشامي: أغارت جيوش النصارى على بلدة من بلاد الشام. يوم كانوا إذا أغاروا وجدوا الليوث أمامهم، يوم كانوا إذا أغاروا نيل منهم ما نيل ورجعوا ليدفعوا الجزية صاغرين، فماذا يعمل؟ ذهب إلى المسجد الذي تعقد فيه مؤتمرات المسلمين، والذي تعقد فيه كل مشاكل المسلمين لحلولها، والذي تطرح فيه الآراء ومنه تنطلق الجيوش والكتائب، والذي ما كان صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً إلا وانطلق من هذا المسجد يذهب أبو قدامة إلى المسجد، ويقف على منبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وينادي في الناس على المنبر في خطبة الجمعة -حضر النساء والرجال- نداء عظيماً ويقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف:10 - 11] {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] لم يترك آية من آيات الجهاد، ولا حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فاشرأبت الأعناق إلى الجنة وأرادت ما عند الله، منهم من يريد اثنتين وسبعين حورية من الحور العين، ومنهم من يريد ما هو أعظم من ذلك كالنظر إلى وجه الله الكريم. فخطب أبو قدامة خطبته وصلى الناس، وكل في نفسه أن يدَّخر له عند الله منزلة بمشاركته في هذا الجهاد حتى النساء والأطفال، وخرج ذاهباً إلى بيته وبينا هو في الطريق في أحد الأزقة، وإذ بامرأة تقول: السلام عليك يا أبا قدامة! قال: فقلت في نفسي: لعلها تريد أن تفتنني؛ لأنه يعلم أن النساء في الغالب فتنة، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. قال: فلم أرد عليها. فقالت: السلام عليك يا أبا قدامة! قال: فلم أرد عليها. قالت: السلام عليك يا أبا قدامة! ما هكذا يفعل الصالحون. قال: فتوقفت. قال: فجاءت وقالت: يا أبا قدامة! سمعت منك ما قلت على المنبر، سمعت آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ظرف أقدمه علَّني أن أكتب عند الله من المجاهدات في سبيله فقال: ماذا فيه؟ قالت: فيه ضفيرتان من شعري، والله! لم أجد ما أقدمه أغلى من هاتين الضفيرتين، اجعلهما لجاماً لفرسك في سبيل الله، علّ الله أن يكتبني في عداد المجاهدات في سبيله، فأجهش أبو قدامة بالبكاء، وقال: والله! هذا هو أول النصر. هذه بشارة النصر؛ أن تقدم امرأة شعرها يوم لم تجد ما تقدمه إلا هذا، جادت بما لديها يوم لم تجد إلا شعرها وهو أعز ما لديها، فأخذه وذهب لبيته وبقي يجمع في الصفوف. وفي اليوم الثاني ينطلق بكتائب الإيمان يريد أن يقابل الروم في موقعة من المواقع، وإذ بذاك الطفل يقابله، طفل صغير أمثاله عندنا لا زالوا يلعبون في الشوارع لا هدف لهم ولم يغرس فيهم أي هدف. يقول يا أبا قدامة! أسألك بالله إلا جعلتني في عداد المجاهدين في سبيل الله. قال: يا بني! أخشى عليك أن تطأك الخيل والإبل بأخفافها. قال: أسألك بالله لا تحرمني الشهادة في سبيل الله. أطفال -يا أيها الإخوة- بهذه الهمم؛ أسأل الله يجعل في الأمة رجالاً كهؤلاء الأطفال. ويتقدم أبو قدامة مندهشاً فيقول: أقبلك بشرط واحد: إن استُشهدت في هذه المعركة أن أكون من شفعائك عند الله لأنك ستشفع في سبعين. قال: قبلت الشرط. فركب معه، وأبو قدامة يحار في تلك المرأة ويحار في هذا الصبي. ويقول: والله! جيش لجام الفرس فيه ضفائر امرأة وفيه مثل هذا الطفل يريد أن يموت في سبيل الله؛ جيش لا يهزم بإذن الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40]. أخذه رديفاً له على دابته، وبينما هم مقبلون على الروم، قال: يا أبا قدامة! وكان يحمل معه خرجاً لا يعلمون ما فيه- فقال: يا أبا قدامة! أسألك بالله ثلاثة أسهم أرمي بها في سبيل الله. قال: يا بني! ستضيعها ولا نستفيد منها دعها لمجاهد يوغل بها في الروم. قال: أسألك بالله ثلاثة أسهم. قال: لا تنس الشرط. قال: لا أنساه. قال: فأعطاه ثلاثة. وعندما قابلوا الجيش أخذ الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! وأطلقه فقتل رومياً، ثم أخذ الثاني وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! فقتل رومياً آخر، ثم أخذ الثالث فقال: السلام عليك يا أبا قدامة! سلام مودع ثم رمى به فقتل رومياً وجاءه سهم طائش فضربه في لُبته فسقط من على الفرس. يقول أبو قدامة: فسقطت وراءه، وأقول له: يا بني! لا تنس الوصية، أي: لا ينسى أن يشفع له عند الله جل وعلا، قال: يا أبا قدامة! خذ هذا الخرج وأعطه أمي، قال: ومن أمك؟ فقال: أمي صاحبة الضفيرتين. الله أكبر! أُسَر يخرج منها أمثال هؤلاء هي أُسَر المؤمنين، هذه هي الأسر التي نرجو من الله أن يكثر من هذه الأسر في أسر المؤمنين. فيندهش مكانه ويجهش بالبكاء ويجلس، ويقول: الله أكبر! جيش فيه مثل هؤلاء وفيه مثل هذه الأُسَر لا يهزم أبداً، أبشروا بالنصر أبشروا بالنصر. ويأتوا ليدفنوه فيفتحوا له القبر ويضعوه وبينما هم يدفنونه إذ لفظته الأرض فتعجبوا وخافوا واندهشوا. يقول ابن الجوزي: والموقف يستحق ذلك -أن يدهشوا- قال: فأخذتني سنة من نوم -والناس يدوكون ويقولون: لعله لم يستأذن أبويه، لعله مراء، لعله كذا مع أنه لم يبلغ الحلم، ولم يكلف بهذا كله- وإذ بمناد يناديني ويقول: يا أبا قدامة! اترك ولي الله. يا أبا قدامة! اترك ولي الله. هؤلاء هم أولياء الله الذين أخذوا طريق الله وأخذوا طريق رسول الله؛ لا أولياء الشر والبدعة والخرافة، إن هؤلاء هم الأولياء. أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأخذ عن الوحي والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي. وإذ بطير تنزل من السماء فتلقط لحمه من على عظمه حتى لا يبقى على عظمه شيء، وتأخذه إلى السماء. قال: فزادت الدهشة. قال: ثم دفنا عظامه وذهبنا، وكان أن نصرنا في هذه الموقعة، ورجعنا بالخرج هذا لنذهب به إلى صاحبة الضفيرتين أم الولد لنعزيها في ابنها. قال: فجئت إلى البيت وطرقت الباب فخرجت أخته وقالت: أمهنئ أم معز؟ قال: بل مهنئ. قالت: إذاً استشهد أخي. قال: إي والله لقد استشهد. قالت: إذاً فهنئنا، لقد روزئنا بأبينا فاحتسبناه عند الله، وروزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن روزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، فلنا ما لهم في الجنة عند الله. فتخرج أمه فيقول: أحسن الله عزاءك في ابنك. قالت: أمعز. أم مهنئ قال: بل مهنئ. قالت: وما أدراك؟ قال: أنه شهيد. قال: لذلك علامة ذكرها لي. فما كان منه إلا أن قام ليذكر هذه العلامة. وقال: يوم أن دفناه لفظته الأرض وجاء الطير من السماء فالتقطت هذا اللحم فلم يبق إلا عظمه، قالت: إذا فهنئني الآن، إنه شهيد بإذن ربه تبارك وتعالى. قال: فما هذا الخرج الذي أوصاني أن أعطيك إياه؟ قالت: أتدري ماذا فيه؟ ثم أخرجت ما فيه فإذا هو قيد وإذا هو لباس من صوف خشن. قال: ما هذا يا أمة الله؟ قالت: كان إذا جنه الليل أخذ هذا القيد فقيد نفسه، ثم أخذ هذا اللباس فلبسه، ثم بقي طول ليله يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه يبكي ويضرع إلى الله، فإذا جاء وقت السحر -وقت نزول الرب تبارك وتعالى: {هل من داع فأستجيب له} يوم يأتي ذاك الوقت- يرفع يديه ويقول: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك، اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك. طفل صدق الله فأعطاه الله ما سأل فله في الجنة ما لا عين، رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والنماذج -والله- كثيرة، ولن نتوقف عند ذلك، وإنما نأخذ بعض الأعمال التي توصلنا إلى ما وصلوا إليه يا أيها الإخوة.

صفات أهل الجنة

صفات أهل الجنة يا أيها الإخوة: هذه سلعة الله، وهذا بعض نعيمها: وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين. سلعة الله غالية! سلعة الله الجنة! خلقها الله يوم خلقها وخلق فيها ما لا عين رأت ثم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها -كما في صحيح مسلم - فذهب إليها ونظر، فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فرجع وقال: يا رب! وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله بالمكاره -حفها الله بالتكاليف وبما يجب أن نعمله- ثم قال: ارجع ثم انظر إليها يا جبريل. فنظر فإذا هي حفت بالمكاره فعاد فقال: يا رب! وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد. يخشى ألا يدخلها أحد لما حفت به من المكاره. يا أيها الإخوة: خلقها الله وجعلها دار رحمته وكرامته ورضوانه ثم قال لها. تكلمي. قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]. فمن هم أهلها إذاً؟ أهلها المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، واقرءوا أول سورة المؤمنون. أهلها من أطاع الله ورسوله فحققوا التوحيد، وأصلحوا العمل، واتبعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح:17] وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهلها: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟} لا يتصورون أن هناك إنسان يأبى ذلك: {قالوا ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}. أهلها من حاربوا البدع وأحيوا السنن وعلموا أن البدع مردودة ليس لها قبول، قبيحة ليس فيها حسن، ضلالة ليس فيها هدى، باطل ليس فيها حق، وزر ليس فيها أجر؛ لأنها شرع لم يأذن الله به، ولم تكن على أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا على أمر أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو عليه رد} وهو القائل صلى الله عليه وسلم: {كل بدعة ضلالة}. أهلها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام وحج وصدق مع الله واتبع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني} كما أخبر صلى الله عليه وسلم. أهلها من تركوا المراء: {أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً}. أهلها من ترك الكذب: {أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً}. من أهلها؟ أهلها من حسنت أخلاقهم: {أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه} يقول أحد السلف: ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة. أهلها أهل قيام الليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]. أهلها {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. أهلها من بذلوا أنفسهم ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولما كان الأمر والنهي يجد الإنسان في طريقه المتاعب ويجد المشاق، جعل الله له في الجنة جزاء عظيماً، اسمع لـ أبي هريرة رضي الله عنه يوم يذكرك بهذا الجزاء، فيقول: [[إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف، كلهن مثل جمالها، تقول هذه العيناء: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟]] عوضاً لهم عما لقوه في الدنيا من أذى، عوضاً عما لاقوه من مشقة، واستهزاء وسخرية. من أهلها؟ أهلها من باتوا لا يحملون على أحد حسداً. أهلها أهل العفو. أهلها من ضمن ما بين لحييه وما بين فخذيه. أهلها من أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، ووصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام. أهلها من راقبوا الله جل وعلا في كل حركة من حركاتهم وسكناتهم وعلموا كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك خمسمائة عام ومن فوق ذلك عرش الرحمن} الله مستو عليه عال عليه بائن من خلقه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] يجب أن نستشعر هذا. الله عز وجل معنا بعلمه، ومعنا بقدرته، لا يمكن أن نذهب عن نظر الله طرفة. إن بعض الناس يوم يعصي الله يستتر بالجدران ويستتر بالحيطان ونسي الواحد الديان. لا تنظر إلى المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. ألا أن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة! هبت رياح الجنة فاغتنموها لتفوزوا بنعيمها: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] ألا فالسباق السباق! ألا فالبدار البدار! جددوا السفن فإن البحر عميق، وأكثروا الزاد فإن السفر طويل، وخففوا الحمل فإن العقبة كئود: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. يا مذنباً! أذنب وأساء وكلنا ذاك المذنب، يا مخطأً أخطأ وزل وكلنا ذلك المخطأ والزال؛ عودة إلى الله: {خير الخطائين التوابون} يقول الحق تبارك وتعالى: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة} ما أرحم الله! ما ألطف الله! ما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتوب علينا. من لنا إلا أنت يا ربنا إن لم تتب علينا. {يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}. فلنستغفر الله، ولنعد إلى الله. والله! نحن بحاجة إلى التوبة -ملتزمنا ومنحرفنا وضالنا- أحوج من الماء والطعام واللباس؛ لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة، وقيل: مائة مرة صلى الله عليه وسلم وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ثم اعلموا: أن المولود إذا ولد نؤذن في أذنه اليمنى، فإذا مات نصلي عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان والصلاة. ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! أتقصر بالمعاصي؟! أتقصر بالشهوات والجري وراء الغرائز والنزوات؟! ما قصَّرها بهذا إلا شقي. ونسأل الله ألا يكون بيننا شقي. فإياكم و (سوف) وإنما عزمة إلى الله وانتبهوا من (سوف) فإن (سوف) جندي من جنود إبليس: سوف أعمل، سوف أعمل: أعماركم تمضي بسوف ورُبما لا تجتنون سوى عسى ولعلما هم المسوف كالتعلق بالسما أعماركم تمضي عجالى إنما أنتم على سفر من الأسفار كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريباً من قبابها. بشرها دليلها وقال غداً ترين الطلح والجبالا فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم أيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عما قليل ستندم أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك علا فِيِه المهيمن يختم أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا. اللهم إنا نحن عبادك الفقراء إلى رحمتك فارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء. اللهم جازنا بالإحسان إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً. اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً. اللهم اجعلنا منصرفين منه وقد كتبت لنا أن نسكن رياض جنانك. اللهم لا تحرمنا نعيم الجنان. اللهم ويسر لنا الطريق إليك إنك على كل شيء قدير. اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة إنك غفور رحيم، وبالإجابة جدير. اللهم إنا نسألك من فضلك الكريم، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مغفوراً له، وإذا مشى كنت معه بسمعك وبصرك وأنت الله لا إله إلا أنت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

صراع الدعاة مع المنافقين

صراع الدعاة مع المنافقين هناك فئة من الناس تكره الإسلام وأهله، خرجت حين عز الإسلام وقوي، فلم تستطع إظهار بغضها وكرهها له؛ فاتخذت النفاق طريقاً، وياله من طريق! إنه مرض عضال، ومقت ووبال، من تلبس به فقد أغضب الواحد القهار، وأسكن نفسه الدرك الأسفل من النار. وقد ظهر هذا المرض في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هذه الضلالة دعامة الجهالة، عبد الله بن أبي -عليه الغضب واللعنة-. وهنا حادثة الإفك وموقف الرسول والصحابة منها، ودروس مأخوذة من هذه الحادثة.

تلذذ المنافقين بلمز المؤمنين

تلذذ المنافقين بلمز المؤمنين يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:57 - 58] ها هو صلى الله عليه وسلم يقارب الأربعين من عمره ذاهب إلى الغار، ما يمر بشجر ولا حجر إلا سلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويأتيه جبريل بالوحي فيعود فزعاً خائفاً إلى زوجه خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول: {زملوني زملوني} فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وأخبر خديجة بالأمر، وقال: {قد خشيت والله على نفسي} قالت: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة]]. ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وقد قرأ الكتب السابقة فأخبرته الخبر فقال: [[هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك]] قال: {أَوَمُخرِجِيَّ هم} قال: [[نعم. ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عودي]] والآن. أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام أقول هذا في وقت لا نزال نسمع عن كثير ممن قل حظهم من مراقبة الله وخشيته والخوف منه، ونسوا حظاً مما ذكروا به، لا تحلوا لهم مجالسهم، ولا يطربون في حديثهم، ولا ينبسطون في جلساتهم حتى يتناولوا أعراض عباد الله القائمين بأمر الله من علماء الأمة، ودعاة الملة، ورجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الذين جردوا سواعدهم لرفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لله عزَّ وجلَّ في وقت خرست فيه الألسن، قالوا وقد سكت الناس، ونطقوا وقد خرست الألسن، وجاهدوا في وقت ركن فيه كثير من الناس إلى الدعة والسكون، وأخلدوا إلى الحياة الدنيا وملذاتها، وتسابقوا إلى الوظائف والمناصب، ومع ذلك فقد قام هؤلاء المخلصون بأمر الله؛ لا يبتغون إلا رفعة وإعلاء كلمة الله، ودحر الباطل وأهله من أعداء الله. تجد هؤلاء الفسقة بل كثير منهم يسارع إلى تناول أعراض الدعاة وتتبع عوراتهم، والتلذذ بالحديث عنهم في المجالس، يلمز هذا، ويتكلم في عرض هذا، ويردد ما أشيع عن هذا، لم تتورع ألسنة بعض هؤلاء من اختلاق الأكاذيب وإلصاق التهم بهم، وترديد بعض الأباطيل التي تلصق بهم، والتي هي -والله- من اختلاق أعداء الإسلام وخصومه الذين تتقطع قلوبهم غيظاً وهم يرون راية الدعوة إلى الله ترفع في هذه البلاد؛ لأن هؤلاء المحتسبين من الدعاة والعلماء يُقِضُّون مضاجعهم، ويفسدون عليهم ملذاتهم وسكرهم وعربدتهم وفجورهم، ودعوتهم إلى منكرهم؛ ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء يلفق التهم والأكاذيب ليرميهم بها، فيتلقفها خفاف الأحلام والسذج من الناس، ويطيرون بها فرحاً يبلغون بها الآفاق أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا لكن لا ضير ولا ريب، هذه هي سمة الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، أوذي صلى الله عليه وسلم؛ وقيل عنه بأنه ساحر، وقيل عنه بأنه كاهن، وقيل عنه بأنه مجنون، ورمي في عرضه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أتم الله النور وأكمل الدين رغم أنف الكفار والمشركين والمنافقين، خرجت فئة المنافقين يوم عز الإسلام تدعي الإسلام وهي منه براء، تريد ضرب الإسلام ودعاته؛ فاتخذت النفاق طريقاً وياله من طريق موحش مظلم مبتور، إنه مرض عضال، ومقت ووبال، من تلبس به فقد أغضب الله الواحد القهار، وأسكن نفسه الدرك الأسفل من النار. لا إله إلا الله! ماذا فعل المنافقون والمغرضون والحاقدون بالإسلام ودعاته في الماضي والآن! لا إله إلا الله كم كادوا لرسول الأنام عليه الصلاة والسلام؛ هم في كل عصر يعيشون، يعشعشون ويبيضون ويفرخون، همهم إطفاء كل نور يدعي له المسلمون. تهاونوا بنظر الله تعالى، وعملوا من المنكر أعمالاً. في المنكرات والصد عن سبيل الله ينشطون، وعن الصالحات والدعوة إلى سبيل الله يتباعدون: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يستهزئون بأهل الاستقامة والصلاح، ومن الدعاة إلى الله يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، فالله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يأمر بمعروف ولا ينهى بناهية، لا يريدون علماً ولا دعوة ولا أن تقام ولو محاضرة. لا إله إلا الله ما أخس وأنذل حالهم! إن سألتهم عن آيات الله البيانات ما عرفوا إلا المغنيين والممثلين والراقصات أحياءهم وأمواتهم، يدّعون الإيمان وما هم بمؤمنين، هم في كل عصر يعيشون يرمون بالتهم وبالأكاذيب دعاة الإسلام، رموا نبي الله موسى قبل نبينا عليهما الصلاة والسلام بالزنا فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً، ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه، وهم أصحاب الإفك في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم هم في كل زمان ومكان بهذا الدور يقومون، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيوجدون، فقاتلهم الله أنى يؤفكون.

حادثة الإفك وموقف المنافقين فيها

حادثة الإفك وموقف المنافقين فيها لنقف قليلاً مع حديث الإفك لنأخذ منه الدروس والعبر، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب، فاسمعوا لـ عائشة المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، صاحبة المعاناة في حديث الإفك يوم تقول: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، ولما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبتنا فيه بعض الليل، ثم أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل. قالت: فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش لأقضي حاجتي، وفى عنقي عقد لي، فلما قضيت شأني انسَلَّ من عنقي ولا أدري، ثم أقبلت إلى رحلي وتلمست صدري فلم أجد العقد، وقد أخذ الناس في الرحيل، قالت: فرجعت أتلمس عقدي فحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً؛ فلم يستنكروا خفة الهودج. قالت: فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، جئت منازلهم فإذا هي بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب، جلست في مكاني متلففة بحجابي أسبح الله وأستغفر الله، قالت: فأخذني النوم، وإذا برجل من أهل بدر من الذين اطلع الله عليهم فقال: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} هو صفوان بن المعطل رضي الله عنه -هذا المجاهد الذي يقول عن نفسه بعد أن رمي بالفاحشة: [[والذي نفسي بيده، ما كشفت خمار أنثى لا تحل لي في جاهلية ولا إسلام]]- أتى إلى مكان عائشة فرآها وعرف أنها زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه يعرفها قبل الحجاب، قالت عائشة: والذي نفسي بيده ما كلمني كلمة ولا سلم عليّ حتى السلام، وإنما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم أناخ بعيره فقمت وركبت بعيره، فأخذ زمام البعير يمشي به ولا يلتفت ولا يتكلم.

إطلاق المنافقين للشائعات

إطلاق المنافقين للشائعات وإنما تقول عائشة: كنت أسمعه يسبح الله، وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره. فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله، وهم في كل زمان يطمئنون لذلك، وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام، وعلى دعاة الإسلام، فأخذوها فرصة لا تتعوض، قام كبيرهم الذي علمهم الخبث - ابن أبي - بين المنافقين يقول لهم: لماذا تأخرت؟ لماذا أتت مع هذا الأجنبي؟ لم ركبت على بعيره؟ لم تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام، هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء الغمام، قريشية من القرشيات: حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام متحجبات في الخدور أوانس ويصدهن عن الخنا الإسلام انطلق الجيش إلى المدينة، ولا زال المنافقون يُشَّهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفراشه الطاهر. لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر، وأتاه النبأ العظيم، ضُرب في صميم قلبه، ضرب في قواعد دعوته، ضرب في صميم رسالته الخالدة، أُصيب في شرفه وفى بيته ومروءته، فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين، أتاه وقال: يا رسول الله! إن المنافقين يقولون كذا وكذا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها. ذهب إلى بيته وسلَّم على زوجه وهي مريضة في فراشها، بعد السفر أصابتها حمى ولم تدرِ أنها متهمة، وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية، هي مريضة على الفراش، فسلَّم عليها صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: ولم أر منه ذاك الحنان والعطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت، قالت: فاستأذنته لأمرض -في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام، في بيت المجاهد الأول، في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- فأذن لها صلى الله عليه وسلم. قالت: فأخذني النساء إلى بيت أبي، وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة، ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها، وتنتشر الفرية في المدينة وتسري سريان النار في الهشيم، ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره: إن أولى الموالي من تواليه عند السرور كما والاك في الحزن إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن قالت عائشة: ولم أعلم الخبر، ولم أدر ما السر، قالت: فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها أم مسطح صالحة من الصالحات، وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر، لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر، وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن، فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت: تعس مسطح -والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت- قالت عائشة: فقلت لها: كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر؟ قالت: إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل. قالت عائشة: وماذا قال؟ قالت: اتهمك هو وأمثاله في عرضك، وقالوا: إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان. لا إله إلا الله! قالت عائشة: فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء، رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها، وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي، يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة، ما عنده دلائل ولا براهين، لا يعلم الغيب، اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم، يثق في زوجه لكنه بشر.

استشارة النبي لبعض أصحابه

استشارة النبي لبعض أصحابه دخل صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أقاربه، استشار علياً رضي الله عنه قاضي قضاة الدنيا وهو منه بمنزلة هارون من موسى، فقال علي: [[يا رسول الله! لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلها تصدقك فو الله ما عهدناها كاذبة]]. قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيل ذهب صلى الله عليه وسلم بعده إلى أسامة، حبه وابن حبه، إلى المولى الذي رفعه الإسلام، فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وعُمْر أسامة أربع عشرة سنة، فيقول أسامة -وهو يعرف من هي عائشة رضي الله عنها-: [[يا رسول الله! أهلك أهلك، والله ما نعلم عنهم إلا خيراً، والله إنها صوامة قوامة بارة رشيدة، فاسأل جاريتها يا رسول الله!]] فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية التي معها في البيت واسمها بريرة، فتقول: [[والله يا رسول الله ما علمت عن عائشة إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، إنها صوامة قوامة، والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أعيبه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله]] والداجن هي الشاة التي تربى في البيت. قام صلى الله عليه وسلم على المنبر، وشكى إلى الناس ما لقيه من المنافقين في عرضه، ما لقيه من اتهامات جريئة في دعوته، شكي من عبد الله بن أبي رأس الضلالة، وعمود الجهالة، المريد التدمير لهذا الدين، فكان مما قاله صلى الله عليه وسلم: {ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً} فقام الأوس والخزرج فكادوا يقتتلون على اختلاف بينهم في المسجد دفاعاً عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم. هدأ صلى الله عليه وسلم الأوضاع، وعاد إلى عائشة في بيت أبيها ليجلس معها مجلس التحقيق والمحاكمة، إما أن تعترف وتتوب إلى الله، وإما أن تتبرأ من هذا، وإما أن يعلن الله توبتها من فوق سبع سماوات. جلس صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: وما جلس بعدها إلا ذاك المجلس، وجاء الفرج من مفرج الكروب ومنفس الهموم، قالت: ومعي أبي وأمي ونساء يبكين معي يشاركنني مصيبتي. فلابد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع

نزول الوحي ببراءة أم المؤمنين

نزول الوحي ببراءة أم المؤمنين قالت: فجلس صلى الله عليه وسلم، ثم شهد أن لا إله إلا الله، ثم حمد الله الذي بنوره تقوم السماوات والأرض، ثم قال: {يا عائشة! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه}. تلعثمت من البكاء لا تستطيع الكلام، تقول لأبيها: أجب عني رسول الله فيما قال، فيبكي أبو بكر ويقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وماذا يقول أبو بكر في اتهام كهذا، ماذا يقول في فرية المغرضين من أعداء الإسلام؟! قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فتبكي أمها، وتقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستجمعت قواي وجف الدمع من عيني، وقلت: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر لم أعمله لتصدقنني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. قالت: فاندفع أبي وأمي باكيين، أما رسول الله فلم يتحرك، مهموم به من الهم ما به، قالت: فوالله ما غادر مكانه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي من السماء ثقل جسمه، فاضطجع على فراشه، وأخذ عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، فعرفنا أنه الوحي، قالت: فوالله ما فزعت، أما أبي فكادت نفسه أن تخرج خوفاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. تحدر العرق بعد ما استفاق صلى الله عليه وسلم كالجمان من على وجهه، فجعل يمسح العرق وهو يبتسم ويقول: {يا عائشة! أبشري إن الله قد برأك من فوق سبع سماوات} براءة من الله، ولطف من الله، ورحمة من الله، يوم أن توصد الأبواب فلا يوجد إلا باب الله، يوم أن تسدل الحجب فلا يأتي إلا عطف الله وحنان الله. فلرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج تهلل وجهها رضي الله عنها، قال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنه: يا عائشة! قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمي عليه واحمديه، قالت: لا والله لا أقوم ولا أحمده ولا أحمدك ولا أحمد أمي، وإنما أحمد الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه. يدخل صلى الله عليه وسلم بعدها المسجد منتصراً على أعداء الرسالة الذين ألصقوا به التهمة في عرضه وشرفه، يجمع الناس ويقف على المنبر يتلو آيات الله البينات، تنزل من على المنبر كأنها القذائف، يسمعها المؤمن والمنافق والذكر والأنثى، وتقرؤها الأمة إلى قيام الساعة؛ لأن التهمة كانت فيه صلى الله عليه وسلم. اسمعوا إلى الآيات التي نزلت قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:11 - 12] إلى أن قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:14 - 15]. وليست التهمة له صلى الله عليه وسلم؛ بل تتجدد يوماً بعد يوم في صور ومخططات رهيبة مفزعة، لكن العاقبة مع ذلك للمتقين والإسلام منتصر في كل مكان: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]. ألا فليخسأ الذين يريدون هدم هذا الدين من الذين يلصقون التهم بدعاته وعلمائه العاملين، وإن نجحوا فالنجاح مؤقت والعاقبة للمتقين، نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يفضح من أراد علماء الإسلام من اليهود والمنافقين وأذنابهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود تقر به أعين الموحدين الآمرين والناهين. اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، واكلأهم برعايتك، وسدد رميهم، واجعل كلماتهم فوارق على كل من أراد بهم الخذلان، وافضح أعداءهم على رءوس الأشهاد، اللهم واهدنا إلى الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دروس وعبر من حادثة الإفك

دروس وعبر من حادثة الإفك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. عباد الله: في حادثة الإفك دروس وعبر أيما عبر ذاك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

طريق الدعوة محفوف بالمكاره والمخاطر

طريق الدعوة محفوف بالمكاره والمخاطر من هذه الدروس: أن طريق الدعوة والجهاد طريق محفوف بالمكاره، كله عراقيل، كله عقبات، وقد لاقى الدعاة في سبيل الله في هذا الطريق مكاره عظيمة فما صدتهم ولا ردتهم عن دعوتهم. هاهو صلى الله عليه وسلم يَخرج من مكة من بين الأهل والجيران والإخوة والخلان حسيراً حزيناً كئيباً طريداً في تلك الفيافي والقفار، ما معه من مظلة إلا (لا إله إلا الله)، يصعد إلى أهل الطائف لأنه ما وجد هناك بيئة تتقبل لا إله إلا الله، ويذهب إليهم فيسخروا منه ويستهزئوا به، فهذا هو طريق الدعوة. وهذا هو المصطفى صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من أذىً في سبيل الدعوة إلى الله، فطريق الدعوة هذا هو. وإلى عهد قريب ليس في ذاك العهد، وإنما إلى عهد قريب نرى سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة رحمه الله يصدح بدعوة الحق، فيجعله أعداء الإسلام في فوهة المدفع، ثم يطلقون به المدفع لتتطاير أشلاؤه لتقول لكل الدعاة: قدموا أنفسكم في سبيل الدعوة إلى الله، فما نقموا منه إلا أن آمن بالله العزيز الحميد. طريق الدعوة إلى الإسلام طريق تضحيات، ومن يفزع من هذا الطريق فليس بداعية حق الدعوة، إن الحافظ الله، إن الولي هو الله، إن المسدد هو الله. هاهو موسى ذلك الغلام الذي رآه فرعون في منامه، ورأى هلاك ملكه على يديه، قتل من قتل من أولاد بني إسرائيل، ويربى هذا الطفل في بيت فرعون، ويترعرع أمام عينيه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ حفظه ومن حفظه الله فلا خوف عليه. وهذا والله درس عظيم للدعاة إلى الله؛ إذ مهما علا الباطل وزمجر، وارتفع هديره؛ فإن الله سيجعله زبداً ويبقى ما ينفع الناس، لا خوف فالله ناصر دينه شاء من شاء وأبى من أبى، أما كيد البشر فكيد ضعيف مهما عظم، ووالله لا تستطيع أي قوة في الأرض أن تصل لقلب مؤمن صادق في إيمانه ويقينه، ما أجمل وأصدق ما قاله أحد الدعاة حين أوذي في ذات الله! تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفى التاريخ بر يميني ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين لن تستطيع حصار فكري ساعة أو رد إيماني وصد يقيني فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني

الدعاة إلى الله معرضون للتهم

الدعاة إلى الله معرضون للتهم ومن دروس هذه الحادثة: أن المنتمين لهذا الدين بإخلاص وصدق معرضون للاتهام، ولإشاعة الشائعات، وإلصاق التهم بهم. سمعتم كيف اتهم صلى الله عليه وسلم في عرضه، وهذا أمر معرض له كل من ترسم خطاه، ومضى على منهجه صلى الله عليه وسلم. تجد كل تهمة تلصق بأهل هذا الدين، وبعلماء هذا الدين، وبدعاة هذا الدين، تشاع عنهم الشائعات، وتلصق بعلماء الأمة وشبابها الملتزم، وبكل صالح في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، وصف الدعاة بالرجعية والتأخر، وصفوا بعدم مسايرة العصر، وصفوا بالسذاجة والبساطة؛ لكن هذه الألفاظ لم تجدِ، فبدءوا الآن برمي الدعاة بالشذوذ الخلقي لتحطيم وتضليل قدوة الأمة في نظر أبنائها، وهذه كلمات وأفعال -والله- ما جاءتنا إلا من اليهودية الحاقدة، صدرتها إلى بلاد الإسلام، فأخذها الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم وزادوا عليها، وزعوها في مجالس الناس، صار الصالحون في أوساط الناس مصدر شبهة وأهل ريبة، وبالتالي سيفقد علماء الإسلام ثقة الناس فيهم، فيضل الناس وعند ذاك يعمنا الله بعقاب من عنده وذاك مطلبهم: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]. يأتي كل من في قلبه زغل ونفاق يتشفى بالصالحين وبالدعاة المخلصين ويقول: الشاذون، كانوا يقولون المتشددين والآن أصبحوا يقولون: الشاذين، ونسأل أصحاب هذه الكلمات ما الشذوذ في نظرهم؟ هل هو التمسك بحبل الله يوم أن انقطعت حبال الذين من دونه؟ هل الشذوذ هو الحرص على تطبيق السنة بالمسلك والآداب والتعامل يوم ضاعت تعاليم السنة بأشخاص كثير من الناس؟ هل الشذوذ في إحياء القلوب بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن أصبحت مجالس الناس لنشر الشائعات، وللسذاجة واللهو واللعب؟ هل الشذوذ أن يتروض الشباب في بساتين آيات الله يوم تروض غيره في مزابل الأغاني وفي مزابل البغايا والعاهرات؟ هل الشذوذ أن تدرس كتب السلف الصالح يوم شغل الكثير عن المصحف بالمجلة الخليعة، وعن المسجد بالمقهى، وعن السواك بالسيجارة، وعن زيارة بيت الله الحرام بزيارة بلاد الكفار كـ بانكوك وأمثالها وما أدراكم ما تلك البلاد؟ لا إله إلا الله! سبحانك هذا بهتان عظيم! الشذوذ والانحراف في البعد عن منهج الله، في الانسلاخ عن الإسلام والقيم والآداب والأخلاق، الشذوذ والانحراف في البعد عن كتاب الله الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ، وما خرجت -والله- مثل هذه التهم إلا يوم أن ابتعدنا عن الإسلام، يوم أن تركنا الأمر والنهي أصبح البعض يمشي خجلاً أنه مطبق للسنة، فتجرأ الرعديد، وتجرأ الملحد، وتجرأ المنافق ليطلق الشائعات عن أنصار الدين وعلمائه، عن حاملين راية محمد صلي الله عليه وسلم ولكن نقول: إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهامة باقل وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى للبدر وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل

دعاة الإسلام مستهدفون

دعاة الإسلام مستهدفون ومن هذه الحادثة نستفيد: أن دعاة الإسلام مستهدفون، وعلى رأسهم قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، أشيعت عنه الشائعات، وإشاعة الشائعات أمر عظيم ومرض خطير لكنها كثيرة وموجودة. كثير من الناس لا يسمع كلمة -صدقاً كانت أو كذباً- إلا وأخبر بها فرية كانت أو حقيقة، تمس أخاً أم غير أخ، ما كأنه سمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما كأنه تربى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم {كفى المرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، رب كلمة توجب لصاحبها النار {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار سبعين خريفاً} {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

قذف المحصنات من الكبائر

قذف المحصنات من الكبائر ومن الدروس أيضاً: أن قذف المحصنات المؤمنات الغافلات كبيرة من الكبائر، وموبقة من الموبقات استوجب صاحبها اللعنة من رب الأرض والسماوات، وكذلك قذف المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:23 - 24]. ومن دروس حادثة الإفك: ألا تشاع الفواحش، فلا يتحدث بالجرائم التي تحدث في المجتمع في المجالس حتى ولو حدثت؛ لأن التحدث بها يقلل من خطرها في قلوب الناس، أوما سمعتم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].

اتقوا مواطن الشبه

اتقوا مواطن الشبه ومن الدروس: ألا يقف المسلم في مواقف الريبة أو في مواقف التهمة حتى ولو كان أطهر من ماء الغمام، إن النفوس يشرع إليها الشك والقلوب تنتابها الأوهام. وها هو صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء في مسجده، وتأتيه صفية زوجه تعوده وهو معتكف، فلما قام يودعها مر به أنصاريان فقال لهما: {على رسلكما، هذه صفية بنت حيي} يخبرهم صلى الله عليه وسلم لئلا يجري الشيطان في دمائهم فيظنوا به سوء، فدع مواطن الشبهة والريبة يا عبد الله؛ فذلك أصلح وأسلم وأتقى وأنقى.

المؤمن مبتلى

المؤمن مبتلى ومن الدروس: {أن المؤمن مبتلى وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل} أوذي صحابة رسول الله أذى عظيماً فصبروا واحتسبوا، وأوذي من قبلهم فصبروا، كان يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق نصفين، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]. عباد الله: علماؤنا زهرة الدنيا ونورها، وهم حاملو ميراث الأنبياء، والداعون إلى صراط الله العزيز الحميد، عرف أعداء الإسلام ذلك؛ فألصقوا بهم التهم، ونشروا عنهم الشائعات، وبعض السذج وخفاف الأحلام -عن قصد وغير قصد- يروج لهذه الشائعات. لا إله إلا الله! والله ما يريدون بتشويه العلماء سوى ضرب ميراث الأنبياء، يريدون إطفاء نور الله، فلتكن على وعي وإدراك أخي المسلم، المسلم كَيّس فطن المسلم لا يغتر، المسلم بنور الله يمشي، المسلم لا تنطلي عليه الشائعات، المسلم يفرق بين السم والدسم. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم انصر علماء أمة محمد صلي الله عليه وسلم والصالحين من عبادك وأوليائك. اللهم انصر علماء أمة محمد، اللهم انصر من نصر الدين، اللهم اخذل من خذل الدين، اللهم من أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ومزقه كل ممزق يا أكرم الأكرمين! اللهم اكشف أستاره، اللهم افضح أسراره، اللهم ابد عواره، اللهم أخرس لسانه، اللهم أذهب عقله، اللهم دمر جنانه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا أكرم الأكرمين! اللهم انتقم لأوليائك، اللهم انتقم لعلماء المسلمين، اللهم انتقم لأحبابك ودعاتك وصالح عبادك، اللهم ثبتنا على الحق. اللهم من نصر الدين فمكنه في الأرض واجعله هادياً مهدياً، اللهم من خذل الدين فأرنا فيه يوماً كيوم فرعون وهامان وقارون. نسألك يا رب أن تحفظنا، نسألك يا رب أن تحمينا، نسألك يا رب أن تهدينا سواء السبيل، نسألك أن تمنعنا من كل ما يدبر للمسلمين من كيد وسوء. اللهم لا تدبير لدينا إلا تدبيرك، ولا حيل لدينا ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الحياة شراً لنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك لذة النظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم من أراد بعلمائنا سوء فعليك به، اللهم اهلكهم بدداً، واحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

صفحات مطوية

صفحات مطوية السلف الصالح هم القدوة، ولنا في أقوالهم وأعمالهم عبرة، فإنما هم طلاب مدرسة النبوة، فهاك -أخي الكريم- بعض مواقفهم مع ما فيها من العظة، علنا أن نتأسى بهم، فهم -والله- خير قدوة.

مواقف من سيرة السلف الصالح

مواقف من سيرة السلف الصالح الحمد لله قَدَّم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله. هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب. الواحد الأحد العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفواً أحد. لم يزل حكيماً قديراً، عليماً خبيراً، سبق الأشياءَ علمُه، ونفذت فيها إرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة سبحانه وبحمده. لم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، وما مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعاً وكرًها له الخلق أجمعون. نحمده على حَزن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه. ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. ونستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. شهادة عبده، وابن عبده وابن أَمَته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقراراً بوحدانيته، وإخلاصاً لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شئ عنده بمقدار، لا يوارى عنه كلمة، ولا يغيب عنه غائبة. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59] ونشهد أن محمداً عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه -من قائد إلى الهدى- وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها مليون آمينا أما بعد: أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم: (بصفحات مطوية) أودعتها طرفاً من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفاً من حرص طلاب العلم على العلم، ونادراً من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذاً من نصح الأمة لدينها، وشذراً من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفاً من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة. هي باقة من مكارم الآباء تهدى إلى الأبناء، وطاقات علمية نادرة، وعبقريات فذة مدهشة، هي لأهل العلم تذكرة، وللعامة والخاصة تبصرة، نرجو أن ينعش بها العليل، ويشحذ بها الكليل، ويُبعث الوسنان، ويُوقظ الهاجع، ويُنشر المطوي، ويُفتح المغلق، وينهض المقعد، ويمشي الكسيح. أضعها بين أيديكم كالمائدة تختلف عليها أصناف الأطعمة لاختلاف شهوات الآكلين، وأنا لا أدعي -معاذ الله- أني أتيت فيها بجديد، ولا أدعي أني أتيت بخفي أو دقيق، فهي أشهر من أن تذكر، ما أظن أحداً منكم إلا وقد سمعها. جمعتها من كتب السير والتراجم، مجتهداً -فقط- باختيار اللفظ المناسب للموقف؛ فجاءت مشكلة المباني، مختلفة المعاني، راجياً أن تنبع من بين الجوانح لتصل إلى الجوانح وتظهر على الجوارح، فإذا مر بك -يا أخي- ما لا يعجبك فلا تصعِّر خدك، ولا تعرض بوجهك، ولا تسُلّ لسَانَكَ، ولا تجلب بخيلك وَرَجِلَك، وخذ من المائدة ما يعجبك واتهم فهمك. فكَمْ مِنْ عائبٍ قوْلا صَحِيحاً وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ ولا يصدنك عن الحكمة قائلها؛ فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفْقَهُ. اعْمَلْ بعلمِي وغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ زَلَلَي يَنفَعْكَ قَوْلِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي لقد خففت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت ما يتوقاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة، ومن بعد الشقة بالإياب، لكني لم أجد بداً من الوقوف على ما أودعته هذه الصفحات؛ إذ لا يسع الصمت؛ ففي الصمت عِيٌ كعي الكَلِم، فأسأل الله بعزته وقدرته أن يمحو ببعض بعضاً، ويغفر بخير شراً، وبجد هزلاً، ثم يعود علينا بفضله، ويتغمدنا بعفوه، ويعيذنا بعد طول الأمل فيه، وحسن الظن به من الخيبة والحرمان. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العُجْب لما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، ونعوذ بك من العي والحصر. فالقولُ ذُو خَطَل إذَا مَا لَمْ يَكُنْ ربِّي مُعِينِي أعذني ربِّ مِنْ حَصَرٍ وَعِيٍّ ومن نفسٍ أُعَالِجُهَا عِلَاجاً اللهم إنا نستعينك ونتوكل عليك، ونفر من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت، لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.

فيم يختصمون؟

فيم يختصمون؟ الصفحة الأولى: فِيمَ يختصمون؟ روي أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه عيَّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قاضياً على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر! قال عمر: لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟ هنيئاً، ثم هنيئاً، ثم هنيئاً لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك الجمع. اللهم كما حرمناه في هذه الحياة فأقر أعيننا برؤيتهم في جنات النعيم، إخواناً على سرر متقابلين. أولئك النَّاسُ إنْ عُدُّوا وإنْ ذُكِرُوا وما سِوَاهُم فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودِ واحرَّ شَوقِي إليهِم كُلَّمَا هَجَست نفسِي فنفسي بهمْ مجنونة الكَلَفِ إنِّي سَئِمْتُ هَوَى الدُّنْيَا وزَهْرَتَهَا وملَّ قَلبِي ذُرَا رَوْضَاتِها الأُنَفِ وقد بلوتُ لياليهَا وأَنهُرَها فَتَىً وحُزْت لآليها منَ الصَّدَفِ فلم أجدْ غيرَ دربِ اللهِ دربَ هُدَى وغيرَ ينبوعِهِم نبعاً لمُغترِفِ كَرِّرْ عَليَّ حدِيثَهُم يَا حادِي فحدِيثُهُم يَجْلُو الفؤادَ الصَّادِي

شامة في جبين التاريخ

شامة في جبين التاريخ الصفحة الثانية: شامة في جبين التاريخ، وغرة في ثبات المؤمنين. روى أهل السير: كـ الذهبي وابن حجر وغيرهم: أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله ما علم. علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ! فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليلاً ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصراً عظيماً، وكسباً عظيما، فذكروه لقيصرهم. فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، (وما راءٍ كمن سمع) كما قيل. نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه. هيهات! أنَّى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنَّى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية. بدأ بالإغراءات، فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني. يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا. هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت. الله أكبر! يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وايم الله! ما هزلت حتى يستامها المفلسون المعرضون الجبناء، وايم الله! ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلاً المعسرون المفلسون، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد؟ فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد. عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقاً إنه كسب- وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نرى من أناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق. يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حفت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد. قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد -كما يقولون- وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور -أخي الحبيب- ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، فأدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، فقامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين. تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلاناً لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، إذ قد فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار: ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر. قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على بشر أم على حجر. الله أكبر! الإغراء بالشهوة يفشل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعاً لغيرها في قلبه. كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟! كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً ولأضاءت ما بينهما؟! كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟! كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟! كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب؟! كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوباً ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟! كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟! خاب من باع باقياً بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة. هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك. انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديداً دون نار جهنم؟! إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك. قال رضي الله عنه: أنت وما تريد. افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى. فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه. التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية؛ فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله. لا إله إلا الله! والله أكبر! ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله! وعبودية الله! لم يترك فيها فراغاً لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم. عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله. لسان حاله: فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله. هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز والغمز واللمز يمشي على خجل وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه، فلينتبه لذلك وليكن لسان الحال: أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله. فقال له القيصر معجباً بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك -وكانوا لا يعيشون لأنفسهم- فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ قال: وعن جميعهم. فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة كما روى ابن عائذ في السير للذهبي، وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأسك]]، رأس مَنْ؟ لا أظن أحداً يجهل مثل هذا الرجل إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، شامة في جبين التاريخ، وغرة في جبين الزمن. أحبتي في الله: لا يملك الإنسان أمام هذه المواقف التي تقف لها الهام إلا أن يقول: إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قول، ولا في سبيل نفس، ولا في سبيل وطن، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله في أرض الله في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار، لا يخافون لومة لائم، وفيم الخوف من لوم الناس وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟ إنما يخشى الناس ولومهم من يستمد حركاته وسكناته ومقاييسه من أهواء الناس، فهو أرضيٌّ طينيٌّ دونيٌّ. أما من يعود إلى موازين الله ليجعلها فوق كل الموازين فما يبالي بأهواء البشر وشهواتهم وقيمهم، ولا يبالي بما يقولون، ولا بما يفعلون، ولا بما يتوعدون، إنها سمة المؤمنين المحبين لله ورسوله، الاطمئنان إلى الله يملأ قلوبهم، فهلا أعددت نفسك لتكون من أمثال هؤلاء؟! فإن الينبوع واحد، وإن المورد واحد، وإن النهر واحد، ما أخذوا منه أنت تأخذ منه، ثبات على المبادئ، وصدق مع الباري، وإخلاص في الظاهر والخافي، سماويون لا أرضيون، لا دونيون، لا طينيون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فيا ضعيف العزم! ويا دنيء الهمَّة! أين أنت

إنما هي نفس واحدة

إنما هي نفس واحدة الصفحة الثالثة: إنما هي نفس واحدة: روى حميد بن هلال كما في السير للذهبي قال: أتى بعض مخالفي أهل السنة مطرف بن عبد الله عليه رحمة الله يدعونه إلى رأيهم المخالف لـ أهل السنة، فقال -واسمعوا لما قال- قال: يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن تبين أن الذي تقولونه هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن إنما هي نفس واحدة، والله لا أغرِّر بها، والله لا أغرر بها. إجابة حازمة وجازمة للدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها: (إنما هي نفس لا يغرر بها). إجابة لمن لا يملك تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية: (إنما هي نفس لا أغرر بها). إجابة حاسمة جازمة لمن يريد أن تجعل دينك دونه: (إنما هي نفس واحدة لا أغرر بها). يا من باع كل شيء بلا شيء! واشترى لا شيء بكل شيء: (إنما هي نفس واحدة). إلى عباد الأهواء والشهوات: (إنما هي نفس واحدة) إلى المتاجرين ببث الشبهات: (إنما هي نفس واحدة). مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَّعثَا ويَأْلفُ الظِّلَ كيْ تبقَى بَشَاشَتُهُ فسوفَ يسكنُ يَوماً راغماً جَدَثَا في قعْرِ مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ يُطيلُ فِي قَعْرِهَا تحتَ الثَّرَى اللَّبثا تَجَهزِي بجهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثاً إنما هي نفس يا عبد الله! فلا تغرر بها، اشترها اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود وخطير، والبضائع رخيصة وفي ذات الوقت نفيسة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: {ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] {ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان:27] يوم الحساب. إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عَسِيرٌ ليسَ فيه للظاَّلمينَ نَصِيرُ

من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل

من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل الصفحة الرابعة: من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل. في تهذيب الكمال، وفي صور من حياة التابعين أن ابن هبيرة كان والياً على العراقين؛ والمقصود بـ العراقين البصرة والكوفة في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في تلك الكتب ولو كان مجافياً للحق أحيانا، فدعا ابن هبيرة عالميْن؛ هما الحسن البصري، وعامر الشعبي يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟ فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة ومسايرة والحسن ساكت، فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال: يـ ابن هبيرة! خَف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله. يـ ابن هبيرة! إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد. يـ ابن هبيرة! إنك إن تكن مع الله وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، وإن تكن مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد. فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه. فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع ابن هبيرة، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل؛ فوالذي نفسي بيده! ما قال الحسن لـ ابن هبيرة قولاً أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله منه، وأدنى الحسن وحببه إليه. أيها الأحبة: إن القلب هو محل التأثر من الإنسان، والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى بعلمه ونصحه فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى له أن يمنحه الله إقبالاً من الناس أو تأثيراً فيهم! لذا تراه إن تكلم لم يُسْمع، وإن عمل لم يحرك ويظن أنه قد أحسن، ولكن كم من مسيء يرى أنه محسن، وجاهل يرى أنه عالم، وبخيل يرى أنه كريم، وأحمق يرى أنه عاقل، وظالم يرى أنه مظلوم، وآكل للحرام يرى أنه متورع، وفاسق يعتقد أنه عدل، وطالب علم للدنيا يرى أنه لله، والأجل قصير، والأمل طويل، والمرد إلى الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، من آثر الله دله الله على الطريق، وإنا لله من بُعْدٍ عن الطريق. وفي السير -أيضاً- أن الحسن قد خرج من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: [[ما يجلسكم هنا؟! تريدون الدخول؟! أتجالسونه مجالسة الأبرار؟ تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فَرْطَحْتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله! لو زهدتم لرغبوا فيما عندكم من العلم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم. أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد. أهينوا الدنيا؛ فوالله لأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها]]، ثم كان مما قال: [[السكين تُحدُّ، والكبش يُعْلف، والتنور يُسْجَر، ومن سمع سمّع الله به، وما أحد أعز الدرهم إلا أذله الله. تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار]]. أيها الأحبة: إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده عليه الشرع، ولو نافق طالب العلم لكان كل منافق أشرف منه، ولطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود. والدينار إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض فهو زائف كله، فمن ترك واجباً مخافة أحد نزعت منه هيبة الله حتى لو أمر بعض ولده أو مواليه لاستخف به. يقول الفضيل: إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل. فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُ فَمَا يُغني رِضَا الخَلْق والخَلاقُ قد سخطا هل يبسطون لِمَا القهارُ قابضهُ أوْ يَقْبضونَ إذا الرّحمنُ قد بَسَطَا لا والله.

من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه الصفحة الخامسة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. في ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز أنه قال: كنت مجاوراً في مكة -حرسها الله- فأصابني يوماً من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئاً أدفع به عني ذلك الجوع، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فوجدت كيساً من حرير مشدوداً برباط من حرير أيضاً، قال: فأخذته وجئت به إلى بيتي، وحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أرَ مثله قط، قال: فربطته وأعدته كما كان، ثم خرجت أبحث عن طعام فوجدت شيخاً ينادي ويقول: من وجد لنا كيساً صفته كذا وكذا فله خمسمائة دينار من الذهب. قال: فقلت في نفسي إني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد عليه كيسه؟ لا ضير، فقلت له: تعال إليَّ فأخذته، وذهبت به إلى بيتي، وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ، والخيط المشدود به، فإذا هو كما قال، قال: فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إليَّ خمسمائة دينار -الجائزة التي ذكرها- قال: فقلت له: يجب علي أن أعيده لك ولا آخذ له جزاءً، قال: لابد أن تأخذ، وألحَّ عليَّ كثيراً، وأنا أحوج ما أكون، قال: فقلت: والذي لا إله إلا هو! ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، فلم يقبل الدنانير، قال: فتركني ومضى. ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده، وأما أنا -الإمام البزاز الكلام له- فإني خرجت من مكة وركبت البحر في وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله، فانكسر المركب، وغرق الناس، وهلكت الأموال. قال: وسلمني الله إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة لا أدري إلى أين تذهب بي، وبقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى لفظتني إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. قال: فجلست في مسجدهم، وكنت أقرأ، قال: فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ، فلم يبقَ في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن. قال: فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك، قال: ثم إني رأيت في ذلك المسجد مصحفاً ممزقاً، فأخذت أوراقه لأقرأ فيها، فقالوا: أتحسن الكتابة؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، قال: قلت: لا بأس، فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي من ذلك خير عظيم. ثم رغبوا فيه فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم: عندنا صبية يتيمة ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجك بها، وتبقى معنا في هذه الجزيرة. قال: فامتنعت، فألحوا عليَّ وألزموني، فلم أملك أمام إلحاحهم وإصرارهم إلا أن أجبت لطلبهم، فجهَّزوها لي، وزفُّوها إليَّ -زفها محارمها- وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها وإذا ذلك العقد الذي رأيته بـ مكة بعينه معلق في عنقها فدهشت، وما كان لي حينئذ من شغل إلا النظر لهذا العقد، فقال محارمها: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد، قلت لهم: إن لهذا العقد قصة، قالوا: وما هي؟ فقصصتها عليهم فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة. فقلت: سبحان الله! ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائماً: والله! ما وجدت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي ردَّ عليَّ العقد في مكة، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، وتوفى ذلك الرجل، وحقق الله دعوته وزوَّجك بابنته. فيقول: فبقيت معها مدة من الزمن فكانت خير امرأة، رزقت منها بولدين، ثم توفيت فعليها رحمة الله، فورثت العقد المعهود أنا وولدي، قال: ثم توفي الولدان واحداً تلو الآخر، فورثت العقد منهما، فبعته بمائة ألف دينار. ويحدث بعد مدة ويقول: هذا من بقايا ثمن ذلك العقد، فرحمة الله على الجميع. من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء: {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].

زد من الضرب وزد من الحديث

زد من الضرب وزد من الحديث الصفحة السادسة: زد من الضرب وزد من الحديث. ذكر أهل السير أن هشام بن عمار عليه رحمة الله كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير، وكان معاصراً للإمام مالك عليه رحمة الله فجاءه في رحلة شاقة طويلة -فاسمع لها يا طالب العلم وعِهَا فلعل لك فيها عظة وعبرة- عن محمد بن الفيض الغساني قال: سمعت هشام بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني للحج وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال مالك رحمه الله قال: فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس الإمام مالك ومعي مسائل -أعدَّ مسائل يريد أن يسائل الإمام فيها- قال: وأريد مع ذلك أن يحدثني، قال: فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمانه قيام حوله، والناس يسألونه ويجيبهم، يتدفق كالبحر، قال: فلما انقضى المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلا للرواية. فقال: حصَّلنا على الصبيان -يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان- يا غلام -لأحد غلمانه الذين حواليه- احمله، قال: فحملني كما يُحْمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فأخرجني. يقول ابن جزرة: ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن وقال له: حدثني، فرفض الإمام مالك، يقول هشام: فكررت عليه وراددته فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشر سوطاً، قال: فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشر سوطاً. فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام مالك فإذا به يبكي، فقال له: ما يبكيك يا هشام! أو أوجعتك؟ قال هشام: إن أبي باع منزله بعشرين ديناراً، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته سوى أني أطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا جعلتك في حلٍّ، لأسائلنك بين يدي الله. فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنة بحق، فقال: يا بني! ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟ فقال هشام: أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجلس الإمام وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فسرد له خمسة عشر حديثاً، فقال بعدها: يا إمام! زد في الضرب، وزد من الحديث. فضحك الإمام مالك وقال: اذهب. فانظر يا طالب العلم! كيف عرفوا العلم وقدره، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه، باعوا بيوتهم، وقطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يُعْبد الله في الأرض على بصيرة. هاهو الحافظ ابن عساكر عليه رحمة الله لاقى في تحصيل العلم ما لاقى من الشدائد مما تنقله كتب السير والتراجم وهاجر من دمشق إلى نيسابور وكانت ذات ثلج شديد، وبرد زمهرير لم يألفه في موطنه دمشق، وفي ذات ليلة تحت وطأة الغربة، وفراق الأحبة، وفراق الأبناء، وشدة برد البلدة -في نيسابور - قال يصور معاناته، ويذكر لأهله أنه لا زال على عهده أن يطلب العلم ثم يعود إليهم، فكان مما قال: لولا الجحيم الذي في القلبِ من حُرَقي لفُرقة الأهلِ والأحبابِ والوطنِ لمِتُّ من شِدةِ البَردِ الذي ظهرتْ آثارُ شدَّتِهِ في ظَاهرِ البَدَنِ يا قومِ دُوموا على عهدِ الهُدى وثِقوا أنّي على العهدِ لم أغدِرْ ولَم أَخُنِ ثم ذكر ما كان له من أسفار متواصلة، ورحلات في الأرض متباعدة في سبيل طلب العلم الشرعي، فقال رحمه الله: وأنا الذي سافرتُ في طلبِ الهُدى سفرَيْنِ بينَ فدافدٍ وتنائفِ وأنا الذي طوَّفت غيرَ مدينةٍ منْ أصبهان إلى حدودِ الطائف الشرق قد عاينت أكثر مدْنِه بعدَ العراق وشامِنا المُتَعارفِ وجمعت في الأسفار كل نفيسةٍ ولقيت كل مخالِفٍ ومآلف وسمعتُ سنةَ أحمد منْ بَعد ما أنفقت فيها تالدي مع طَارفِي صلى الله على نبينا محمد. لله درهم! ما أمضى عزائمهم! وما أشد جلدهم وشوقهم لطلب العلم لوجه الله! وما أقواهم على الدخول فيما يريدون حين يريدون! طافوا الدنيا لتحصيل العلم، زرعوها بالأقدام زرعاً يوم لم يكن قطار ولا سيارة ولا باخرة ولا طيارة، طواف للبلدان، ونَصَب للأبدان، وكسب للزمان، لا راحة ولا استرخاء، لا صعوبة تمنعهم من لقاء العلماء، أمانيهم في تحصيل العلم، وخدمة هذا الدين تحدوهم إلى المزيد، وتنسيهم ما يلقون من تعب وعناء شديد، لسان حال بعضهم: كَنَفِي بَعِيرِي إنْ ظعَنتُ ومَفْرشي كُمِّي وجُنحُ الليلِ مطرح هَوْدجِي ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شُخُوصُهم فالنَّشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ هل من مقتد بهم -يا طلبة العلم- في هذا الزمان؟ إن مرحلة تحصيل العلم شاقة تنقطع دون بلوغها حيازيم الصبر، وتنحسر أمامها عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازها إلا الأفذاذ الأبطال، من لم يستسلموا للكسل والتواني، ولو لاقوا الألاقي. من لم يطيعوا التواني ولم يضيعوا الحقوق. فيا طلبة العلم: اعلموا أن علوم الإسلام لم تدون في ظلال الأشجار والثمار، وعلى ضفاف الأنهار، إنما دوِّنت باللحم والدم والعصب، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي، على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه أحياناً، في ظل الجوع والعري، وانقطاع النفقة في بلاد الغربة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في الفيافي والقفار، والغرق في البحار، مع البعد عن الأهل والزوجة والدار. لسان حال الكثير منهم من علماء الإسلام: في الشام أهلِي وبغداد الهَوَى وأنَا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط خِلاَّنِي بالصبرِ بلَغُوا ما أرادُوا: والصبرُ يُوجدُ إنْ باءٌ له كُسِرَت لكنَّهُ بِسُكُونِ الباءِ مفقودُ رحمهم الله، تحمَّلوا ما تحملوا لتدوين العلم، فلم يبقَ لك إلا أن تطلبه في مظانه بهمة الرجال التي تتصاغر وتتضاءل أمامها المشاق والمتاعب والأخطار، ولن يخيب الله مسعى من سعى، ولن يتخلف الصادق عن النبوغ؛ فالنبوغ صبر طويل كما قيل. وإنَّ سِيادةَ الأقوامِ فاعلمْ لَهَا صُعَدَاءُ مَطلعُهَا طَوِيلُ وأنت لها أهل. خلَقَ اللهُ للخُطُوبِ رجالاً ورجالاً لقَصْعَةٍ وثَرِيدِ فكن من رجال الخطوب لا من رجال القصعة والثريد، فمن ساير الأماني، وصاحب التواني، واستلذَّ المطاعم، واستحبَّ النوم، وشغلته تقلبات الفصول عن التحصيل فما أبعده عن العلم! وما أبعد العلم عنه! وما أنفره عن العلم! وما أنفر العلم عنه! إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى فكُنْ رَجُلا عَلَى العَلْياءِ جَلْداً وشيمتُك التَّصَبُّرُ للعَنَاءِ فقلْ منْ جدَّ في أمرٍ يحاوِلُهُ واستَصْحَب الصَّبْرَ إلا فَازَ بالظَّفرِ كَمْ حاجةٍ بِمكانِ النَّجْمِ قرَّبها طولُ التَّرَدُدِ فِي الرَّوْحَاتِ والبكرِ

تكليف لا تشريف

تكليف لا تشريف الصفحة السابعة: تكليف لا تشريف. حدَّث الفضيل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد عليه رحمة الله قال: ثم أتاني وخرجت مسرعاً، أقول له: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، قال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت له: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه. قال: فأتينا فقرعنا الباب، فقال: من؟ قلت: أمير المؤمنين، فخرج وقال: لو أرسلت إليَّ أتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم. قال: اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلا آخر أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعنا الباب وخرج إلينا، فإذا هو بأمير المؤمنين، فقال: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم. قال: يا أبا عباس اقضِ دينه، قال: فلما خرجنا قال: ما أغنى عنا صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، قال: فأتينا، فإذا هو قائم يتلو آية من القرآن يرددها. قال: فقرعت الباب فلم يرد، فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: فاستمر في قراءته، فقلت: أما عليك طاعة، قال: بلى. لكن ليس للمؤمن أن يذل نفسه، ثم نزل ففتح باب الدار، ثم ارتقى إلى غرفة من الغرف، وأطفأ السراج، والتجأ إلى زاوية في بيته، قال: فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا علَّنا نجده، فسبقت كف هارون إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام قوي من قلب تقي، قال: خذ -رحمك الله- لمجيئنا إليك، وأعطاه مالا، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما وليَ الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ. فعدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت نعمة، خذ مالك لا أريده. ثم واصل فقال: قال له سالم: يعني قال سالم لـ عمر: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين لك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ابناً، ووقِّر أباك، وأكرم أخاك، واحنُ على ولدك. وقال له رجاء: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت، وإني أقول لك -يا أمير المؤمنين- إني أخاف عليك أشدَّ الخوف من يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك بمثل ذلك. فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يـ ابن الربيع؛ تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، النصح رفق، النصح رفق. ثم أفاق الرشيد وقال: زدني رحمك الله. فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني أن عاملاً لـ عمر بن عبد العزيز شُكي إليه، فكتب عمر إليه قائلاً: يا أخي! أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل فبكى الرشيد بكاءً شديداً، ثم قال: زدني رحمك الله. فقال: يا حسن الوجه! أنت الذي سيسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقيَ هذا الوجه النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك؛ فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: {من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة}. فبكى هارون بكاءً شديداً، ثم أفاق وقال له: أعليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، ثم انفجر باكياً مضطرباً كما يضطرب العصفور المبلل بالماء، ثم هدأ. فقال له هارون: أما عليك دين لعباد الله نقضيه عنك؟ قال: إن ربي أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم من رزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رَازِقِي وما يك منْ رزقٍ فليسَ يَفوتني ولَوْ كانَ في قاعِ البِحارِ العَوَامِقِ قال: هذه ألف دينار تقوَّ بها على عبادتك، وأنفقها على عيالك، وسد بها حاجاتهم، قال: سبحان الله! أدلك على طريق النجاة، وتكافئني بمثل هذا سلمك الله. ثم صمت فلم يتكلم بعدها، قال: فخرجنا من عنده، فلما صرنا إلى الباب قال هارون لحاجبه: إذا سألتك أن تدلني على أحد فدلني على مثل هذا، فلما انصرفنا قال: دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت المال لتسد به حاجتنا. فقال لها: إنما مَثَلِي ومثلكم كمَثَل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون كلامه وهو على الباب قال: نرجع إليه فعسى أن يقبل الدراهم، فلما علم الفضيل بعودتهم خرج فجلس على سطح الغرفة، فجاء هارون وجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينما هم كذلك إذ خرجت جارية فقالت: يا هذا! قد آذيتموه هذه الليلة، دعوه مع كتاب الله وانصرفوا رحمكم الله. فانصرفوا رحم الله الجميع. أحبتي في الله: يمكننا أن نأخذ من هذه الحادثة عبرتين: أولاً: أن طلب النصيحة من صاحب المنزلة والسعي للبحث عنها في مظانها، وطرق الأبواب لها، وتلمس الوسائل للحصول عليها، عقل ورشد وأي رشد! لأن إتيان النصيحة إلى صاحب المكانة يجعلها في مركز الضعف، والعكس بالعكس؛ إتيانه للنصيحة يجعلها في مركز القوة. ثانياً: أن المؤمنين إخوة لا تظالم، ولا تخاذل، ولا تحاقر بينهم، الصغير ابن، والوسط أخ، والكبير أب، جسد واحد، وأمة واحدة. قد قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإخوة له خرجوا يريدون نشر دين الله في الأرض بأمره خلف السهوب والبحار والفيافي والقفار، فقال لهم: سيروا على بركة الله، وأنا أبو العيال حتى تعودوا. قالها حتى لا يترك في قلوبهم شغلاً بهؤلاء الصغار. فهل تستطيع أمة الإسلام أن تربي مثل هذه النماذج؟ نعم والله! إنها لأمة خير يتعاقبه جيل بعد جيل، ولن تعدم الأمة وسائل لتربية مثل هذه النماذج، وأعلى وسيلة علم كل فرد وهو على ثغرة من ثغور الإسلام أن المسئولية تكليف لا تشريف، وأن له شيئاً وعليه شيء، فليأخذ ما له من حق وليقم بما عليه من واجب، وليكن مع ذلك أصم سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً نطوقاً. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

حكمها رحمة ونعمة

حكمها رحمة ونعمة الصفحة الثامنة: حكمها رحمة ونعمة. كان قتيبة بن مسلم الباهلي عليه رحمة الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى، ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً؛ كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال. فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر في دين الإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله وأرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند، فاسمع إلى هذا الرسول. يقول: أخذت أتنقل من بلد إلى بلد شهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها، وأحدث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، ثم أخشى على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة دخلت إليه، وإذا بالناس يدخلون ويخرجون ويدوكون، وإذا بحلقات في هذا البناء، وأناس يركعون ويسجدون، يقول: فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟ قال: لا. بل هذا هو المسجد. قال: هل صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: فما دينك؟ قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت له: أنا رجل غريب، أريد السلطان، دلني عليه -يرحمك الله- قال: تعني أمير المؤمنين، قلت: نعم، قال: اسلك هذا الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا. ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت، وإذا برجل يأخذ طيناً، ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين. قال: فرجعت إلى الذي دلَّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين فتدلني على دار رجل طيَّان؟! قال: هو ذاك أمير المؤمنين. قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، ونزل الرجل، ورحب بي، وغسل يديه وخرج وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند، فقرأها، ثم قلبها فكتب على ظهرها، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله بـ سمرقند: أن نصِّب قاضياً ينظر فيما ذكروا، ثم ختمها، وناولني، وانطلقت يقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج الجيوش الجرارة، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الكرة الأرضية برمتها؛ يعني قتيبة بن مسلم؟ قال: وعدت بفضل الله مسلماً، كلما دخلت بلداً صليت في مسجده واجتمعت بإخوتي وأنست بهم، فأكرموني وأنسوا بي، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض، وضاقت بما رحبت وقالوا: ما تنفع هذه الرسالة وماذا تغني عنا؟! ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند، فنصَّب لهم الوالي جميع بن حاضر الباجي قاضياً لهم لينظر في شكواهم. وحدد القاضي لهم يوماً اجتمعوا فيه، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟ قال: اجتاحنا قتيبة ولم يدعُنَا إلى الإسلام، ويمهلنا لينظر في أمرنا، فقال القاضي لخليفة قتيبة، وقد مات قتيبة عليه رحمة الله قال: أنت ما تقول؟ قال: لقد كانت أرضهم خصبة، وأرضهم واسعة، وخشي قتيبة إن هو آذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، والحرب خدعة. قال واسمعوا إلى ما قال: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك وينابذهم وفقاً للمبادئ الإسلامية. ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها، وما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، فخرج الجيش كله، وبدأ لينذرهم ويدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفرضت الجزية على الباقين. فيا لله! أرأيتم جيشاً يفتح مدينة ويدخلها ويشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج، بل هل رأيتم في التاريخ قديماً وحديثاً حرباً يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق كما تقيد به الجيش الإسلامي؟ والله لا نعلم في الدنيا كلها موقفاً مثل هذا لأمة من أمم الأرض. والليلُ يشهدُ والكواكبُ والثَّرى وكفى بهم شهداء يومَ الدِّينِ جمال ذي الأرض كانُوا فِي الحياةِ وهم بعد الممات جمال الكُتْب والسير

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر الصفحة التاسعة: لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر جاء في إنباء الرواة في ترجمة أبي نصر القرطبي قال: كنا نختلف إلى أبي علي القالي رحمه الله وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء بـ قرطبة ونحن في فصل الربيع، قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس أبي علي إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة، فلما رآني مبتلاً بالماء أمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر! لا تأسف، ولا تأس، ولا تحزن على ما عرض لك؛ فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدِّلها بغير ثيابك، لكن اسمع -يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه- قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوباً وجروحاً تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب؛ يعني في طلب العلم إلى ابن مجاهد رحمة الله عليه فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً، قال وعسر عليَّ فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكِّر هذا البكور ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سَرَبٍ بجانب الدار ضيق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله علي بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول: دببتُ للمجدِ والسَّاعينَ قدْ بَلَغُوا جُهدَ النُّفوسِ وألقَوا دُونَهُ الأزرَا وكابدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهُم وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا قال أبو نصر: فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات، فرحمة الله على الجميع. هم أسلافنا، وندعي الصلة بهم، فهل مجالسنا مجالسهم، وهممنا هممهم؟ لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهاً غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى كَانُوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفَنَائِها أنشدتُ بيتاً ثائراً متقدماً والعينُ قدْ شرَقَت بجَارِي مائِها أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها يا حسرةً من لي بصفقةِ رابح فِي مَتْجَرٍ والعِلْمُ رأسُ المالِ يا ويح أهل العلمِ كيفَ تأخَّرُوا والسَّبْقُ كُلُّ السَّبْقِ للجُهَّالِ فإِلَى إلهِي المُشْتَكَى وبفضلِهِ دونَ الأنامِ منوطة آمَالِي لله هذه المواقف ما أبلغها! وما أعلى على هام الثُّريَّا مواضعها! وهكذا فليكن الطلب وإلا فلا. إن هذه الصفحة - أعني الماضية- لتذكِّر بموقف آخر لـ ابن برهان؛ كما جاء في طبقات الشافعية يوم تزاحم الطلاب على بابه حتى صار جميع نهاره، وقطعة من ليله مستوعباً في التدريس، يجلس من وقت السحر إلى وقت العشاء الآخرة، ويتأخر أحياناً بعدها إذا دعت الحاجة لذلك. ذكر أن مجموعة من طلبة العلم سألوه أن يدرس لهم كتاباً فقال: لا أجد لكم وقتاً، فذكروا أوقاتاً معينة فلم يجد إلا في نصف الليل فوافقوا. وانظر يا أخي كيف نظم أوقاته للعبادة والطاعة والمنام والمطالعة والحفظ والتدريس والقراءة وهذا شيء مهم جداً يتمكن به العالم وطالب العلم من بلوغ مرغوباته العلمية جميعاً، فلا يطغى مرغوب على مرغوب. ثم انظر أخي طالب العلم -رعاك الله- إلى هذا الصبر العجيب من هذا الشيخ الجليل على بث العلم ونشره، والاحتساب في أدائه ونقله، ثم انظر أخرى إلى هذا الشوق والحرص المحرق من أولئك الطلبة المحترقين بالعلم الذين لم يجدوا وقتاً ليقرءوا عليه إلا نصف الليل، فأتوا مسرورين وظنوا أنهم محظوظون مكرمون. ثم انظر لذلك الذي نسي بدنه واقتحم السرب وخرج اللحم عن العظم ليحظى بالقرب من العالم ليستفيد فلله در أولئك المشائخ! ولله در أولئك الآباء والطلبة الأبناء! ما أشد حب أولئك للطلب! وما أصبر أولئك على إشاعة العلم وإيصاله للمتعلمين! أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، وإنا لله من طلبة هذا العصر الذين يستعجلون دق الجرس ليخرجوا من الدرس المؤقت بخمس وأربعين دقيقة، في ألين الأوقات راحة، وأفضلها نشاطاً، وأجمعها ذهناً، من قاعات مبردة صيفاً مدفأة شتاءً، يخرجون يزحم بعضهم بعضاً كأنما يفرون من حريق، أو ينطلقون من سجن ظالم عنيد واهً لهم. إذا مَا علا المرء رَامَ العُلى ويقنَعُ بالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا إذَا رأيْتَ شبابَ الحيِّ قَدْ نشئوا لا ينقلونَ مِدَادَ الحِبْرِ والوَرَقِا وَلا تَرَاهُم لَدَى الأشْيَاخِ في حِلَق يَعُونَ مِنْ صَالحِ الأخبارِ مَا اتَّسَقَا فذَرْهُم عنكَ واعْلَم أنَّهُم هَمَجٌ قد بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الخَرَقَا أنتم كأسلافكم ومنْ يشابِه أبَهُ فمَا ظَلَمْ على المرءِ أنْ يَسعَى إلَى الخيرِ جاهداً وليسَ علَيْهِ أن تَتِمَّ المَقاصِدُ فانْفُضُوا النومَ وهُبُّوا للعُلى فالعلى وقْفٌ علَى منْ لَمْ يَنَم أفيقوا لا مجال لخامل ولا سبْقَ إلا للذي يتَقَحَمُ

استراحة

استراحة الصفحة العاشرة: استراحة: في السير للذهبي أن همام بن منبه قعد في مجلس ابن الزبير، وكان هناك رجل من نجران يعظمونه اسمه حنش، كبير السن، وليس له لحية، فقال رجل قرشي في مجلس لـ ابن الزبير لـ همام: من أين أنت؟ قال همام: من أهل اليمن. قال: ما فعلت عجوزكم؟ يعني كبير السن حنش؟ قال -واسمعوا إلى القول-: عجوزنا أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وعجوزكم يا قريش حمَّالة الحطب، فبهت القرشي، وقال ابن الزبير: أتدري من كلَّمت؟ إنه همام، وله من اسمه نصيب. وروي أن أبا حنيفة رحمه الله كان عند الخليفة العباسي أبي جعفر ومعه الربيع حاجبه، وكان بين الربيع وبين أبي حنيفة بعض سوء فهم، فقال الربيع محاولاً الإيقاع بين أبي حنيفة وأبي جعفر: يا أمير المؤمنين! إن هذا يخالف جدك ابن عباس فلا يجيز الاستثناء في اليمين إلا متصلاً باليمين، فلو استثنى بعد يوم لم يجز له ذلك، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب الناس بيعة، فقال المنصور: كيف؟ قال أبو حنيفة: إنهم يحلفون لك على البيعة، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور، وقال للربيع: لا تعرض لأبي حنيفة، وانقلب السحر -كما يقال- على الساحر. وفي السير للذهبي: أرسل الأمير عيسى بن موسى إلى الإمام الأعمش بألف درهم وصحيفة ليكتب له فيها الحديث، فكتب فيها الأعمش: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ثم أرسل بها إليه، فلما وصلت إلى عيسى رفعها ونظر فيها وقال: يابن الفاعلة؛ ظننت أني لا أحسن كتاب الله؟! فرد عليه الأعمش قال: وظننت أني أبيع الحديث؟! وفي السير للذهبي -أيضاً- أنه أتي بـ عبد الرحمن بن عائذ إلى الحجاج، فقال له الحجاج: كيف أصبحت؟ قال: لا كما يريد الله، ولا كما يريد الشيطان، ولا كما أريد، قال: ويحك ما تقول؟ قال: نعم. يريد الله أن أكون عابداً زاهداً، وأنا أعلم أني لست كذلك، ويريد الشيطان أن أكون فاسقاً مارقاً، وما أنا بذاك، وأريد أن أكون مخلىً في بيتي، آمنا في أهلي، ولم تتركني يا حجاج، فقال الحجاج: أدبٌ عراقي، ومولدٌ شامي، وجيراننا إذ كنا بـ الطائف، خلُّوا عنه. فخلوا عنه. وفي السير للذهبي -أيضاً- أن سليمان بن عبد الملك استصغر أبا العلاء؛ مولى من موالي الحجاج؛ وكان مشوهاً ودميماً. فقال هذا المولى: إنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة لاستعظمت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتلك الله، ما أسدَّ عقلك! أَتُرى الحجاج يهوي بعد في جهنم أم بلغ قعرها؟ قال: لا تقل ذاك، فإنه يحشر مع من ولاَّه، والذي ولاَّه أبو سليمان، فقال: مثل هذا فليُصْطَنَع. ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! إني مكلِّمك بكلام فاحتمله وإن كرهته؛ فإن وراءه ما تحب إن قبلته. فقال: يا أعرابي -وكان عاقلاً- إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بمن نأمن غشه، ونرجو نصحه؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! لقد تكنَّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله؛ فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً، وفي الأمة خَسْفاً وعَسْفاً، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظم الناس غبْناً من باع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان: يا أعرابي! أما إنك سللت لسانك وهو أقطع من سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين! ولكن لك لا عليك. والدين النصيحة، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والنصيحة لك لا عليك.

من أورق بوعد فليثمر بفعل

من أورق بوعد فليثمر بفعل الصفحة الحادية عشرة: من أورق بوعد فليثمر بفعل: يروي أهل السير أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أعطى رجلاً من قريش شبه وعد أن يزوجه ابنته، فلما حضرته الوفاة أرسل إليه فزوَّجه إياها، وقال: كرهت أن ألقى الله عز وجل بثلث نفاق. إذا قالَ تمَّ عَلَى قولِهِ ومات العناءُ بلا أو نَعَمْ وبعضُ الرجالِ بمَوعودِه قريبٌ وبالفِعْلِ تحتَ الرَّجَم كجَارِي السرابِ تَرَى لمعَهُ ولستَ بواجِدِهِ عِنْدَكَم هذه الصفحة رسالة لي، ولإخوتي معشر طلاب العلم، وللناس عامة؛ أن نتق الله فيما نعد به؛ فكم من أوقات تهدر ومصالح للأمة تتعطل بناءً على مواعيد عرقوب، يعدك الواحد في السابعة ويأتيك إن أتى في العاشرة، أو لا يأتيك ولا يعتذر إليك عن مجيئه، وما هكذا تكون أخلاق المسلم أبداً. إن عرقوباً المضروب به المثل أصبح واقع كثير منا هذه الأيام. وما قصة عرقوب؟ يأتيه أخ محتاج سائل فيسأله شيئاً، فيقول: عرقوب: إذا أطلع النخل أعطيتك، فلما أطلع أتاه فقال: إذا صار بلحاً أعطيتك، فلما صار بلحاً أتاه، فقال: إذا أزهى بحمرة وصفرة، فلما أزهى أتاه، فقال: إذا صار رطباً، فلما صار رطبا أتاه، فقال: إذا صار تمراً، فلما صار تمراً خرج إليه في الليل، وقطعه في الليل ولم يعط أخاه شيئاً، فقال ذلك الرجل: وعدتني ثم لم تُوف بموعدتي فكنت كالمُزْن لم يمطرْ وقدْ رعَدَا كانت مواعيد عرقوبٍ لنا مثلاً وما مواعيدُهُ إلاَّ الأبَاطِيلُ فيا أيها المؤمنون عامة! ويا طلبة العلم خاصة! إن وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف، فإن وعدت بخير فأوف، وإن أوعدت بشر فاعف، وإياك أن تلقى الله بخصلة نفاق؛ فإن من آية المنافق أنه إذا حدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف، والنسيان جائز ومغفور: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].

الحق يدفع الباطل

الحق يدفع الباطل الصفحة الأخيرة: الحق يدفع الباطل: أورد ابن كثير في البداية والنهاية: أنه في القرن الخامس الهجري زور يهود خيبر إحدى الوثائق -وكثيراً ما يزورون ويغشون ويكذبون ويفترون ويمكرون، وتاريخهم لا يخفى على ذي عين- زعموا في وثيقتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وأقرهم على خيبر، يمكثون فيها ما شاءوا، وكما هو معلوم فقد أخرجهم عمر رضي الله عنه وما أخرجهم عبثاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب}. فحاولوا بهذه الوثيقة الرجوع إلى خيبر، كما يحاولون في كل زمان وبكل الوسائل المتاحة لإطفاء النور، ولن يرضوا حتى تتبع ملتهم، والله متم نوره ولو كرهوا وخططوا ودبروا ومكروا والله خير الماكرين، والعاقبة للمتقين. زوروا الوثيقة وجاءوا بها إلى الوزير العباسي أبي القاسم بن مسلمة، جاءوا إليه وقالوا: معنا كتاب نبوي بإسقاط الجزية وإقرارنا على خيبر، بكتابة صحابي، وشهادة الصحابة، فنظر الوزير في الوثيقة وفكَّر وقدَّر وتأمل وتملَّى، ثم لم يفصل في المسألة، بل رد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه. دفع الكتاب -وحسناً فعل- إلى الحافظ الخطيب البغدادي؛ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره، فنظر فيها ثم قال: هذا كذب والذي لا إله إلا هو! قال الوزير: كيف ذلك؟ ما دليل كذبها؟ أريد دليلاً. قال: لأنها بكتابة وشهادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ولم يكن أسلم إلا عام فتح مكة، فكيف يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم أو يشهد قبل إسلامه بعام، هذه واحدة. أما الثانية: فإنها بشهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ قد مات بعد الأحزاب وقبل خيبر، فكيف يشهد بعد وفاته بأكثر من عام؟ فبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين، وخابوا وخسروا، أولئك في الأذلين. وبذلك نقضت الوثيقة، وظهر زيفها وباطلها، ولو جيء بها إلى غير أهلها -العلماء- لوقعت الأمة في شباك أعدائها ولكنه العلم. العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سوادَ الظلمة القمرُ وقبل ذلك بعدة قرون يجيء رجل من الخوارج إلى أبي حنيفة رحمه الله فيقول له: تب وعد إلى الله، قال أبو حنيفة: مِمَّ؟ قال الخارجي: من قولك بتجويز الحكمين في الخلاف بين علي ومعاوية، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} [الأنعام:57] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. فقال أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الموضوع؟ قال الخارجي: قد قبلت. فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا فمن يحكم بيني وبينك؟ قال الخارجي: من شئت. قال -وكان مع الخارجي صاحب له آخر- فالتفت أبو حنيفة إلى صاحبه وقال: اقعد فاحكم بيننا فيما اختلفنا فيه إن اختلفنا، فسر الخارجي بكون صاحبه هو الحكم، عندها فاجأه أبو حنيفة قائلاً: أترضى بهذا حكماً بيني وبينك؟ قال: نعم. فقال أبو حنيفة: إذاً أنت جوَّزت التحكيم، فبهت الخارجي ولم يحر جواباً، وبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين. العلم فيه حياة للقلوب كما تحيا البلاد إذا ما مسها المطر وإن نسيت فلا أنسى بالأمس القريب يوم يزور أحد علماء المسلمين مدرسة نصرانية، ويُجري حديثا طويلاً بينه وبين مديرها، فكان مما قاله هذا العالم لمديرها: لماذا تحملون على الإسلام وعلى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتبكم المدرسية، وفي اجتماعاتكم بما لا يصح أن يقال في عصر تعارفت فيه الشعوب، والتقت فيه الثقافات كما تدعون؟ فأجاب قائلاً: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج من تسع نساء؛ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن تحترمون من أنبياء الله؟ هل تحترمون نبي الله داود عليه صلوات الله وسلامه؟ قال: نعم. إنه من أنبياء التوراة، قال: ونبي الله سليمان؟ قال: نعم. إنه من أنبياء التوراة أيضاً. فقال العالم المستضيء بنور العلم الساطع، بحجة الحق: إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة، وأكملهن مائة من أجمل فتيات زمانهن، ونبي الله سليمان كما جاء في التوراة له سبعمائة زوجة وثلاثمائة ألف جارية، وكن من أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعاً؛ ثمان منهن ثيِّبات وأمهات، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة العمر، فسكت الرجل، وألقم الحجر، ولم يُحِر جواباً، والحق يعلو والأباطل تسفل. أرأيتم إلى العلماء -يا أيها الأحبة- كيف يدفعون الشبه عن الأمة، ويلجمون من يقع في الأنبياء؟ لأنهم ورثة الأنبياء، بل إنهم صمام أمان الأمة ولا شك، إليهم يُرْجع في النوازل والمدلهمات، فضلهم عظيم، وخيرهم جزيل، الحيتان والنمل لهم في البحر والجحور تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة تشفع، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع منهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بجميل موعظتهم يرجع المقصرون. الطاعة لهم في غير معصية الله واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على ولاة المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون وبعلمهم وعلى علمهم يعولون. حجة الله على العباد، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} [النساء:165] هم سراج البلاد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة. هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيف، مَثَلهم في الأرض كالنجوم في السماء يُهْتَدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا طمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر الظلام أبصروا. فليس ذو العلم بالفتوى كجاهلها ولا البصير كأعمى ما له بصر لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع في العلماء بالسلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب. أحبتي في الله: هذا ما تيسر جمعه من مطوي الصفحات من تاريخ مشرف احتوى على أحداث ووقائع قامت على أكتاف رجال كالنجوم تضيء لمن يسري، وتبدد الظلام، رجال أسسوا حضارة نابعة من عقيدة ليست مسخاً مشوَّهاً من حضارات مشوهة، لم يقيموا حضارتنا على فكر بشري، أو رؤية شخصية، بل أدركوا دورهم وفق ما شرعه الله، فقدموا الإسلام في صورة بناء حقيقي متماسك، في صورة مجتمع ملموس محسوس، في صورة أمَّة واقعية، فلم يتخلوا عن حياتهم، ويقبعوا في زوايا مساجدهم، بل انتشروا في الأرض يدعون بدعوة المرسلين: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] فكانت حضارة الإسلام التي نعم بها العالم أجمع، حضارة تجمع الدين والدنيا، تحققت بها مطالب البشرية من غير اعتبارات جاهلية لعنصر أو لون أو قومية، أكرمكم أتقاكم. صفحات مطوية مضيئة وضعتها بين أيديكم مشعلاً ومناراً ومَعْلَماً ومقتدىً مع اشتغال البال، وكثرة الأوزار، فلعل سامعاً ينتفع بها. جعل الله الجهد نافعاً، وجعلني للحق طالباً، ومن الشر محذراً، وإلى الخير منادياً. فلئن أُفِدْ أو قد أَجَدتُّ فإنها مطوية من ربنا الباري فَتَح فالله يجزيكم بأجر وافر ويثيبكم ويزيدكم مِمَّا صَلَح ويبارك الرحمن في أوقاتكم حتى نرى منكم سواها قد نجح ثم الصلاة مع السلام لأحمد والآل والأصحاب ما نُور وَضَح اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واخلفنا بركنك الذي لا يرام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا. يا رب كم من نعمة أنعمت بها علينا قلَّ لك عندها شكرنا، وكم من بليَّة ابتليتنا بها قل لها عندك صبرنا. يا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا! ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا! يا من رآنا على المعاصي فلم يفضحنا! يا ذا النعم التي لا تحصى! يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً! هب لنا فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، وأعنَّا على ديننا بدنيانا، وعلى آخرتنا بتقوى، وكن لنا في الآخرة والأولى، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وتول أمرنا، أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل. وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين. وصلِّ اللهم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

جلسة تكريم

جلسة تكريم إن أفضل عمل في هذه الحياة يقدمه الإنسان لنفسه هو طلب العلم، وعلى طالب العلم أن يعرف كيف يطلب العلم، وما هي الواجبات التي تلزمه، وقد بين الشيخ في هذا الدرس ما يلزم طالب العلم، ثم أتبع ذلك ببيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ممارسته من قبل طالب العلم، وأن يكون ذلك بلين وحكمة مع اعتزاز بهذا الدين واستعلاء بمبادئه.

أهمية طلب العلم والعمل به

أهمية طلب العلم والعمل به الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة في الله! يسرنا ويسعدنا أن نعيش مع طلبة العلم دقائق وإن كنا مشغولين، لكن من باب قول القائل: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة يأيها الأحبة! تعلمون أن هذه الحياة عبارة عن سفينة يركبها المجتمع كله، وهي تمخر عباب البحر -وأنتم أهل البحر يا أهل جدة - لا تكاد تهدأ حتى تضطرب، تتقاذفها الأمواج من ناحية إلى ناحية، ولن يكتب الله السلامة لمن هم على ظهرها حتى يكون كل واحدٍ منهم على يقظةٍ مما يفعل وحذرٍ مما يريد. السفينة -كما قلت- يركبها المجتمع كله، بره وفاجره، طائعه وعاصيه، المصلح والفاسد، الذي يخرق في السفينة والذي يصلح في السفينة، والذي يطارد أفراداً على ظهر السفينة، والذي يرقب الجميع ولا يحرك ساكناً. هاهم أفراد السفينة، هم هذا المجتمع، هناك من يخرق، وهناك وراءه من يحاول إصلاح هذه الخروق، وهناك من يمنعه لئلا يحدث شيئاً في السفينة؛ لأنه بسقوط السفينة يهلك الكل. فأقول لك يأيها الحبيب: أي فردٍ أنت على هذه السفينة؟ ماذا تفعل على ظهر السفينة؟ هذا يخرق والماء يدخل إلى داخل السفينة، وذاك يحاول الإصلاح وقد لا يصلح. يأيها الحبيب: لا بد أن تكون ممن يحاول إنقاذ السفينة؛ لأنها إن هلكت هلك الجميع، وإن سقطت سقط الجميع. فأقول لكم يا أيها الأحبة: إن الذي يريد أن يصلح في السفينة لا بد له من عدة يقوم بها، الذي يريد إصلاح خرق معين في جدارٍ معين، لا بد له من مؤونة معينة، لا بد له من قطعة مناسبة، يسد بها هذا الخرق، لا بد له من خياطة معينة، لا بد من هذه الأشياء كلها. أقول لك يا طالب العلم: أنت على ظهر السفينة انتبه وجد واجتهد، ثم اجعل العلم هو أول هذه الأشياء بعد الإيمان بالله عز وجل، بل إن الإيمان بالله عز وجل لا يكون إلا بعد علم، وأنتم طلبة علم، كل إنسانٍ منا ما لم يكن لديه العلم سيحاول إصلاح خرق من الخروق هذه فيزيد في اتساعه؛ لأنه يفسد من حيث يريد الإصلاح، لا بد أن تكون إيجابياً، وأن تجاهد في الإصلاح، وليكن من سلاحك العلم كما قلت لك أيها الحبيب! يقول حافظ الحكمي عليه رحمة الله: يا طالب العلم لا ترض به بدلاً فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ عندما تأخذ العلم في يدك فاعلم أنك بحاجة إلى أمرٍ آخر مع هذا العلم، وهو أن تعمل. أنا عندي علم بأن أصلح هذا الخرق في هذه السفينة، لكني ما عملت شيئاً، ستغرق السفينة مهما كان، إذاً لا بد أن تقوم وتعمل شيئاً: وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن الحسن البصري عليه رحمة الله يحاول إنقاذ السفينة في عهدٍ من العهود، ويتكلم ويصدع بكلمة الحق، فيقولون: نخشى عليك من فلان قال: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}. إذا جاهدت وحاولت بالإصلاح ثم سقطت السفينة، ما الفرق بينك وبين غيرك؟ شتان ما بين غريقٍ وغريق! غريق قد جاهد فإلى جناتٍ ونهر شهيداً بإذن الله سبحانه وتعالى، وغريق آخر بقي ينظر للسفينة حتى هلكت أو ساهم في إغراق السفينة فهذا إلى جهنم وبئس القرار. نسأل الله أن تكون من الجاهدين الذين يجاهدون أنفسهم أولاً، ثم يجاهدون في إصلاح سفينة الأمة لتمخر عباب البحر، فلا تقف إلا في الموقف الذي يجب أن تقف فيه على شاطئ الأمان، لا تقف إلا في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

مزايا طالب العلم

مزايا طالب العلم وأقول لك وأنت تأخذ هذا العلم وتعمل به: اعلم أن الله خصك بأربع مزايا: الأولى: الخيرية: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}. كل واحد منا يريد أن يكون خير الناس. تعلم القرآن وعلمه تفز بهذه الخيرية. أما الثانية: فهي النضارة والوضاءة في الدنيا والآخرة. إنك لتجد على وجوه المؤمنين العاملين بعلمهم آثار الإيمان، ووضاءته في الدنيا، حتى وإن كان الواحد أسمر، فإنك تجد عليه وضاءة الإيمان والعمل بالعلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع}. أما الثالثة: فإن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى الحيتان في قاع البحر ليصلون على معلم الناس الخير -يدعون لمعلم الناس الخير- وهذه مرتبة عظيمة تجعل الإنسان يتفانى في أخذ العلم والعمل به. أما المرتبة الأخيرة: فهي لا تقل عن الأولى، وهي أنك تكون معدلاً، والذي يعدلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين}. أربع خصال، يحتاج الإنسان أن يفني وقته وجهده فيها.

حال السلف في طلب العلم

حال السلف في طلب العلم أيها الحبيب: وأنت تطلب العلم أقول لك: ارجع إلى سلفك فإن لكل إنسان سلفاً، وسلفنا بإذن الله عز وجل هم خير القرون، قرن النبي صلى الله عليه وسلم ثم القرن الذي يليه، ثم القرن الذي يليه، وارجع إليهم كيف كان حالهم. الإمام الشافعي عليه رحمة الله يجتمع به بعض طلبة العلم فيقولون: يا إمام ما شهوتك في طلب العلم؟ قال: إني لأسمع بالكلمة مما لم أسمع، فتود أعضائي أن يكون لها آذان، فتستمع لما استمعت له أذني -أي أن كل عضو يتمنى أن له أذنين ليستمع إلى هذه الفائدة- قالوا: فما حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على ماله -حرص البخيل على ماله- قالوا: فما طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة لولدها ليس لها ولدٌ غيره -امرأة ما معها إلا واحد وضاع منها فهي تطلبه في كل مكان بكل ما أوتيت من قوة- ثم يقول بعد ذلك: ولست بمدركٍ ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو اني يقول أحمد فارس اللغوي: إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى إذا كان كلما جاء وقت قلت: نؤجله للوقت الثاني، يأتي الخريف بيبوسته فتقول: نؤجله للشتاء، يأتي الشتاء ببرده فتقول: نؤجله إلى الصيف، يأتي الصيف فتقول: نؤجله إلى الربيع، يأتي الربيع فتقول: نطلع ونتمشى ونذهب ونأتي. كيف إذاً تطلب العلم؟! متى تأخذ العلم إن لم تأخذه في كل وقت، وتجند من وقتك جزءاً عظيماً للعلم؟! إن الدعوة بلا علم توقع الإنسان في البدع. إن المبتدعة عندما وقعوا في بدعتهم دعوا إلى الله بلا علم، والسلاح الأول لكم -أيها الدعاة- هو طلب العلم، ولذلك خذوا أمثلة على ذلك أيضاً، لأن الإنسان إذا نظر إلى قدوة حية أمامه -أو قدوة ميتة أيضاً- قد يحاول أن يقلدها لأنه تعجبه خصالها. الإمام النووي عليه رحمة الله: ما كان يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم، ويشرب شربة واحدة وقت السحر، ولا يأكل الفاكهة يقول: ترطب جسمي فتجلب لي النوم، ووالله إن أحب ما إلي أن أطالع في الكتب، ثم يلقي في اليوم الواحد أحد عشر درساً، ومنكم من هو يدرس الخمس الحصص ويراها تقض المضاجع، فما بالك بأحد عشر درساً في اليوم الواحد؟! الإمام المنذري عليه رحمة الله: يقول أحد تلاميذه: جاورته اثنتي عشر سنة، والله ما قمت في ليلة من الليالي في أول الليل أو في آخره إلا وهو مضيء سراجه وهو يقلب كتب العلم. شهوتهم في العلم، اشتهوا العلم، فعملوا لهذا العلم، فأنتجوا ما أنتجوا. الإمام أحمد عليه رحمة الله: يقول عن أمه: كانت توقظني قبل صلاة الفجر، فأصلي الفجر في المسجد، وتذهب معي وعمره عشر سنوات قد حفظ القرآن، ثم بعد أن بلغت السادسة عشرة -انظروا إلى الأم، يا ليت الأمهات يسمعن مثلما نسمع من أم أحمد، ويا ليتهم يعرفون سيرة أم أحمد ليربوا الشباب على طلب العلم وعلى الدعوة إلى الله عز وجل- يقول: عندما بلغت السادسة عشرة قالت لي: يا بني هاجر في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرةٌ في سبيل الله، ثم زودته ببعض أرغفة من الشعير، وقالت له: اذهب إلى المدينة وإلى مكة وإلى صنعاء واطلب العلم، وعندما أراد أن يذهب قالت: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، ويذهب إلى مكة وإلى المدينة وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وهو الآن بعد هذه السنين كلها حيٌ بين أيدينا بعلمه، ما تدخل مكتبة من المكتبات إلا وتجد الإمام أحمد أمامك يا رُبَّ حَيٍّ رُغامُ القبر مسكنه ورُبَّ مَيْتٍ على أقدامه انتصبا

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم

أهمية جمع الفوائد لطالب العلم

أهمية جمع الفوائد لطالب العلم إن الإنسان يوم يتكلم عن هؤلاء يرى بأنه لم يقدم شيئاً، لكني أقول لك: أيها الحبيب! اطلب العلم، ولا تحقرن فائدة من الفوائد؛ فإن القليل إلى القليل كثير، إن فائدةً اليوم وفائدةً غداً وفائدةً بعد غد قد تصبح بعد شهر ثلاثين فائدة، وبعد سنة كم ستصبح؟ فوائد جمة وعظيمة، لكن هل فكرت ونويت، وعلمت أن هذا العلم عبادة أفضل من بعض العبادات. إن الصلاة عبادة لك لا تتعداك إلى غيرك، أما العلم فعبادة متعدية إلى الغير، يجب أن نعي هذه الأشياء يأيها الأحبة. اليوم شيءٌ وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمةً وإنما السيل اجتماع النقط اجمع ولا تحقر شيئاً من العلم، وجد في طلبه ثم بلغه، فوالله لن يثبت هذا العلم إلا بتبليغه، رجل يقول: سأحفظ كل شيء ويبقى بين جنبيه ولا يبلغه لا يبقى بين جنبيه، وإنما سيضيع من بين جنبيه بين آونة وأخرى وكأنه لم يكن، هذا هو الأمر الأول.

ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ممارسته

ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ممارسته إن الله عز وجل قد جعلنا خير أمةٍ أخرجت للناس، لكن اشترط فينا شروطاً لنأخذ هذه الخيرية: أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله. ليسألْ كل واحدٍ منا نَفْسَه عن هذه الثلاثة، هل فعلاً هو من أهلها؟ إن كان كذلك فقد حاز الخيرية التي وعده الله عز وجل بها، فهو من خير أمة، وإن قصر في ذلك فعليه أن يجتهد فيه، فلا يزال في مهلة. ثم أقول لك يأيها الحبيب: إن الله عز وجل ليحيي بكلمة تحتقرها أنت أمماً وأمماً، إن الإنسان ليرمي الكلمة أحياناً لا يعلم كيف وقعت في الناس وماذا أثرت. يقول أحد زملائي سابقاً في مدرسة من المدارس من أهل القصيم، يقول: في وقتٍ من الأوقات ذهبت من القصيم قبل حوالي عشر سنوات متجهاً إلى مكة، وجئت في ليالي العشر الأواخر في رمضان، وإذا بمجموعة من شباب مكة في وسط جبل الهدى، وإذا هم بعودهم، وبأوراقهم، وإذا هم بعبثهم وبلهوهم، قال: فتوقفت وقلت: والله إن النزول إلى هؤلاء لواجب من الواجبات، لكني أخشى أن يكونوا سكارى، فأنزل إليهم فيضربوني أو يؤذوني أو يفعلوا بي شيئاً، والشيطان يخذله فقط، والشيطان يأتي إلى الإنسان حين يريد أن ينكر منكراً من المنكرات فيقف عنده ويقول: قد تفتتن بهذا، انتبه قد تقع في شيء، حتى يترك الخير. يقول: أنزل إلى الأرض فما تحملني رجلاي، ترتعش خوفاً، فأرجع، فبقيت بين هذا وذاك، ثم انطلقت مرةً أخرى، فجئت أركض إليهم وقلت لهم: يأيها الشباب! اتقوا الله! اتقوا الله! الناس يأتون من كل مكان إلى حرم الله، وأنتم تخرجون من حرم الله لتعصوا في هذا المكان؟ اتقوا الله! قال: ثم هربت خوفاً أن يقوم أحدهم ويفعل معي شيئاً من الأشياء، قال: وركبت سيارتي ومضيت، ثم جئت في رمضان الذي بعده، ودخلت الحرم وإذا برجل عليه سيما الخير وقد أطلق لحيته، وإذا به يتأمل في تأملاً عجيباً، قال: فوقفت وقلت: ما بك؟ قال: هل مررت العام الماضي في العشر الأواخر من رمضان على الجبل في المكان الفلاني؟ قلت: نعم، قال: إذاً أنت الذي قال: اتقوا الله ثم هرب؟ قلت: نعم، فقال لي: أنا ثمرة من ثمرات (اتقوا الله) في تلك الليلة ومعي أخوان من الإخوة. كلمة على ضعف وعلى خوف لكنها صادقة بإذن الله عز وجل، وخرجت من قلبٍ صادق، فصادفت قلباً خالياً فتمكنت منه. فلا تحقرن شيئاً -يأيها الحبيب- وأنت تسلك هذه الطريق، وأنت على ظهر سفينتك، فالعلم لا بد منه، والعمل لا بد منه. وأذكركم بحادثة أخرى يذكرها صاحب قصص السعداء والأشقياء، يقول: رجل من الرجال كان لا يتذكر ولا يتعظ أبداً، ويعمل سائق إسعاف، لا يأتي إلى حادث من الحوادث الشنيعة إلا ويأخذ الجمجمة في يد، ويأخذ قطعاً من اللحم في اليد الأخرى، وكأنه يحمل قطع لحمٍ لبهائم لا لبشر، ولا يتأثر، يقول: وفي ليلة من الليالي يشاء الله عز وجل، وفي وسط الليل في الساعة الواحدة ليلاً كنت أنا المستلم للسواقة في ذاك الليل، قال: وإذا بخبر يخبر بحادث في مدخل من مداخل الرياض الساعة الواحدة، وزميلي كان في خارج المكان ذلك الوقت، فخرجت أنا، ولم أكن أصلي، وكنت أشرب الدخان، وكنت صاداً وناداً عن الله عز وجل، قال: وخرجت وجئت إلى مدخل الرياض، وإذا بهذه السيارة قد ارتطمت بعمود من أعمدة الإنارة، وإذا المنطقة مظلمة قد انقطعت عنها الكهرباء، ووالله إني لأرى نوراً خافتاً يخرج من وسط هذه السيارة، فتقدمت ونزلت وولعت سيجارتي، وتقدمت إلى هذا الرجل، فوجدته رجلاً كث اللحية، مستنير الوجه، وجهه كأنه قراطيسٍ بيضاء، وإذا المقود مقود السيارة -الدركسون- قد ضربه على أسفل بطنه، وهو ممسك به على المقعد، قال: فجئت والسيجارة في فمي، قال: أتريد أن تنقذني؟ قلت: نعم، قال: لو سمحت! اتق الله وأطفئ هذه السيجارة، وهو في وضع من الأوضاع لا يفكر فيه الإنسان إلا فيمن ينقذه، وهو لم ينس مهمته في ذلك الوقت. يقول: فأطفأت السيجارة ورجعت مرة أخرى أحاول أن أخرجه ما استطعت، قال: وإذا به في سكرات الموت يقول: إن رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه}. ولا أملك لك يا بني في هذه اللحظة إلا النصيحة، فهل تقبلها؟ قلت: تفضل، قال: اتق الله! اتق الله! وإياك ورفقة السوء! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم لقي الله، وانطوى على مقود السيارة. يقول: أنا لم تحملني رجلاي بعد ذلك، وكلماته ترن في أذني وكأنها تزلزلني زلزالاً، ليس في ذاك المكان إلا أنا وهذا الرجل قال: فما كان مني إلا أن أخذته بالقوة وكسرت مقعد السيارة ووضعته في السيارة وأمشي في الطريق، وما زالت المطرقة تطرق في ذهني: اتق الله! اتق الله! ثم سلمته إلى قسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، ورجعت إلى بيتي وذهبت إلى أهلي، واغتسلت وتوضأت، وإذا بالمنادي ينادي لصلاة الفجر، قال: فانطلقت إلى المسجد وصليت، وذهبت إلى الإمام وأخبرته، قلت: حدث الليلة كذا وكذا وكذا قال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، ولم يرسل إليك ملك الموت ليقبضك على ما أنت عليه. الشاهد من هذا -يأيها الأحبة- أنه إنسان في أحلك اللحظات يلفظ روحه، ومع ذلك لم ينس واجبه في الدعوة إلى الله جل وعلا. ثم أقول لكم: أيها الأحبة! عليكم بالصبر! عليكم بالصبر! فقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: ما صبر إنسان وتحمل وجالد في هذه الحياة في سبيل إبلاغ دين الله عز وجل إلا وذلل الله عز وجل له كل صعب، وهذا مشاهد ومعروف، والواقع يشهد بذلك {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. صبروا وأيقنوا بآيات الله، فمكنهم الله عز وجل وجعلهم أئمة يقتدى بهم، فالصبر هو الشيء الثاني أيها الأحبة.

الاعتزاز بهذا الدين

الاعتزاز بهذا الدين الأمر الثالث يا أيها الأحبة: أن نرفع رءوسنا بهذا الدين، لأن منا من يحمل هذا الدين لكن وهو مطأطئ الرأس، هذا لا ينفع الله به أبداً، لأن هذا الدين من حمله فهو يطاول السحابة في السماء، لأنه دين الله، دين الله عز وجل لا يعلو عليه شيء، يجب عليك أن تبلغه وأنت مرفوع الهامة والقامة، لتكن مثل ربعي بن عامر في إيوان كسرى وهو يصدح: [[جئنا نخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]]. ينبغي أن تكون كـ ربعي لكن في الوقت المناسب. ينبغي أن تكون كأحد علماء الشام وهو الشيخ سعيد الحلبي في يوم من الأيام وكان يلقي دروساً في مسجداً من المساجد، وجاء إبراهيم بن محمد علي باشا والي مصر ودخل المسجد، فقام الناس كلهم له إلا هذا الرجل، فتأثر في نفسه، فهو يريد أن يقوم له، وعندما تأثر من نفسه قال: لآتينه من باب لطالما أتي طلبة العلم من هذا الباب، باب الدنيا، ذهب إلى بيته وأعطى أحد جنوده مبلغاً من المال، وقال: اذهب وأعطه فلاناً، وكان المبلغ ألف ليرة ذهبية، فجاء به إليه. وكان الشيخ في جلسته يلقي الدرس وهو مادٌ رجله، ولم يتغير عن ذلك عندما دخل ذلك الطاغية، فجاء إليه رسول الطاغية وقال: إن إبراهيم باشا يقول: هذه لك -وهي ألف ليرة ذهبية- فتبسم، وقال: ردها له وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. ينبغي -كما قلت لكم أيها الأحبة- أن نحمل هذا الدين بعز، وإلا فوالله لن ينفع الله بنا ما دمنا نحمله على استخذاء وعلى حياء ونطأطئ رءوسنا.

الحذر من الانجرار إلى معارك وهمية

الحذر من الانجرار إلى معارك وهمية ثم أقول لكم أيها الأحبة: بعد ذلك ينبغي ألا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك. وأضرب لكم مثالاً في هذا الوقت الحاضر: جريدة الندوة -على سبيل المثال- في مكة المكرمة مع الأسف، وما قامت تكتب فيه من أشياء. سبحان الله! اتجه الشباب عموماً -حتى إن الإنسان ليحزن ويأسى على ما يرى- اتجهوا كلهم ليشتروا هذه الجريدة الكاسدة التي كنت تراها معلقة الليل والنهار ولا أحد يأخذها. أيها الإخوة! لا ينبغي أن نغضب لأنفسنا، علينا أن نسمو فوق ذلك، وهؤلاء لا ننظر إليهم: لو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينارِ لا ينبغي أن نستجر من غيرنا، لا ينبغي أن يحركنا غيرنا، بل يكون تحركنا ذاتياً، نحن الذي نحرك أنفسنا متى شئنا، ومتى رأينا أن الوقت مناسب نتحرك، هذا مثل من الأمثلة يدل على أن هناك خلل أيها الأحبة. في وقعة أحد وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه، وأبو سفيان رضي الله عنه ينادي قبل أن يكون مسلماً ويقول: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فلم يأمرهم بالرد، مع أن الجواب قد يكون أغيظ له في ذلك الوقت، لكن من باب قول القائل: والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ أما ترى الأسد تُخشى وهي صامتةٌ والكلب يخزى لعمر الله نباحُ إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوتُ فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموتُ كذلك -أيها الأحبة- اللين اللين، والرفق الرفق، نحن لا ندعو يهوداً ولا نصارى، نحن ندعو إخواننا، وعليهم من المعاصي ما عليهم، وعليهم من الأخطاء ما عليهم، فلنلن لهم. بعضنا يشتد على إخوانه الذين يرتكبون معصية من المعاصي أكثر مما يشتد على المجوسي والشيعي والرافضي واليهودي والنصراني، وهذا خلل يأيها الأحبة. إن إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله يمر في يومٍ من الأيام على يهودي معه كلب، فيقول اليهودي وهو يسخر ويستهزئ -وهم لا يزالون يسخرون ويستهزئون ويتهكمون بالأمة إلى قيام الساعة، أمرٌ معروف عنهم وسنة متبعة- فيقول له: ألحيتك أطهر أم ذنب هذا الكلب؟ فلم يستفز بهذا الموضوع، وإنما قال له: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار فذنب كلبك أطهر، فقال هذا اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء. وهذا أثر الكلمة اللينة، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. يجب علينا ونحن نسلك هذا الطريق أن نسلكه برفق، وأن نمشي بخطىً ثابتة؛ لأننا نحمل ديناً ثابتاً باقياً ما بقيت السماوات والأرض، فيدخله الله عز وجل كل بيت بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، فتبقى طائفة على الحق منصورة، إنما جند نفسك لتمشي في ركاب هذه الطائفة. هذه كلمات أستطيع أن أقول: إنها متفرقات، وأنا -وكما قلت في بداية المحاضرة- كمثل من يبيع زمزم على أهل مكة. مشكلة من المشاكل ليست في الدعوة فقط، وإنما في الدين كله، هناك من يمشي ويمشي ثم يسقط، وإن لكل عملٍ شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة، فهذا هو الذي نريد، لكن المشكلة من كانت فترته إلى أخرى. أقول أيها الأحبة: إن الإنسان يسمو أحياناً ويرتفع فأقول له: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون إذا وجدت الإقبال على الدعوة إلى الله عز وجل فلا تتأخر، واستغل هذا الإقبال؛ فإن الحياة فرص، متى ما ضيعت فرصة فقد لا تتعوض، وقد تعض عليها أصابع الندم، فإذا جاءك الإقبال ووجدت الإقبال من نفسك، فضع لنفسك حداً معيناً، فإن استطعت أن تزيد عليه فزد، فهذه فرصة، لأنك قد لا تجد هذه الفرصة في يوم من الأيام، لكن إذا جاء العكس -أيها الأحبة- سواء كان في دعوة أو في أمرٍ آخر، فاجعل لك حداً معيناً لا تنزل عنه، على سبيل المثال إذا كنت تخصص في اليوم الواحد للدعوة مثلاً أربع ساعات فليكن الحد الأدنى لك في حالة الفترة ساعتين مثلاً، هذه الساعتان لا تنزل عنها أبداً حتى ولو تخطفت. على سبيل المثال: قيام الليل، أحياناً يأتي للإنسان رغبة في قيام الليل أقول: قم ما استطعت، لكن بعض الناس يقوم ما استطاع اليوم وغداً وبعد غدٍ والذي وراءه، ثم يأتي فيترك القيام بعد ذلك: {أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل}. فأقول: اجعل لك حداً أدنى، وليكن ركعتين في الليلة، ركعتين مع الوتر وانتهى الموضوع، هذه لا تنزل عنها ولو تخطفت تخطفاً، أما ما فوقها فيتفاوت الأمر إلى ما لا نهاية، فعلى الإنسان أن يجعل لنفسه حداً معيناً، ففي وقت الفترة يقف على هذا الحد، وفي وقت الإقبال يستغل كل ما لديه من قوه، ثم عليك برفقة الصالحين، الداعية إذا انعزل لوحده جاءه إبليس فخذله، وقال له: دع هذا اليوم، اليوم أهلك أحق بك، وغداً فلان أحق بك، ولنفسك عليك حق، وإن من حق النفس عليك أن تبلغ ما أمرها الله عز وجل به، يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها، بم تجادل إذا لم تقم هنا بما أوجب الله عليها؟ فعليك برفقة الصالحين، وعليك بالاجتماع بإخوانك، فإن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأحياناً يأتي الإنسان وبه خيبة أمل عظيمة مما يرى، لكنه يأتي إلى أحد إخوانه، فيعطيه عزيمة، تفل الحديد، فعليك بإخوانك، فإن المرء -كما قلت- كثيرٌ بإخوانه قليلٌ بنفسه. وفقنا الله وإياكم إلى استغلال كل خير! وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

صفحة صدق

صفحة صدق إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش وخلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن، وقد تعرض الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم للمحن والشدائد، ومن هؤلاء كعب بن مالك رضي الله عنه الذي تعرض لمحنة التخلف عن الغزو، وكان أكبر سبب لهذا التخلف هو التسويف، وقد كان لمقاطعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكعب أثر كبير، وقد استمرت ما يقارب الخمسين يوماً حتى منّ الله عليه بالتوبة، فأصبح قدوة للمسلمين في الصدق والشجاعة.

المحن وفوائدها

المحن وفوائدها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أما بعد: عباد الله! اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لايخطئ، وميزان لا يظلم؛ يكشف عما في القلوب؛ ويظهر مكنونات الصدور؛ ينتفي معه الزيف والرياء؛ وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء. إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن. قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة؛ فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط، عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154]. بالمحن تستيقظ الضمائر، وترق القلوب، وتتوجه إلى بارئها؛ تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه معلنةً تمام العبودية والتسليم الكامل له، لا حول ولا قوة إلا به، لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو باقٍ فلا يفنى ولا يبيد ولا يكون غير ما يريد منفرد بالخلق والإرادة وحاكم جل بما أراد سبحانه وبحمده! عباد الله: وصور المحن والمنح في السيرة كثيرة وجليلة، وجديرة بالتملي والتأمل، والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه، حديث تحبه وتجله النفوس المؤمنة، تأنس به قلوب بالإيمان هانئة مطمئنة، حبه في شغاف القلوب والأفئدة، وتوقيره قد أُشْرِبَتْ به الأنفس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

كعب بن مالك وتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

كعب بن مالك وتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهَلُمَّ هَلُمَّ عباد الله! لنتصفح ونتفحص صفحة صدق بيضاء ونقية لنرى من خلالها المحنة بكل صورها -وبالصدق تتخطى- لنعلم عبرها وعظاتها؛ فقد مُلِئَتْ عِبَرَاً وعَبَرَات، وفكراً ونظرات، دموعاً حَارة وحسرات، هجر الأقربين فيها شديد المظاظة، ومع ذلك بارز وظاهر، وتزلف المناوئين والمنافقين فيها مشرئبٌ زاخر. صفحة مُلِئَت بأحداثٍ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. صفحة جسدت الصدق والإخلاص والقدوة في الصبر على الضراء والشكر على السراء تطبيقاً عملياً ماثلاً. إنها صفحة بُدِئَت باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة من؟ لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. إنه استنفار وأي استنفار! في أيام قائظة، وظروف قاسية، في جهد مضنٍ ونفقات باهظة، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحان؛ ليسطر في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب. أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداثٍ في تنوع مثير! يجيء المعذرون لِيؤذن لهم، ويقعد الذين كذبوا الله ورسوله، ويتولى الذين لم يجدوا ما يحملون عليه بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، ويرجف المرجفون: لا تنفروا في الحر ونار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، والساقط في الفتنة يقول: ائذن لي ولا تَفْتِنِّي وفي الفتنة وقع، (فر من الموت وفي الموت وقع). وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق، لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير معصوم. لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛ أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر البالغ في النفس والجنان؟ صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله، تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد. والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.

التسويف هو سبب تخلف كعب بن مالك

التسويف هو سبب تخلف كعب بن مالك يقول: فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: سوف أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً. قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. ولسان حاله يقول: ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت! كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل يقول كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه- يعني: إعجابه بنفسه -فقال معاذ وقد استنكر الأمر وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت! -والله يا رسول الله- ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت صلى الله عليه وسلم}. يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!

كعب بن مالك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك

كعب بن مالك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك يقول كعب: فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- حضرني همي -حضره بثه وحزنه- قال: فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. ويا له من رأي! وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو منهجنا- وجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: {ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله! والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمت لَئِن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك}. صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة. علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله. يقول كعب: فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي. عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين. إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـ كعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر. فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم

مقاطعة المسلمين لكعب بن مالك وأثرها عليه

مقاطعة المسلمين لكعب بن مالك وأثرها عليه وأُعلِنَت المقاطعة لهذا ولصحبه؛ بل التربية النبوية العميقة، يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -نحن الثلاثةَ- من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلة، وكنت أَشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم فأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني.

بكاء كعب بن مالك من شدة المقاطعة

بكاء كعب بن مالك من شدة المقاطعة حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ؛ قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. قال: فقلت: نشدُتك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فنشدته فسكت، فأعدت عليه؛ فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، أهيم على وجهي. وانظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكامله وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم. إن الرقابة لله! حتى ولو كان ابن عمه، نعم. إن المراقبة لله! إن أضر شيء على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدوراً رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراءً عاماً لكان دافعاً إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح. انظر لذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في الأسواق وفي المساجد ومع الأصدقاء بل حتى مع بني العمومة بل مع الزوجة، فلم تترك منفذاً يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحريك الغاية التربوية منها، كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتؤلف، وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقضي باللين في مكانه والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.

ملك غسان يحاول استمالة كعب أيام محنته

ملك غسان يحاول استمالة كعب أيام محنته عباد الله: وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء؟ إن هناك صَفَّاً يعمل داخل الصف الإسلامي دائماً، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر وألا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين. يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟ من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك. قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء -هذا من الامتحان- ثم تيممت بها التَّنور، فسجرته بها -أحرقها يا عباد الله- هذا هو ديدن أعداء الله يتحسسون الأنباء ويترصدون الفرص والأخبار، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت وانزلقت. إن المسلم قد يخطئ لكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر؛ قد يخطئ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين. إن أداة المعصية حين تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرةَ بعد الكرةَ، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة، فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الحل. إن آلة المعصية التي توجد في المنازل وفي المكاتب وفي غيرهما حين تترك -بعد العلم بضررها والتوبة منها- مدعاة لأن يضعف أمامها يوماً ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها، ولا يزال البلاء والتمحيص بـ كعب؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

توبة الله على كعب وأصحابه

توبة الله على كعب وأصحابه يقول كعب: فتمت لنا خمسون ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس في الحال التي ذكرها الله -فيما بعد- قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: فخررت ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفت أن قد جاء الفرج. وجاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد، وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بسبب صدقه، فقال بعد ذلك: والله ما أنعم الله علي بنعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله! بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون البشائر والجوائز. يقول كعب: فلما جاءني الذي بشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُه إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبيْن فلبستهما.

الصحابة يهنئون كعبا بتوبة الله عليه

الصحابة يهنئون كعباً بتوبة الله عليه وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حوله جلوس، فقام إليَّ طلحة فرحاً مغتبطاً يهرول حتى صافحني وهنَّاني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله ما أنساها لـ طلحة رضي الله عنهم. الله أكبر! ما أعظمه من تعامل للصحابة مع أخيهم! بالأمس القريب لا يتحدثون معه ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون فيمن يصل إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة. إنه حب الخير لأخيهم كما يحبونه لأنفسهم، ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامر الشارع. قال كعب: فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهو يبرق سروراً وجهه كأنه فلقة قمر: {أبشرْ يا كعب بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك. فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله} فحمد الله وأثنى عليه. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]. وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين. وظهر الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، هؤلاء هم رجال الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الإيمان، قوة في اليقين، صدق في الحديث، صدق في المواقف، صٌبر عند اللقاء، اعتراف بالخطيئة، كلمة الحق في الرضا والغضب من غير تنميق عبارات أو تلفيق اعتذارات: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون. اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قصة كعب درس من دروس الصدق

قصة كعب درس من دروس الصدق الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي -والعود أحمد- إلى كعب بن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه، فإن الأمر لم يقف عند بشارته بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلس كعب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً التأكيد لهذه التوبة والتمسك بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً: {يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك}. ثم يعلن أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكاً ثابتاً في مستقبل حياته إذ بالصدق نجا، فيقول: {يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت} حاله كحال الآخر الذي يقول: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت. يقول: فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدْتُ كذبة مذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، والله ما أنعم الله عليَّ نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يا كعب؟ قال: ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا شرَّ ما قاله لأحد، يوم قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96]. عباد الله: الصدق فضيلة وطمأنينة وصفة من صفات المؤمنين فعليكم به، وليكن قدوتكم كعباً وصحبه ومن اقتدى به؛ فليس بينكم وبينهم حاجب. إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك تحرَّوْا الصدق، وإن رأيتم الهلكة فيه؛ فإن النجاة فيه، وإياكم والكذب، وإن رأيتم النجاة فيه؛ فإن الهلكة فيه وعظيم الفتنة به، وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح، فكثر الهاجي وقل المادح. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن الحر وخذها بزمام واصدق حديثك إن المرء يتبعه ما كان يبني إذا ما نعشه حملا اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.

الاختلاط وأثره

الاختلاط وأثره إن الإسلام أكد وشدد على حفظ الأعراض والأنساب، وحرم كل طريق يؤدي إلى اختلاطها، وحذر أيما تحذير من مخالطة النساء، والخلوة بهن، أو الدخول عليهن، وعندما تناست الأمة هذا التحذير وقعت فيما وقعت فيه، فكل يوم نسمع عن فعلة قبيحة وفاحشة خبيثة سببها الاختلاط والخلوة. هذا ما تعرض له الشيخ حفظه الله، مبيناً أثر الاختلاط والخلوة في حياة الأمة.

آثار الاختلاط على الأمم والمجتمعات

آثار الاختلاط على الأمم والمجتمعات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:59 - 61]. وقعنا في الخطايا والبلايا وفي زمن انتقاض المحدثات فهان الخير والصلحاء ذلوا وعثَّ بذلهم أهل السفاءِ وباء الآمرون بكل عرسٍ فما عن منكرٍ للناس نائي فصار الحر للمملوك عبداً فما للحر من قدرٍ وجاه فهذا شغله طمعٌ وجمعٌ وهذا غافلٌ سكران لاهي

اهتمام الإسلام بحفظ الأعراض والأنساب

اهتمام الإسلام بحفظ الأعراض والأنساب عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فتقوى الله خير زادٍ نتزود به في رحلتنا إلى الله الواحد القهار، ثم إن الإسلام أكد وشدد على حفظ الأعراض والأنساب وحرم كل طريقٍ ممكنٍ إلى اختلاط الأنساب، فأوجب على المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وأوجب على المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، وشدد الإسلام في الحيلولة دون اختلاط النساء بالرجال، وحذر الإسلام أيما تحذير من الخلوة بالنساء أو الدخول عليهن من غير المحارم، وبين أن هذا العمل مذموم عند الله عز وجل وعند رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {إياكم والدخول على النساء، إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله! أفرأيت الحمو -يعنون قريب الزوج، من أخٍ، وابن عمٍ، وابن خالٍ، وغيرهم ممن يحق لهم دخول بيته- قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} نعم إنه الموت؛ لأن الناس لا يحسبون دخوله وخروجه من عندك، فلا يرى بأساً أن يدخل البيت وصاحبه خارج، فيقع في المؤمنين ما لا تحمد عقباه، وتقشعر منه القلوب، وتتفطر منه الجفون. ومن الفواحش التي تدمي القلوب: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} وما ظنكم باثنين الشيطان ثالثهما؟ أينتج عن ذلك خير؟ أينتج عن ذلك براءة؟ الشيطان يجمل ويزين، ويقرب ويؤنس، ويدني، فوالله لا فلاح ولا نجاح.

تهاون الناس في أمر الخلوة والاختلاط

تهاون الناس في أمر الخلوة والاختلاط عباد الله: ومع تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من الخلوة التي بسببها نسمع كل يومٍ حادثة قبيحة وفعلة شنيعة، ومع ذلك ما زلنا نرى ونسمع ألواناً من الخلوة والاختلاط، بل صار الناس لا يرون بها بأساً، ولا يرفعون بها رأساً، وصارت أمراً طبيعياً مألوفاً، بل لوناً من ألوان التقدم والرقي، فصارت الخلوة عادية في مجال الاستطباب، حتى صار كثيرٌ من الأطباء يبيح لنفسه الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويرى فضلاً عن وجهها شيئاً من جسمها، بل يرى فخذيها وعورتها المغلظة، مستبيحاً ذلك بحجة أنه طبيب، ناسياً بل متناسياً أنه رجلٌ أجنبي لا يجوز له أن ينظر إلى ما حرم الله؛ إلا في مجالٍ ضيقٍ شديد، ألا وهو مجال الضرورة العظمى التي تتطلب التدخل لإنقاذ حياة المرأة في حالة عدم وجود المرأة الطبيبة. إن ذلك لا حرج فيه لكن بضوابط، مع وجود المحرم قدر الاستطاعة، فإن لم يوجد المحرم، فليوجد رجلٌ أو امرأة ثالثة، أو رابعة، حتى تنتهي الخلوة التي تحدث بين الطبيب والمريضة. ونحن عندما نقول هذا الكلام، قد يستنكره بعض الذين في قلوبهم مرض، فيمدون شفاههم في وجوه الدعاة، زاعمين أن هذا تشددٌ وتخلفٌ رجعي، بل سوء ظنٍ من الدعاة بالمدعويين، ناسيين أو متناسيين أنه ما ديست كرامة المرأة إلا بعد أن وجدت هذه الأفكار، وما من بلية ولا رزية إلا وكان للخلوة والاختلاط فيها نصيب الأسد. إن كثيراً من أطباء النساء يتعمدون الكشف على سوءة المرأة الحامل مدعين أنهم بذلك يطمئنون على صحة الجنين، يا له من قبحٍ وسوء فعلٍ وقلة حياء وأدب!! وبالإمكان وضع سماعة الطبيب على بطن المرأة فوق الثياب وسمع النبضات، لكن الدنية الخبيثة تأبى عليه ذلك، بل يتجرأ بعضهم ويمد يده ليتحسس وضع الرحم كما يقول، وإن جئت لطبيبة تريد الستر حولتك إلى طبيب، ما دور تلك الطبيبة؟! قبح الله تلك الأخلاق والشيم. إن الرجل صاحب المروءة ولو لم يكن ذا دين؛ تأبى عليه مروءته أن يطلع على عورات النساء. ولا إله إلا الله مع كثرة اللمس تبلد الإحساس، وصار الأمر متستطاباً ومستحسناً عند بعض النساء من اللاتي قل حياؤهن، وغاب عنهن وليهن فلم يتربين التربية الإسلامية الحقة.

الخلوة والاختلاط صور وعواقب

الخلوة والاختلاط صور وعواقب يذكر بعض العاملين في بعض المستشفيات: أن بعض النساء تأتي لطبيب النساء متجملة غاية الجمال، لابسة عارية، تلبس ما يثير الشهوة عند من لا يشتهي: كاسيات عاريات، فإذا جاءت ولم تجد الطبيب غضبت ورجعت ولم تذهب للطبيبة؛ لأنها تدربت وألفت لمسة الرجل الأجنبي، وتلذذت بتحسيسه على بطنها وفخذيها فصارت لا تأتي للعلاج ولكن لمرضٍ في القلب والنفس نسأل الله غفرانه وعفوه. وصار بعض الأطباء يرى أن الخلوة حقاً من حقوقه، فيتجرأ ويخرج الرجل الذي يأتي مع زوجته -إن صح أن نسميه رجلاً- قائلاً له: لو سمحت لا يجوز أن تحضر الكشف، وبعض الرجال -بل أشباه الرجال- يطأطئ رأسه وينزع مروءته فيترك زوجته ليخلو بها الطبيب! لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إخلاصٌ وإيمانُ يذكر أحد الإخوة: أنه دخل إحدى العيادات وإذا به يرى الطبيب قد أغلق على نفسه مع امرأة، فظن أن المرأة مع زوجها أو أخيها، فأخره فدخل لوحده، وإذا به يرى الطبيب يتلون وجهه عندما دخل عليه وهو في حالة مرثية لا تدعو إلى الاطمئنان، ماذا كان يفعل مع تلك المرأة أيها المسلمون؟! أواه! أفهذا يرضي الرجال الكرام؟! أهذا يقبله شرعٌ أو خلق؟! أين الغيرة يا أبناء وأحفاد محمد صلى الله عليه وسلم؟! أين الشهامة؟! ألا تغارون؟! ألا تستحون؟! ألا تخجلون؟! ألا تخافون من الله؟! إن الخلوة محرمةٍ بكل أنواعها، لا يجوز للرجل أن ينظر إلى امرأة لا تحل له مهما كانت الأسباب والدواعي، فضلاً عن الخلوة بها. وأصبحت المصافحة للأجانب أمراً مألوفاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له} فبأي حقٍ يستبيح بعض الرجال الخلوة بالنساء؟ وبأي حقٍ يبيح بعض الأولياء لنسائهم أن يخلو بهن الأطباء أو غير الأطباء من غير المحارم، من سائقين، وعمال، متجاهلين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.

السائقون والخدم من أسباب الفاحشة

السائقون والخدم من أسباب الفاحشة لا إله إلا الله كم نسمع من الوقائع والمآسي التي حصلت نتيجة الخلوة من السائق أو العامل بربة البيت أو بابنتها!! وكم من امرأة استدرجت سائقها لفعل الفاحشة بها! كم من سائقٍ ذكيٍ لبقٍ استغل فرصة غياب رجل البيت -إن صح أن نسميه رجلاً- ليستدرج صاحبته إلى الفاحشة؟! فإذا سقطا فيها مرة صعب بعد ذلك الانتهاء عنها، وكثير من الرجال اكتشفوا ذلك بعد وقوع الفأس بالرأس كما يقولون، فوجود السائق والخادم في البيت خطر عظيم. أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد يقول بعض أشباه الرجال لما أراد أن يستبدل السائق؛ لخصومة وقعت بينه وبينه، يقول: انطلقت زوجتي لتدافع عنه بقوة، وهي تصيح هو حبيبٌ لنا ولطيفٌ يخدمنا ويقضي لوازمنا وأنت مسئول عنا. لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنمِ ما دخل امرأته في حكم الرجال؟! رجلٌ يريد أن يستبدل سائقاً أو يغير شيئاً ثم تتدخل المرأة في الدفاع عنه، إن في الأمر ما فيه!! ولا إله إلا الله! يغطي بعض الناس رأسه يوم يسمع مثل هذا الكلام، وقد يقول البعض: إن الخطيب يفتري على الناس شيئاً لم يقع، لكن يا عباد الله يجب مواجهة الحقائق ووضع النقاط على الحروف، فإن المقدمات الخاطئة تولد نتائج خاطئة، والسكوت عن الذنب الصغير يفضي إلى الكبير. كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر ويأتي بعض السذج ويقول: لمَ لم تفعل الدولة كذا؟ لماذا تسمح بدخول الخدم والسائقين؟ نقول: نعم على الدولة مسئولية، لكن أتريد من الدولة أن تضع حارساً على نسائك؟ أتريد أن تضع رقابة على بيتك؟ إن الرجل المسلم حريصٌ على بيته وعرضه، حريصٌ على محارمه. إن خطر السائق عظيم، فإذا اضطررت إليه فليكن في حدود الشرع يا عبد الله، يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لا يحق له دخول بيتك، ولا تسمح لنسائك بكلامه أو مخالطته، لا يخرج بهن إلا وأنت معه أو ابنك، أو ثالث أو أخوك معه، هذا إن اضطررت إليه، ولكن المؤسف الذي يدمي القلب أن بعض الناس يعتبر السائق شكلاً تكنيكياً من لوازم الحضارة والتقدم! وما علموا أنه من بوادر الحقارة والدعارة، والتفاهة والتدهور: سوف ترى إذا انجلى الغبارُ أفرسٌ تحتك أم حمارُ عباد الله: إنا نرى ويا ليتنا لم نر، إنا لنرى الإنسان يسوق سيارته سائق وعنده خمسٌ من البنين كلهم يقودون سياراتهم، ولا يكلف الواحد منهم نفسه أن ينقل عرضه إلى المدرسة، ويأتون برجلٍ غريبٍ كافرٍ جاء من بلدٍ مختلف، الزنا فيه أمرٌ طبيعي لا يستنكر ولا يستغرب، يأتون به لينقل أعراضهم، ويؤتمن على نسائهم، أهؤلاء رجال؟! إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ يؤتى برجلٍ شاب يتجمل ويتهندم ويعتني بشعره أكثر مما يعتني صاحب المرأة بنفسه، فيضع السلاسل الذهبية في عنقه، وتسلم له سيارة أنيقة، ويسلم له فتياتٍ قد بلغن الكمال في الأنوثة والصحة والجمال، وقد حيل بينهن وبين الزواج غالباً، فيقولوا لهذا السائق: خذهن لقمة سائغة، اذهب بهن إلى الأسواق والمدارس والحدائق فأنت الصادق الأمين. إن كنتم تشكون في كلامي فاذهبوا إلى الأسواق، وانظروا في طوابير السيارات الواقفة ستجدون هذا كافراً، وذاك جندياً هندوسياً يحمل في سيارته امرأة من نساء المسلمين ويؤتمنون عليها. يا أمة الحق والآلام مقبلةٌ متى تعين ونار الشر تستعرُ متى الفواق وقد تمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمَّ بنا الخطر نتائج الأمة عظيمة، إذا قلبت النظر وجدت ظلاماً وليلاً حالكاً، ومن هذا الظلام خلوة صاحب البيت أو ابنه بالخادمة وتلك والله مصيبة، وكثيرٌ من الآباء سمح للخادمات بلبس القصير، والخلوة بابنه المراهق، وما علم أنه فتح باباً من الشر على بيته وابنه يوم جلب الخادمة، فإذا هي أجمل وأحسن شكلاً من صاحبة البيت، وقولوا لي بالله كم سيغض صاحب البيت طرفه عنها، إنه شيءٌ يضحك ألماً، وشر البلية ما يضحك.

الشيطان يورد المهالك

الشيطان يورد المهالك حذار حذار يا عباد الله! من الخلوة والاختلاط، كم من رجلٍ تعلق قلبه بامرأة أجنبية حتى صار يعزف عن زوجته التي أحلها الله له، لا يجد لذة ولا راحة في معاشرتها ولا في الجلوس معها ولا في حديثها؛ لأن الشيطان قد علق قلبه بامرأة غيرها، فأصبح حاله كحال الشاعر الفرزدق مع زوجته يوم كان يتركها ويذهب ليعمل الفاحشة بغيرها، وهو رجلٌ أعمى البصر والبصيرة، فتسللت زوجته إلى إحدى النساء اللواتي يعمل معهن الفاحشة، فطلبت من هذه العاهرة أن تحل محلها في مقابل أن تسترها ولا تفضحها، وجاء الأعمى يظن أن هذه عشيقته وما علم أنها زوجته؛ فأخذت بيده إلى المكان الذي تعود به عمل الفاحشة، وواقعها وعندما انتهى قالت له: قبحك الله! فعرف أنها زوجته فقال لها: أنت فلانة؟ قالت: نعم قبحك الله، قال: ما أبغضك حلالاً وما ألذك وأهنأك حراماً!! ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلال انظروا إلى الشيطان، فإياكم منه، إنه مدبر الحرام، يبين ويرغم فيه، فلو كان الرجل يملك زوجةً من أجمل نساء الدنيا حسناً وخلقاً، فإنه يراها غير جيدة أمام النساء الأجنبيات؛ لأن الشيطان يصور ويزين، ولقد حُدثنا وسمعنا أن رجالاً لديهم من الغيد الحسان ما يتمناه كل إنسان، ثم يتركونه وهو الحلال، ليتعقبوا أذيال نساءٍ مومسات، قبيحات الأشكال، خبيثات الأجسام، منتنات الروائح، وما ذلك إلا لأن الشيطان سول لهم وأملى لهم فاستبدلوا الحلال بالحرام فأولى لهم. لم نر من الاختلاط خيراً أبداً، فحوادث الاختلاط نسمعها تقض المضاجع كل آن، فهاهو حدثٌ تقشعر منه الأبدان، الراوي يروي ما حدث منه، ويطلب التوبة والرجوع إلى الله جل وعلا بعد أن آلمته مرارة المعصية، يقول: إنه كان يخلو بزوجة خاله وهي في مثل سنه، يتحدث معها، والشيطان ثالثهما، فخيل لهما الشيطان أنهما حبيبان لا يقدر أحدهما على فراق الآخر، فكانت إذا خرج زوجها استدعته للجلوس معها، ويوم بعد يوم وتقع الفاحشة ونعوذ بالله من الفواحش، ثم بعد ذلك يسعى ليطلقها من خاله بحجة أنه سيتزوجها، وفي سبيل هذا وقع عليها أكثر من أربعين مرة كلها برضاها ورضاه، لا إله إلا الله ما أعظم جرم الزنا! ولم يكتف بالزنا بل خان عرض خاله وهو كعرضه وعرض أمه، سمع موعظة فتذكر فاحشته، فأبغض زوجة خاله وأراد قتل نفسه، وذهب يستفتي أحد العلماء هل يجوز قتل هذه المرأة؟! سبحان الله، ولا إله إلا الله! يا إخوتي: عندما يكثر التساهل والتسامح يحدث ما نسمع، ويحدث ما نرى، فيا من اشتغل بماله وتجاراته عن أهله: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمالِ يا من ادعى طهر القلب: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وبناته وزوجاته هم أطهر الناس قلوباً، يا من يدعو إلى انحلال هذه الأمة بانحلال نسائها، لتخسأ، ما زالت في الأمة بقية تحمل حقاً، والحق يزهق الباطل: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] عباد الله: اتقوا الله، ولنحفظ ديننا ولنحفظ أعراضنا وسلوكنا بالمحافظة على أمتنا وعلى استقامتها وسلامتها، وعلى حفظ نسائنا، وبناتنا، وأخواتنا، اللهم من أراد بنا وبهن سوءاً فاقصم ظهره، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

المرأة هي الهدف

المرأة هي الهدف الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].

محاربة الحجاب والعفاف

محاربة الحجاب والعفاف عباد الله: الحجاب والعفاف، لو لم يكونا فريضة شرعية لكانا ضرورة عقلية يوليها الواجب والمروءة، في عصر التبذل وقلة الحياء، في عصر ذاق فيه الذين لم يعرفوا الحجاب اللومات والحسرات، رأوا اللافتة أمام أعينهم وعلى طرقاتهم، فاندلعت إلى بيوتهم. يا إخوة الإيمان كل صغيرةٍ إن أمهلتها الحادثات ستكبرُ فإلى المرأة اليتيمة المسكينة، إلى المحاربة في جلبابها وحجابها، إلى من حاربتها الصحف والمجلات والمسلسلات والأغنيات، إلى المرأة التي آمنت بالله، وسجدت لله، واستترت بستر الله، أقول: حذار حذار يا فتاة الإسلام! حذار يا بنت عائشة وفاطمة وزينب وأسماء، حذار من الاختلاط والتبرج، واسمعي وتدبري وتفكري، ولا يغرنك زيف الحضارة الغربية واسمعي إلى ما نشرته إحدى الصحف الأمريكية وقد نشرت استقراءً خطيراً في جامعةٍ من جامعاتها قالت: في سنة واحدة ثبت أن عشرين ألف فتاةٍ حملت من الزنا في هذه الجامعة، وأن أمريكا تستقبل مليون طفلٍ من الزنا والسفاح سنوياً، هل يفكر أحدٌ في معنى الاختلاط والتبرج؟ إنه الفاحشة والدمار، إنها التي تربتها المرأة في الغرب، تركت زوجها وشاركت الرجل، وسارت على أمانيها. وفي بريطانيا يوجد ثمانية ملايين من النساء لم يتزوجن، وعشرون ألف حالة إجهاضٍ في عامٍ واحد، كل هذا ثمرة من ثمرات الاختلاط. ودعاة السفور من الغرب والشرق يقولون: إن الحجاب بدعة حجازية خرجت من مكة والمدينة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] إن الأمر أمر الله وهو أدرى بمصالح عباده عز وجل. نبئوني بعلمٍ إن كنتم صادقين: آمرأة متعطرة متطيبة متحلية، تخرج من بيتها بلا محرم فتكلم الخياط، وتبايع، وتجوب الأسواق، وتقف مع بائع الأغنيات والمجلات، أهذه مسلمة؟! أهي مؤمنة؟! إنها ملعونةٌ مغضوبٌ عليها من الله. أين الدين؟ أين العفاف والحياء؟ ثم من يريدها زوجة له يا عباد الله! بالطبع لا أحد، حتى الفسقة لا يريدونها زوجة. إذا سقط الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كن الكلاب ولغن فيه

دور دعاة تحرير المرأة

دور دعاة تحرير المرأة عباد الله: دعا الغربيون إلى مشاركة المرأة للرجل في غير ما خلقت له، فدخلت المرأة المعمل، ودخلت المصنع، وخالطت الأجانب، فصارت عملة رخيصة في الطائرات، والقطارات، والمستشفيات، فضيعت أنوثتها، وأوقعت شباب الإسلام في حبائلها، واكتوت بلاد الإسلام بنار الاختلاط؛ نتيجة لترك تعاليم الإسلام، والانقضاض على جيف الغرب واتباعهم وتقليدهم. إن وضع العالم الإسلامي وضعٌ غير صحيح، وديننا الإسلامي -وكذلك ديار المسلمين- مستهدف، وفي بيتٍ من البيوت يُضبط ألف شريطٍ جنسي يستحي إبليس أن ينظر إليه، لا إله إلا الله! كل شريط كفيل بأن يدمر مدينة بأكملها، كيف وصل؟! من أين أتى؟! آه إن كان الباني واحداً والهادم ألفاً، كيف يكون البناء ويتم؟! أرى ألف بانٍ لا يقوموا لهادم فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم كيف تصلح الأمة الإسلامية ووسائل إعلامها تبث سماً زعافاً؟! تبث المجون والضياع والانحطاط، كيف تصلح الأمة وقد ضعفت التربية في البيوت بل انعدمت؟! كيف تصلح امرأة لا تسمع القرآن، ولا تعرف السنة، ولم تحضر في حياتها محاضرة، ثم يكب على رأسها آلاف المسرحيات والمسلسلات والأغنيات والمجلات؟ كيف ستكون امرأة مسلمة في خضم هذا؟ بل كيف ستربي أبناءها؟ بل كيف سيكون بيتاً مسلماً؟ ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا جعل من أكبر اهتمامته المرأة، خاطبها، ووعظها، وبالله ذكرها وأبكاها، كان يصلي العيد ثم ينتقل إلى النساء فيعظهن ويذكرهن، بل خصص لهن وقتاً يربيهن ويعلمهن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه بصلاح المرأة تصلح البيوت، وبفسادها تفسد المجتمعات. الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ وكثير من كتاب عالمنا الإسلامي يحارب المرأة المسلمة، يستهزئون بحجابها، يريدون أن تكون غربية ساقطة، يقولون عن الحجاب: خيمة، ويقولون: على المرأة المتحجبة أن تبحث عن قائد يقودها إلى مدرستها، ويقولون: آن للمرأة أن تمزق حجابها. معنى ذلك أن تمزق عرضها وحياءها، وعفتها ودينها، يعيرونها بحجابها لكن نقول: إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال الدجى للشمس أنت كسيفة وقال السهى للبدر وجهك حائلُ فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ تتعرض المرأة المسلمة في العالم الإسلامي لحملات شرسة، ودعواتٍ جاهلية، لها مظاهر متعددة، من أهمها: إلغاء الحجاب. ومن أوائل الداعيات إلى تحرير المرأة في العالم الإسلامي وإلغاء حجابها، تلك الشقية المجرمة هدى شعراوي عليها من الله ما تستحق، أول امرأة تسافر من غير محرمٍ إلى أوروبا وتحضر أول مؤتمرٍ دوليٍ نسائي، وبعد عودتها طالبت برفع الحجاب عن المرأة، وبلغت بها التفاهة والسفاهة أن ألقت بحجابها وداسته بأقدامها. وها هي الجمعيات اليسارية في العالم الإسلامي تتبنى هذه الدعوة الجاهلية، وتسعى جاهدة لإلغاء الحجاب الإسلامي؛ بحجة الحضارة لكن ذلك بعيداً عن منهج رب البرية: أثّر الجهال فيها وأمطر الزور عليها يا لها من ببغاء عقلها في أذنيها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].

ظاهرة الاختلاط وتفشي الخادمات والمربيات الكافرات

ظاهرة الاختلاط وتفشي الخادمات والمربيات الكافرات ومن مظاهر التحديات الاجتماعية: الدعوة إلى الاختلاط في العالم الإسلامي بهدف إلغاء القيم والمبادئ، ونجحت الدعوة في كل بلدٍ، في المدارس والجامعات والمؤسسات، وبقي هذا البلد الذي أسأل الله ألا يحل به ما حل بغيره. ومن مظاهر التحدي: ظاهرة تفشي الخادمات والمربيات الكافرات كما هو الحال في بعض دول الخليج بل في كلها، ولا يكاد يخلو منزلٌ من خادمة أو مربية أو سائقٍ غير مسلم، وفي هذا تهديدٌ للقيم الإسلامية في تلك المجتمعات. فيا عباد الله: اتقوا الله، هذه مسئوليتكم تجاه دينكم، قبل أن تصبحوا لقمة سائغة لكل جائع، وسلعة رخيصة لكل مشتري، وعندها تندموا ولات ساعة مندم. ها هو رجل تضبط ابنته تمارس الفاحشة مع شابٍ -نعوذ بالله من الفواحش- فيستدعى أبوها الذي فرط فيها، ويخبر الخبر ويغمى عليه، ثم يصيح ويرفع يديه إلى السماء قائلاً: رباه ليتك لم تخلقني، رباه ليتك لم تخلقني، لسان حاله حال مريم يوم تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] وفي ذلك عبرة وعظة. فعودة إلى الإسلام أيها المسلمون: ففي الإسلام سعادتكم لبناتكم؟! وعودة إلى الإسلام أيها المؤمنون، ففي الإسلام عزكم ونجاتكم وسعادتكم. وستذكرون ما أقول: أعداء الله يريدون من عالمنا أن يكون مفككاً، دنيئاً، مدمراً، فاحشاً، متفحشاً: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فلننتبه ولنقم من سباتنا. يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تسترنا، وأن تستر نساءنا، وبناتنا وأخواتنا، اللهم لا ترنا فيهم فضيحة، اللهم لا ترنا فيهم مكشوفة، اللهم لا ترنا فيهم سخطك. اللهم أرنا في دعاة السفور والاختلاط يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، اللهم اشف قلوب المسلمين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بشرٍ فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره يا حي يا قيوم! اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاحٌ للإسلام والمسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين الوالدان لهم فضل عظيم في الإسلام، وهناك آيات كثيرة توجب بر الوالدين، وقد قرن الله حقهما بحقه جل وعلا، وفي هذه الخطبة تجد قصصاً في عقوق الوالدين تدمى لها القلوب، ويندى لها الجبين.

انتشار العقوق في الأمة

انتشار العقوق في الأمة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: كان من المفروض في هذا اليوم أن نتكلم عن فضائل العشر الأولى من ذي الحجة، لكن مشاكل المسلمين كثيرة وأمراضهم خطيرة، وحلولها يجب أن تكون قبل أن يذهب الحاج إلى تلك المشاعر. ومن تلك المشاكل مشكلة خطيرة انتشرت وفشت وأصبحنا نلاحظها صباح مساء، تسري الأكباد وتقطع نياط القلوب ألا وهي مشكلة العقوق. إذا ظهرت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أربع عشرة خصلة؛ فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع في نظام قطع سلكه، ومن هذه الخصال: إذا أطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأبعد أباه، ولا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر! يأتي رجل وزوجته، وأمه تحمل ولده؛ ليشتروا ذهباً من بائع ذهب في هذه المنطقة، وبائع الذهب هو الذي يروي هذه الحادثة، تدخل زوجة هذا الرجل وتأخذ ذهباً بما يساوي عشرين ألف ريال، وتقف الأم واجمة هناك تحمل ولده ثم تتقدم لتأخذ خاتماً يساوي ثمانين ريالاً، فيقوم الابن بتسديد قيمة ذهب زوجته فيقول البائع: بقي ثمانون ريالاً، قال: لماذا؟ قال: قيمة الذهب الذي أخذته أمك، فانفجر غاضباً وقال: كبار السن لا يحتاجون للذهب، أخذت الأم الخاتم وأعادته للبائع ولسان حالها يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] خرجت تحمل ولده تريد السيارة وكأن زوجته أنبته على هذا الفعل وقالت: من يمسك لنا ابننا، أعطيها الخاتم. فأعطاها إياه فرمته وانفجرت تبكي قائلة: والله لا ألبس ذهباً في حياتي أبداً، حسبي الله ونعم الوكيل! لا إله إلا الله آباء يئنون وأمهات يشتكين! ولا إله إلا الله يحز في النفس ويدمي القلب ويندي الجبين يوم نسمع بل نرى بعض الأبناء يعق والديه! يؤذيهما ويجاهرهما بالسوء وفاحش القول! يقهرهما وينهرهما! يرفع صوته عليهما، يتأفف منهما! يقول بعضهم: أراحنا الله منك وعجل بزوالك يا شيبة النحس ويا عجوز الشؤم، لا إله إلا الله قول يستحي إبليس أن يقوله وبعض شبابنا يردده ناسياً أو متناسياً قول الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] لا إله إلا الله!

الإسلام ينهى عن عقوق الوالدين

الإسلام ينهى عن عقوق الوالدين توعد الله بالعذاب الأليم واللقاء الشديد من عصى والديه؛ لأن تلك معصية عظيمة فظيعة، وجريمة قبيحة شنيعة، يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وترعرع تغمط حق والديه يوم أذهبا زهرة العمر والشباب في تربيته، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبرا وضعفا ودنيا من القبر واحدودب ظهراهما، وقلَّت حيلتهما أنكر جميلهما، وقابلهما بالغلظة والجفاء، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء. لقد جعل الله عقوبة العاق عظيمة شديدة، وقد قرن الله حقه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الأرحام، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] قضاؤه وأمره ألا يعبد إلا هو ومع عبادته لا بد من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إليهم، وأوصى الله وصية خاصة بالوالدين فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة، وفي حضنه في حجرها، ثم إرضاعه {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. لقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله، ففي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إنني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد حي؟ قال: نعم. أمي. قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله ببرها فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}. يا أيها المسلمون: لا يجدر بعاقل مؤمن يعلم فضل بر الوالدين، ويعلم آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ثم يعرض عنه ولا يقوم به ويقابله بالعقوق والقطيعة، وهو يسمع نهي الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيه قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] أنتم تعلمون أن الإنسان إذا كبر ضاقت نفسه، وكثرت مطالبه، وقل صبره، وربما صار ثقيلاً على من هو عنده، ومع ذلك فالله يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] في حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف قد تمكن منهما في البدن، وقد يكون -أيضاً- في العقل، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، في حال كهذه الحال ينهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر، وأمره أن يقول لهما قولاً كريماً، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فيخاطبهما خطاباً يستصغر نفسه أمامهما، ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما، ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في حالة صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا. يا أيها الإنسان: اذكر حال أمك وأنت حملاً في بطنها وما تلقى من المشقة والتعب في جميع أحوالها ليلاً ونهارا، وتفكر في أمرها حال ولادتها، ثم بعد أن ولدتك لا تنام الليل، تسهر لسهرك وتتألم لتألمك، تجوع لتشبع، وتتعب لترتاح، وأنت لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعا، أبعد هذا يكون جزاؤهم العقوق والقطيعة والشتم، أي قلوب هذه التي استمرأت العقوق؟! وأي أرواح هذه الأرواح التي ألفت القطيعة؟!

أبناء عقوا آباءهم

أبناء عقوا آباءهم لقد بكت العرب والله في جاهليتها قبل إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت، وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه. في السير أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما ذاك؟ قال: ربيت ولدي، سهرت لينام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمط حقي، ثم بكى بكاء مراً وقال: وربيته حتى إذا ما تركته أخ القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه فبكى كل من في مجلس الخليفة، وحق لكل عين بكاها. وفي السير في أسانيد فيها نظر ما معناه: {أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: ما بك؟ قال: مظلوم يا رسول الله، قال: من الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟ قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته فلما كبر وضعف بصري ورق عظمي ودنا أجلي تغمط حقي وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء وأخذ كل مالي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم} وحق للقلوب اللينة وللعيون الرقراقة أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، هل أظلم وأكبر وأشنع من أن تربي ابنك، فإذا قوي واشتد ساعده، صائلٌ أصبح في مصاف الرجال، عندما أعطيته شبابك وزهرة عمرك ولذة روحك وشجى نفسك رد عليك الجميل منكراً، وأتى فإذا صوته صائلٌ في البيت لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً، يطيع زوجه ويعصيك، ويدني صديقه ويبعدك، إنها -والله- مأساة ما بعدها مأساة.

منزلة بر الوالدين في الإسلام

منزلة بر الوالدين في الإسلام لقد عد الإسلام بر الوالدين من أعظم الحقوق، يقول صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الأعمال الصالحة أيها أزكى وأعظم، فقال: {الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فلا إله إلا الله ما أعظم حقوق الوالدين! العقوق مأساة انتشرت في البيوت وأصبحت وبالاً على الآباء والأمهات، في بعض الآثار: أنه في آخر الزمان يود المؤمن أن يربي كلباً ولا يربي ولداً. وأرجو الله ألا يكون هذا الزمان، وجد هذا ورأينا عيون الآباء الذين طعنوا في السن وأصابتهم الشيخوخة وهم يتباكون ويتضرعون ويتوجعون من هذه الذرية الظالمة العاصية، فهل من عودة يا شباب الإسلام إلى الله؟! هل من لطف وحنان وخفض جناح؟! وهل من بر للآباء والأمهات؟! يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}. الأم -يا عباد الله- لها ثلاثة أرباع الحق فهي التي تعبت وحملت وأرضعت وغسلت وألحفت وأدفأت: فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غضض منها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك تمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغير فضيعتها لما أسنت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير فآه لذي عقل ويتبع الهوى وآه لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير ذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى قاضٍ في غلامهما أيهما أحق بحضانته؟ فقالت المرأة: أنا أحق به، حملته مشقة، وحملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني وعلى حجري كما ترى أيها القاضي، فقال أبو الأسود: أيها القاضي! حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة، قالت: لئن حمله خفة فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرها، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعنا من سجعك. وهاهو رجل كان في بيت الله الحرام يطوف بالكعبة المشرفة وأمه على كتفيه، قد أركبها على ظهره من بلده حتى وصل مكة وهو يطوف بها، فشاهد ابن عمر فقال له: يـ ابن عمر! أتراني أوفيتها حقها؟ قال ابن عمر: [[والله ما أوفيتها طلقة من طلقات ولادتها]] إن هذا لا يساوي طلقة من طلقات الولادة التي كانت تعاني منها في تلك اللحظات العصيبة، لا إله إلا الله كيف يعق الوالدان؟ حق الوالد عظيم أيما عظم! في الصحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: أتى رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال له: إني تزوجت ابنة عمي وهي أحب الناس إليَّ، أنا أحبها وأمي تكرهها وأمرتني بفراقها وطلاقها، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: لا آمرك بفراقها ولا آمرك بإمساكها، إنما أخبرك ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، لقد سمعته يقول: {الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فضيع ذلك الباب وإن شئت فاحفظه عليك} فلا إله إلا الله كم من شاب ضيع أوسط أبواب الجنة بعقوقه! فمن ضيعه فليعد وليبادر قبل غلق الباب وقبل قول: رب ارجعون.

شباب يتبرءون من آبائهم وأمهاتهم

شباب يتبرءون من آبائهم وأمهاتهم يا عبد الله: تأمل حال أبيك يجوب الأرض يميناً وشمالاً يطلب الرزق لك وأنت لا تشعر بذلك، إن هذا الأمر لأمر يجب على العاقل أبداً، وإن هناك من نسي ذلك مع الأسف، تبرأ من والديه، وخجل من وجودهما في بيته أمام زملائه، وربما سأل عن بعضهم؟ فقال لأبيه: هذا خادم عندنا لأنه يتوهم أن أباه لا يتناسب مع مركزه ووظيفته وأصحابه، إنما هذه صفاته، سخيف العقل، قليل الدين؛ لأن النفس الشريفة تعتز بأصلها ومنبتها، وإن هناك أيضاً من النساء -ومع الأسف- من إذا سئلت عن أمها، قالت: إنها خادمة أو طباخة، نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة. واسمعوا إلى العقوق، واسمعوا إليه في الماضي وقد سمعتم صوراً منه في الحاضر، اسمعوا لشاب اسمه: منازل كان منكباً على اللهو لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما كان يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وجنونه وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، فكان إذا نصح هذا الابن العاق زاد في العقوق وجار على أبيه، ولما كان يوماً من الأيام ألح الأب عليه بالنصح كعادته فمد الولد يده على أبيه فضربه، ذهل الأب وتجرع غصصه، ثم حلف بالله ليأتين بيت الله فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على هذا الولد العاق، خرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة ثم أنشأ يقول: يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد فما أن فرغ من دعائه حتى يبس شق ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق وقساوة القلوب. كل الذنوب يغفرها الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا العقوق فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل نرى العاق لوالديه في أبأس الحالات بعيداً عن القلوب عند من يعلم حاله، لا يعطف عليه صديق ولا شقيق ولا قريب، لا يأخذ بيده كريم في كربه، ولا يرغب أحد في مصاهرته خشية أن يأتي بأولاد فيكونوا مثله عاقين، ثم إن الله سبحانه وتعالى من عدله وكرمه يجازيه من جنس عمله؛ فكما عق أباه وأمه فيهيء الله له من يذيقه ذلك عاجلاً والآجل بيد لله عزَّ وجلَّ، وهاكم مثالاً على ذلك: ذكر العلماء أن رجلاً كان عنده والد كبير امتدت به الحياة حتى تأفف من خدمته ومن القيام بأمره، فأخذه في يوم من الأيام على دابة، وخرج به إلى الصحراء فلما وصل به إلى صخرة هناك أنزله، فقال: يا بني! ماذا تريد أن تفعل بي هنا؟ قال الابن العاق: أريد أن أذبحك -لا إله إلا الله ابن يذبح أباه! - قال الأب: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: أتعبتني ولا بد من ذبحك، قال الأب: إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: ولم يا أبتِ؟ ما ضرك لو ذبحتك عند هذه أو عند تلك الصخرة؟ قال: يا بني! لقد كنت عاقاً لوالدي وذبحته عند تلك الصخرة! فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة ولك -والله- يا بني مثلها، ولك والله يا بني مثلها. إن امتدت بك الحياة سيأتي ولدك ويذبحك عند تلك الصخرة، ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يظلم ربك أحد. حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن

شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه

شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه يا عباد الله: دعوة الوالد لاترد، إن بخير أو بغير ذلك، فإياكم ودعوة الشر من الوالدين، وعليكم بالأسباب التي تجلب لكم دعوة الخير منهما ليكون بها -بإذن الله- فلاحكم ونجاحكم، فوالله إن كثيراً ممن لم يوفقوا في حياتهم كان من أسباب ذلك دعوة والديهم عليهم بعقوقهم وقطيعتهم. هاهو شاب في زمن ليس ببعيد وفي قرية ليست بالبعيدة، كان يرعى الغنم لأبيه، ورأى تهافت الشباب على السفر والانخراط في السلك العسكري، فطلب من أبيه أن يسمح له ليذهب معهم، فرفض الوالد ذلك، حاول مراراً فلم يأذن له، قال الشاب: سأذهب أذنت أم لم تأذن، قال: أما القوة فما لي عليك من قوة، لكن مالي عليك إلا سلاح أوجهه في وقت السحر، وجاء يوم من الأيام وترك هذا الشاب غنمه مع أحد أقرانه، وذهب إلى إحدى قريباته فزودته بما يحتاجه المسافر وذهب إلى سفره، وعلم الأب -وكان صالحاً تقياً- بسفره بدون إذنه، فرفع يديه إلى الحي القيوم وسأل الله عزَّ وجلَّ أن يريه فيه ما يكره، فعمي الولد وهو في الطريق، واستقبله بعض أفراد قبيلته في الطائف وسألوه: ماذا تريد؟ قال: كنت أريد الوظيفة أما الآن فأعمى لا يقبل مثلي في الوظيفة، أخذوه وجاءوا به إلى أبيه، وعندما دخل عليه البيت وهو في الليل -ووالده قليل البصر. وهذا الشاب أعمى- فقال أبوه: أفلان أنت؟ قال: نعم. قال: هل وجدت السهم؟ قال: نعم والله. لكن الأب الحنون حزن حزناً عظيماً، وتأثر تأثراً كبيراً، وكان يود لو كانت في غير عينيه، وقام ليلته يبكي ويئن يركع ويسجد ويلحس بلسانه عين ولده ويدعو الله عزَّ وجلَّ، والله قريب مجيب، فما قام لصلاة الفجر حتى عاد لولده البصر، فحمد الله كثيراً، وهو معروف عند بعضكم أيها الجالسون، قد يكون هنا من يعلم الشخص الذي حصلت له الدعوة والذي كانت منه الدعوة. لا إله إلا الله! دعوة الوالد مستجابة يا عباد الله، فاجعلوها في الدعوة إلى ما يسركم في الحياة وفي الممات. يا أيها الآباء: لا تدعوا على أولادكم ولا على أنفسكم ولا على أموالكم فتصادف ساعة إجابة من الله فتندمون حين لا ينفع الندم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا، اللهم ارض عنا وعن والدينا وآباء وأمهات جميع المسلمين الأحياء منهم والميتين إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

قصة ابن عياش مع والدته

قصة ابن عياش مع والدته الحمد لله رب العلمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. أما بعد: قدم رجل من اليمن مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبكى والديه بهجرته وفراقه لهما، فقال له صلى الله عليه وسلم: {ارجع فأضحك والديك كما أبكيتهما}. وجاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: {أحي والدتك؟ قال: نعم. قال: الزمها فإن الجنة عند رجليها} وكان هناك رجل يقبل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه، فسألوه فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة تحت أقدام أمي؛ فلقد بلغني أن الجنة تحت قدميها. ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له: ما بك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما. عباد الله: رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين، بر الوالدين يهدي به الله سواء السبيل، ويصلح لك ذريتك، ويمدك بعون منه، ويرزقك قبولاً في الناس، ويمتعك متاعاً حسناً بإذنه، ويسددك في أقوالك وأفعالك ويرضى عنك. هاهو إبان بن عياش عليه رحمة الله يقول: خرجت من عند أنس بن مالك رضي الله عنه -عندما كان في البصرة بعد الظهر- قال: فرأيت جنازة يحملها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! رجل مسلم يموت ويمر بسوق البصرة ولا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، يقول: فحملت معهم، ثم بعد ذلك لما دفنا الرجل قلت لهؤلاء الأربعة: ما شأنكم وما شأن هذه الجنازة؟ قالوا: استأجرتنا هذه المرأة لدفن هذا الرجل، يقول: فتبعتها حتى وصلت بيتها، فجئتها وقلت: لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بأجل مسمى، قالت: الحمد لله أولاً وآخراً، قلت لها: ما شأن هذا الرجل الذي دفنتموه؟ قالت: هو ولدي كان مسرفاً على نفسه بارتكاب الذنوب والمعاصي، وكان عاقاً لي، وقال لي وهو مريض وهو في سكرات الموت: يا أماه! إذا أنا مت فلقنيني كلمة التوحيد فإذا قلتها وقضيت حياتي وأردت لي السعادة فضعي قدمك على خدي وقولي: هذا جزاء من عصى الله، ولا تخبري أحداً بموتي فهم يعلمون عصياني فلن يشهدوا جنازتي، ثم إذا دفنت فارفعي يديك إلى الله إن كنتِ تردين لي السعادة وقولي: يا رب! إني راضية عن ولدي فارض عنه، قال ابن عياش: فما عملتي؟ قال: فضحكت، فقلت: ما يضحككِ يا أمة الله؟ قالت: والله بعد أن دفن رفعت يدي إلى الله وقلت: يا رب! إني راضية عنه فارض عنه، قالت: فوالله إني سمعته بأذناي ينادي: يا أماه! قدمت على رب كريم رحيم غير غضبان علي ولا ساخط. لا إله إلا الله ما أعظم بر الوالدين! ما أحوجنا إلى الدعاء منهم، ما أحوجنا إلى رضاهم، ما أحوجنا إلى برهم وصلتهم، علَّ الله أن يكتب لنا بذلك الرضوان، لكننا مع عظيم الأسف نرى البعض كأنه ليس بحاجة لدعائهم. إنا نرى الرجل له الولد والولدان والثلاثة يقف على قارعة الطريق صباح ومساء انتظاراً لمحسن محتسب يوصله في طريقه، وأولاده على طرقهم لم يريدوا قطع لذيذ نومهم لأجل والدهم، لم يريدوا قطع لذيذ مشاهدتهم للمباريات والمسلسلات، وكثيراً ما نرى العجائز يتلمسن من جيرانهم وممن حولهن مساعدة في الوصول إلى المستشفيات أو إلى قريب من أقاربهن لزيارته، وأولادهن كلٌّ يقول: اذهب بها، أما يخشى هؤلاء عقاب رب العالمين: {لا يدخل الجنة عاق}؟! هاهو رجل عاق لوالديه يجر أباه برجله إلى الباب فهيأ الله له ولداً أعق منه كان يجره برجله إلى الشارع، فكان إذا جر أباه إلى الباب قال: حسبك حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى هذا المكان، فيقول له ولده: هذا جزاؤك، وما زاد فهو صدقة عليك. هذا في الدنيا والآخرة علمها عند الله عزَّ وجلَّ.

صورة لشابين: ناجح وخاسر

صورة لشابين: ناجح وخاسر ألا أيها الأبناء: اتقوا الله وقوموا بما أوجب عليكم من بر الآباء والأمهات، ويا أيها الآباء: أعينوا أولادكم على بركم فإن من ضيع أوامر الله في أولاده فلم يأمرهم ولم ينههم وضيعهم صغاراً فالنتيجة ضياعه كبيراً، والشواهد قائمة من الواقع، ها نحن قد ودعنا الامتحان قبل أيام ونحن دائماً في امتحان، والناجح من زحزح عن النار وأدخل الجنة، ولقد -والله- رسب أناس ونجح آخرون، يوم ضيع الآباء أبناءهم كانت النتيجة ضياع الآباء، فهم في حال ما يكونون فيه أحوج إلى الأولاد، والعكس بالعكس ومن زرع حصد، سترون نموذجين لشابين، شاب ربي في بيت تجلجل فيه لا إله إلا الله، وشاب ربي في بيت تجلجل فيه الأغاني الماجنات. أما الأول: فأفنى شبابه في طاعة الله، وحلت به سكرات الموت، وقد بر أباه وأمه، وعند موته جاء أحباؤه يذكرونه بالله ويلقنونه: لا إله إلا الله، فكان وهو في سكرات الموت يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. لتعلموا أن هذا هو النجاح، لتعلموا أن هذا هو الفوز الحقيقي، وسيجد الفوز هناك يوم يقال: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً. أما الصورة المظلمة فلشاب آخر في المقابل، ذهب لبلاد الكفر والعهر، كما يفعل شبابنا عند انتهاء امتحاناتهم، ذهب ليموت مع السكارى في أحضان البغايا، كان هذا الشاب يسافر دائماً وينصح فلا ينتصح، وفي آخر سفر له بعد أن وصل إلى تلك البلاد ضرب موعداً له مع زانية في أحد الفنادق وتقابلا هناك، وهو يمارس معها الفاحشة يشب حريق في الفندق فيشتعل على من فيه ويموت جميع من فيه، لا إله إلا الله! نسألك اللهم حسن الختام. هاتان صورتان لشابين أحدهما ناجح والآخر راسب، وللآباء -والله- في ذلك دور، بعض الآباء يعد ابنه إن نجح بقضاء أمتع الأوقات في أحضان العارية، وما دعاه ووعده بالحج إلى بيت الله الحرام، وما وعده باستغلال وقته في جمعيات تحفيظ القرآن المنتشرة في المساجد، والتي تشكو إلى الله ظلم الآباء، وما وعده بدخول المراكز الصيفية التي يقوم عليها الشباب الذين نحسبهم من الذين يخافون الله عزَّ وجلَّ، علمه ضياع الوقت، فكانت النتيجة رسوباً له ولولده. يا أيها المسلمون: نحن في اختبار دائماً، والله يختبرنا في بر الوالدين منا من نجح ومنا من رسب، فيا من نجح! استمر في النجاح وسل الله الثبات، ويا من رسب! أعد حساباتك مع والديك لتفوز بدعوتهما ورضاهما، لا يخرجن أحدكم من هذا المسجد إلا وقد عاهد الله أن يذهب ليقبل رأس أبويه ويستسمحهما فإن لم يكونا موجودين فليدعو لهما، وليتصدق عليهما وليصل صديقهما فذلك من برهما. نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا برهم وصلتهم ورضاهم وأن يحشرنا وإياهم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، اللهم اغفر للأحياء والميتين من المسلمين، اللهم اجعل على قبورهم نوراً واجعلها روضة من رياض الجنة، اللهم آمنا يوم الفزع الأكبر، اللهم آمنا يوم البعث والنشور، اللهم آنس وحشتنا في القبور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المواساة

المواساة إن الابتلاء سنة من سنن الله الربانية، ولقد أمر الله عباده المؤمنين بالصبر على البلاء والمصائب لما في ذلك من تكفير للسيئات وتحقيق للعبودية في السراء والضراء، ثم رتب الله على هذا الصبر جنات النعيم مواساة للعلماء والمصلحين والمصابين بالهم والغم والحزن والمرض والظلم، ومواساة لمن فقد ابناً أو صديقاً أو استشهد له شهيد أو أسر عليه أسير.

المواساة لأهل المصائب

المواساة لأهل المصائب

حكم الابتلاء

حكم الابتلاء

حقيقة المصيبة

حقيقة المصيبة

منزلة الصبر

منزلة الصبر

مواساة العلماء والمصلحين

مواساة العلماء والمصلحين

مواساة أهل الشهداء

مواساة أهل الشهداء

مواساة المصابين بالهم والغم والحزن والمرض

مواساة المصابين بالهم والغم والحزن والمرض

مواساة من فقد عزيزا أو صديقا

مواساة من فقد عزيزاً أو صديقاً

مواساة المظلوم

مواساة المظلوم

مواساة الآباء بفقد الأبناء

مواساة الآباء بفقد الأبناء

مواساة أهل الأسرى والمفقودين

مواساة أهل الأسرى والمفقودين

صفات الجنة وأهلها

صفات الجنة وأهلها

الخاتمة

الخاتمة

عمر بن عبد العزيز

عمر بن عبد العزيز إن هذه الأمة أمة مجيدة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، وهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد. فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، لنرى سيرته في خلافته وبعض صور عدله وخوفه ومراقبته لربه سبحانه وتعالى.

بعض مواقف عمر بن عبد العزيز

بعض مواقف عمر بن عبد العزيز الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين. عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يقول المولى سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. أمتكم أمة مجيدة عظيمة كريمة، اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد، إنها أمة تمرض لكنها لا تموت، وقد تَغْفُو أحياناً لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة. فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصاً لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقصص الهابط والرسوم المتحركات، وحديثاً لبعض شبابها الذين لطالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات. إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقّر أباه، وأكرم أخاه، وعطف على ولده. إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المُثل رجالاً، والأخلاق واقعاً ملموساً! إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي. أظنكم قد عرفتم من هو؟ إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وما أدراكم ما عمر؟! رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، وعذراً لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض مواقفه؛ لنتفكر وننظر ونعتبر، والتاريخ نقرأ. اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] فحيهلا بكم -عباد الله- إلى بحر عمر لنبحر، ومن لآلئه لنَقْبُسَ ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.

من مواقفه حين تولى الخلافة

من مواقفه حين تولى الخلافة تولى الخلافة فكان مجدداً بحق -رضي الله عنه ورحمه- كانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف. بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية. وقف يتحدث للناس قائلا: لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك. فبكى وقال: الله المستعان. ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ونزل عن المنبر. وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون. عاد لبيته معلناً أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة -بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء. بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبداً بعد اليوم. قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى. خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء. فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيم السماوات والأرضين. ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تُملأ جوراً، هيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر! بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن. هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله ولو لم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. ففي الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن: إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة}. دخل عليه أحد العباد: وهو كعب القرظي؛ فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك -يا عمر - في غير هذا المكان ما عرفتك. فينهد عمر باكياً ويقول: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وأعظم إنكاراً. فبكى كعب، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء. جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى. عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء. يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعاً لما يقول، ولم يعطِه شيئاً فخرج، وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا

صور من محبته للصالحين وتقريبه لهم

صور من محبته للصالحين وتقريبه لهم أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني. فكتب له سالم مولى أبي حذيفة: صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده. وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- كلهم؟!! جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوها وبلغوها، فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-: أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحداً. وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا. وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبداً. فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون. فلما قرأ ذلك انهد باكياً، قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون. حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيراً، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم. كان شديد المراقبة والخوف من الله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فخفت خوفاً أورثني ما تَرَين. فما حالنا مع القرآن؟ عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. يقول: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده. استدعى مزاحماً يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم! لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا بن عبد العزيز. كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ. والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لِصَْوِن العِرْضِ إصلاح أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة والكلب يُخزى لعمر الله نبَّاح كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة. دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟ قال: اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟! ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبداً بعد اليوم. قطع أُعْطيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه: قل لهم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]؟ وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام. فيا لله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا. كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه؛ فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحاً، وعاد إلى البيت وليس معه تفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ. فيا لله! وربِّ عمر إن مشهداً كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

صور من خشيته وخوفه من الله

صور من خشيته وخوفه من الله كان شديد الخوف من الله جل وعلا، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم. ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سروراً مذ تولى الخلافة عمر. تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديْه تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلاً: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفاً دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً، ثم انْهدَّ باكياً رضي الله عنه ورحمه. أواه! من لنا بمثل عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر! بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت. قالت: والله لا هذا ولا ذاك. لكني رأيت من عمر ليلةً منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائماً يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5]، فصاح: وا سوء صباحاه! ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى: وا سوء صباحاه! ثم قام، وهو يقول: وَيْلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان فقام. تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5]. خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة. هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً ومعلماً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـ عمر: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـ عمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وفاة عمر بن عبد العزيز

وفاة عمر بن عبد العزيز الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: فلكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ وجاحد وزاهد وعابد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ. وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا، عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار. وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت. اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم. ثم استدعى خادماً له وقال: أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه! أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله. قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار. قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين. دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك. قام وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم؛ إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي. ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله. وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم فأوص بهم إليَّ. فجلس وقال: والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ. نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ: إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وليي فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين. انصرفوا عصمكم الله. فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت. رباه! ما عندي ما أعدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وأسلمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-: جسد لُفِّفَ في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي. يقول رجاء: فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا. بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه. أسلم الروحَ عمر، فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله. ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى لهم كافلاً، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيراً، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها. فاليومُ تنعمُ يا عمر بجوار من أَهدى البشرْ فسَقى رُفاتك وَابلاً مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد ليَّنتَ قلوباً قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكراً. ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيراً ما يقول ويردِّد: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال". مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله. ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبك عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله قد كان نوراً في الأرض فأُطفِئ. هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بـ عمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ. إذا أعجبتك خِصال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجباً يحْجِبُكْ اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت! يا من أظهر الجميل! يا من ستر القبيح! يا من لا يهتِك الستر! يا حَسَنَ التجاوز! يا واسعَ المغفرة! يا باسطَ اليدين بالرحمة! يا عظيمَ المَنِّ! يا كريمَ الصَّفْح! يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى! يا دافع كل بلوى! اجعلنا من العادلين واغفر لآبائنا وأمهاتنا وسائر المؤمنين، واحشرنا مع المقسطين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

على الطريق [1، 2]

على الطريق [1، 2] إن الإنسان المؤمن لابد أن يعرف قدره ومنزلته في هذه الحياة الدنيا، وما هو مصيره ولماذا خلق. فإذا كانت هذه التساؤلات تحرك شعوره وإحساسه، فليعلم أن الله سبحانه وتعالى خلقه لغاية قصوى وعمل منشود وهو عبادته سبحانه، وأنه مسافر إليه، فليستعد للحساب حين اللقاء، وليأخذ أهبته للسفر، وليختر رفقته، ويتبين دليله ومنهاجه، ولابد له من إشارات وإرشادات وتوجيهات تعينه على الوصول إلى محطة النجاة والخلود.

ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة

ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته. اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا. اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] سلام لكم. وسلام عليكم. سلام لكم أهل العلى من أظنكم خليقين أن تحيوا كراماً وتنصروا مضى زمن التَّنويم يا قوم وانقضى ففي الحي أيقاظٌ على الحي تَسهر صَحَوتم وأدركتم وبانت نفوسكم من العيش إلا في ذُرَا العز تسخر رجال العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى أذنٍ تُصْغِي وقلبٍ يبصَّر شَباب العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى عالمٍ يدعو وداعٍ يذكر كُهولَ العلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى حكمةٍ تُمْلى وعقلٍ يُفكِرُ أهالي العُلى الميمون إنّي وإنني أُناشدكم بالله أن تتذكروا عليكم حقوقٌ للعباد أجلُّها تَعَهُدهم بالعلمِ فالرَّوض يقفر ولا تيئسُوا ما خاب أصحاب ملةٍ إذا ما تواصوا بينهم ثم شمروا وما ضاعَ حق لم ينم عنه أهله ولا ناله في العالمين مقصر إذا الله أحيا أمةً لن يردها إلى الموت قهارُ ولا متجبر قُصَارى مُنَى أمتكم أن ترى لكم يدًا تَجتني علمًا وتَنهى وتَأمرُ دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال: آهٍ لبرقٍ لمعا ماذا بقلبي صنعا جِسمي معي لكن قلبي عند أَخيار العلى أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين: إنَّا على البعاد والتفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا. فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله. فما بقيت من اللذات إلا مذاكرة الرجال ذوي العقول وإنْ كانوا إذا عُدُوا قليلاً فقد أَضْحوا أقلَّ من القليل وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل. أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال: حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كبر ولكنني ألزمت نفسيَ حمْلها لأعلمها أن المقيم على سفر لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل". واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال: أوانًا في بيوت البدو رحلي وآونة على قتب البعير إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة، وطاروا بها وفرحوا. وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم. والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة: سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار؟ وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى. لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا. البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة. رفعت لنا في السَّير أعلام السعا دة والهدى يا ذلة الحيران فتسابق الأبطال وابتدروا لها كتسابق الفرسان يوم رهان وأخو الهوينى في الديار مخلف مع شكله يا خيبة الكسلان إلى كم ذا التخلف والتواني وكم هذا التمادي في التمادي وشغل النفس عن طلب المعالي ببيع الشِّعر في سُوق الكساد لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.

دليل المسافر ومنهاجه

دليل المسافر ومنهاجه أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه-: {تركت فيكم شيئيْن لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي} صلوات الله وسلامه عليه. ومن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضل، ومن تمسك بغير أصلٍ ذَل. كن في أمورك كلها متمسِّكاً بالوحي لا بزخارف الهذيان وتدبَّر القرآن إن رمت الهدى فالعلم تحت تدبُّر القرآن

عدة المسافر وزاده

عدة المسافر وزاده أما عُدَّةُ المُسَافِر وزاده فإيمان وعمل صالح: {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف:30] {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف:107] {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. أين النفوس ترامى غير هائبةٍ أين العزائم تمضي ما بها خور العلم بالحقِّ والإيمان يصحبه أساس دينك فابن الدين مكتملا لا تبن إلا إذا أسَّست راسخةً من القواعدِ واستكملتها عملا لا يرفع السقف ما لم يبن حامله ولا بناء لمن لم يرس ما حملا ومن الزاد إخلاص لله، وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين * {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3]. فالفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك:2] وَحَسْب نفسِك إخلاصٌ يُزَكِيها. ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قوله: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ويقول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. فيأيها المسافر: من عُمْدة عُدَّتك اتباعه، فلتذر مع قول الرسول وفِعْله نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغَان، ورحم الله الحكمي يوم قال: شرط قبول السعي أن يجتمعا فيه إصابة وإخلاص معا لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه وكل ما خالف للوَحْيين فإنه ردٌ بغير مين وجماعُ الزَّاد هذا كلِّه تقوى الله جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] إنها العز والنسب والسبب والفخر والكرم. ألا إنما التقوى هي العز والكرم فلا تترك التقوى اتكالا على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشركُ النَّسيب أبا لهب فتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ! فالزاد -إذًا- إيمان، وعمل صالح في إخلاص، ومتابعة في تقوى، فهي إذا اجتمعت في نفس حرة بلغت من العلياء كل مكان.

رفقاء المسافر وصفاتهم

رفقاء المسافر وصفاتهم ولابد للمسافر من رِفْقَةٍ وصُحْبة: {فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. والمسافر مهما تكمن مواهبه، ومهما يكن عطاؤه، ومهما تكن قدراته؛ فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة، ما لم يكن له أعوان، َيشُدون أزره، ويُقَوُّون أمره، يُذَكِّرونه حين ينسى، ويعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه. وما المرء إلا بإخوانه كما تقبض الكفُّ بالمعصمِ ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خير في السَّاعد الأجْذَمِ موسى صلوات الله وسلامه عليه، وهو المُلَقَّب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلَّفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير، فقال: {وَاجْعَل لي وَزِيرًا منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه فيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:29 - 35]. ماذا قال الله تعالى؟ قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وفي سورة القصص يقول الله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]. فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تُحَدده وتُمَيِّزه، لعلنا نقف عندها باختصار منها:

رفيق المسافر لابد أن يكون مؤمنا عاقلا

رفيق المسافر لابد أن يكون مؤمناً عاقلاً أن يكون مؤمنًا: {فلا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. ولا يكفي أن يكون مؤمنًا؛ فلابد أن يكون عاقلاً؛ لأن الأحمق قد يثور عليك، فيغضب؛ فيَجْنِي عليك وعليه، ويقعد بك عن الهدف المرسوم، الذي رسمته لك، وصَدَق ونَصَح من قال: احذر الأحمق أن تصحبه إنَّما الأحمق كالثوب الخلق كلما رقعته من جانب زعزعته الريح يوماً فانخرق أو كصدع في زجاج فاحش هل ترى صدع زجاج يرتتق؟ كلا.

رفيق المسافر لابد أن يكون عدلا حسن الخلق

رفيق المسافر لابد أن يكون عدلاً حسن الخلق وأن يكون عدلاً غير فاسقٍ، أقول ذلك لئلا يَجُرَّك إلى فِسْقه، ودَّ صاحبُ الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعًا؛ لئلا يصبح نشازًا بينهم. وأن يكون غير مبتدعٍ، لئلا يلقي عليك الشُّبه فيتشربها قلبك، والقلوب ضعيفة، والشُّبه خَطَّافة كما يقول العلماء. وأن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا، وصدق من قال: شَبِيهُ الشَّيءِ مُنْجَذب إليه وخير الكلام كلام الله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} [النور:37]. إن لم يكن رِفْقَتك بهذه الأوصاف فإنِّي لأخشى ألا تبلغ وِجْهَتَك في سفرك، وأن تكون-أجارك الله- ممن يقول حين لا ينفع ذلك القول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا} [الفرقان:28] قد تفسد المرعى على أَخواتها شاةٌ تند عن القطيع وتمرق

محطات المسافر وهدفه ووجهته

محطات المسافر وهدفه ووجهته أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يَكل ويَنْصَب ويَتْعَبُ ويَمل، وراحته وأمنه وسكينته في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. من لا يعرفها فحاله كقول القائل: إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خُلقِ

هدف المسافر ووجهته

هدف المسافر ووجهته أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها. فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. من رام وصل الشمس حاك خيوطها سببا إلى آماله وتعلقا حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير. عمرك محدود فأدرك به بعض الأماني وانتهز واعقل أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟! خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم. والذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون. لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس. تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين. عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة: سعوا للمعالي وهم صبية وسادوا وجادوا وهم في المهود إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة. ومن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟ فالمهر قبل الموت ذو إمكان يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم

الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان

الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108]. لا لدنيا أو هوى أو عصبة دون خزي أو نفاق أو خطل إنها صدق وإخلاص لمن هو يجزي وحده عز وجل فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل. والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة إلى دراسات متأنية إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث. ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه. ويظهر ذلك من خلال ما يلي: أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى. ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـ مصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله. ثالثًا: بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك. رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـ مكة إلا محبوس أو مفتون. خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد. سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه. ثامنًا: إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال. تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة. عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم. حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا. ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـ أسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها. ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول. رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار. إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}. كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. بهداه أيها الداعي اقتده وابتغ الأخرى وأخلص في العمل فأحزم الناس من لو مات من ظمأ لا يقرب الوِرد حتى يعرف الصدرا

إرادة الخير

إرادة الخير كأني بك بعد هذا كله، قد حددت وِجهتك، وعرفت طريقك، وأخذت عدَّتك وأُهبتك، واخترت رفقتك، وأخذت بكل أسباب نجاتك في سفرك؛ فدونك هذه الإشارات التي لابد منها، لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في المسير. انوِ الخير، واعمل بمقتضى هذه النية؛ فبالنية يتحدد السفر، وتتضح الوجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يُستجلب التوفيق بها، ويحصَّل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة. وسنة الله اقتضت أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية، يوفق ويسدد ويؤيد، ويبلغ من الخير ما يريد، وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} [النساء:100] {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى:20] {وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مشْكُورًا} [الإسراء:19]. ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية، حُرِم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإنْ بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام، لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء:20] {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145]. فانْوِ الخير واعمل بمقتضى تلك النية، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}. والقصد وجه الله بالأقوال والـ أعمال والطاعات والشكران وبذاك ينجو العبد من إشراكه ويصير حقا عابد الرحمن

الإخلاص

الإخلاص الثانية: وهي تابعة (خليج صاف أنفع من بحر كَدِر)؛ بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين؛ بمعنى ثالث: من لا يخلص فلا يتعب؛ فهو كالذي يحشو جراب العمل رملاً يثقله ولا ينفعه. إن من سلك الطريق بلا إخلاص، كالذي يريد كسر الجَوز بالعِهن، أو كمن يحدو وما له بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شِبع، كالوحشيِّ بلا جبل، لا شك أنه لهدفه لن يصل. العمل صورة والإخلاص روح، عمل المُرائي بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والرياء جِيفة. فاحذر كمائن نفسك اللاتي متى خرجت عليك كسرت كسر مهان لما أخذ دود القزِّ ينسج الحرير، أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القز! لي نسج ولك نسج، فلا فرق بين النسيجين، قالت دودة القز: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق. لَيسَ التَّكحُّلُ في العَينينِ كالكَحَلِ، ومَا كُلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابِدُ، وفِي عُنُقِ الحسناء يُستَحسَنُ العِقْدُ، والنَّفيسُ نَفِيسٌ أينَما كَان. ورب كئيب ليس تندى جفونه ورب كثير الدمع غير كئيب إِذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب شوقا وينطق بالهوى من قد تباكى جماع هذه الإشارة: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].

طلب العلم والعمل به

طلب العلم والعمل به الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر، به يعرف السهل من الطريق والوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام؛ فهو أساس السفر ولابد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتنى لمسافر مكدود: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] كلا! لا يكونُ العَليُّ مثل الدَّنيِّ لا ولا ذو الذكاءِ مثل الغَبِيِّ من تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق، وارتفع وبرع، ولما كان المجاهد لا يَنْكأُ عدوًا إلا بسلاح وعُدة، فكذلك المعلم والمتعلم والعالم لا يصنع أمة، ولا يكشف غمة، ولا يزيل ظلمة إلا بعلم وعمل، من أثر أو سنة، لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة. ومن لا يربيه الرسول ويسقه لبانا له قد در من ثدي وحيه فذاك لقيط ما له أي نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغراس، والبناء من غير أسس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس: فلا تنفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام

العمل أبلغ من القول

العمل أبلغ من القول العمل أبلغ من القول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] والناس أبناء ما يُحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه وعلمه لا يتجاوز الآذان، ما لم يعمل به، حتى إذا ما عمل به دبت فيه الحياة، دبت في كل كلمةٍ ينطق بها، واتجهت كل جملةٍ كأنها قذيفة؛ ترهف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس راضين به، عاملين مذعنين، فلا يغني العلم شيئاً لوحده؛ لأن العلم لا يعْلِّم وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه. وعادة السيف أن يزهى بجوهره وليس يعمل إلا في يدي بطل والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون، بئس ما يصنعون، إنما هم أوعيةٌ للعلم، يسيرون ثم لا ينفعون، بل قد يضرون. جلسوا على باب الجنة -كما يقول ابن القيم - يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افْرَنْقعوا لا تسمعوا، لو كان حقًا ما يدعون إليه لكانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هُداة مُرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق، أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمْ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الجمعة:5]. ما يغني عن الأعمى نور الشمس لا يُبْصرها، وما يُغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنَّما هو كالسراج يُضيءُ البيت ويحرق نفسه، عليه بُوره، ولغيره نوره، يَحق عليه قول القائل: فأَسعدت الكثير وأنت تشقى وأضحكت الأنام وأنت تبكي خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله: ومن العجائب والعجائب جمة قرب الوصول وما إليه سبيل كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] أي: عملوا بمقتضى ما علموا: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُم من لدُنا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68] وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما علمت فسقطت، وتكشفت على الطريق، فيما بين غَمْضَة عينٍ وانْتِبَاهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله كان يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكونوا كالمُنْخل يخرج الدقيق الطيب، ويُمسك النُخَالة؛ تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يَخُوض النهر لابد أن يصيب ثوبه، وإن اجتهد ألا يصيبه؛ فويْحَكم ثم ويْحَكم ثم ويحكم. أيها العالم إياك الزلل واحذر الهفوة فالخطب جلل هفوة العالم مستعظمة إن هفا أصبح في الخلق مثل إن تكن عندك مستحقرة فهي عند الله والناس جبل أنت ملح الأرض ما يصلحه إن بدا فيه فساد وخلل

الاهتمام بأجل العلوم

الاهتمام بأجل العلوم أيها المسافر على علم: لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون أسماها وأعلاها، وأنت قادر عليها، فإنِّي لأَرْبَأُ بك أن تكون كزارع الذُّرة في الأرض التي يجود فيها البُر، أو كغارس الشَعْراء حيث يَزُكو النخل والزيتون، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم أَصِخْ سمعك للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: اسْتَكثِر من العلم الشرعي زادًا لك ما شئت، وتبحَّر في الدقائق مخلصًا ما استطعت، وأجب من عَذلك أو خالفك بقول من صدقك. أَتانا أن سهلا ذم -جهلا- علوما ليس يعرفهن سهل علوما لو دراها ما قلاها ولكن الرضا بالجهل سهل

الدعوة قرينة العلم والعمل

الدعوة قرينة العلم والعمل أما إذ قد عَلِمْت وعملت؛ فإنَّ من مُقْتضى العمل أن تدعو غيرك إلى الحق الذي عرفته بالحُجَة والبرهان وعلى بصيرة، وهدفك إخراج نفسك ومن تدعوهم من الظلمات إلى النور، من الانحراف إلى الاستقامة التي تنال رضا الله بها في الدنيا والآخرة. إن الحاجة إلى الدعوة ماسة؛ لأن العقول لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها التي تَكْفل لها السعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنها لا تُهْدى وحدها إلى تمييز الخير من الشر، فكثيرًا ما يبدو لها الشر في لباس الخير فتقع فيه، وكثيرًا ما يظهر لها الخير في صورة الشر فتعرض عنه: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فمهما توسعت آفاق الإنسان ومداركه ومعارفه؛ فإنه يبقى قاصرًا محدودًا، ومن ثَمَّ كان لابد من الدعوة على أيدي الرسل وأتباعهم، فإذا اتَّضح الهدف، سِرتَ في هذه الحياة على هُدًى، وعندها بادِر بعمل دءوب في طموح وجدية، وأقدم بقوة تستشعر قول الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة:93]. إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ألا فاجعلنه ماضياً بالجوازم في ثباتٍ ومسارعةٍ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. في تدرجٍ واعْتِدَال وأَنَاة ومُداومة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:6 - 7] في شجاعة وعدم تَهَيُّبٍ وتردُّد. ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر في بصيرة وفرقان بإتقان: {أدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. في استشارة حازم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. في عزيمةٍ وتصميمٍ مع تَوَكُلٍ دون تسفيه رأي أو إنقاص قدر: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران:159]. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ فإن فساد الرأيِ أَن تترددا إذا كنت ذا عزم فأَنفذه عاجلا فإن فساد العزم أن يتقيدا إذا هَمَمْت فبادر، وإذا عزمت فثَابِر، واعلم أنه لا يُدرِك المفاخر من رضي بالصف الآخر. ما كل من طلب المعالِي نافذا فيها ولا كل الرجال فحولا وعلى الطريق نضع لك حادييْن مرغبيْن حافزيْن: أحدهما قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. وثانيها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا}. إن هدى الرحمن شخصاً واحداً بِك خير لك من حُمْر الذرى وهو خير لك عندَ الله مما بدا للشمس أوقد نورا {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْرِ النِّعم} فإن لم ينفع الحاديان، فعلى الطريق وَعِيدان مُرَهِّبان مُحَذِّران علهما أن يثيرا في نَفْسك الإحساس بخطر الفُتُور والتهاون والكتمان؛ أحدهما: ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: [[لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا: {إِنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160]]]. وثانيهما: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كتم علمًا يُنتفع به جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار}. فهل يجوز سكوت أو يستساغ نمير والخطب خطب عظيم والأمر أمر خطير فإن لم يحرك فيك الوَعد ولا الوعيد، ولا التَّرغيبُ ولا التَّرهيب -إذ تبلد الإحساس- فلا مساس، فقف على أخبار أصحاب الأهداف علَّك أن تتشبه بهم، فيثور فيك الحماس على أساس.

نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة

نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة في مؤتة خرج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع؛ هدفهم إنْ هي إلا إحدى الحسنييْن؛ إما النصر أو الشهادة في سبيل الله؛ فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقام عبد الله بن رواحة وقال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذاتَ فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا ولما رأى المسلمون جموع الروم جموعًا كبيرة نظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحة فقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا؛ إنْ هي إلا إحدى الحسنيين. تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلَذُّ له الغرام فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل، حتى شاط في رماح القوم، وخرَّ صريعًا رضي الله عنه وأرضاه. أخذ الراية جعفر فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل، وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أَنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها فقُطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، حتى قتل كالأسد؛ رحمة الله على ذاك الجسد. ثم أخذها ابن رواحة كالليث، ونالته الجراح، وأي جراح؛ فحاله: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حياض الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت وإن تأخرت فقد شقيت ثم قام ثابتًا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديْه. أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الاقتحام، وكانت الشهادة، وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنة. الطريق شاق وتكاليفه عوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إرادته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه؛ فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته: ومنْ تكن العلياءُ همَّة نفسهِ فكل الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ ولم يتأخرْ من أراد تقدُّمًا ولم يتقدم من أراد تأخُّرا ويذكر الذهبي في سيره أن نور الدين الشهيد، لما نزل الصليبيون دمياط، بقي عشرين يوماً صائمًا لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما الْتقى العدو، وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش، ومرَّغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! من نور الدين؟! الدين دينك، والجند جندك، وافعل يا رب ما يليق بكرمك، فنصره الله نصرًا مؤزرًا. كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب، قام في حلب بعمل منبر عظيم، لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح وبعث الهمم وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، نصب على يديْ تلميذه صلاح الدين، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة. والسيف يبلغُ ما لا تبلغ الكلمُ هذي العزائم لا ما تدَّعي الخطب هذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاتي متى خطَبَتْ تعثرت خلفها الأشعار والخُطبُ والصارم العضب الذي فتح الورى ما زال في يد أهله مسلولا

خذ العبرة من همم أهل الدنيا

خذ العبرة من همم أهل الدنيا إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الأهداف السامية ساكناً -إذ صرت جلمودًا عمودًا صخرًا- فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزًا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟ أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدًا منك، وأنت تتعامل مع الله الكبير المتعال، ثم تتقاعس؟! إذا فقد الإنسان صدق انتمائه وأضحى بلا قلبٍ فليس بإنسان أعمى أصمُّ عن الحقيقة أبكم بالنوم في الفرش الوثيرة تغرم والصمت كهفك والظلام مخيِّم تدعى ولكن الذي يدعى سها أمسى على ماء التخاذل يهرم من أنت يا هذا أما لك في الورى عقل يفكر في الأمور فيحسم؟ إني لأرجو أن أراك مزمجرا أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلم قد قمت أرقى في مدارج عزتي علمي دليلي والعزيمة سلم ذهب الرقاد فحدثي يا همتي أن العقيدة قوة لا تهزم لغة البطولة من خصائص أمتي عنا رواها الآخرون وترجموا من ذلك الوقت الذي انتفضت به بطحاء مكة والحطيم وزمزم منذ التقى جبريل فوق ربوعها بمحمد يتلو له ويعلم صلى الله وسلم على نبينا محمد. فلا تستشرْ غير العزيمةِ في العُلى فليس سواها ناصح ومشيع

انظر إلى جد الكافرين واجتهادهم وهم على باطل

انظر إلى جد الكافرين واجتهادهم وهم على باطل فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيئًا، فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم، كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها! هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهلاً للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه، لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن ابني أذكى منك. ثم أخذته وعلمته في بيتها، حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به؛ فلم يُفَلَّ عزمه مع طرده من المدرسة؛ بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه، ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة آلاف تجربة، بعمل يتراوح ما بين ثمان عشرة ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جَلَد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها؛ فالنجاح -دائماً- يجر إلى النجاح، فينطلق في عشر سنوات أخرى من البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار، ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في السكك الحديد والإضاءة في الغواصات، ويُسأل: متى الإجازة يا أديسون؟ قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي. فهل استفاد أديسون من إضاءة المصباح واختراع البطارية؟ هل استفاد فائدة؟ نعم. إنه استفاد شهرة ومالاً، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله؛ لأنه لم يقل يومًا من الأيام: (رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلُّدًا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟! خيبة وخسارة وخذلان! فأدنى الفوارس من يُغِيرُ لمغنمٍ فاجعل مغارك للمكارم تكرم أيها المؤمنون لا تتوانوا فالتواني وسيلة للتباب وإذا المصلحون في القوم ناموا نهضت بينهم جيوش الخراب فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك -إذ أنك زمن الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن- فيحق عليك قول القائل: يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضا فنائم

لا تبرر قعودك

لا تبرر قعودك فإن لم يحرك فيك ما مضى ساكنًا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خَوَرَك؛ فإن ذلك أقبح من ضعفك، وأشنع من خورك وقعودك، لكن سلِ الله أن يرفع ما بك؛ فهو خير لك. يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونَشْرِه شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه -ولو بكلمة- أو كُلِّف بأبسط مهمة لخدمة دينه، انبرى يتهرب من المسئولية، ويورد لك الأدلة الصحيحة التي تدل على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفًا وسيئًا في المستقبل ولابد من العزلة، فيوقعها على حاله، فإذا به ينبري ويقول: في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن}، ويقول صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري -: {ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم}، وهكذا دواليك، يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقًا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى؛ فأول ما يجني عليه اجتهاده، تعود نقض العزائم فحيل بينه وبين الغنائم. ويجلس الآخر شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق كالقذيفة مرددًا: {يا حنظلة! ساعة وساعة} وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غير هذا: ما لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن إن الذين لا تغلي دماؤهم، ولا تلتهب نفوسهم، ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين، لا يُعقد عليهم أمل، ولا يُناط بهم رجاء: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21]، والميت لا يحس بالأوجاع: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21]. إن النائم يوقظ، والغافل يُذكَّر، ومن لم يُجْدِ فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميْت، إنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ} [غافر:13].

بذل الجهد واستفراغ الوسع

بذل الجهد واستفراغ الوسع الرابعة: إنما عليك الجهد، افعل وسعك وطاقتك وما تستطيع الدوام عليه؛ لئلا تنقطع في الطريق: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وإذا صلحت المقاصد لم يخب القاصد. على المرء أن يسعى إلى الخير جاهدا وليسَ عليه أن تتم المقاصد

التعاون على الخير والاستفادة من الطاقات

التعاون على الخير والاستفادة من الطاقات الخامسة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى} [المائدة:2] المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسئولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن، مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة، ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع. التعاون من أجل تمكين منهج الله -عز وجل- في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر، ثم تُستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق: {والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا} وكل يستفيد من الآخر، وإذا عنَّ بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله، أضحى حبلا متينًا يجر الأثقال.

تعاون فريد بين أعمى ومشلول

تعاون فريد بين أعمى ومشلول ذكر صاحب مواقف إيمانية أنه في حج سنة خمسة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة رأى آلاف الحجاج منظرًا يثير المشاعر، ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجَّيْن؛ أحدهما أعمى قادر على المشي، والآخر مشلول بصير العين، أراد الأعمى أن يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجَّان على أن يحمل الأعمى المشلول؛ فالحركة من الأعمى، والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمه الله؛ فالأمر ليس هيِّنًا، وكلكم يعلم، عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة والثقة بالله العظيم ورجاء ما عنده ينسي المتاعب والمكاره والمشقة. أدَّوا فريضتهم ضاربين أروع الأمثلة في التعاون والاستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين؛ فكيف لو تضافرت جهود أمة بطاقاتها ومواهبها وإمكاناتها في خدمة دينها؟! كيف يكون الأمر؟ لا شك أنه سيكون: كالبحر يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعث للبعيد سحائبا

التعاون سنة من سنن الله في خلقه

التعاون سنة من سنن الله في خلقه إن التعاون طريق إلى البناء والنجاح، ونظرة يلقيها المرء على خلق الله تؤكد هذا الأمر. أمة النحل أمة عجيبة، طائفة من أمة النحل تبني البيوت، وطائفة تنظفها، وطائفة تحرسها وتحميها، وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة تمتص الرحيق لتأتي به، وتخرج العسل اللذيذ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وِلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]. والنمل تبني قُراها من تماسكها والنحلُ يجني رحيقَ الشهدِ أعوانَا إن يدًا واحدة لا تصفق -كما قيل- حتى إذا لم يبقَ إلا تلك اليد، أدَّت ما عليها غير ملومة، وحالها: إذا عزَّ في قومي المسعفون فإنك يا خالقي مُسعفِي فما أنا بالمستسيغ القعودَ ولا أنا بالشارد المسبحِ

تعاون الجم الغفير في صنع رغيف الخبز

تعاون الجم الغفير في صنع رغيف الخبز يقول صاحب: " شخصية المسلم ": رغيف الخبز على الرغم من صغر حجمه، لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر، تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك، فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحَب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرثه؟ ومن حصده؟ ومن نقله إلى الجرن؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن ومن أسئلة كثيرة، هذا الجهد في أمر رغيف خبز؛ فكيف بالأمر في خدمة دين الله، والتمكين له في بناء النفوس، وفي صنع الرجال، في كشف الظلم، في إنارة البصائر؟ إنه يحتاج إلى تضافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} [التوبة:71] فهيا إلى التلاحم، وهيا إلى التعاون، وهيا إلى التآزر. فالنصر لم ينزل على متخاذل والرزق لم يُبعث إلى متواكل ولنترك اللوم والتوبيخ؛ فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى، وعند كلٍ من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى مُعكرٍ إضافي، فليحوِّل كل منا أخاه إلى داعية معه، يحمل هَمَّ الدعوة ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول: أمتي في كل أرضٍ أنتم خير الأمم فاجمعوا أشتات أنها ركم في غمر يم تنشروا الخير الأعم تبلغوا العمر الأشم وتكونوا سادة الدنيا وفرسان القمم وما ذلك على الله بعزيز.

المداومة والاستمرار في العطاء

المداومة والاستمرار في العطاء السادسة: إنما السيل اجتماع النقط؛ بمعنى داوِم ولو على القليل "قليل دائم خير من كثير منقطع"، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل -وإن كان ضئيلاً- أصيلاً مستطاعًا مذللاً، يُقام به في غير ما عَنَتٍ، ليس المهم قدر العمل بقدر الاستمرار في أدائه؛ فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.

ثمرات المداومة على الأعمال

ثمرات المداومة على الأعمال أما ترى الحبل بطولِ المدى على صليب الصخر قَد أثرا والشيء بثمرته يقدر ثمنه ويعرف ثمنه، ومن ثمرات المداومة ما يلي: 1 - نيل محبة الله التي هي غاية منى المؤمنين، الذين هم أشد حبّاً لله. من أين أخذت هذا؟ من الحديث القدسي الذي رواه البخاري: {وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه}، وإذا ما حصلت محبة الله فالنتيجة: {فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه} وفوق هذا ما رواه الشيخان: {إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض}. أهيب بقومي إلى المكرمات ألا هل ملب ألا هل مجيب 2 - ترويض النفس على مكابدة الهوى، حتى تعتاد الخير؛ فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، لكنها إذا رُوِّضَت ذلَّتْ، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حُجب البَطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما رُوِّضَت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله. يقول أحد أهل السلف: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي، ويقول: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أَقْدِر منه على ما أريد، وجاء عن التابعي الجليل ابن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي. وما يردع النفس اللَّجوج عن الهوى من الناس إلا حازمُ الرَّأي كامِله وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أُطمعت تاقت وإلا تسلَّتِ 3 - الأمن من الحسرة عند المرض أو العجز أو الفتنة؛ فالمُداوم حين يُحال بينه وبين العمل يجري له ما كان يعمل، يعرف هذا مما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا} فلا حسرة ولا ندم. 4 - تربية النفس على أخذ معالي الأمور، وعدم الرضا بالدُّون، ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ}. 5 - إملال الشيطان وإضعافه، وقطع الطرق عليه، يقول الحسن رحمه الله -كما في الزهد لـ ابن المبارك: إذا نظر إليك الشيطان، فرآك مداومًا على طاعة الله، فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا ملَّكَ ورفضك، وإن كنت مرة هكذا، ومرة هكذا، تتقدم خطوة، وتتأخر خطوتيْن -كما يفعل البعض- طمع فيك. هذه بعض ثمرات المداومة على العمل، ومن عرف للثمرة قدرها؛ بادر إلى الشجرة لقطفها.

نماذج من السلف في المثابرة على الخير

نماذج من السلف في المثابرة على الخير يقال لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله. وقال له آخر: إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تكتب بعد. والأعمش يروي عنه وكيع أنه لم تفُتْه تكبيرة الإحرام مع الإمام سبعين سنة، ويقول: اختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة. من منا يلقى الله، وقد أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين يومًا، مع أن له براءتين؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار؟! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتيْن إلا ووصيته مكتوبة عنده، يقول ابن عمر: والله ما مرت عليَّ ليلة مذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي}. إذا فعلوا فخير الناس فعلاً وإن قالوا فأكرمهم مقالا ترى جداً ولست ترى عليهم ولوعًا بالصغائر واشتغالا ويُروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب، ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يُكتب بعد. لعل هذا مما يعين على المداومة على العمل، كلما عملت عملاً قلت: لعل هذا لا يبلغني الجنة؛ فإلى آخر وإلى آخر، حتى تلقى الله على ذلك، فربك أغفر وأرحم سبحانه! فجاهد نفسك وداوم على العمل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].

الصبر واليقين

الصبر واليقين السابعة: إنما الأخطار أثمان المعالي ربما الأجسام صحت بالهزال بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. والعبقرية حرمان وتضحية وليس ينبغ إلا كل صبار إن حمل الدعوة إلى الناس وجعلهم يؤمنون بها ويثقون ويتأثرون عملية صعبة شاقة تحتاج إلى صبر وثبات، وإن المضي في طريق الدعوة ليس بأمر هيِّن، ولا طريق ميسور؛ بل لابد من عزم وقوة وصبر وثبات، لا يُؤْتَاه إلا من نذر نفسه لله غير مبالٍ بما سواه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. والصبر يوجد إن باء له كُسِرت لكنه بسكون الباء موضوع والله عز وجل قد وجَّه نبيه صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى الصبر والجلد وقوة التحمل، فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل:10] وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُؤْقِنُونَ} [الروم:60]. الصبر تفاؤل دائم، حتى لو ضربت الجاهلية أطناب الأرض؛ فلا يسوغ بحال الانسحاب من الميدان؛ إذ يخلو الجو للشيطان، يَكِر الجراد على الحَرث فيلتَهمه، وقد تُغِير اللصوص عليه فينتهبونه؛ فلابد من صبر وصمود وثبات حتى ينبت ويثمر العود. ولست بخالعٍ درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل النهارا كل لذة منقطعة عند أول غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباءً، والحق له صولة وهو أنفع، وله البقاء. فإذا ادلهم الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم اصبر وصابر؛ فإن العاقبة للمتقين، وخاب المُبْطِلون، وبشِّر الصابرين، واصبر على ما يقولون. لا يفزعنك هول خطب دامس فلعل في طياته ما يسعد لو لم يمد الليل جنح ظلامه في الخافقين لما أضاء الفرقد

التمهل وعدم العجلة

التمهل وعدم العجلة الثامنة: تمهَّل ولا تعجل في دعوةٍ أو حكم يوشك أن تصل، إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحي ولا تبذل، إلا إذَا عُولِجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل، وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد وتكاليف وكدح دائب في أناة ليس يعروها ملل فليعلم.

إغفال المرحلية مصادمة للسنن الإلهية

إغفال المرحلية مصادمة للسنن الإلهية ومن سنن الله مع العصاة والمكذبين والمجرمين والكافرين الإمهال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]. إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل، ولربما فشل في دعوته وكبا. إن من يريد تغيير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن كمن يريد أن يزرع اليوم، ويحصد غدًا، بل يريد أن يغرس في الصباح ليجني الثمرة في المساء، وهذا محال؛ لابد من صبر وتروٍّ على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل. إن شيوع المنكرات وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب؛ مع العجز -أحيانًا- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقِّه، مع واقع أعداء الله بالصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس؛ قد يدفع هذا كله إلى العجلة، إذا لم تُضبط الأمور بضابط الشرع. يرد يدي عن بطشها خوف ربها ويمنع نفسي أن تخادع دينها

المرحلية والتدرج في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم

المرحلية والتدرج في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بُعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح مكة في السنة الثامنة؛ أي بعد بعثته بواحد وعشرين عامًا؛ لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تُحطَّم في داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر، ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها مكة، ويزيل الأصنام، فكان ما أراد: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. لكل شيء في الحياة وقته وغاية المستعجلين فوته وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما ترويه عائشة أنه لولا أن قومها حديثو عهد بكفر لنقض الكعبة، وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الثِّقب حقًّا؛ أعني: رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفًا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغييره، فلن يكون هناك تباطؤ أو توانٍ. فكن أسداً في جسمه روح ضيغم وكم أسد أرواحهن كلاب يمنع الليث حماه أن يرى فيه كلبًا عاديًا إن زأرا ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملائمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال: أنا أبو طلحة واسمي زيد وكل يوم في سلاحي صيد

تعلم المرحلية من شجرة الصنوبر

تعلم المرحلية من شجرة الصنوبر ثم انظر وتأمل واعتبر، هاهي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء -القرع- تثمر في أسبوعين؛ تسخر الدباء من الصنوبر، وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين، ويقال لك: شجرة، ولي: شجرة، فتقول شجرة الصنوبر: مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف، وعندها يعرف المضمار، ويعرف السابق والخوار. فَتَصَبَّر لتصبر، وتحلَّم لتحلُم، ولا تعجل؛ فقد تُكفى بغيرك، ويُكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك. ورب عجلة أورثت ريثاً: قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل

كن متمهلا كالأحنف

كن متمهلاً كالأحنف ليكن حالك -أحياناً- حال الأحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل، فلطم وجهه، فقال: باسم الله يا بن أخي ما دعاك إلى هذا؟ قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم. قال: فبِرّ بيمينك؛ فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة. ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب فذهب الرجل إلى حارثة، فلطمه، فقام إليه، واخترط السيف، وقطع يمينه، ولسان حاله: وسيفي كان في الهيجا طبيبًا يداوي رأس من يشكو الصداعا فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق قال: أنا -والله- قطعتها. ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي العاقل لا يفعل أمرًا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصَّر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطى، ولا يستبق الأحداث، ولا يتسرع بالحكم على الأمور؛ بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، وينظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة والساعة الحاضرة، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متأنية تحسب كل حساب؛ فكن أفضل من أن تَخدع، وأعقل من أن تُخدع. لا خب ولا الخب يخدعك: ولترقَ شيئًا فشيئًا صاعدًا درجًا من البناء رصينًا واحذر العجلا فكم عجول كبا من ضعف رؤيته وذي أناة أصاب الرشد والأملا

كن أحزم من قرلى

كن أحزم من قرلى التاسعة: كن أحزم من قرلى؛ والقرلى: طائر مائي ذو حزم لا يُرى إلا حذراً على وجه الماء؛ عين في الماء طمعًا، وعين في السماء حذرًا، ولذلك تقول العرب في المثل: كن أحزم من قرلى؛ إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى. ومن الحزم ترويض النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها وعدم الرضا بالدون دون علاها وما يزكيها؛ فإن في النفس -كما يقول ابن القيم - من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَه الكلب، ورعونة الطاوس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجاهدة يُذهب ذلك كله بإذن ربه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد. إن من يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، إنما هو سفيه لا يعرف الحزم، ولا الحزم يعرفه، عينه عين هوى، وعين الهوى عين عمياء. إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهَها تاقت إلى كل مطلب بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمة وشربة ولباس ومركب؛ مطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي، قد رفع راية: إنما العيش سماع وندامى ومدام فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد. إن الهوان حمار البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يُشج فما يأوي له أحد

الحزم على قدر الاهتمامات

الحزم على قدر الاهتمامات الحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، ومن عزَّ بزَّ: فثِبْ وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.

أبو مسلم الخولاني والحزم مع النفس

أبو مسلم الخولاني والحزم مع النفس كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازمًا مع نفسه، قد علق سوطًا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنزاحمنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً. هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يكن في زيهم رجل حالهم: عباس عباس إذا احتدم الوغى والفضل فضل والربيع ربيع

ترك التحسر على الماضي والاستفادة من المستقبل

ترك التحسر على الماضي والاستفادة من المستقبل العاشرة: عَوِّض ما فاتك، من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله؛ فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيَّعه في الحزن والتحسر. إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا باجترار أحزان الماضي؛ إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة. ابن عقيل الحنبلي رحمه الله، وهو في الثمانين يقول: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ولا ولائي ولاديني ولا كرمي وإنما اعتاد شعري غير صبغته والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم فإن كنت ترجو معالي الأمور فأعدد لها همة أكبرا تلك النفوس الغالبات على العلا والحق يغلبها على شهواتها ألا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له، وليعوض؛ فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإمهال فائدة؛ فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة: فإن تك بالأمس اقترفت إساءةً فبادر بإحسان وأنت حميد ولا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ لعل غدًا يأتي وأنت فقيد

أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد

أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن وقعة بدر، فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال -كما روى البخاري ومسلم: {يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين؛ لئن أشهدني الله مشهدًا آخر في قتال المشركين ليرين الله مني ما أصنع} فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، ثم يتقدم ويكسر غمد سيفه، ويستقبله سعد بن معاذ، فيقول: الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد، يقول سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، ولما انتهى من المعركة وجدوه قد قُتل ومثَّل به المشركون، به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم؛ فما عرفه إلا أخته ببنانه: إما فتى نال المنى فاشتفى أو بطل ذاق الردى فاستراح إما إلى العز أو تقضي بساحته ذل الحياة وطعم الموت سيان من تذكر في تفريطه أَنَّ، ولتعويض ما مضى حَنَّ.

عكرمة وتعويض ما سلف

عكرمة وتعويض ما سلف عكرمة رضي الله عنه أسلم عام الفتح، وشعر بما قد فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: {والذي نجَّاني يوم بدر -يا رسول الله- لا أدع نفقة أنفقتها بالصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتال قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله} ويبر بقسمه؛ فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان في طليعتهم، وفي يوم اليرموك، وما يوم اليرموك؟ أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادره خالد بن الوليد قائلاً: لا تفعل يا عكرمة! إن قتلك على المسلمين سيكون شديدًا، قال: إليك عني يا خالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل، فقد كنا أشد الناس عداوة على رسول الله، دعني أُكَفِّر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟! والله لا يكون أبدًا. فلو بان عضدي ما تأسف منكبي ولو مات زندي ما بكته الأنامل ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، ولقي الله عكرمة مُثخنًا بجراحه، ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فرضي الله عنه وأرضاه: بذل النفس فداءً ورضا وقضى العمر وأقصى السفرا همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم؛ فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم، فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله على أنفسهم عقدًا؛ فما نكثوا، وما نقضوا؛ فبادر -أخي- قبل العوائق، واستدرك ما فات؛ فلعلك بالأخيار لاحق؛ إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم! إذا استدرك الإنسان ما فات من علا إلى الحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب

العدل والإنصاف

العدل والإنصاف الحادية عشرة والأخيرة: العدل العدل! فبه قامت السماوات والأرض، القلوب جُبلت على حب من يعدل فيها، ويحنو عليها، وتمنح ودَّها لكل من يعدل فيها، ويحسن إليها، ومن يحيف عليها، ثم يحاول إجبارها على حبه إنما يكلفها ضد طباعها. ومكلف الأشياء ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل، مدح من يستحق المدح في غير ما خشية الفتنة عليه عدل، تأنيب من يستحق التأنيب عدل، الاعتراف بجهود الآخرين عدل، الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل، قبول النصح عدل، إسداء النصح عدل، التربية على العدل عدل، والله -تعالى وتقدس وتبارك- يأمر بالعدل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].

إنصاف عمر بن الخطاب

إنصاف عمر بن الخطاب يذكر الطبري في رواية مرفوعة إلى إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مرَّ عمر رضي الله عنه بالسوق، ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة لم تُصب إلا طرف ثوبي، وقال: أَمِطْ عن الطريق؛ أي: لا تزحم الطريق، قال: فلما كان العام القادم لقيني عمر، فقال: يا سلمة! أتريد الحج؟ قلت: نعم، قال: فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى منزله، ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها بالعام الماضي، قلت: يا أمير المؤمنين! والله ما ذكرتها، قال: وأنا -والله- ما نسيتها. للمعالي فليعلُ من قد تعالى هكذا هكذا وإلا فلا لا من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه. ارض للناس جميعًا مثلما ترضى لنفسك إنما الناس جميعًا كلهم أبناء جنسك فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسِّك

بين علي وعمر في مجلس القضاء

بين علي وعمر في مجلس القضاء شكا رجل علياً رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه، فلما جلس عمر لينظر في الدعوى، قال لـ علي: ساوِ خصمك يا أبا الحسن، فتغير وجه علي رضي الله عنه، ثم قضى عمر في الدعوى، وذهب الخصم، فالْتفت عمر إلى علي، وقال له: أأغضبتك -يا أبا الحسن - إذ سويت بينك وبين خصمك؟ قال علي: كلا. قد غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه يا أمير المؤمنين، لقد أكرمتني، ودعوتني بكنيتي -يا أبا الحسن - ولم تنادِ خصمي بكنيته؛ فذلك الذي أغضبني، فقبَّل عمر رأس علي، وقال: [[لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن]]. حكموا فكان العدل شرعة حكمهم ما الحكم ما السلطان إن لم يعدل سارت مبادئهم وسارت خلفها أفعالهم في موكب مُتمثَّلِ شادوا من التقوى أصح مواقف وبنوا من الحسنات خير قلاع ونتجاوز بعض الإشارات وأحسب أني بذلت وسعي أن أخرج من هذا اللقاء بفائدة تنفع المسافر أو بإشارة توقظه، وقد تكاثرت الإشارات ولم نأتِ إلا على بعضها، وذا يؤكد أن الموضوع لا زال واسعاً قابلا للزيادة؛ يسَّرها الله بمنِّه وكرمه. هذه كلمتي لقد قاسمتني بعض نفسي وفكرتي وشبابي ما على العاجزين مثلي سوى القو ل فذي عدتي وهذا جرابي أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات المسلمين والمسلمات، وأن يسلك بنا وبكم سبيل المؤمنين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همَّهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم ارفع درجتهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك

الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مُكَوِّر الليل على النهار، خلق الشَّمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلهما مواقيت في هذه الدار، حكمة بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره، وفضله على من شكره مِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقَدِّرُ الأقدار، شهادة تبوئ قائلها دار القرار. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرَّ استنار, واليمُّ يمينه إذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، الحَنِيفيَّة دينه الدين القَيِّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشرعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين عن أهل اليسار، فتح الله به القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، والآذان فزال عنها ثقل الأوقار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار ما ناض برق وما هب النسيم وما مس الحجيج لبيت الله أركانا أو قهقه الرعد في هدباء مدجنة أو ناح طير على الأغصان أزمانا والآل والصحب ثم التابعين لهم على المحجة إيماناً وإحسانا ما هبَّ نشر صباً واهتز نبت ربىً وفاح طيب شذاً في نسمة السحر معشر المؤمنين: أحييكم بأسمى وأجلِّ وأجمل تحية، تحية هذا الدين؛ الذي نظم الله به عقد أمتنا بعد انفراط، ووحدها بعد فرقة، وجمعها بعد شتات، صقل به نفوسها، وهذَّب طباعها، وشحذ عزائمها، وشذَّب أخلاقها، حتى جعلها خير أمة أخرجت للناس، مُتآلفة القلوب، مُتآخية الأرواح: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]. فسلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أهل وصحب وإخوان. أنى التقينا التقى في كل مجتمع أهل بأهل وإخوان بإخوان حسبت نفسي نزيلاً بينكم فإذا أهلي وصحبي وأحبابي وإخواني من كل أبلج سامي الطرف مضطلع بالخطب مبتهج بالذكر جذلان يمشي إلى الذكر بساماً ومنشرحاً كأنه حين يبدو عود مران يا أهل ينبع قد طوقتم عنقي بمنةٍ خرجت عن طوق تبيان قد قلتها غبطة لله دركم ليس الفلاح لوان غير يقظان لي موطنٌ في رحاب البيت أعظمه ولي هنا في حماكم موطن ثانِ لا أوحش الله ربعا من زيارتكم يا من أثاروا بقلبي جل أشجاني إنَّ من سوابغ نعم الله عليَّ أن ألتقي بمثل هذه الوجوه التي لا أحسبها إلا بالإيمان مشرقة، والبصائر التي لا أظنُّها إلا باليقين متفتحة، والقلوب التي لا أحجوها إلا بالصدق عامرة، والآذان التي لا أُراها إلا للخير سامعة واعية، فلله الحمد في الأولى والآخرة. كل من تلقاه أو يحدِّثُك يأخذ منك ويعطيك، ويترك في نفسك أثراً حسناً أو سيئاً مؤقتاً أو باقياً، ومن تلتقي بهم في دروب الحياة على أصناف ثلاثة -كما يقول الحكيم- فمنهم من يمر مرور السَّيل العَرَمْرَم الدَّفَّاع يدمر العمران، ويقتل الحيوان، ويؤذي الإنسان، ومنهم من يمر مرور ماء النهر على الصخر لا يترك أثراً، فلا يُنبت زهراً، ولا يُخرج ثمراً، ومنهم من يمر مرور الماء على الأرض البِكر تكون قبله قاحلات مُمْحلات، وتصير بعده جنات وبساتين مُمْرعات، مبارك أينما كان. درة كيفما أديرت أضاءت ومشم من حيثما شم فاحا أينما وَقَع نَفَع: كالغيث من كبد السحاب هطوله يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا كالبدر من حيث التفتَّ رأيته يُهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا فأرجو الله بمَنِّه وكرمه أن نكون من هذا الصنف المبارك. مثل فرع بدوحة العز تأوي تحت أفنانه عفاة الديار يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس في هذه الدار على جناح سفر، وكلٌ مسافر ظَاعِن إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره، ونازل عليه عند القدوم عليه. وللمسافر غايات يؤمِّلها لا شيء يشغله عنها فيحصيها معاشر الإخوة! لا زلنا على الطريق، نغري ونحذر، نرغب ونرهب، نشير ونصرح، نوري ونلمح. إن تردد العقل بين حق وباطل كانت دعوتنا على الطريق إلى الحق، إن تردد الطبع بين فضيلة ورذيلة كانت دعوتنا على الطريق إلى الفضيلة، إن ترددت النفس بين الشهوة والواجب كانت دعوتنا على الطريق إلى الواجب، إنه طريق شاق ولا شك؛ لِمَ؟ لأن الانحدار مع الهوى سهل، والصعود إلى المثل الأعلى صعب وحزن، الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، لكنه لا يصعد إلى الأعلى إلا بالمضخات والجهد العاتي. من الناس من شغلتهم على الطريق توافه الحياة عن مقصد الحياة، وألهتهم مناظر الطريق عن غاية السفر، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يعملون ليومهم وحده كالسوائم، لا يرون إلا ما بين أقدامهم، صفوف معوجة منشقة، وقلوب خاوية حائرة، سجدة خامدة لا حرارة ولا شوق فيها جامدة، انطفأت من القلب شعلته، وخمدت في الفؤاد جمرته؛ لذا كان لابد على الطريق من إشارات تحدو من سلك، وتغري من قعد وتسمو به، تدعو إلى مد البصر إلى الأمام، والنظر إلى البعيد والعمل لليوم والغد ولليوم الآخر، في صفوف موحدة وقلوب عامرة. وقد سبق عرض إحدى عشرة إشارة في محاضرة سابقة، واليوم نعرض للجزء الثاني منها، والذي ما هو إلا حصيلة جهد مقل؛ لك غنمه أيها المستمع وعلى القائل غرمه، لك ثمرته وعليه عائده، فإن عدم منك حمداً وشكراً فلا يعدم منك عذراً، فإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، والله المسئول أن يجعلها لوجهه خالصة وأن ينفع بها قائلها وسامعها ومستمعها في الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل. فسهل يا إلهي كل صعب فمن غير الرءوف لنا يسهل وأهلا بالدليل إلى المعالي ألا سر يا دليل ونحن نسري الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتاً بلا سقف. بمعنى: لا يزال لسانك رطباً على الطريق بذِكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيتاً بلا سقف حَرِيٌّ أن يكون مَرتعاً للغُبَار والقاذورات، ومأوى للهوَامِّ والحشرات، كذلك إن بيتاً لا يُذْكر الله فيه لا سَقْف له، خراب بَلْقَع لا داعي به ولا مجيب، و {مَثَلُ البيت الذي يُذْكر الله فيه والبيت الذي لا يُذْكر الله فيه مثل الحي والميت} كما في صحيح مسلم رحمه الله، إن إنسانا لا يَذكر الله لا سقف له، حَيٌ بعَظْم مَيْت. إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي وهو ميت و {مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحيِّ والمَيْت} كما ثبت عند البخاري رحمه الله. والناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا فلم أَر غير حكم الله حكماً ولم أر دون ذكر الله بابا خذ ما يسر ودع شيئاً تضر به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل إنَّ جَمعًا لا يُذكر الله فيه لا سقف له، مضطرِب أَرِق قَلِق. كريشة في مهب الريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق {والدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما وَالاه، وعالِماً أو متعلِّماً}. في الزهد لـ ابن المبارك رحمه الله: أنَّ أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجداً، فرأى فيه حلقة، ظنَّهم في ذِكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله! هل تدرون -يا هؤلاء- ما مثلي ومثلكم؟ مثلي ومثلكم كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفَت فإذا هو بمِصرَاعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت حتى يذهب عني المطر، فدخل فإذا هو ببيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذِكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا. كم حديث يظنه المرء نفعا وبه لو درى يطول البلاء

انتفاع القلوب بذكر الله

انتفاع القلوب بذكر الله إنَّه ليس أنفع في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك مَن هو أولى بملازمة ذِكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذاك الرجل؛ الذي جعل مِحوَر حياته خدمة لدين الله، فهو أحرى بأن يذكر الله قائماً، وقاعداً، وعلى جَنب، وفي كل حين وآن، فذكر الله يُرَقّق المشاعر، ويُوقظ القلوب والضمائر، ويُرهِف الإحساس، ويشرح الصدور، ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها، ويملك جِمَاحها، ويرفع الدرجات، ويكفِّر السيئات -ومع ذا- خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، حبيب إلى الرحمن. فمن الخطورة العظيمة- أيها الأحبة- أن نتحول إلى مُنظِّرِين مُخطِّطِين، ثم لا نكون الربانيِّين العابدين الأوَّابين المُفردين، الذاكرين الله كثيراً، المخبتين، فنصبح محرومين، أعوذ بالله رب العالمين. المحروم من نعمة ملازمة ذِكر الله محروم من الإحساس المرهَف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعَطالة وبطالة وانحطاط، أنَّى له أن يصل إلى وجهته؟!

إنما يذكر الناس ويؤثر فيهم الذاكرون

إنما يذكِّر الناس ويؤثر فيهم الذاكرون إنَّ المسلم بصفة عامة، وطالب العلم بصفة خاصة، جدير بأن يُذكِّر الناس بالله، حتى إذا ما رُئِي ذكر الله تعالى، فكيف به إن كان غافلاً؟! أيكون جديراً بالتذكير؟! كلا والله! إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه. هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشاً هل يطلب الثوب ممن جسمه عَاري يا بانياً بالماء حائط بيته فوق العباب أَرى البناء مهيلا أرأيت قبلك عارياً يبغي نزال الدارعين كلا. إنَّ بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخَطْب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر، وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبداً. وعلى الطريق سبق المفرِّدون، إنَّ القلب بذِكر الرحمن بلد عامر مأمون، وحصن مُحكَم محصون، وروضة مباركة لا يكاد ينفد نعيمها، ولا ينضب معينها، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، الذِكر مِسك، والغَفلة رماد، الذكر جواد، والغَفلة حمار، فليكن لسان الحال على الطريق: ما كنتُ لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطي الحمار بعد الجواد. وإنما يتيمَّم من لم يجد الماء، ويرعى الهشيم من عَدِم الجَمِيم، ويركب الصعب من لا ذَلول له، أمَّا لسان المقال: فالعزِّ داري وظهر العزم راحلتي والذكر أنسي ومن والاه إخواني فيا قدمي لا سرت بي لمذلة ولم ترتقي إلا إلى العزِّ سلما

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه الثالثة عشرة: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه: قل خيراً تغنم، أو اسكتْ عن سوء تَسْلم، إنَّ من شأن الساعي إلى الكمال على الطريق أن يُقبِل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السُّبُل المُفضية إلى ما رامه وأمّله، ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبَّى بنفسه عن كل ما مِن شأنه أن يُنزِل قدره، ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، فتراه مترفِّعاً عن اللهو واللغو، قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها، في حدود ما أذن الله له به. فإذا عَرَض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه، وأكرم نفسه عنه؛ إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو أو لهو مَهين.

من آثار السلف في الاشتغال بما يعني

من آثار السلف في الاشتغال بما يعني وإليك أخي المسافر العاقل على الطريق هذه اللفتة من ابن القيم رحمه الله يقول فيها: اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاتَه ما يعنيه؛ فإيَّاك ثم إيَّاك أن تُمكِّن الشيطان من بيت أفكارك؛ فإنه يُفْسِدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويُلقي إليك الوساوس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمِثَالُك معه كَمِثَال صاحب رحى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبَعْر وفحم وغثاء؛ ليطحنه في طاحونه، فإن طردته ولم تُمَكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون، فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون، أفسد عليك ما في الطاحون من الحَب، فخرج الطحين كلُّه فاسداً. فيُتْرك ماؤكم من غير وِرد وذاك لكثرةِ الأخلاط فيه فاللبيب يُفِكر فيما يعنيه، بل فوق ذلك قد علم أن كلامه من عَمَلِه، فَقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه. فإنَّ لسان المرء ما لم تَكن له حصاةٌ على عَوراته لَدَليلُ لا خير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيونه والصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا تتكلم فيما لا يَعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يَعنيك حتى تجدَ له موضعاً، فَرُبَ مُتَكلم في أمر يَعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته]]. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى والأدبُ النافعُ حسنُ السمتِ وفي كثير القَولِ بعضُ المَقتِ يقول عطاء بن رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم لو نُشَرت صحيفته التي أَمْلَى في صدر نهاره، وليس فيها شيءٌ من أمر آخرته ينفعه". واهاً ثم واهاً. إن الشجاعة في القلوب كثيرةٌ وَوَجدتُ شُجعان العقولِ قليلا دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، فكان وجهه يتهلَّل، فقِيل له: ما لوجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: [[ما من عمل شيء أَوْثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليماً]] {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائراً، فقام يتفقد البيت، ثم قال: يا إمام! إن في سقف بيتك جِذعاً مكسوراً. قال: يا بن أخي! إنَّ لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه، مالك وله رحمك الله؟! {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}. فأولى لكم ثم أولى لكم مزيد من الصَّحْو واليقظة

مقارنة بين حالنا وحال السلف في الكلام فيما لا ينفع

مقارنة بين حالنا وحال السلف في الكلام فيما لا ينفع إن واقعنا حديثٌ بلا فائدة، وأسئلةٌ بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثاً، ولا ينفع مستمعاً، ولا يُزَكِّي نَفْساً؛ تضيع الطاقات والأعمار سُدَى، وتلك داهيةٌ والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللغو واللهو، حتى يشتريه بماله ويُضِل به ويَضِل، إنَّها الفاقرة، ونسأل الله العافية! لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تقف أبداً ولا تسكن، فلابد لها من شيء تطحنه -كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإِنْ وُضِعَ فيها حب طحنته، وإن وُضِع فيها تراب أو حصى طحنته، ولن تَبقى الرحى معطلة أبداً، بل لابد لها من شيء يُوضَع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتِبْناً، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه. وكلُ ما يزرع الإنسان يَحصده فأَحْسِن الزرع يحسن حين يُحتصد ورحم الله ابن بشار يوم قال -متحدثًا بنعمة الله عليه-: منذ ثلاثين سنة ما تكلمتُ بكلمة أحتاج أن أَعْتَذر عنها. واسمع أخي لأحد السلف رحمه الله يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له: ما يسوءك منها؟ قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك، فقيل له: لِمَ طلَّقتها؟ قال: ما لي وللكلام عن امرأة صارت أجنبية عني: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}. مجالسهم مثل الرياض أنيقة لقد طاب منها اللون والريح والطعم كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد؟! إنه لا شك سيرى كمّاً هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه مُنْصفاً لوجد كثيراً من الزَّلات والسقطات، فنسأل الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات. إن نسيت فلا أنسى أن أنبه على أن مما يعنيك -بل يجب عليك- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -عز وجل- على بصيرة، ولو كَرِه ذلك الفُسَّاق والمجرمون، وقالوا: {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} فإن المقياس ليس هواهم، بل شرع ربنا ومولاهم. وما على العنبر الفواح من حرج إن مات من شمه الزبال والجعل دع أخي ما لا يعنيك ولو كان مباحاً؛ فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكم من كلمةٍ بُنِيَ بها قصر في الجنة، بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من أخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنِّه. لا يضع يومك في التيه كما ضيعت أمسك

الحكمة في التربية الدعوية

الحكمة في التربية الدعوية الرابعة عشر: كُن طبيبًا رفيقًا يضع دواه حيث ينفع؛ بمعنى: لا تضع العلم عند غير أهله فتُجهَّل، ولا تمنع العلم أهله فتَأْثم؛ من الناس من يطلب العلم لشرٍ كامن، ومكرٍ باطن، فيستعمله في شُبَهٍ دينية، وتَلْبِيس دنيء، وحيلٍ فِقهية، فلا يعان على إمضاء مكره، وإكمال شره، بل مُهان غيْرُ مُكَرم يُحْرم، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفِطنة، فلا يُحمل عليه بكثير العلم فيُظْلَم، ولا يُمنع من اليسير فيُحرم، وإنما يَنفع سَمعُ الآذان إذا قَوِيَ فهم القلوب في الأبدان، وقد صَدَق القائلُ ونصح يوم قال: لا تؤتين العلم إلا امرأ يعين باللب على درسه ويُمنع من كثيره -أيضاً- السُّفهاء، الذين إنْ سكتَّ لم يسألوك، وإنْ تكلمت لم يَعُوا عنك، وإنْ رأوا حَسَناً دفنُوه، وإنْ رأوا سيِّئاً أذاعوه. إنْ يعلموا الخير أخفوه وإنْ علموا شرّاً أذاعوا وإنْ لم يعلموا كذبوا وإنْ حاورتهم شتموا، جاهلون كحمار السوق، إنْ أشبعته رَمَحَ الناس، وإنْ جاع نهَق. فإذا حَمَلتَ إلى سفيه حِكمةً فلقد حَمَلتَ بضاعة لا تنفق وهذا كله يحتاج إلى فِراسة ومُمارسة ومِران واختبار، من خلاله يُتوسَّم المتعلم حقاً من غيره، كفِراسة ابن عباس رضي الله عنهما يوم قال: [[ما سألني سائل إلا عرفت أفَقِيهٌ هو أم غير فَقِيه]]. أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدِّث قوماً يرى أنهم غير أهل للحديث، فقال: ويْحك يا شعبة! تُعَلِّقُ اللؤلؤ على الخنازير! فإن عناء أن تفهم جاهلاً يظن اقتئاتاً أنَه منك أفهم متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم فلا تحدِّث بالحكمة عند السُّفهاء فيكذبوك، ولا تحدِّث بالباطل عند الحكماء فيَمقتوك، إنَّ واضع العلم في غير أهله كمقلِّد الخنازير اللؤلؤ والجوهر، فلِكلِّ تربة غَرْس، ولِكلِّ بناء أُس. فجرد السيف في وقتٍ يفيد به فإن للسيف يوماً ثم ينصرم

تواصي العلماء بحرمان السفهاء من العلم

تواصي العلماء بحرمان السفهاء من العلم عرف ذلك العلماء حقاً، حتى قال قائلهم وهو عكرمة: [[إنَّ لهذا العلم ثمن، فاقدروه قدره، قيل: وما ثمنه؟ قال: أنْ تضعه عند من يحفظه ولا يضيِّعه]]. ورحم الله ابن حزم في حَزْمِه في ذلك، يوم قال: نَشْر العلم عند مَن ليس مِن أهله مُفسِد لهم، كإطعامك الحلوى مَن به احتراق وحُمَّى، أو كتشميمك المِسك والعنبر مَن به صُداع من احتدام الصَّفراء. قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم ما طول صمتي من عي ولا خرس أأنشر البز فيمن ليس يعرفه أم أنثر الدر بين العمي في الغلس فمن حوى العلم ثم أودعه بجهله غير أهله ظلمه وكان كالمبتني البناء إذا تم له ما أراده هدمه وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية، عندما كلمه من لا يرى فقهه قال: أأنثر درا بين راعية الغنم وأنشر منظوما لراغية النعم لئن كنت قد ضيعت في شر بلدة فلست مضيعاً بينهم غرر الكلم فإن فرج الله الكريم بلطفه وأدركت أهلا للعلوم وللحكم بثثت مفيدا واستفدت ودادهم وإلا فمخزون لدي ومكتتم ومن منح الجهَّال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم وقد أحسن -أيضا- وحلق كما قال في الطبقات: العلم جهل عند أهل الجهل كما الجهل جهل عند أهل العلم ومنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه

التعليم بحسب استعداد المتعلم

التعليم بحسب استعداد المتعلم فعلى الطريق أخي: ضعْ العلم في أهله على تفاوت، فالذكي يحتاج إلى الزيادة، والبليد يكتفي بالقليل، والسفِيه يُمنع ويُزجر، وذو الشر يُذل ويُحرم، ولا يُعانُ ولا يُكرَّم، والجميع يُذكَّر ويُوعَظ، كِلْ على الطريق لكل سالك بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه؛ حتى تَسلم منه وينتفع بك؛ وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، ولكل ثوب لابس، ولكل علم قابس. فلا تكونوا كمن ألقى رِحَالته على الحمار وَخَلَّىصهوة الفرس وقفة جانبيه على الطريق: عَرِّضْ ولا تُصرِّحْ، فالحال ناطقة: أقول وستر الدجى مسبل كما قال حين شكا الضفدع كلامي إن قلته ضائع وفي الصمت حتفي فما أصنع

الحرص على الحكمة فهي ضالة المؤمن

الحرص على الحكمة فهي ضالة المؤمن الخامسة عشرة: كُلِ البَقْل، ولا تسَل عن المِبقَلة، بمعنى: خُذها مِن أي وعاء خرج: {الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها} فلا تَحقِر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة؛ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. . والدر در ثمين أينما كانا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأُسوة والقُدوة قد أقرَّ أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق؛ ألا وهو إبليس، الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة، ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أَخبرَ أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: {صَدَقَكَ وهو كَذُوب} فالحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا يَنتفِعُ بها، وتُؤخذ عنه ويُنتفع بها، والكذَّاب قد يَصدُق، فَاعلمْ وَحَقِّقْ. لا تحقرن الرأي وهو موافقٌ حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص

احترام الحقيقة وتجنب المبالغة

احترام الحقيقة وتجنب المبالغة السادسة عشرة: احترِم الحقيقة، وتجنَّب الإغراق في المبالغة؛ فهي قبيحة تشوِّه الحقيقة، تَقرِّب البعيد، وتُبعِد القريب، وتُظهِر غبشاً في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع، وسخرية من وجدانه -كما يقول صاحب زغل الدعاة - تهويل وتزييف للواقع، شَطَطٌ وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة، بل عجز عن رؤية الواقع على ما هو عليه، وضَعف في النفس مشين؛ حتَّى يُرَى سيئاً مَا لَيس بالسوء ويرى حَسَناً مَا لَيس بِالحَسَنِ. الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس، وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد، وقد تُعالَج بمثلها؛ داءٌ بداء فأين الدواء؟! في كتاب: السلوك المثالي للطفل المسلم ما فحواه: يقول: جاء طفل مسرعاً نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأراً يا أمَّاه مثل الفيل، فردَّت عليه الأم مؤنِّبة له: قلت لك مليون مرة: لا تُبالغ. فقل لي بالله: أيُّهم أكثر مبالغة؟ ألَيْس الطفل معذوراً فيما أخبر به أُمَّه؟! بلى، وحاله: محضتني النصح لكن لست تعمله فأنت أولى بذا مني على خجل هذا على مستوى الأسرة والعامة، وتلك -والله- فاقرة، وقبيحة، وقاصمة، لكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثَغرة كبيرة في جدران بنيانهم التربوي لا تكاد تُسدُّ. فكل كسوف في الدراري شنيعة ولكنه في الشمس والبدر أشنع إنها تظهر جليَّة مَشينة بالحكم على الآخرين؛ قَدحاً ومدحاً، فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصِلَهُ ذرى الجبال، فلا تزال تَسمعُ ما يلي: فلان ابن تيمية عصره، وابن حَجَر زمانه، وبُخارِي أوانه، ليس له مثال، عَلاَّمة فَهَّامَة، حتى إذا ما حصل أمر أيُّ أمرٍ تغيَّر، وتبدَّل، وصار الأنف ذَنَبَاً، نُصِبت له المجانيق، وأُرسِلت الصواعق، وسُلَّت السيوف، ورُفِعت المَعَاول، ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال، فإذا هو مارِد خرج من قُمقُمِه، فإيَّاك وإيَّاك! لا تتَّبِع أقواله؛ إنه غَاوٍ، مُضِل، مَارِق، مُعانِد، خَائِن، فاسِد العقيدة، أشر على الإسلام من اليهود والنصارى. حَيْفٌ، وظلم، وشَطَط، وجور، وعدم اتِّزَان، وتدمير جَنَان. يا عين سحي يا قلوب تفطري يا نفس رقي يا مروءة نادي إن دام هذا ولم يحدث له غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد رحم الله القائل-يوم قال-: والله إنَّ الأُمَّة لن تأخذ مَوضعها بين الأمم؛ حتى تضع الكلمة في موضعها. كيف تحيا أمة قد ودعت كلمة العدل ولم تدكِرِ

خطر المبالغة

خطر المبالغة فهيا أخي: أقبل بقلبك وقالَبك، واسمع إلى صاحب كيف تحاور وهو يخاطبك قائلاً: لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك، وتهويل ما يعجبك؛ فإنَّك إن اشتهرت بذلك، فسيضطر صاحبك لتفحُّص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك. إنَّ الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة، والعقول المستقيمة، ولو كانت في غير صالحهم، فهي على مرارتها ثمينة، أمَّا غيرهم فيخدع نفسه، ويخدع غيره. فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفَي قصد الأمور ذميم بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير صور العمى شتى وأقبحها إذا نظرت بغير عيونهن الهام دواؤك منك ولا تشعر وداؤك فيك ولا تبصر

الأصل في المسلم السلامة

الأصل في المسلم السلامة السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة: من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين: إحسان الظن بهم، وخَلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم، فكيف بنيَّاتهم، والحكم على سرائرهم، التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر وعلانية؟ الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة، لكن من الناس من مِنظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمة، ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيراً كذَّبه، وكلما ذُكر عنده أحد بخير طَعَنَ فيه وجَرحه. هم الشوك والورد أقرانهم وليس لدى الشوك غير الإبر فكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ولو ظفروا بي ساعة قتلوني مُبدع، لكنه إبداع سلبي، مُبدع في تحطيم ما بيْنه وبين الناس من جسور الثقة، والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس؛ ليكسَب القلوب، فيزرع فيها خوف وحب علاَّم الغيوب.

العز بن عبد السلام وسلامة صدره

العز بن عبد السلام وسلامة صدره هاهو الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لقي من صنوف الأذَى على يدي الأشرف موسى ما لقي، ثم رجع الأشرف إلى الحق بعد ما تبيَّن له، وأحبَّ الشيخ حُباً جَمّاً، وقدَّمه على غيره، وعمل بفتاواه، ولمَّا مرض الأشرف قال: يا عز؛ اجعلني في حِلٍّ، وَادْعُ لي، فقال الشيخ: أما مُحَالَلَتُك، فإنِّي كل ليلة أُحَالِلُ الخلق، وأَبِيتُ وليس عندي لأحد مَظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله، لا على عباد الله؛ عملاً بقول الله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]. صفوحٍ عن الإجرام حتى كأنه من العفو لم يعرف من الناس مجرما وليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتمَّ له ذلك، ثم ذَكَّره بمنع المنكرات، وإبطال ما يمارس العُمَّال من المُوبِقات مِن إباحة الفُروج وإدمان الخمور وارتكاب الفُجور، وقال له: إنَّ أفضل ما تَلقى الله به أن تُبطل ذلك في مملكتك، فأَمَر بإبطال ذلك كله، وقال للشيخ: جزاك الله خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمَنِّه وكرمه، ولَقي الله، فرحمه الله! هكذا أخي يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين، حتى نَصِل بدعوتنا إلى سُوَيْدَاء قلوب المدعوين. فمن وجد الإحسان قيدا تقيدا وعلنا أنْ نَطَّرِحَ سوء الظن واتباع الهوى، فاتباع الهوى يُفرِّق ويشتت ويمزق؛ لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رءوس الخلق، ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله؟! تراه كدود القز ينسج دائماً ويهلك غماً وسط ما هو ناسجُ فخير لك -إن أردت النجاة على الطريق- أنْ تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين؛ لأنَّ حُسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها، ويُلبِّس عليك مثالبها، فترى المساوِئ محاسن، والعيوب كمالاً. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو أجهل الناس بنفسه. ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال إذا رأيت الهوى في أمة حكماً فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا

البشر عرضة للخطأ

البشر عرضة للخطأ الثامنة عشرة: من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟ ما مِنَّا أحد إلا وَلهُ زلَّة وخطأ وسَقطة، ورأي قد يكون فيه كَبوة، وزلَّة المسلم إمَّا أنْ تُعرف، وُتشاع، وتُذاع، فيستمرئها صاحبها وينسلخ عنه الحياء ويصعب عليه الرجوع -كما يقول صاحب ضوابط العمل - وإمَّا أنْ تكون زلته حبيسة في صدره، لا يعلمها إلا الله وحده، فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عوناً للشيطان على أخيه، فَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئب. ولا يجُوز الباب إلا عاقل مؤمن، يختار رضوان الله العلي الكبير، إنَّ العامل يتعرض لعَثرات، وقد يحصل منه هَفَوات، ثم ينبري له مَن سِلْمُه حَرْب، وذَلُولُه صعب، يشيع ويذيع، لا يَقرُّ له قرار، ولا ينعَم له بال، كأنما يتقلب على حَسَك السَّعْدَان، أو يَتَلَوَّى على جمر الغضا، ينحب وينبح ويلهث، يَنكَأ جروحاً، ويُثير أشجاناً، يرفع عقِيرته، لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبُرُوز أحد، إرضاؤه لا يُدرَك، أَطْيَش من ذُباب لو وُزِنت أحلامه الخِفافا على الميزان ما وزنت ذبابا جليد، بليد. وما على الكلب أن يعتاده السعر ومن العجا ئب أن مثل لسانه لم يبتر فمطالب بإعادة، ومطالب بزيادة، ومهلل، ومصفق كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة وإن ينل شبعا ينبحك من أشر . فيا عجبا من زائر وهو ثعلبُ يخال سكوت الليث وهنا فيعتدي غرورا وينسى بأسه حين يغضب فالتعامل معه كالآتي: لا يُلتفت إلى ما في كلامه من طعن، ويُؤخذ ما فيه من حق -إنْ وُجد-فإنَّ الحق هو الحق، وللداعية خيرُه، وعلى الطَّاعِن شَرُّه. فما الأسد الضرغام يوماً بعاكس صريمته إن أَن أو بصبص الكلب

التغاضي عن هفوات الكرام

التغاضي عن هفوات الكرام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا مُنتَقداً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مَثَالبهم، فهو مثل الذباب؛ يترك موضع البُرْء والسلامة، ويقع على الجرح والأَذَى، وهذا من رَداءة النفوس، وفساد المِزاج؛ فَارْبَأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطَّبْل على حد قول القائل: صغار الكلب أكثرها عواءً وشر الطبل أكثرها دويا صغير العقل بالأعراض يلهو وذو اللب الرجيح يراه غيا ومن نظر الأمور بعين عقل جرى في هذه الدنيا أبيا إنَّ الوقيعة -كاسمها- شر، وفساد، وفُرقة، وتمكين للعدو، وبهتان، نهايتها خصومة وتَدابُر، وقطيعة، وقعود، وقَرَارٌ لعين العدو، وهلاك على الطريق، وهكذا الذباب على الطعام يطير، والفراش على الشهاب يسّاقط. كلام من كان مثل ذا ومنظره مما يشق على الآذان والحدق فلا تُعره اهتماماً على الطريق، ولا تنتصر لنفسك، فإذا انتصرت لها فأنت كمن بغى طَفي الحريق بموقد النيران.

لا ينبغي الطعن في الآخرين بمجرد الاختلاف معهم

لا ينبغي الطعن في الآخرين بمجرد الاختلاف معهم واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، ثم يريد أن ينجح ويفلح، متى يفلح؟ متى يفلح مَن يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين؟ متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين؟! تعشى عيون في النهار فلا ترى وترى عيون في الظلام وترقب ويسير ذو جهلٍ بحكمة غيره ويتيه ذو العقل السديد ويسلب فيا معاشِر الموحدين! إنَّ أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بكل نقيصة، لكنه لا يستطيع أن يُثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً! وكم على الأرض أشجار مورقة وليس يرجم إلا من به ثمر كل يصيد الليث وهو مقيد ويعز صيد الضيغم المفكوك واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولو أنه كلما اختلف اثنان تهاجرا وتقاطعا ما بقي بين المسلمين أُخوَّة؛ فَلْيتَّقِ الله امرؤٌ في إخوانه، وليتسع صدره لوِجهات نظرهم، فلا تذهب معه المروءة والمحبة، والمؤمن يستر وينصح، لا يهتك ولا يفضح. أمنا التقوى وقد أرضعتنا من هواها ونحن نأبى الفطاما فاشرب من الماء القراح منعماً فلكم وردت الماء غير قراح وهات حديثاً كقطر الندى يجدد في النفس ما بددا فيضحي لآمالنا منعشاً ويمسي لآلامنا مرقدا وقفة جانبية أخرى على الطريق: تقول: لا تسل لئيماً؛ فأذل من اللئيم سائله. من كان يأمل أن يرى من ساقط نيلاً سنيا فلقد رجا أن يجتني من عوسج رطباً جنيا

الاعتناء بالحقائق وعدم الاغترار بالمظاهر

الاعتناء بالحقائق وعدم الاغترار بالمظاهر التاسعة عشرة: ما كل عُود ناضر بنُضار: ما كل مَن حَسُن منظره حسن مَخبَره، فلا تُغَلب المظاهر على الحقائق على الطريق: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وابلُه تَقْلِه أو تحببه. فما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله والخلائق إنَّ من عباد الله على الطريق من تشرئب إليه الأعناق، ويسترعي الانتباه، لكنه خائر بائر لا خير فيه، فلا يُغتَرُّ به. لهم منظرٌ في العين أبيض ناصع ولكنه في القلب أسود أسفع فمردودٌ بهاؤهم عليهم كما رد النكاح بلا ولي ومِن عباد الله على الطريق من لا تشرئب إليه الأعناق، ولا يسترعي الانتباه، لكنْ يجري الله على يديه الخير الكثير. متبذل في القوم وهو مبجل متواضع في الحي وهو مكرم ثبت أنه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: {ما رأيك في هذا؟ قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ -والله- إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا}. وبعض الناس ماء رباب مزنٍ وبعض الناس من سبخ الملاح والسيف ما لم يلف فيه صيقلٌ من طبعه لم ينتفع بصقال والسيف ليس بضائرٍ إذا صح نصل السيف ما لقي الغمد ولا ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النفس من باهلة دخل أعرابي رث الهيئة في عباءة خَلِقَة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه فاقتحمته عينه، وغدا ينظر إلى عباءته الخَلِقَة، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها. وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث أنفذته يبري فإن تكن الأيام أزرت ببزتي فكم من حسامٍ في غلافٍ مكسر فأدناه وقربه، وعلم أن في العباءة ما فيها. عجبت لمن ثوبه لامع ولكنما القلب كالفحمة مظاهر براقة تحتها بحار من الزيف والظلمة وتكلم آخر مُحتقر، عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، حتى خُلِب به لب عبد الملك وأُعجب به، فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي توصلتُ بها إليك، وأهلتني لأن أتكلم بين يديك فأَخْلِب لُبَّك، أبى الله أن أسمو بجد ولا أب. فما أنا إلا السيفُ يأكل جفنه له حليةٌ من نفسه وهْو عاطلُ وليست رغوتي من فوق مذق ولا جمري كَمِين في الرمادِ قال: صدقت فما الفخر بالعظم الرميم وإنما فخار الذي يبغي الفخار بنفسه

التجمل أمر مشروع لكنه ليس مقياسا للتفاضل

التجمل أمر مشروع لكنه ليس مقياساً للتفاضل إنَّ من أحوال المسلم أن يَحْتفي ويَنْتعل، ويمتشط ويدع ذلك، ويلبس اللباس الجميل والحذاء الحسن، ومع هذا لا تتحكم هذه المظهرية فيه، ولا يوزن بها، ولا تأسر شخصيته، فهو يحكمها ويأسرها، خلافاً لموازين معكوسة جعلت المظهرية هي الميزان. قيمةُ المرءِ عندهم بين ثوبٍ باهرٍ لونُه وبين حذاءِ ماذا لو خرج العالم حافيًا بين الناس؟ أينقص علمه وقدره؟ ماذا لو انتعل الغبي الجاهل أحسن النعال، أيصبح عالماً فقيهاً؟ ماذا لو لبس المعتوه أحسن الثياب وأجملها، أيغْدُو ذا لبٍ؟ إن كان في لبس الفتى شرف له فما السيف إلا غِمْده والحمائلُ إنَّ الاكتفاء في المقاييس بارتداء الملابس والامتشاطات الساحرة والعطور المنعشة مع عدم النظر إلى التقوى والعلم، والرأي حَيف ونكسة. رب ذي مظهرٍ جميلٍ توارى خلف أثوابه فؤاد خئون إن اللباس الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة ومن زينة الحياة، لكن ليست هي الأصل، وليست هي المقياس في الحكم على الناس، إن التراب مكمن الذهب، فلا يغرنَّك حسن المظهر وحسن الهيئة وجمال الهندام والبزة، فكم ممَّن ارتداها وهو يحمل بينها نخاعاً ضامراً، وفكراً بائراً، وقلباً حائراً، فهل يقدم مثل هذا؟ كلا. وهل تروق دفيناً جودة الكفن {رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه} كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله. لا يغرنك البهاء والصور تسعة أعشار من تراهم بقر ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فالعبرة كل العبرة بصلاح القلوب والأعمال لا بالصور والأموال، ولا بالمظاهر والأشكال، وإنما تُنْصر الأمة بضعيفها، بصلاته ودعائه، فلا تَغرنَّك المظاهر؛ وابْلُ الرجال تحبهم أو تُبغضهم، ومن ثمارهم تعرفونهم. وعلى الفتى لطباعه سِمة تَلُوح على جبينه لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير فإن كنت في شك من السيف فابله فإما تنفيه وإما تعده

التحذير من العجب

التحذير من العجب العشرون: بقدر الصُعود يكون الهبوط؛ بمعنى: احذر العُجْب والتَّعالي والغرور؛ فهو دليل السَّفه، ونقص العقل، ودُنُوِّ النفس، لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار، فيقول له: أنت فعلت وفعلت، حتى يُلْقِي في روْعه أنَّه لا مثيل له ولا نظير، فيعجب بنفسه ويغتر، فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى؛ لأنَّ السعادة إنَّما تُدرك بالسعي والطلب، والمُعْجَب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي، فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه، لا يتقدم لِمَكْرُمةٍ، ولا يرْتَقِي لمنزلةٍ، ولولا السعي لم تكن المساعي. فما خير برق لاح في غير وقته وواد غدا ملآن قبل أَوانه عند ذلك يرفض الحق، ويحتقر الخَلْق، ويُدَاوم تَزْكية النَّفس أمام الخلق، ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق، ثم يَسْتعصي على النصح، ولا يعترف بجهود الآخرين، يُداوم الحديث عما ينجزه من أعمال، ويرفض الرجوع عن الخطأ، بل يُحاول تبرير الخطأ، يَسْتَبِد بِرأْيه؛ فرأيه صواب لا خطأ فيه، لا يستشير أهل التجارب العقلاء، ولا يستنير بآراء الأكياس الفُطَناء، يَهْتَم بشواذِّ المسائل وغريبها، ويُهمل العمل بأصول المسائل، ثم يرفض الجلوس للتَّعلم في حلقات العلم. ألج لجاجاً من الخنفساء وأزهى إذا ما مشى من غراب هو الغريق فما يخشى من البلل جذ السنام له وجذ الغارب فحاله يا له من حال! كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح، تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة، أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعاً، فإذا شبع مات، أو كراكب أراق ماءه لرؤية السَّراب، ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة، أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السَّهل كالنمل، ويراه الناس في القمة كالذر وهو لا يشعر. مثل المعجب في إعجابه مثل الواقف في رأس الجبل يبصر الناس صغاراً وهو في أعين الناس صغيراً لم يزل أو كالسُّنْبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب، تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصُوَيْحباتها، مع أنها لا تصلح إلا علفاً للحيوان، والمملوءة حباً مثقلة بالخير، قد انحنت برأسها ككريم الأصل كلما ازداد من خير تواضع وانحنى العجب باختصار كلبٌ ينبح في قلب صاحبه، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أو كلب. فتنةٌ تضحك أَرْباب النُّهى من مخازيها وتُبْكي البشرا

مآل العجب

مآل العجب والنتيجة مخزية، فنعوذ بالله من الخزي والبوار، يُحْرم المُعْجَب من توفيق الله، فالخذلان موافق له ومصاحب له: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] وتبعاً لذلك: ينال غضب الله ومقته، إن لم يتب. ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: {لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر}. وثبت أيضاً: {من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان}. ثم ينهار المُعْجَب وقت الشدة والمحنة؛ لأنه لم يحفظ الله في الرخاء، فجدير بأن يُخْذَل وقت المحنة: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. ثم إن المُعْجَب يخلق بينه وبين مَدْعُوِّيه جفوةً وفجوةً لا تكاد تُردم، فالقلوب جُبِلَت على بغض من يتعالى عليها، ومن ثَمَّ لا تُقبل دعوته، والمُعْجَب عُرْضَة لانتقام الله العاجل والآجل: {بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجِّل جُمَّتَه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة} كما روى البخاري رحمه الله. أتت النوى دون الهوى فأتى الأسى دون الأُسى بحرارةٍ لم تبرد خدعتهم الأحلام في سنة الكرى ما أكذب الأحلام والتأويلا

أسباب العجب وبواعثه

أسباب العجب وبواعثه له أسباب وبواعث، لعل منها ما يلي باختصار: انحراف المُرَبّي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة، ودوام تزكية النفس بالحق أو الباطل، فيتأثر به من تحت يده. ثم المدح من غير ضوابط شرعية؛ بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد، ومع من لم تخش عليه الفتنة. ثُمَّ صُحبة المُعْجَبين، والمرء على دين خليله، والصاحب ساحب كما قيل. ثم الصدارة قبل النُضُوج والتربية، فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين، تحمله على استحسان ما يعمله؛ مع أن النسب لا يُقَدم ولا يُؤَخر: {كلكم لآدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجُعْلان}.

علاج العجب

علاج العجب علاج العجب: وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطاً عدة لعل فيها العلاج لمن أُصِيب بهذا الداء، عافاني الله وإياكم منه. أولاً: العلم واليقين بأن المِنَة لله عز وجل فيما أُعْطِيت من مواهب وقدرات، والله قادر على أن يَسْلبها ما بين غَمْضَة عين وانْتِبَاهتها: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]. ثانياً: دوام حضور مجالس العلم تلميذاً؛ فإن في ذلك تطهيراً للنفس من ذلك الداء وتعريفاً لها بقدرها؛ وذلك هو الدواء. ثالثاً: خدمة من هم دونك مرتبةً وعلماً وقدراً، ومجالستهم ومؤاكلتهم، وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره. رابعاً: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلةً وعملاً ورأياً وتفكيراً، إن أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أُعْجِبت برأيك، فتفكر في سقطاتك فاحفظها، ثم انظر إلى من هو أعلى منك رأياً، إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه موهبة من الله، وانظر إلى من هو أعلم منك: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. خامساً: تأمل عيوب النفس، ثم جد في محاسبتها أولاً بأول، وأنت أعرف بنفسك، كلٌ منا يصف أواني بيته ومحتوياته، ورَبُّ البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بِشِعَابها، والصيرفي أعرف بنقد الدينار، فإن خفيت على المرء عيوبه حتى ظن أن لا عيب فيه؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، كما يقول ابن حزم: فالعاقل مَنْ ميَّز عيوب نفسه فجَاهَدَهَا، وَسَعى في قمعها، والأحمق من جهل عيوب نفسه، وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها. من أنت إلا عبد مُكَلف موعود بالعذاب إن قَصَّر، مَرْجو بالثواب إن ائتمر، مُؤَلَّف من أقدار، مشحون بأوضار، سائر إلى جنة إن أطاع وإلا إلى نار، أجارك الله من سامع من النار. كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وهو منه وإليه وأخوه ورضيعه وهو يدعوه إلى الحش بصغر فيطيعه لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر العجب شبان ولا شيب هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو ببضع من الآفات مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملعوب يا بن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب وأتم الناس أعرفهم بنقصه كما قيل. سادساً: اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها، واتباع للسنة، وأَنْعِم بها من خُلَّة. إذا لم يكن صَدرُ المجالس سيداً فلا خير في مَنْ صَدَّرته المجالس سابعاً: إنَّ التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب، يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته}. ثامناً: تعويد النفس على حب الفرار من الشرف حتى تعتاد، فمن فرَّ منه وهب له، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه. يقول المدائني: رأيت رجلاً من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب، ثم رأيته سافراً راجلاً متعباً مُنْهكاً يحمل متاعه على ظهره، فقلت له: أراجل في هذا الموضع، وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقاً على الله أن أمشي حيث يركب الناس، ومن تواضع لله رفعه. تاسعاً: الاستعانة بالله، واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفات، ومن استعان بالله أعانه الله. فسل العياذ من التكبر والهوى فهما لكل الشر جامعتان وهما يصدان الفتى عن كل طر ق الخير إذ في قلبه يلجان والله لو جردت نفسك منهما لأتت إليك وفود كل تهاني عاشراً: المُجَاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. حادي عشر: إذا أُعْجِبت بمدح إخوانك، فَفَكِّر في ذَم أعدائك إيَّاك، فإن لم يكن لك عدو، فوالله لا خير فيك، فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يُحسد عليها، عافانا الله وإياكم كما يقول ابن حزم رحمه الله. ثاني عشر: التدبُّر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم، ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وخير من دبَّ على الثرى، وهو الأسوة- أنَّه كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويَعْتَقِل الشَّاة، ويُجِيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، ويقول: {إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد} ويقف بين يديه رجل يرعد كما تَرْعَد السَّعفة فيقول: {هوِّن عليك؛ فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد} يمر بالصبيان فيسلم عليهم. قُسِمَ التَّواضع في الأنام جميعهم فذهبت أنت فَقُدتَه بِزِمَامه صلوات ربي وسلامه عليه، يقول أنس: {إن كانت الأَمَة من إِماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثُ شاءت}. {كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة}. {كان يَخِيطُ ثوبه، ويَخْصِفُ نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم}. {إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده}. لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة. وكان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم ويعود مرضاهم، يشهد جنائزهم، يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم. فكلُّ فعلٍ كريم كان فاعله يحيي القُلوب ويحيي ميِّت الهِمَمِ صلوات الله وسلامه عليه. يلين لكل ذي ضعفٍ وعجز وكم لان لذي جهل فَلانا رسول يحمل الأطفال لطفاً ويجعل عاتقيه لهم حصانا ويختصر القراءة حين يبكي صبيٌّ والموفق من ألانا يلاطف أهله أَكْرِم بزوجٍ يعفُّ الأهل يغمرهم حنانا يقاسمهم متاعبهم معيناً. فكم خصف النِّعال وخاط ثوباً وكم من شاته ملأ الجفانا زعيم القوم خادمهم فطوبى لمن خدم الرعية أو أعانا تشبه بالرسول تفز بدنيا وأخرى والشقي من استهانا فأخلاق الرسول لنا كتاب وجدنا فيه أقصى مبتغانا وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا صلوات الله وسلامه عليه. ويأتي من بعده كوكبةٌ من أتباعه الذين رباهم صلى الله عليه وسلم، ليَنْهَجوا نهجه، ويَسْتَنُّوا بسنته، فإذا أنت بخير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين؛ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضارباً بكل مثبط عرض الحائط، ليخرج في وداعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة: [[يا خليفة رسول الله؛ لتركبن أو لأنزلن. فيقول: والله لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليَّ أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة، وإن شئت أن تُعينني بـ ابن الخطاب فافعل]]. ثم يقولها أخرى: [[لو يعلم الناس ما أنا فيه لأهالوا عليَّ التراب]]. عَضْبُ العزيمة في المكارم لم يدع في يومه شرفاً يطالبه غدا ورُوِى عن الفاروق: أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه، فقال له: [[يا أمير المؤمنين! أغناك الله وأرضاك، وخَوَّلَك الله وأعطاك، فما يَحْمِلُك على ما أنت فيه؟ قال: إن ما تقوله حق، لكن لما جاءت الوفود سامعة مطيعة، دخلتني نخوة، فأردتُ أن أَكْسِر تلك النخوة في قلبي، ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من الأنصار، فأفرغها في جرارها]]. فمن يباري أبا حفص وسيرته ومن يُحاول للفاروق تشبيها ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا، وقالوا: الأمر خطب وعظيم، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: [[أيُّها الناس؛ لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر، أو قبضة من زبيب، فأظل يومي وأي يوم، وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر. فقال ابن عوف رضي الله عنه: وَيْحَك يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية، فقال: ويحك يـ ابن عوف! لقد خلوت بنفسي فحدثتني فقالت: أنت أمير المؤمنين، من ذا أفضل منك، فأردت أن أُذِلَّها وأُعَرِّفَها قدرها]]. كذلك أخلاقه كانت وما عُهِدَت بعد أبي بكر أخلاقٌ تُحاكيها لعل في أمة الإسلام نابتة تجلو لحاضرها مرآة ماضيها وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: [[رأيت عثمان رضي الله عنه نائماً في المسجد في ملحفةٍ له، ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين]]. ظهر الحيا وانهل ذاك البارق ونداك فياح ومجدك سابق وتقسم الناس الحياء مجزءاً فذهبت أنت برأسه وسنامه رضي الله عن عثمان، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويُخْرِج ابن عساكر عن زادان أنَّ علياً رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضَّال، وينشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبيَّاع والبقَّال، فيفتح عليه القرآن. ويرد في صفوة الأخبار: أنه اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفة، فقال له رجلٌ: أحمل عنك يا أمير المؤمنين. قال: [[لا. أبو العيال أحق أن يحمله]] ما تواضع أحد لله إلا رفعه. فَرع سَما في سماء العز مُتخذاً أصلاً ثوى في قرار المجد مغروسا وخالد ما خالد؟ أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ما هُزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في أوج انتصاراته، يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصلحة يراها أمير المؤمنين، فيقول خالد: [[والله لو وَلَّى علىَّ أمير المؤمنين عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت، ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم]]. لانت مَهزَّته فعز وإنما يشتد بأس الرمح حين يلين وقيل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لأَن أَلْقى الله بكل ذنبٍ غير الشرك أحبُ إليَّ من أن أراني أهلاً لتلك المنزلة، اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن يَنال رحمتك، لكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر ". ينسى صنائعه والله يظهرها إن الكريم إذا أخفيته ظهرا ويأتيك الإمام مالك يَبْرق في ثوب التواضع يَرْفُل عزاً، فيقول: ما رأيت مسلماً إلا وظننت أنه خير مني. وكذا السحائب قلما تدعو إلى معروفها الرواد إن لم تبرق واسمع إلى ابن القيم وهو يُحَدِّث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثيراً ما يردد: ما لي شيء، ما منى شيء ولا فِيَّ شيء. أنا المُكَدِّي وابن المُكَدِّي وهكذا كان أبي وجدي ويكتب بخط يده: أنا الفقير إلى رب البَرِيَّات أنا المسيكين في مجموع حالاتي أنا الظَلُوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ ولا عن النفس لي دفع المَضَرَّات والفقر لي وصفُ ذات لازمٌ أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي وهذه الحال حال الخلق أجمعِهم وكلهم عنده عبداً له آتي يُثْنى عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كلِّ وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً. رحمه الله! كأن القائل يعنيه يوم قال: فَصَعَدت في دَرج العُلا حتى إذا جِئْت النُّجوم نزلت فوق الفَرْقَد على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم، لم يتسلل العُجْب إلى نفوسهم، ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم، تواضعوا لله فرفعهم الله، وفي الدنيا والآخرة يكرمهم بإذنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. بتنا نعيش على كرام فعالهم هيهات ليس الحر كالمستعبد

الإيمان بأن المستقبل لهذا الدين

الإيمان بأن المستقبل لهذا الدين الحادية والعشرون: لا تكن يائساً. فالمستقبل لدين الله، والعزة لأولياء الله، منا من رأى تَفَشِّي الشر والمُنْكر وانْتِشاره واستفحاله، رأى العدو تَبَجَّح وتَقَوَّى؛ وتحت ظِل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئاً، ولن نَجْنِي سوى التعب والمشقة، فليس إذاً في السعي فائدة، فإذا بك تنظر إليه مُتَجَهِّم الوجه، عاقد الحاجبين، مُقَطِّب الجبين، رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر. يحسب يوم الجمعة الخميس، مُردداً حين يُطْلب منه خدمة دينه ولو بكلمة: (أنت تُؤَذِّن في خرابة، لا أحد حولك، وتنفخ في قرب مقطوعة) وغيرها من العبارات. تصدا بها الأفهام بعد صقالها وترد ذكران العقول إناثا هَلَك النَّاس في نظره، وقد هلك. وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه النفسية وصفاً دقيقاً في قوله ما ثبت عند مسلم: {إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم}.

مبشرات بانتصار الدين

مبشرات بانتصار الدين معاشر المؤمنين: ممَّا لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوياً أبد الآبدين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. إننا نملك إيماناً بنصر الله لنا، وثقةً بتأييده لنا، ويقيناً بِسُنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده الذي وعد به المؤمنين: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55]. إنه وعد يَشْحَذُ الهِمَم، ويستثير العزائم، ويملأ الصدور ثقةً وإيماناً بأنَّ الدور لنا لا علينا، والتاريخ معنا لا علينا {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173] سُنَّة الله رب العالمين: {لا تزال طائفة من أمتي -أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق منصورة لا يضرها من خالفها}، {وليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. فأنت -أيها المؤمن- أَجِير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت، وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأَجِير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، ومعه الرجلان، والثلاثة، ويأتي من ليس معه أحد: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]. وآية الآيات في هذا الدين أنَّه أشد ما يكون قوة، وأَصْلَب ما يكونُ عُوداً، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً، حين تنزل بساحته الأزمات، وتُحْدِق به الأَخْطار، ويَشْتَد على أهله الكُرَب، وتضيق بهم المَسَالك، وتُوْصَد عليهم المنافذ؛ حينئذٍ يحقق الإسلام مُعْجزته، يَنْبَعِث الجُثْمان الهامد، يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق، ينتفض، يقول فَيُسْمِع، ويمشي فَيُسْرِع، ويضرب في ذات الإله فَيُوْجِع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يَتَشجَّع، وإذا الضعيفُ يَتقوى، وإذا الشَّتِيت يتجمع، وإذا بهذه القطرات المتتابعة والمتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً، لا يقف دونه حاجز ولا سدّ. لا يزخر الوادي بغير شعاب وهل شمس تكون بلا شعاع

الأمة بين الانتصارات والهزائم

الأمة بين الانتصارات والهزائم إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً. حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد. ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية، فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين، على خِلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب المنصور و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44]. لا تيئسوا أن تستردوا عزكم فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى وتجشموا للعز كل عظيمةٍ إني رأيت العز صعبٍ المرتقى إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى ابن كثير، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث. في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـ بيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين. كم طوى اليأسُ نفوساً لو رَعَت مَنْبِتاً خصباً لكانت جوهرا ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم: إن القوي بكل أرض يُتَّقى وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى: يا أيها الملك الذي لمعالم الصُلبان نَكَّس جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي أُنَجِّس فانتخى وصاح: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل. من ذا يُغِير على الأُسود بِغَابها أو مَنْ يَعُوم بِمسْبَحِ التِّمساح وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتصالح ملوك النصارى، وجاءوا بِحَدِّهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم. وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان. وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً، حتى قِيْل: لم يَبْقَ أحد، ويؤسر منهم ثلاثون ألفاً، حتى قيل: لم يُقْتل أحد. فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه. ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس؟ الرءوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين. ودخل المسلمون بيت المقدس، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، وَوَحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون، وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين. ورقي الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. معاشر المؤمنين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجُمَع، ولم تعطل فيه الجماعة، ومع ذلك: يَئِسَت أَنْفُس ونامت عيون فجراح تغدو وتأتي جراح فأين النَّجم من شمسِ وبدرٍ وأين الثعلبان من الهزبر

المؤمن واطمئنانه إلى نصر الله

المؤمن واطمئنانه إلى نصر الله المؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء؛ إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، إن مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وإنَّما يُضْرب ويُؤْذى المتحرك الحي، المُقَاوم كالحديد، يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه، ويبقى طيبه. يؤلف إيلام الحوادث بيننا ويجمعنا في الله دين ومذهب إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولسان حال كل واحد منا: فيقصر دون باعي كل باع ويحصر دون خطبتي الخطيب إني أبي أبي ذو مغالبة وابن أبي أبي من أبيينا إن الوصول إلى القمة ليس الأهم، لكن الأهم البقاء فيها، إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس -والله- الدواء في بكاء الأطلال، وندب الحظوظ، إنه في الترفع على الواقع بلا تجاهل له، الاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من أوهاقه ويأسه وخباله، بالإرادة الحرة القوية الأبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية. إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل؛ شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين، ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع إلى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة، وحاله: فليس يجلي الكرب رأيُ مسددٍ إذا هو لم يؤنس برمحٍ مسددِ

إنما يأتي النصر لمن يستحقه

إنما يأتي النصر لمن يستحقه إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله. فإذا حاولت في الأفق منى فاركب البرق ولا ترض الغمام وما السيف إلا زبرة لو تركته على الخِلقة الأولى لما كان يقطع ألا إنني لا أركب اليأس مركبا ولا أكبِر البأساء حين تغير نفسي برغم الحادثات فتية عودِي على رغمِ الكوارثِ مورِق أيها اليائس مت قبل الممات أو إذا شِئت حياة فالرجا لا يضِق ذرعك عند الأزمات إن هي اشتدت وأمل فرجا البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت والماء يأسن إن أقام طويلا صانع السيف كمن يشهره في سبيل الله بين الجحفل حقق الله لنا آمالنا وعلى الله بلوغ الأمل هذا مجمل ما أردت قوله، وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله، أو تغره النفس بكثرة وقله، إن هي إلا إشارات؛ بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات، لم آت فيها على آخر فرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة، قد قلت بمقدار ما اجتهدت، وما شهدت إلا بما علمت، ومن جعل أنفه في قفاه؛ فإنما السوءة أن يفتح فاه، على أنني كنت قد عجزت، ووعدت بالكلام أكثر فما أنجزت، لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه، وإن لم أستقر في ذراه، إن هي إلا لبنة على الطريق، وأرجو أن تكون بقدر الياقوت والعقيق، وما أُراني بعد قد شفيت غُلة النفس، وبلغت بها أمنيتها؛ فإنها تنظر إلى كثير وكثير، وأما أنا فإني أشد فقراً إلى عون الله وتثبيت وتوفيق. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع بهذه الإشارات القليلة، وأن يتقبل منا ومنكم ويصلح السريرة، ويحسن الطوية؛ هو ولي ذلك والقادر عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

كتاب إشارات على الطريق

كتاب (*) إشارات على الطريق فضيلة الشيخ: علي عبد الخالق القرني بسم الله الرحمن الرحيم إشارات على الطريق مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد .. فإن العمل الدعوي ميدان رحب ومجال الحركة فيه بحر إطاره الأرض مطلق الأرض وميدانه الإنسان من غير حد للون أو الجنس أو اللغة وعمل بهذه الساعة يحتاج إلى تضافر الجهود وبذل المجهود لأقاض العقول الهاجعة ونفخ الروح بوحي الله في الجثث الهامدة وحداء هذه اليقظة الإسلامية الأصلية لتنطلق في وضوح لغايتها فتعرف ما لها وما عليها تتلمس الدواء لأدوائها وتطرح اليأس في خضم آمالها ببعث آمالها. لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ومن هذا المنطلق كانت هذه الخواطر المتواضعة المألوفة من شاردة هنا وواردة هناك. عنونتها بـ (إشارات على الطريق) للدعاة وطلبة العلم. معتذرا فيها عن التقصير والخطأ ابتداءً. جمعتها من أقوال أهل العلم محيلا إلى كتبهم وغير محيل أحيانا لبعد العهد ليس لي فيها سوى الجمع والتأليف، والصياغة، والفضل لله ثم لأهلها. ألقيتها في محاضرتين بالعلا وينبع قبل بضع سنين ولم يزل بعض اخوتي يلح عليّ في جمعها في ورقات لينتفع بها من يغلب القراءة على الاستماع. ثم قام أحد الاخوة محتسبا -وفقه الله لما يرضيه- بنسخها وترتيبها وترقيم آياتها وتقديمها لي. فلم يكن عند ذاك بد من النظر العاجل فيها على خاطر كليل وقلم غير بليل وكان. راجيا أن أكون أحسنت فيما استحسنت مما جمعت، وألا يكون ورما ما استسمنت على أنه لكل كاسد سوق ولكل ساقط لاقط - كما قيل - والحال: لا خيل عنك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه قد نظر الشيخ - حفظه الله - في تفريغها، فهي تختلف عن المادة السابقة

وما بقيت من اللذات إلا ... مخاطبة الرجال ذوي العقول وإن كانوا إذا عدوا قليلا ... فقد أضحوا أقل من القليل أرجو الله أن تأتي أكلها وأن يخلصها لكاتبها وقارئها وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرا عملوا به وبالأجر للقائل دعوا وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين الذين إن رأوا هفوة صرخوا وهتفوا كشيطان العقبة وطاروا بها وفرحوا وجاشوا واستجاشوا. وهو ولي اللذين آمنوا… .. على الله وحده اعتمادي وإليه وجهتي واستنادي، الصواب منه والخطأ من نفسي وتقصيري والخير أردت وإلى الله أنبت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإله أنيب. والحمد لله رب العالمين. علي بن عبد الخالق القرني 23/ 3/1421هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربنا من شيء بعد على أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لله عبد. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خيرته من خلقه وأمينه على وحيه جعل الله الذل والصغار على من خالف أمره وسد إلى الجنة كل الطرق فلم بفتحها لأحد إلا من طريقه صلوات الله وسلامه على خاتم رسله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستمسك بهديه وسنته. اللهم إني أسألك الثبات والهداية وأعوذ بك من الخذلان والغواية. اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورا أو أغشى فجورا أو أن أكون بك مغروراً. إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله وما أوضح الحق عند من هديته سبيله إليك وجهت يا مولاي آمالي ... فاسمع دعائي وارحم ضعف أحوالي ولا تكلني إلى من ليس يَكْلَؤُني ... وكن كفيلي فأنت الكافل الكالي .

المقيم على سفر

إلهي ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل والعمل القليل وامنن عليه في عمله بالتأثير والقبول واكنفه تحت ظلك الظليل يا كريم يا جليل.… فالطريق شاق طويل والزاد قليل والأمل والرجاء فيك يا جليل…. المقيم على سفر قيل لأحد الحكماء: مالك تدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض فقال: لأذكر أني مسافر. حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ... عليّ ولا أني تحنيت من كبر ولكنني ألزمت نفسي حملها ... لأعملها أن المقيم على سفر الطرق كثيرة متشعبة أمام المسافر. وفي وسطها طريق واحد هو الموصل للغاية المنشودة لا غيره معلن عليه: أن المقيم على سفر فلا يركن وهذا هو الطريق الحق فلا يُتَنكَّبْ. الحاجة فيه ماسة للزاد والعدة فمن أراد الخروج أعد العدة وحدا حادية عندها: أوانا في بيوت البدو رحلي ... وآونة على قتد البعير .لا تأذن الحكمة على هذا الطريق بالقفز وتجاوز التدرج بل جوهر تخطيطه مرحلة. مرحلة. منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بطاءُ وفي إبطائنا سِرَعُ (إنه طريق تعبيد النفس والناس لله رب العالمين وإخراجهم من الظلمات إلى النور) ولا شك انه طريق شاق طويل ولكنه مضمون ثابت مأمون إن كنا نريد أن نصبح أمة مسافرة على هذا الطريق في قوة وعزة ورسوخ فلا بد أن نخلق في أنفسنا غاية إرضاء الله في منهج يؤدي إلى هذه الغاية وهو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة مع عزيمة على مخطط طويل الأمد لا ننتظر فيه الوصول إلى الهدف النهائي بمجرد بدء الجهد ولكن لا نزال ماضين ومن سار وصل. وعلى الله قصد السبيل. * * * * *

مسافرون

مسافرون يقول ابن القيم رحمه الله: (لم يزل الناس مذ خلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم أو في النار دار الجحيم، والعاقل يعلم أن السفر بطبعه مبنيٌ على المشقة والأخطار بل هو قطعة من العذاب واللاواء، ومن المحال أن يطلب في السفر عادة النعيم والراحة واللذة والهناء، فكل وطأة قدم أو أنة من أناة المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة والمسافر غير واقف. فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المفاوز والقفار. وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في هذا المضمار بين فارس وبين راجل وبين أصحاب حمر معقرة. سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع هلكى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى، لا تعجب لهالك كيف هلك ولكن أعجب لناج كيف نجا، الرواحل قليلة والبعض في هذا السفر كإبل سائبة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبل نجيبة صابرة نادرة وأنعم بها من راحلة، النجائب في المقدمة وحاملات الزاد في المؤخرة. رفعت لنا في السير أعلام ... السعادة والهدى يا ذلة الحيران فتسابق الأبطال وابتدروا لها ... كتسابق الفرسان يوم رهان وأخو الهوينى في الديار مخلف ... مع شكله يا خيبة الكسلان إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد ولا سبيل إلى ركوب هذا الطريق إلا بأمرين: أحدهما: ألا يصبوا في الحق إلى لوم لائم فإن اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه. والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وإلى الأرض أخلدت.

ما لابد منه

ما لابد منه: لا بد من المسافر من رفقة، ومن عدة وعتاد، ودليل ومنهاج واستعداد بزاد، وهدف ووجهة، ومحطات استراحة، ووسائل مثبتة، وإشارات مرشدة. ومركب. فمركبه: صدق اللجأ إلى الله والانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المكلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء عنده فهو يطلع إلى قيِّمه ووليّه أن يجده ويلم شعثه ويمده من فضله ويستره. فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته ويكشف له ما خفي على غيره من الطريق. دليله ومنهاجه: أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه- ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)). ومن سلك طريقا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل ذل. كن في أمورك كلها متمسكاً ... بالوحي لا بزخارف الهذيان وتدبر القرآن إن رمت الهدى ... …فالعلم تحت تدبير القرآن عدة المسافر وزاده: أما عدة المسافر وزاده: فإيمان وعمل صالح: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96) أين النفوس ترامى غير هائبة ... أين العزائم تمضي ما بها خور العلم بالحق والإيمان يصحبه ... أساس دينك فابن الدين مكتملا لا تبن إلا إذا أسست راسخة ... من القواعد واستكملتها عملا لا يرفع السقف ما لم يبين حامله ... ولا بناء لمن لم يرس ما حملا ومن الزاد: إخلاص لله وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: من الآية5).

ومن الزاد

(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الزمر:2). (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ... ) (الزمر: من الآية3) فالفضل عند الله ليس بصورة ... الأعمال بل بحقائق الإيمان والله لا يرضي بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: من الآية2) وحسب نفسك إخلاصا يزكيها. ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قول ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) ويقول الله جل وعلا: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: من الآية7). (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: من لآية63). فيا أيها المسافر: من عمدة عدتك اتباعه. فتدور مع قول الرسول وفعله ... نفيا وإثباتا بلا روغان ورحم الله الحكمي يوم قال: شرط قبول السعي أن يجتمعا ... فيه إصابة وإخلاص معا لله رب العرش لاسواه ... موافق الشرع الذي ارتضاه وكل ما خالف للوحيين ... فإنه رد بغير مين جماع الزاد وجماع الزاد هذا كله: تقوى الله جل وعلا: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: من الآية197)، إنها العز والنسب، والسبب والفخر والكرم. إلا إنما التقوى هي العز والكرم ... فلا تترك التقوى اتكالا على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب فـ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد:1). فالزاد إذا إيمان وعمل صالح في إخلاص ومتابعة في تقوى. فإذا هي اجتمعت لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان

ولا بد للمسافر من رفقة وصحبة، فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب - كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -. والمسافر مهما تكن مواهبه، ومهما يكن عطائه ومهما تكن قدراته، فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة ما لم يكن له أعوان يشدون أزره، ويقوون أمره، يذكرونه حين ينسى، يعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه، قوي بأخوانه. وما المرء إلا باخوانه ... كما تقبض الكف بالمعصم ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - وهو الملقب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير فقال - كما أخبر اله في كتابه-: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً) (طه:29 - 35) ماذا قال الله؟ قال:) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه:36) وفي القصص يقول الله: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ). فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تحدده وتميزه، لعلنا نقف عندها باختصار، منها: *أن يكون مؤمنا: ((فلا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي أن يكون مؤمنا، فلا بد: *أن يكون عاقلا: لأن الأحمق قد يثور عليك فيغضب فيجني عليك وعلى نفسه ويقعد بك عن الهدف المرسوم الذي رسمته لنفسك، وصدق ونصح من قال: أحذر الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق كلما رقعته من جانب ... زعزنه الريح يوما فانخرق أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يرتتق ... كلا *أن يكون عدلا غير فاسق:

محطات الاستراحة

أقول ذلك لئلا يجرك فسقه، ود صاحب الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعا، لئلا يكون نشازا بينهم *أن يكون غير مبتدع: لئلا يلقى عليك الشبه فيتشربها قلبك والقلوب ضعيفة والشبه خطافة كما يقول العلماء. *أن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا: وصدق من قال: شبيه الشيء منجذب إليه، وخير الكلام كلام الله يوم قال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37). وإن لم يكن رفقتك بهذه الأوصاف فإني أخشى أن لا تبلغ وجهتك في سفرك، وأن تكون - أجارك الله - ممن يقول حين لا نفع: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (الفرقان:28). قد تفسد المرعى على أخواتها ... شاة تند عن القطيع وتمرق *محطات الاستراحة: أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يكل، وينصب، ويتعب، ويمل، وراحته وأمنه وسكينته (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النور:36) ومن لا يعرفها فحاله كقول القائل: إن مات مات بلا فقد ولا أسف ... أو عاش عاش بلا خلق ولا خُلق هدف المسافر ووجهته: أما هدف المساغر ووجهته: فللمسافر وجهة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور يدور في السياقة ويدور ويدور ثم ينتهي من حيث بدأ. أو كالسفينة التي تسير في البحر بلا مقصد تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها. فما وجهتنا - عباد الله -؟ إنها (َجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: من الآية133). من رام وصل الشمس حاك خيوطها ... سببا إلى آماله وتعلقا

حفت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منوطة بالمكاره، ومن تأمل نيل الدر من البحر وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمل دوام البقاء في نعيم الجنة علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمس عشرة صبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين إن حصلت عجز وضعف، والتوسط نوم ونصف زمانك أكل وشرب وكسب وللعبادات منه زمن يسير. عمرك محدود فأدرك به ... بعض الأماني وانتهز واعقل أفلا يشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟! خاب والله وغبن وتعس وانتكس من باع الجنة وما فيها بشهوة ساعة، غبن، فاحش، خلل، وهوان، تالله ما العيش إلا عيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يوؤذي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم. والذل في دعة النفوس ولا أرى ... عز المعيشة دون أن يشقى لها من جد وجد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوثبة أسد. (تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرضى لها بثمن دون بذل النفوس، تأخر البطالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين. عرفوا عظمة المشتري، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع فرأوا من الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الراضون أو التراضي، فربح البيع لا إقالة ولا إستقالة). سعوا للمعالي وهم صبية ... وسادوا وجادوا ومهم في المهود إنها سلعة الله وكفى؛ سلعة الله غالية جد غالية، تحتاج إلى مثابرة، وجهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة. ومن هجر اللذات نال المنى ومن ... أكب على اللذات عض على اليد يا سلعة الرحمن ليست رخيصة ... بل أنت غالية على الكسلان

وسيلة تثبيت واتزان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها ... في الألف إلا واحد لا إثنان يا سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عرضت بأيسر الأثمان يا سلعة الرحمن هل من خاطب ... فالمهر قبل الموت ذو إمكان يا سلعة الرحمن لولا أنها ... حجبت بكل مكاره الإنسان ما كان عنها قط من متخلف ... وتعطلت دار الجزاء الثاني لكنها حجبت بكل كريهة ... ليصد عنها المبطل المتواني وتنالها الهمم التي تسمو إلى ... رب العلا بمشيئة الرحمن فاتعب ليوم معادك الأدنى ... تجد راحته يوم المعاد الثاني فحى على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على روضتها وخيامها ... وحي على عيش بها ليس يسأم وسيلة تثبيت واتزان: وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان: إنها الدعوة اإلى الله الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق، فإن لم تدعهم إلى الحق الذي تحمله دعوك إلى الباطل، إن لم تغزهم بالحق غزوك بالباطل، إن لم تعرض عليهم الحق عرضوا عليك الباطل في صور الحق، فارفع على الطريق: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف:108) لا لدنيا أو هوى أو عصبة ... دون خزي أو نفاق أو خطل إنها صدق وإخلاص لمن ... هو يجزي وحده عز وجل

فارفع على الطريق هذا الشعار، وأعلم: (أن العمل لا نهاية له، إطاره الأرض- مطلق الأرض- وميدانه الإنسان من غير حد للون ولا لجنس ولا لغة)، إنها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل. وعمل بهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة، إلى دراسات متأنية، على نبذ للفوضوية ولو بحسن نية، فالارتجال والفوضى خلل ووهن واضطراب في التصور، لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، (جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، يحتكم إلى حقائق الكتاب والسنة لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقف على الأرض، فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البر، ولا يحرث في البحر، ولا يبذر في الصخر، لا ينسج خيوطا من الخيال، ولا يبني قصورا في الرمال)، ولا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يقدم على الأهداف. ولسنا بدعا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الأسوة والقدوة - لما هاجر إلى المدينة خرج بطريقة مدروسة منظمة عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكلا على ربه ويظهر من خلال ما يلي: أولا: الاتصال بالأنصار الذي تم من خلاله بيعة العقبة الأولى. ثانيا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير إلى الأنصار ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله. ثالثا: بيعة العقبة الثانية التي هي شد للوثاق والعهد على النصرة في المنشط والمكره والعسر واليسر، بعد ان استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك. رابعا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة حتى لم يبق بمكة إلا محبوس أو مفتون.

خامسا: استبقاء علي رضي الله عنه بمكة لحاجته إليه في أداء الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولمهمة تأتي. سادساً: إتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. سابعا: إنتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه. ثامنا: إعداد الرواحل، ودفعها إلى هاد خريت من قبل أبي بكر، ومواعدته الغار بعد ثلاثة ليال. تاسعا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه. وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده ليخبره بإذن الخروج، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: (إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بانه قد أذن له في الهجرة). عاشرا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في سريره صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوم؛ تعمية عليهم. حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثه في الغار ثلاثا. ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر رضي الله عنه أسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها. ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولا بأول. رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساء على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس أثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد على الغار.

الإشارة الأولى: أنو الخير واعمل بمقتضى هذه النية

إن الهجرة أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم بكل الأشباب متوكلا على ربه، قبل أن يعلن النفير، وتدق ساعة الصفر - كما يقال- ولا غرور فهو القائل: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))، كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للإنضباط في جميع شؤون الحياة من سفر وإقامة مع نبذ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معها النية والله عز وجل يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) بهداه أيها الداعي اقتده ... وابتغ الأخرى وأخلص في العمل فأحزم الناس من لو مات في ظمأ ... لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا كأني بك بعد هذا كله قد حددت وجهتك. وعرفت طريقك. وأخذت عدتك وأهبتك. واخترت رفقتك. وأخذت بجميع أسباب نجاتك في سفرك. فدونك هذه الإشارات التي لا بد منها لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك من العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في الميسر. * * * * * الإشارة الأولى: أنو الخير واعمل بمقتضى هذه النية بالنية يتحدد السفر، وتتضح الواجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يستجلب التوفيق بها ويحصل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة. (وسنة الله أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية أن يوفق ويسدد ويؤيد ويبلغ من الخير ما يريد). وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: من الآية100).

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) (الشورى: من الآية20). (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19) ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية حرم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإن بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (الاسراء:18). ويقول (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ... ) (هود:15 - 16). (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: من الآية145)، فانو الخير واعمل بمقتضى تلك النية فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، (وإنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم. القصد وجه الله بالأقوال ... والأعمال والطاعات والشكران وبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقا عابد الرحمن * * * * *

الإشارة الثانية: خليج صاف أطيب من بحر كدر

الإشارة الثانية: خليج صاف أطيب من بحر كدر بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين، بمعنى ثالث: (من لا يخلص لا يتعب، فهو كالذي يحشو جراب العمل رمل يثقله ولا ينفعه، إن من سلك الطريق بلا إخلاص كالذي يريد كسر الجوز بالعهن، أو كمن يحدو وماله بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شبع، كالوحش بلا جبل)، لا شك انه لهدفه لا يصل، العمل صورة والإخلاص روح العمل، عمل المرائى بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والريا جيفة. فاحذر كمائن نفسك اللاتي متى ... خرجت عليك كُسرت كسر مهان (لما أخذ دود القز ينسج الحرير أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القزة لي نسج وتلك نسج ولا فرق بين النسيجين، قالة دودة القزة: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق). ليس التكحل في العنين كالكَحَلِ وما كل دام جبينه عابد، وفي عنق الحسناء يستحسن العقد، والنفيس نفيس أينما كان. ورب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب شوقا ... وينطق بالهوى من قد تباكى جماع هذه الإشارة: ( ... وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: من الآية110) * * * * * الإشارة الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر به يعرف السهل من الطريق الوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام، فهو أساس السفر ولا بد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتني لمسافر مكدود، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: من الآية9). لا يكون العلا مثل الدنا ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي

ومن تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق وارتفع وبرع (ولما كان المجاهد لا ينكأ عدوا إلا بسلاح وعدة فكذلك المتعلم والمعلم لا يصنع أمة ولا يكشف غمة ولا يزيل ظلمة إلا إلا بعلم وعمل من أثر أو سنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: من الآية21. ومن لا يربيه الرسول ويسقه ... لبنا له قدر من ثدي وحيه فذاك لقيط ما له نسبة الولا ... ولا يتعدى طور أبناء جنسه العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغرس، والبناء من غير أس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس. فما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام العلم أبلغ من القول (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: من الآية43)، والناس أبناء ما يحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، (ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحا بليغا مؤثرا بارعا فإن كلامه لا يتجاوز الآذان ما لم يعمل به، حتى إذا عمل به دبت فيه الحياة؛ دبت بكل كلمة ينطق بها، واتجهت كل جملة كأنها قذيفة ترههف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجا عمليا يتقبله الناس راضين به عاملين مذعنين) لا يغني العلم شيئا لوحده، لأن العلم لا يعمل وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه. يقول السيد قطب رحمه الله: (إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق ... عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق .. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة لآنها منبثقة من حياة). وعادة السيف أين يزهي بجوهره ... وليس يعمل إلا في يد بطل

والذين يعلمون ثم لا يعملون أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون بئس ما يصنعون، إنما هي أوعية للعلم يسيرون ثم لا ينفعون بل قد يضرون، جلسوا على باب الجنة - كما يقول ابن القيم رحمه الله -: (يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افرنقعوا لا تسمعوا لو كان حقا ما يدعون إليه كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصور هداة مرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق). أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5). ما يغني الأعمى معه نور الشمسي لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنما هو كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه، عليه بوره ولغيره نوره، يحق عليه قول القائل: فأسعدت الكثير وأنت تشقى ... وأضحكت الأنام وأنت تبكي خير من القول فاعله وخير من الصواب قائله: ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب السبيل وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ ... والماء فوق ظهورها محمول

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ)، قول الله في سورة النساء، عملوا بمقتظى ما عملوا (لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66 - 68)، كم وكم؟ من قدوات ظاهرا لم تعمل بمفتضى ما عملت فسقطت وتكشفت على الطريق فيما بين غمصة عين وانتباهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكون كالمنخل يخرج الدقيق الطيب ويمسك النخالة، تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه وإن إجتهد ألا يصيبه، فويحكم ثم ويحكم ثم ويحكم. أيها العالم أياك الزلل ... واحذر الهفوة فالخطب جلل هفوة العالم مستعظمة ... إن هفا أصبح في الناس مثل إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل انت ملح الأرض ما يصلحه ... إن بدا فيه فساد وخلل أيها المسافر على علم: (لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون اعلاها وأسماها وأنت قادر عليه، فإني لأربأ بك أن تكون كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر أو كغارس الشعراء حيث يزكو النخل والتين والزيتون)، فتسبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ثم أصغ سمعك للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: (استكثر من العلم الشرعي زادا لك ما شئت، وتبحر في الدقائق مخلصا ما استطعت، واجب من عذلك أو خالفك بقول من صدقك. أتانا أن سهلا ذم جهلا علوما ... ليس يدركهن سهل علوما لو دراها ما قلاها ولكن ... الرضا بالجهل سهل أما قد علمت وعملت فإن من مفتضى العلم أن تدعو غيرك إلى العلم الذي عرفته بالحجة والبرهان على بصيرة وهدفك إخراج من تدعوه ونفسك من الظلمات إلى النور من الانحراف إلى الاستقامة التي تنال رضى الله بها في الدنيا وفي الآخرة.

هذا شيخ الإشلام ابن تيمية رحمه الله يفسر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)، فيقول: (فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعال: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122). والجن لما سمعوا القرآن (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الاحقاف: 29). وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله يقول: (وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، واما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفائهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه). وليسيت هذه المنزلة العليا في الدنيا إلا منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك: (ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم) و (هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر). وها هو رحمه الله يقارن بين الشجعان يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول: (الزاهد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات النبياء عليهم السلام).

إن الحاجة إلى الدعوة ماسة، لأن العقول لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها التي تكفل لها في الدنيا الآخرة، لأنها لا تُهدى وحدها إلى تمييز الخير من الشر، فكثيرا ما يبدو لها الشر في لباس الخير فتقع فيه، وكثير ما يظهر لها الخير في صور الشر فتعرض عنه (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216) فمهما توسعت أفهام الإنسان ومداركه ومعارفه فإنه يبقى قاصرا محدودا ومن ثم كان لا بد من الدعوة على أيدي الرسل وأتباعهم. فإذا اتضح الهدف سرت في هذه الحياة على هدى وعندها بادر بعمل دؤوب في طموح وجدية وأخذ بقوة تستشعر قوله الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ً) (مريم:12)، وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة:63). ((خذوا ما أتيناكم بقوة)). إذا كان ما تنويه فعلا مضارعاً ... ألا فاجعله ماضيا بالجوازم في ثبات ومسارعة (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:42)، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الانبياء:90)، في تدرج وأناة واعتدال ومداومة (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7 - 8)، في شجاعة وعدم تهيب وتردد. ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر في بصيرة وفرقان بإتقان (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف:108)، في استشارة حازم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، في عزيمة وتصميم مع وتوكل دون تسفيه رأي أو إنقاص قدر (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران:159) إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا

إذا كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا ... فإن فساد العزم أن يتقيدا إذا هممت فبادر، وإذا عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر. ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحول وعلى الطريق تضع لك حاديين مرعبين حافزين. أحدهما: قول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33). وثانيهما: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)). إن هدى الرحمن شخصا واحد ... بك خير لك من بحر درر وهو خير لك عند الله من ... ما بدا للشمس أو نور القمر ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) متفق عليه. فإن لم ينفع الحاديان، فعلى الطريق وعيدان محذران لها أن تثير في نفسك الشعور بخطر الفتوروالتهاون والكتمان. أحدهما: ما اخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وتلا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}» [البقرة: 159 - 160] وثانيهما: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كتم علما ينتفع به جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)). ورواه أبو داود في كتاب العلم والترميذي بلفظ: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)) قال الترمذي حديث حسن صحيح.

فهل يجوز سكوت ... أو يستساغ النمير الخطب خطب عظيم ... والأمر أمر خطير فإن لم يحرك فيك الوعد ولا الوعيد، ولا الترغيب ولا الترهيب، إذ تبلد الإحساس فلا مساس، فقف على أخبار أهل الأهداف، علك أن تشتبه بهم، فيثور فيك الحماس على أساس. (في مؤتة خؤج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع، هدفهم: (إن هي إلا إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة في سبيل الله) فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقام عبد الله بن رواحة وقال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيد حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبد حتى يقال إذا مراوا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا ولما رأى المسلمون جموع الروم - الجموع الكبيرة - نظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام إبن رواحة فقال: والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما الشهادة. تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم وخر صريعا رضي الله عنه وأرضاه. أخذ الراية جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليّ إذا لاقيتها ضرابها فقطعت يمينة، فأخذ الراية بيساره، فقطعت فاحتضن الراية حتى قتل كالأسد. رحمة الله على ذاك الجسد. ثم أخذهاإبن رواحة كالليث، ونالته الجراح -وأي جراح- فحاله:

هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت يا نفس أإلا تقتلي تموتي ... هذا حياض الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت وإن تأخرت فقد شقيت (ثم قاتل ثابتا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديه). أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الإقتحام، وكانت الشهادة وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة، الطريق شاق وتكاليف وعوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إدارته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته. ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب ولم يتأخر من أراد تقدما ... ولم يتقدم من أراد تأخرا ويذكر الذهبي في سيريه: (أن نور الدين الشهيد لما نزل دمياط بقي عشرين يوما صائما لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما التقى العدو وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش ومرغ وجهه في التراب وقال يا رب، من نور الدين؟ الدين دينك والجند جندك وافعل يا رب ما يليق بكرمك فنصره الله نصرا مؤزورا). كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب. قام في حلب بعمل منبر عظيم لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك فلم يلتفت إليهم وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا (هود:38)، كان يريد بذلك المنبر بث الروح، وبعث الهمم، وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفتح بيت المقدس، ونصب له منبره بعد وفاته، نصب على يدي تلميذه صلاح الدين وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة. والسيف يبلغ ما لا يبلغ الكلم.

هذي الغرائز لا ما تدعي القضب ... هذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب والصارم الغضب الذي فتح الورى ... ما زال في يد أهله مسلولا إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الهمم السامية ساكنا، إذا قد صرت جلمودا ساكنا، فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟ أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدا منك وانت تتعامل مع الله الكبير المتعال ثم تتقاعس. إذا فقد الإنسان صدق انتمائه ... وأضحى بلا قلب فليس بإنسان أعمى أصم عن الحقيقة أبكم ... بالنوم في الفرش الوثيرة تغرم والصمت كهفك والظلام مخيم تدعى ولكن الذي يدعى سها ... أمسى على ماء التخاذل يهرم من أنت يا هذا أمالك في الورى ... عقل يفكر في الأمور فيحسم إني لأرجوا أن أراك مزمجرا ... انا مؤمن بمبادئي أنا مسلم قد قمت أرقى في مدارج عزتي ... علمي دليلي والعزيمة سلم ذهب الرقاد فحدثي يا همتي ... إن العقيدة قوة لا تهزم لغة البطولة من خصائص أمتي ... عنا رواها الآخرون وترجموا من ذلك الوقت الذي انتفضت به ... بطحاء مكة والحطيم وزمزم منذ التقى جبريل فوق ربوعها ... بمحمد يتلو له ويعلم فلا تستشر غير العزيمة في العلا ... فليس سواها ناصح ومشير فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيء فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها،:

هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهل للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن إبني أذكى منك، ثم أخذته وعلمته في بيتها حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به، فلم يفل عزمه مع طرده من المدرسة بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه (ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة ألاف تجربة)، بعمل يتراوح بين ثمان عشر ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جلد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها بل أن النجاح - كما قيل- يجر إلى النجاح فينطلق بعد عشر سنوات في البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في سكك الحديد وإضاءة الغواصات، ويسأل متى الإجازة يا أديسون؟ قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي. هل استفاد أديسون من إضاءة المصابيح واختراع البطارية؟ هل استفاد فائدة؟ نعم! استفاد شهرة واستفاد مالا، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله، لأنه لم يقل يوم من الأيام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:82)، (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23)، أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلدا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟ خيبة وخسارة وخذلان. أدنى الفوارس من يغير لمغنم ... فاجعل مغارك لمكارم تكرم أيها المؤمنون لا تتوانوا ... فالتواني وسيلة للتباب فإذا المصلحون في القوم ناموا ... نهضت بينهم جيوش الخراب فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك، إذ أنك ثمل الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن، يحق عليك قول القائل: يخبرني البواب أنك نائم ... وأنت إذا استيقظت أيضا فنائم

لم يحرك فيك ما مضى ساكنا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خورك، فإن ذلك أقبح من ضعفك وأشنع من خورك وقعودك، ولكن سل الله أن يرفع ما بك فهو خير لك. يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونشره شبعان ريان متكئا على أريكته حتى إذا ما طلب منه نصرة دينة ولو بكلمة أو كلف بأبسط مهمة لخدمة دينه انبرى يتهرب من المسؤولية ويورد لك الأدلة الصحيحة على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفا وسيئا في المستقبل ولا بد من العزلة، فيوقعها على حاله فإذا به ينبري ويقول: إن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: ((يوشك ان يكون خير مال المرء المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينة من الفتن)). ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)). وهكذا دواليك. يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى، فاول ما يجنى عليه اجتهاده. تعود نقض العزائم فحيل بينهم وبين الغنائم ويجلس الآخر شبعان ريان متكئا على أريكته حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق في القذيفة مردداً: ((ياحنظلة ساعة وساعة)) وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم غير هذا. إن لم تقم بالعبء أنت ... فمن يقوم به إذن إن الذين لا تغلي دمائهم ولا تلتهب نفوسهم ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين لا يعقد عليهم أمل، ولا يناط بهم رجاء أموات غير احياء والميت لا يحس بالأوجاع وما يشعرون أيان يبعثون. إن النائم يوقظ، والغافل يذّكر، والذي لا يجدي فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميت وإنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبله (ً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (غافر:13) * * * * *

الإشارة الرابعة: إنما عليك الجهد

الإشارة الرابعة: إنما عليك الجهد افعل وسعك وطاقتك، وما تستطيع الدوام عليه لئلا تنقطع في الطريق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإذا صلحت المقاصد لم يخب القاصد. على المرء أن يسعى إلى الخير جاهدا ... وليس عليه أن تتم المقاصد * * * * * الإشارة الخامسة: وتعاونوا على البر والتقوى المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسؤولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع، التعاون من اجل تمكين منهج الله جل وعلا في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر ثم تستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق، ((والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) وكل يستفيد من الآخر، إذا عن بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله أصبح حبلا متينا يجر الأثقال.

ذكر صاحب (مواقف إيمانية) أنه في حج 1395هـ رأى آلاف الحجاج منظرا يثير المشاعر ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجين أحدهما أعمى قادر على المشي، والثاني مشلول بصير العنين، أراد الأعمى ان يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجان على أن يحمل الأعمى المشلول فالحركة من الأعمى والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمها الله فالأمر ليس هينا وكلكم يعلم؛ عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة، والثقة بالله عظيمة، ورجاء ما عنده ينسى المتاعب والمكاره والمشقة)، أدوا فريضتهم ضاربين أروع المثلة في التعاون والإستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين فكيف لو تظافرت جهود امة بطاقاتها ومواهبها، وإمكاناتها في خدمة دينها، كيف يكون الأمر لا شك انه سيكون: كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا إن التعاون طريق إلى البناء والنجاح، ونظرة يلقيها المرء على خلق الله تؤكد هذا الأمر (أمة النحل أمة عجيبة، طائفة من أمة تبني البيوت، وطائفة تنظفها، وطائفة تحرسها وتحميها، وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة تمتص الرحيق لتأتي به وتخرج العسل اللذيذ () وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأنعام:38) والنمل تبني قراها من تماسكها ... والنحل يجني رحيق الزهر أعوانا إن يدا واحدة لا تصفق -كماقيل- حتى إذا لم يبق إلا تلك اليد أدت ما عليها غير ملومة وحالها: إذا عز في قومي المسعفون ... فإنك يا خالقي مسعفي فما أنا بالمستسيغ القعود ... ولا أنا بالشارد المسرف

الإشارة السادسة: إنما السيل إجتماع النقط

يقول السيد محمد نوح: (رغيف الخبز على صغر حجمه لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرسه؟ ومن حصده ومن نقله إلى الجرن؟ ومن داسه؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن؟ ومن؟ ومن؟ ... هناك أسئلة كثيرة. هذا الجهد في رغيف الخبز، فكيف بالأمر في خدمة دين الله) والتمكين له، في بناء النفوس، في صنع الرجال، في كشف الظلم وإنارة البصائر، إنه يحتاج إلى تظافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة:71)، فهيا إلى التلاحم وهيا إلى التعاون وهيا إلى التآزر. فالنصر لم ينزل على متخاذل ... والرزق لم يبعث إلى متواكل ولنترك اللوم والتوبيخ، فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى. وعند كل من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى معكر إضافي، فليحول كل منا أخاه إلى داعية معه يحمل هم الدعوة، ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول: أمتي انتم في كل أرض ... أنتم خير الأمم فأجمعوا أشتات أنها ... ركم في غمر يم تنشروا الخير الأعم ... تبلغوا العز الأشم وتكونوا سادة الدنيا… ... وفرسان القمم وما ذلك على الله بعزيز. * * * * * الإشارة السادسة: إنما السيل إجتماع النقط بمعنى دوام ولو على القليل، قليل دائم خير من كثير منقطع، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل وإن كان ضئيلا أصيلاً مستطاعا مذللاً يقام به في عير ما عناء، ليس المهم قدر العمل بل الاستمرار في أدائه، فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.

أما ترى الحبل بطول المدى ... على صليب الصخر قد أثر والشيء بثمرته يقدر ثمنه، ويعرف ثمنه، ومن ثمرات المداومة ما يلي: نيل محبة الله: أولاً: نيل محبة الله التي هي غاية منى المؤمنين الذين هم أشد حبا لله، ومن أين أخذت هذا؟ من الحديث القدسي الذي رواه البخاري: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه))، يستمر ويداوم حتى يحبه الله فإذا حصلت محبة الله فالنتيجة: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولإن استعاذني لأعيذنه)). وفوق هذا مارواه الشيخان: ((إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السما، ثم يوضع له القبول في الأرض)). أهيب بقومي إلى المكرمات ... ألا هل ملب ألا هل مجيب ترويض النفس: ثانيا: ترويض النفس على مكابد الهوى حتى تعتاد الخير، فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، ولكلنها إذا روضت ذلت، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حجب البطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما روضت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله، يقول أحد السلف: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي، ويقول عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد. وجاء عن التابعي الجليل إبن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي. وما يردع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا حازم الرأي كامله وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت

الأمن والحسرة عند المرض: ثالثا: الأمن من الحسرة عند المرض أو العجز والفتنة، فالمداوم حين يحال بينه وبين العمل يجري له ما كان يعمله، يستشعر هذا مما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما)) فلا حسرة ولا ندم. تربية النفس على أخذ أعلى الأمور: رابعا: تربية النفس على أخذ أعلى الأمور، وعدم الرضا بالدون، ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)). إملال الشيطان وإضعافه: خامسا: إملال الشيطان وإضعافه وقطع الطريق عليه. يقول الحسن رحمه الله -كما في الزهد لابن المبارك-: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوما ملك ورفضك، وإن كنت مرة هكذا ومرة هكذا - تتقدم خطوة وتتأخر خطوتين كما يفعل البعض- طمع فيك. هذه بعض ثمرات المداومة على العمل، ومن عرف الثمرة قدرها، فبادر إلى الشجرة لقطفها. يقال لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله، وقال له آخر: إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تكتب بعد. والأعمش يروى عنه وكيع أنه لم تفته تكبرة الإحرام مع الإمام سبعين سنة، ويقول: اختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة. من منا يلقي الله وقد أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين يوماً، مع انه له براءتين: براءة من النفاق وبراءة من النار فإنا لله وإنا إليه راجعون. وروى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق إمرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) يقول ابن عمر: فوالله ما مرت علي ليلة مذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي. إذا فعلوا فخير الناس فعلاً ... وإن قالوا فأكرمهم مقالا

الإشارة السابعة: إنما الأخطار أثمان المعاني

ترى جدا ولست ترى عليهم ... ولوعاً بالصغائر واشتغالا ويروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يكتب بعد، لعل هذا مما يعين على المداومة، كلما عملت عملا قلت لعل هذا لا يبلغني الجنة، فإلى آخر وإلى آخر حتى تلقى الله على ذلك فربك أغفر وأرحم سبحانه. فجاهد نفسك وداوم على العمل (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) * * * * * الإشارة السابعة: إنما الأخطار أثمان المعاني إنما الأخطار أثمان المعالي ... ربما الأجسام صحت بالهزال بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) والعبقرية حرمان وتضحية ... وليس ينبغ إلا كل صبار إن حمل الدعوة إلى الناس، وجعلهم يؤمنونن بها ويثقون ويتأثرون عملية صعبة شاقة تحتاج إلى صبر وثبات، وأن المضي في طريق الدعوة ليس بأمر هين ولا طريق ميسور، ولا بد من عزم وقوة وصبر وثبات لا يؤتاه إلا من نذر نفسه لله، غير مبال بما سواه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). والصبر يوجد إن باء له كسرت ... لكنه بسكون الباء موضوع

الإشارة الثامنة: تمهل

والله عز وجل قد وجه نبيه صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى الصبر والجلد وقوة التحمل فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10)، وقال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)، الصبر تفائل دائم حتى لو ضربت الجاهلية أطناب الأرض، فلا يسوغ بحال الإنسحاب من الميدان، إذا يخلو الجو للشيطان، ويكر الجراد على الحرث فيلتهمه، وقد تغير اللصوص عليه فينتهبونه، فلا بد من صبر وصمود حتى يثبت ويثمر العود. ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل والنهار كل لذة منقطعة عند كل غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباء، والحق له صولة وهو أنفع وله البقاء، فإذا أدلهم الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم أصبر وصابر فإن العاقبة للمتقين. وخاب المبطلون، وبشر الصابرين، واصبر على ما يقولون: لا يفزعنك هول خطب دامس ... فلعل في طياته ما يسعد لو لم يمد الليل جنح ظلامه ... في الخافقين لما أضاء الفرقد * * * * * * الإشارة الثامنة: تمهل لا تعجل في دعوة أو حكم يوشك أن تصل، (إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحى ولا تبذل إلا إذا عولجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل). وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد وتكاليف وكدح دائب في اناة ليس يعروها ملل، فليعلم.

ومن سنن الله مع العصاة والمذنبين والمجرمين والكافرين: الإمهال (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (لأعراف:183)، (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58)، إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل وربما فشل في دعوته وكبا، إن من يريد تغير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن، كمن يريد أن يزرع اليوم ويحصد غدا، بل يريد ان يغرس في الصباح ويجني الثمرة في المساء وهذا محال، لا بد من صبر وترو على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة ميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل، إن شيوع المنكرات، وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب، مع العجز - أحياناً- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقه، مع واقع أعداء الله في الصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس، قد يدفع هذا كله إلى العجلة إذا لم تضبط الأمور بضابط الشرع. يرد يدي عن خوفها بطش ربها ... ويمنع نفسي أن تخادع ديني

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح مكة في السنة الثامنة، أي بعد بعثته بواحد وعشرين عاماً، لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تحطم في داخل النفوس، لأقبلوا على تشيدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها مكة ويزيل الأصنام فكان له ما أراد (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الاسراء:81). لكل شيء في الحياة وقته ... وغاية المستعجلين فوته وقد أخبر صلى الله عليه وسلم - فيما ترويه عائشة كما في صحيح البخاري-: أنه لولا أن قومها حديثوا عهد بكفر لنقض الكعبة وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الفقه حقا، أعني رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبيل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغيره فلن يكون هناك تباطؤ أو توان. فكن أسدا في جسمه روح ضغيم ... وكم أُسد أرواحهن كلاب يمنع الليث حماه ان يرى ... …فيه كلبا عاديا إن زأرا ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملا ئمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال: أنا أبو طلحة وإسمي زيد ... وكل يوم في سلاحي صيد ثم أنظر وتأمل واعتبر: (ها هي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء (القرع) تثمر في أسبوعين تسخر الدباء من الصنوبر وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين ويقال لي شجرة ولك شجرة. فتقول شجرة الصنوبر: مهلا إلى أن تهب الرياح الخريف.

وعندها يعرف المضمار ... ويعرف السابق والخوار فتصبّر لتصبر، وتحلّم لتحلم، ولا تعجل فقد تكفى بغيرك ويكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك، ورُب عجلة أورث ريثاً، وقد يكون مع المستعجل الزلل. ليكن حالك أحيانا حال الحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل فلطم وجهه، فقال بسم الله يابن أخي، ما دعاك إلى هذا؟ قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم، قال فبرَّ بيمينك فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة. ليست الأحلام في حال الرضى ... إنما الأحلام في حال الغضب فذهب الرجل إلى حارثة فلطمه، فقام عليه واخترط السيف وقطع يمينه، ولسان حاله: وسيفي كان في الهيجاء طبيباً ... يداوي رأس من يشكوا الصداعا فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق، قال أنا والله قطعتها. ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي نعم، العاقل لا يفعل أمرا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطا، ولا يستبق الأحداث ولا يشرع في الحكم على الأمور، بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متانية تحسب كل حساب. فكن أفضل من أن تخدع، وأعقل من أن تخدع، لا خب ولا الخب يخدعك. ولترقَّ شيئاً فشيئاً صاعداً درجاً ... من البناء رصينا واحذر العجلا فكم عجول كبا من ضعف رؤيته ... وذي أناة أصاب الرشد والأملا

الإشارة التاسعة: كن أحزم من قرلى

الإشارة التاسعة: كن أحزم من قرلّى القرلى طائر ما ئي ذو حزم، لا يرى إلا حذرا، على وجهه الماء، عين في الماء طمعاً، وعين في السماء حذراً، ولذلك تقول العرب في المثل: (كن احزم من قرلى، إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرا تولى). ومن الحزم تعويد النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها، وعدم الرضا بالدون، دون علاها (فإن في النفس كما يقول ابن القيم: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل ابي جهل. ومن أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة العجل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجابهة يذهب ذلك كله) بإذن ربه، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات:40)،ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد، إن من يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير إنما هو سفيه. لا يعرف الحزم ولا الحزم يعرفه، عينُه عينُ هوى، وعين الهوى عينٌ عمياء. إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمةٌ ولباسٌ ومركبٌ، مطعمٌ شهي، وملبسٌ دفي، ومركبٌ مطي، قد رفع راية: إنما العيش سماع ومدام وندام ... فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد. إن الهوان حمار البيت يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها ... إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يُشج فما ياوي له أحد

الإشارة العاشرة: عوض ما فاتك

الحزم بقدر الإهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، (والجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، وعزَّ بزَّ. فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محب للحياة ذليل (ومن أراد المنزلة القصوى من الجنة فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة، واحدة بواحدة ولكل سلعة ثمن). كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازما مع نفسه قد علق سوطا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفن بك زحفا إلى الله حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا فتر وكل وتعب تناول سوطه وضرب رجله ثم قال: أيضن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا، كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا انهم خلفوا وراءهم رجالاً). هم الرجال وعيب أن يقال ... لمن لم يكن في زيهم رجل حالهم: عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع * * * * * الإشارة العاشرة: عوض ما فاتك من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصير، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله، فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والتحسر. إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا يكون باجترار أحزان الماضي، إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة. ابن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو في الثمانين يقول: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ... ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي وإنما اعتاض شعري غير صبغته ... والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم **** فإن كنت ترجوا معالي الأمور ... فأعدد لها همة أكبرا تلك النفوس الغالبات على العلا ... والحق يغلبها على شهواتها

أفلا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له وليعوض، فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإهمال فائدة، فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة. فإن تك بالأمس اقترفت اساءة ... فبادر بإحسان وأنت حميد ولا تبقي فعل الصالحات إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد غاب أنس بن النضر رضي الله عنه وقعة بدر فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال -كماروى البخاري ومسلم-: يارسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لأن أشهدني الله مشهدا ً آخر في قتال المشركين، ليرين الله مني ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، يتقدم ويكسر غمد سيفه ويستقبله سعد بن معاذ فيقول: الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، يقول سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع، ولما انتهت المعركة وجدوه قد قتل، ومثل به المشركون، ووجد به بعض وثمانون ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية بسهم فما عرفته إلا أخته ببنانه. إما فتى نال المنى فاشتفى ... أو بطل ذاق الردى فاستراح إما إلى العز وتقضي بساحته ... ذل الحياة وطعم الموت سيان من تفكر في تفريطه أن ... ولتعويض ما مضى حن:

عكرمة رضي الله عنه يسلم عام الفتح، وشعر بما فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله ولا قتالا قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله، ويبر بقسمه فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان معهم، وفي يوم اليرموك وما يوم اليرموك؟! (أقبل عركمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في في اليوم القائظ، اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، واغل في صفوف الروم، فبادر خالد بن الوليد قائلا: لا تفعل يا عكرمة، إن قتلك على المسلمين سيكون شديدا، قال: إليك عني ياخالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة أما أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس على رسول صلى الله عليه وسلم دعني اكفر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم، والله لا يكون أبدا. لو بان عضدي لما تأسف منكبي ... لو مات زندي ما بكته الأنامل ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرا مؤزرا، ولقى الله عكرمة مثخنا بجراحه)، ولسان حاله (قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه:84). فرضى الله عنه وأرضاه. بذل النفس فداء ورضى ... وقضى العمر وأقصى السفرا همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله عقدا مع أنفسهم فما نكثوا وما نقضوا. فبادر أخي قبل العوائق، واستدرك ما فات فلعلك بالأخيار لا حق، إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم. إذا استدرك الإنسان ما فات من علا ... فللحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب

الإشارة الحادية عشرة: العدل - فبه قامت السموات والأرض

ومكلف الأشياء ضد طباعها …………متطلب في الماء جذوة نار * * * * * الإشارة الحادية عشرة: العدل - فبه قامت السموات والأرض * إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل. * مدح من يستحق المدح في عير ما خشبة الفتنة عليه عدل. * تأنيب من يستحق التأنيب عدل. * الإعتراف بالجهود الأخرين عدل. * الإعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل. * قبول النصح عدل. * إسداء النصح عدل * التربية على العدل عدل. *والله تعالى يامر بالعدل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8). يذكر الطبري في رواية مرفوعة إلى إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مر عمر رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة، فخفقني بخفقة لم تصب إلا طرف ثوبي، وقال: أمط عن الطريق - أي لا تزحم الطريق- قال: فلما كان العام المقبل لقيني عمر فقال: يا سلمى أتريد الحج؟ قلت: نعم قال: فأخذ بيدي وانطلق بي إلى منزله ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم وقال: استعن بها على حجك واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها في العام الماضي، قلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها قال: والله وأنا ما نسيتها. ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه. أرض للناس جميعا مثلما ترضى لنفسك ... إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك

الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتا بلا سقف

شكا رجل عليا رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه فلما جلس عمر لينظر في الدعوى قال لعلي: ساو خصمك يا أبا لحسن فتغير وجه علي رضي الله عنه. ثم قضى عمر في الدعوى وذهب الخصم فالتفت عمر إلى علي وقال أأغضبتك يا أبا الحسن إذ سويت بينك وبين خصمك؟ قال عليّ: كلا بل لأنك لم تسوي بيني وبينه يا أمير المؤمنين لقد أكرمتني ودعوتني بكنيتي يا أبا الحسن ولم تناد خصمي بكنيته فذلك الذي أغضبني، فقبل عمر رأس علي وقال: لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن. حكموا فكان العدل شرعة حكمهم ... ما الحكم ما السلطان إن لم يعدل سارت مبادؤهم وسارت خلفها ... أفعالهم في موكب متمثل شادوا من التقوى أصح مواقف ... وبنوا من الحسنات خير قلاع * * * * * الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتا بلا سقف بمعنى لا يزال لسانك رطبا رطبا على الطريق بذكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيت بلا سقف حري أن يكون مرتعا للغبار والقاذورات ومأوى للهوام والحشارت، كذلك أن بيت لا يذكر الله فيه لا سقف له، خراب بلقع لا داع به ولا مجيب ((مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله مثل الحي والميت)) - كما في صحيح مسلم رحمه الله-. إن إنسان لا يذكر الله لا سقف له، حي بعظم ميت: إذا ما الحي عاش بعظم ميت ... فذاك العظم حي وهو ميت ((ومثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت)) - كما ثبت عند البخاري رحمه الله -. والناس صنفان: موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرض أحياء فأكثر ذكره في الأرض دأبا ... لتذكر في السماء إذا ذكرتا فلم أرى غير حكم الله حكماً ... ولم أر دون ذكر الله بابا خذ ما يسرك دع شيئا تضربه ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل إن جمعا لا يذكر الله فيه لا سقف له مضطرب أرق قلق: كريشة في مهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق

((والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما))، في الزهد لإبن المبارك رحمه الله. إن أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجدا رأى فيه حلقة ظنهم في ذكر فجلس إليهم فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال سبحان الله هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير فالتفت فإذا هو بمصارعين عظيمين فقال لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر فدخل فإذا هو بيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذكر فإذا أنتم أصحاب دنيا. كم حديث يظنه المرء نافعا ... وبه لو درى يكون البلاء إنه ليس في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك من هو أولى بملازمة ذكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذلك الرجل الذي جعل محور حياته خدمة ليدن الله فهو أحرى أن يذكر الله قائما وقاعدا وعلى جنب في كل حين وآن، فذكر الله له يرقق المشاعر ويوقظ القلوب والضمائر ويرهف الإحساس ويشرح الصدور ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها ويملك جماحها، ويرفع الدرجات، ويكفر السيئات ومع ذا خفيف على اللسان ثقيل في الميزان حبيب إلى الرحمن فمن الخطورة العظيمة أيها الأحبة أن نتحول على منظرين وخططين ثم لا نكون الربانيين العابدين الأوابين المفردين الذاكرين الله كثيرا والمخبتين فنصبح من المحرومين - نعوذ بالله رب العالمين- المحروم من نعمة ملازمة ذكر الله محروم من الإحساس المرهف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعطالة وبطالة وانحطاط، أنى له أن يصل إلى وجهته؟ إن المسلم بصفة عامة وطالب العلم بصفة خاصة جدير بان يذكر الناس بالله حتى إذا ما رؤي ذكر الله تعالى فكيف به إن كان غافلا؟ أيكون جديرا بالتذكير؟! كلا والله، إن فاقد الشيء لا يعطيه. هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشا ... هل يطلب الثوب ممن جسمه عار يا بانيا بالماء حائط بيته ... فوق العباب أرى البناء مهيلا

أرأيت قبلك عاريا ... يبغى نزال الدارعين كلا. إن بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخطب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبدا، وعلى الطريق. (سبق المفردون) إن القلب بذكر الرحمن بلد عامر وحصن محكم مصون، وروضة مباركة لا يكان ينفد نعيمها ولا ينضب معينها، (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (ابراهيم:25). * الذكر مسك والغفلة رماد. * الذكر جواد والغفلة حمار. * فليكن لسان الحال على الطريق ما كنت لأتخطى المسك إلى الرماد. * ولا أمتطي الحمار بعد الجواد * وإنما يتيمم من لم يجد الماء. * ويرعى الهشيم من عدم الجميم. * ويركب الصعب من لا ذلول له (قد قاله ابن زيدون). أما لسان المقال: فالعز داري وبحر العزم راحلتي ... والذكر أنسي ومن والاه إخواني فيا قدمي لا سرت بي لمذلة ... ولم ترتقي إلا إلى العز سلما

الإشارة الثالثة عشرة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

الإشارة الثالثة عشرة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قل خيرا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، إن من شأن الساعي على الطريق أن يقبل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السبل المفضية إلى ما رامه وأمله ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبى بنفسه عن كل ما من شأنه أن ينزل قدره ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، تراه مترفعا هن اللهو واللغو قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها في حدود ما أذن الله له به فإذا عرض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه وأكرم نفسه عنه، إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو ولا لهو مهين، فإليك أخي المسافر العاقل على الطريق هذه اللفتة لابن القيم رحمه الله يقول فيها: (اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك فالفكر في ما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فأياك ثم أياك أن تمكن الشيطان من أفكارك فإنه يفسدها عليك إفسادا يصعب تداركه ويلقي إليك الوسواس ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، أياك ان تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك. فمثالك معه كمثال صاحب رحى يطحن فيها الحبوب فأته شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونك فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون أفسد عليك ما في الطاحون من الحب فخرج الطحين كله فاسدا). فيترك ماؤكم من غير ورد ... وذاك لكثرة الأخلاط فيه فاللبيب يفكر فيما يعنيه بل فوق ذلك قد علم أن كلامه من عمله فقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه. وان لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل لا خير في حشو الكلام ... إذا اهتديت إلى عيونه والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه يقول إبن عباس رضي الله عنهما: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الزور ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته.

ووضع الندى في موضع السيف ... مضر كوضع السيف في موضع الندى والأدب النافع حسن السمت ... وفي كثير القول بعض المقت يقول عطاء بن رباح رحمه الله: أما يستحي احدكم لو نشرت صحيفته التي أملى في صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته ينفعه واهاً ثم واهاً .. إن الشجاعة في القلوب كثيرة ... ووجدت شجعان العقول قليلا دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من إثنين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي للمسلمين سليما (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35). ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائرا فقام يتفقد البيت فقال: يا إمام إن في سقف بيتك جذعا مكسوراً، قال: يا ابن اخي إن لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه مالك وله رحمك الله، من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه. فأولى لكم ثم أولى لكم ... مزيد من الصحو واليقظة هذا واقعنا؛ حديث بلا فائدة، وأسئلة بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثا، ولا ينفع مستمعا، ولا يزكي نفساً، تضييع للطاقات والعمار سدى، وتلك داهية والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللهو واللغو حتى يشتريه بماله فيَضِل به ويُضل إنها الفاقرة ونسأل الله العافية، لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحي الدائرة التي لا تقف أبدا ولا تسكن فلا بد لها من شيء تطحنه - كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته ولن تبقى الرحى معطلة أبدا بل لا بد لها من شيء يوضع فيها فمن الناس من تطحن رخاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه. وكل ما يزرع الإنسان يحصده ... فأحسن الزرع يحسن حين يحتصد

ورحم الله ابن بشار يوم قال متحدثا بنعمة الله عليه: منذ ثلاثين سنة ما تكلمة بكلمة أحتاج أن أعتذر عنها. وانظر أخي لأحد السلف يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له ما يسوؤك منها؟ قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك. فقيل له: لما طلقتها؟ قال: مالي ولكلام عن إمرأة أجنبية عني، من حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه. مجالسهم مثل الرياض أنيقة ... لقد طاب منها اللون والريح والطعم كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد، إنه بلا شك سيرى كما هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه منصفا لوجد كثير من الزلات والسقطات فنسال الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات. إن نسيت فلا أنسى أن أنبه أن مما يعنيك بل مما يجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة ولو كره ذلك الفساق والمجرمون وقالوا لك: من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإن المقياس ليس هواهم بل شرع ربنا ومولاهم. وما على العنبر الفواح من حرج ... أن مات من شمه الزبال والجعل دع اخي ما لا يعنيك ولو كان مباحا، فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو ادنى بالذي هو خير، وكم من كلمة بُني بها قصر في الحنة بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من اخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنه. لا يضيع يومك في التيه ... كما قد ضاع امسك االإشارة كن طبيبا رفيقا يضع دواءه حيث ينفع 14

بمعنى لا تضع العلم عند غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، من الناس من يطلب العلم لشر كامن ومكر باطن فيستعمله في شبه دينية، وتلبيس دنيء وحيل فقهية فلا يعان على إمضاء مكره وإكمال شره بل مهان غير مكرم يُحرمه، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفطنة، فلا يحمل عليه بكثير العلم فيظلم، ولايمنع من اليسير فيحرم، وإنما ينفع سمع الآذان إذا قوي فهم القلوب في الأبدان، وقد صدق القائل ونصح يوم قال: لا تؤتين العلم إلى إمرءا ... يعين باللب على درسه ويمنع من كثيره أيضا السفهاء الذين إن سكت لم يسألوك وإن تكلمت لم يعوا عنك وإن رأوا حسنا دفنوه، وإن رأوا سيئا أذاعوه، وإن يعلموا الخير أخفوه، وإن علموا شرا أذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا، وإن حاورتهم شتموا، وعليك جهلوا. كحمار السوء إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق فإذا حملت إلى سفيه حكمة ... فلقد حملت بضاعة لا تنفق هذا كله يحتاج إلى فراسة وممارسة ومران واختبار يتوسم من خلاله المتعلم حقا من غيره، كفراسة ابن عباس رضي الله عنه يوم قال: ما سألني سائل إلا عرفت أفقيه هو أم غير فقيه. أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدث قوما يرى أنهم غير أهل للحديث فقال: ويحك يا شعبة تعلق اللؤلؤ على الخنازير. فإن عناء أن تفهم جاهلا ... فيحسب جهلاً أنه منك أفهم متى يبلغ البنان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم فلا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك، إن وضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر فلكل تربة غرس ولكل بناء أس. فجرد السيف في يوم يفيد به ... فإن للسيف يوما ثم ينصرم

عرف ذلك العلماء حقا حتى قال قائلهم وهو عكرمة: إن لهذا العلم ثمناً فقدروا له قدره، قيل وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند من يحفظه ولا يضيعه. ورحم الله ابن حزم في ذلك حين قال: (نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم. كإطعامك الحلوى من به احتراق وحمى، أو كتشميمك المسك والعنبر من به صداع من احتدام الصفرا). قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... أم أنشر الدر بين العمى في الغلس فمن حوى العلم ثم أودعه ... بجهله غير أهله ظلمه وكان كالمبتني البناء إذا ... تم له ما أراده هدمه وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية عندما كلمة من لا يرى فقه فقال: أأنثر در بين راعية الغنم ... وأنشر منظوما لراعية النعم لئن كنت قد ضُيعت في شر بلدة ... فلست مضيعا بينهم غرر الكلم فإن فرج الله الكريم بلطفه ... وأدركت أهلا للعلوم وللحكم بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لديّ ومكتتم ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وقد أحسن أيضا وحلق يوم قال: العلم جهل عند أهل الجهل ... كما الجهل جهل عند أهل العلم ومنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه فعلى الطريقِ أخي ضع العلم في أهله على تفاوت فالذكي يحتاج إلى الزيادة والبليد يكتفي بالقليل والسفيه يمنع ويزجر وذو الشر يذل ويحرم ولا يعان ويكرم والجميع يذكر ويعظ، (كِل على الطريق لكل سالك بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار) ولكل ثواب لابس ولكل علم قابس. فلا تكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلى صهوة الفرس وقفة جانبية على الطريق: عرض ولا تصرح فالحال ناطقة.

الإشارة الخامسة عشرة: كل البقل ولا تسل عن المبقلة

أقول وستر الدجى مسبل ... كما قال حين شكا الضفدع كلامي إن قلته ضائع ... وفي الصمت حتفي فما أصنع * * * * * الإشارة الخامسة عشرة: كل البقل ولا تسل عن المبقلة بمعنى خذها من أي وعاء خرجت، الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها، فلا تحقر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، والدر در ثمين أينما كانا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة قد أقر أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق وهو إبليس الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ((صدقك وهو كذوب)). فالحكمة قد يتلقاها الفاجر وهو لا ينتفع بها وتؤخذ عنه وينتفع بها، والكذاب قد يصدق فاعلم وحقق. لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أعز شيء يقتنى ... ما حط قيمته هوان الغائص * * * * * الإشارة السادسة عشرة: احترام الحقيقة وتجنب الاغراق في المبالغة فهي قبيحة تشوه الحقيقة تقرب البعيد وتبعد القريب وتظهر غبشا في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع وسخرية من وجدانه (تهويل وتزييف للواقع شطط وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة بل عجز عن رؤية الواقع كما هو عليه).وضعف في مشين. حتى يرى سيئا ما ليس بالسوأى ... وكي يرى حسناً ما ليس بالحسن

الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد وقد تعالج بمثلها، داء بداء فأين الدواء؟ وهاك المثال: (جاء طفل مسرع نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأرا ياماه مثل الفيل، فردت عليه الأم مؤنبة له: قلت لك مليون مرة لا تبالغ. فقل لي بالله أيهما أكثر مبالغة، أليس الطفل معذورا فيما اخبر به عن أمه؟ بلى) وحالة: محضتني النصح لكن لست تعمله ... فأنت أولى بذا مني على خجل هذا على مستوى الأسرة والعامة وتلك والله فاقرة وقبيحة وقاصمة ولكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثغرة كبيرة في جدار بنيانهم التربوي لا تكاد تسد. فكل كسوف في الدراري شنيعة ... ولكنه في الشمس والبدر أشنع إنها تظهر جلية مشينة في الحكم على الآخرين قدحا ومدحا فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصله ذرى الجبال فلا تزال تسمع ما يلي: فلا إبن تيمية عصره وابن حجر زمانه وبخاري أوانه .. ليس له مثال .. علامة فهامة .. حتى إذا ما حصل أمر - أي أمر- تغير وتبدل وصار الأنف ذنباً ونصبت له المجانيق وأرسلت الصواعق وسلت السيوف ورفعت المعاول ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال فإذا هو مارد خرج من قمقمه فإياك وإياه لا تتبع أقواله .. إنه غاو ومضل ما رق معاند خائن فاسد العقيدة أشر على الإسلام من اليهود والنصارى، حيف وظلم وشطط وجور وعدم اتزان وتدمير جنان. يا عين سحي يا قلوب تفطري ... يا نفس رقي يا مروءة نادي إن دام هذا ولم يحدث له غير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود يا معشر القراء يا ملح البد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد ورحم الله القائل يوم قال: والله إن الأمة لن تأخذ موضعها بين الأمم حتى تضع الكلمة في موضعها. كيف تحيا أمة قد ودعت ... كلمة العدل ولم تدكر

الإشارة السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة

فهيا أخي ... أقبل بقلبك وقالبك واسمع إلى صاحب (كيف تحاور) وهو يخاطبك قائلا: (لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك وتهويل ما يعجبك، فإنك إن اشتهرت بذلك فسنضطر لتفحص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك). نعم! إن الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة والعقول المستقيمة ولو كانت في غير صالحهم فهي على مرارتها ثمينة. أما غيرهم فيخدع نفسه ويخدع غيره. فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم بالملح نصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير صور العمى شتى وأقبحها إذا ... نظرت بغير عيونهن الهام دواؤك منك ولا تشعر ... ودواؤك فيك ولا تبصر * * * * * الإشارة السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين إحسان الظن بهم، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم فكيف بنياتهم، والحكم على سرائرهم التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه سر ولا علانية، الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة لكن من الناس من منظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمه ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيرا كذبه، وكلما ذكر عنده احد بخير طعن فيه وجرحه. هم الشوك والورد أقرانهم ... وليس لدى الشوك غير الإبر فكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني مبدع؛ لكنه إبداع سلبي، مبدع في تحطيم ما بينه وما بين الناس من جسور الثقة والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس ليكسب القلوب ليزرع فيها خوف وحب علام الغيوب.

هاهو الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لقي في صنوف الأذى على يدي الأشرف موسى ما لقي ثم رجع الأشرف إلى الحق بعد ما تبين له وأحب الشيخ حباً جماً وقدمه على غيره وعمل بفتاواه ولما مرض الأشرف قال: ياعز اجعلني في حل وادع لي فقال الشيخ: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس عندي لأحد مظلمة وأرى أن يكون أجري على الله لا على عباد الله عملا بقول الله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40) صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغشى بالكره مسلما ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتم له ذلك ثم ذكره بمنع المنكرات وإبطال ما يمارس العمال من الموبقات من إباحة الفروج وإدمان الخمور وارتكاب الفجور وقال له إن أفضل ما تلقى الله به أن تبطل ذلك في مملكتك فأمر بإبطال ذلك لكه وقال للشيخ: جزاك الله خيرا وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه ولقي الله فرحمه الله. هكذا -أخي- يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين حتى نصل بدعوتنا إلى سويداء قلوب المدعوين. فمن وجد الإحسان قيدا تقيدا، وعلينا أن نطرح سوء الظن واتباع الهوى فاتباع الهوى يفرق ويشتت ويمزق لأن الحق واحد والأهواء بعدد قلوب الخلق (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50) كدودٌ كدودِ القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسج فخير لك إن أردت النجاة على الطريق أن تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين لأن حسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها ويلبس عليك مثالها فترى المساوئ محاسنا والعيوب كمالا. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا

الإشارة الثامنة عشرة: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها

فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن الظن بنفسه فهو أجعل الناس بنفسه. لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه فكن أخي مع الناس كالنحل يقع على أحسن الزهور والرياحين فيجتني منها ما يفيده ويخدم به غيره ولا يكن همك تتبع السقطات والعثرات والتغافل عن الحسنات. صوب نظرك على عنصر الخير في الناس وتعامل معهم على أساسه تَّسعَدْ وتُسعد. ولا تكن كالذباب يقع على القذر وينشره تَشق وتُشق. إذا أنت لم تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال إذا رأيت الهوى في أمة حكماً ... فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا * * * * * الإشارة الثامنة عشرة: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها ما منا أحد إلا وله زلة وخطأ وسقطة ورأي قد يكون فيه كبوة، وزلة المسلم إما أن تعرف وتشاع وتذاع فيستمرؤها صاحبها وينسلخ عنه الحياء فيصعب عليه الرجوع، وإما أن تكون زلته حبيسة في صدره لا يعلمها إلا الله وحده فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عونا للشيطان على أخيه وليس الذئب يأكل لحم ذئب، ولا يجوز الباب إلا مؤمن عاقل يختار رضوان الله العلي القدير، إن العامل يتعرض لعثرات وقد يحصل منه هفوات ثم ينبري له من سلمه حرب وذلوله صعب يشيع ويذيع لا يقر له قرار ولا ينعم له بال كأنما يتقلب على حسك السعدان أو يتلوى على جمر الغضا ينحب وينبح ويلهث، ينكر جروحا ويثير أشجاناً يرفع عقيرته لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبروز أحد، إرضاءه لا يدرك، أطيش من ذباب. لو وزنت أحلامه الخفافا ... على الميزان ما وزنت ذبابا جليد بليد: وما على الكلب أن يعتاده السعر ... ومن العجائب أن مثل لسانه لم يبتر فمطالب بإعادة ومطالب ... بزيادة ومهلل ومصفق كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة ... وإن ينل شبعاً ينبحك من أشر فيا عجبا من زائر وهو ثعلب ... يخال سكوت الليث وهنا فيعتدي

غرورا وينسى بأسه حين يغضب فالتعامل معه كالآتي: لا يلتفت إلى ما في كلامه من طعن ويؤخذ ما فيه من حق إن وجد فإن الحق هو الحق وللداعية خيره وعلى الطاعن شره. فما الأسد الضرغام يوماً بعاكس ... صريمته إن أنَّ أو بصبص الكلب يقول شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا منتقداً ينسي حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج، فاربأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطبل على حد قول القائل: صغار الكلب أكثرها عواءً ... وشر الطبل أكثرها دوياً صغير العقل بالأعرض يلهو ... …وذو اللب الرجيح يراه غيا ومن نظر الأمور بعين عقل ... جرى في هذه الدنيا أبيا إن الوقيع كإسمها شر وفساد وفرقة وتمكين للعدو وبهتان نهايتها خصومة وقطيعة وقعود وقرار لعين العدو وهلاك على الطريق وهكذا الذباب على الطعام يطير والفراش على الشهاب يساقط. كلام من كان على ذا ومنظره ... مما يشق على الأذان والحدق فلا تعره اهتماما على الطريق ولا تنتصر لنفسك. فإن انتصرت لها فأنت كمن بغى ... طفي الحريق بموقد النيران واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين ثم يريد أن ينجح ويفلح ومتى يفلح؟ متى يفلح من يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين، متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين. تغشى عيون في النهار فلا ترى ... وترى عيون في الظلام وترقب ويسير ذو جهل بحكمة غيره ... ويتيه ذو العقل السديد ويسلب فيا طالب العلم: إن الوقيعة في الناس بضاعة الجبناء وكف اللسان عن الناس سمت العلماء وكل إلى جنسه يحن. فليكن حنينك إلى العلماء وأخلاق العلماء تكن كالعلماء.

وأنظر وقف: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كان ممن لا يغتاب ولا يسمع في مجلسه بغيبة وكذلك العلماء. يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجل كبير مثلي، وفي رحلة الحج يسجل هذا الموقف العظيم فيقول: ثم جئنا آخر النهار بعد الثالثة للقرية المسماة (آتيه)، فالتمسنا عربيا نبيت عنده، فدعانا رجل عربي - والله ما سألت عن إسمه ولا إسم أبيه خوفا من الغيبة -فانزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فذكرتني تلك الليلة ليلة النابغة التي قال فيها: كليني لهمِّ يا أميمة ناصب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب وليلة المهلهل التي قال فيها: أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنتِ أنقضيتِ فلا تحوري قد وصف طولها بقوله: كأن كواكبَ الجوزاء عودُ ... معطفةًُ على رُبع كسيرِ كأن الجدي في مثناهُ ربقُ ... أسيرُ أو بمنزلةِ الأسيرِ كواكبُها زواحفُ لاغِباتُ ... كأن سماءها بِيدي مديرِ إلى أن قال: وأنقذني بياضُ الصبح منها ... وقد أُنقِذتُ من شيءٍ كبير وتمثلت قول إمرء القيس: كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل وكان صبح تلك الليلة أحب غائب إلينا فيا معشر طلاب العلم: هذا ديدن العلماء الربانيين ومن تشبه تشبث. كيف الوقوف أمام خلاق الملا ... والعلم ظن والحديث مرَّجمُ إن أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بأي نقيصة لكنه لا يستطيع أن يثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً. وكم على الأرض أشجار مورقة ... وليس يرجم إلا ما به ثمر كلًٌ يصيد الليث وهو مقيد ... ويعز صيد الضغيم المفكوك واختلاف الرأي لا يفسد للود لقضية ولو أنه كلما اختلف إثنان تهاجرا وتقاطها لما بقي بين المسلمين أخوة فليتق الله مؤمن في إخوانه، وليتسع صدره لوجهات نظرهم فلا تذهب معه المروءة والمحبة والمؤمن يستر وينصح لا يهتك ولا يفضح.

الإشارة التاسعة عشرة: ما كل عود ناضر بنضار

أمنا التقوى وقد أرضعتنا ... من هواها ونحن نأبى الفطاما فاشرب من الماء القراح منعماً ... فلكم وردت الماء غير قراح وهات حديثا كقطر الندى ... يجدد في النفس ما بددا فيضحي لآمالنا منعشا ... ويمسي لآلامنا مرقدا وقفة جانبية أخرى على الطريق: لا تسل لئيما: لا تسل لئيما فأذل من اللئيم سائله من كان يأمل أن يرى من ساقط نيلا دنيا ... فلقد رجى أن يرتجي من عوسج رطباً جنياً * * * * * الإشارة التاسعة عشرة: ما كل عود ناضر بنضار ما كل من حَسُن منظره حسن مخبره فلا تغلب المظاهر على الحقائق على الطريق (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) فما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق إن من عباد الله على الطريق من تشرئب إليه الأعناق ويسترعى الانتباه لكنه خائر بائر لا خير فيه ولا يغتر به. لهم منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القبل أسود أسفعُ فمردود بهاؤهم عليهم ... كما رد النكاح بلا ولي ومن عباد الله على الطريق من لا تشرئب إليه الأعناق ولا يسترعي الانتباه لكن يُجري الله على يديه الخير الكثير. متبذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحي وهو مكرم ((ثبت انه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس حري والله إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله هذا الرجل من فقراء المسلمين، حري إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألاّ يشفع وإن قال ألاّ يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)). وبعض الناس ماء رباب مزن ... وبعض الناس من سبخ ملاح

والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من طبعه لم ينتفع بصقال وليس بضائر إذا صح نصل ... السيف ما لقي الغمد ولا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس في هاوية ((دخل أعرابي رث الهيئة في عباءة خلقة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه فاقتحمته عنيه وغدى ينظر على عباءته الخلقة فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك إنما يكلمك من فيها)). وما ضر نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان غضبا حيث أنفذته برى فإن تكن الأيام أزرت ببزتي ... فكم من حسام في غلاف مكسرا فقربه وأدناه وعلم أن في العباءة ما فيها. عجبت لمن ثوبه لامع ... ولكنما القلب كالفحمة مظاهر براقة تحتها ... بحار من الزيف والظلمة وتكلم آخر محتقر عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب حتى خلب لب عبد الملك وأعجب به فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي توصلت بها إليك وأهلتني لأن أتكلم بين يديك أخلب لبك، أبى الله أن أسمو بجد ولا أب. فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل وليست رعوتي من فوق مذق ... ولا جمري كمين في الرماد قال: صدقت: فما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار من يبغي الفخار بنفسه إن من أحوال المسلم أن يحتفي وينتعل ويمتشط ويدع ذلك ويلبس اللباس الجميل والحذاء الحسن، ومع هذا لا تتحكم هذه المظهارية فيه ولا يوزن بها ولا تأسر شخصيته، فهو يحكمها ويأسرها خلافا لموازين معكوسة جعلت المظهرية هي الميزان. قيمة المرء عندهم بين ثوب ... باهر لونه وبين حذاء ماذا لو خرج العالم حافيا بين الناس أينقص علمه وقدره؟ ماذا لو انتعل الغبي الجاهل أحسن النعال أيصبح فقيها؟ ماذا لو لبس المعتوه أحسن الثياب وأجملها أيغدو ذا لب .. ؟ إذا كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل

الإشارة العشرون: بقدر الصعود يكون الهبوط

إن الإكتفاء في المقاييس بارتداء الملابس والامتشاطات الساحرة والعطور المنعشة مع عدم النظر إلى التقوى والعلم والرأي حيف ونكسة. رب ذي مظهر جميل توارى ... خلف أثوابه فؤاد خؤون إن المظهر الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة وليست هي المقياس في الحكم على الناس، إن التراب مكمن الذهب فلا يغرنك حسن المظهر وحسن الهيئة وجمال الهندام والبزة فكم من ارتداها وهو يحمل بينها نخاعاً ضامراً بائراً وقلباً حائراً فهل يقدم مثل هذا؟ كلا ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن، ((رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره)) كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله. لا يغرنك البها والصور ... ستة أعشار من تراهم بقر ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فالعبرة كل العبرة بصلاح القلوب والأعمال لا بالصور والأموال ولا بالمظاهر والأشكال (إنما تنصر الأمة بضعيفها بصلاته ودعائه) فلا تغرنك المظاهر وابل الرجال تحبهم أو تبغضهم ومن ثمارهم تعرفونهم. وعلى الفتى لطباعه ... سمة تلوح على جبينه لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغنى بالعظم البعير يصرفه الصغير بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غِيَر لديه ولا نكير فإن كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفِّيه وإما تعده * * * * * الإشارة العشرون: بقدر الصعود يكون الهبوط بمعنى: أحذر العجب والتعالي والغرور فهو دليل السفه ونقص العقل ودنو النفس لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار فيقول له: أنت فعلت وفعلت حتى يلقي في روعه أنه لا مثيل له ولا نظير له فيعجب بنفسه فيغتر فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى، لأن السعادة إنما تدرك بالسعي والطلب والمعجب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه لا يتقدم لمكرمة ولا يرتقي لمنزلة.

ولولا السعي لم تكن المساعي فما خير برق لاح في غير وقته ... وواد غدا ملآن قبل أوانه عند ذلك يرفض الحق ويحتقر الخلق ويداوم تزكية النفس أمام الخلق ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق ثم يستعصي على النصح ولا يعترف بجهود الآخرين يداوم الحديث عما ينجزه من أعمال ويرفض الرجوع عن الخطأ ويحاول تبرير الخطأ ويستبد برأيه فرأيه صواب لا خطأ فيه لا يستشير أهل التجارب العقلاء ولا يستنير بآراء الأكياس الفطناء يهتم بشواذ المسائل وغريبها ويهمل العمل بأصول المسائل ثم يرفض الجلوس للتعلم في حلقات العلم. ألجّ لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب هو الغريق فما يخشى من البلل ... جذ السنام له وجذ الغارب فحاله ياله من حال: كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة. * أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعا فإذا شبع مات. * أو كراكب أراق ماءه لرؤية السراب ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة. * أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السهل كالنمل ويراه الناس في القمة كالذر وهو لايشعر. مثل المعجب في إعجابه ... مثل الواقف في رأس الجبل يبصر الناس صغار وهوفي ... أعين الناس صغيراً لم يزل أو هو (كالسنبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصويحباتها مع أنها لا تصلح إلا علفا للحيوان)، والمملوءة حبا مثقلة بالخير قد انحنت برؤوسها. إن كريم الأصل كالغصن كلما ... ازداد من خير تواضع وانحنى العجب بإختصار كلب ينبح في قلب صاحبه والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور أو كلب. فتنة تضحك أرباب النهى ... من مخازيها وتبكي البشرا

والنتيجة مخزية فنعوذ بالله من الخزي والبوار يحرم المعجب من توفيق الله فالخذلان موافق له ومصاحب له: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146). وتبعا لذلك ينال غضب الله ومقته. ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة كبر))، وثبت أيضا: ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان)) ثم ينهار المعجب وقت المحنة والشدة لأنه لم يحفظ الله في الرخاء فجدير بأن يخذل وقت المحنة ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة))، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ثم إن المعجب يخلق بينه وبين مدعويه جفوة وفجوة لا تكاد تردم فالقلوب جبلت على بغض من يتعالى عليها ومن ثم لا تقبل دعوته والمعجب عرضة لإنتقام الله العاجل والآجل ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذا خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) كما روي البخاري ومسلم رحمهما الله. أتت النوى دون الهوى فأتى الأسى ... دون الأُسى بحرارة لم تبرد خدعتهم الأحلام في سنة الكرى ... ما أكذب الأحلام والتأويلا له أسباب وبواعث لعل منها ما يلي: - باختصار- 1 - انحراف المربي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة ودوام تزكية النفس بالحق أو بالباطل فيتأثر به تحت يده. 2 - ثم المدح في غير ضوابطه الشرعية بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد ومع من لا تخشى عليه الفتنة. 3 - ثم صحبة المعجبين والمرء على دين خليله والصاحب ساحب - كما قيل-.

4 - ثم الصدارة قبل النضج والتربية فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122). وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين فتحمله على استحسان ما يعمله مع أن النسب لا يقدم ولا يؤخر (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59). ((لينتهين أقوتم يفتخرون بآبابئهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من العجلان)) (أبو داود). وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطا عدة لعل فيها العلاج لمن أصيب بهذا الداء عافانا الله وإياكم منه. أولاً: العلم واليقين بأن المنة لله عز وجل فيما أعطيته من مواهب وقدرات والله قادر أن يسلبكها ما بين غمضة عين وانتباهتها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم:7). (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ َ) (النحل:53). ثانيا: دوام حضور مجالس العلم والعلماء تلميذاً فإن في ذلك تطهير للنفس من ذلك الداء وتعريفا لها بقدرها وذلك هو الدواء.

يقول أحمد ابن يوسف الشيرازي في "أربعين البلدان" له: (لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي، بعد الله عليك، قد كتبت ما وقع إلىَّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة علمك، وأحضى بعلو إسنادك، فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، ولو كنت عرفتني حق معرفتي، لما سلمت عليَّ، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلا، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا). مجالسة العلماء طيب، ولو كنت تاجرا ما اخترت غير الطيب، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه، فاعلم وعِ: ثالثا: خدمة من هم دونك علما ومرتبة وقدرا ومجالستهم ومؤاكلتهم وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره. رابعا: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلة وعملا ورأياً وتفكيرا (إن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أعجبت برأيك فتفكر في سقطاتك فاحفظها ثم أنظر إلى من هو أعلى منك رأيا، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه هبة من الله وانظر إلى من هو أعلى منك علماً وفوق ذي كل علم عليم. خامسا: تأمل عيوب نفسكم ثم جد في محاسبتها أولاً بأول وأنت أعرف بنفسك، (كل منا يصف أواني بيته ومحتوياته ورب البيت أدرى بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بنقد الدينار)، (إن خفيت على المرء عيوبه حتى ضن ألا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصا وأعظمهم عيوبا وأضعفهم تميزا -كما يقول ابن حزم- فالعاقل من ميز عيوب نفسه وجاهدها وسعى في قمعها والأحمق من جهل عيوب نفسه).

وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها. من أنت؟ هل أنت إلا عبد مكلف موعود بالعذاب إن قصر مرجو بالثواب إن ائتمر مؤلف من أقذار مشحون بأوضار سائر إلى جنة إن أطاع وإلا نار - أجارك الله من النار -. كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه وهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه وهو يدعوه ... إلىالحش بصغر فيطيعه لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر العجب شبان ولا شيب هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو ببضع من الآفات مضروب انف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين ممرضة والثغر ملعوب يابن التراب ومأكول التراب غدا ... أقصر فإنك مأكول ومشروب وأتم الناس أعرفهم بنفسه كما قيل: سادسا: اجلس دائما حيث ينتهي بك المجلس فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها واتباع للسنة وأنعم بها خلة. إذا لم يكن صدر المجالس سيدا ... فلا خير فيمن صدرته المجالس سابعا: إن التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري: ((لن ينجى أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). ثامنا: تعويد النفس علىالفرار من الشرف حتى تعتاده فمن فر منه وهب له ومن تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه. يقول المدائني: رأيت رجل من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب ثم رأيته في سفر يمشي راجلا متعبا منهكاً يحمل متاعه على ظهره فقلت له: أراجل في هذا الموضع وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة! قال: نعم ركبت حيث يمشي الناس فكان حقا على الله أن أمشي حيث يركب الناس ومن تواضع لله رفعه. تاسعا: الاستعانة بالله واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفة ومن استعان بالله أعانه الله. فسل العياذ من التكبر والهوى ... فهما لكل الشر جامعتان وهما يصدان الفتى عن كل طرق ... الخير إذ في قلبه يلجان

والله لو جردت نفسك منهما لأتت ... إليك كل وفود كل تهاني ومن استعان بالله أعانه الله. عاشرا: المجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69). حادي عشر: أحذر أنا، لي، عندي. يقول ابن القيم: (وليحذر كل الحذر من طغيان أنا ولي وعندي فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلى بها إبليس، وفرعون، وقارون، فأنا خير منه لإبليس، ولي ملك مصر لفرعون، وإنما أوتيته على علم عندي لقارون، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر ونحوه، ولي في قوله لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل وعندي في قوله: أغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي. ثاني عشر: إذا أعجبت بمدح إخوانك ففكر في ذم أعدائك إياك، فإن لم يكن لك عدو فوالله لا خير فيك فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله اياكم - كما يقول ابن حزم رحمه الله-. ثالث عشر: التدبر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعدهم ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وخير من دب على الثرى وهو الأسوة أنه كان يجلس على الأرض. ويأكل على الأرض. ويعتقل الشاة. ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار. ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، ويقف بين يديه رجل يرعد كما ترعد السعفة فيقول: هون عليك فإنما انا إبن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد. يمر بالصبيان ويسلم عليهم. قسم التواضع في الأنام جميعهم ... فذهبت أنت فقدته بزمامه

صلوات الله وسلامه عليه، يقول أنس: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. كان يكون في مهنة أهله فإذا حضر وقت الصلاة خرج إلى الصلاة. كان يخيط ثوبه ويخصف نعله. ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وإذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده. لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم. ويعود مرضاهم. ويشهد جنائزهم يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم كما ثبت ذلك كله عنه. فكل فعل كريم كان فاعله ... يحي القلوب ويحي ميت الهمم صلوات الله وسلامه عليه: يلين لكل ذي ضعف وعجز ... وكم لان لذي جهل فلانا رسول يحمل الأطفال لطفا ... ويجعل عاتقيه لهم حصانا ويختصر القراءة حين يبكي ... …صبي والموفق من ألانا يلاطف أهله أكرم بزوج ... يعف الأهل يغمرهم حنانا يقاسمهم متاعبهم معينا ... ويخدمهم فكم وضع الجفانا فكم خصف النعال وخاط ثوبا ... وكم من شأنه ملأ الجفانا زعيم القوم خادمهم فطوبى ... لمن خدم الرعية أو أعانا تشبه بالرسول تفز بدنيا ... وأخرى والشقي من استهانا فأخلاق الرسول لنا كتاب ... وجدنا فيه أقصى مبتغانا وعزتنا بغير الدين ذل ... وقدوتنا شمائل مصطفانا صلوات الله وسلامه عليه:

ويأتي من بعده كوكبة من أتباعه الذين رباهم صلوات الله وسلامه عليه لينهجوا نهجه ويستنوا بسنته فإذا أنت بخير من دب على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين: أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضاربا بكل مثبط عرض الحائط ليخرج في وداعه ما شيا وأسامة راكب يقول أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فيقول: والله لا ركبت ولا نزلت وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة فإن شئت أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل ثم يقولها أخرى: لو يعلم الناس ما أنا فيه أهالوا عليَّ التراب. عضب العزيمة في المكارم لم يدع ... في يومه شرفا يطالبه غدا وروى الفاروق: (أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه فقال له يا أمير المؤمنين أغناك الله وأرضاك وخولك وأعطاك فما يحملك على ما أنت فيه قال: إن ما تقوله حق لكن لما جائتني الوفود سامعة مطيعة دخلتني نخوة فأردت أن أكسر تلك النخوة في قلبي ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من النصار فأفرغها في جرارها. فمن يباري أبا حفص وسيرته ... ومن يحاول لفاروق تشبيها ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس وكثروا قالوا: الأمر خطب عظيم. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر أو قبضة من زبيب فأظل يومي وأي يوم وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر فقال ابن عوف رضي الله عنه: ويحك يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية فقال: ويحك يابن عوف لقد خلوت بنفسي فحدثتني وقالت: أنت أمير المؤمنين من ذا أفضل منك فأردت أن أذلها وأعرفها قدرها). كذلك أخلاقه كانت وما عهدت ... بعد أبي بكر أخلاق تحاكيها لعل في أمة الإسلام نابتة ... تجلو لحاضرها مرآة ما ضيها

وأخرج أبو نعيم في الحيلة عن الحسن قال: رأيت عثمان رضي الله عنه نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين. ظهر الحيا وانهل ذاك البارق ... ونداك فياح ومجدك سابق وتقسم الناس الحياء مجزءاً ... فذهبت أنت برأسه وسنامه رضي الله عن عثمان وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويخرج ابن عساكر عن زاذان أن عليا رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة يرشد الضال وينشد الضال ويعين الضعيف ويمر البياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويرد في (صفوة الأخبار) أنه اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفة فقال له رجل أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال: لا أبو العيال أحق أن يحمله، (ما تواضع أحد الله إلا رفعه). فرعا سما في سماء العز متخذا ... أصلا ثوى في قرار المجد مغروسا وخالد ... ما خالد؟! أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ما هزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في اوج انتصاراته (يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصحة رآها أمير المؤمنين فيقول خالد: والله لو ولىّ عليَّ أمير المؤمنين عمر عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم). لانت مهزَّته فعزّ وإنما ... يشتد بأس الرمح حين يلين وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إليَّ من أن أرى نفسي أهلا لتلك المنزلة، (اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن ينال رحمتك لكن رحمتك أهل أن تنال عمر). ينسى صنائعه والله يظهرها ... إن الكريم إذا أخفيته ظهرا ويأتيك الإمام مالك يبرق بثوب التواضع يرفل عزا فيقول: ما رأيت مسلما إلا ظننت أنه خير مني. وكذا السحائب قلما تدعو إلى ... معروفها الرواد إن لم تبرق

واسمع إلى ابن القيم وهو يحدث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثير ما يردد مالي شيء ما مني شيء ولا في شيء أنا المكدّي وابن المكدّي وهكذا كان أبي وجدي ويكتب بخط يده: أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن ياتينا من عنده يأتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي دفع المضرات والفقر لي وصف ذات لا زم أبداً ... كما الغني أبدا وصف له ذاتي وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي يثني عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كل وقت وما أسلمت بعد إسلاماً جيدا رحمه الله. كأن القائل يعنيه حين قال: فصعدت في درج العلا حتى إذا ... جئت النجوم صعدت فوق الفرقد على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم لم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم تواضعوا لله فرفعهم الله في الدنيا وفي الآخرة يكرمهم بإذن الله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) بتنا نعيش على كرام فعالهم ... هيهات ليس الحر كالمستعبد اين الجبال من التلال أوالرَُبا ... أين القوي من الضعيف المقعد لا القوم منا لا ولا أنا منهم ... إن لم أفقهم في العلا والسؤدد إن عد قوم في التقى كانوا أئمة ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم لا يستطيع جواد بُعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

الإشارة الحادية والعشرون: لا تكن يائسا

إلى من عمى في شمس نهاره، وعثر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذباب على الشراب، وتهاتف تهاتف الفراش على الشهاب إن العجب أكذب ومعرفة النفس أصوب- كما قيل- ولا شيء والله أنفع لها من الافتقار إلى باريها. بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والنفخة العاتية وكن في مكان إذا ما وقعت ... تقوم ورجلاك في عافية * * * * * الإشارة الحادية والعشرون: لا تكن يائساً فالمستقبل لدين الله والعزة لأولياء الله. منا من رأى تفشي الشر والمنكر وانتشاره واستفحاله رأى العدو تبجح وتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيء ولن نجني سوى التعب والمشقة فليس إذا في السعي فائدة. فإذا بك تنظر إليه متهجم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر يحسب يوم الجمعة الخميسا مردداً حين يطلب منه خدمة دينه -ولو بالكلمة-: أنت تؤذن في خرابة لا أحد حولك تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات: تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثاً هلك الناس ... هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا كما في صحيح مسلم: ((إن قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)). معاشر المؤمنين: مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس. وأحلام اليوم هي حقائق الغد. والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين. والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5 - 6).

إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييديه لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55). إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (الصافات:172). سنة الله رب العالمين قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، ((وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. فانت أيها المؤمن أجير عند الله كيفما أراد ان تعمل عملت وقبضت الأجر لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من ياتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48). (وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين ننزل بساحته الأزمات وتوصد عليهم المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته ينبعث الجثمان الهامد يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق ينتفض). يقول فيسمع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجعُ

فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد). لا يزخر الوادي بغير شعاب ... وهل شمس تكون بلا شعاع إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً. حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. مما رأى. من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين. ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون بهم في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:26). (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44)

لا تيأسوا إن تستردّوا عزكم ... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى وتجشموا للعز كل عظيمة ... إني رأيت العز صعب المرتقى إن قراءة متأنية لتاريخ الصلبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث: (وفي ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين. كم طوى اليأس نفوسا لو رأت ... منبتا خصبا لكانت جوهرا ويمضي الزمن ويعد الرجال وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصلبيين على مبداهم هم: إن القوي بكل أرض يتقي وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول: يا أيها الملك اذي ... لمعالم الصلبان نكس جاءت إليك ظلامة تسعى ... من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا ... على شرفي أنجس فانتخى وصاح وا إسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.

من ذا يغير على الأسود بغبها ... أو من يعوم بمسبح التمساح وعندها علم الصلبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألف فتقدم صلاح الدين إلى طبريا ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته استدرجهم إلى الموعد الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم. وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان. وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر ان بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.

ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الإستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس؟: الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً، والمكان الذي قال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتح من الجهة الشرقية ويخرجهم منه فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم –ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين. ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا: يئست أنفس ونامت عيون ... فجراح تغدو وتأتي جراح فأين النجم من شمس وبدر ... وأين الثعلبان من الهزبر

المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل – كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه. يؤلف إيلام الحوادث بيننا ... ويجمعنا في الله دين ومذهب إن علينا –معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات ولسان حال كل واحد منا: فيقصر دون باعي كل باع ... ويحصر دون خطبتي الخطيب إني أبيٌَ أبيُ ذو مغالبة ... وابن أبيّ أبيّ من أبيين إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، إن الإنحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر للفكر من إرهاقه ويأسه وخباله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة باذن رب البرية (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله: فليس يجلي الكرب رأي مسدد ... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد

الإشارة الثانية والعشرون: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث

إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة (ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله). فإذا حاولت في الأفق منىً ... فاركب البرق ولا ترضى الغماما وما السيف إلا زبرة لو تركته ... على الخلقة الأولى لما كان يقطع ألا أنني لا أركب اليأس مركبا ... ولا أكبر البأساء حين تغير نفسي برغم الحادثات فتية ... عودي على رغم الحوادث مورق أيها اليائس مت قبل الممات ... فإذا شئت حياة فالرجا لا يذيق ذرعك عند الأزمات ... إن هي اشتدت فأمل فرجا البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت ... والماء يأسن إن أقام طويلاً صانع السيف كمن يشهره ... في سبيل الله بين الجحفل حقق الله لنا آمالنا ... وعلى الله بلوغ الأمل الإشارة الثانية والعشرون: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام:152). ما أحوجنا إلى العدل على الطريق وحاجتنا أشد له في النقد ومعالجة الخطأ. ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه صلى الله عليه وسلم، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته صلى الله عليه وسلم، بل أن سيرته صلى الله عليه وسلم كلها عدل، ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه صلى الله عليه وسلم من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذا الخطأ، رغم شناعته وخطورته.

روي الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير- وكلنا فارس- قال: انطرقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها إمراة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت ما معي من كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب وإلا لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها –وهي محتجزة بكساء – فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا وهناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا إلا خيرا. فقال عمر إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه، فقال أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم-، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. من هذه الحادثة نستطيع ان نحدد ثلاثة مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته: المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ: في هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، وأين هي المرأة. المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ:

وهذا الأمر متمثل في قوله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك على ما صنعت؟ وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقنعا لكنه طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق حاطب، وأنه لا زال مسلما، نقول: إذ لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية، فإنه يصار إلى: المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطا وحشدها إلى جانب خطأه، فقد ينغمز هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته: وهذا هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع حاطب رضي الله عنه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر عندما استأذن في مقتل حاطب: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم-. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما جيدا حول هذا الموضوع؛ حيث قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي العلماء: فالواجب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضا من كثرة حسناته، وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى منه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: أعملوا ما شئتهم فقد غفرت لكم.وقد ارتكب مثل هذا الذنب العظيم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم؛ فقوعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.

ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: ما ضر عثمان ما عمل بعدها، وقال لطلحة لما تطأطا للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: (أوجب طلحة). هذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه ولا تخفى منزلته. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات؛ فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما، حتى أنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه؛ فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وقال آخر: فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللآئي سررن كثير والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات - الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحياناً - من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم. * * * * *

الإشارة الثالثة والعشرون: رفقا بهم

الإشارة الثالثة والعشرون: رفقاً بهم إن عند الناس من الهموم ما يكفيهم، وهم بحاجة إلى من يواسيهم لا من يعنفهم، وعلينا ألا ننسى أن البشر مخلوقات عاطفية تجذبهم الكلمة الطيبة وينفرهم التوبيخ والتقريع، وعند كل واحد منهم من الاعتداد بنفسه ومواهبه وإمكاناته ما يجعله يرى في الكلمة القاسية عدواناً على كرامته ومجاله الخاص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ساق ما يحتاجه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، العلم قبل الأمر والنهي والرفق ومعه الصبر بعده .. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف، ورووه مرفوعا: (لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهي عنه؛ رفيقا فيما يأمر به؛ رفيقا فيما ينهي عنه؛ حليما فيما يأمر به؛ حليما فيما ينهي عنه). والداعية إلى جانب إيثار الكلمة الرقيقة والأسلوب العذب يؤثر أيضا التشبيهات الجميلة، ويبتعد عن الأمثال والتشبيهات القبيحة أو المنفرة؛ وقد سمعت آخر يشبه لا قطات (التلفاز) على أسطح المنازل بالرايات التي كانت تنصبها المومسات على بيوتهم في الجاهلية!! - قلت كيف لو رأى الأطباق اليوم - وهذا كلام الصمت خير منه بكثير! إن قولنا: هذا خلاف الواقع يؤدي عين المعنى الذي يؤديه قولنا: هذا كذب، لكنه أرفق وألطف. وإن قولنا: ما رأيكم لو علمنا كذا ألطف من قولنا اعملوا كذا، وكفوا عن كذا ... إن صيغة الأمر والنهي لم تعد مقبولة في كل موضوع؛ فالحضارة الحديثة وسعت دائرة الخصوصيات والحرية الشخصية إلى أبعد حد ممكن، وإن من واجبنا أن نشعر المخاطب أننا لا نتعدى على أي منهما. فالرفق الرفق ((من يحرم الرفق يُحرم الخير كله)) صحيح مسلم. ويقول الله تعالى: ( ... وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159). (قال السيد قطب رحمه الله حول ظلال هذه الآية)

(فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ... في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى العطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الإهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا ... وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس؛ ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة. هذه هي صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله عز وجل بالتأسي به، واقتفاء أثر، وهي نموذج لكل داعية يريد دعوة الناس إلى الخير، ويحببهم فيه، ولكن مع ذلك بعضنا يفرط في هذه الصفات، ويصدر منه من المواقف والتصرفات ما ينم عن الغلظة، والفظاظة، وعدم الحلم، وسعة الصدر، متمثلا في تقطيب الوجه، وانقباض النفس، على الأخطاء، وفقدان الرفق والأناة، ومعلوم ما ينتج عن ذلك من نفرة الناس وكرههم لمن هذه أخلاقه، فوق ما في ذلك من الإثم وحرمان الأجر. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)). وثمة شيء آخر يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو ما درج عليه بعض المربين والموجهين من الدعاة في القسوة على من معهم، وتربيتهم على التقليد الأعمى، وعدم السماح لهم بإبداء آرائهم، ومعارضتهم، وقفل باب التشاور معهم. وهذه الطريقة الخاطئة من التربية، تفرز لنا دعاة مقلدين متعصبين منفذين لما يقال لهم بدون بصيرة، وهذه هي الحقيقة تربية عبيد لا تربية قادة، وهذا يخالف قوله تعالى:

الإشارة الرابعة والعشرون: لا تضخم قضية على حساب أخرى

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). * * * * * الإشارة الرابعة والعشرون: لا تضخم قضية على حساب أخرى بمعنى أحذر الحَوَل على الطريق فعلى المستوى الجماعي ترى من يقول: * أهم شيء أن نعرف واقع المسلمين وواقع أعدائهم يعني أهم شيء القضايا السياسية لأننا نعيش الآن زمانا، ما هو بزمن الدراويش! وهكذا تجد أصحاب هذا التيار يحفظون كل شيء عن الشيوعية والعلمانية والماسونية، والبهائية، والقديانية .. ثم تسأل عن الإسلام .. فلا يعرف منهم عن الإسلام شيئاً!! * وعلى العكس من ذلك فقد تضخم جماعة قضية العبادات فيقولون: أهم شيء صلتك بالله أهم شيء النية الطيبة، أهم شيء الصلاة، أن تكون زاهداً، تقياً، والخطأ هنا ليس في الإهتمام بها لكن أن تُلغى القضايا الأخرى كلها على حساب هذا الجانب فهذا هو الخطأ. * وقد يأتي آخرون - وهذا موجود في الساحة الإسلامية- يقولون: أهم شيء وحدة الصف، يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103). فيجعلون هذه أهم قضية ولو كانت على حساب العقائد! يتحدون مع اناس تختلف عقائدهم عن عقائدنا، مدعين أن أهم شيء أن نلتقي، نحن الآن في زمان تكالب فيه أعداؤنا علينا! والصحيح ... أن نلتقي على أسس، نلتقي على دين، لا أن نلتقي على فوضى وعلى خلاف في العقائد. * فلا بد إذا من التوازن في هذه القضايا وغيرها. فمدخل الشيطان عموماً هو أن يضخم جانبا على حساب جانب آخر!! * * * * * الإشارة الخامسة والعشرون: ما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا (فرع خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك، فإن الرزق والأجل قرنينان مضمونان، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا. وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه فتح لك برحمته طريقا لك منه.

فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه، وهو الدم، من طريق واحد وهو السرة، فلما خرج من بطن الأم انقطعت تلك الطريق وفتح له طريقين إثنين وأجري له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول لبنا خالصا سائغاً، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان. فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا ما انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له - إن كان سعيداً - طرقا ثمانية وهي أبواب الجنة يدخل من أيها شاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإن يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ولا يرضى له به ليعطيه الحظ العلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وما ذخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا. وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً. ولو أنصف العبد ربه وأنى له بذلك، لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه. ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه فـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان:62) ... والله المستعان. * * * * *

الإشارة السادسة والعشرون: تحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك

الإشارة السادسة والعشرون: تحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك (إذا كان الله ورسوله في جانب فأحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يقضى إلى المشاقة والمحادة، وهذا أصلها ومنه اشتقاقها، فإن المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، والمحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا فإن مبادئه تجر إلى غايته، وقليله يدعوا إلى كثيره. وكن في الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عوقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته، وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحد في الجانب الذي فيه الله ورسوله، بل يعده الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر. ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه، ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وليس شيء أصعب على الإنسان من ذلك في مبادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا، وذلك الألم لذة، فإن الرب شكور، فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلى الله وإلى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سرورا وغبطة ويبتهج ويبقى من كان محارب له - على ذلك- بين هائب له ومسالم ومساعد وتارك، ويقوى جنده ويضعف جند العدو.

ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك. وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز لله ورسوله، وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ولا تحث نفسك به، فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع والفزع؟ قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا ياتي بالحسنات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء. (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:56). ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف. فليكن حالك على الطريق إلهي: إليك وإلا لآ تشد الركائب ... ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالكلام مضيع ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب أخيرا خذها من ابن القيم:

الخاتمة

إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن انت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فأفرح انت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة، قال بعض الزهاد ما علمت أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان فقال له رجل إني أكثر البكاء فقال إنك وإن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه فقال أوصني فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه. وخذها أخرى من ابن القيم رحمه الله يوم يقول: أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو تصنع إليه معروفا فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر. وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك. الخاتمة هذا مجمل ما أردت قوله وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله أو تغره النفس بكثره وقله، إن هي إلا إشارات من إشارات بعضها متمنى فات وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات لم آت فيها على آخر الإرادة ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة. قد قلت بمقدار ما اجتهدت وما شهدت إلا بما علمت ومن جعل أنفه في قفاه فالسوأة ان يفتح فاه. علىأنني كنت قد عجزت ووعدت بالكلام أكثر فيما أنجزت لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه وإن لم أستقر في ذراه. إن هي إلا لبنة على الطريق وأرجوا أن تكون بقدر الياقوت والعقيق وما أراني بعد قد شفيت غلة النفس فإنها تنظر إلى كثير وكثير.

وأنا أشد فقرا إلى عون من الله وتثبيت وتوفيق أسأل الله أن يجعل هذه الإشارات من الباقيات الصالحات ويصلح السريرة ويحسن الطوية. ويا أيها القارئ (ما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله ولا تلتفت إلى قائلة، بل أنظر إلى ما قال لا إلى من قال ... وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يأل جهد الإصابة ويأبى الله ألا يتفرد بالكمال. والنقص من أصل الطبيعة كامن وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته) سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد وآله أجمعين. فرغ منه يوم الأحد 23/ 3/1421هـ مكة حرسها الله. علي بن عبد الخالق القرني

هكذا علمتني الحياة [1]

هكذا علمتني الحياة [1] كل الناس يحيا ويعيش في الدنيا ليتعلم، ولكن ليس كلهم يتعلم ما ينفعه، فمنهم من يتعلم ما يودي به إلى النار، ومنهم من يتعلم ما يؤدي به إلى الجنة، وهذا الأخير هو الفائز ليس في الدنيا فحسب بل وفي الآخرة أيضاً. وقد عقد الشيخ هذا الدرس ليظهر أن الحياة الحقيقية هي التي تحت ظل الإسلام، لأنها هي التي تعلم وتربي.

الحياة في ظل العقيدة الإسلامية

الحياة في ظل العقيدة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عما في النفس: والنفس تعرف في عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها عيناك قد دلتا عيني منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك. اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك. اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك. اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظر إلى وجهك برحمتك يا أرحم الراحمين. أحسن الظن إخوتي بي إذ دعوني؛ فأجبت الدعوة وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة أو كبائع التمر على أهل المدينة أوكبائع السمك على أهل جدة؛ لكني أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يأخذني بما تقولون. يا منزل الآيات والقرآن بيني وبينك حرمة الفرقان اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطان يسر به أمري واقض مآربي وأجر به جسدي من النيران واحطط به وزرى وأخلص نيتى واشدد به أزري وأصلح شانى واقطع به طمعي وشرَّف همتي كثر به ورعي وأحي جناني أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يد ولا دكان أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنان ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني هكذا علمتني الحياة. أي حياة تعلم؟ وأي حياة تدرس؟ وأي حياة تربي أيها الأحبة؟ أهي حياة اللهو واللعب؟ أهي حياة العبث واللعب؟ أهي حياة الضياع والتيه؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية. إنها الحياة التي تجعلك متفاعلاً مع هذا الكون، تتدبر فيه وتتفكر: حياة على الحق نعم الحياة وبئس الحياة إذا لم نحق إنها الحياة الحقيقية؛ حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس. حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور، ومات على نور، ولقي الله بنور، وعبر الصراط ومعه النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]. إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى، سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:13 - 15]. في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: أو من كان ميتا {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] هل يستويان مثلاً؟ كلا وألف كلا {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]. لا يستوي عاقل كلا وذو سفه لا والذي علم الإنسان بالقلم هل يستوي من على حق تصرفه ومن مشى تائهاً في حالك الظلم لا يستوون أبدا. أحبتي في الله: الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة! عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإليكم هذه الليلة أزف بعض دروس علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.

توحيد الله هو محور الرسالات

توحيد الله هو محور الرسالات علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية: أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية، ومحور حياة الإنسان الحق. فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده وكل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته ونفسه؛ لله رب العالمين. فصلاته لله ونسكه لله وحياته لله وموته لله، شعاره: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وبذلك تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه، فالكون -يا أيها الأحبة- كله مطيع لله جل وعلا، خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله. فإذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع، فالكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم:44]. خلق الله سوانا كثير وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وطاعتك -أيها العبد- لك ومعصيتك -أيها العبد- عليك ولن تضر الله شيئاً. في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

التوحيد نقطة البداية

التوحيد نقطة البداية علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة، وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة. من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع، بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك، وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] نعوذ بالله من النار. وفي المقابل من ظفر بتوحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة وسعد في الدنيا والآخرة. فسعيه مشكور، وذنبه مغفور، وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107]. العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله

بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر

بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه. رضي فرضي الله عنه وسعد في حياته وأخراه واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم. في الموقف العظيم يوم يقول الله -والناس في عرصات القيامة- لأناس من بين الخلائق جميعهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: ياربنا ويامولانا! قد حاسبت الناس وتركتنا؟ فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة. فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم. وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: {ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي الصحيح أن الله عز وجل -كما في الحديث القدسي- يقول لملائكته: {قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم ثمرة فؤاده؟ -وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة: نعم. فيقول: وماذا قال؟ -وهو أعلم جل وعلا- قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء مروا بـ يزيد بن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي: ما فعلت العينان الجميلتان يا بن هارون؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وإني لأحتسبهما عند الله الواحد الغفار. فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر، وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضا، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته: صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم {فاحرص على ما ينفعك -وارض بما قسم الله لك- واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل}. ولست بمدرك ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو أني علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً: حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن إن زرعت خيراً حصدت خيراً وإن زرعت شراً حصدت مثله وإن لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة براً، وذهب وتركه وكان هذا العبد لبيباً عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيراً بدل البر، ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيراً، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك ازرعها براً لم زرعتها شعيراً؟! قال: رجوت من الشعير أن ينتج براً. قال: يا أحمق! أو ترجو من الشعير أن ينتج براً؟! قال: يا سيدي! أفتعصي الله وترجو رحمته؟! أفتعصي الله وترجو جنته؟! فذعر وخاف واندهش وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله وأبت إلى الله، أنت حر لوجه الله. كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. ها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتياً وقد قام على خدمته زمناً طويلاً ثم مله وسئمه، فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة وخرج به إلى الصحراء، ويوم وصل إلى الصحراء قال الأب لابنه: يا بني! ماذا تريد مني هنا. قال: أريد أن أذبحك. لا إله إلا الله! ابن يذبح أباه! قال: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟! قال: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، قال: إن كان ولابد يا بني فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: أبتاه! ما ضرك أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك؟! قال: إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً.

العقيدة قوة عظمى

العقيدة قوة عظمى علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن العقيدة قوة عظمى، لا تعدلها قوة مادية بشرية أرضية أياً كانت هذه القوة. والأمثلة على ذلك كثيرة وبالمثال يتضح المقال. ها هي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤتة تقابل مائتي ألف بقلوب ملؤها العقيدة، يقول قائل المسلمين: والله! ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين، فسل خالداً كم سيف اندق في يمينه؟ يجبك خالد: اندق في يميني تسعة أسياف. وسل خالداً: ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين؟ يجبك: إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده. انظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف ليهجموا عليهم هجمة واحدة، يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لـ خالد: يا خالد! إلى أين الملجأ؟ أإلى سلمى وأجا؟ فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول: لا إلى سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجى؛ فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده. بربك هل هذه قوة جسدية في خالد بن الوليد؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! إنها العقيدة وكفى: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر -عليه رحمة الله- تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وقد كان أسيراً في يد الصليبيين يوم ذاك، تقول الرسالة: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس فينتخي صلاح الدين ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، ويشحذ الهمم قبل ذلك، فيمنع المزاح في جيشه، ويمنع الضحك في جيشه، ويهيء الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك، ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر، فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بإذن الله إلى حظيرة المسلمين. ثم ماذا بعد صلاح الدين يا أيها الأحبة؟ عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى مَنْ تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهم ينشدون: محمد مات. خلف بنات. فما الحال الآن يا أيها الأحبة؟ إن ما يجري هناك لتتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى -بلسان حاله- ليصيح بالأمة المسلمة: هل من صلاح؟ هل من عمر؟ هل من صلاح؟ هل من عمر؟ فلا أذن تسمع، ولا قلوب تجيب: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه لا در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن ساءلته ماه يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه وها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله، كان عائداً من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمته خراسان، فسمع به إمبراطور القسطنطينية رومانوس فجهز جيشاً قوامه ستمائة ألف مقاتل، والله! ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملؤها الخور والضعف والهون. جاء الخبر لـ أرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله، وانظروا ووازنوا بين الجيشين: ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعين. هل هذه قوى جسدية؟ إنها قوى العقيدة وكفى يا أيها الأحبة. نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال، ما بين مصاب وجريح، قد أنهكه السير الطويل، فكر وقدر ونظر في جيشه، أيترك هذا الجيش القادم ليدخل بلاده ويعيث فيها الفساد أم يجازف بهذا الجيش؟ خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف. فكر قليلاً ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلاً: إن الإسلام اليوم في خطر وإن المسلمين كذلك، وإني لأخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود، ثم صاح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! هأنذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله: فما هو إلا الوحي أوحد مرهف تقيم ظباه أخدعي كل مائل فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل وما هي إلا ساعة، ويتكفن الجيش الإسلامي كله، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماء بصيحات: الله أكبر! يا خيل الله! اثبتي، يا خيل الله! اركبي. لا إله إلا الله! هل سمعتم بجيش مكفن؟ هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة؟ هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد؟ هل تخيلتم صورة جيش كامل يسير إلى معركة يثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور؟ التقى الجمعان واصطدمت الفئتان: فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوَّت صيحات: الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] تطايرت رءوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشراً: انهزم الرومان وأسر قائدهم رومانوس. الله أكبر! لا إله إلا الله! صدق وعده ونصر جنده: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. ذهب من جند الله كثير وكثير -نحسبهم شهداء- وبقي الباقون يبكون، فهل يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله. أما القائد المسلم فبكى طويلاً وحمد الله حمداً كثيراً وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه آه! آمال لم تنل، وحوائج لم تقض، وأنفس تموت بحسراتها. كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف، ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند فاعرف يا بن أمي في العقيدة يا أخا الإسلام في الأرض المديدة ما حياة المرء من غير عقيدة وجهاد وصراعات عنيدة فهي طوبى واختبارات مجيدة فانطلق وامض بإيمان وثيق وإذا ما مسك الضر صديقي فلأنَّا قد مشينا في الطريق

من حفظ الله حفظه الله

من حفظ الله حفظه الله علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من حفظ الله حفظه الله، ومن وقف عند أوامر الله بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز؛ حفظه الله. من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى حفظه الله. من حفظ ما بين فكيه وما بين فخذيه حفظه الله. من حفظ الله في وقت الرخاء حفظه الله في وقت الشدة. من حفظ الله في صباه حفظه الله عند ضعفه وقوته: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. ها هو الإمام الأوزاعي ذلكم الإمام العابد المحدث الورع الفقيه عندما يدخل عبد الله بن علي ذلكم الحاكم العباسي دمشق في يوم من الأيام فيقتل فيها ثمانية وثلاثين ألف مسلم، ثم يُدخل الخيول مسجد بني أمية، ثم يتبجح ويقول: من ينكر علي فيما أفعل؟ قالوا: لا نعلم أحداً غير الإمام الأوزاعي. فيستدعيه، فيذهب من يذهب ليستدعيه؛ فعلم أنه الامتحان؛ وعلم أنه الابتلاء؛ وعلم أنه إماأن ينجح ونجاح ما بعده رسوب، وإما أن يرسب ورسوب ما بعده نجاح. فماذا كان من هذا الرجل؟ قام واغتسل وتحنط وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه ثم أخذ عصاه في يده واتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزة التي لا تضام! والركن الذي لا يرام! يا من لا يهزم جنده! ولا يغلب أولياؤه! أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبي الله ونعم الوكيل. ثم ينطلق وقد اتصل بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذاك، وذاك قد صف وزراءه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها، قال: فدخلت -ويوم دخلت- وإذا السيوف مسلطة، وإذا السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع، قال: فدخلت، ووالله! ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزاً، والمنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير. فوالله! ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله! ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا. قال: فانعقد جبين هذا الرجل من الغضب ثم قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول الناس: أني الأوزاعي. قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جدك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}. قال: فتلمظ كما تتلمظ الحية، قال: وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي، قال: ورفعت عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذا به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموال التي أخذنا، قال: سوف يجردك الله عرياناً كما خلقك، ثم يسألك عن الصغير والكبير والنقير والقطمير؛ فإن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حراماً فعقاب. قال: فانعقد جبينه مرة أخرى من الغضب، قال: وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، قال: وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج. قال: فخرجت، فوالله! ما زادني ربي إلا عزة. ذهب وما كان منه إلا أن سار في طريقه إلى الله عز وجل حتى لقي الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى. ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي، فوقف عليه وقال: والله! ما كنت أخاف أحداً على وجه الأرض كخوفي من هذا المدفون في هذا القبر، والله! إني كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزاً. اعتصم بالله، وحفظ الله في الرخاء فحفظه الله في الشدة: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. ويا أيها الأحبة: ما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء، يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله عز وجل وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة ولابد من الابتلاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. ها هو الأسود العنسي ذلكم الساحر القبيح الظالم، الذي ادعى النبوة بـ اليمن، يجتمع حوله اللصوص وقطاع الطرق ليكونوا فرقة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله جل وعلا؛ ليذبح الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرق منهم من أحرق، وطرد منهم من طرد، وهتك أعراض بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دعوته قال: كلا والذي فطرني! لن أقف: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها، وقال لهم: إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، وإن كان على غير ذلك فسترون. ثم أمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم جاء بـ أبي مسلم الخولاني -عليه رحمة الله- فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم رموه في لهيب النار ولظاها. إن هذه النار -كما يقولون- كان يمر الطير من فوقها فتسقط الطيور في وسطها من عظم ألسنة لهبها، وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ ليسقط فى وسط النار وكادت قلوب الموحدين أن تنخلع وكادت أن تنفطر وانتظروا والنار تخبو شيئاً فشيئاً وإذا بـ أبي مسلم قد فكت النار وثاقه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهددهم ويتوعدهم، أما هذا الرجل فانطلق إلى المدينة النبوية إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر ويصل إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمع عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا الرجل، فينطلق ويأتي إليه، ويقول: أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم. قال: أأنت الذي قذفت في النار وأنقذك الله منها؟ قال: نعم. فيعتنقه ويبكي ويقول: الحمد لله الذي أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، من حفظ أبا مسلم؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظه الله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. وها هو ابن طولون وال من ولاة مصر -وما زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، ونسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان. هذا الوالي يا أيها الأحبة- ما كان منه إلا أن قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقد قتلهم بقتلة هي من أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعاً وعطشاً، فسمع أبو الحسن الزاهد -عليه رحمة الله- فأقض مضجعه أن يسمع بإخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر} فذهب إليه وقال له: اتق الله في دماء المسلمين. وخوفه بالله، فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن فى سجن، وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام، ثم جاء فجمع الناس جميعهم، ثم ما كان منه إلا أن جاء بهذا الرجل وجاء بذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام، فقام هذا الرجل متصلاً بالله الذي لا إله إلا هو، وقام يصلي. أما الأسد فقد أطلقوه عليه فانطلق الأسد حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها، فما كان من الناس إلا أن ذهلوا، وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام. من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء، فما كان من طلاب الشيخ إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا: يا أبا الحسن! فيم كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد؟ قال: والله! ما فكرت فيما فيه تفكرون ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي: ألعاب الأسد نجس أم طاهر لكيلا يفسد وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو. حفظوا الله فحفظهم الله، وما اعتصم عبد بالله فكادته السماوات والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجاً. اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.

الظلم مرتعه وخيم

الظلم مرتعه وخيم علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلاميه: أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الظلم يفضي إلى الندم، وأنه ظلمات يوم القيامة، وأن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون؛ لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. في الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {قال الله: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم فاجتمعوا وعقدواً مؤتمراً لهم، وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا ونعوذ بالله منه، فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه؛ يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة، وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر. ما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل، والراضي كالفاعل، فما كانت النتيجة؟ أي ظلم -يا أيها الأحبة- وأي ظلمات أن يقع الأب على ابنته، أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه؟ إنه -والله- الظلم والظلمات. فيرسل الله عز وجل جندياً من جنوده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيخرج عليهم النمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الآخر، فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت، فسرق من أموالهم ما سرق، وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين، ثم حفر له تحت صخرة من الصخرات، ثم ما كان منه إلا أن علمه بهذه الصخرة، وذهب هارباً إلى مكة، وبقي في مكة ردحاً من الزمن، قيل: إنها عشرون سنة أو أكثر من ذلك، ثم تذكر ذلك الذي حصل ولم يبق في تلك القرية إلا النساء، فماذا كان يا أيها الأحبة؟ ما كان من هذا الرجل بعد عشرين سنة إلا أن أرسل واحداً من أهل مكة -وما استطاع هو بنفسه أن يرجع إلى هناك- وقال: اذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا، خذه وائتنا به ولك كذا وكذا، فذهب الرجل على وصفه وسأل عن المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة، ويوم وصل به إلى مكة جاء الرجل ليفتحه، وكان ذلك الرجل أميناً لم يغير فيه ولم يبدل، أخذه كما هو، وعندما فتحه وإذا بنملة على ظهره إذ بها تأتي فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]. وها هو المعتمد حاكم بعض ولايات الأندلس ذلكم الشجاع القوي المترف، يستعين به حاكم ولاية مجاورة، غزاها أحد أعدائه فيسرع المعتمد لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحوراً لما رأى جيوش المعتمد. وهنا انتهت مهمة المعتمد، لكنه في ظلام الليل يقوم ليبث جنوده في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتل المدينة ويا له من مجير: والمستجير بعمر عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار أصيب ذلك الحاكم -لأنه دعاه- بصدمة عنيفة شُلَّ منها، قبض عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع السجن، وسبيت زوجاته وبناته ثم أخرج من ولايته مهاناً ذليلاً، يقول أبوه: والله! إن هذا بسبب دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس. ثم يرفع يديه إلى من لا يغفل عما يعمل الظالمون، قائلا: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا فانتقم لنا من الظالمين. وتصعد الدعوة إلى من ينصر المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة، ينام والمظلوم يدعو عليه وعين الله لم تنم، وتجتاحه دولة المرابطين في ليلة من الليالي وتأسره في آخر الليل: يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا ويقضي حياته في أغمات في بلاد المغرب أسيراً حسيراً كسيراً، وأصبحن بناته المترفات اللائي كن يخلط لهن التراب بالمسك ليمشين عليه؛ حسيرات يغزلن للناس الصوف ما عندهن ما يسترن به سوآتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجن يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعراً: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسوراً ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا كم من دعوة مظلوم قصمت ظهر طاغية، والعدل أساس الملك: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. ها هو حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا -وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله- يقول لهم متبجحاً: أين إلهكم الذي تستغيثون؛ لأضعنه معكم في الحديد. جل الله وتبارك سبحانه وبحمده. ويخرج ويركب سيارته وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنة ليدخل الحديد في جسده فما يخرجونه منه إلا قطعة قطعة. {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. ولما أهين الإمام أحمد بن حنبل من قبل ابن أبي دؤاد رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال: اللهم إنه ظلمني وما لي من ناصر إلا أنت؛ اللهم احبسه في جلده وعذبه، فما مات هذا حتى أصابه الفالج فيبس نصف جسمه وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وإذا به يخور كما يخور الثور، ويقول: أصابتني دعوة الإمام أحمد ما لي وللإمام أحمد؟! ما لي وللإمام أحمد؟! ثم يقول: والله لو وقع ذباب على نصف جسمي لكأن جبال الدنيا وقعت علي، أما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به. فإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم وفي الأثر أن الله عز وجل يقول: {وعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم}. لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يفضي إلى الندم تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم

البناء صعب والهدم سهل

البناء صعب والهدم سهل علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن البناء صعب جد صعب، والهدم سهل جد سهل؛ فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات. وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه في أيام وليال. ما رأيكم -يا أيها الأحبة- إن كان هناك ألف بان ووراءهم هادم واحد هل يقوم البناء؟ كلا لا يمكن أن يقوم. فما رأيكم إن كان الباني واحداً والهادم ألفاً. أرى ألف بان لا يقوموا لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم وسائل في غالبها تهدم، ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين؛ لكن الحق يعلو والباطل يسفل، فهل يستقيم الظل والعود أعوج: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه

عدم اليأس

عدم اليأس علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أيئس وألا أقنط وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج، وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه: فلا ييئس {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]. لو تأملت -أخي الحبيب- قصة نوح عليه السلام، الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، لم يزدهم دعاؤه إلا فراراً: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] والدعوة لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، قيل: اثني عشر، وغاية ما قيل أنهم ثمانون، بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحداً أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحداً، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس. ها هو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: {يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه شيء} ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وها هم أصحاب القرية -قرية أنطاكية - يرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فعزز بثالث فكذبوه، ثلاثة رسل إلى قرية واحدة، ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة؟ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. يا أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومن مخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، تحاول صعود الجدار فتسقط، ثم تحاول أخرى وتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصعد الجدار، أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة يا أيها الأحبة؟ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. إن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:18 - 20] ثم ماذا قال بعدها: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] كأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله أن يأخذوا: صبر الإبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن. ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاماً ولا شراباً، ويئس من الحياة فقام ينشد ويقول: إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب لا يمكن أن يكون القار كاللبن ولا يمكن أن يشيب الغراب، معنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت، وإذا بهاتف يهتف ويقول: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب وبينما هو يسمع هذا النداء وإذا بسفينة تمر فَيُلوح لها، فتأتي فتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا. عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه قضى الله أن العسر يتبعه اليسر ولن يغلب عسر يسرين، فاعمل أخي! لا تيئس وابذر الحب. فعليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير معين ستسير فلك الحق تحمل جنده وستنتهي للشاطئ المأمون بالله مجراها ومرساها فهل تخشى الردى والله خير ضمين ولنا بيوسف أسوة في صبره وقد ارتمى في السجن بضع سنين لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر

النظر في أمور الدنيا لمن هو أدنى وفي أمور الدين لمن هو أعلى

النظر في أمور الدنيا لمن هو أدنى وفي أمور الدين لمن هو أعلى علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي، فذلك جدير ألا أزدري نعمة الله علي. وأن أنظر في أمور آخرتي إلى من هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي ألحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت ولا أحسد أحداً ما استطعت. يقول أحدهم عن ابن تيمية -عليه رحمة الله- وددت -والله- أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. ويقول: والله! ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، قال: فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم وقال: إني لكم مكان أبيكم فسلوا ما شئتم. فسروا به كثيراً ودعواً له كثيراً وعظموا حاله ولسان حالهم: والله! ما رأينا مثلك: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما ملك الإنسان إحسان لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلى من طبعه الغضب ماذا استفاد الحاقدون؟ ماذا استفاد الحاسدون؟ ما استفادوا إلا النصب، وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات، ووالله! لن يردوا نعمة أنعمها الله على عبد أياً كان، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله: اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

من عرف الحق هانت عنده التضحيات

من عرف الحق هانت عنده التضحيات علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من عرف الحق هانت عنده التضحيات، فيتعالى على متع الحياة وعلى زخارفها؛ لأنه ينتظر متعة أبدية سرمدية في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر: فيقدم مراد الله على شهواته ولذائذه، ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه، فيسعد في دنياه ويسعد في أخراه، وفي الأثر أن الله جل وعلا يقول: {وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على لذائذ نفسه- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}. هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دميم الخلقة لكنه رجل أعطاه الله من الإيمان ما أعطاه، وما ضره أنه دميم الخلقة، تقدم ليتزوج من أحد البيوت، فكان كلما تقدم إلى بنت رفضته؛ لأنه دميم الخلقة ولأنه قصير لا ترغب فيه النساء. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أصحابه ويقول: {يا رسول الله! أليس من آمن بالله وصدق بك يدخل الجنة ويزوج من الحور العين؟ -أو كما قال- قال: بلى. قال: فما بال أصحابك لا يزوجونني؟! قال: اذهب إلى بيت فلان وقل لهم: رسول الله يطلب ابنتكم. فذهب إلى بيت رجل من الأنصار وطرق الباب عليه فخرج صاحب البيت فسلم عليه وقال: رسول الله يطلب ابنتكم. قالوا: نعم ونعمة عين! من لنا بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -أي نسب نريد غير هذا النسب- قال: لكنه يطلبها لي أنا. قال: الله المستعان! -أو كما قال- ثم ذهب ليستشير زوجه فأخبرها بذلك فقالت: رسول الله يطلب ابنتنا؟! نعم ونعمة عين! قال: ولكنه يطلبها لفلان -وسماه باسمه- فما كان منها إلا أن ترددت وقالت: أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان؟ ألم يجد رسول الله غير هذا؟ وكانت البنت -التقية العابدة الزاهدة التي تقدم مراد الله على لذائذ وشهوات النفس- تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت: ما بكم؟ قالوا: إن رسول الله يطلبك لفلان. قالت: وما تقولان؟ قالوا: نستشير ونرى. قالت: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أين تذهبان من قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ادفعوني إليه، فإن الله لا يضيعني} ويسمع الرجل وينتقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فتبرق أسارير وجهه صلى الله عليه وسلم ويفرح بها ويدعو لهذه المرأة، ففازت بدعوته صلى الله عليه وسلم. قيل: إن المال كان يأتيها لا تعلم من أين يأتيها. وفي ليلة الزفاف -ليلة الدخول- إذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي. وهنا يقف موقفاً أيدخل على زوجته في أول ليلة في كامل زينتها أم يجيب داعي الله جل وعلا؟ فما كان منه إلا أن ترك هذه البنت وانطلق يطلب الحور العين، وذهب وانتهت المعركة وقام النبي يتفقد أصحابه فيقول: {هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً وما فقدوا هذا الرجل -خفي تقي- فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: لكني أفقد أخي جليبيباً قوموا معي لنطلبه في القتلى، ذهب يبحث عنه صلى الله عليه وسلم، ووجده قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم على ذراعيه ومسح التراب عن وجهه، وقال: قتل سبعة من المشركين وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه}. ماذا قدم هذا الرجل؟ قدم قليلاً وأخذ كثيراً وكثيراً وكثيراً. وهاهو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثني على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له: كيف أولاده وزوجته؟ قال: لقد تحولت زوجته وأولاده إلى منزل آخر، والله! ما رأيتها خلال اثني عشر عاماً وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام. تعيش معه ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الحمو الموت} ولقد آثر أن يكون خطيب جامع على أن يكون رئيساً للقضاة في عهده فرحمه الله. وهاهو صحابي اسمه أبو لبابة يختلف مع يتيم على نخلة كانت بين بستانين لهما، يدّعي اليتيم الصغير أن هذه النخلة له، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليعاين المكان، فإذا النخلة في بستان الصحابي أبي لبابة، فيحكم بها لهذا الصحابي، فتذرف دموع اليتيم. ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير حكمه أبداً؛ لأنه العدل الحق، لكنه أعلن عن مسابقة، قال لـ أبي لبابة: {أتعطيه النخلة ولك بها عذق في الجنة} لكنه كان مغضباً، إذ كيف يشكوه والحق له، وكان في المجلس رجل يبحث عن مثل هذه الأمنية، وهو أبو الدحداح عليه رضوان الله، قال: {يا رسول الله! ألي العذق في الجنة إن اشتريت نخلته بحديقتي وأعطيتها هذا اليتيم؟ قال: لك العذق} فما كان من أبي الدحداح إلا أن لحق بـ أبي لبابة رضي الله عنه فقال: أتبيعني نخلتك ببستاني كله؟ قال: بعتكها لا خير في نخلة شُكيت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فباعه إياها، فذهب أبو الدحداح إلى بستانه ودخل ونادى أم الدحداح وأولاد أبي الدحداح: أن اخرجوا فقد بعناها من الله بعذق في الجنة. حتى قيل: إن بعض أطفاله كان في أيديهم بعض الرطب فكان يقول: قد بعناه من الله ويرميه في البستان. فخرج ولم يكتف بذلك ولم يرض ثمناً للجنة إلا أن يقدم دمه وروحه لتزهق في سبيل الله عز وجل، وتأتي موقعة أحد ويشارك الجيش ويكون النبي صلى الله عليه وسلم في حالة تعلمونها في آخر المعركة، قد شج وجهه وكسرت رباعيته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ولم ينس أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر بهم فإذا هو بـ أبي الدحداح فيمسح التراب عن وجهه ويقول: {يرحمك الله! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة} ماذا خسر أبو الدحداح؛ خسر تراباً وشجيرات ونخيلات؛ لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات، وذلك هو الفوز العظيم. ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.

عدم احتقار الأشياء

عدم احتقار الأشياء علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أحقر شيئاً مهما قل، بل أتعلم وأعمل وأدأب وأداوم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأحب العمل أدومه وإن قل، والقليل إلى القليل كثير، وإنما السيل اجتماع النقط: اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط

حسن الظن بالمؤمنين

حسن الظن بالمؤمنين علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أحسن الظن بالمؤمنين وأن أحملهم على خير المحامل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ ذلك الخلق الذي لا يتصف به حقاً إلا المؤمنون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. هاهو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله! لـ عائشة خير منك وخير من نساء العالمين. فقالت هي: يا أبا أيوب! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان؟ قال: لا والله! قالت: فـ صفوان والله خير منك. إحسان ظن بالمؤمنين، وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والتي بقيت وقتاً من الزمن لا يرقأ لها دمع، وقلبها يتفطر تسمع رجلاً يسب حسان؛ لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول: دعوه أليس هو القائل: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء وهكذا علمتني الحياة.

أعدى الأعداء من يغدر بك

أعدى الأعداء من يغدر بك علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعدى الأعداء من لا يواجهك وإنما يغدر بك ويقتلك ويتقمص شخصك ويتقمص عملك أحياناً لينقض عليك وهو يتبسم، هذا هو أشرس الأعداء وهو أقوى الأعداء ظاهرياً وإلا ففي باطنه هو على شفا جرف هار: إذا رأيت نيوب الضبع بارزة فلا تظنن أن الضبع يبتسم إنه النفاق والمنافقون: إن النفاق لآفة فتاكة إن أهملت أدت إلى الأسقام وقضت على آمالنا في أمة راياتها في البحر كالأعلام المنافقون: ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يؤمر بمعروف ولا ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]. لهم ألف وجه بعدما ضاع وجههم فلم تدر فيها أي وجه تصدق {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب:61] فهم في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. إن المنافقين جراثيم تسمم، وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك وما زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم: لن تستريح قلوبنا إلا إذا لم يبق في الأرض الفسيحة مسلم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث ابن سبأ، الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، واندس في الصفوف على أنه مسلم وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم: ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث يدير رحاها ألف كسرى وقيصر وألف مدير للمدير مدير قد تقولون: من هم؟ فنقول: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين؛ ليفسد نفوسهم على عثمان وقد نجح إلى حد ما؛ ونجاحهم دائما مؤقت، وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم؛ حتى إنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته، لينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه ثم يضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه، ليستدير المصحف ويستقر أخرى بين يدي عثمان ويتخضب بالدماء ويغشى عليه ويُجر برجله رضي الله عنه وأرضاه. ويأتي أحدهم بسيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى النساء بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره، ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدره وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلاً: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه، ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعاً من أضلاعه. فلا إله إلا الله! إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ست منها لما في الصدور: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] وبصيحة (لله) الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملئت سجون، وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا: ست منها لما في الصدور. ووالله! إنها لكلها لما في الصدور حتى وعثمان يذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع ويقتل معه عبدان كانا يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهما بعد. فانظر -أخي الكريم- كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثاً أعزها الله طعاماً للكلاب، لهم أشد على المؤمنين من اليهود والنصارى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]. ولا إله إلا الله! يقول الحسن: [[لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا أن نمشي في الطرقات]] وهو يقول هذا على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن؟! لكن نقول: كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى. ويذكر أئمتنا أن رجلاً تاب من عمل كان يقوم به، وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أول ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل، فلما قيل له: لم تركت هذا العمل؟ قال: والله! لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحداً منهم موجهاً إلى القبلة، وأنا أفتحه في أول ليلة من ليالي الدفن، فما الذي حوله عن القبلة؟! الذي حوله عن ذلك ما كان يظهر هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك. بيننا وبينهم يوم تبلى فيه السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر من في القبور ويحصل ما في الصدور وأقول مع ذلك: فتنبهوا يا معشر الإسلام من أحلامكم فالضعف في الأحلام لا تغفلوا عن حاقد يقظان يرقب نومكم كالوحش في الآجام حرب المعاصي والنفاق صراحة ليست سوى حرب على الإسلام لا تقل زال عصر النفاق فلكل عصر رجاله: ما زال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغياً وعدوانا ما زال لـ ابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم وسماً وعنوانا لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه رب إذا قال كن في أمره كانا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120]. والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون. لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرءوس لأراك في الإفصاح هارون وفي الإقدام موسى. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

لن تنجح الدعوة بفضول الأوقات

لن تنجح الدعوة بفضول الأوقات علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه لا نجاح للدعوة ولا ثمرة لها إن نحن أعطيناها فضول أوقاتنا، إذا لم ننس معها طعامنا وشرابنا وراحتنا، إذا لم نجند كل طاقتنا فلن نفلح في إيصال الأمانة التي كلفنا الله بها. يقول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال: {بلغوا عني ولو آية} ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام، والهوية الإسلام، له نحيا وبه نحيا وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله حياتنا لله ومماتنا لله، لسان حال الواحد منا: قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته فمنا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته ها هو نوح يدعو ويسعى -كما سمعتم قبل قليل- لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ماذا بقي في حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله جل وعلا؟ وما النتيجة؟ لم يؤمن معه كما سمعتم إلا قليل. وهاهو صلى الله عليه وسلم يحمل هم هذا الدين ويثقل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه وتعالى بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]. يريد حياتهم ويريدون موته. يريد نجاتهم ويريدون غرقه. يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار. ثم انظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، وفي الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم حتى لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموم أرضية، يجمع عمر أصحابه يوماً من الأيام ويقول: تمنوا. فيقول أحدهم: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله. فيقول الآخر: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله. فيقول عمر: لكني أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت رجالاً أستعملهم في طاعة الله. حملوا هم هذا الدين: لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد فهل أعجبتك خصالهم: إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك ليسأل كل واحد منا نفسه: كم جعل من وقته للدعوة إلى الله؟ ماذا قدم لدين الله عز وجل؟ ماذا قدم لنفسه؟ كم اهتدى على يديه؟ إن الإجابات واضحة ومخجلة، لم نعط للدعوة سوى فضول أوقاتنا وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله، لكن الفرصة لا زالت قائمة، فجد واجتهد عبد الله وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة، فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة. فإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع

صوت الحق لا يخمد أبدا

صوت الحق لا يخمد أبداً علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن صوت الحق لا يخمد أبداً إذ هو أبلج، والباطل زبد لجج. الباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة: والحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يسأل وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدل هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في صف لوحده في بداية دعوته والبشرية كلها ضده، تريد إطفاء النور الذي جاء به، ومع ذلك خسئوا: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] ولو كره المنافقون ولو كره الفاسقون. ويأتي صحابته من بعده صلى الله عليه وسلم فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم. ولئلا نيئس ولئلا نقنط؛ نأت بهذه الحادثة: ها هو الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر: ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة. فقال الشيخ بثبات المؤمن: إنك لن تستطيع. فاستشاط غضباً وأرغى وأزبد. وقال: كيف؟ قال: إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين، وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين، وإن ركبت سيارة علمت الراكبين، وإن ركبت قطاراً علمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين، وخير لكم ثم خير لكم ثم خير لكم ألا تتعرضوا للأمة في دينها، فوالله! ما نقاتلكم إلا بهذا الدين، ووالله! ما نقاتلكم إلا لهذا الدين: إذا الله أحيا أمة لن يردها إلى الموت جبار ولا متكبر ديننا الحق والكفر ذا دينهم كل دين سوى ديننا باطل

الأذى لا يهزم دعوة أبدا

الأذى لا يهزم دعوة أبداً علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الأذى لا يهزم دعوة أبداً، ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمن مهما فعلوا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]. هاهو أبو بكر النابلسي -عليه رحمة الله- ذلك الزاهد الورع العالم يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر، فعطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعز أبا بكر النابلسي -عليه رحمة الله- فقال له: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم. قال: لا. فظن أنه رجع عن قوله، قال: كيف؟ قال: قلت: ينبغي رميكم -أيها الفاطميون- بتسعة ورمي الروم بالعاشر. فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم التالي، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حياً، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي، فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد: علو في الحياة وفي الممات فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر؟ هل خلف أبو بكر أحداً؟ نعم. خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم: إذا سيد منا مضى قام سيد قئول بما قال الكرام فعول وهكذا فكم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق! وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية وبقيت كلمة الحق! وكم من عالم حرم جميع حقوقه من أجل أن يحفظ حق الله وبقيت كلمة الحق: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. تا لله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين لن تستطيع حصار فكري ساعة أو كبح إيماني ورد يقيني فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني

سهام الليل لا تخطئ

سهام الليل لا تخطئ علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن سهام الليل لا تخطئ، ولكن لها أمد وللأمد انقضاء، فإذا ادلهمت الخطوب وضاقت عليك الأرض وعز الصديق وقل الناصر وزمجر الباطل وأهله، ودعم الفساد وأهله، وكبت الحق وأهله، ونطق الرويبضة، وغدا القرد ليثاً، وأفلتت الغنم؛ فارفع يديك إلى من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. يا من أجبت دعاء نوح فانتصر وحملته في فلكك المشحون يا من أحال النار حول خليله روحاً وريحاناً بقولك كوني يا من أمرت الحوت يلفظ يونساً وسترته بشجيرة اليقطين يا رب إنا مثله في كربة فارحم عباداً كلهم ذو النون تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلى والجود وعلى النبي محمد صلواته ما ناح قمري وأورق عود سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده.

هكذا علمتني الحياة [2]

هكذا علمتني الحياة [2] العقيدة مدرسة تخرج منها أجيال، ترعرعوا في رياضها، وتربوا في محاضنها. وهناك أناس عاشوا تحت رايتها لكنهم لم يقتبسوا من نورها، ولم ينهلوا من معينها. وفي المقابل هناك رجال أفذاذ علموا بحقيقتها، فتنافسوا في الاستفادة من عظاتها. فهاك نبذ من فوائدها، ووقفات مع بعض دروسها.

منزلة الكلمة الطيبة

منزلة الكلمة الطيبة الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً. اللهم اجزِه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته، وأوردنا حوضه في الآخرة. اللهم لا تجعل لقلوبنا -الآن- حوضاً تَرِدُه إلا كتابك وسُنة نبيك صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقاً، والباطل باطلاً، ووفقنا لاتباع الحق والعمل به، والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، ابتغاء وجهك وطلباً لمرضاتك: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:193 - 194]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته: وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار: قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة: هكذا علمتني الحياة. لكم غُنْم هذه المحاضرة، وعليَّ غُرْمها، لكم صفْوُها، وعلي كدرُها، هذه بضاعتي -وإن كنت قليل البضاعة- تُعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تُزفُّ إليكم؛ فإن صادفت قبولاً فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان، والله المستعان. ما كان من صواب فمن الله الواحد المنَّان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله -والله المستعان- وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان. نُبَذٌ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة، أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه رباه! يظنُّ النَّاسُ بي خيراً وإنِّي لشرُّ النَّاسِ إنْ لم تعفُ عني ومالي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك إن عفوتَ وحُسْن ظَنِي اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون. وهكذا علمتني الحياة. علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه لا خير ولا أفضل ولا أجمل ولا أحسن من كلمة طيبة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. أُخيَّ إنَّ البرَ شيءٌ هينُ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لينُ

أمثلة توضح أهمية الكلمة الطيبة

أمثلة توضح أهمية الكلمة الطيبة هاهو أعرابي -كما يُروى- يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيمسكه بتلابيبه، ويهزُّه ويقول: {أعطني من مال الله الذي أعطاك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فيقوم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخص محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: على رِسلكم، المال مال الله}. أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ هذا الأعرابي ويداعبه، ويلاطفه، ويذهب به إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فيقول: {خذ ما شئت ودع ما شئت} لكن ماذا يأخذ من بيت محمد صلى الله عليه وسلم، بيت لا توقد فيه النار شهرين ولا ثلاثة أشهر، بيت لم يشبع أهله من خبز الشعير، ولم يشبعوا من دَقَل التمر ورديء التمر، بيت يأتي السائل يسأل فلا يوجد -يوماً من الأيام- فيه سوى عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته صلى الله عليه وسلم سوى تمرة واحدة، لكنه خير بيت وجد على وجه الأرض، بأبي وأمي صاحب ذاك البيت صلى الله عليه وسلم، ما ملك الأعرابي إلا أن قال: {أحسنت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال: إن أصحابي قد وجدوا عليك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاخرج إليهم، وقل لهم ما قلت لي الآن، فخرج، وجاء إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: نعم وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشد أنك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة فنفرت منه، فذهب يُطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون؛ فما ازدادت الدابة إلا نفاراً وشراداً، فقال: دعوني أنا ودابتي، أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوَّح به لهذه الدابة؛ فما كان منها إلا أن انساقت إليه، وجاءت إليه، فأمسك بها. أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه، فأوجعتموه؛ فذهب من عندكم على كفره، فمات، فدخل النار}. أرأيتم الكلمة الطيبة يا أيها الأحبة؟ فلا إله إلا الله! لا أفضل من دفع السيئة بالحسنة، إنها آسرة القلوب والأرواح، إنها مُسْتلة الأضغان والأحقاد والسخائم من القلوب: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. المؤمن الحق -يا أيها الأحبة- كالشجرة المثمرة، كلما رُجمت بالحجارة أسقطت ثمراً طيباً؛ فيا له من قمة! ويا لها من مُثل! هاهو يهودي معه كلب -واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شَرَكِهم- يمر على إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله ذلكم المؤمن، فيقول له: ألحيتك -يا إبراهيم - أطهر من ذنب هذا الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟ فما كان منه إلا أن قال -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها. فما ملك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. أقول هذا لعموم الناس، أما نحن -الدعاة وطلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم- ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشق برديء الكلام، ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور، ولو حاول غيرنا جرَّنا إلى هذه الأمور، ليكن تحركنا ذاتياً، فلا يحركنا غيرنا؛ لئلا نُجرَّ إلى معارك وهمية خاسرة -ولا شك- ثم علينا ألا نغضب لأنفسنا، بل علينا أن نسمو بأنفسنا، عن كل بذيء، وعن كل ساقط. لَو كلُ كلبٍ عَوى أَلقَمته حجراً لأَصبحَ الصخرُ مثقالاً بِدِينار ومنْ عاتبَ الجُهَال أتعب نفسه ومنْ لام مَنْ لا يعرف اللوم أفسدَا

توضيح لحقيقة الكلمة الطيبة

توضيح لحقيقة الكلمة الطيبة وليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحياناً -يا أيها الأحبة- تكون بالسكوت، والمدافعة أحياناً تكون بالاختفاء، والمدافعة أحياناً تكون بالإعراض عن الجاهلين. في يوم أحد -وما أدراكم ما يوم أحد - يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان -وكان لا زال مشركاً- رضي الله عنه وأرضاه: هل فيكم محمد؟ فلم يرد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أحداً بالرد. هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ فلم يُجبه أحد. مع أن الجواب قد كان أغيظَ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل: إذا نطقَ السَّفيه فلا تُجْبهُ فَخَير من إجابته السكوتُ فإنْ كلمْتَه فرَّجت عنهُ وإنْ خَلَّيته كمداً يموتُ ومن باب قول الآخر: والصَّمتُ عنْ جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لصونِ العِرضِ إصلاحُ أما تَرى الأُسْد تُخْشى وهي صامتةٌ والكَلْبُ يُخْزى لعَمر الله نبَّاحُ هاهو الإمام أحمد عليه رحمة الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيه من السفهاء فيسبُّه ويشتمه ويقرعه بالسب والشتم، فيقول طلابه وتلاميذه: يا أبا عبد الله! رُدّ على هذا السفيه. قال: لا والله! فأين القرآن إذاً؟ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً) [الفرقان:63] إذا سبني نَذلٌ تزايدتُ رفعةً وما العيبُ إلا أن أكونَ مُساببه ولو لم تكن نَفْسِي عليَّ عزيزةً لمكنْتُها من كلِ نذل تُحاربه

استخدام الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله

استخدام الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله هاهو مصعب بن عمير -سفير الدعوة الأول إلى المدينة النبوية - يأتيه أسيد بن حضير بحربته -وهو ما زال مشركاً- فيقول لـ مصعب: ما الذي جاء بك إلينا؟ تسفه أحلامنا، وتشتم آلهتنا، وتُضيع ضعفاءنا، اعتزلنا إن كنت في حاجة إلى نفسك، وإلا فاعتبر نفسك مقتولاً. فما كان من مصعب -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله وبنصر الله لهذه الدعوة- إلا أن قال له -في كلمات هادئة-: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ قال: لقد أنصفت -وكان عاقلا لبيباً- فكلمه مصعب رضي الله عنه عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فتهلَّل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، واستهل وجهه، وقال: كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في هذا الدين؟ -جاء ليقتله، والآن يريد أن ينهل مما نهل منه مصعب! - قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية. يقول: إن وراءي رجلاً إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه -هو سعد بن معاذ - وذهب إلى هذا الرجل، واستفزه بكلمات معينة، فجاء هذا يركض إلى مصعب، ويقول: إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك، قال: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضَه كففنا عنك ما تكره؟ فجلس، فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين، فما كان منه إلا أن استهل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟ قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثم خرج من توِّه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل، وقال: يا بني عبد الأشهل -وهم قومه-! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً، وخيرنا، وأيمننا. قال: فإن كلامكم عليَّ حرام رجالكم والنساء حتى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتُصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: فلم يبق رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة. فلا إله إلا الله! الكلمة الطيبة الكلمة الطيبة! الإحسان الإحسان، والله يحب المحسنين. أَحسنْ إلى النَّاسٍ تَستعبدْ قلوبَهمُ لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

ضرورة الاجتماع والألفة بين المؤمنين

ضرورة الاجتماع والألفة بين المؤمنين علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الاجتماع والألفة بين المؤمنين قوة، وأن التفرق والتشتت ضعف؛ فإن الإنسان قليل بنفسه، كثير بإخوانه. وما المرءُ إلا بإخوانه كما تقبضُ الكفُ بالمِعْصمِ ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خيرَ في السَّاعد الأَجذمِ يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أُعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح يذكره بالله؛ فإذا رأى أحدكم من أخيه ودّاً فليتمسك به]]. تمسَّك به مَسْكَ البخيلِ بماله وعضَّ عليه بالنواجذِ تَغْنم ويقول الحسن عليه رحمة الله: [[إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة، ويُعينوننا على الشدائد في العاجلة]]. إنْ يختلفْ نسبٌ يؤلفْ بيننا دينٌ أقمناه مقامَ الوالدِ أو يختلفْ ماءُ الوِصَالِ فماؤنا عذبٌ تحدَّر منْ غمامٍ واحدِ يقول عمر رضى الله عنه: [[والله! لولا أن أجالس إخوة لي ينتقون أطايب القول كما يُلتقط أطايب الثمر، لأحببت أن ألْحق بالله الآن]]. وهاهي جماعة من النمل تصادف بعيراً، فيقول بعضها: تفرقن عنه لا يحطمكنَّ بخفه، فقالت حكيمة منهن: اجتمعن عليه تقتلنه. تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا انفردت تكسرت آحادا بنيان واحد جسد واحد أمة واحدة: لو كبَّرت في جموع الصينِ مِئذنةٌ سمعت في الغربِ تهليلَ المصلينَ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} [آل عمرن:103].

أهمية اغتنام الفرص في الطاعات

أهمية اغتنام الفرص في الطاعات علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا تضيع فرصة في طاعة، فإن لكل متحرك سكوناً، ولكل إقبال إدباراً، ورحم الله أبا بكر ورضي الله عنه وأرضاه يوم يقول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. من تصدق اليوم على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة}. من لي بمثلِ مشيك المعتدلِ تمشى الهُوينا وتجي في الأولِ

صور من مبادرة أبي بكر في الطاعات

صور من مبادرة أبي بكر في الطاعات خرج أبو بكر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عمره في الإسلام بضعة أيام، وعاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة، وهم في صحيفة حسناته، وبعضنا يعيش عشرين عاماً وثلاثين عاماً وستين عاماً ومائة عام، وما هدى الله على يديْه رجلاً واحداً! إلى الله نشكو ضعفنا وتقصيرنا. ليس هذا فحسب؛ بل يمر يوماً من الأيام على بلال رضى الله عنه وأرضاه وهو يُعذب في رمضاء مكة، وبه من الجَهد ما به، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ. فيقول: ينجيك الله الواحد الأحد. ويرى أنها فرصة لا تتعوَّض لإنقاذ هؤلاء الضعفاء؛ لئلا يُفتنوا في دينهم فيصفي تجاراته، ويصفي أمواله، ويأتي إلى أمية بن خلف، ويقول: أتبيعني بلالاً؟ قال: أبيعكه فلا خير فيه، فيعطيه خمس أواقٍ ذهباً، فيأخذ هذه الخمس، ويقول: والله لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً. قال: ووالله لو أبيت -يا أمية - إلا مائة أوقية لأخذته منك؛ لأن لـ أبي بكر موازين ومقاييس ليست لهذا ولا لغيره من البشر، فرضي الله عنه وأرضاه. يقول أبوه: إن كنت ولابد منفقاً أموالك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقت الشدائد، فيقول: أبتاه! إنما أريد ما أريد. ماذا يريد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟ إنه يريد ما عند الله ويريد وجه الله والدار الآخرة، يقول أناس: ما أعتق بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال؛ يعني: لمعروف أسداه بلال إليه، فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى الله سبحانه وتعالى الرد من فوق سبع سماوات: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:19 - 21] رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها. وهاهو خيثمة بن الحارث كان له ابن يسمى سعد بن خيثمة بن الحارث، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، وأرادوا الجهاد في سبيل الله؛ فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لابنه: يا بني! تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن. ورأى هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض للجهاد في سبيل الله، قال: والله يا أبتاه! لا أجلس مع هؤلاء النساء. للنساء رب يحميهن، والله! ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله! لو كان غير الجنة -يا أبتاه- لآثرتك به، ولكنها الجنة، والله لا أوثر بها أحداً. ثم ذهب الشاب، وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فاستشهد في سبيل الله -بإذن الله نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً- يقول أبوه بعد ذلك: والله! لقد كان سعد أعقل مني، أواه أواه! لقد فاز بها دوني، والله! لقد رأيته البارحة في المنام: يسرح في أنهار الجنة وثمارها، ويقول: أبتاه! الْحقْ بنا فإنَّا قد وجدنا ما وعد ربنا حقَّا.

موقف أبي خيثمة في غزوة تبوك

موقف أبي خيثمة في غزوة تبوك وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوماً فوجد كل واحدة منهما قد رشَّت عريشها بالماء، وبردت له الماء، ووضعت له الطعام؛ فلما رأى ذلك بكى وقال: أواه أواه! يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد؟! والله! ما هذا بالنصف. ورأى أنها فرصة لو فاتته لعُدَّ من المنافقين، قال: والله! لا أذوق شيئاً حتى ألْحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيَّأ زاده، وهيأ راحلته، وانطلق وحيداً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد. ولَحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأدركه قرب تبوك، ورآه الناس فقالوا: راكب مقبل يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا خيثمة! كن أبا خيثمة! قال الصحابة: هو أبو خيثمة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم} ففاز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويا له من فوز!

مسارعة الحسن البصري في الدعوة إلى الله

مسارعة الحسن البصري في الدعوة إلى الله وهاهو الحسن عليه رحمة الله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:111] كانوا سباقين إلى الخير، لا يضيعون فرصة لطاعة الله عز وجل. والٍ من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه، وأكثر فيه من الزخرفة، ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له. فما كان من الحسن يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تُعوَّض أن يعظ الناس، ويذكرهم بالله، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم فيما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق، ثم وقف بجانبهم هناك، فحمد الله وأثنى عليه، فاتجهت إليه القلوب والأبصار، ثم كان مما قال: لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلى مما بنى، وشيَّد أعلى مما شيَّد، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه؟ ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه واندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه بعض السامعين من هذا الوالي، فقالوا: حسبك يا أبا سعيد! حسبك. قال: لا والله! لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننَّه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}. ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجُلاسه يتميز من الغيظ، ويدخل عليهم، ويقول: تباً لكم، وسحقاً، وهلاكاً لكم وبعداً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء! ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله. فجاء الحسن، ويوم رأى السيف ورأى الجلاد، تمتم بكلمات لم يعرف الحجاب والحُراس ماذا يقول؟ ويوم دخل، وقد خاف الله؛ خوَّف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي فما كان منه إلا أن قال: أهلاً بك أيها الإمام! وقام يرحب به، ويقول: هاهنا هاهنا يا أبا سعيد! حتى أجلسه على مجلسه، وعلى كرسيه، وجلس بجانبه، يسأله بعض الأسئلة ويقول له بعد ذلك: أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد! انصرف راشداً. وهذا بعد أن طيَّب لحيته، فخرج من عنده فلَحِق به أحد الحجاب، وقال له: والله! لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول؟ قال: دعني ونفسي. قال: أسألك بالله! ماذا كنت تقول وأنت داخل؟ قال: كنت أقول: يا وليّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم. اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه، فأنجاه وأنقذه وحفظه: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. فالحياة -يا أيها الأحبة- فرص من اغتنمها فاز، ومن ضيَّعها خسر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20]. إذا هَبت رياحُك فاغْتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون ولا تغفل عن الإحسانِ فيها فلا تدري السكون متى يكونُ وإن درَّت نياقُك فاحتلبها فلا تدري الفَصيل لمن يكونُ أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ لقد خدعتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

الاشتغال بإصلاح عيوب النفس

الاشتغال بإصلاح عيوب النفس علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أعيب أحداً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأن أشتغل بإصلاح عيوبي، وإنها لكبيرة جِد كبيرة، أما يستحي من يعيب الناس وهو معيب؟! ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نارٌ تَفوح بلا دُخَان هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه، يختار جلاسه اختياراً، ويشترط عليهم شروطاً، فكان من شروطه: ألا تغتابوا، ولا تعيبوا أحداً في مجلسي حتى تنصرفوا. السَّهل أسهلُ مسلكاً فدع الطريق الأوعَرا واحفظ لسانك تسترح فلقد كفى ما قد جرى هاهو ابن سيرين عليه رحمة الله كان إذا ذُكر في مجلسه رجل بسيئة بادر فذكره بأحسن ما يعلم من أمره، فيذب عن عرضه. فيذب الله عز وجل عن عرضه، سمع يوماً أحد جلاسه يسبّ الحجاج بعد وفاته، فأقبل مغضباً، وقال: صهٍ يا بن أخي! فقد مضى الحجاج إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج، ولكل منكما -يومئذ- شأن يغنيه، واعلم يا بن أخي! أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بعيب أحد، ولا تتبع عثرات أحد: ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحبُ يا عائب الناس وهو معيب! اتق الله، أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وخواص المسلمين هم العلماء، والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب بلاه الله قبل موته بموت القلب: وكم من عائبٍ قولا صحيحاً وآفته من الفَهم السقيمِ ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ يجدْ مُراً به الماءَ الزلالا فإن عبت قوماً بالذي فيك مثْلُه فكيف يعيبُ الناسُ من هو أعورُ؟ وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهمُ فذلك عند اللهِ والناس أكبرُ من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضا. فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة ولكن عين السخطِ تُبْدي المساويا وكيف ترى في عين صاحبك القذى ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ بعض الإخوة ظلمة بعض الإخوة غير منصفين، يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، فحالهم كقول القائل: إن يسمعوا سُبّةً طاروا بها فرحاً مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإنْ ذُكرت بسوءٍ عندهم أَذِنوا إن يعلموا الخيرَ أخفوه وإن يَعلموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان حاله: لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها لنفسي عن نفسي من الناسِ شاغلُ {والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ}.

أهمية اختيار الأصحاب

أهمية اختيار الأصحاب علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الصاحب ساحب، وأن القرين بالقرين، وأن الناس أشكال كأشكال الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والدجاج مع الدجاج، والنسور مع النسور، والصقور مع الصقور، وكل مع شكله. والطيور على أشكالها تقع. والخليل على دين خليله. فَفِرّ من خليل السوء فرارك من الأسد؛ فهو أجرب مُعدٍ، يقودك إلى جهنم، إن أجبته قذفك فيها، وسيكون لك عدواً بين يديْ الواحد الأحد: (الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]. هاهو عقبة بن أبي معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ولا يؤذيه وكان كافراً، وليس كبقية قريش إذا جلسوا معه صلى الله عليه وسلم يؤذونه، وكان لـ ابن أبي معيط صديق كافر غائب بـ الشام، وقد ظنت قريش أن عقبة قد أسلم لما يعامل النبي صلى الله عليه وسلم من معاملة حسنة، فلما قدم خليله من الشام، قالت قريش: هاهو خليلك ابن أبي معيط قد أسلم. فغضب خليله وقرينه غضباً شديداً، وأبى أن يكلم عقبة، وأبى أن يسلم عليه، حتى يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستجاب عقبة له وآذى النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه خنقه بتلابيبه ذات مرة، وحتى إنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى، فاستأثر بكل حقارة ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة، وكان عاقبته أن مات يوم بدر كافراً، فأنزل الله فيه وفي أمثاله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) [الفرقان:27 - 29]. فإياك وصديق السوء؛ فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ. إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارَهم ولا تصحب الأرْدَى فتردى مع الردِي عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينِه فكلُّ قرينٍ بالمُقَارن يقتدي من جالس الجُرب يوماً في أماكِنها لو كان ذا صحةٍ لا يأمن الجربا أنت في الناس تقاسُ بالذي اخترتَ خليلاً فاصحبْ الأَخْيار تعلُ وتنلْ ذكراً جميلاً

ضرورة موافقة الأعمال الأقوال

ضرورة موافقة الأعمال الأقوال علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ومن لم يعمل بما يقول، ويدعو له؛ فإنما يسخر من نفسه أولاً. كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماءُ فوق ظهورِها محمولُ كحاملٍ لثياب الناسِ يغسلُها وثوبُه غارق في الرجسِ والنجسِ ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكها إن السفينةَ لا تجري على اليبس ركوبك النَّعش ينْسيك الركوب على ما كنت تركب من بغلٍ ومن فرسِ يوم القيامة لا مالٌ ولا ولدٌ وضمة القبرِ تُنْسِي ليلةَ العُرُسِ ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك ينفع ما تقول ويُشتفى بالوعظ منك وينفع التعليمُ لا تنْهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلتَ عظيمُ فاحرص على ما ينفعك، واعمل بما تقول ما استطعت: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:3].

إرضاء الناس غاية لا تدرك

إرضاء الناس غاية لا تدرك علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن إرضاء الناس غاية لا تدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتَوِرُهم الهوى، ويعتَوِرُهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم. فمَن تُرضي إذاً؟ أرض الله جل وعلا وكفى. هاهو رجل يبني له بيتاً، فيضع الباب جهة الشرق، فيمر عليه قوم، فقالوا: هلا وضعته جهة الغرب لكان أنسب. فيمر آخرون ويقولون: هلا وضعته جهة الشمال لكان أجمل. ويمر آخرون، فيقولون: هلا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب. وكلٌ له نظر، ولن ترضيهم جميعاً، فأرض الله وكفى. هاهو رجل وابنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم، فقالوا: يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة، يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشى وراءه! فما كان منه إلا أن نزل، وأركب هذا الطفل، ومشى، فمر على قوم آخرين، فقالوا: يا له من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة!، فركب الاثنان على الدابة، ومروا على قوم آخرين، فقالوا: يا لهم من فجرة حمَّلوها فوق طاقتها! فنزل الاثنان ومشيَا وراء الدابة، فمروا على قوم، فقالوا: حمقى مغفلون يُسخر الله لهم هذه الدابة، ثم يتركونها تمشي ويمشون وراءها! {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:71]. من ترضي أخي في الله؟ أرض الله وكفى، من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عنه الناس. ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما إرضاء رب الناس فهو الممكن بل هو الواجب؛ لأن سبيل الله واحد؛ ولأن دينه واحد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام:153]. يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه: مواقف حدثاً يناسب هذه النقطة: يذكر أن طفلة صغيرة تعود لأمها من المدرسة ذات يوم، وعليها سحابة حزن وكآبة وهمٍّ وغمٍّ، فتسألها أمها عن سبب ذلك؟ فتقول -وهي من بيت محافظ-: إن مُدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة، فتقول الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا، فتقول الطفلة: لكن المُدرسة لا تريدها. قالت الأم: المُدرسة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوق لا يملك ضراً ولا نفعاً؟ فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: لا. بل أطيع الله، وليكن ما يكون. وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس، وتذهب بها إلى المدرسة، ولما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أَلِيم، أذهل المعلمة ثم كفْكفتْ دموعها، وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، فتقول: والله! لا أدري من أطيع؟ أنت أم هو؟ قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت: الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك وصوَّرني وصوَّرك، أو أطيعك، فألبس ما تريدين، وأغضبه هو. أم أطيعه وأعصيك أنت؟، لا. لا. سأطيعه، وليكن ما يكون. إذا لم يكن إلا الأسنةُ مركباً فما حيلةُ المضَّطر إلا ركوبُها ذهلت المعلمة، وشُدِهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة؟ ووقعت منها الكلمات موقعاً عظيماً بليغاً، وسكتت عنها المعلمة. وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أمَّ البنت، وتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله، وأُبت إلى الله، فقد جعلت نفسي نداً لله حتى عرفتني ابنتك من أنا. فجزاكِ الله من أم مربية خيراً. وهنا أقول: يا أيها الأحبة! ما أحوجَنا إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تؤثر في السامعين أبداً؛ ألا فأرضِ الله جل وعلا وكفى. فلست بناجٍ من مقالةِ طاعنٍ ولو كنتَ في غارٍ على جبلٍ وعرِ ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً ولو غاب عنهم بين خافقتي نسر (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103].

ضرورة اتباع الحق

ضرورة اتباع الحق علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أحب الحق وفلاناً ما اجتمعا، فإذا افترقا كان الحق أحب من فلان ومن نفسي ومالي وأهلي وولدي والناس أجمعين: لأنَّني مولعٌ بالحقِ لستُ إلى سواه أنحو ولا في نصره أَهِنُ دعهم يعضوا على صمِّ الحصى كمداً مَنْ مات منهم له كفنُ هاهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يستجيب لدعوة الهدى والحق، فيكون ثالث ثلاثة أسلموا، لكن إسلامه لم يمر هيناً سهلاً، وإنما تعرض الفتى لتجربة من أقسى التجارب، أنزل الله في شأنها قرآناً يُتلى. لما سمعت أمه بخبر إسلامه ثارت ثائرتها، يقول: وكنت فتى باراً محباً لها، فأقبلت تقول: يا سعد! ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين آبائك وأجدادك؟ لتتركن هذا الدين أو لأمتنعن عن الطعام والشراب حتى أموت، فيتفطر قلبك حزناً عليَّ، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت، ويعيرك الناس بها أبد الدهر، قال: قلت: يا أماه! لا تفعلي فأنا لا أدع ديني لشيء. لكنها نفذت وعيدها وامتنعت عن الطعام والشراب أياماً، كان يأتيها ويسألها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفض ذلك، فما كان منه ذلك اليوم إلا أن جاءها وقال: يا أماه! إني لعلى شديد حبي لك أشد حباً لله ورسوله، والله! لو كانت لك ألف نفس فخرجت منك نفساً بعد نفس ما ارتددت عن ديني، فكلي أو دعي. فلما وضعها أمام هذا الأمر ما كان منها إلا أن أكلت على كره منها، فأنزل الله عز وجل فيه وفيها: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان:15]. وهاهو الإمام مالك، يأتيه رجل يستفتيه، وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل هذا الرجل إليه، ويقول: يا إمام! قد قلت لزوجتي: أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر، ففكر الإمام قليلاً، ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، فهذه طلقة، ولا تعد لذلك. وكان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدرِ ما الذي حدث بينهما، وكان حريصاً على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي، وقال له: ما السؤال؟ وما الإجابة؟ -يريد أن يستفيد فائدة- قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال: القمر أحلى من زوجتك، فزوجتك قد طلقت طلقة. فقال الإمام الشافعي له: بل زوجتك أحلى من قمر. قال: أوقد رأيتها؟! وكانوا ذوو غَيْرة؛ فاغتاظ منه، قال: لا. ألم تسمع قول الله جل وعلا: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1 - 4] فخَلْقُ الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق، وأعدل خلق. قال: إذاً نرجع إلى الإمام مالك. قال: نرجع إليه. فرجعوا إلى الإمام مالك. فأخبروه بالخبر، فقال: الحق أحق أن يُتبع، أخطأ مالك وأصاب الشافعي. فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق، لا العكس. والحقُّ يعلو والأَباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسألُ وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدلُ

أهمية الرجال الذين يحملون الحق بقوة

أهمية الرجال الذين يحملون الحق بقوة علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا نفرح في صفوفنا بالهازلين، المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح، المنغمسين في المُلْهيات، نريد رجالاً أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات. نريد من يأخذ الحياة بجد؛ فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، لا مكان فيها للكُسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين، نريد من يشق طريقه معتمداً على الله بعيداً عن التفكير الهامشي السافل التفكير في الشهوات التفكير في الملهيات، والركض وراءها، والتفكير المادي المنحط. نريد شباباً يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم: شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً يدكون المعاقلَ والحصونا وإن جن المساءُ فلا تراهم من الإشفاقِ إلا ساجدينا شباب لم تُحطمه الليالي ولم يُسلم إلى الخصم العرينا وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ ولكن العلى صيغت لحونا ولم يتشدقوا بقشورِ علمٍ ولم يتقلبوا في الملحدينا ولم يتبجحوا في كل أمرٍ خطيرٍ كي يُقال مثقفونا كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حُراً أمينا وعلمه الكرامةَ كيف تُبْنَى فيأبى أن يذل وأن يهونا أين نجد هؤلاء الشباب؟ أنجد هؤلاء في المسارح؟ أعلى المدرجات؟ أعلى الأرصفة؟ لا. إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي، فلتأخذ الحياة بجد، ولتُعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة: يا راقدَ الليلِ مسروراً بأوله إن الحوادثَ قد يطرقن أسحارا كيف يرجو من به كسلُ نيلَ ما قدْ ناله الرَّجلُ؟ من يريد العزَّ يطلبهُ في دروبٍ ما بها سهلُ

حقيقة النفس البشرية

حقيقة النفس البشرية علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن النفس البشرية كالطفل تماماً. إن أدبتها وهذَّبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدَّت وندَّت وشردَت. النَّفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات واللذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، إذا لم يقيدها وازع ديني عظيم؛ تنقاد إلى السقوط والهلاك: والنَّفْسُ كالطفل إن تُهمله شبَّ على حبِ الرَّضَاعِ وإن تفطمه ينفطمِ فخالف النفسَ والشيطانَ واعصهما وإن هما محضاكَ النصحَ فاتهمِ وإصلاح نفسك بمَّ يكون يا أيها الحبيب؟ بالمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] يقول ثابت البناني عليه رحمة الله: تعذبت بالصلاة عشرين سنة -يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله- قال: ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني أدخل في الصلاة فأحمل هَمَّ خروجي منها. وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات: {فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:110]. يقول أحد السلف: ما من فعلة صغرت أو كبرت إلا ويُنشَر لها ديوانان: لِم؟ وكيف؟ لم فعلت؟ ما علة الفعل؟ وما باعث هذا الفعل؟ هل لحظ دنيوي؟ لجلب نفع؟ لدفع ضر؟ أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده؟ هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظِّك وهواك؟ وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل العمل مما شرعه الله ورسوله؟ أم ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية. يقول سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي. يا نفس! أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعةٍ نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز. طوبى لمن صحت له خطوة يُراد بها وجه الله تعالى. هاهو ابن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته تحلُ به سكرات الموت، فيشتد بكاؤه ونحيبه، فيقول جُلاسه: يا إمام! أحسن الظن بالله، ألست من فعلت، ومن فعلت؟ قال: والله ما أخشى إلا قول الله: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) [الزمر:47 - 48] أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت، فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت، وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر: لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتيْ ألف، وأسلم على يديْ أكثر من مائتيْ نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل! ويحق لمن تلمَّح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي بنظري إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوماً واعظاً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما منهم من أحد إلا رقَّ قلبه، أو دمعت عينُه، قال: فقلت في نفسي: كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ ثم صاح: إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غداً فلا تخبرهم بعذابي، لئلا يُقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه، إلهي -وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين- لا تخيب من علق أمله ورجاءه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبادك إلى دينك ولم يكن أهلاً لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك، أنت أهل الجود والكرم. فأخلصوا تتخلصوا. طوبى لمن صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.

مكانة المرأة المسلمة وبعض مواقفها

مكانة المرأة المسلمة وبعض مواقفها علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن كثيراً من النساء مَحَاضن خالدة لتربية الأجيال، ولبعضهن مواقف مشرفة، تصلح نبراساً وأُنموذجاً لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا، في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة، وهي الأسوة، إلا عند من رحمهن الله سبحانه فإليكم بعض النماذج: هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يتوفى عنها زوجها، ويترك لها ابناً هو الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فنشأته نشأة الخشونة، وربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل خطر، فإذا أحجم ضربته ضرباً مبرحاً، حتى إنها عوتبت من بعض أعمامه، حيث قال لها: إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم. فقالت مرتجزة: من قالَ قد أبغضتُه فقد كذبْ وإنما أضربُه لكي يلبْ ويهزم الجيشَ ويأتي بالسلبْ آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجرت مع من هاجر، وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحد جاهدت مع ابن أخيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه: {ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران:34] فلما انكشف المسلمون في أحد -كما تعلمون- هبَّت هذه المرأة كاللبؤة، وانتزعت رمحاً من أحد المنهزمين، وانقضَّت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد، وتقول: ويحكم أتفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لابنها الزبير: {ردها فإن أخاها حمزة قد مَثَّل به المشركون، فقال لها ابنها: إليك يا أماه! إليك يا أماه! قالت: تنحَّ عني لا أم لك، أتفِرُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي. فقالت -وقد كانوا وقَّافين عند أمر الله وأمر رسوله-: الأمر أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فتوقفت، وقالت: ولم يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد بلغني أنه قد مُثِّل بأخي وذلك في ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله، فقال صلى الله عليه وسلم لابنها: خَلِّ سبيلها، خلِّ سبيلها} فخاضت المعركة حتى انتهت، ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفة العظماء، قد بُقر بطنه، وأُخرجت كبده، وجُدع أنفه، وُقطعت أُذناه، وشُوِّه وجهه، فاستغفرت له، وجعلت تقول: إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله، وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب: وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيلُ فتقطرُ تقول: لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله. لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله. هذا موقف من مواقف صفية. وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي صلى الله عليه وسلم مع نساء المسلمين في حصن حسان، وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود، فأرسلوا واحداً؛ ليرى هل أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم حُماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يُبقِ أحداً؟ فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعمود، فضربته أولى وثانية وثالثة، وقتلته، ثم احتزت رأسه، ثم طلعت به إلى أعلى الحصن، ثم رمت برأسه؛ فإذا هو يتدحرج بين أيدي اليهود، فقال قائل اليهود: قد علمنا أن محمداً لن يترك النساء من غير حُماة. فرحم الله صفية رحمة واسعة، قد كانت مثلا فذّاً للأم المربية المسلمة، ربَّت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام، فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالاً كـ صفية. وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها، وهي خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة بالغار. ثم انظر لتلك المرأة في أواخر سني عمرها في أحلك المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين، ابنها يُحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف. ماذا يفعل؟ فقالت تلكم المؤمنة الصابرة: أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى الحق فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك! قال: يا أماه! والله ما أردت الدنيا، وما جُرت في حكم، وما ظلمت، وما غدرت، والله يعلم سريرتي وما في قلبي. فقالت: الحمد لله، وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسناً، إن سبقتني إلى الله جل وعلا. تعانقا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها، ورجليها، ووجهها، يلثمها ويقبلها، دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس ابنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها، وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي. قالت: يا بني! ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله؟ انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخف لحركتك، والبس بدلاً منه سراويل مضاعفة، حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك، فنزع درعه وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال، وهو يقول: لا تفتري عن الدعاء يا أماه! فرفعت كفها قائلة: اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام. اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة، وهو صائم. اللهم إني قد أسلمته لك، ورضيت بما قضيت فيه فأثبني فيه ثواب الصابرين. ويذهب ابنها، وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى ابنها عبد الله ضربة الموت، ليلقى الله عز وجل. ليس هذا فحسب؛ بل يُصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون. علوٌ في الحياةِ وفي المماتِ لحقٍ أنت إحدى المَكرُمات كأنَّك واقفٌ فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاةِ وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس الطريق حتى تصل، فتأتي فإذا هو كالطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة، ويقول: يا أماه! إن الخليفة أوصاني بك خيراً، فتصيح به: لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم. ويتقدم ابن عمر رضي الله عنه معزياً لها، ومواسياً لها، فيقول: اتقي الله واصبري، فتقول -له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله-: يا بن عمر! وماذا يمنعني أن أصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أرأيتم ما أعظم الأم! وما أعظم الابن! وما أعظم الأب! سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، والسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين. النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف، ناهيك عن النساء. فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تتزوج علياً رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تؤثر الرحى في يدها، وتستقي بالقربة حتى أثَّرت في نحرها، وتقُمُّ البيت، وتوقد النار، وتربي أبناءها؛ فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة: هي بنت من هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنامِ عُلاها أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ جبريلُ بالتَّوحيد قد رَباها وعليٌ زوجٌ لا تسل عنهُ سوى سيفِ غدا بيمينه تيَّاهاً فلو كان النساءُ كمن ذكرنا لفضلت النساءِ على الرجالِ وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكيرُ فخرُ للهلالِ آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة؛ بـ صفية وأسماء وعائشة وفاطمة. فالأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيبَ الأَعْراق

حال الدهر والأيام

حال الدهر والأيام علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الدهر دول، والأيام قُلَّب لا تدوم على حال: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140] الدنيا غرَّارة خداعة، إذا حلَت أوْحلت، وإذا كسَت أوْكست، وإذا جلت أوْجلت. وكم من ملكٍ رُفعت له علاماتٌ؛ فلما عَلا مات. هي الأقدارُ لا تُبقي عزيزاً وساعات السرورِ بها قليله إذا نشر الضِّياءُ عليك نجمٌ وأشرق فارتقبْ يوماً أفوله فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَّر الأمر جدُ وهو غيرُ مِزَاحِ فاعملْ لنفسك صالحاً يا صاحِ كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليلٍ دائمٍ وصباحِ تجري بنا الدُنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينةُ المَلاحِ تجري بنا في لُجِ بحرٍ مالهُ من ساحلٍ أبداً ولا ضحضاح فاقضوا مَآربكم عجَالي إنَّما أعمارُكم سفر من الأسفارِ وتراكضوا خيل الشبابِ وبادرُوا أن تُستردَ فإنهنَّ عوارِ الدهرُ يومان ذا أمن وذا خطرٌ والعيشُ عيشان ذا صفو وذا كدر أما ترى البحر يعلو فوقه جيفُ وتستقرُ بأقصى قاعه الدُرَرُ؟ وفي السَّماء نجومٌ لا عِداد لها وليسَ يكسفُ إلا الشَّمسُ والقمرُ

حقيقة ميت الأحياء

حقيقة ميت الأحياء علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن ميت الأحياء، من لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78 - 79] ويقول صلى الله عليه وسلم: {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد السفيه، ولتأطرنَّه على الحق أطراً؛ أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم} {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر؛ أو ليُسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم} {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم}. كم من ميت هو حي بأعماله؛ بأمره ونهيه، بعلمه وعمله! وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه! يا رب حيٍ رخامُ القبرِ مسكنُه وربَّ ميت على أقدامِه انْتصبا

علاقة العصا بالتربية والإصلاح

علاقة العصا بالتربية والإصلاح علمتني الحياة: أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح، إذا صاحبتها يد حانية، ولسان هادئ، وقلب رحيم. العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولُطف، متى ما وضعت في موضعها أفادت، كالدواء تماماً. إننا نريد العصا عندما نستنفذ كل سبيل للعلاج، وآخر الدواء الكيُّ، ومن الكير يخرج الذهب: وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم وهي كذلك أداة للتوكؤ والهش على الغنم، وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبلاً، وكم من مريد للخير لا يدركه!: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.

لكل بداية في الدنيا نهاية

لكل بداية في الدنيا نهاية علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن لكل بداية في الدنيا نهاية، ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع. إذا تم شيء بدا نقصه ترقبْ زوالاً إذا قيل تمَّ بينما المولود يولد ويُفرح به، ويؤذن في أذنه؛ إذ به بعد وقت ليس بالطويل، يُحمل ليُصلى عليه، ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين أذان وصلاة، ولا إله إلا الله، ما أقصرها من حياة!. أذان المرءِ حين الطفلُ يأتي وتأخيرُ الصلاةِ إلى المماتِ دليلُ أن مَحْياه يسيرٌ كما بين الأذانِ إلى الصلاةِ بينما الإنسان في أهله في ليلة آمناً مطمئناً فرحاً يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيداً فريداً، لا مال، ولا ولد، ولا أنيس، ولا صاحب سوى العمل، وإذ به خبر يخبر به. بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبراً فإذا به خبرٌ من الأخبارِ بينما الطبيب يعالج من مرض إذا به يصاب بنفس المرض، فلا طبُّه ينفعه، ولا دواؤه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقيه غيره على يديْه، وحال الناس: ما لِلطبيب يموتُ بالداءِ الذي قد كان يُبْرِئ مثله فيما مَضى مات المُداوِي والمداوَى والذِي جلب الدواءَ وباعه ومَنْ اشترى ما أنت -والله- إلا كقطعة ثلج، تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى، وكأن لم تكن. سيصير المرءُ يوماً جسداً ما فيه رُوح نُحْ على نفسك يا مِسـ كينُ إن كنتَ تَنوح لست بالباقي وإنْ عُمرت ما عُمر نوح فانتبه من رقدةِ الغفلةِ فالعمرُ قصيرُ واطرحْ سوف وحتى فهما داء دخيل واتَّقِ الَله وقَصر أملا ليس في الدنيا خلوُد للملا الموت لنا بالمرصدِ إن لم يُفاجئ اليومَ فاجأَ في غدِ الموتُ بابٌ، وكل الناسِ سيدخلون من هذا الباب، وما من باب إلا وبعده دار. لا دار للمرءِ بعدَ الموتِ يسكنُها إلا التي كان قبلَ الموتِ يبنيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُه وإنْ بناها بشرٍ خابَ بانيها كُتبَ الموتُ على الخلقِ فكم فلَّ من جيشٍ وأفنى من دُول أين نمرود وكنعان ومن ملكَ الأَرضَ وولَّى وعَزَل؟ أين من سادُوا وشادُوا وبنَوا؟ هلكَ الكلُّ ولمْ تُغْنِ الحِيْل أين أربابُ الحجا أهلُ التُّقى؟ أين أهلُ العلمِ والقَوم الأول؟ سيُعِيد الله كلاً مِنهم وسيجزِي فاعلاً ما قد فعل

نهاية الإنسان في هذه الدنيا

نهاية الإنسان في هذه الدنيا هل شاهدت محتضراً في شدة سكراته ونزعاته؟ هل تأملت صورته بعد مماته؟ هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته، فاستعددت لتلك اللحظات العصيبة؛ فزدت في عملك، وزدت في إجهاد نفسك واجتهادك؟ هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على مريض يعوده، فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به، فيرجع إلى أهله حزيناً كئيباً بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: يا إمام! الطعام يرحمك الله! فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم؛ فوالذي نفسي بيده! لقد لقيت مصرعاً ما أزال أعمل له حتى ألقاه. فمثِّلْ لنفسك -يا عبد الله- وقد حلَّت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكي كالأسيرة، وتتضرع وتقول: من لِيُتْمِي بعدك؟ وابنك ينظر إليك وينظر ما يتعجل من اليتم بعدك، ويقول: من لحاجتي أبتاه؟ وأنت تسمع فلا ترد الجواب. هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتُوارى في التراب؟ ثم تساءلت عن حالها؛ ما حالها؟ في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: {إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم؛ إن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق} تصرخ صرخات تقض المضاجع. هل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ والله لصُعقنا ولما حملنا جنازة أبداً، وهذا ما خشيه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال -كما في صحيح مسلم -: {لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع} فخيِّل لنفسك يا بن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل وأُلبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والإخوان، فما ينفع البكاء، وما ينفع العويل، وما ينفع إلا ما قدمته من صالح الأعمال. هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابداً قد حضرته الوفاة، وحوله أهله يبكون، فقال لوالده: أيها الشيخ ما الذي يبكيك؟ قال: أبكي فقدك، وما أرى من جهدك. فبكت أمه، قال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيكِ؟ قالت: أبكي فراقك، وما أتعجل من الوحشة بعدك. فبكى صبيانه وأهله وزوجه، قال: يا معشر اليتامى! ما الذي يبكيكم؟ قالوا: نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك. فما كان منه إلا أن صرخ، وقال: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهى؟ أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يديْ الله ربي؟ ثم صرخ صرخة عظيمة، شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل. يا أيها المسلم: هل نظرت إلى القبور؟ ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رقَّ قلبه، وذرفت عينه؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات والأصحاب والأحباب والإخوان والأخوات، يرى منازلهم، ويتذكر أنه -قريباً- سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم، قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54]. قد يتدانى القبران، وبينهما ما بين السماء والأرض؛ نعيماً وجحيماً. ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رقَّ قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفوراً، فهيَّأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر، فرأى صاحبه يُدلى فيه، فسأل نفسه: على ماذا أُغلق؛ على نعيم أم على جحيم؛ على مطيع أم على عاصٍ إلا رقَّ قلبه. فلا إله إلا الله! هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم. ألا فتذكر هاذم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات، ليهتز قلبك خشية من الله؛ فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل. هاهو ابن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع اختلس يده من يدي، وكنت قابضاً على يده، ثم وضع نفسه على قبر، فبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك يا أمير المؤمنين؟! قال: يا ليت أم عمر لم تلِد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا بن عوف هذه الحفرة؟ قال: فأبكاني والله! فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات. هاهو صلى الله عليه وسلم، كما في المسند من حديث البراء: أنه رأى أُناساً مجتمعين، فسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبر يحفرونه، ففزع -صلى الله عليه وسلم- وذهب مسرعاً، حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبتيْه، وبكى طويلا، ثم أقبل على الناس، وهو يقول: {يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا. يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا}. فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر: {إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون؛ أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملَكٌ واضع جبهته ساجد أو راكع، والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعُدات، تجأرون إلى الله} وفي رواية المنذري: {ولحثَوْتم على رءوسكم التراب} والله! لو علمنا حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صُلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته. الأمر خطير جد خطير: يا نفسُ قد أزفَ الرَّحيل وأظَّلك الخَطْبُ الجليلُ فتأهبي يا نفسُ لا يلعبْ بك الأملُ الطويلُ لتنزلنَّ بموضعٍ ينسى الخليلُ به الخليل وليركبنَّ عليك من الثرى حملٌ ثقيل قُرن الفناءُ بنا فما يبقى العزيزُ ولا الذليل خالف هواكَ إذا دعاكَ لريبةٍ فلربَّ خيرٍ في مخالفةِ الهَوى حتى متى لا تَرْعَوِي يا صاحبي حتى متى لا تَرْعَوِي حتى متى؟

دروس علمتنيها الحياة في ظل العقيدة

دروس علمتنيها الحياة في ظل العقيدة وأسرد لكم بعض دروس علمتنيها الحياة في ظل العقيدة سرداً بلا توسع فيها: علمتني الحياة: أن من خدم المحابر خدمته المنابر. وكم من سراج أطفأته الريح، وكم من عِبادة أفسدها العُجب. وأن: فوَضْع النَّدى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى وأن من أراد أميراً كـ أبي بكر؛ فليكن كـ خالد وسعد، وأن سوف جندي من جنود إبليس. وأن معظم النار من مستصغر الشرر. وأن الحق لابد أن تحرسه قوة. وأنه بالشكر تدوم النعم. وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. وأن النارَ بالعودين تُذكى وأنَّ الحربَ مبدؤُها كلامُ وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم. وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو، وأن النار قد تخبو. وأن الإنسان محل النسيان، و: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيْئَاتِ ذَلِكَ ذِكَرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].

أعظم سلاح في أيدي المؤمنين

أعظم سلاح في أيدي المؤمنين وأخيراً علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء. سهامُ الليل لا تخطئ ولكن لها أمدٌ وللأمدُ انقضاءُ لا تسألن بُنَي آدم حاجةً وسل الذي أبوابُه لا تُحجَبُ الله يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَي آدم حين يُسأل يغضبُ سلاح عظيم، غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بإذن الله، إنه الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]. يقول ابن كثير عليه رحمة الله: كان بقي بن مخلد -أحد الصالحين الأخيار- عابداً قانتاً خاشعاً، أتته امرأة صالحة، فقالت: يا بقي! إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس، وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا، فسل الله أن يردّ عليّ ابني، وأن يطلقه من أسره. فقام وتوضأ، ورفع يديْه إلى الحييِّ الكريم الذي يستحيي أن يرد يدي العبد صفراً خائبتيْن سبحانه وبحمده، فدعا الله عز وجل أن يفكَّ أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده، وبعد أيام وإذا بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه: ما الذي حدث؟ قال: في يوم كذا في ساعة كذا- وهي ساعة دعاء بقي - سقط قيدي من رجلي، أعادوه فسقط، ألحموه فسقط، فذُعروا ودُهشوا وخافوا، وقالوا: أطلقوه. قالت: فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] {الدعاء هو العبادة}. هاهو صلة بن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يميناً وشمالاً، ثم قال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليَّ منَّة، فإني أستحيي من سؤال غيرك، وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه، فأحيا الله عز وجل له فرسه، فركبه حتى إذا وصل أهله، قال لغلامه: فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج، فهبط الفرس ميتاً. ولا عجب؛ فمن توكل على الله، ومن التجأ إلى الله أجاب دعاءه وحفظه، ولو كادته السماوات والأرض، لجعل الله له من ذلك فرجاً ومخرجاً. فمرة أخرى إذا ادلَهمَّت الخطوب، وضاقت عليك الأرض، وقلَّ الناصر، وزمجر الفساد، ودُعم الباطل، وكُبت الحق، وعيَّر البخيلُ الكريمَ، وعيَّر العييُّ الفصيح، وعيَّر الظلام الشمس: وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهبَ الحصا والجنادل وتمنَطق كل جبان، وتخلى الأمناء، ورُفع السفهاء، وتظاهر بالوفا كل خوّان، ونطق الرويبضة، وغدا القرد ليثاً، وأفلتت الغنم، فارفع يديْك إلى من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. يا من أجبت دعاءَ نوحٍ فانتصر وحملته في فُلْكِكَ المشحونِ يا من أحال النارَ حول خليلِه روحاً وريحاناً بقولك كوني يا من أمرت الحوت يلفظ يونسَ وسترته بشجيرة اليقطين يا رب إنا مِثْله في كربةٍ فارحم عباداً كلهم ذو النونِ اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المباركة، باسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرَّجت؛ أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا ألسنة ذاكرة، وقلوباً خاشعة، وأعيناً مدرارة، وإيماناً نجد حلاوته إلى أن نلقاك. رباه! إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك، وبنو عبيدك، وحملة كتابك وأتباع رسولك، يرجون رحمتك، ويخشون عذابك. اللهم الْطف بنا. اللهم ارحمنا. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. يا مغيثاً لمن لاذ بحماه! يا قريباً لمن دعاه! يا معيذاً من استعاذ به! أجِرْنا من النار، ومن دار الخزي والبوار. اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفانا مسلمين، وأن يُلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين. اللهم واجعل ما قلناه خالصاً لوجهك الكريم، بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين. تم الكلامُ وربُنا محمود وله المكارمُ والعلى والجودُ وعلى النبي محمدٍ صلواته ما ناحَ قُمريٌّ وأَوْرَق عودُ

الأسئلة

الأسئلة ونقف مع بعض الأسئلة قليلاً ولعلنا لا نُطيل في ذلك، وهي أسئلة من المحاضرة الماضية، ولذلك نعتذر عن الإجابة على هذه الأسئلة -أسئلة هذه المحاضرة أعني-.

الأسباب المعينة على قيام الليل

الأسباب المعينة على قيام الليل Q فضيلة الشيخ! إني أحبك في الله. يقول العلماء: إن قيام الليل من أعظم وسائل التثبيت، وكم جاهدت نفسي لقيام الليل، ولكن لم أستطع المداومة على ذلك؛ فما هي الأسباب المعينة على ذلك وجزاكم الله خيراً؟ A أقول يا أيها الأحبة: قيام الليل لذة، وحلاوة، وسعادة، ونعمة، وحبور، وسرور، والله! لا يعلمها إلا من صفَّ قدميْه في ظلمات الليل؛ ليرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه، يطلب جنته، ويستجير من ناره، سبحانه وبحمده! أهله المتقون: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:15 - 18] أهله من: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. إني أقول لك -يا أيها الحبيب! الذي لا تستطيع قيام الليل، والذي قال لك العلماء: إنه من عوامل التثبيت- أقول: إن هذا صحيح، وإليك بعض الأسباب -أسأل الله أن ينفع السامع، وأن ينفع المتكلم بهذه الأسباب-: أولاً: أن تعلم أن لله عز وجل نفحات متى ما تعرّض لها العبد سَعِد في دنياه وأخراه، وتلك هي السعادة الأخروية التي نطلبها. ومن هذه النفحات: التعرض لها في الثلث الأخير من الليل، وذلك لا يكون إلا لمن يقوم الليل، إن الله سبحانه وتعالى يتنزل -نزولاً يليق بجلاله- في ثلث الليل الآخر، فيقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟} إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة} فضلاً من الله ونعمة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -كما روى الطبراني بإسناد حسن-: {إن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال -في آخر الحديث-: لمن بات قائماً، والناس نيام} أن تعلم هذا أولاً. الثاني أيها الحبيب: إذا أتيت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للبراء. الأمر الثالث: أن تقرأ آية الكرسي؛ فلا يقربك شيطان، وما يزال عليك حافظ من الله عز وجل حتى تصبح. اقرأ الآيتيْن الأخيرتيْن من سورة البقرة؛ فمن قرأهما في ليلة كفتاه. سبح ثلاثاً وثلاثين، واحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر أربعاً وثلاثين، اذكر الله عز وجل حتى يغلبك النوم؛ فإنك إذا جئت إلى فراشك ابتدرك شيطان وملك، فيقول الشيطان: اختم بِشَرٍّ، ويقول الملك: اختم بخير فإذا بقيت تذكر الله حتى تنام بقي الملك يحرسك، وطُرد الشيطان من فراشك. كما أني أوصيك بأن تضع يدك اليمنى تحت خدِّك الأيمن على جنبك الأيمن، ثم تقول وتدعو بالدعاء: {باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن توفيت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين}. {اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت}. واذكر من الأذكار ما تعرفه وكتب الأذكار موجودة لديك. أيضاً احرص في النهار على أن تنام نوم القيلولة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {قيلوا فإن الشياطين لا تقيل} كما في السلسلة الصحيحة. أيضاً: لا تُتعب نفسك في النهار كثيراً؛ لأن من تعب في النهار لا يستطيع أن يقوم في الليل. والأمر ما قبل الأخير: يجب عليك -يا أيها الحبيب- أن تقلل من الطعام في الليل؛ لأن من كثر أكله، كثر نومه، ويروى أن يحيى بن زكريا قال للشيطان: هل قدرت مني في حياتي على شيء؟ قال: مرة واحدة قُدم لك طعام فقمت أُشهِّيه لك، وأُشَهِّيه لك، فشبعت، ثم لم تقم تلك الليلة. قال: لا جرم لا شبعت بعدها أبداً، فقال الشيطان: لا جرم لا نصحت آدمياً بعدك. ثم الزم الاستغفار، وأكثر من الاستغفار؛ فمن أكثر من الاستغفار يسَّر الله عز وجل أموره، وكان له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. أكثر من ذكر الله عز وجل. أقلل من فضول الكلام، ولا تكثر من فضول النظر، ومتِّع عينيْك بالنظر في كتاب الله عز وجل، ثم عليك بالدعاء أن يوفقك لخيريْ الدنيا والآخرة. أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.

ضرورة التدبر في ملكوت الله

ضرورة التدبر في ملكوت الله Q إن في الحياة لعبراً ودروساً وتجارب، فما رأي فضيلة الشيخ فيمن يخوض غمار هذه الحياة، ويخرج منها كما دخلها، لم تؤثر فيه ولم يُؤَثِر -أو بهذا المعنى-؟ A نقول: يا أيها الحبيب: إن الله عز وجل يدعونا إلى التدبر في ملكوته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190] {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] الله عز وجل يدعونا إلى التدبر، وأن الإنسان الذي يعيش هذه الحياة ليأكل ويشرب ويتمتع ولا يفكر فيم خُلق، وما الحكمة من خلقه، ولماذا انتدبه الله عز وجل، إن هذا بهيمة في مسلاخ بشر بنص قول الله عز وجل: {أَمْ تَحْسبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان:44]. وفي الآية الأخرى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلًّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يتدبر في ملكوته، وممن يتدبر قرآنه، فيقوده إلى الله سبحانه وتعالى.

آخر أخبار الشيخ عائض القرني

آخر أخبار الشيخ عائض القرني Q يا شيخ! ما هي آخر أخبار الشيخ عائض القرني، وجزاك الله خيراً؟ A الشيخ عائض -ولله الحمد- في نعمة ومَنّ من الله سبحانه وتعالى، قد أدى جُلَّ ما عليه، وأعذر إلى الله عز وجل، ونسأل الله أن يثبته، وأن يسدده، وأن يؤيده. ومما يزيده سروراً وغبطة وخيراً ونعمة؛ أن يقوم كل واحد منا بدوره في تبليغ الدعوة إلى الله عز وجل، إن كنت تريد سروره؛ فقم بالدور، وليكن لسان الحال منك والمقال: إذا سيدٌ منا مضى قام سيدٌ قئول بما قال الكرامُ فعولُ ثم اعلم -يا أيها الحبيب- أن الابتلاء لازم من لوازم الدعوة الصحيحة: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]. فالابتلاء لازم من لوازم الدعوة الصحيحة. يقول ابن القيم عليه رحمة الله: دعي الناس إلى الهدى فأقبلوا، ووضع البلاء؛ فثبت الصادقون، وفرَّ الكاذبون: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) [الرعد:17]. فيزيده سروراً -كما قلت- أن تعلموا هذا العلم، وأن تعلموا أن الابتلاء لازم من لوازم الدعوة، فتوطنوا أنفسكم على ذلك، وتربوا أنفسكم؛ لأن الدلائل والبراهين تُشير إلى أن المرحلة القادمة مرحلة ابتلاء وامتحان، نسأل الله عز وجل إن أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفرطين ولا مفتونين، ونسأله أن يحفظ علماءنا، وأن يحفظ طلبة العلم، وأن يحفظنا سبحانه وبحمده، هو ولي ذلك والقادر عليه.

أبيات شعرية للشيخ علي القرني

أبيات شعرية للشيخ علي القرني Q فضيلة الشيخ! متعنا الله بعلمك، نود أن تسمعنا إحدى قصائدك، وهل لكم ديوان؟ A أولاً: يا أيها الأحبة: إني لست بشاعر، وإنما أحاول نظم الشعر، والذي يحاول نظم الشعر اتركوه واستغنوا بالشعراء الفحول الذين خدموا الدعوة، والذين قدَّموا لها ما قدموا، ولكن ما دمت أنك طلبت؛ فسأذكر لك ثلاثة أبيات أختم بها هذا المجلس: الله أسأل أن يباركَ جمعكم ويمدكم بالفضلِ والخيرِ الأعمْ والحمدُ للهِ على آلائه ما شع ضوءٌ فوقَ ساحاتِ الحرمْ ثم الصلاةُ على النبيِ المصطفى ما رفَّ طيرُ في الخمائلِ والحُجُمْ وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الجهاد في سبيل الله تعالى

الجهاد في سبيل الله تعالى إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد. فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله). أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.

الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين

الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صُماً، وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم شرط وحيد واضعه رب العالمين: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. الخفض والرفع بيد الله العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقاً جعل الله للنصر طريقاً، وجعل الله للخلاص طريقاً، فما هو؟ إنه الجهاد في سبيل الله الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز. لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: {من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}. أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد. يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ

واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة

واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون. أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان. لكنَّ هناك صنفاً آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة يرفض العيش في ظل الاستعباد يرفض انتقاص الكرامة. هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟ في سبيل الله جل وعلا. يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

خالد بن الوليد مواقف وبطولات

خالد بن الوليد مواقف وبطولات أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلاً مع سيرة فارس الإسلام مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ليكون لنا نموذجاً في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين. ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد، فنعم القدوة خالد، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور. كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ إنه خالد بن الوليد، مَن أبوه؟ أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها. أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالداً الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء! إنه أبو سليمان، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله). إنه شارب السم إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة. من هو خالد؟ إنه من احتبس كل شيء في حياته لله دروعه وعتاده وماله في سبيل الله. فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله} فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟! كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟! يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا}. ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون، وهتلر، ولينين، واستالين، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين. سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني. عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم. ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.

بطولات خالد يوم معركة مؤتة

بطولات خالد يوم معركة مؤتة وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن، ويحضرها خالد مع جنود الله مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد، وجعفر، وابن رواحة، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.

موقف خالد يوم فتح مكة

موقف خالد يوم فتح مكة ويأتي فتح مكة، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، يوم قال الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً: إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ إذ فر صفوان وفر عكرمة والمسلمون خلفنا في غمغمةْ يلاحقونا بالسيوف المسلمة لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.

بطولات خالد في قتال المرتدين

بطولات خالد في قتال المرتدين ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112]. لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بـ أبي سليمان خالد بن الوليد، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض. وخرج في جيش من أهل بدر، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[لا إلى سلمى وإلى أجا، ولكن إلى الله الملتجا]]. لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ. كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، وقتل الله مسيلمة الكذاب، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

خالد يوم اليرموك

خالد يوم اليرموك وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه]]. الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي. لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة: يا خالد! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة: فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد: رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً. ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل: يا خالد لماذا جئتم؟ قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لـ عكرمة، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك]]. وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، ويأتي الأمر أبا عبيدة، فيُخفي كتاب عمر، ولا يخبر خالداً، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً، فقال خالد: [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لـ عمر، ولن أقاتل اليوم لـ عمر، ولكني أقاتل لله رب العالمين]] يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق. ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات أقوياء في الدنيا شجعان للدرهم والريال أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله. يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم. يا أحفاد خالد! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم: سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم. فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة. اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك

خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد رضي الله عنه بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ رضي الله عنه فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفاً فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر. يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟! فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن! أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور. أوَّاهُ أوَّاهُ الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله نقرؤه ونتدبره. يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن اعمروا لياليكم بذكر الله اعمروا لياليكم بالقيام اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع. هاهو خالد! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.

خالد أثناء مرض الموت

خالد أثناء مرض الموت طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه}. قال عند موته: [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] وتفيض روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي

حال عمر عند سماعه خبر موت خالد

حال عمر عند سماعه خبر موت خالد ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بـ المدينة، وهو الذي يعرف قيمة خالد، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي]]. فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بـ خالد. ويأتي رجل إلى عمر، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً، قال: [[ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي]] لكن لا صراخ ولا قلقلة. إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي. وتأتي وصية خالد لـ عمر: [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي]] فرضي الله عنهم أجمعين. نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بـ خالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].

الجهاد في سبيل الله ماض إلى قيام الساعة

الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان. نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل}. لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد. إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة. لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم. اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق. اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد، وسعد، وزيد، وجعفر. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم أرنا في الظَّلَمَة يوماً أسود كيوم فرعون، وهامان، وقارون. اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية. اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا. اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين. ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

السماء والسماوة

السماء والسماوة إن سر سمو الجيل الفريد (الصحابة) هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، فهم يعدلون بعدل الله، ويوالون الله ويعادون أعداء الله، ويزنون بميزان الله، وليس عندهم إلا الطمع في رضا الله، والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر. أما حاضرنا فتجد عموم الأمة -إلا من رحم الله- يتخبطون في داجية لا صباح لها، وأنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمة من الحرائر. فلابد من الأخذ بمقومات النصر، والاستقاء من نبع الوحي، وتطبيق الكتاب والسنة، والتميز والمفاصلة، والتضحية بالدنيا الزائلة من أجل الآخرة الباقية.

سمو ماضينا وسماوة حاضرنا

سمو ماضينا وسماوة حاضرنا الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحين. معشر الإخوة والأخوات والبنين: حياكم الله وأحياكم، وأطال أعماركم، وأحسن أعمالكم، وذخراً للأمة أعدَّكم، تُعْلُون صروحها، وتضمدون جروحها، وتداوون قرُوحها، وللمِلَّة تسْمُون في سماها، وتحمون حماها، وترمون من رماها. تحية أنفاس الرياض وشى بها نسيمُ هدوء والنواضر هُجَّعُ فجاءت كأن المسك خالط نفحها لها في أنوف الناشقين تَضُوُّعُ السماء والسماوة: رمزان لا خفاء. أيها السُّماة للسماء: السماء رمز الرفعة والسمو والعلاء، والسماوة رمز الشُّقَّة والسَّموم والهلكة والتيه والبيداء، على حد قول ابن الصحراء: وجشمها بطن السماوة قائظاً وقد أوقدت نار السموم الهواجر فضرباً معي الليلة في بيداء السماوة بحثاً عن مراقي الشمم والإباء، وكشفاً عن أسرار ومعارج ومدارج السمو للسماء، بعون الله رب الأرض والسماء. بيد أنه قد يطول الحديث ذلك أن المريض الذي يئن يأرِزُ إلى تسلية نفسه بالحديث، والطبيب مهما كان بارعاً فإن وصفه علمي، والمريض أدرى منه بمرضه وألََمِه، فلعلي أن أقف بكم على الأسباب، وأرتقي السحاب، وأصفي الحساب، وأميز القشر عن اللباب، بدليل الكتاب، وفعل النبي والأصحاب، وذوي الألباب. فإن وفَيت فحق ذاك في عنقي وإن أقصِّر لأنتم أهل إعذار وشتان بين السماوة والسما! اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.

حقيقة سماوة حاضرنا

حقيقة سماوة حاضرنا معشر الإخوة: إن تفكيراً بعمق وحق، وإرجاعاً للبصر والبصيرة كرَّة بعد أخرى في سماوة واقعنا بعد سمو وسماء ماضينا العريق المنير؛ يجعل البصر يرتد خاسئاً وهو حسير، إذ يرى عموم الأمة دون آحادها اليوم في داجية لا صباح لها يتخبطون {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] لا ينقُلون إلى الأمام قدماً مقبِلين إلا رجعوا إلى الوراء أقداماً مدبِرين، أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأَمَة من الحرائر؛ عجزت أن تتسامى لعُلاهن، أو تتحلى بحُلاهُن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لخدمة ضرة نكاية في ضرة، أشربوا في قلوبهم الذل فرضوا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بفتاتها في إسفاف وسفالة، نزل الشرف من قلوبهم بدار غريبة فلم يُقِم، ونزل الهوان من نفوسهم بدار إقامة فلم يضعن ولم يرم، يحسبون كل صيحة عليهم، ويتوهمون كل حركة من عدوهم شبحاً من الموت يهجم عليهم. فلو أن برغوثاً على ظهر قملة يكر على الصفين منهم لولَّتِ اتخذوا الدين قشوراً بلا لباب، وألفاظاً بلا معانٍ، وهيكلاً بلا روح عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى وعيده وزواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته فموهوها بالتضليل، وإلى وحدته فمزقوها بالطرق والنِّحَل والشيع والتحزب والأباطيل، وإلى البراء من عدو الله فميَّعوه باسم التسامح والتقريب، نصَبوا من الأموات هياكل بها يفتتنون، وحولها يقتتلون، ولأجلها يتعادَون. كعمل الكفار بالأصنامِ قد لعب الشيطان بالأحلامِ ذُهلوا عن أنفسهم، فلم يحفلوا بحاضرهم، ولم يفكروا في مستقبلهم؛ لأنهم زعموا الغيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، ما كانت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضر فحسب، وما غرس شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، بل زرعها للأولين والآخرين. ولما بلغت الأمة هذه المرتبة الدنية طوقهم عدوهم بأطواق الحديد، فسامهم العذاب الشديد، وأخرجهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، فأصبحوا غرباء، في ديارهم تعساء، حظهم من الريادة والسيادة والسعادة الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس، غطَّاها سحاب الذلة؛ لأنهم أخطئوا طريق العزة، ظنوها في التقدم المادي والتقني فحسب، فذهبوا وراءها: فإذا السفينة غارقة في أوحالها ودار ابن لقمان على حالها نسوا أن سبيلهم للعزة عودتهم إلى الدين، كيف وقد قال رسولهم صلوات الله وسلامه عليه: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم} ففعلوا موجبات ذلهم وخذلانهم: ما هم بأمة أحمد لا والذي فطر السماء ما هم بأمة خير خلـ ـق الله بدءاً وانتهاء إن يزرعوا فحصادهم يا حسرتاه كان الهواء إن يقتلوا فقتيلهم كان المودة والإخاء ولو استرسل المرء مع خواطره لخشي أن يُفضي به التفكير إلى أن ييأس فيضل في بيداء السماوة، فيهلك أو يُجَن فيرفع عنه القلم فيستريح، وما كلاهما مريح، وما عانٍ كمستريح: بي منكِ ما لو غدا بالشمس ما طَلَعَتْ من الكآبة أو بالبرق ما ومضا

سمو ماضينا وأسرار السمو

سمو ماضينا وأسرار السمو ولخشية ذلك كله فإني أنقل نفسي وإياكم إلى سماء القرن الأول؛ لنقف على أسرار سموه للسماء لنقول: هذه هي المراقي فارتقِ هذا هو النموذج لا غيره والمثال فصلاحه ضُرِبَت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولَهَج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نَطَقَت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد مذْ دحاها الله وطحاها وبراها أمةً أصلب على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد فئةً اتحدت سرائرُها وظواهرُها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد مذ مهَّدها الله أمةً وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة. هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة، فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرح هذه الشهادةَ الواقعُ، ويفسرُها العيان التي لم تحجبه بضعة عشر قرناً من الزمان. إنها حقائق تاريخية ناطقة ينبغي الوقوف أمامها في كل مكان وزمان. فقد تنطق الأشياء وهي صوامتٌ وما كل نطق المخبرين كلامُ لقد خرَّجَتْ تلك الدعوة جيلاً في ذلك القرن فريداً مميزاً في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ البشرية جميعه جيلاً فريداً في تصوره وشعوره وانتمائه ووضوحه جيلاً اختاره الله لحمل رسالته، ولصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم جيلاً جاءه الوحي على وعي، فتأسس على توحيد، وانطلق بعقيدة، وسار على منهج صحيح. حمل فكراً سامياً لغاية أسمى زاده التقوى، وشعاره الجهاد، وحصنه الإيمان، وعدته الصبر، وخلقه القرآن، وقدوته سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. أمنيته الشهادة في سبيل الله؛ ليكون الدين كله لله، وغايته تلك مع الجنة ورضوان الله، والذي لا إله إلا هو لولا النقل الصحيح المتواتر القطعي لقيل: ذاك طيف من خيال بل هو الشيء المحال قد تقولون: مُحال! ذاك ضرب من خيال قد تقولون ولكني أقول: إنها تربية السبع الطوال! لا محال إنه هدي الكتاب لا محال فعلى وقع التلاوات تخضَرُّ التلال لا محال إنهم جيل المصاحف لا محال إنه جيل المحاريب وأساد النبال إنهم شم الجبال لا محال و Q لِمَ لَمْ تعُد الأمة تخرِّج مثل ذلك الطراز؟! أما إنه قد يوجد أفراد وفئة من ذلك الطراز على مدى التاريخ؛ لكنه لا يحدث أن تَجمَّع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في القرن الأول، هذه ظاهرة واضحة ذات مدلول؛ تستحق أن نقف أمامها لعلنا نهتدي إلى السر، كما يقول سيد. معشر الإخوة: إن قرآن تلك الدعوة في ذلك الجيل لم يزل بين يدينا محفوظاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة بين أيدينا كذلك، لم يغِب سوى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟! أما إنه لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للعالمين، وما جعلها آخر رسالة لأهل الأرض أجمعين. إن الله قد تكفل بحفظ الذكر، وبيَّن أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تؤتي ثمارها، فاختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان؛ وعلى هذا فإن غَيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة، فما السر إذاً مرة أخرى؟! هل تغير النبع؟! هل تغير المنهج الذي تربوا عليه؟! مهما تقادم جوهر في عتقه فهو الثمين وليس يبرح جوهرا إن السر يكمن في أمور: خذها إليك درة من الدرر من كاتب راز الأمور وخبر

توحيد مصدر التلقي عند الجيل الأول

توحيد مصدر التلقي عند الجيل الأول إن الصحابة رضوان الله عليهم جعلوا القرآن والسنة النبع الوحيد الذي منه يستقون وينهلون، وبه يتكيفون، وفي رياضه يتربون، وعليه يتخرجون، ما نظروا مجرد النظر إلى رواسب الثقافات العالمية التي كانت في ذلك العصر وما قبله، رغم أن بعض هذه الثقافات كانت محيطة بـ الجزيرة؛ بل كان بعضها يعيش داخل الجزيرة، بل لم ينظروا إلى الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وإنما اقتصروا على كتاب الله وحده، فخلُصت نفوسهم لله وحده، واستقام عودهم على منهجه وحده. مرادهم الإله فلا رياءُ ونهجهم الكتاب فلا ارتيابُ ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت فيهم هذا القول، ويأطرهم عليه، ويحذرهم من مصادر التلقي الأخرى، وحاله: فيا قلب اعص كل هوى سواها ويا نفس سواها لا تطيعي

مصدر التلقي عند عمر بن الخطاب

مصدر التلقي عند عمر بن الخطاب روى الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه -رحمهما الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: {أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعر ويتغير، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ثكلتك الثواكل يا بن الخطاب! ألا ترى ما لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -وفي رواية- أن عبد الله بن زيد قال: أمسخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال صلى الله عليه وسلم: أمُتَهَوِّكون فيها يا بن الخطاب؟! ألَمْ آتِكم بها بيضاء نقية؟ والذي نفسي بيده! لو بدا لكم موسى فتبعتموه وتركتموني لضللتم سواء السبيل، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني}. لقد كان درساً عظيماً بليغاً للصحابة ومن بعدهم، فحواه: عُد إلى الروضة إن الغيث يهمي في روابيها ويكسوها جمالا

تربية النبي صلى الله عليه وسلم للجيل الأول

تربية النبي صلى الله عليه وسلم للجيل الأول لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يربي جيلاً خالص القلب والعقل والتطور والشعور خالص التكوين من أي مؤثر غير المنهج الإلهي الذي تضمنه القرآن الكريم، كيف وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: {تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي}. ولما اختلطت الينابيع، وشيبت -معشر الإخوة- والتفت الجيل إلى غير ذلك النبع الصافي، انحط وسقط وخار وبار، وصار كالحيوان الأعجم يقع على الجواهر فيدوسها برجله، لا يعلم إلا أنها من جنس ما يُداس؛ لأنها لا تؤكل، فظهرت فئة مزورة لا صلة لها بذلك النبع إلا بما لا كف لها في اسمها ولقبها، فئة ترى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالالتفات عن ذلك، والانغماس في ثقافة الكافر من غير قيد ولا تحفظ تعمل لهذا جاهدة، يُسِرُّ المسر منهم كيداً، ويُعْلِن المعلن منهم ذلك وقاحةً يتهارشون على وأد ذلك النبع الصافي وتجفيفه، مُجْلِبين بألسنتهم وأقلامهم، أُتْخِموا من تلك الينابيع، ثم شرعوا يتقيئونها في أذهان الجيل؛ بحجة التطوير والرقي والسمو زعموا! تعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظهر العمل، وفي إدارة الكلام، يتخلل أحدُهم تخلل الباقرة، تعرفهم في اللفتات العامة، تلمحهم في أسباب معيشتهم الشخصية؛ لكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتُهم أصحاب الينابيع المختلطة النتنة. سادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يُلْتَفَت إليها بعد تحصيل اللباب، وأن الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير ما ينفع؛ لكن هذه الفئة البائسة تفعل عكس ذلك كله، وتختصر الطريق إلى اللهو لتُرْضِي شهواتها، وإلى الكماليات؛ لأن لها بريقاً هو حظ العين، وإن لم يكن للعقل منه شيء. عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تُتَرْجم في جملة واحدة هي: أن النجاة في الغرق! فئة تلبس باسم الإسلام، وتأكل الخبز باسمه؛ لكنها لا تعمل ما يرضيه، ولا تبني ما يعليه ترفع العقيرة باسمه فتفضحها رطانة الأنباط، وتربط نفسها معه بمثل خيط العنكبوت فينحل الرباط، فجاءت أفكارهم فاسدة كأنتن من جيفة هدهد ميت كُفِّن في جورب مسافر أبخر في شدة القيظ لم يمسه الماء أشهراً، بل أنتن من حلتيت، وأثقل من كبريت، وأهدى إلى الضلال من دليل خِرِّيت. يجرون الذيول على المخازي وقد ملئت من الغش الجيوب انسلخوا من هويتهم، ولم يندمجوا في حضارة سادتهم المادية، فصاروا كالمرأة المعلقة، لا مزوجة ولا مطلقة! فتَبَّاً وسُحقاً وهلاكاً وبُعداً في بيداء السماوة، أجمعوا أمركم ثم ائتوا صفاً، فما أنتم ببالغين من الحق إلا ما يبلغه مَن يريد أن يغطي على الشمس بكُمِّه، وهو لا يعلم أن مِن وراء كمه أرض الله الواسعة.

سماوة الجيل الحاضر ومصدر التلقي

سماوة الجيل الحاضر ومصدر التلقي معشر الإخوة والبنين: ولما التفتت وسائل التوجيه والتربية في الأمة إلى غير ذلك النبع الصافي ضاعت هويتها، فصارت كمن ينقش شوكة بشوكة، فتنكسر الشوكة التي استخدمت لإزالة تلك الشوكة، فتجتمع شوكة بشوكة -كما قيل- إنك لتسمع من يقول ببلاهة وغباء وبلادة لمن يدعو إلى العودة إلى ذلك النبع الصافي إلى الوحي: أنتم خياليون، تعتمدون على الماضي، وتتكلون على الموتى، يستهزئ في معرض النصح، ولا ندري متى صار إبليس مذكراً!! ومن الرزية عاهرٌ مُتَوَهَّم في الناسكين وناسكٌ في العهر يريد أن ننسى ماضينا، حتى إذا استيقظنا من تنويمه لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضره المرير، خاب وخَسِر وعُرِّي وهُرِّي، وقُطِّع وفُرِّي، وأُحْرِقَ وذُرِّي، تطوع لهذا العمل أم كُرِّي. يا هر لو قال ليث الغاب قولكمُ لاستنكف الفار إن قالوا له أسدُ ... فقبح وفدهم من وفد قوم ولا لُقُوا التحية والسلاما أفرزت هذه لنا جيلاً على درجة من الضعف الخُلُقي والعقلي، يعتقد في قرارة نفسه أنه خلق خلقة الأرنب، وخلق عدوه المفتون به خلقة الأسد، وجف القلم، ولا تبديل لخلق الله: إذا صوَّت العصفور طار فؤادُهُ وليث حديد الناب عند السرائد يبيع دينه بعرض من الدنيا طلوع الشمس عنده ليل يلعن الشيطان ويتبع خطواته أقواله ألفاظ زور مالها معنى وصوت كالطبول مجوفه ما عنده إلا البلادة والقماءة والسفاهة والخنا والعجرفه ولا عجب! فقد جاءته وسائل التوجيه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضت عليه النوائح في موكب الفرح، وأرادت علاجه من الفقر فعالجته بالفقر والجهل ومعه الذل، وحاولت علاجه من الحمى فداوته بالطاعون قيدته بحديد بعد أن قصت ريشه، ثم قالت له: انشد وغرد وأنى له؟! ما حيلة العصفور قصُّوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غردِ! ... إنما تطرب أذن حرة إنما يسعد قلب مطمئنْ معشر الإخوة: ذلك الجيل استقى من النبع الصافي وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد إنه السماء. وهذا الجيل استقى من ينابيع مختلطة آسنة، فهلك في بيداء السماوة، وكلٌّ يجني عواقب ما زرع. وشتان ما بين السماء والسماوة! هذه هي الحقيقة، فلا تلبسها ثوب زور، فلا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه. صرح أبن فالخير في التصريحِ قد تبرأ العلة بالتشريحِ

العمل بالكتاب والسنة عند الجيل الأول

العمل بالكتاب والسنة عند الجيل الأول ثانياً: أن ذلكم الجيل قد جعل القرآن الكريم والسنة منهج تلقٍ للتنفيذ والعمل والتطبيق، لا منهج دراسة ومتعة، كما هو حال كثير من الأجيال التي خلفت ذلك الجيل الفريد. وما السيف من غير أبطاله! وما العين من غير إنسانها! إن أولئك لم يكونوا يقرءون القرآن لقصد الثقافة والاطلاع وزيادة الحصيلة الفقهية فحسب! بل كان الواحد منهم يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن المجتمع الذي يعيش فيه وشأن الحياة التي يحياها يتلقى ذلك كله ليعمل به فور سماعه وحاله: أنا بالله عزيز لا بعزى أو مناة معي القرآن أتلو هـ فيحيي لي مواتي استبانت غايتي من آية في الذارياتِ فتح هذا الشعورُ لهم من القرآن آفاقاً لم تكن لتُفْتَح لهم بغيره، ويسر لهم العمل، وخفف عنهم ثقل الأعباء والتكاليف، حوَّل مسار حياتهم إلى الاتجاه الصحيح، فحالهم: دوى القران أيا نفوس فأوِّبي شوقاً إلى خُضُر الجنان ورددي ولو أنهم قصدوا القرآن بشعور البحث والدراسة والاطلاع والثقافة ما كان لهم ما كان: إن المخالب في يدَي ليث الوغى قضب وفي يد غيره أظفارُ

تطبيق الكتاب والسنة عند السعدين

تطبيق الكتاب والسنة عند السعدين لما تحزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح قادة المشركين على ثلث ثمار المدينة ويرجعوا، كل ذلك رفقاً بأصحابه، فاستشار السعدَين رضي الله عنهما، فقالا في غاية الاستسلام لله، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أأمر أمرك الله لا بد من العمل به فسمعاً وطاعة لله؟ أم أمر تحبه يا رسول الله! فما تحبه مقدم على كل شيء؟ أم شيء تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم؛ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! لقد كنا وهؤلاء على الشرك بالله، والله ما يطمعون ثمرة من ثمار المدينة إلا قِرَىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا؟! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين} {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]. هذا البيان فقل لمن قد ضل دون نقيضِهِ صمتاً فذا أسد الكلا م فما طنينُ بعوضِهِ!

العمل بالكتاب والسنة عند الصديق

العمل بالكتاب والسنة عند الصديق وها هو الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ]] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه. فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بألا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: [[والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً!]] فأنفذه. فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: [[إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه]] فنصر الله به دين الله: قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟ والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وتلك سهلة بالدعوى واللسان؛ لكنها صعبة عند التحقيق والامتحان. الرضا -معشر الإخوة-: كمال الانقياد والاستسلام لأوامر الله ونواهيه، ولو خالف المرء شيخه وطائفته ومذهبه وهوى نفسه. مستمسكاً بعرى العقيدة تابعاً ولغير شرع الله لا يستسلمُ لا يوقف تنفيذ قول الأوامر على قول شيخه أو طائفته؛ فإن أذنوا نفذ وقَبِل وإلا أعرض ولم ينفذ، وفوض الأمر لهم، والله لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بهذه الحال. كما قال ابن القيم رحمه الله. والحق مثل الشمس يجمل ضوؤه للمبصرين ولا يروق لأرمدِ ... ووالله ما الأبصار تنفع أهلَها إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ معشر الإخوة: ذلك الجيل أسلم واستسلم وانقاد لحكم الله بلا خيار: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وبلا تنطع في البحث عن الحكمة والعلة؛ لأن ذلك ينافي التسليم والانقياد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. وبلا حرج في النفس عند تطبيق النص الشرعي: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. شعارهم: (بِمَ أمر ربنا؟) لا (لِمَ أمر ربنا؟) فكانوا السماء، فاسلك طريقهم، فلئن سلكتَها لقد سبقت سبقاً بعيداً إلى السمو والسماء، ولئن أخذت يميناً أو شمالاً لقد ضللت ضلالاً بعيداً، وهلكت في البيداء، وشتان ما بين السماوة والسماء!

تطبيق الكتاب والسنة عند نساء الصحابة

تطبيق الكتاب والسنة عند نساء الصحابة تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أبو داود رحمه الله: {إن لنساء قريش فضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل منهن، لما نزل قول الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] انقلب رجالُهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فما منهن امرأة إلا قامت إلى مُرْطها فاعتجرت به وغطَّت رأسها؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب}. فمن لم يكن حسنها في الحجابِ فسخريةٌ عَدُّها في الحسانِ ... يا رُب أنثى لها دين لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدبِ ويختلط الرجال والنساء في الطرق عند الخروج من المسجد، فيقول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في سنن أبي داوُد: {استأخرن عليكن بِحافَات الطريق} فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من شدة لصوقها به. معشر الإخوة والأخوات: هذه شامة تهدى لمن بهرتهم مدنية الغرب، فصنعت لهم الصنم، وألهتم عن جلال الحرم، فلم يبق عندهم قيس يحن لليلى بين الشعاب، بل صار يتمنى أن يراها بلا حجاب، بل يشهد جمالها عارية بلا ثياب، لتصبح وتمسي في تباب، واشتبهت عندها الحمائم والصقور، والغراب بالقراب، واليافع بالكعاب. كأنه زَبَدٌ والبحر يقذفه والشط يأنفه والحل والحرمُ إنها -يا فتاة الإسلام- ليست مسألة حجاب فقط، إنها عقيدة وشريعة إنها استسلام وتعظيم وحب لله إنها مسألة واحدة: أن تكوني أو لا تكوني. هو الخبر اليقين وما سواه أحاديث المنى والترهات

تطبيق السنة عند ابن رواحة

تطبيق السنة عند ابن رواحة يُقبل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يوجه الأمر للواقفين: {اجلسوا، فجلس مكانه خارج المسجد، مستسلماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم حكمة ذلك الأمر، حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خُطبته وعلم بذلك، فقال: زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله}. إن للإيمان ناس كالأسُدْ فتشبه إن من يؤمن يَسُدْ لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، صلى معه العصر رجلٌ، ثم مر على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس، فقال: [[أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِّه نحو الكعبة]] وهم ركوعٌ فانحرفوا، ما راجعوا وما ترددوا، وما رءوسَهم رفعوا حتى امتثلوا، على مثلهم ينطبق قول الله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. وما يستوي الفِتْن فيه الغبار وإن أشبه الكحل الأكحلُُ

أبو طلحة وتطبيقه لكتاب الله

أبو طلحة وتطبيقه لكتاب الله وفي صحيح البخاري: أنه لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قام أبو طلحة رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ ذاك مال رابح ذاك مال رابح! قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله} وحاله: نفسي الفداء ثم أمي وأبي لصاحب المعراج أحمد النبي تعودوا هاك، ولم يتعودوا هات، ولكل امرئ ما تعود. عزفت أنفسهم عن قول: لا فهي لا تعرف إلا هي لك يا حي يا قيوم فاجمعنا بهم في الخلد إنا لم تحد عن حبهم في أواخر حياته عكف على القرآن، وبينا هو يقرأ في (براءة) قول الله: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] قال لأبنائه: [[جهزوني! قالوا: نحن نغزو عنك قد عذرك الله، قال: أي بني! والله ما أرى إلا أن الله استنفرنا شيوخاً وشباناً فجهزوني]]. يشبه الرعدَ إذا الرعدُ رجفْ يشبه البرقَ إذا البرقُ خطفْ جهزوه وغزا في البحر ومات فيه، فلم يجدوا له جزيرة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام أو تسعة، لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه. لو كان هذا الدهر شخصاً ناطقاً أثنى عليه بنثره وقصيدهِ أو كان ليلاً كان ليلة قدرهِ أو كان يوماً كان يومي عيدهِ ... إيهٍ إيه! علِّم القوم نهوضاً للسما فشعار القوم كل واشرب ونَمْ إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما حُلُم. يا مفني العمر في التفتيش عن حلم لو كان يُدرَكُ ما كان اسمه الحلما معشر الإخوة! خير الناس ذلك القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم. هم الرجال وقد جاءوا على قدر هم الذين إذا ما عاهدوا صدقوا

تطبيق السنة عند الشافعي وأحمد

تطبيق السنة عند الشافعي وأحمد سأل الإمامَ الشافعي وهو بـ مصر رجلٌ عن مسألة، فأفتاه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ فارتَعَدَ الإمام الشافعي، واصفر لونه، وقال: أرأيت في وسطي زناراً؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟! ويحك! أيُّ أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم أقل به؟! نعم! أقول به وعلى الرأس والعينين، متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأشهدكم -أيها الناس- أن عقلي قد ذهب حاله: والله يميناً براً لو تبرجت الآراء في بقللها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى رأي غيره لما رأيت لي عنه عديلاً، ولا اتخذت به بديلاً. إذا رأيتَ الهوى في أمه حكما فحكم هنالك أن العقل قد ذهبا أخي: وما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو وإن حذوت على مثالي يختفي شيخ أهل السنة وإمام هذه الأمة أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- في المحنة عند ابن هانئ ثلاثة أيام -أيام الواثق - ثم قال لـ ابن هانئ بعد ثلاثة أيام: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه، فقال ابن هانئ: لا آمن عليك يا أبا عبد الله، قال: افعل إن فعلت أفَدْتُك، قال ابن هانئ: فطلبت له موضعاً، فلما خرج قلت له: الفائدة يا إمام، قال: لقد اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، وليس ينبغي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ويترك في الشدة: فيرحم الرحمن ذلك العلمْ الزاهد العابد قمة القممْ وفارس المعقول والمنقولِ المقتفي لسنة الرسولِ ونشهد الله على محبتهْ جَمَعنا الله معاً في جنتهْ هذا هو النهج الذي سما بأولئك إنه التلقي للتنفيذ والعمل

تطبيق الوحي عند الأجيال المتأخرة

تطبيق الوحي عند الأجيال المتأخرة ولما أخذت الأجيال المتأخرة الوحي للدارسة والمتعة خرج لنا هذا الجيل الهالك في بيداء السماوة في مجمله: لكل جماعة فيهم إمامٌ ولكن الجميع بلا إمامِ ... ليسوا بأحياء ولكنهم تسمعُ من أفواههم أحرفُ وشتان ما بين السماوة والسما! أيها الجيل: ليس بعد نبينا نبي، ولا بعد كتابنا كتاب، ولا بعد أمتنا أمة، الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] فاقصد البحر وخلِّ القنوات. وإذا أتى نهر الله بطل نهر معقِلِ وفي طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ ... فاستذكرن آثارك الخوالدا ومجدك الفذ الصريح التالدا واقتبس الأصول منه والسننْ ولتسمون بها الهضاب والفُننْ وكن أخي في الرأي والإعدادِ من عصبة الزبير والمقدادِ وشتان ما بين السماوة والسما!

صدق التميز والمفاصلة مع الكفر وأهله عند الجيل الأول

صدق التميز والمفاصلة مع الكفر وأهله عند الجيل الأول فإن عبودية الله لا تسمح بموالاة أي عدو لله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22]. لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم عن المجتمع الجاهلي تميزاً واضحاً في كل شيء؛ ظاهراً وباطناً كما يقول سيد. لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته الجاهلية، ويقف من كل ما عهده في جاهليته موقف الحذِر المتخوف الهائب المستريب. متيقظاً في كل جارحة له مخصوصة قلبٌ وعينٌ تنظرُ قد عاش عزلة شعورية كاملة بين ماضيه في جاهليته وغوايته، وحاضره في إسلامه وهدايته عزلة شعورية في صِلاته وروابطه الاجتماعية، حتى وهو يتعامل معهم في عالم التجارة اليومي انخلاع من البيئة الجاهلية وعرفها وتصوراتها، وعاداتها وتقاليدها، وانضمامه إلى المجتمع الإسلامي في ولائه وطاعته وتبعيته، في تخفف وانسلاخ من ضغط العادة والتقليد والتصور والقيم السائدة البائدة، فكان ذلك الجيل المتميز، حاله: من كان منا فإنا منه ومن شذ رُدَّا ليس الفتى من توارى إن الفتى مَن تصدَّى ومن تسربل عزاً لم يستر الذل بُرْدا

مفاصلة عمر الفاروق للكفر وأهله

مفاصلة عمر الفاروق للكفر وأهله لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: [[صبأت، فقال عمر: كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا]]، وحاله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]. لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا الله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ألا تحبونا كلٌ له نية في بغض صاحبه بالله نبغضكم دوماً وتقلونا الله أكبر! ما كان بين إسلامه رضي الله عنه وبين أن قاتلهم وقاتلوه، وقال: [[افعلوا ما بدا لكم]] إلا سويعات عديدة، وحاله: إذا كان قلبي لا يغار لدينه فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه إنه التميز والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله، ورفض الالتقاء في منتصف الطريق. إنه الفاروق الذي جاءه أبو سفيان من أشراف قومه ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شد عقد الحديبية، فقال له ببراء من أعداء الله: [[أنا أشفع لكم؟! والله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به]] حاله: كان العيش معهم والشفاعة لهم ممكنة. ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجسد المشرقِ وقد ولي الأمر منهم رجالٌ يخالف منطقهم منطقي نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرتُ فلم نلتقِ إنه على بصيرة من دينه واثق بمنهجه موقن برسالته لو شك الناس -جميعًا- في الحق ما شك فيه؛ لأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب عليه وحده. وعلى مقادير الرجال فعالهم قطع المهند تابعٌ لحديدهِ

ثمامة بن أثال ومفاصلته للكفر وأهله

ثمامة بن أثال ومفاصلته للكفر وأهله أخرج الشيخان {أن ثمامة سيد أهل اليمامة وقع في الأسر ورُبط في سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم إساره، ثم قال: أطلقوا ثمامة، فرغب في الإسلام، وتغيرت الصورة القاتمة التي كان يحملها عن الإسلام إلى صورة مشرقة استنارت بها بصيرته، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد وشهد الشهادتين، ثم قال: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه ولا دين ولا بلد أبغض عندي من وجهك ودينك وبلدك، فقد أصبحت أحب الوجوه كلها، والدين كله، والبلاد كلها إلي، يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر}. انجلت الرغوة عن اللبن الصريح ولا يصح إلا الصحيح، محيت ألوان الغشاوة التي كانت مهيمنة على قلبه، فأعلن بدء تاريخ جديد يمحو به آثار ما سلف، ويتميز به ويفاصل في عزة وأنف. رُوي أنه قدم مكة فلبى، فأخذته قريش، وقالوا: [[لقد اجترأت علينا والله لولا ما بيننا وبينك لقتلناك، أصبوت؟! قال: ما صبوت ولكني أسلمت لله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]]. حاله: ولقد وجدت ولاء قوم سُبةً فاجعل ولاءك للعزيز الأكرم لم يكن بائع كلام، ولا مكثر أوهام، قام بتنفيذ التهديد، ومنع عنهم الحنطة حتى اضطروا خاضعين إلى أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ متوسلين قائلين: [[إنك تأمر بصلة الرحم، وقد قطعت أرحامنا قتلت آباءنا بالسيف وأبناءنا بالجوع]] فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بحمل الحنطة إلى مكة، فامتثل وفعل، كيف ورسول الله قد أمر. ولو تقطع جذع عن منابته ماتت على غصنها تلك العناقيدُ مفاصلة حاسمة، وفكر نزيه، وتميز صريح، وهدىً صحيح، خاب من قال فلم يفعل، فما يفلح القائل حتى يفعل. إنه التميز الذي جعل من ذلك الشاعر الذي كان يستعدي على المسلمين، ويسمهم بالسفه وسوء الاختيار قبل إسلامه، يستعلي على تلك الكلمات والموروثات التي كان يفاخر بها؛ قيل له بعد إسلامه: [[أنشدنا من شعرك؟ فقال: لقد أبدلني الله من الشعر الزهراوين: البقرة وآل عمران، لا أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير]] تميز محسوس، وتحول ملموس، ولا يكابر في المحسوس إلا ممسوس قد فاته أن الهداية بلسمٌ ومذاق طعم الشهد لن يتغيرا

التميز والمفاصلة عند الجيل الحاضر

التميز والمفاصلة عند الجيل الحاضر معشر الإخوة! ولما حاد هذا الجيل عن تلك المفاصلة والعزلة، والتميز والترفع على مبادئ ومظاهر الجاهلية، تلوث وتأثر بقدر حيدته عن ذلك النهج، فمستقل ومستكثر، فلو نظرت إلى مدن الجيل وقراه من مرقب عال، وسَبَرت حاله في مجمله؛ لم تميز بينه وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات والآثار واللوحات لهث وراء المادة في غير اقتصاد اكتساب من غير احتساب سهر في غير طاعة عمل بغير نية تجارة في لهو عن ذكر الله ولاء لعدو الله حرفة في جهل بدين الله وظيفة في الإخلاص لغير الله أحكام في مشاقة الله شغلٌ في ضلالة قعود في بطالة حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة. أمة لمن تتميز. فهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا أمة قد فت في ساعدها بغضُها الأهلَ وحبُّ الغُرَبا ... أمتي من بعد طول الـ ـنوم صارت غفلويه صدَّقت كل خِداعٍ من غوي وغوية واستكانت لخداع الذْ ئب من غير رويه نزلت من حصنها العا لي إلى أرض دنيه لترى ما لدى النا صح من دنيا هنيه ثم جاء الذئب فانقـ ضَ بأنياب قوية كيف ينقض عليها؟ كيف يرميها ضحيه؟ وكتاب الله يهديـ ـها ألا هيا إِلَيَّه كيف تمسي بخبيث الـ ـمكر لقمات هنيه فرأى تقسيم أوصا لٍ لها في الجاهليه ورمى أقوامها الكُثْـ ـر بداء الفوضويه وبأفكار زُيوفٍ محدثات زخرفيه بقي الحصن ولا حرْ اس يحمون الرعيه ضحك الباغي عليها بأخاديع ذكيه فاستجابت بغباء عمل الشاة الضحيه ساقها الجزار للذ بح إلى أرض قصيه وقف الباغي ينادي الـ ـقوم هل ثم بقيه؟ سوف لا أترككم إلْا شقياً أو شقيه هذه روح القضية هل سنصحوا للبليه؟ بِمَ نصحو؟ بكتاب الله والسنْـ ـنَة والأيدي القويه بولاءٍ وبراءٍ ومبادٍ عقديه وجيوش تهزم البا غي وتسقيه المنيه وعلى هذا! فلن تستقيم قيم الإسلام إلا بتميز ومفاصلة وبراءة، واستعلاء على القيم المنحرفة واعتزال لها، وعدم تعديل قيمنا وتصوراتنا لتلتقي معها على أي حال كان، وما يلقاها إلا الصابرون إنه الوقوف والصمود بوجه المجتمع المخالف، والمنطق السائد، والأفكار والتصورات، والانحرافات والنزوات، والواقف قد يشعر بالوهن ما لم يأوِ إلى ربه ومولاه واللهُ لن يترك المؤمن وحيداً حين يعلم صدقه يواجه الضغط، وينوء بالثقل، ويهزه الوهن: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معها على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا. هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟! إنَّا حين نسايرها ولو خطوة واحدة فإنا نفقد الطريق إلى العلياء، ونتيه في بيداء السماوة أذلاء، وحين نتميز ونفاصل ولا نلتقي إلا على نبع الوحي الصافي نكون بحق أجلاء الرفعة والعلاء، وأهل العطاء والسمو للسماء. وشتان ما بين السماوة والسما!

معرفة المنهج الصحيح لمنزلة الدنيا من الآخرة عند الجيل الأول

معرفة المنهج الصحيح لمنزلة الدنيا من الآخرة عند الجيل الأول علموا أن لذة الآخرة أعظم وأدوم وألَمَها كذلك، ولذة الدنيا أصغر وأحقر وألَمَها كذلك، فتركوا أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتملوا أيسر الألمين لدفع أعلاهما حسموا في قلوبهم كل أرجحة ولجلجة بين قيم الدنيا والآخرة خلَّصوا قلوبهم من وشيجة غريبة تحول بينهم وبين التجرد لله، والخلوص له وحده دون ما سواه، وحال أحدهم: بما في فؤادي يبوح الفمُ ويجهل غير الذي أعلمُ

حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم هن من البشر، ولهن مشاعر البشر على فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة لما رأين السعة والرخاء بما أفاء الله على رسوله وعلى المؤمنين؛ راجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبل هذا الأمر بالرضا؛ لأنه كان يريد أن تظل حياته وحياة من يتصلون به على أفق سامٍ وضيءٍ، مبرئاً من كل ظل للدنيا وأوشابها، لا لحرمة السعة؛ ولكن للاستعلاء على جواذب الأرض الرخيصة. يشقى الحريص أبداً بحرصه لو شرب الأنهار طراً ما ارتوى لو ابتنى فوق الثريا سكناً هوى به الحرص إلى جوف الثرى احتجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: طلق نساءه حين اعتزلهن، وأنزل الله آية التخيير، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29] بدأ صلوات الله وسلامه عليه بأحب نسائه إليه عائشة ليُعْلَم أن محبة الله فوق كل محبة، فتلا عليها الآية، وقال: {لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ، فقالت: أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة} فما عرض على امرأة غيرها من نسائه إلا اختارت الله ورسوله والدار الآخرة. تالله ما عقل امرؤٌ قد با ع ما يبقى بما هو مضمحل فانِ ... ليس من يجعل العقيدة نهجاً كالذي ينتمي إليها شعارا هذا هو الميزان الدقيق في نفوس الأصحاب، استمدوه من كتاب الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوه في واقع حياتهم، فحُقَّ لهم أن يسودوا ويقودوا. فيوماً على نجد وغارات أهله ويوماً بأرض ذات شَت وعرعرٍ صح عند مسلم عن جابر رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس حوله، فوجد جدياً أسك ميتاً، فتناوله بأصل أذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم}. هكذا يا معشر الإخوة! رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والرغبة في الأخرى، فتركهم من بعده جبالاً شُمَّاً، كلٌّ يسير مفرداً كأمة. هادر كالأسد الزائر مرغٍ مزبدُ لهب ملتهم محتدم متقدُ والله لأن تؤخذ المدية، فتوضع في حلق أحدهم لتنفذ من الجانب الآخر؛ أهون عنده من أن تكون الدنيا مقدَّمة على الآخرة، وهي عند الله أهون من جناح بعوضة. وحاله: لا أشرئب إلى ما لم يكن طمعاً ولا أبيت على ما فات حسرانا ... ليس الوقوف على الأبواب من خلقي ولا التمسح بالأعتاب من عملي

أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا

أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس، وبدأ القتال، رُمِي أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأُخْرِج السهم ووهن له شقه الأيسر، وجُرَّ إلى الرَّحْل، ولما حمي القتال وانهزم المسلمون في أول المعركة، وهو واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: [[يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، يقول ابن عمر رضي الله عنهم: فنهض أبو عقيل يريد قومة، فقلت: ما تريد ما فيك قتال؟! قال: قد نوَّه المنادي باسمي يا ابن عمر، فقال ابن عمر: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني: الجرحى، فقال أبو عقيل: لقد نوَّه المنادي باسمي وأنا من الأنصار، ولا والله الذي لا إله إلا هو لأجيبنه ولو حبواً]]. إن الطيور وإن قصصت جناحهاتسمو بفطرتها إلى الطيرانِ يقول ابن عمر: [[فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف باليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين كرة كيوم حنين، يا خيل الله اثبتي، وبالجنة أبشري]]. يتقدم الصفوف محرضاً والحرب تقذف تياراً بتيارِ ... كالماء أعذب ما يكون وإنه لأشد ما يصبو على النيرانِ يقول ابن عمر: [[فنظرت إليه وقد قطعت يده المجروحة من المنكب ووقعت على الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها خلصت إلى مقتل، وهو صريع في آخر رمق، وقد هزم الله عدوه ونصر جنده، فوقفتُ عليه، وقلت: أبا عقيل فقال بلسانٍ ملتاث: لبيك! لمن العاقبة؟ قلت: أبشر قد قُتِل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ثم لقي الله]]. صامتاً ليس يطيل الكَلِمَا وهو بالصمت يربي الأمما ... فلولا احتقار الأسد شبهتها به ولكنها معدودة في البهائمِ ... ما كان للزهرات لولا أنها هتكت حجاب الكُم أن تتوردا قد قيدوك فما أطقت قيودهم والحر يأبى أن يعيش مقيدا علم أن الدنيا بأسرها قليلة، وبقاءها من أولها إلى آخرها قليل، ونصيبه من هذا القليل قليل، ورأى غيره يبذل روحه ليظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، فبذل أعز ما يبذله نفسَه، وحالُه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. لم يدخر نفساً ولا مالاً وقد باعهما لله والله اشترى ما ضره ما أصابه يوم يجبر الله مصيبته بالجنة بمنِّه! فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهوا وجنة أخرى يطيـ ـب في رياضها الحيا بهذه الموازين خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله، وليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام -على حد قول ربعي رضي الله عنه- فواجَهوا حضارات مادية رقت حواشيها، وطالت ذيولها، وبلغت في البذخ درجة الخيال. كان أحدهم إذا انتطق بمنطقة قيمتها دون مائة ألف درهم يعير ويزدرى ويحتقر، وتتفاداه العيون، ويتوارى من القوم، كما يقول الندوي. واجه الصحابة هذا كله فركلوه بأقدامهم، ما هو عندهم بشيء، إذْ هم في سجن الدنيا لما ينتظرونه عند الله من الكرامة، رأوا خبزاً رقاقاً لم يروا مثله في الرقة، فحسبوه مناديلاً، فأخذوه في أيديهم فإذا هي أرغفة، ما كانوا يظنون أن الخبز يكون في هذه الدرجة من الرقة والأناقة. لا يشتهي أحدهم ما لا يجد، وإذا وجده لا يجعله غاية الجد والكد، يتسامون على المظاهر الجوفاء، ويترفعون عن الأخلاق الشوهاء، واعتزازهم بالله رب الأرض والسماء. ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها وسروا فما حنوا إلى نعمان ساروا رويداً ثم جاءوا أولاً سير الدليل يؤم بالركبان

حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت

حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت معشر الإخوة: إليكم صورة للمواجهة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة؛ حُسمت فيها النتيجة لحزب الله أهل الآخرة قبل المواجهة المسلحة. فلكل راضٍ بالهوان قرارة يحتلها ولكل راق سُلَّمُ لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر، بعث إلى المقوقس حاكم مصر عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجعله متكلم الوفد، وكان عبادة شديد السواد، مفرط الطول مهاباً، فلما دخلت رسل المسلمين على المقوقس هابهم، وقال: [[نحوا عني ذلك الأسود وقدموا غيره ليكلمني، فقال الوفد: إن هذا أفضلنا رأياً وعلماً، مقدَّمٌ علينا، نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، أمَّره الأمير علينا وأمرنا ألا نخالفه، وإن الأسود والأبيض عندنا سواء، لا يفضُل أحدٌ أحداً إلا بدينه وتقواه، فأومأ إلى عبادة أن يتكلم في رفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: إن فيمن خلفتُ من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي، وأشد وأفظع سواداً مني، لو رأيتهم كنتَ أهيبَ لهم مني، ولقد ولَّيتُ وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وأصحابي همُ هم، رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله ما يبالي أحدنا أكان له قناطير الذهب أم كان لا يملك إلا الدرهم، نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ما هو برخاء، بذلك أمرنا الله وعهد إلينا نبينا، تقضَّى زمن الحل وهذا زمن العقد]]. بعض المواقف يا رجال حرائرٌ والبعض يا بن الأكرمين إماءُ وقع الكلام منه موقعاً عظيما، فقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا قط؟! لقد هبتُ منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وما أظن ملكهم إلا سيغلب الأرض كلها. نعم: كلماتهم قُضُبٌ وهن فواصلُ كل الضرائب تحتهن مفاصلُ إنما الألفاظ نطقٌ ورسومْ والمعاني روح هاتيك الجسومْ ثم أقبل على عبادة ليسلك معه طريق الإرهاب في قالب النصح، فيقول: قد سمعتُ مقالتك، ولَعَمْري إنكم ما ظهرتم على من ظهرتم إلا بحب الدنيا، ولقد توجه لقتالكم ما لا يحصى عدده من الروم ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، فنفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة، ولخليفتكم ألفاً، خذوها وانقلبوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به. عجباً له من أسلوب شفقة الضرة على الضرة، إنه ليعلم أنهم ليسوا بطلاب دنيا، ولكنها محاولة رجل يائس أراد أن يصنع شيئاً يُعْذَر به أمام قومه. يحاول الأقزام دائماً -معشر الإخوة- أن يستنزلوا العظماء من عليائهم ليشاركوهم تدني أفكارهم إنه يعرض هذه المساومة وهو يدرك ويعترف أن المسلمين بلغوا منزلة تخولهم لملك الأرض كلها، ومع ذا يعرض عروضه المتدنية على قوم حالهم: اشترانا منا فقلنا ربحنا لا نقيل يا رب ولا نستقيلُ لكن: ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ تعجب عبادة من هذه العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، وقال بصوت كله ثقة وإيمان: [[يا هذا! لا يغرنك مَن حولَك لا تغرنك نفسُك لا يغرنك أصحابُك، لعمر الله! ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا والله ما هذا بالذي يردنا عما نحن فيه، ولئن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوان الله وجنته، والله ما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من أن نقتل لتعلو كلمة الله، والله ما منا رجل إلا وهو يدعو الله صباح مساء أن يرزقه الشهادة في سبيله، وألا يرده إلى أرضه ولا إلى أهله إلا بنصر المسلمين، فانظر فليست إلا خصلة من ثلاث، اختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في باطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ إلينا، هذا ديننا الذي ندين الله به، فانظروا لأنفسكم]]. فليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ أنبقى في الحياة بلا لسان وقد نطقت بحاجتها الحميرُ قال المقوقس: أفلا تجيبون إلى خصلة غير هؤلاء الثلاث؟ فوقع قول المقوقس على آذان صماء من عبادة، ورفع يديه يشير إلى السماء مرة ويخفضها إلى الأرض أخرى. ويبعثها حرة لا تضيقُ بكيد العواذل واللوم يقول: [[لا ورب هذه السماء، لا ورب هذه الأرض، لا ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم]]. نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس: أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله. أدت رسالتَها المنابرُ وانبرى حد السلاح بدوره ليقولا آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني فأذعنوا وذَلوا وخنعوا ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص. يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله أن البقاء للأصلح: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].

الجيل الحاضر واغتراره بالدنيا

الجيل الحاضر واغتراره بالدنيا معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف بالخزي محفوف، محب للدنيا كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع. إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجَدْ وعندها: تشابهت البهائم والعِبِدَّا علينا والموالي والصميمُ أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء. ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة. وشتان ما بين السماوة والسماء. ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي. من رام شهداً فإن النحل مصدره ومن بغى السم فليطلب له الرقطا سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه يوالون الله ويعادون أعداء الله رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى. يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية فماذا يضيره؟ الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله. هو الأعلى من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى. يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج لأنه الأعلى. يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى. يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:35] {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36]. بهذا الشعور، وبتلك القيم ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل. فانهض فقد طلع الصباحُ ولاح محمر الأجيمْ وشتان ما بين السماء والسماوة

عزة وشجاعة الجيل الأول

عزة وشجاعة الجيل الأول

عزة يزيد بن معاوية أمام قيصر

عزة يزيد بن معاوية أمام قيصر هاهو جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه بقيادة ابنه يزيد يقف على أطراف القسطنطينية قريباً من أسوارها -جيشٌ مغفور له كما ثبت في صحيح البخاري - وفي الجيش بعض أفراد ذلك الجيل على رأسهم: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، حل به مَرَض -مَرِض مرضاً شديداً- فأتاه يزيد ليعوده، ويقول له: [[ما حاجتك أبا أيوب؟ قال: ادفني عند أسوار القسطنطينية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدفن عند أسوار القسطنطينية رجل صالح} وإني لأرجو الله أن أكون أنا هو. إن النفوس إذا سمت وتهذبت وتوجهت تعلو إلى جناتها جاءته المنية هناك، ما ضيع وما قصر وما فرط رضي الله عنه وأرضاه القتال دائر، ويأمر يزيد بتكفينه، فيحمل على السرير تخرج به الكتائب لتنفذ وصيته، ويدفن عند الأسوار تحت سنابك الخيل، ينظر قيصرهم إلى سريره يُحْمَل تحت ظلال السيوف، فيرسل قيصر إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟ فيقول يزيد: [[هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن والله الذي لا إله إلا هو منفذون وصيته أو نهلك جميعاً ونلحق بالله]]. فيا لَلَّه! إن لم يكن في حياة المرء من شرفٍ فإنه بالردى قد تشرف الرممُ قال: عجباً! أين دهاؤك؟! وأين دهاء أبيك الذي يُنسب له؟! يرسلك أبوك فتأتي بصاحب نبيك -ونقول: صلى الله عليه وسلم- وتدفنه في بلادنا حتى إذا ما وليت أخرجناه للكلاب؟! فقال يزيد في سمو وسماء وعزة: [[إنك كافر بالذي أكرمت هذا له، وإني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، والله الذي لا إله إلا هو مَن أكرمتُ صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لئن بلغني أنه نُبِش قبرُه، أو مثل به، لا تركتُ في الأرض الإسلام نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها]]. جعل الخطام بأنف كل مخالفٍ حتى استقام له الذي لم يُخْطَمِ فقال: لِلَّه أنت، أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي إن لم أجد من يحفظه. ولا عجب! فالحق قد أجاب، والذل قد وجب. وموجة النهر في عين الجبان بها غول وحوت وتنين وتمساحُ وشتان ما بين السماء والسماوة! وتبقى الآحاد والفئات ممن استقت من ذلك النبع الصافي على تلك العزة في كل آن، محلقة سامية للسماء ناطقة تقول: ومن لم يقوَّم بهدي الكتاب فبالسيف يا صحابي قُمْ

عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة

عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة يكتب ملك كستانة في أواخر القرن السادس إلى السلطان المسلم أبي يوسف المراكشي يهدده ويعنفه، ويطلب منه تسليم بعض بلاد المسلمين، وكان فيما قال في غطرسة وكبرياء: أراك تماطل نفسك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطَّأَ بك، أم التكذيب بما وعدك نبيك. فلما قرأ أبو يوسف الكتاب تنمَّر، وغضب، وتربد وجهه، وأرغى وأزبد، ثم مزقه وكتب على رقعة منه بقلم يفتك الشعور ويفلق الصخور: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] الجواب ما ترى لا ما تسمع. فلا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرمِ ... وقام قيام الليث فار غليله وقد برِّزت أنيابه ومخالبهْ استنفر الناس، ودعا للجهاد، ورغب في السعادة، وحاله: أججوها حمما وابعثوها حمما قربوا مني القنا قد كسرت القلما ... دوت بكل قبيلة ومحلة صيحاته فتجاوبت أصداؤها سارع مائة ألف مسلم متطوع للبذل والتضحية، والذب عن بيضة المسلمين، وإعزاز دين رب العالمين؛ لينضموا إلى الجيش الذي يبلغ مائة ألف من الموحدين، حال الواحد منهم: ارمِ بي كل عدو فأنا السهم السريع وإلا: فلا نعمت نفس ولا أفلح امرؤٌ ولا انهال هطَّال ولا لاح مشرقُ مضى الليث إلى الأندلس بجيش يؤمن بالله، ويستقي من نبع وحي الله شعاره: تكبير الله، وهذا ما وعدنا الله، وصدق الله، وحسبنا الله. فكانت الملحمة التي تنزل معها نصر الله على حزب الله، فقتلوا من العدو مائة وستة وأربعين ألف قتيل، وأسروا من أسروا نصراً من الله، وحقت كلمة الله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. معشر الإخوة والبنين! والله ما قام عبدٌ بالحق وكان قيامه لله وبالله إلا لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له منها فرجاً ومخرجاً، وإنما يؤتى من تفريطه وتقصيره. فاعلم أيها السامي للسما: مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ ... فما رميت ولكن الإله رمى فكيف يُهْزَم مَن بالله ينتصرُ والله أكبر صوتٌ تقشعر له شمُّ الذرى وتكاد الأرض تنفطرُ معشر الإخوة! نَصَر الله ذلك الجيل، لأنه أخذ بمقومات النصر، استقى من نبع الوحي، وطبق ونفذ، وتميز وفاصل، وضحى بالزائل، فكانوا السماء بحق، صدورُ محافل، وقادةُ جحافل، يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، والباطل زاهق نافر، يقذفون بعزائمهم فإذا الكفر مكسور، والإيمان منصور. إن تلك المقومات للسمو إلى السماء لم تبلَ ولم تمت؛ إنما هي كامنة، وتلك الشعل لم تنطفئ فهي في كنف القرآن والسنة آمنة، فلا يزال الله يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، إنهم من كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكن أو لا تكون: ومن يجد ترباً وماء غرسا وبذل المال وحاط الأنفُسا ... فبادر أُخَيَّ لرفع اللواء على كل قِطْع ولا تحجمِ وزف هدى الله للعالمين بآياتِ قرآنك المحكمِ سمواً سماءً بوحي الإله وجاهد وصابر ولا تسأمِ

نصائح وتوجيهات إلى أفراد جيل هذا الزمان

نصائح وتوجيهات إلى أفراد جيل هذا الزمان أيها الجيل: الفرد في هذا الزمان أشد حاجة لليقظة والانتباه مما كان عليه أسلافه المسلمون في العصور الماضية، لقد كان أسلافه يعيشون في وسط إسلامي تسوده الفضائل، ويعمه التواصي بالحق الرذائل فيه تتوارى عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما اليوم فإن المدنية السفيهة الحديثة قد جعلت كفر جميع مذاهب الكفار، وشهواتهم وشبهاتهم، مسموعةً مُبْصَرةً مزخرفةً عن طريق الإذاعات والشبكات، والصحف والقنوات، تتسلق وتتسلل إلى أعماق القلوب الجوفاء والبيوتات، وترفع عقيرتها: إليَّ إليَّ! فعندي الفقه الطيب، تعني: فقه الإرجاء والتسيب، وينعق فيها الرويبضات التافهون في أمر العامة صارخين: العلم ما ينقله الإعلامُ وليس ما يبثه الإسلامُ والحق ما تطلقه الأبواقُ وليس ما تثبته الأخلاقُ قد طوروا الخطاب للصِّغارِ باللحن والعُرْي وبالصَّغارِ خابوا فهم حثالة الأنسالِ وعُصْبة الفساق والأنذالِِ رهط الخنا والغي والمِحالِ مِن كل عِي ماذق تنبالِ محارب لله لا يبالي كأنما صيغوا من الأوحالِ أو من رجيع الحمر والبغالِ لكن: لكن ومهما نعقوا ومخرقوا عليهم ألف دليل ينطق فانثر كنانتك أيها الجيل الراشد، والزم نبعك الصافي وتميزك ومفاصلتك، وسدد سهامك، وأشرع رماحك، وأعدَّ عدتك؛ فإن لم تجد فيها سلاح الحديد والنار فلن تراع معك السلاح الذي يفل الحديد، كتاب الله خير عدة وعديد، معك المادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصف على الإيمان، معك المِسَن الذي يشحذ هذين؛ وهو التقوى والصبر، فلن تضر. فوالذي أكرمك بالإسلام إنهم ما قاتلوك بالحديد إلا ما يوازي ساعة من نهار؛ لكنهم قاتلوك في الوقت كله بما هو أعظم من الحديد قاتلوك: بالكتاب الذي يزرع الشك بالظن الذي يمرض اليقين بالصحيفة التي تنشر الرذيلة بالقلم الذي يشيع الفاحشة بالممثلة التي تظهر الفجور بالراقصة التي تغري بالتأنث الصخور بالمهازل التي تقتل الجد بالخمر والمخدر الذي يهدم البدن والعقل والمال والدين بمُعلمِ وعالمِ السوء الذي يفسد الفكر، وينقل الناس من الشهوة على وجل إلى الشبهة بلا وجل ولا خجل بالكماليات التي تثقل الحياة بالعادات التي تناقض فطرة الله. فإن شئت أيها الجيل أن تذيب هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها، فما آمرك إلا واحدة أن تعلنها قولاً وعملاً: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأعراف:203] ثم تصوم عن هذه المطاعم والمشارب والمنابع النتنة كلها، وتغمض عينيك على الدواء بكتاب الله يعمل، ثم تفتحها لرؤية الحق والهدى تبصر. دع عنك ما يقوله المسوخُ فما لهم في شرفٍ رسوخُ إن القوم تجار سوء قاطعهم تنتصر عليهم قابل أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو: التعفف والإعراض عن هذه الأسلحة كلها؛ فإذا أيقنوا ألا حاجة لك بهم آمنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، ثم انصرفوا صرف الله كيدهم كما صرف قلوبهم. ماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل بالربا؟! وليس يجهل ما ينوي الخصوم لنا إلا الجواميس أو شبه الجواميسِ السوس منا فلا تطعن على أحد من الخصوم وعالج مصدر السوسِ يا سامياً للسماء: لا يخالجك شك في أن وعد الله بالنصر واقع قاطع جازم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] وكلمة الله قائمة سابقة {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] هذه حقيقة ثابتة مهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وحرب الأفكار، إن هي إلا معارك تتنوع نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي لا يخلف بالنصر والغلبة والتمكين، سنة ماضية مضي الكواكب والنجوم، وتعاقب الليل والنهار؛ لكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء لحكمة، فلا تيأس وابحث عن أسباب تخلف النصر، فلعله من تفريط أو تقصير، فراجع نفسك وإلا فالسماوة. يا سامياً للسما: الطائر بجناح مستعار لا شك أنه ساقط واقع منحل معتل مختل، فحلق بجناحك، والنبع الصافي زادك مخلصاً متبعاً مطبقاً متميزاً مفاصلاً، وإلا فالسماوة. يكفي الصياح فما الحياة عبارة جوفاء فارغة يرددها الفمُ الحزم الحزم والقول والعمل! لا تكن كالدفتر يحكي ما قال الرجال وما فعلوا دون أن يضرب معهم في الصالحات بنصيب، أو يرمي في معترك الآراء بالسهم المصيب، وإلا فالسماوة. يا سامياً للسما: كاثر الضالين بالمهتدين، وارمِ البطانة الفجرة بالعجاف البررة ارم الخبيث بالطيِّب، والدرن بالصيِّب، وإلا فالسماوة. يا سامياً للسما: قد عرفتَ وُجْهَتَك فابدأ المسير، هطيل المزن أوله قطرة، وعصف الريح مبدؤه نسفة، وصادق الوحي مبدؤه رؤيا منام، فابثث أسرارك، وانشر أخبارك، واتكل على مولاك الاتكال على الضعيف ضعف، والاتكال على القوي قوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كن مع الله ولا ترج العلا من سعي احفظن مصحفك الغالي وباسم الله صابرْ يا سامياً للسما: مَن هيأ الله له وسائل السبق فلم يسبق فهو محروم، وقد هُيِّئت فاغنمها تمحُ آية البؤس في بيداء السماوة، وتجعل آية النعيم في سمائك مبصرة. وشتان ما بين السماء والسماوة! يا سامياً للسما: أسرج كُمَيْتَك، واجرر زمامك على المرعى يقف بك ارقب الفجر ما هو ببعيد عنك عبَّ من النبع الصافي وتنقل به للمراقي جاهد نفسك على ذلك، فالمجاهدة حرب لا يصلح لها إلا بطل. من اقتضى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل بلم مرعى المشتهى هشيم ليل الجهل معتم جو الهوى مقفر روض اللهو وبي غدير اللذات غدر مجاهدة النفس شقة. موت النفوس حياتها من شاء أن يحيا يموتْ يا سامياً للسما: قد نثر الدر لديك فانتقِ، وقربت لك المراقي فارتقِ انزل الوادي يصوِّت بك الحادي. ونكتة المسألة، ومدار المحاضرة: تجريد التوحيد لله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور، هذا بيان مجمل للسر بلا تعليق، واسألوا أهل النحو أيهما أفصح: الإلغاء أم التعليق؟ يغنيك إجمال قولي عن مفصله في ذكرك البحر معنىً تحته الدرر وشتان ما بين السماء والسماوة! وحدوا صفوفكم، واجمعوا رأيكم وكلمتكم، والهدوء الهدوء! والصبر الصبر، ليس الشديد بالصرعة هونوا واتئدوا وأبشروا وأملوا ما كل عادٍ يسبق لأمة الإسلام من في السماء. ولدين الله من في السماء. ولملة الإسلام من في السماء. فالدعاء الدعاء، ليس شيء أكرم من الدعاء، أعجز الناس من عجز عن الدعاء: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54]. اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك، ونسألك باسمك الأعظم الذي سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، وإذا استغثت به أغثت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت. يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين. اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الكفر والزيغ والفساد والنفاق والعناد. اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أرنا في أعداء الدين عجائب قدرتك. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك. اللهم إنهم لا يعجزونك. اللهم أنزل عليهم بأسك ورجزك وغضبك. اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وزلزل أقدامهم، ورد كيدهم. اللهم إنا ندرء بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم كن للمسلمين المستضعفين المظلومين المقهورين في العالمين اللهم كن للمسلمين المستضعفين المقهورين المظلومين في العالمين. اللهم كن لهم في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان، وجميع العالمين. اللهم أزل عنهم العنا، اللهم أزل عنهم العنا. اللهم اكشف عنهم الضر والبلاء. اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. اللهم أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

النعيم لا يدرك بالنعيم

النعيم لا يدرك بالنعيم لقد كان الصحابة الكرام في رغد من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فكانت نفوسهم وقلوبهم لقوة إيمانهم في غاية النعيم، أما حالنا فنحن في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار فشتان بين الجيل الأول وجيلنا!!

الهمة العالية لنيل النعيم الأخروي

الهمة العالية لنيل النعيم الأخروي الحمد لله لا يحصى له عدد ولا يحيط به الأقلام والمدد وأحمد الله منه العون والرشد حمداً لربي كثيراً دائماً أبداً في السر والجهر في الدارين مسترد ملء السماوات والأرضين أجمعها وملء ما شاء بعد الواحد الصمد ثم الصلاة على خير الأنام رسول الله أحمد مع صحبٍ به سعدوا وأهل بيت النبي والآل قاطبةً والتابعين الألى للدين هم عضدُ والرسل أجمعهم والتابعين لهم من دون أن يعدلوا عما إليه هدوا أزكى صلاةٍ من التسليم دائمةً ما أن لها أبداً حدٌ ولا أمد والله أسأل منه رحمةً وهدى فضلاً وما لي إلا الله مستند {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أيها المؤمنون! من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحياناً يعمل عمل الترياق: ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد. نعيم الأشواق بعد ذوق مُرَّ الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف: ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض ولم يجعل التبر حلي الفتاة حتى أُهين وحتى كسر لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال. والسيل حرب للمكان العالي ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه. والمجد لا يشرى بقولٍ كاذبِ إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة. جهاد المؤمنين لهم حياةٌ إلا إن الحياة هي الجهاد لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ويورد ابن القيم -رحمه الله- حول هذه المعاني كلاماً قيماً مضمونه: "إن الخيرات واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظٍ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسرٍ من التعب، وقد أدرك عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة، فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق والصعاب، تكون اللذة والفرح". ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه إلا وراء الهول من عبابه من يعشق العلياء يلق عندها ما لقي المحب من أحبابه فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة. وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب ونصب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، والله المستعان! وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله. كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسرٍ من التعب

نعيم الدنيا في واقع حياة الصحابة الكرام

نعيم الدنيا في واقع حياة الصحابة الكرام معاشر المؤمنين! النعيم لا يدرك بالنعيم هذا واقعٌ حيٌ مطَّبقٌ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، مُشاهدٌ في أتباعهم يوم جدوا في طريقهم إلى خلاقهم، فما عاقهم مكروهٌ ولا بأسٌ ولا شدةٌ عن بلوغ أهدافهم، بل وظفت هذه الشدة والمكروه والجوع والبأس لتهذيب أنفسهم وأخلاقهم، فإذا هم قلوبٌ تتصل بالله تتذكر الله وتخشاه، وتؤثره على كل مغريات الحياة، امتلأت نفوسهم بهممٍ وإيمانٍ وأماناتٍ وكفاءات من أخمص القدم إلى ذؤابة الرأس، تشابهت السبل فاتخذوا سبيل الله سبيلاً، وتفرق الناس فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه قبيلاً. وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقه يتعالى باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا اقتحمتهم الأعين أول ما خرجوا من الصحراء فاتحين، فلما اشتبكوا مع فارس والروم، جثا التاريخ يسجل ويروي ويقول: قومٌ كرام السجايا أينما ذكروا يبقى المكان على آثارهم عطرا أخلاقهم عما يشين نقيةٌ ونفوسهم عما يعيب مكفكفة ما استعبدتهم شهوةٌ تدعو إلى الصفراء والبيضاء لا والزخرفة ليسوا بأسرى الأرغفة ليسوا بأسرى الأرصدة ليسوا بأسرى الأشربة الأطعمة الألبسة قوم إذا جدَّ الوغى كانوا ليوث الملحمة ملأٌ لقد ملأ الإله صدورهم نوراً فكانت بالضياء مزخرفة جديرٌ بنا -معشر المسلمين- أن نقف على استعلائهم على شهواتهم ومكاره أنفسهم في سبيل مرضاة ربهم، علَّنا نقتبس قبساتٍ من ضوئهم، وومضات من شعاعهم، لتنهض همة مقعد، وتُشحذ عزيمة زمن؛ في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغُلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار، فحيهلاً بهم فقد صوت حاديهم: أن الله لا يزال يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، والنعيم لا يدرك بالنعيم. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم أُسداً تخلف بعدها أشبالا

مصعب بن عمير بين نعيم الدنيا وشظف العيش

مصعب بن عمير بين نعيم الدنيا وشظف العيش يقول سعد بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: [[كنا قبل الهجرة يصيبنا شظف العيش وشدته فلا نصبر عليه]] كانوا في رغدٍ من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فلم تألف ولم تعتد أجسادهم، ولم تتدرب على حياة الفقر والشدة وقد ألفت رغد العيش، أما قلوبهم ونفوسهم فلقوة إيمانهم كانت في غاية النعيم؛ حيث خولطت بشاشتها بالإيمان، فهم سادة الصابرين في الضراء، الشاكرين في السراء، كيف وهم يتلمحون ويرجون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ويؤمنون بأن كريمات المعالي مشوبةٌ بمستودعات في بطون الأساود قال سعد: [[فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما]] اعتادت أجسادهم وانسجمت مع حياة الفقر والشدة وخشونة العيش، فأصبح القلب والجسد في ألفة لهذه الحياة، أيقنوا بالنقل أن الابتلاء مع الصبر والاحتساب كفارة للخطايا فـ {ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق: صبراً على خوض المكاره أنفسٌ لا تستكين وأعظم لا تضطرب قال سعد: [[إلا مصعب بن عمير، فقد كان أترف غلامٍ بـ مكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا، لم يقوَ على ذلك]] ظل عدم الإلفة والانسجام واضحاً في حياة مصعب مكة لؤلؤة ندواتها ومجالسها، مالُ الأم بين يديه يتصرف به كيف شاء، حتى إذا ما أسلم لله واستسلم منع هذا كله. يقول سعد: [[فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي، ثم نحمله على عواتقنا]]. والله معاشر المؤمنين ما كان من يريدهم على غير دينهم إلا كالقائل لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح، فهيهات لا براح، لاقى ما لاقى من أمه وقد كان فتاها المدلل، أفلت منها، وهاجر إلى الحبشة. ارتدى المرقع البالي خشناً، وقد كانت ثيابه كزهور الحديقة نظرة وألقاً، خرج من النعمة الوارفة إلى شظف العيش والفاقة يأكل يوماً ويجوع أياماً، لكن روحه المتأنقة في سمو العقيدة، المتألقة بنور الله جعلت منه إنساناً يملأ العين إجلالاً.

قدوم مصعب بن عمير على النبي صلى الله عليه وسلم

قدوم مصعب بن عمير على النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبدأ أمه، فأرسلت إليه أمه تقول: أي لكع! أتدخل بلداً أنا فيه ولا تبدأ بي؟ فقال: ما كنت لا أبدأ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان. إيهٍ مصعب!! إذا لم تجد في الشباب الإباء ففضل عليهم ضعاف النساء والله ما فكر مصعب يوماً أن يرجع عن إيمانه بعد إذ أنقذه الله من الكفر، علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن غمسةً في الجنة تنسي كل بؤسٍ وشدةٍ وشقاء، وموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فهان عليه ما يلقى، كيف وهو يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأن المرء يبتلى على قدر دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.

تأثر الصحابة من حياة مصعب بن عمير

تأثر الصحابة من حياة مصعب بن عمير كان الصحابة يتأثرون لمرأى مصعب -رضي الله عن مصعب - ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو الذي يعزُّ عليه عنت أصحابه ومشقتهم، إذا رآه تأثر وربما دمعت عينه صلوات الله وسلامه عليه، كيف وقد صار صاحب الحلل لا يلبس إلا فرواً مرقعاً بجلد، وقد تطاير جلده وتشقق، وتغيرت هيئته، فسبحان من أيده وبصره، وقواه ونصره! وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه في المتفق عليه: {والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالباً لا تكون مع حياة الترف والسرف، لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاء، وقلَّ من يشكر عند الرخاء!

الترف من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة

الترف من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة أيها المؤمنون! إن من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة الترف، وما أدراك ما الترف؟ داءٌ عضال، ومقتٌ ووبال، يقتل النخوة، ويقضي على البطولة، ويخمد الغيرة، ويفرز الوهن، ويكبت المروءة، ويضعف الهمة، ويفرز غثاءً متصكعاً يعيش بلا عقل ولا علم ولا تفكير، في تأنثٍ لم يبق معه إلا أن تلحق بصاحبه تاء التأنيث أو نون النسوة! ضجعة يغط في النوم ما يغط، حتى إذا ما أفاق على صيحة لم يزل يرددها ترديد الببغاء لو اطلع الغراب على رؤاهم وما فيها من السوءات شابا استنوق وخضع وتأنث! وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب همه ما يأكله، وقيمته ما يخرجه يذكر اليوم وينسى الغد، أشباحٌ بلا أرواح، جسومٌ بلا رءوس، والسبب الترف بغير هدف. نوم الغداة وشرب بالعشيات موكلان بتهديم المروءات يستغيث المستضعفون والمحرومون في الأرض، فلا يُهب لنصرتهم، ومن أعظم الموانع الترف. حقوق الله تنتهك، وحدوده تتجاوز، وأوامره تضيع، ويطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم قصصاً وروايات ونظماً ونثراً، ثم لا يهب لإنكار المنكر، ومن أعظم الأسباب الترف. يركن إلى الظلمة، والداعي هو الترف يحارب الله -جلَّ وعلا- بالربا، والداعي هو الترف تثقل الكواهل بالديون، والداعي هو الترف يؤكل بالدين، والداعي هو الترف يجلس الواحد ريان شبعان متكئاً على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه، أو كلف بمهمة، أو عوتب في استغراقه في لهو؛ اندفع كالسهم مردداً: {يا حنظلة ساعة وساعة} وكأنه لا يحفظ من القرآن والسنة الصحيحة غيره والسبب الترف. سقطت فئةٌ من شباب الأمة في أوحال المسكرات والمخدرات وعلى رأس الأسباب الترف. امتلأت البيوت بالخدم والسائقين والداعي هو الترف. ترفٌ شائع، وحقٌ ضائع، والسبب الترف، قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]. أما إن الاستقامة التامة لا تكون بالترف، وإنما بالقصد القصد: {والله ما الفقر أخشى عليكم} ذاك قول المصطفى نبيكم صلى الله عليه وسلم. يقول سعد رضي الله عنه: [[ولقد رأيتني مرةً قمت أبول من الليل، فسمعت تحت بولي شيئاً يجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها وغسلتها حتى أنعمتها، ثم أحرقتها بالنار ورضضتها، فشققت منها ثلاث شقائق، فاقتويت بها ثلاثاً]] ثم لم يكن إلى الرضا والتسليم والصبر الجميل! مصابرٌ حيث تجيش الأنفس عرضٌ نقيٌ وأديم أشوس والنعيم لا يدرك بالنعيم.

حياة علي بن أبي طالب في هذه الدنيا

حياة علي بن أبي طالب في هذه الدنيا هاهو علي -رضي الله عنه- صبحٌ لا يحجب فلقه، أسلم وهو ابن تسع أو عشر، فأنعم به من فتى لا يجارى خلقه! حياةٌ لم تكن لها صبوةٌ ولا شهوةٌ ولا هفوة لهو الأطفال لم يكن له فيه حظٌ ولا نصيب تبعات الرجال فوق كاهله في نور الآيات قضى طفولته أخذ بنصيبٍ وافرٍ من التعب والنصب والشدة، فقام بأعبائه، وذلك كله ما رده ولا صده، وقع فيه أهل الأهواء رضي الله عنه حتى كفره بعضهم، واضطر ربيب بيت النبوة إلى أن يقول -فيما روي عنه- متحدثاً بنعمة الله عز وجل عليه: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر ذاك من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي بنت محمدٍ سكني وزوجي منوطٌ لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمدٍ ولداي منها فأيكمُ له سهم كسهمي؟ يقول: [[والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ قلت: اغرب عني]]. عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى

علي والكسب المشروع

علي والكسب المشروع يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه مجاهد رحمه الله: [[جعت مرةً بـ المدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة]] كان بإمكانه وإخوته -رضي الله عنهم- لو أرادوا نعيم الدنيا أن يبقوا في مكة التي هاجروا منها بدينهم؛ أيسر حالاً، وأهنأ بالاً في عرف عامة الناس، ولكنهم بما حملوه من الوحي جعلوا السعادة كل السعادة في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والتضحية بكل ما لديهم من طاقةٍ في سبيل الله، وإن ألجأهم ذلك إلى أقسى الظروف المعيشية. جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم. يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] * {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3]. يقول علي رضي الله عنه: [[وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك. تأمل شمسهم ومدى ضحاها تجد في كل ناحية شعاعا إذا أسد الشرى شبعت فعفت رأيت شبابهم عفوا جياعا

علي وزوجه فاطمة في مواجهة شظف العيش

علي وزوجه فاطمة في مواجهة شظف العيش وهاهي زوجه فاطمة -رضي الله عنها- ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الإمام البخاري: أنها شكت ما تلقى من أثر الرحى، فقد جرت بها حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى أثرت في هيئتها، اشتكت يوم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسبي؛ علها تعطى منهم من يخدمها، بلا هلعٍ ولا طمعٍ ولا جزعٍ ولا جشع، عجباً لأمرها بل لأمر المؤمن! {إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا له} إنها ابنت المجد! المجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمةٍ فما أعلاها هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يداني في الفخار أباها أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ حادي النفوس إذا تروم هداها وعلي زوجٌ لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها دايونه كوخٌ وكنز ثرائه سيفٌ غدا بيمينه تياها انطلقت رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بما أرادت، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجيء فاطمة وبطلبها، فجاء في بعض الروايات أنه قال: {لا والذي نفسي بيده ما دام في الصفة فقير} لا يحابي أقاربه صلوات الله وسلامه عليه حتى ولو كانت ريحانته، على حساب من هم أشد حاجةً وفقراً ممن لا مال له ولا أهل، حاشاه صلوات الله وسلامه عليه تقول فاطمة: {فجاء إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما! فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتماني؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما؛ فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} فما تركاها بعد رضي الله عنهما وأرضاهما. معشر المسلمين! إن القلوب إذا عمرت بذكر الله، هانت عليها المصائب، وسمت في أفكارها المطالب، وأصبح أصحابها يستعذبون الشدائد في سبيل الله، ويرون أنها أبواب خير لرفع رصيدهم من الحسنات، وخفض رصيدهم من السيئات كما يقول صاحب التاريخ الإسلامي مواقف وعبر. يا لله! عليٌّ يؤجر نفسه لامرأة على تمرات، وفاطمة تطحن بالرحى وهي من سيدات الأمهات، إنه شظف العيش في هذه الأسرة الكريمة، يصحبه الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وما ضرهم يزول ويزولون: قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبس تعتام القتب والنعيم لا يدرك بالنعيم. فليفهم يا أبناء الجيل! ويا فتاة الإسلام! هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرعٌ طاب أصله، وزكى غرسه هي أسوة للأمهات وقدوةٌ يترسم الركب المنير خطاها جعلت من الصبر الجميل غذائها ورأت رضا الزوج الكريم رضاها فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها بلت وسادتها لآلئ دمعها من طول خشيتها ومن تقواها في روض فاطمةٍ نما غصنان لم ينجبهما في الكائنات سواها فأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟ هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟ كلا، يا بنت الإسلام! فلتحذري من دعاة لا ضمير لهم من كل مستغربٍ في فكره خرب أسموا دعارتهم حريةً كذباً باعوا الخلاعة باسم الفن والطرب هم الذئاب وأنت الطعم فاحترسي من كل مفترسٍ للعرض مستلب أختاه! لست بنبتٍ لا جذور له ولست مقطوعةً مجهولة النسب أنت ابنة الطهر والإسلام عشت به في حضن أطهر أمٍ من أعز أب

حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزهده في الدنيا

حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزهده في الدنيا معشر المؤمنين! هذا هو الأسوة والقدوة النبي المربي صلوات الله وسلامه عليه، والسبيل سبيله، والسنة سنته، لم تكن الدنيا يوماً مقصده وغايته، إنما هي بلغة ووسيلة: يروح إذا راح في المعسرين وإن أيسر الناس لم يوسر أما والله ما كان يغدى عليه بالجفان ولا يراح، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، بل يجلس على الأرض، ويوضع طعامه على الأرض يلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه بيده، أعرض عن الدنيا بقلبه، أمات ذكرها من نفسه، لم يتخذ منها رياشاً، لم يعتقدها قراراً، لم يرج بها مقاماً، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه صلوات الله وسلامه عليه.

بيوت النبي صلى الله عليه وسلم

بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت بيوته في غاية البساطة، رغم اشتهار المدينة بالحصون العالية، وتباهي أهلها بها في السلم. وتفاخرهم في الحرب، كان باستطاعته صلوات الله وسلامه عليه أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة مما أفاء الله عليه، ولكنه صلى الله عليه وسلم جمع همه لعمل الآخرة، فكانت أبياته تسعة بعضها من جريدٍ مطينٍ بالطين وسقفها من جريد، وبعضها من حجارةٍ مرضومة بعضها فوق بعض مسقفة بالجريد، ينال الغلام المراهق سقوفها بيده والله الذي لا إله إلا هو للإيمان فيها كالجبال؛ فيها، وفي جنباتها، وفي نواحيها: بنى لنا العز مرفوعاً دعائمه وشيد المجد مشتداً مرائره فما فضائلنا إلا فضائله ولا مفاخرنا إلا مفاخره ولما أمر الوليد بن عبد الملك بهدم تلك الحجر لإضافتها إلى المسجد النبوي ما رئي يومٌ كان أكثر باكياً من ذلك اليوم، يقول ابن المسيب رحمه الله: "والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر وقد ألهاهم التكاثر". ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: [[يا ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده!]]. ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما ثبت عند أبي داود وصححه الألباني رحمهم الله: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي، فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله! شيء أصلحه، فقال: الأمر أسرع من ذلك، أو ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك}. نَفَس من الأنفاس هذا العيش إن قسناه بالعيش الطويل الثاني

طعامه عليه الصلاة والسلام

طعامه عليه الصلاة والسلام عرضت عليه صلوات الله وسلامه عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فلم يردها ولم يخترها، بل اختار التقلل منها، والصبر على شدة العيش بها، وقالها صريحة مدوية: {بل أجوع يوماً وأشبع يوماً} لا يبتغي الدنيا ولا أحسابها ولربه في كل أمرٍ قد رغب عرضت عليه عروشها فأذلها بإبائه وأبى الزعامة والذهب وإذا أتاه المال جاد به كما صبَّت حمولتها فأفرغت السحب وروى البخاري في صحيحه رحمه الله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لـ عروة: [[يا بن أختي! إن كنا لننتظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال عروة: أي أماه! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح وكانوا يهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسقينا]]. هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها السامعون! بيت من الطين بالقرآن يعمره وهو الإمام لأهل الفضل كلهم طعامه التمر والخبز الشعير وما عيناه تعدو إلى اللذات والنعم وروى الترمذي بإسنادٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة ما لي ولـ بلال طعامٍ يأكله ذو كبدٍ إلا شيء يواريه إبط بلال} يقول الترمذي رحمه الله: "ذاك حين خرج النبي صلى الله عليه سلم هارباً من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمل تحت إبطه " ليرفع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وترفع درجته، ويكون قدوةً لكل مصابٍ بضرٍ وبلوى صلى الله عليه وسلم. لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراشٍ حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قلت: فلانة الأنصارية؛ دخلت عليَّ فرأت فراشك فبعثت إليَّ بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه، قالت عائشة: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه رديه! والذي لا إله إلا هو لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة، اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى فارق الدنيا]]. ويقول أنس رضي الله عنه: [[ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرقعاً أو مرققا، ولا شاةً سميطاً مشويةً قط حتى لحق بربه، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير؛ يبيت الليالي المتتابعات وأهله لا يجدون عشاء]]. باعوا الذي يفني من الخزف الـ خسيس بدائمٍ من خالص العقيان تقول عائشة رضي الله عنها: [[والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبض، يقول عروة رحمه الله: فكيف كنتم تأكلون الشعير أي أماه؟! قالت: كنا نقول: أف، أي: ننفخه فيطير ما طار من نخالته ونعجن الباقي]] وهم خير القاصي والداني، ولا ضير: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: {لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى من شدة الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه}. يبيت والجوع يلقى فيه بغيته إن بات أعداؤه بطنى من التخم ما أمسى عند آل محمدٍ صاع بر، ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة في تسع أبيات. أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو الجهد والجوع كما في البخاري، فبعث إلى نسائه جميعاً، فقلن: {والله ما معنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله} خرج وهو لا يعلم هل يجد لضيفه طعاماً في بيته أو لا يجد؛ كان يرجو رضا الله ورسوله وثواب الآخرة قطع الطريق مع ضيفه في فرحٍ وسرور قرع الباب، وسلم على أهل الدار، وقال في صوت المبشر لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، فقالت: مرحباً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ أكرم أضيافاً منا! والله الذي لا إله إلا هو ما معنا إلا عشاء الصبية، فاحتال الكريم -والكريم له حيل ولطائف- وقال: "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك" إذا أرادوا العشاء، يجوع البيت كله، ويطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا عليهم لو جاعوا ليلةً وآثروا بطعامهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكل سعيٍ سيجزي الله ساعيَه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا هيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، وقدمت طعامها، ثم قامت كأنها تصلح السراج فأطفئته، انطفأ السراج، وبدأ الضيف يأكل في الظلام، يمد صاحب البيت يده إلى الصحفة ويرفعها وهو لا يتناول شيئاً لا يشك الضيف أنهما يأكلان أكل الضيف مطمئناً، وشبع وظن أن صاحب البيت شبع أيضاً، لكنه لم يرفع لقمة إلى فيه، وكان الظلام عوناً له على ذلك. قام الضيف وغسل يده، وحمد الله، ودعا لمضيفه، وقام صاحب البيت فغسل يده ليريه أنه كان يأكل معه، بات الضيف شبعان ريان، وبات البيت كله طاوياً مسروراً شاكراً؛ لقيامه بما يجب نحو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. الليل عسعس، والصبح قد تنفس، وغدا صاحب البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ذاوياً، مسروراً شاكراً، وظن أن قصة الليل سرٌ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ثم هو مع زوجته، لكن الذي يعلم السر وأخفى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحى من خبر تلك الليلة، فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: {لقد ضحك الله الليلة من صنيعكما، أو عجب من فعالكما، وأنزل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]}. معاشر المؤمنين! حينما يؤمن الإنسان إيماناً حقاً، فإن جواذب الإيمان ترفعه من الالتفات إلى الدنيا على أنها مقصدٌ وغاية، وتقصره على اعتبار أنها بلغةٌ ووسيلة كما هو حال رسوله. فما يسبح الإنسان في لج غمرةٍ من العز إلا بعد خوض الشدائد ويا بن الإسلام! فما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو إن حذوت على مثال تريد التمر دون غراس نخلٍ ولا حتى لجذع النخل هزا إذا رمت العلا من غير بذلٍ فنم واحلم وكل لحماً وأرزا إذا لم تكسبك التقوى ستعرى وإن حلوك ديباجاً وخزا يدخل عمر رضي الله عنه -كما هو في الصحيح- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عليَّةٍ قد اعتزل نساءه، مضطجعا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، متكئاً على وسادة من جلدٍ حشوها ليف، فلما رآه عمر لم يملك نفسه، وجثا، وهملت عيناه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {صفوة الله من خلقه وخيرته أنت فيما أرى، وفارس والروم يعبثان بالدنيا وهم لا يعبدون الله، ادع الله فليوسع على أمتك يا رسول الله! فاحمرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب؟ أو في هذا أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله يا عمر، قلت: الحمد لله}. هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للوارث الباقي حتى نلاقي ما كل امرئ لاقي كابد الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه، وجبيت له الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً ولا ديناراً، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة. وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم

حقيقة النعيم كما فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

حقيقة النعيم كما فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النعيم لا يدرك بالنعيم حقيقةٌ فهمها ووعاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهاجروا بدينهم، وصبروا على ما نالهم، فالعقبى لهم. صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً يا عزة التوفيق للإنسان!

حقيقة النعيم عند أبي هريرة رضي الله عنه

حقيقة النعيم عند أبي هريرة رضي الله عنه هاهو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ليتفقه في دينه: {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}. يقول أبو هريرة: [[ولقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، والله ما بي من جنون، ووالله ما هو إلا الجوع]] ثمن العليا عنا وشقاء. إن كان يشقى ويلقى دونه تعبا فإنما الراحة الكبرى لمن تعبوا والنعيم لا يدرك بالنعيم. ويقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري: [[لقد رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة ما منهم رجلٌ عليه رداء إما إزارٌ وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته، فإذا كانت الحقائق، كانوا هم الرجال]]. فمن الطعام بتمرة سودا اجتزوا وبشملة شهبا من الأدراع ومن يطعم النفس ما تشتهي كمن يطعم النار جزل الحطب والنعيم لا يدرك بالنعيم.

حقيقة النعيم عند فضالة بن عبيد

حقيقة النعيم عند فضالة بن عبيد يروي لنا فضالة بن عبيد رضي الله عنه كما ثبت: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرُّ رجالٌ من قامتهم بالصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى صلوات الله عليه، انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجة، يقول فضالة: وأنا يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم} ثم يُرى فضالة رضي الله عنه بعد وهو والي مصر، أشعث حافياً، فيقال له: أنت الأمير وتفعل هذا؟ فقال: {لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء، وأمرنا أن نحتفي أحيانا} ما أمةٌ غفلت عن نهجه ومضت إلا تهيم بلا هديٍ ولا علم هذه حالهم معشر المؤمنين! ولكم أن تسألوا: هل قعدت بهم هممهم؟ هل تنازلوا عن مبادئهم؟ كلا. والله! إنهم لا يعيشون لأنفسهم، إن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحاً، لكنه يعيش حقيراً ويموت حقيراً، أما من تحمل عبء تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فماله وللنوم وماله وللراحة ماله وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، وقد تهيأ للسباق، ورفعت له أعلام السعادة؟ وليس من أعد للاستفراخ كمن هُيئ للسباق خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد كانوا مع الشدة قد أوقفوا حياتهم لله؛ فاعلين متفاعلين في إخراج الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها، لتكون خير أمة أخرجت للناس: هزئوا بكل كريهةٍ ندبوا لها لله واستحلوا على الكره العطب إن تلق واحدهم تجده بمسجدٍ حملاً وكالليث الهصور إذا ركب

حقيقة النعيم عند أبي عبيدة بن الجراح

حقيقة النعيم عند أبي عبيدة بن الجراح روى البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وإلى حيٍ من قبيلة جهينة -كما في بعض الروايات- وزودنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره. تموين السرية وهم ثلاثمائة جراب تمرٍ فحسب. كان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. حزمٌ وحسن قيادة وإدارة، إذ لو تركهم وشأنهم لفني زادهم في وقتٍ قليل، ثم تعرضوا للهلاك. فقيل: كيف تصنعون بتمرة؟ قالوا: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل صبٌر عظيمٌ على الجوع إلى حد الاكتفاء بتمرة واحدة يوماً وليلة. يقول أحدهم: وما تغني تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين فنيت ثم فقدوا الأكل كله حتى التمر، فصاروا يعيشون على أوراق الشجر، وأي شجر؟ إنه السمر إنه الخبط خشن شديد لا يكاد يبلع، قال: فكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله حتى قرحت أفواهنا، فسميت السرية بسرية الخبط، قال: وانطلقنا على ساحل البحر لا يجدون تمراً، ولا شجراً ولا شيئاً، قد نفد زادهم، واشتد جوعهم، فهل فكروا في العودة إلى المدينة قبل أداء مهمتهم يا معاشر المؤمنين؟ هل تضجروا وسخطوا على قائدهم إذ لم يزودهم سوى جراب تمر؟ كلا والله، إنهم رجالٌ أعدوا إعداداً تربوياً لتحمل الشدائد التي يطيقها البشر ولو بمشقة عظمى، أيقنوا وآمنوا بقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120 - 121]. وبينما هم على ساحل البحر إذ رفع لهم كهيئة الكثيب الضخم، قال: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميته؟ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر والقطع كقدر الثور، ثم أخذ منا أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا فمر من تحته. لا إله إلا الله! {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] هذا رزق الله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21]. قال: وتزودنا من لحمه وشائق، ولم نلق كيداً والحمد لله، ثم قدموا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك رزقٌ أخرجه الله لكم}. إنها كرامة الله لأوليائه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قلنا: نعم، فأرسلنا إليه منه فأكله صلوات الله وسلامه عليه}. يا عبد الله! حينما يكون الإيمان قوياً يتضاءل مفعول هموم الدنيا على النفس فتأتي بالعجائب كما سمعت: من يؤثر الحق يبذل فيه طاقته ومن يكن همه أقصى العلا يصل لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت من الضعف واستعصت على الكسل هذا مجالك فاركض غير متئدِ وإن رأيت المنايا جُوَّلاً فجلِ والنعيم لا يدرك بالنعيم.

حقيقة النعيم عند عمرو بن سلمة

حقيقة النعيم عند عمرو بن سلمة وهاهو عمرو بن سلمة كما ثبت في صحيح البخاري يقول: لما كان عام الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم، فبدر أبي قومي بالإسلام، فلما قدم أبي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئتكم من عند رسول الله حقاً، وقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، يقول عمرو: فنظروا، فلم يكن أحدٌ أكثر مني قرآناً لما كنت أتلقى القرآن وأتلقنه من الركبان، فقدموني بين أيديهم بعد أن علموني الركوع والسجود، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين - {إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين} - قال: وكانت عليَّ بردةٌ صغيرة فيها فتق، فكنت إذا سجدت تقلصت عني -اجتمعت وارتفعت لقصرها وضيقها حتى يظهر شيءٌ من عورته- فقالت امرأةٌ من الحي: يا بني سلمة! واروا عنا عورة قاريكم، قال: فاشتروا لي قميصاً عمانياً سابلاً، والله الذي لا إله إلا هو ما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به إنه فرحٌ عظيم كما هي عادة الصغار بالفرح بالثوب الجديد، لكنه لا يعدل فرحه بالإسلام، يقول: فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين. فالعمر لا يقاس بالأعوام والعقل لا يقاس بالأجسام هذا عمرو يا بن الإسلام! يؤم قومه وهو ابن سبع سنين؛ فما قدمت لدينك يا بن عشرين يا بن ثلاثين يا بن أربعين يا بن خمسين يا بن ستين؟ هل نشرت علماً؟ هل أنفقت في الخير مالاً؟ هل غيرت منكراً؟ أم أنك تتهرب وتلقي باللائمة على غيرك إيثاراً للسلامة والدعة والراحة؟ اعلم: النعيم لا يدرك بالنعيم، وابن السبع شاهد، إيهٍ عمرو كذا يفعل الأسد بن الأسد: بلغت لسبعٍ مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا وكم رجلٍ ترى فيه صبيا وكم من صبيةٍ وهمُ رجال والنعيم لا يدرك بالنعيم.

حقيقة النعيم عند الصحابة المجاهدين

حقيقة النعيم عند الصحابة المجاهدين خرج الأصحاب -رضوان الله عز وجل عليهم- مجاهدين، فإذا الستة منهم يركبون بعيراً واحداً، حتى نقبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم؛ في يومٍ صائف ولا نعال، فجمعوا الخرق على أرجلهم يتقون بها الحر والصخر، فسميت الغزاة بـ (ذات الرقاع). إنها النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، ولو كان في ذلك أذاها، إذ النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يجد يجد، والنفس إن تعبت فربما راحة جاءت من التعب. خرجوا يوم بدر لا يريدون القتال، إنما يريدون الغنيمة، فإذا الغنيمة غير الغنيمة، فاشتدت العزيمة بعد المشورة يوم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أشيروا عليَّ أيها الناس؟} فإذا العزيمة في أوجها وفي قوتها، فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. وتنفرج أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل المذهبة، ويقول: {سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم}. خرجوا -معاشر المؤمنين- لغنيمة دنيا، فأصابوا الدنيا والأخرى أسد جياعٌ إذا ما وثبوا وثبوا واليوم من عمر أسود الأجمِ بألف عامٍ من حياة الغنم عش ساعةً في لجج البحار ومت شهيد الحق في التيار الموت في الوغى وفي الميدان ولا حياة الأسر والهوان الفراشة تبذل الحياة رخيصة في لذة لمحةٍ تطوف بها حول السراج، وحالها: أنال بها شرفاً في الجهاد وأصبح من بعد هذا رمادا أحب احتراقي بنار اشتياقي ولا أرتضي عيشة الخاملين والنعيم لا يدرك بالنعيم. هؤلاء الأصحاب كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب، ولقد كان أحدهم يمسي لا يجد عشاءً إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله، ثم يتصدق ببعضه وهو أحوج ممن يتصدق عليه وحاله: إذا كان بعض المال رباً لأهله فإني بحمد الله مالي معبدُ

حقيقة النعيم عند أويس القرني

حقيقة النعيم عند أويس القرني أويس القرني سيد التابعين رحمه الله، كان إذا أمسى تصدق بكل ما في بيته، ثم قال: [[اللهم من مات جوعاً أو ظمأً أو عرياً فلا تؤاخذني به، اللهم إني أعتذر إليك من كل بدنٍ عارٍ، وكبدٍ ظمأى وبطنٍ جائع، اللهم إنه ليس في بيتي من طعامٍ سوى ما في بطني وأنت أعلم، وليس لي شيءٌ من الدنيا إلا ما على ظهري وأنت أعلم]] وماذا على ظهره؟ والله ما على ظهره سوى خرقة، والغنى غنى النفس. إن الغني هو الغني بنفسه لو أنه عاري المناكب حافي ما كل ما فوق البسيطة كافياً فإذا قنعت فكل شيء كافي أيها المؤمنون! هؤلاء الصابرون حينما تحولت حالهم إلى الرخاء، كيف كان حالهم؟ أطغوا حين استغنوا؟ أتكبروا وبطروا وجمعوا فمنعوا؟ لا والله الذي لا إله إلا هو، لم يتكبروا ولم يأشروا ولم يبطروا؛ بل كانوا الشاكرين حقاً، الخائفين من انفتاح الدنيا عليهم، فضحوا بها من أجل الثابت الباقي الدائم، وحالهم: تالله ما عقل امرؤٌ قد باع ما يبقى بما هو مضمحلٌ فاني

حقيقة النعيم عند أبي ذر الغفاري

حقيقة النعيم عند أبي ذر الغفاري يدخل أحدهم على أبي ذر -رضي الله عنه- وجعل يقلب بصره في بيت أبي ذر، ثم قال: [[يا أبا ذر، ما أرى في بيتك متاعاً ولا أثاثاً، فقال أبو ذر: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا، فقال: إنه لا بد لك من متاعٍ ما دمت هاهنا؟ فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه]]. فكل بساط عيشٍ سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا لا تركنن إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب! إن العيش عيش الآخرة أيقنوا أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلما أقبلت عليهم الدنيا أعرضوا عنها، وخافوا أن تكون طيباتهم عجلت لهم. فقد تنجو النفوس بأرض جدبٍ ويهلك أهله المغنى الخصيب

حقيقة النعيم عند عبد الرحمن بن عوف

حقيقة النعيم عند عبد الرحمن بن عوف ثبت في البخاري أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أتي بطعامٍ وكان صائماً، فدار بخلجه من مضى لسبيله من أصحابه ولم يترك شيئاً، ولم يرَ من نعيم الدنيا شيئاً، فأدركه الخوف، فقال: [[قتل مصعب وهو خير مني، وكفن في بردةٍ إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خيرٌ مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام]] رضي الله عنه وأرضاه. لقد تذكر عبد الرحمن ذلك الفتى المنعَّم الذي صاغه الإسلام، فتقدم حين نادت المغارم، وذهب للقاء ربه قبل مجيء المغانم، اختاره الله ليموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم على يديه: أسيد الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وسعد الذي اهتز لموته عرش الرحمن، فخشي عبد الرحمن ألا يدرك ما أدركوه، لما يرى من نعم الله عليه، وقد اشتاق لهم، إيه عبد الرحمن! رفقاً بها فشوقها قد ساقها يا حبذا الوادي الذي قد شاقها

حقيقة النعيم عند عائشة بنت الصديق

حقيقة النعيم عند عائشة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، تستضاف عند عروة ابن أختها، فجعل يرفع لها قصعة ويضع أخرى، يقرب طعاماً ويرفع طعاماً، فحولت وجهها إلى الحائط تبكي ولم تأكل، فقال لها عروة: [[كدرت علينا أي أماه! فقالت: والذي بعثه بالحق ما رأى المناخل من حين بعثه الله حتى قبض، وما شبع من خبز شعيرٍ يومين متتابعين حتى قبض، ولقد كان يربط الحجر على بطنه، وقد اغبرت جلدة بطنه يوم الخندق وهو يحفر معهم]] فاستعبر الجميع وتركوا الطعام. ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاماً! وما أغلاه حين يكون قدوة وذماماً! حال أم المؤمنين ومن معها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي ولا جلست إلى قومٍ أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالاً منك في الكأس وكل امرئ يهفو إلى من يحبه وكل امرئ يصفو إلى ما يناسبه ولما أقبلت عليهم الدنيا، خضعوا لله وخشعوا، فسخروها فيما يرضي الله، واستعاذوا بالله أن تفتنهم.

حقيقة النعيم عند عتبة بن غزوان وأصحابه

حقيقة النعيم عند عتبة بن غزوان وأصحابه وعن تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال. عتبة بن غزوان رضي الله عنه يقول: [[كنت سابع سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما لنا من طعامٍ إلا ورق الشجر، حتى قرحت أفواهنا، وما منا أحدٌ اليوم إلا وأصبح أميراً على مصرٍ من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً]]. تواضع لما زاده الله رفعةً وكل رفيعٍ قدره متواضع جلالة قدرٍ في خمول تواضع إن التواضع للمعالي سلم وأولو التواضع يخشعون فيرفعوا

حقيقة النعيم عند عمر رضي الله عنه

حقيقة النعيم عند عمر رضي الله عنه ويورد الذهبي رحمه الله: أن عمر رضي الله عنه -وهو أمير المؤمنين- حين قدم الشام، قال لأمير الجيش أبي عبيدة أمين الأمة رضي الله عنهم جميعاً: اذهب بنا إلى منزلك. من أهداف عمر رضي الله عنه حين قدم الشام أن يزور بيت أميره ليثلج صدره برؤية مظهرٍ نادرٍ من مظاهر احتقار الدنيا الفانية، فقال أبو عبيدة: [[وما تصنع عندي؟ إن تريد إلا أن تعصر عينيك، قال: لا بد، فدخل عمر، فلم يرَ في بيت أمير الجيش شيئاً يرد البصر، فقال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لبداً وصحفةً وشناء، وأنت الأمير، أعندك من طعام؟ قام أبو عبيدة إلى جونةٍ، فأخذ منها كسيرات خبزٍ يابسة وقدمها إلى أمير المؤمنين عمر، فلم يتمالك نفسه حينما رأى ذلكم البيت الذي كأنما هجر من دهر، وذلكم الطعام الخشن، فأجهش ونشق، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إن تريد إلا أن تعصر عينيك يا أمير المؤمنين، يكفينا ما يبلغ المقيل، فأجهش أخرى، وقالها في تواضع كبير من رجلٍ كبير غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة]] وهل حقاً غيرت عمر؟ كلا ولكن: دنوت تواضعاً وسموت مجداً فشأناك انخفاضٌ وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تُسامى ويدنو الضوء منها والشعاع

حقيقة النعيم عند طلحة بن عبيد الله

حقيقة النعيم عند طلحة بن عبيد الله لما أقبلت عليهم الدنيا جعلوها في أيديهم، وسخروها في مرضات ربهم، أرقتهم حتى إذا ما أخرجوها في مرضات ربهم نام الواحد منهم قرير العين، هادئ البال، ولساناه: ما لي وللدنيا. هاهو طلحة -رضي الله عنه- يأتيه مال من حضرموت قدره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته تلك يتململ قد جافاه النوم، فقالت له زوجته: مالك أبا محمد؟ قال: تفكرت منذ الليلة فقلت: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته! الله أكبر! أهل الدنيا يتململون ويأرقون ويقلقون في كيفية تصريف المال لتتضخم الثروة، وتحصل السعادة الوهمية بتزايد المال، كما يقول صاحب كتاب التاريخ مواقف وعبر، أما طلحة فيتململ من تكاثر المال عنده خشية أن يحاسب عنه يوم القيامة، مع أنه -والله- ليس إلا الحلال المحض، والله ما هو من رشوة ولا ربا، ولا حيلة ولا غش ولا شبهة، حاشاه رضي الله عنه وأرضاه، لكنها تربية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت عنه كما في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: {يا عائشة ما فعل الذهب؟ -وأي ذهب؟ إنها سبعة دنانير فقط- قالت: هي عندي، قال: ائتيني بها، قالت: فجئت بها فوضعها في يده، ثم قال: ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده، أنفقيها يا عائشة} وفي رواية: {ابعثي بها إلى علي لينفقها} فتصدق بها علي رضي الله عنه وأرضاه، مالي وللدنيا! وطلحة قبسٌ من ضوئه ولا يتخلف عن ضوئه: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته، فقالت زوجه الوفية الصادقة: فأين أنت من فقراء أخلائك، إذا أصبحت فادع بجفانٍ وقصاعٍ فقسمه فيهم، ونم قرير العين أبا محمد. الله أكبر! ما أعظم التفكير! وما أبلغ المشورة! وما أصدق السلوك! لها نفس تحل بها الروابي وتأبى أن تحل بها الوهادا فقال لها: رحمك الله! والله إنك لموفقة بنت موفق. إنها الزوجة الصالحة يا بنت الإسلام! أكبر عونٍ لزوجها على فعل الخير. إن المعروف المألوف أن تحاول الزوجة أن تتوسع مع ذويها بالمال، فإذا وُجدِت من تكسر هذا المألوف وتشير على زوجها وتدله إلىالخير، فغاية التوفيق والرشاد والسداد، أيقظت في نفسه دوافع الخير التي يملك منها رصيداً ضخماً، فأثنى عليها وهي للثناء أهل، ألا من هي يا معشر المؤمنين؟ إنها أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها ولا غرابة! فإن أباها أمام عينها قد خرج من ماله كله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله} رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بيتهم غدوةً وعشياً، فنمت وترعرعت في ذلكم الجو المتمثل للحياة الآخرة في ذهنها في وضوح، تفكيراً وسلوكاً وشعوراً وانتماءً فلا غرابة! إذا أوقدت نارها بـ العراق أضاء الحجاز سنا نارها فهمها في العلا والعز ناشئة وهم أترابها في الحلي والذهب لما أصبح طلحة دعا بالجفان والقصاع، فقسمها بين فقراء المهاجرين والأنصار، وبعث لـ علي -رضي الله عنه- بجفنة، فقالت زوجته أم كلثوم رضي الله عنها: أبا محمد أما لنا فيه من نصيب؟ قال: شأنك بما بقي، فإذا هي صرةٌ بألف درهم لا يألف الدرهم المضروب صرتهم لكن يمر عليها وهو منطلق لا إله إلا الله! ينفق في يومٍ واحد ستمائة وتسعةً وتسعين ألفاً، والله ما أخذها من طريق شبهة؛ ناهيك عن أن يأخذها من طريقٍ حرام! لكنه علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلكل سلعةٍ ثمن، وسلعة الله غالية سلعة الله الجنة: {من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل}. كنز المحامد والتقوى دفاتره وليس من كنزه الأوراق والذهب

نداء إلى أثرياء المسلمين

نداء إلى أثرياء المسلمين إلى أثرياء المسلمين! إلى موسري المسلمين! يا من ينعمون بنعم الرحمن، ويعيشون الأمن والأمان. يا موسراً عضواً في جسد أمةٍ كلها جراح يتيمها في المحافل يذاب ويمسخ ويبكي، وشيخها ينوح، وأرملتها تئن، وأسيرها جريح، وجاهلها يتيه من عمق أنين اليتامى، وصريخ الثكالى، ونشيج المكلومين والحيارى من بين أسرٍ تشتت بعد شمل، وجمعٍ تفرق بعد جمع، منزله الفضاء، وسقف بيته سماء الله، أو قطع السحاب من أسى نائمٍ على أزيز قاذفات، ومستيقظٍ على دوي انفجارات، لا يرحم الرحمن من لا يرحم. إن المعركة -معشر المؤمنين- ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، إنها معركة عقيدة في صميمها، إما كفر وإما إيمان إما جاهلية وإما إسلام، والمال سلاحٌ في هذه المعركة معشر الموسرين، فأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم خصصوا من كسبكم في كل شهرٍ جزءاً معلوماً، لنصرة مظلوم لكفالة يتيم لتفريج كرب مكروب لتعليم جاهل لقضاء دين مسلمٍ غارم لإعفاف شاب لهداية ضال لطباعة كتاب لتوزيع شريطٍ نافع، بشيء يجري عليك بعد الممات: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]. السير حثيث لا منجد ولا مغيث فبادروا بالصدقة المواريث، ولا تيمموا الخبيث حركوا هممكم وأزعجوا، وحثوا عزائمكم وأدرجوا، وآثروا الفقير بما تحبون: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] أيها المثري ألا تكفل من بات محروماً يتيماً معسرا أنت ما يدريك لو راعيته ربما قدمت بدراً نيرا ربما قدمت سعداً ثابتاً يحكم القول ويرقى المنبر ربما أيقظت منهم خالداً يدخل الغيل على أسد الشرى كم طوى البؤس نفوساً لو رعت منبتاً خصباً لكانت جوهرا كم قضى اليتم على موهبة فتوارت تحت أطباق الثرى إنما تحمد عقبى أمره من لأخراه بديناه اشترى يا رجال المال! هذا وقتكم آن أن ينفق كلٌ ما يرى يا بن الإسلام! أيها الموسر! اجعل كنزك في السماء، فإن قلب المرء عند كنزه، مالُك ما قدمت الباقي ما أنفقت، الزائل ما أبليت وأفنيت وأبقيت وأقنيت. فبادر وبادر بدون انتظار إذا كنت أهلاً لخوض البحار فلا يعقر الكلب من يرحمه ولا يصرع النمر من يطعمه والنعيم لا يدرك بالنعيم. يا معشر المؤمنين! ويا معشر الموسرين! أما إنه ليس القصد ألا يملك الإنسان الدنيا قطعاً، ولكن القصد ألا تملك الدنيا الإنسان، فلا تتحول الوسائل إلى أهداف، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، نعم. العبد الصالح: فترى الدنيا انطوت في كفه ليس منها ذرة في قلبه

حقيقة عزوف الصحابة الأعلام عن الدنيا

حقيقة عزوف الصحابة الأعلام عن الدنيا لما أدرك الصحب الكرام الأعلام أن النعيم لا يدرك بالنعيم؛ استعلوا على جواذب الأرض، فعزوا وبزوا، كالمصابيح ما على أحدها أن يتألق بنور غيره ما دام في كل مصباحٍ زيته، نُصروا بالرعب، وجاوزا الشهب، وإذا بهم يقفون على أعتاب مملكة فارس أمام رستم قائد الفرس في عزة الإسلام، يعرضون عليه الإسلام أو الجزية أو القتال، وهو يعرفهم قبل الإسلام بأنهم أقل عدداً، وأسوء ذات بين، وأشقى هم أحدهم ما يأكله، لا قيمة ولا وزن ولا معنى ولا مبنى. قال رستم في كبرياء وصلفٍ وغرورٍ للمغيرة: "لقد كنتم إذا قحطت بلادكم استغثتم بناحيتنا، فأمرنا لكم بشيء من التمر والشعير ورددناكم، حتى إذا ما طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، واستظللتم بظلالنا، دعوتم أصحابكم وأتيتم! ما حالنا وحالكم إلا كرجلٍ له حائط عنبٍ فيه جحر، فجاء ثعلب فدخل من هذا الجحر ليأكل من العنب، فقال صاحب الحائط: وما ثعلب واحد. دعوه يأكل، فخرج الثعلب فدعا الثعالب جميعاً، فأتت ودخلت من مدخله، حتى إذا صارت كلها في الحائط سد عليها الجحر، ثم قتلها جميعاً، أو إنما مثلكم أيضاً كذباب رأى العسل، فقال: من يوصلني إليه وله درهمان، فلما وصل إليه سقط فيه، وجعل يطلب الخلاص والنجاة، ويقول: من يخلصني وله أربعة دراهم، نعلم أنه ما أخرجكم إلا الجوع، فارجعوا ونفرض لكلٍّ منكم كسوةً وطعاماً، ونملك عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم". فقال المغيرة في عزة المؤمن: [[لا والذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أخرجنا، ولكن الله رزقنا على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم حبةً تنبت في أرضكم، فلما ذاقها عيالُنا، قالوا: لا صبر لنا عنها، أنزلونا أرضها لنأكل منها، فجئنا -والله الذي لا إله إلا هو- لنطعمها أو نموت دونها، أفبعد أن أوهنا ملككم، وأضعفنا عزمكم نرجع عنكم، لا والله حتى تعطوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، أو تُسلموا وتَسلموا]] حاله: فاكفف ودع عنك الإطالة واقتصر وإذا استطعت اليوم شيئاً فافعلِ لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل فاستشاط غضباً في رعبٍ، وقال: "والشمس لأقتلنكم غدا" قال المغيرة: [[ستعلم ونعلم]] فقال: "لا صلح بيننا وبينكم" ويدب الرعب في قلب هذا الكافر، وإذا به بعد ليالٍ يتخفف مما عليه من السلاح أمام جند الإسلام الذين طمعوا في نعيم الآخرة، فيرمي بدرعه ورمحه وسيفه، ثم يرمي بنفسه في النهر، ويسحب من النهر لتفلق هامته بالسيف، ثم يرمى تحت أقدام خيل المسلمين لتدوسه بأرجلها، والمكبر يكبر: الله أكبر الله أكبر! على ترانيم تكبيراتنا سقطت رايات كسرى وذاق الموت ساسان عافوا المذلة في الدنيا فعندهم عزُّ الحياة وعز الموت سيان لا يصبرون على ضيمٍ يحاوله باغٍ من الإنس أو طاغٍ من الجان

كيف ندرك النعيم

كيف ندرك النعيم معاشر المؤمنين! إن الأمة قبل البعثة كانت عزوفةً عن الفضائل، منغمسةً في الرذائل، فلم يزل بها هذا القرآن والسنة؛ حتى أخرج من رعاة النعم قادة الأمم، ومن خمول الأمية أعلام العلم والحكمة، فإن زعم زاعمٌ في عصرك أن الزمان ليس الزمان، قلنا: لكن الإنسان هو الإنسان، والقرآن لم يزل هو القرآن، هو صالحٌ لكل زمانٍ ومكان. القمة مرهقة؛ تكلف صاحبها عناء الصعود، وشق الصفوف، وبذل المجهود، وموطأ الأرض تدوسه أقدام الأسود والقرود واليهود، والبحر الواسع الأمواج فيه تلتطم؛ لكنها تنفرج عن حلية الخرد الخود: وما قدر اللآلئ وهي درٌ إذا لم ينفلق عنها المحار والنعيم لا يدرك بالنعيم. الثبات على دين الله نعيم، ولا يدرك بالنعيم العلم نعيم ولا يدرك بالنعيم، تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق نعيم الفضيلة نعيم كبح النفس عن الهوى نعيم الإحسان إلى الخلق نعيم ضبط الجوارح بالوحي نعيم ضبط المكاسب بالوحي نعيم ضبط الولاء والبراء بالوحي نعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والنعيم والملك الكبير على الحقيقة ثَمِّ في دار النعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم. والله لو كان لأحدنا ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر، فبذل ذلك كله في ذلكم المطلوب العزيز لكان قليلا، ولئن ظفر به من بعد ذلك لكان غنماً عظيماً وفضلاً كبيراً. والله الذي لا إله إلا هو؛ لو أن رجلاً يجرُّ على وجهه من يوم ولدته أمه إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله لحقره يوم القيامة يوم يرى عياناً عظيم نواله وباهر عطائه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ما المجد زخرف أقوالٍ لطالبه لا يدرك المجد إلا كل فعال كلٌ له غرضٌ يسعى ليدركه والحُر يجعل إدراك العلا غرضا أي شباب الإسلام! خذوها فصيحةً صريحة لا تستتر بحجاب، ولا تتوارى بجلباب، علتنا التي أعيت الأطباء، واستعصت على الحكماء، هي وهن العزائم، وضعف الإرادة والأخلاق، فلنداو الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، ولنأسُ العزائم بالوحي تقوى وتشتد كما يقول الإبراهيمي: فاحذها تسرِ فوق السماء يا غر سماوات أخر وفوق هذا المجد في دنياك مجد ينتظر يا أيها الجيل! نريدك جيلاً طاهراً تقياً نقياً، إن كان في الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وفي السلم في وداعته على أوليائه كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل لأوليائه، ومرارة الحنظل لأعدائه، كما يقول إقبال. إن تكلم كان رقيقاً رفيقاً، وإن جد في الطلب كان شديداً حثيثاً، وكان مع ذلك عفيفاً نزيهاً آماله ومقاصده جليلة، ومع ذا غني القلب في الفقر فقير الجسم في الغنى غيورٌ في العسر كريمٌ في اليسر يظمأ إن بدا له في الماء مِنَّة، ويموت جوعاً إن رأى في الرزق ذلة. فإن المال قد يأتي ويمضي وأنت وما ملكت إلى ارتحال إن قابل في سيره صخوراً وجبالاً كان شلالاً، وإن مر على الحدائق كان عذباً سلسالاً، يجمع بين جلال إيمان الصديق وحزم عمر، وحياء عثمان، وشجاعة وقوة علي، وصدق سلمان، وأمانة أبي عبيدة. فكن مثل الصحابة أهل دنيا وآخرة وعباد وغزا كالشمس إذا غربت في جهةٍ أشرقت في أخرى، فهي لا تزال مضيئة طالعة، تغشى البلاد شرقاً وغرباً، موقنٌ أن النعيم لا يدرك بالنعيم. فشد الرحل أيها الجيل! وقرب المطية، ولا تخش لذع الهواجر ولو كنت في شهري ناجر، ولا يهولنك بعد الشقة، وخيال المشقة، فالنعيم لا يدرك إلا بحظٍ من المشقة. فانهض بإقدامٍ على الأقدام إن كنت للعلياء ذا مرام شقوا الزحام إلى العليا واقتحموا أخطارها إنما العليا أخطار اشقوا لتحيوا حياة العز أو تردوا حوض الردى فالردى يحمى به العار إذا لم تمض في وقت الحر الشديد، فستضطر إلى المضي في البرد الشديد، فابدأ المسير إلى الله أيها الجيل! والنعيم لا يدرك بالنعيم. إلهي إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالكلام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا قاسم الأرزاق بين العوالم ويا كافل الحيتان في لج بحرها ويا مؤنساً في الأفق وحش البهائم ويا محصي الأوراق والنبت والحصى ورمل الفلا عداً وقطر الغمائم إليك توسلنا بك اغفر ذنوبنا وخفف عن العاصين ثقل المظالم وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم ودمر أعادينا بسلطانك الذي أذل وأفنى كل عاتٍ وغاشم ومنَّ علينا يوم ينكشف الغطاء بستر خطايانا ومحو الجرائم وصل على خير البرايا نبينا محمدٍ المبعوث صفوة آدم وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حروف تجر الحتوف

حروف تجر الحتوف إن من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد أركانها، ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات، خاصة في حق أبناء الأمة المخلصين من علماء وطلاب علم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ هذا الخطر ببيان شاف، ومواعظ بليغة

حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب

حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب

مقدمة ترحيبية وابتهالات

مقدمة ترحيبية وابتهالات الحمد لله الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة نحمده وفقنا إلى الهدى حمداً كثيراً ليس يحصى عددا وبعد حمد الله إني أشهد أن لا إله مستحقاً يعبد إلا الإله الواحد الفرد الصمد من جل عن زوجٍ وكفءٍ وولد اللهم إني أحمدك على ما علمت من البيان، وألهمت من التبيان، وأسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، وشرة اللسن ومعرة اللكن، والسلاطة والهذر والعي والحصر، اللهم إنا نسألك أن تكفينا الافتتان بإطراء المادح وإرضاء المسامح، وأن تقينا إزراء القادح وهتك الفاضح، نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات. اللهم هب لنا توفيقاً إلى الرشد، وقلوباً تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقاً يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، وأنفساً تأنف الخنا، اللهم أسعدنا بالهداية، وأعضدنا بالإعانة على الإبانة، اللهم قنا غوائل الزخرفة، فلا نرد مأثمة ولا نقف مندمة، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا. أشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ ختمت به النبيين، وأعليت درجته في عليين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين: يا رب صل على النبي المصطفى ما لاح برق في الأباطح أو قبا يا رب صل على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا اللهم اجعلنا لهديه متبعين، وانفعنا بمحبته واتباعه أجمعين. أما بعد: فيا معشر الإخوة والأخوات والبنين! أشرف التحايا ما مازج النفس وخالط الروح، وأثار المشاعر وحرك الضمائر، ولا والله الذي لا إله إلا هو لا أعلمها إلا تلك التحية الفطرية؛ التي جاء بها دين الفطرة رمزَ أمان وعنوانَ إيمان، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته تحيةً ينبعث معها الروح إلى القلوب، وينبث معها الاطمئنان إلى الجنوب، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمغرم والمندم، وبؤتم بحسن المنقلب، اللهم أعذني وإخوتي من قول الزور، وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون وإخوتي مستكثري حجج، كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق بالأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. بك يا رب نعتضد، ونعتصم بك مما يكون، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك نستعين وأنت المعين: أنت ربي في تصاريفك خير الأحكمين أنت بي أعلم مني أنت خير الأكرمين أنت أولى بي مني فأعني يا معين

وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام

وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام معاشر الإخوة! لا يخفاكم أن الجراح في أمتنا غائرة، وفي أنفسنا قائمة بالغة: جراحنا بالغات تعيي الطبيب الفطينا وجرح دون جرح جرح الحسام له آسٍ يطببه وما لجرح قناة الدين من آسٍ إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزحوفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فردٍ أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها! أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يعد جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟ أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟ أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟ إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود. لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة البنيان، واغتيابٍ وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين. أما إن التبعة كبيرةٌ ثقيلةٌ جدُّ ثقيلة، إننا نحتاج في يومنا إلى أن نرفع الأنقاض، ونبني ونعمر، ونؤدي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت، ونؤدي الكفارات مع العوائق والمثبطات، ومن كان هذا حاله شمر وانبرى، وجد وبذل وضحى، وضبط حياته بوحي الله؛ شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمته، وأجلها أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من خير أمة، أعني أمة خاتم النبيين، عليه صلوات وسلام رب العالمين. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فكم وكم لله من نعمة سابغة للعبد في هدايته أولاً، ثم في أعضائه وجوارحه ومنافعه وقواه غير ملتفت إليها ولا شاكرٍ عليها! ولو عرضت الدنيا بما فيها بزوال واحدة من هذه النعم، لأبى المعاوضة، وعلم أنها معاوضة غبن: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ولو فقد شيئاً منها لتمنى أنها له بالدنيا وما عليها، فاللهم لك الحمد الحمد لله العزيز الباري ما ذكر الرحمن في الأقطار وزين السماء نجم ساري عبد الله! ومن شكر نعمة الله عليك في جوارحك؛ ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى؛ حالك: أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات أو كحال عروة رحمه الله حين قطعت رجله لآكلة دبت فيها فغشي عليه، ثم أفاق وحمد الله، وأخذ ساقه المبتورة، وقال وهو يقلبها في يده: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرامٍ قط فيما أعلم: خلق ورثنيه أحمد فجرى ملء دمائي وشغافي لم يزلزله على طول المدى بطش جبارٍ ولا كيد ضعافِ أو كحال أحد السلف وقد كانت له زنجية مملوكة غمته بعملها، فرفع السوط عليها يوماً، ثم قال: أما والله لولا الله ثم القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكني أبيعك ممن يوفيني الثمن أحوج ما أكون إليه؛ اذهبي فأنت حرة لوجه الله! فيا لله من مواقف يعجز اللفظ أن يعبر عنها! فالسكوت هو اللسان الفصيح.

اللسان سلاح ذو حدين

اللسان سلاح ذو حدين معشر الإخوة! الجوارح جوارح، وأخطرها شأناً أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الصدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، تضيع أوقات، وتشاع اتهامات، وتقذف محصنات غافلاتٌ مؤمنات بكلمات، تهدم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات. بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السبُّ والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها؛ مجتثات مستأصلات خبيثةٌ سماؤها وأرضها وماؤها. فإن شئت عنا يا سماء فأقلعي ويا ماءها فاصبب ويا أرض فابلعي وفي المقابل تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، وتلين الجلود، وتحيا القلوب، وتذرف العيون، ويسعد المحزون، وتعلو الهمم بكلمات، إنما هي شجراتٌ طيبات، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله رب الأرض والسموات. بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها؟! البيان ما البيان؟ إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأنٌ عظيم، سلاحٌ فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى؛ ويحرق كاللظى، بحروفٍ تقطع الأواصر وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور، ويهجر المسلم أخاه وأمه وأباه: وهاجت سيوف وماجت حتوف وسال دم فوق مجرى دمي وأصبح القول والأسماع تنبذه كأنه نسمٌ في جوف موءود

أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات

أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى خالته عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا فقال عبد الله حدباً على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها. قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه فقالت رضي الله عنها وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبداً. يقول ابن حجر رحمه الله: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة رضي الله عنها وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم. وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار: كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول: وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى صلى الله عليه وسلم عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه. فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعاً لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها رضي الله عنها، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن: طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها: بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

خطر اللسان وعاقبته على الأعمال

خطر اللسان وعاقبته على الأعمال إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلاً ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروفٍ ملفوظةٍ أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه كما في الصحيحين: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ في الجنة -وفي رواية: يكتب الله له رضوانه بها إلى أن يلقاه- وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ يهوي بها في جهنم} وفي رواية: {يكتب الله له بها سخطه إلى أن يلقاه}. ضوابط دقيقة وزواجر عظيمة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]! وكم من الحروف تجر الحتوف! وإن الإنسان -معشر الإخوة- يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والربا والسرقة وشرب الخمور والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى إنك لترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قال ابن القيم رحمه الله. فكم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه الإمامان مسلم وأحمد: {أن رجلاً مجتهداً وجد أخاه على ذنب فقال له: أقصر، فاستمر على ذلك، فلم يزل يكرر عليه أقصر أقصر، فغضب منه ذلك، وقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال هذا الغيور: والله لا يغفر الله لك يا فلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، أكان بي عالماً وعلى ما في يدي قادراً؟ قد غفرت له وأحبطت عملك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه} فكان أضيع من لحمٍ على وضم وصار يقرع منه السن في ندم وفي صحيح الترغيب للألباني بسندٍ حسنٍ لغيره: {أن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، ثم قالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه} يالله! يستحسن البعض ألفاظاً إذا امتحنت يوماً فأحسن منها العجم والخرس

المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف)

المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف) أيها المسلم! فاعمل عملاً ترجو حصاده، دون تحريف وتبديلٍ ولغوٍ أو زيادة، لهذا كله -معشر الإخوة- كانت هذه الحروف المُعْنَوْنَ لها بـ (حروف تجر الحتوف) وكم من حروفٍ تجر الحتوف ومن ناطقٍ ود أن لو أن سكت

أولا: الرافضة

أولاً: الرافضة أوجهها حجةً إلى من غلبت عليهم شقوتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بينة، فوقعوا في خيار أهل الملة ممن كان لهم شرف الصحبة لمن قال: {لا تسبوا أصحابي}. فلا رحم الرحمن من لا يحبهم وأخزى معاديهم بدنيا وآخرة فوالله الذي لا إله إلا هو لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون على القمم الشماء؛ إلا كذبابةٍ حقيرةٍ سقطت على نخلة عملاقة، فلما همت بالانصراف قالت باستعلاء: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة؛ فهل شعرت بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟ ألم تر أن الليث ليس يضيره إذا نبحت يوماً عليه كلاب لا يضير السماء العواء ولا أن تمتد لها يد شلاء: وإطفاء ضوء الشمس أدنى لراغبٍ وأيسر من إطفاء نور الشريعة وكم من حروف تجر الحتوف!

ثانيا: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء

ثانياً: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء أرسلها لمن نشأ وتربى في حجر الأفاعي -أعني عدوه- فهو آلةٌ صماء في يد عدوه يديره كيفما يشاء، ويريده على ما شاء فيجده أطوع من بنانه، يحركه للفتنة فيتحرك، عقربٌ لا تلدغ إلا من يتحرك ولا غرابة: من كان في جحر الأفاعي ناشئاً غلبت عليه طبيعة الثعبان وكم من حروفٍ تجر الحتوف! أهديها بلا ود؛ لمن يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معاً. بل إلى من جعلوا الفرع سلماً للأصول، بل للوصول؛ على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادماً له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم داراً تؤوي الجميع، أكلاً للعنقود حبة فحبة مع لحافٍ وجبة: فإنهم كقطيعٍ لا عقول لهم يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف وكم من حروف تجر الحتوف! اعرضها على من يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومةً فيها بزرع جراثيم، كطبيبٍ يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضاً، ثم يعيش على أمراضهم التي مكَّن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها، سرطانه دواء سلها هو طالحٌ لا صالحٌ لكنهم غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه وكم من حروفٍ تجر الحتوف! أشير بها إلى حملة الأقلام المسمومة، والأفكار الكاسدة، مورثة الضغائن، موقظة الفتن، لقطاء الكتابة، لابسي جلود الضأن على قلوب الذئاب. والذئب أخبث ما يكون إذا بدا متلبساً بين النعاج إهابا الأدعياء الذين اقتحموا عريناً ظنوا أن قد نامت آساده لكأن القائل عناهم يوم قال: لقيط في الكتابة يدعيها كدعوى الجعل في بغض السماد فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد وكم من حروف تجر الحتوف! لا أعني بها أولئك الرعاع الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً، وعلوم الشريعة هراءً ولغباً، ليس لهم في العلم إنعام، إن هم إلا كالأنعام! لست أعني هؤلاء مباشرة وإن أشرت وأهديت ووجهت، ففيهم من انفصمت عنه الرابطة، فنحن منه برآء، ومنهم من لا يرعوون ولا يفهمون، فخطابهم لغوٌ وهراءٌ وبلاء: ومن البلية نصح من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم الله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون؛ في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ثالثا: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء

ثالثاً: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء إن المعني بهذه الحروف أولاً وآخراً هم شيوخ الأمة العقلاء، وشبابها المستقيمون الفضلاء، الدم الجديد في حياتها أنا وأنت وأنتِ وهو وهي، وكل مسلمٍ على قدرٍ من دينٍ وخلقٍ وحياء، دفعني إليها الرغبة في صون هذا الدم عن أخلاط الفساد، ليتمثل فيه الطهر والعفة والرشاد، فينشأ على قول الحق رافع الهام والحسام، لا على البذاء وعورات الكلام، متفاهمين على الغاية المنشودة، متجهين إلى البناء لا الهدم، إلى الإنصاف لا الحيف، يقيم بعضهم بعضاً إذا كبا، ويستره إذا عري حساً أو معنى، مدركين أنه إذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، انكسرت المئذنة، واستولى السكارى على المحراب وحضني عليها رغبتي في إبراء الذمة بنصح النفس والأمة، فمن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وما تصدق رجلٌ بصدقةٍ أفضل من موعظةٍ يعظ بها قوماً فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، فاللهم انفع وارفع.

حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات

حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات خذها أيها الدم الجديد خذها وصايا بألفاظٍ مطولةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

حالقة الدين

حالقة الدين معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إن مواضع الزلل لا تكاد تنحصر ولا تختصر، ومن أخطر وأسوأ هذه المواضع: الاستطالة على الحرمات، وتتبع العورات، إنها الحالقة، بل الآفة الخطيرة والمزلق العظيم الذي اشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اتصف به فيما ثبت عنه، قال: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه ولو في قعر داره إنه موقفٌ حاسمٌ، ووعيدٌ زاجر يملأ النفس الحية خوفاً وهيبة وحذراً، ويقرر مبدأ صيانة العرض، وأن الجزاء من جنس العمل، وجرح اللسان كجرح السنان، والجروح قصاص: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} [النساء: 123]. بذلك تواترت النصوص الشرعية في غاية العظمة والإحكام؛ لتدل على عظيم منزلة المؤمن وبشاعة الاستطالة على حرمته، نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى الكعبة يوماً ثم قال: [[ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! وللمؤمن والله أعظم حرمة منك]] إنها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في البلد الحرام: لو قد عقلنا ذاك ما كنا نرى بعضاً يجرح مسلماً ويجرم هب أن فينا مخطئاً فيما ادعى فهل السباب هو العلاج الأقوم؟ كيف الوقوف أمام خلاق الملا والعلم ظنٌّ والحديث مرجم؟ ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنهما: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: {أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميها بغير اسمها، ثم قال: أليس بيوم النحر؟ أليس بذي الحجة؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد} {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}. لقد خاب من يسعى لإيذاء مسلمٍ كما خاب من يرجو سراباً بقيعة وكم من حروف تجر الحتوف! إن من أخص سمات المسلم سلامة المسلم منه يداً ولساناً، والعاقل يطمح إلى هذا الوضع ليكون ممن جعلوا سلاطة ألسنتهم على أعداء الله وحلو كلامهم لأولياء الله، محققين قول الله في وصف أصحاب رسول الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} ويقول ابن القيم عليه رحمة الله: أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به. فللسان احفظ ولا تكلم إلا بخيرٍ أو فصمتاً الزم وخشية الله فلازم وانتهِ عما نهاك وامتثل لأمره ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {كف عليك هذا، ويشير إلى لسانه، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا نبي الله؟! -وفي رواية: أوكلما نتكلم به يكتب علينا يا نبي الله؟! - فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} إنك ما تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك، فاللهم سلم سلم! يكب الفتى في النار حصد لسانه فحافظ على ضبط اللسان وقيدِ وكم من حروف تجر الحتوف!

الفرق بين الغيبة والبهتان

الفرق بين الغيبة والبهتان يا عبد الله! ذكرك أخاك بما يكره في حضوره سب وشتم، وبما يكره في غيبته لو بلغه؛ في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، ذكره بواحدةٍ من هذه بلفظٍ، أو إشارة، أو رمزٍ، أو كتابةٍ، أو حكاية غيبة، أو همزٌ ولمزٌ وقدح إن كان فيه، فإن لم يكن فيه ما قلت فغيبةٌ وبهتانٌ وظلمٌ وكذب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، مع تعدٍ لحدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. فاحذر حدود الله وارج ثوابه حتى تكون كمن له قلبان وكم من حروف تجر الحتوف!

أربى الربا

أربى الربا معشر الإخوة! الربا ما الربا؟ الربا: إيذان بحرب من الله على من يتعامل به، ومحارب الله محروب، ودرهم ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية كما ثبت، وأدنى الربا مثل إتيان الرجل أمه، ونعوذ بالله من ذلك، فما أرباه؟ وما أشده تحريماً؟ وما أعظمه وبالاً؟ ثبت من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق}. يا لله! إن العرض أعز على النفس من المال وغيره حقيقةٌ لا تدحر، وحجةٌ لا تنقض، أفلا نعقل؟ فأين المفر؟ {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام}. شنعاء صلعاء عوراء أن يقال في المؤمن ما ليس فيه أو ما يكرهه، فاحذروا ثم احذروا، وكونوا عباد الله إخواناً. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار} وفي رواية للإمام أحمد: {ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال} يحبس حتى يرضى خصمه أو يشفع فيه، أو يعذب بقدر ذنبه أجارنا الله، وقد ثبت أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: [[أيما رجل أشاع على امرئ مسلمٍ كلمة هو بريء منها ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال]]. ذاك وربي موقفٌ عسير ورسل الإله تستجير يا رب سلم إنه لمأزق من شدة الهول يشيب المفرق وكم من حروف تجر الحتوف!

السخرية بالدين

السخرية بالدين معشر الإخوة! ومما يحسب أنه هينٌ وهو عند الله عظيم: السخرية بالدين وما اتصل به من تقليد خلق أهله، ومحاكاة أفعالهم وحركاتهم لإضحاك الناس وتسليتهم، وجعل ذلك مهنةً أو زينة مجلس، وربما قالوا بقول سلفهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. إليهم ما قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في مسند أحمد: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا} وفي رواية: {ألا عسى رجلٌ يتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه، فيسخط الله عليه بها لا يرضى عنه حتى يدخله النار} فإلى الهازئين الضاحكين المضحكين، مختلقي الأكاذيب لذلك، من يصدق على أحدهم: ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من البأس مملوءاً من النزق أقول لهم: دونكم دونكم! كم ضاحكٍ بملء فيه والله ساخطٌ عليه. تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا وكم من حروف تجر الحتوف!

الوشاية

الوشاية ومن المصائب -والمصائب جمة- أن يبتلى المرء بصديقٍ له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدره بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليجاز بجائزة إنما هي لعاعة من الدنيا، طعامٌ أو كساء أو دينار أو إطراء لا بارك الله له فيها، إنما هي بمثلها في جهنم. روى أبو داود وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلة، فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي برجلٍ مسلمٍ ثوباً، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجلٍ مسلمٍ مقام سمعةٍ ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة}. فيا للرزية! وكل هذا في سبيل إشباع البطون! ألا أبعد الله خبزةً أهتك بها ديني، وأخاطر من أجلها بآخرتي، وأعق بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على تاريخي وأمتي، أين من يعقل؟ أين من يعي؟ إن لم تتب: فلا زلت دوماً في احتياجٍ وفاقةٍ إلى أن بلغت السن والغاية التي تحس بأن الجعل منك اشمأزت ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما عرج بي مررت على قوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. إذا كان هذا فعل عبدٍ بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يُكرم؟ {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وأخرج الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً فطهرني يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائن، انتفخ بطنه فارتفعت رجله، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالوا: نحن ذا يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار! قالا: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يأكل هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها} الله أكبر! الله أكبر لفتةٌ من آيبٍ لاح الطريق له فشمر وانبرى عبد الله! إن آكل جيفة الحمار مع خبثها وحرمتها لم يؤذ مسلماً، ولم ينتهك عرضاً، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد التي سيسأل عنها يوم القيامة، فهو خيرٌ ممن يأكل لحوم البشر، وفي كلٍ شر: فاهجر من الكلام ما قد أفعما بالزور والتضليل والبهتانِ أهل الوقيعة هم خصومك دائما لا يلتقي بمحبةٍ خصمانِ وكم من حروف تجر الحتوف! عبد الله! ما الحيوان الذي يأكل لحم أخيه بعد موته؟ الأسد؟ النمر؟ الثعلب؟ لا لا تألفها بل تأنفها، لا يفعلها إلا ذلك الحيوان الذي إذا ولغ في الإناء؛ احتيج إلى غسله لا مرة بل إلى سبع والتراب؛ إنه الكلب، لا يفعلها إلا كلب، وشبه الشيء منجذبٌ إليه: ألم تقرأ القرآن عمرك مرةً فما لك تعمى عنه في كل مرة قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. فاسمع إذا حدثت وافـ ـهم كيف عاقبة الأمور والحروف تجر الحتوف! واعجباً لمسلم -يا معشر الإخوة- قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، من أين له الفلاح؟! كيف يفلح من ديدنه الطعن في أقوامٍ لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟! ذلكم والله المسكين، قد ذبح بغير سكين: كم صك آذاناً بجندل لفظه وأطال محنتنا بطول لسانه ما زال يعلن بيننا عن نفسه حتى استغاث الصم من إعلانه ألسنةٌ كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها -كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله- طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه، وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة!

من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة

من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة عبد الله! أمة الله! إن الوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سمة العلماء، وكل إلى جنسه يحن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفظهم وطهر ألسنتهم، اجتنبوا الغيبة والطعن والهمز واللمز كما تجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تدار في مجالسهم كما لا يسمحون لكئوس الخمر -أجارهم الله- أن تدار فيها. يقول أحدهم: صحبت فلاناً عشرين سنة والله ما سمعت منه كلمة تعاب. ويقول آخر: والله ما اغتبت مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة، حالهم: فإن مررت بنادٍ لا تجيف به أهل السفاهة فانزل ذاك نادينا

الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات

الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات هاهو العلامة/ محمد الأمين صاحب الأضواء عليه رحمة رب العالمين، قد عُرف بهذا الخلق العزيز، وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، كان محارباً مرابطاً على ثغر، لا يسمح لأحدٍ بنسف عرض أخيه في مجلسه، فيحمي نفسه ويحمي مجلسه، ويؤدب على ضبط النفس من يلوذ به، فيعينه على ما ينفعه ويرفعه، ويربأ به عما يضره، إنه محمد، واقتدى بمحمد صلى الله وسلم على نبينا محمد: ومن ينحرف عن خط سير محمد يصر في يد الشيطان مثل البهيمة ولا تحسبن السير خلف محمد كرحلة صيد أو كمشوار نزهةِ يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجلٍ كبيرٍ مثلي. ثم لا يغتاب ولا يسمح بالغيبة، ويقول: إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته يوم القيامة، فلا يأتين فيها إلا بالطيب فرائدٌ خردٌ ترسو جواهرها فوق الكواكب لا بطن التجاليد وفي رحلة الحج سجَّل هذا الموقف العظيم، يقول: ثم جئنا آخر النهار قرية نائية، فالتمسنا رجلاً عربياً نبيت عنده، فدعانا رجلٌ عربي فأنزلنا منزلاً يعوي منه الكلب، وأغلق علينا الباب من الخارج، فبتنا ليلة لا أعاد الله علينا مثلها، ذكرتني ليلة النابغة التي يقول فيها: كليني لهم يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب وليلة المهلهل التي يقول فيها: إذا أنتِ انقضيت فلا تحوري وأنقذني بياض الصبح منها وقد أنقذت من شيء كبير يقول: فكان صبح تلك الليلة أحب غائبٍ إلينا، يقول -واسمع إلى ما قال، وهذا هو موطن الشاهد- يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت عن اسمه ولا عن اسم أبيه خوفاً من أن أقع فيه: فسما بأروقة الجوى فأحلها فرع الثريا وهي في أصل الثرى حتى ظننا الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة وابن حنبل حُضَّرا

البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة

البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة ومن قبل هاهو صاحب الصحيح الإمام أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، والإمام ابن دقيق رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله: سلفٌ إذا مر الزمان بذكرهم وقف الزمان لهم مُجِلاً مكبرا كانت الدنيا عروساً بهمُ فهي اليوم تكون الأرمله

ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة

ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة

إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال

إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال معشر الإخوة والبنين! ولقائل إن يقول: فإن بلي المرء بالجلوس في مجلس طعنٍ أو غيبة وما في حكمها، فماذا يصنع؟ نقول: إن عليه أن يردها، ويزجر قائلها بالكلم أولاً، وحاله ومقاله كحال ذلك الشيخ/ محمد الأمين، حين جاءه رجل كبير، وكم من كبير يحق عليه، عقله عقل طائرٍ وهو في هيئة الجمل، فبدأ يغتاب عنده في مجلسه، فنهاه الشيخ في هدوء: وهدوء أمواج البحار تأهبٌ للمد يكتسح الشواطئ صرهرا فقال المغتاب: أنا المتكلم لا أنت، يعني: عليَّ تبعة كلامي، فقال الشيخ: أنا شيخ بين جنبي سورة البقرة، إما أن تسكت بأدب أو تخرج، حاله: فإن أر حقاً كنت للحق تابعاً وإن أر غير الحق أطلق قذيفتي وإني على هذا يراعي ومقولي وذلك أسلوبي وتلك طريقتي فإن لم ينزجر، فباليد إن كانت لك ولاية، فإن لم تستطع باليد ولا باللسان، ففارق ذلك المجلس، لا خيار لك، إن بقيت فإنك إذاً مثلهم، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. فإن أعيتك الحيل ولم تستطع المفارقة حرم عليك الاستماع والإصغاء، ولزمك أن تسل قلبك من بينهم كسل الشعرة من العجينة، تذكر الله في عزلة شعورية، تكون معهم فيها حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، يقظان نائماً، تنظر إليهم ولا تبصرهم، تسمع كلامهم ولا تعيه، قد انشغل قلبك بتصور عظمة من تناجيه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فأنت في وادٍ وهم في وادٍ؛ حالك: يا ربى الوادي ويا كثبانه رددي همسي وغني بهديلي سامعاً غير مستمع، مأجوراً بإذن الله غير مأزور، وليس شيءٌ أصعب ولا أشق على هذا من النفس، ولكن من صدق الله كان الله له وكان معه: تبارك من إن ندن منه تَقَرُّباً بشبرٍ دنا منا ذراعاً برحمة

الذب عن عرض المسلم

الذب عن عرض المسلم معشر الإخوة والبنين! وحق المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظلم، ويذب عن عرضه إذا خيض فيه من منافق أو ظالم أو فاسقٍ لا يخشى يوم الحساب، فإن في ذلك أجراً عظيماً، وفي خذلانه إثماً مبيناً، والمؤمن مرآة المؤمن يحوطه من ورائه. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من نصر أخاه بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن حمى مؤمناً من منافق بعث الله له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب نصرته} وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق إخوانهم إمامهمُ دون الأنام محمدٌ وليس لهم من دونه من أئمة ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم في تبوك قال: {ما فعل كعب بن مالك؟ -وقد تخلف عن تلك الغزاة كما تعلمون- فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً} فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقراً لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعاً لمثله بالرد والذب. وليس أخي من ودني وهو حاضر ولكن أخي من ودني وهو غائب يدعى أحد السلف لطعامٍ، فلما جلس، قالوا: إن فلاناً لم يأت، فقال رجل منهم: إنه رجلٌ ثقيل، فقال: أوه، إنما فعل هذا في بطني حين شهدت طعاماً اغتبت فيه مسلماً، ثم خرج فلما يأكل ثلاثة أيام وحاله: إليكم فإني لست ممن إذا اتقى عضاض الأفاعي نام فوق العقارب ويذكر رجل بسوءٍ أمام صاحبه فقال للمغتاب: أغزوت الترك؟ قال: لا، قال: أغزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك! أنسيت حق الله أم أهملته شرٌّ من الناسي هو المتناسي معشر الإخوة! إن المغتاب أو الطعان لو لم يجد آذاناً صاغيةً لما وقع واسترسل، ولكسدت بضاعته وما نفقت، فالحزم الحزم معشر الإخوة! لا يجوز مجاراة الطاعنين بحال، ويعظم ذلك حين يكون الوقوع في عالمٍ أو داعيةٍ أو مصلحٍ، ذاكم هو الداء الدوي، والموت الخفي؛ في زمن ما أحراه بقول من قال: زمان رأينا فيه كل العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب

وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم

وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم من هتك ستر عالمٍ وتكلم فيه بغير حق، ابتلي بسوء ذنبه، وقد يختم له بخاتمة السوء حين مصرعه، كما قال ابن عساكر: وعادة الله في هتك أستار منتقصي العلماء معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] تلك والله -معشر الإخوة والأخوات- سيما ضعاف النفوس، يشعرون دائماً بضآلة أنفسهم، فيسعون إلى هدم القمم الشماء لتتساوى الرءوس في الحفر، لا يرون الصعود إلا على أشلاء العمالقة الجهابذة العلماء العاملين، فواحدهم يصدق عليه قول القائل: فكالهر يخشى شرب ماءٍ بجدول ويشرب من أوساخ ماءٍ بحفرة ومن ثم ينصبون مشانق الطعن والتجريح لإلغاء الثقة في العلماء العاملين، لو رأيتهم يتواثبون ويقفزون -والله أعلم بما يوعون- لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام الطير: صم ولو سمعوا بكم ولو نطقوا عميٌ ولو نظروا بهتٌ ولو شهدوا كأنهم إذ ترى خشبٌ مسندةٌ وتحسب الركب أيقاظاً وما رقدوا يتداولون غيبة العلماء ويتعاطونها فيما بينهم، ويدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى، فمقلٌّ ومستكثر، فعابوا أموراً يعلم الله أنهم أحق بها وصفاً وأولى بعيبةِ فواحدهم يلقي الكلام مجازفاً على حسب ما يأتي بغير روية ِ لحوم العلماء مسمومة؛ من شمها مرض، ومن أكلها مات، لحوم أهل العلم مسمومة، ومن يعاديهم سريع الهلاك فكن لأهل العلم عوناً وإن عاديتهم يوماً فخذ ما أتاك البلاء موكلٌ بالمنطق، والجزاء من جنس العمل، وكم طاعنٍ ابتلي بما طعن. يقول أحد السلف: إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني من قوله إلا مخافة أن ابتلى. لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن يحكى أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم وتتبع زلاتهم، وذات يوم قام يتكلم بكلامٍ لم يرق لأحد طلابه، فقام إليه ذلك الطالب، فصفعه على رءوس الأشهاد، ليقول بلسان الحال: حصادك يوماً ما زرعت: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]. إن السعيد لمن له من غيره عظة وفي التجاريب تحكيمٌ ومعتبر وكم من حروفٍ تجر الحتوف! من خاض في أعراض العلماء، ودعا إلى ذلك، فقد سن سنةً سيئةً، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فالدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]. وما من كاتبٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما كتبت يداه وما من قائلٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما نطقت شفاه العلماء حراس الديانة الأمناء، والغض من مكانة الحارس معناه استدعاء اللصوص، العلماء عقول الأمة، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرةٍ بالبقاء، العلماء حملة الشريعة وورثة الأنبياء، والمؤتمنون على الرسالة، حبهم والذب عنهم ديانة، ما خلت ساحة من أهل العلم إلا اتخذ الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم، فيعم الضلال، ويتبعه الوبال والنكال، وتطل عندها سحب الفتن تمطر المحن، ومن الوقيعة ما قتل، فنعوذ بالله من الخطل، وما عالم برع في علمه يؤخذ بهفوته، وإلا لما بقي معنا عالم قط، فكلٌ رادٌّ ومردودٌ عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله، والفاضل من عدت سقطاته، وليتنا أدركنا بعض صوابهم، أو كنا ممن يميز خطأهم على الأقل، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وما عبر الإنسان عن فضل نفسه بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء

تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء والشنيعة الشنعاء معشر الإخوة، والداهية الدهياء التي تستحق جز الغلاصم، وقطع الحلاقم، ولدغ الأراقم، ونهش الضراغم، فهي البلاء المتلاطم المتراكم: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده وعلمه، وأحسن إليه وأدبه، ولمن كان سبباً في هدايته لهوىً في نفسه يجحد ما مضى من إحسانه إليه، ويسل لسانه عليه، فيقول بقول كافرة العشير: ما رأيت منك خيراً قط، ثم يذم ويشنع، ويقبح ويبدع، يصدق عليه قول القائل: له بطن تمساحٍ وقلب حمامةٍ وأنياب ضرغامٍ ومنخر هرةِ سلاحه رث، وحديثه غث! مساوٍ لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كل حينٍ فلما طر شاربه جفاني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني بليت به جهولاً جاهلياً ثقيل الروح مذموماً بغيضا ولم يك أكثر الطلاب علماً ولكن كان أسرعهم نهوضا فله ولمن كان على شاكلته أقول: قعوا أو غِيروا ما ذلك بضائرنا ولا بضائرهم، ووالله ما هو بنافعكم، وإذا أكثرتم الرماد، فأثارته الريح، فلا تلوموها ولوموا أنفسكم، ألا هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والموعد الله. ومن يعتلق حبل الدعاوى ترد به فحبل الدعاوى ذو خيوطٍ ضعيفة

عقاب الطاعنين في الأعراض

عقاب الطاعنين في الأعراض ألا إن أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار، لم يزل يتقحم فيها كثيرٌ من الناس مساكين، مسكين ذلك الذي يجتهد في فرائضه ونوافله يومه كله، ثم يبيت يوم يبيت ولا حسنة له. يا لله! أين ذهبت فرائضه؟ أين ذهبت نوافله؟ أين ذهب بره وإحسانه وأمره بالمعروف ونهيه؟ فرقها بلا حساب، يجمع ولا ينتفع، يتعب ولا يستفيد، ذاكم هو المفلس حقاً، كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الإفلاس الحقيقي هو في إضاعة الحسنات، في يومٍ لا يتاح فيه لمضيِّع أن يكسب أو يعوض فقال: {إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار}. يا رب! كم من الأخطاء قد أتينا وكم على أنفسنا جنينا لكننا نرجوك يا من يغفر وللذنوب والعيوب يستر إن من كمال عدل الله -يا معشر الإخوة- ألا يدع مظلوماً في ذلك اليوم حتى ينتصف له من ظالمه، ولن يجاوز جسر جهنم ظالم حتى يؤدي مظلمته حتى اللطمة حتى البهائم يقاد لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا، فقائلٌ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] وآخر: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وثالث: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28]. قد ضوعف الكرب على النفوس ودنت الشمس من الرءوس واقتص للمظلوم ممن ظلمه بحكمه العدل كما قد علمه قال صلى الله عليه وسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}. فإلى أصحاب القرون الذين ينطحون بها -وهم كثر- ليشفقوا على أنفسهم ورءوسهم؛ يا ناطحاً بماله أو سلطانه أو جاهه، أو بقرن غيره، أو بلسانه وقلمه، الله يعلم وسيقضي بينكم يوم القيامة، فهو الحكم العدل، كل ذلك في كتابٍ عنده لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وسيقتص حتى للذرة من الذرة: فلا تنس أنك يا صاحبي ستسأل عن حبة الخردل فإن تك في شك من ذلك: فأقسم بالرحمن إنك واهم أضل من الخفاش في ضوء ضحوة أخرج الطيالسي وأحمد وصححه الألباني عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال لـ أبي ذر: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا. قال: لكن الله يعلم وسيقضي بينهما يوم القيامة}. فاغفر لنا ما كان من ذنوبنا وزين الإيمان في قلوبنا

توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين

توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين إلى الطاعنين القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فصاروا ألماً مضافاً إلى أمتهم، يحق في أحدهم: خطبت فكنت خطباً لا خطيباً أضيف إلى مصائبنا العظام إليهم أقول: احذروا، ثم احذروا، ثم احذروا! وقول ابن القيم: تأملوا كم أورثت التهم الباطلة من أذىً لمكلوم، عبَّر عن جرحه بخفقة صدر، ودمعة عين، وزفرة تظلم ارتجف منها فؤاده بين يدي ربه في جوف الليل؛ لهجاً ملحاً لكشفها، ماداً يديه إلى مغيث المظلومين، وكاسر الظالمين، والظالم يغط في نومه، وسهام المظلوم تتقاذفه، وعسى أن تصيب ما اقتناه. فيا لله ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له، ومن نام وأعين الناس ساهرة تدعو عليه! تحلل فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيءٍ منه، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون درهمٌ أو دينار، إن كان له عملٌ صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] لكل حتفٍ سبب من السبب، فيا ويل من زلت به القدم ولم يتب، وترك الحبل لحروفه، يضطرب من شرٍ قد حل، لا أقول: قد اقترب؛ أقلع عن الذنب، وكف عن العيب، واندم فالندم توبة، والتائب كمن لا ذنب له، واعزم على عدم العودة. إنما المؤمن من إن خرق الثوب رفا وعن التقصير والأنام خوفاً عزفا عونك الله ربي أنت حسبي وكفى تحلل ممن اغتبته وطعنت فيه، واطلب عفوه وإبرائه إن بلغه ما قلته، وإن لم يبلغه؛ فاستغفر له ولا تخبره، فإن في إخباره مفسدةً محضةً لا تتضمن مصلحة، أثن عليه بما فيه من خير في المواطن التي طعنت فيه لتصلح ما أفسدته، فوالله إن الأمر لشديد، وإن الحروف لتجر الحتوف: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]. فكم من حروفٍ تجر الحتوف وكم ناطقٍ ود أن لو سكت ومع هذا كله: فالقدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر

حروف تجر لخير منيف

حروف تجر لخير منيف

ذكر الله

ذكر الله معشر الإخوة والأخوات والبنين! والشيء بالشيء يذكر، وبضدها تتميز الأشياء، فكما أن الحروف تجر الحتوف، فإن الحروف تجر للخير المنيف. فاعلم هُديت: حروفٌ للدلالة على الخير، {فمن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله}، حروفٌ في إدخال السرور على مسلم: {فأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم}: {والكلمة الطيبة صدقة} حروفٌ في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] {لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} {خير الأعمال وأزكاها وأرفعها للدرجات، وما هو عند الله خيرٌ من ضرب الأعناق والإنفاق في سبيل الله ذكر الله} {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم} {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، وباب من أبواب الجنة، وغرس من غراس الجنة}، والباب واسع ليس هذا موضعه. أعظم الذكر كلام الله؛ من قرأ منه حرفاً فله حسنة، والحسنة بعشر، ومن علَّم آيةً منه، كان له ثوابها ما تليت، يرفع الله به أقواماً ويخفض به آخرين، فاقرأ وتدبر، واعلم واعمل وبلغ، واعمر بيتك ووقتك وحياتك به، وارج الله أن تكون ممن ينادى عليه يوم القيامة: {اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}. لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا

تبيين الحق عند رواج الشائعات

تبيين الحق عند رواج الشائعات وأخرى تجر لخيرٍ منيف، الجهاد بالحروف ضربٌ من ضروب الجهاد في سبيل الله، لا يقل أثراً عن جهاد النفس والمال، فجاهدوا بألسنتكم حين تروج الشائعات الكاذبة، ويطعن في عرض مسلم بريء، فالكلمة الصادقة والحوار المقنع لدفع ورفع ذلك جهاد في سبيل الله؛ حداء صاحبه: يا لساني كان الكلام حراماً فانطق الآن فالسكوت حرام رجل من أهل الكوفة كان ذا قدر ومنزلة وصاحب كلمة مسموعة، يزعم فيما يزعم أن عثمان ذا النورين رضي الله عنه كان يهودياً وظل على يهوديته، ونعوذ بالله مما قال: مقال ليس يقبله كرام ولا يرضى به غير اللئام لكن: كل من عاش يرى ما لم يره والقلب يعمى مثل ما يعمى البصر سمع أبو حنيفة رحمه الله بذلك، فمضى إليه، وقال له: لقد جئتك خاطباً ابنتك فلانة لأحد أصحابي، فقال: أهلاً ومرحباً بك، مثلك يا أبا حنيفة لا ترد حاجته؛ لكن من الخاطب؟ فقال أبو حنيفة: رجل موسومٌ في قومه بالشرف والغنى، سخي اليد، مبسوط الكف، حافظٌ لكتاب الله، يقوم الليل كله في ركعة، كثير البكاء من خشية الله، فقال الرجل: بخٍ بخ، حسبك يا أبا حنيفة! فقال: لكن فيه خصلة لا بد أن أذكرها لك، فقال: ما هي يا أبا حنيفة؟ قال: إنه يهودي، فانتفض الرجل، وقال: يهودي؟ أزوج ابنتي من يهودي؟! والله لا أزوجها منه ولو جمع خصال الأولين والآخرين! فقال أبو حنيفة: تأبى أن تزوج ابنتك من يهودي، وتنكر ذلك أشد نكير، ثم تزعم للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه كلتيهما من ذي النورين؛ من يهودي هو عثمان رضي الله عنه؟ فعرت الرجل رعدة، وارفض عرقه، وقال: أستغفر الله من قول سوءٍ قلته، ومن كل فرية افتريتها، وجاء الحق وزهق الباطل بعصا الحروف. إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر فذب الله النار عن وجه أبي حنيفة، كما ذب عن عرض ذي النورين الخليفة.

تفنيد الشبهات

تفنيد الشبهات وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ في مناظرة لتفنيد شبهة، وإحقاق حق، وإزهاق باطل، في قوة حجة وبرهان، وحكمة ومصابرة إنما هي جهاد في سبيل الله فهلا قمت في النادي خطيباً لك الكلم الحسان لها ثياب في السير للذهبي: أن محمد بن الخليفة الواثق يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، وفي ذات يومٍ أتي بشيخ مخضوبٍ مقيد، فأدخل على الواثق، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، إن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال ابن أبي دؤاد أحد زعماء الفتنة: الرجل متكلم، فقال الواثق: كلمه. يرجو دواء القلب من ذي علةٍ ويريد وصف الشمس من عميان فقال: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم ينصفني أيها الأمير والسؤال لي عند النطاح يعرف الكبش الأجم فقال: سل. قال: ما تقول يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟ قال ابن أبي دؤاد: مخلوق، قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل شيء لم يعلموه، فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، علمته أنت! فخجل ابن أبي دؤاد، وقال: أقلني، قال الشيخ: المسألة بحالها، علموه أم لم يعلموه؟ فقال: بل علموه، فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم. يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ما كنت أول طامعٍ لم يظفر أفما استحيت ولا احتسبت جواب ما تحكيه كيف يخيف ليثاً ثعلب والله ما أدري أأنت على الثرى أم أنت في طي التراب مغيب {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] قام الواثق الخليفة ودخل مجلسه واستلقى على ظهره، وهو يقول: سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! وسقطت الوساوس من رأس الخليفة، وسقط ابن أبي دؤاد من عينه، وأمر برفع قيد الشيخ، وأمر له بأربعمائة دينار، ورفعت المحنة فما امتحن أحدٌ بعده، فأثاب الله الشيخ على ما كشف من غمة فما يعرف الإنسان إلا بغيره وما فضلت يمناك لولا يسارها فيا أيها العبد المحدث نفسه ألا هل على دعواك جئت بحجة فإن أنت لم تفعل فإنك كاذب وذو الصدق يبدو صدقه بالأدلة

كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة

كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة متبوعٍ ذي منزلةٍ وقدرٍ وجاهٍ عند أتباعه لإنقاذهم برحمة الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن المعصية إلى الطاعة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين، وهي خيرٌ له من حمر النعم، والقدوة في ذلك سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه، من اهتز له عرش الرحمن، يوم أسلم ووقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، فقال في إيمانٍ ويقينٍ، وشجاعةٍ فذةٍ، وحزمٍ نافذ: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة. الله أكبر موجةٌ من ناصف عبرت غواربها المحيط الأكبرا نصيحةٌ تلك لم يحلم بها أحدٌ فوق المكاييل جاءت والمقاييس

كلمة حق عند سلطان جائر

كلمة حق عند سلطان جائر وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة حقٍ يصدع بها صاحبها، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يترخص إن رأى في نفسه قوة التحمل والصبر، فيعيش فاعلاً متفاعلاً عزيزاً وإن قتل، فلعله يكون من سادات الشهداء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله}. هاهو الإمام/ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يأمر وينهى، وينكر على من يولي الظلمة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولي القضاء في زمنه أبو الوفاء الظالم، فقام الجيلاني وقال لمن ولاه: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غداً عند رب العالمين أحكم الحاكمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته. ألا ما أحوج الأمة إلى صادعٍ بالحق يصدع رءوساً قد تشبعت وتصدعت من كثرة الإضراء والملق، وصرفت عن تدبر آيات الله ونذره، ونصبت أنفسها آلهةً تقول فلا يرد قولها، فمن لها إلا العلماء الربانيون الذين إذا قالوا بطل قول كل قائل فليشعر الخلق أن الغيل مأسدةٌ إن غاب رئبالها جاءت برئبال. ولكم سلف؛ قام أبو هريرة رضي الله عنه إلى مروان وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: [[أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟! لقد هممت أن أفعل وأفعل]] اسمعوا. كم صامتٍ شرواه إن قال ارتدت أقواله تحكي لغات الأرقم وهاهو ابن أبي ذئب عليه رحمة الله، المهيب الآمر الناهي؛ يجيء إلى أبي جعفر، ثم يقول له: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء يا أبا جعفر، فقال أبو جعفر: ويلك لولا ما سددت من الثغور؛ لكنت تؤتى في منزلك فتذبح، فقال ابن أبي ذئب: هون عليك! قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خيرٌ منك؛ الفاروق عمر رضي الله عنه إذا أخصبت أرضٌ وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جازها الزرع فنكس المنصور رأسه، والسيف في يد صاحبه، ثم قال: دعوه هذا خير أهل الحجاز. لا يعلم إلا الله ما سيكون إن لم يقل الربانيون كلمة الحق، المسلمون ينحدرون من هاويةٍ إلى هاوية يتقهقرون يتهافتون، وحذو القذة بالقذة لأعداء الله يتبعون. ألفت الأمة الآثام حتى أمست جزءاً من كيانها تتمسك به، وتدافع عنه، زين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، كانت الأقذار الجنسية تتم في خفاء، ثم صارت تبدو على استحياء، ثم تواطأ عليها الرعاع حتى دخلت إلى أعماق البيوتات عن طريق الشبكات والقنوات، ثم صارت قانوناً يعمل به في بعض البلاد، ثم انعقدت لها مؤتمراتٍ عالمية تدعو إليها لا ترى فيها عوجاً، فمن للفضيلة إن سكت الربانيون؟! فئةٌ بائسة تكره الدين، وتنقم على الوحي، وتريد تحت ثوب النفاق أن تعيدنا إلى النفاق وعمل الجاهلية قبحت منابتها وشاه نباتها بسوى الفضائح نبتها لم يثمر من لهؤلاء إن سكت الربانيون؟ لا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، لما ولي السفاح ظهر الجور في أفريقيا، فوفد p=1000569> ابن أنعم قاضي أفريقيا نعَّم الله عينه من آمرٍ وناه، وفد وهو عالمها وقاضيها على أبي جعفر مشتكياً، فقال له: ما بك يـ ابن أنعم؟ قال: جئت لأعلمك بالجور في أفريقيا بلادنا، فإذا هو يخرج من دارك، فغضب وهمَّ به، ثم قال له: كيف لي بأعوان، قال: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه. له منطق ينبيك عن بأسه كما يدل على بأس الأسود زئيرها فأطرق، ثم أومأ إلى حاجبه أن يخرجه، فخرج وقد أدى ما عليه. له قلب أشد من الرواسي وذكرٌ مثل عرف المسك فاحا معشر الإخوة! أكثرت الأمثلة من باب: على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبان إن على القائمين بأمر الله ودينه علماء ودعاة ومن دونهم -كل بحسبه- أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان، نصحاً أو تغييراً أو إنكاراً؛ لا يخافون لومة لائم، سواءً هذا الشر قد جاء من حاكمٍ متسلطٍ بالكفر، أو غنيٍ متسلطٍ بالمال، أو أشرارٍ متسلطين بالأذى، أو جماهير متسلطة بالهوى، منهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه سواء، وكلٌ بحسبه، وقد الرءوس في الشرف بقاء، ولحظةٌ من حياة الأسد خيرٌ من حياة الشاة مائة عام، فليكن الحال: ولما رأيت الحرب حرباً تجردت لبست مع البردين ثوب المحارب يا لله! أكل سوقيًّ ونبطي ومنافقٍ وعامي ومن لا يعرف له أصلٌ وأبٌ في العلم يريد أن يطرح علينا بسوئه؛ لتصير الرذيلة ديناً، ثم يخرس أهل الحق: اجهر برأيك لا يأخذك ترويع لا ينفع الصوت إلا وهو مسموع إن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر، لا يثقلنك الطمع، ولا يوهننك الفزع ما استطعت إلى ربك أعذر وما استطعت فانه ومر، وغيِّر أو أنكر، زادك الإيمان، وسندك الرحمن: إن تكن في مثل نيران الخليل أسمع النمرود توحيد الجليل وإلا فالحتوف، والضيم كل الضيم أن يتنمر المتنمرون وأنت خاضع.

الجهاد بالأدب نظما ونثرا

الجهاد بالأدب نظماً ونثراً وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروف نظمٍ أو شعر، أو نثر في الدعوة إلى الله، ونصرة دين الله؛ تفصم عرى الباطل، وتلهب القلوب بسياط الحق، وتملأ الآذان وتصك الجنان، وتأسر المشاعر أسراً: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4]. هاهم شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون بسنانهم ولسانهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في نظم حسان: {والذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رمي النبل}. ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وحسان يذكر عيوبهم وأيامهم، وكعب بن مالك يقول: فعلنا ونفعل ويتهددهم، فكانت كلماتهم أسرع في العدو من السهم في غلس الظلام. والشعر إن لم يكن ذكرى وموعظةً أو حكمة فهو تقطيع وأوزان لقد أسلم فئام من دوس فرقاً من تهديد كعبٍ حين قال: قضينا من تهامة كل وثر وخيبر ثم أجممنا السيوفا نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا نجاهد لا نبالي من لقينا أأهلكنا السلاد أم الصليفا قالوا حين بلغهم ذلك: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. حصحص الحق وانتهى كل شيءٍ فمن الحزم أن نجيب الرشادا فلله دره من شاعر؛ ببيتٍ واحدٍ تسلم قبائل بأسرها خوفاً وفرقاً. فما هو إلا البحر يلقاك ساكناً ويلقاك جياشاً مهول الغوارب فرضي الله عنهم جميعاً. هم البحر إلا أنه طاب ورده وكم من بحار لا يطيب ورودها أسود غاب ولكن لا نيوب لهم إلا اللسان مع الهندية القضب هذه صورةٌ مضيئة مختصرة من البيان الحق تنقل لأصحاب الأقلام، والألسنة العيية في الحق، التي تحمل الموت وأسباب الموت، من تلبس القاتل لباس الناسك، وتسم الخلي بسمة الولي، وتؤزر أبناء الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقاب الملوك من نصبها عدو الأمة لرفع الأمة لكن إلى أسفل، وهو من ورائها يتوارى بها كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم ينخره ليندفع على غير هدي الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس أن وراء الحمار سائقاً، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه وقدرته؛ فهو مسخرٌ لخدمته، غافلٌ عن عاقبته، لأنه إذا تم لمسخره فيما أراد عاد عليه فدمره، فلو كان في أقسام الإضافة في النحو العربي ما هو بمعنى: على، لخلعنا على واحدهم لقب حجة الإسلام، يعني: الحجة على الإسلام. وهي كذلك رسالةٌ إلى الأدباء الخاملين الخائرين الكسالى البطالين، من أدبهم لا يبعث الروح ولا يثير الطموح، شعرٌ بارد من قلبٍ بارد، أدبٌ ميت يصدر عن أديب ميت، لا يحمل في عينه دمعة ولا في قلبه لوعة، بيانٌ ولا هم، وأرضٌ مخصبة ولا زمزم، ومن لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر. ألا إن السيف يحتاج إلى ساعدٍ قوي، والقلم واللسان يحتاج إلى فكرٍ مسدد، والله لا يصلح عمل المفسدين. وكريمة الكرائم؛ قلم صدق يحرر، ولسان حقٍ يعبر، وعقلٌ منضبط بوحي المولى يدبر، فإذا ضاعت هذه فالوجود العدم. إن المنابر في الإسلام ما رفعت إلا لترفع صوت الحق في الناس فاختر لأعوادها لا من يلين له بالحق عودٌ ولا يصغي لخناس وإلا فالحتوف!

كلمات عطرة في الثبات عند البلاء

كلمات عطرة في الثبات عند البلاء وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ وكلمات ومواقف في الثبات حين البلاء على دين الله وإرهاب أعداء الله، لو وُزِّعت على جبناء أهل الأرض لشجعتهم، جديرةٌ بأن تتداول وتثار وتدرس، والعبر منها تؤخذ في وقتٍ يراد لأبواب الجهاد تحت وطأة التهديد أن تقفل فلا تطرق، وتهمل أسبابه فلا ترمق، وتدفن خيوله فلا تُركض، وتصمت طبوله فلا تنبض، وتربض أسوده فلا تنهض، وتمتد أيادي الكفار إلى المسلمين فلا تقبض، ويرضى بالحياة الدنيا من الآخرة، وتطمس السوافي ما قلدته القوافي، وتعيث الهوافي بالقوادم والقوافي، وتفترس العوافي ما نامت عنه العيون الغوافي. يا صامتاً فلتنطقن، يا وانياً لا تقعدن، يا ساهياً لا ترقدن، يا خاملاً لا تزهدن، ولا تغب بل اشهدن، تخشى الردى فلتخلدن. هاهو معاذ رضي الله عنه وأرضاه يفاوض وجهاء الروم في أجنادين، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك؛ فوالله لتفرن إلى الجبال غداً، فقال معاذ في عزة المسلم: أما إلى الجبال فلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لتقتلنا عن آخرنا أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون: ننزل بالموت إذا الموت نزل الموت عندنا أشهى من العسل فما كان الغد إلا والروم يفرون إلى الجبال، فيقتلون ويأسرون، نعم: نكوي أناسي أعيا الطب داؤهم والكي آخر ما تأتي العقاقير وهاهم أبطال القادسية في ثياب العزة يطلقون حروفاً فتكون على عدوهم حتوفاً، يقول أحدهم: اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وثقوا بالله، فإذا سلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنه يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه: لي وإن كنت كقطر الطل صافي قصفة الرعد وإعصار السوافي إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. فاطلبوا المجد على الأرض فإن هي ضاقت فاطلبوه في السماء وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم ارتدت الجزيرة، وظهر أدعياء النبوة، وأحاطت الجيوش بـ المدينة، وهددت أهلها، يقول بعض من عنده: لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً يا أبا بكر، الزم بيتك وأغلق بابك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهب كالأسد: لمس الزند فاشتعل محنة أمرها جلل وهو بين ذا وذا في أسى ليس يحتمل رأب الصدع واشتمل قال في هيئة البطل [[والله الذي لا إله إلا هو لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله مسلولة ما وضعناها بعد، والله لنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحدٌ إلا على نفسه]. لقد أكمل الله الهدى بمحمدٍ فمن يرتدد فالسيف قاضي القضية وشهدت الطباق السبع والأرضون السبع أن أبا بكرٍ وفى لدين الله، وقام مقاماً لا يقومه أحد غيره، وفي أقل من سنتين يدمر جيوش المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر فارس والروم. ستشهد في التاريخ أنك لم تكن فتى مفرداً بل كنت جيشاً عرمرما ولقائل أن يقول: أنت تحدثنا عن عصر كله خير وسعادة، نشأ أهله في أحضان النبوة ومدرسة القرآن، فكيف يتوقع مثل هذا من رجالٍ تأخر عصرهم وبعد مصرهم واختلفت هيئتهم؟ فأقول: إن كتاب الله لم يزل محفوظاً يغرس الله عليه غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، وإن الجهاد لو قسمت فرائضه، لكان لنا منه حظان بالفرض والتعصيب، فلا غرابة! أحد المجاهدين العلماء في الهند في أواخر القرن الثالث عشر يصدر عليه حكمٌ بالإعدام شنقاً من قاضٍ إنجليزي، يقول القاضي الإنجليزي: هأنذا أحكم عليك بالإعدام، ومصادرة جميع ما تملكه من مالٍ وعتادٍ، ولا يسلم جسدك إلى ورثتك، بل تدفن في مقبرة الأشقياء بكل مهانة، وسأكون سعيداً حين أراك معلقاً مشنوقاً، فتهلل وجه العالم فرحاً وسروراً وحسن ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ثم بدأ يتمثل بقول القائل: هذا الذي كانت الأيام تنتظر فليوف لله أقوام بما نذروا حاله: آذنت شمس حياتي بمغيبي ودنا المنهل يا نفس فطيبي أما والذي نفسي لديه لساعة من الغزو خير من عبادة حقبة وهنا تقدم ضابط إنجليزي، وقال: لم أر كاليوم قط! يحكم عليك بالإعدام وأنت مسرور مستبشر! فقال: ومالي لا أفرح ولا أستبشر؛ وأنا أرجو أن تكون شهادة في سبيل الله، وأنت لا تدري ما حلاوتها لكأنه من شوق الجنة في الجنة، ومن انتظار النعيم في النعيم، قد تمثلت له الحور والقصور، والموت في سبيل الله حبور لو حنطوك بقولٍ أنت قائله غَنِيت عن نفحات المسك والعود وهاهو مجاهدٌ آخر بقلمه ولسانه في عصره يقاد إلى القتل، وذنبه أنه يريد فيما نحسبه: أن تكون كلمة الله هي العلياء، ويريد الشهادة معها في سبيل الله، والشهادة حقاً -معشر الإخوة- أن تشهد أن شريعة الله أغلى عليك من حياتك، علق في حبل المشنقة كالطود الشامخ، فانقطع الحبل به، فقال في عزة المؤمن وشموخه على الباطل وأهله: جاهليتكم رديئة وحتى حبالكم رديئة، ولقي الله وحاله: جد بالدما من غير من إن لم تذد عنها فمن؟ فرحمه الله من فردٍ في أمةٍ ولودٍ للذرية، ولأسباب حياة الذرية.

كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه

كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه أخيراً معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إننا نعيش عصراً تتسارع فيه الفتن كقطع الليل يرقق بعضها بعضاً والأمة الوسط استكان حدها وأرى بغاث الطير لا تتلعثم حلفاء أبي لهبٍ فيه كثير، والمهتدون بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم قليل، ألا إنه لن يتم الاندفاع بهدى محمد الأمين عليه صلوات وسلام رب العالمين، إلا بالانقطاع عن خزي أبي لهب مع بيان سبيل المجرمين، ولا يصح الإيمان بذي العزة والجبروت والملكوت إلا بالكفر بالطاغوت، وإلا فالحتوف. كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب ولا لبن فيحلب، وإلا فالحتوف. إن وقفة الرجل في محرابه متضرعاً، وبقلمه ولسانه في المحافل موجهاً يدفع شبهة، ويرفع شهوة، ويوقظ ضجعة، كوقفته بسلاحه يقصف جحافل الأعداء ويريق الدماء. إن أقلام وألسنة الكتاب المخلصين لا تقل مضاءً عن سيوف المجاهدين، إن مداد أقلامهم في الدفاع عن الدين لا تقل بإذن الله عن دماء المجاهدين، فسخِّر حروفك لخدمة دينك المنيف، وإلا فالحتوف. الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بضحيته، ليكون الهبوط بقدر الصعود، فاحذره، وإلا فالحتوف! المسلمون وأنت فرد منهم هم الأمة الشاهدة الوسط الخيار الأخيرة؛ لا أمة بعدها، فإذا ضاعت ضاعت الرسالة، وإن هلكت غرقت السفينة، فاسع في نقل الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها جهدك، وامض على الصراط المستقيم، ولا تلتفت للوراء ولو كثر العواء؛ حرصاً على الواجبات والأوقات، فكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل، وماذا يقول العقلاء في من نبحته الكلاب جرياً على عادتها وطبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومحاورتها، لاشك أنهم يقولون: عقله كعقول الكلاب. فارفع شعار سلام ومر مر الكرام وإلا فالحتوف. إن الحياة جهادٌ والجدير بها من غالب العاصفات الهوج والنوبا وإن من أحكم الأقوال تجربةً أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا فغالب الباطل، وأَتعب قواك في الحق دهرك، وإلا فالحتوف. أيها الجيل! لديك أعظم ميراث وأكبر ثروة عرفها التاريخ، وثيقتك كتبت من أربعة عشر قرناً أو تزيد، كتبتها المحابر، وأذن بها على المنائر، وصلي بها في المحاريب، وخطب بها على المنابر، وحررت بها العقول والحقول، وفتحت بها الأقطار والأمصار، وقطعت بها البيد والقفار، لن تضل بإذن الله ما تمسكت بها؛ إنها نبع الوحي ما اختلط بطين، لأنه محفوظٌ من رب العالمين، فخذها بقوة، وعض عليها بالنواجذ، وإياك والمحدثات، وإلا فالحتوف. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت} إن عجز اللسان عن قول الخير، والساعد عن حمل السيف، فلا يعجزن اللسان عن الصمت، ولا الساعد عن حمل القلم، وإلا فالحتوف. بالحروف من الوحي خاطب الأرواح بلغتها، وائت البيوت من أبوابها، فإذا رأيت أرض الأفئدة قد اهتزت وربت، وهضابها القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع واغتنم خفقان الشراع، والإسراع الإسراع، وإلا فالحتوف. وكم من حروفٍ تجر الحتوف وأخرى تجر لخير منيف وكم ساكتٍ ود أن لو نطق وكم ناطقٍ ود أن لو سكت. هذا مجمل القول عدلت فيه عجزاً عن الوابل إلى الطل، فخرجت كالطيف خطرة طيف، وسحابة صيف، وأرجو أن تكون قد فهمت، فمن الحيف ألا تفهم لغة الضيف: وما ذاك مني بل من الله وحده بفتحٍ وإمدادٍ وفضلٍ ونعمةِ فإن أك فيها مخطئاً أو مغالطا فمن ذات نفسي كل خطئي وغلطتي أتوب إلى الرحمن من كل خطأةٍ وأستغفر الرحمن لي ولإخوتي وأسأله جلَّ اسمه بصفاته وأسمائه الحسنى قبول كليمتي يا محيي القلوب بالإيمان اكفنا زلل القدم والقلم واللسان، يا غافر الذنب ويا قابل التوب نستغفرك من كل تصريحٍ أو تلميحٍ بنقصان ناقصٍ كنا متصفين به، نستغفرك من كل وعدٍ وعدناه فقصرنا في الوفاء به. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، والمنافقين ومن وافقهم، والمشركين ومن شاركهم، والشيوعين ومن شايعهم، اللهم عليك بجميع أعداء الدين، اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أذق بعضهم بأس بعض، اللهم أذهب ريحهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم كن لإخوتنا المستضعفين والمأسورين والمضطهدين والمجاهدين في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان وكوبا والفلبين وأندونيسيا وجميع العالمين، اللهم كن لهم أجمعين، اللهم أفرغ عليهم صبراً وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم اشف جرحاهم، اللهم فك أسراهم، اللهم تقبل في الشهداء موتاهم، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والنفاق والعناد والفساد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد. اللهم بصرنا بعيوبنا، وألف بين قلوبنا، اللهم لا تجعلنا في العمل لهذا الدين كأهل الجحيم؛ كلما دخلت أمة لعنت أختها، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

ما حقيقة كخيال

ما حقيقة كخيال هذه المحاضرة سفر حافل يتحدث عن واقع المسلمين في الالتزام بدينهم، وقد بين فيها الشيخ مكمن الداء، ونقطة الضعف، ومنبع الخطر، وبين العلاج لذلك بأسلوب أدبي أخاذ فعليك بمطالعتها إن كنت ممن يهمه أمر المسلمين.

الهداية الحقة

الهداية الحقة اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، فكل الحمد لك، اللهم لك الشكر لنعمٍ لا نحصيها، فكل الشكر لك، اللهم لك التذلل والخضوع، فلا معبود غيرك، نسألك الأمن من هول يومٍ يستوي فيه القوي والضعيف، والشريف والوضيع، فالناس فيه سكرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍ وصدقٍ أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا تترى، وأتبرأ بها براءةً كاملةً من كل طاغوتٍ وندٍ معبودٍ ظلماً وزوراً؛ من دون الله الولي الأعلى، شهادةً صادرةً عن يقين صادقٍ واعتقادٍ صحيح؛ لا شكوك فيها ولا أوهام والله المولى، نسأله الثبات عليها، والعمل بمقتضاها حتى يأتي اليقين وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، خصه الله بجوامع الكلم، وأنزل عليه القرآن المبين. صلى عليه ربنا وسلما والآل والصحب الكرام الفضلا الأنجم الزهر الهداة النزلا والتابعون السادة الغرُّ الألى قد نقلوا الدين لنا مكملا أزكى صلاةٍ وسلامٍ مثقلا تدوم ما اسود الظلام وانجلا أما بعد: فيا إخوتي في الله! حياكم الله -والتحايا مفاتيح القلوب- تحيةً طيبةً لطالما ثملت في الصدر ثمول النار في الحجر، ثم وافتكم الليلة كعبير السحر، تتنفس في لقائكم شذى الريحان والورد والمسك والعنبر، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية الإسلام تبعثها الروح إلى الروح، من كبدٍ مقروح، لامطففة ولا جموح، فللأمور دلائل، وللحقائق مخايل، وبين النفوس تعارف وتآلف، وما يخفى المريب والأمين، ولا يشتبه الصحيح الصريح بالمتهم الضنين، القلوب عرفاء، والأوجه شهداء، والأبصار أدلاء فلا خفاء. أحياكم الله وحياكم، وأبقاكم للأمة ذخراً، تصلون أسبابها، وتعيدون لها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه، وتدفعون ظلامه، وتؤدون فرضه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه، فتحفظون أرضه برحمة الله ومنه. وهبنا الله التوفيق، وهدانا إلى سواء الطريق.

لابد من التطبيق لنلحق بالسلف في الركب

لابد من التطبيق لنلحق بالسلف في الركب أحبتي في الله! إن مقارنةً يجريها المنصف بين أمتنا في سابق عهدها وهي مطويةٌ في بطون الأرض والكتب، وبين هذه الأمة التي تجوب في حاضرها اليوم على وجه الأرض؛ يجد الفرق شاسعاً، والبون عظيماً، وأوجه الشبه تكاد تكون مفقودةً مع وجود الاشتراك في النسب والاسم، ولو التمسنا السبب بحق لوجدناه قريباً منا، والله ما هو إلا هدى القرآن، أقامه الأولون، وجمعوا عليه قلوبهم، وعلى أخلاقه روضوا أنفسهم، رباهم، وأدبهم، وزكاهم، وصفى قرائحهم، وجلى مواهبهم، وصقل ملكاتهم، وأرهف عزائمهم، وهذب أفكارهم، ومكن للخير في نفوسهم. حفز أيديهم للعمل النافع وأرجلهم للسعي الصالح، ثم ساقهم على ما في الأرض من باطل فطهروها منه تطهيراً، وعمروها بالصلاح تعميراً، واتخذت الأمة الآن إلا من رحم الله القرآن مهجوراً، تقيم حروفه وتهمل حدوده، فحقت عليها كلمة الله في أمثالها، فإذا السفينة غارقةٌ في أوحالها، وركابها كالغنم تساق إلى الذبح لاهيةً؛ تخطف الكلأ من على حافتي الطريق لا تدري ما يراد بها، فمن لي بمن يرسلها معي كما أرسلها الإبراهيمي وغيره من قبل إلى المهتدين صورةً وحقيقةً ومعنى، إلى المهتدين صورةً ومظهراً وخيالاً، إلى المهتدين بالهوية والوراثة دعوى بلا بينةٍ ليس إلا، إلى المسلمين عموماً شيباً وشباباً، من يرسلها معي صيحةً داويةً مدوية: يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال. ما سراب كشراب، وما غمض يظهر من خلال المقال رزقنا الله وإياكم حسن المآل. إلهي: أرجوك حقق ما بالنفس من أمل وكن معيني على إدراك غاياتي اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. إن الصفات أيها المسلمون! لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع؛ فالوعي لابد أن يصحبه رعي، ويعقبه سعي، ليكون على الحقيقة الوعي عين الوعي. والهداية على الحقيقة لابد أن يصحبها علمٌ وحزم، ويتبعها عزم، يسوقها إقدامٌ بلا إحجام، يحدوها على الإقدام إلى الأمام. ما حقيقةٌ كخيال: لا تعظم الأشياء بالأسماء ولا يقاس النور بالظلماء إن السراب البيج غير الماء، لئن كان في الرياح لواقح الأشجار، ففي حقيقة الهداية لقاح الأفئدة والضمائر والأبصار ما حقيقةٌ كخيال. لئن كان من الريح ما يحرق الورق، ففي الهداية على الحقيقة ما يطفئ الحرق ما حقيقةٌ كخيال. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

من كلام المقبلي عن الهداية الحقة

من كلام المقبلي عن الهداية الحقة يقول اليماني في إيثار الحق ما مضمونه ونقول به: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى، حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد. البدع والشبه قد فشت، والشهوات انتشرت وطغت، وكثر الداعون إليها والمعاونون عليها فكيف لو رآنا اليوم، وقد صار طالب الحق اليوم من أمره في حيرة؟ ولكن كل مطلوب بإذن الله مدرك، فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة، فاعتبر فإن الحق ما زال عزيزاً نفيساً كريماً، لا ينال مع الإضراب والإعراض عن طلبه، وعدم التشوف والتشوق إلى سببه، لا يهجم على المبطلين المعرضين، ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين، ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطلٌ ولا ضال، ولا جاهلٌ ولا غافلٌ ولا بطال ما حقيقةٌ كخيال. أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى، بل لساناً ولا أسنان، وأشباحاً ولا أرواح، وخيالاً ولا حقيقة. إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟ ما حقيقةٌ كخيال.

شرف الهداية الحقة وفضلها

شرف الهداية الحقة وفضلها إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] كلا. من تكن همته نسج الحصير فهو لا يعلم ما نسج الحرير من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178] {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97].

زيد بن عمرو بن نفيل وطلب الهداية

زيد بن عمرو بن نفيل وطلب الهداية وفي القدسي: {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء. سبحانه وسعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري: [[إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموصل إلى الجزيرة، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداًَ، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به. فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]]. عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طلبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عرفها وريحها وكنت من أهلها، وإلا: فما أنت من أرض الحجون ولا الصفا ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، وحاله: فإن أك مشغولاً بشيءٍ فلا أكن بغير الذي يرضى به الله أشغلُ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا دحاها فلما استوت شدها سواءً وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالا سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: {رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام}. فاهنأ بمنزلك الجميل ونم به في غبطةٍ وانعم بخير جوارِ رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه. سبحان من لا يشبه الأناما وعزَّ رب العرش أن يناما وكل خلقه له فقيرُ وكل أمرٍ شاءه يسيرُ يهدي الذي يشاء ذاك فضلُ ويبتلي البعض وذاك عدلُ ولا يرد ما به الله قضى وكل أمرٍ في الكتاب قد مضى

قصة سلمان الفارسي في طلب الهداية على الحقيقة وما فيها من عبر

قصة سلمان الفارسي في طلب الهداية على الحقيقة وما فيها من عبر أي أخي! هيهات للسيل -أعني سيل الهداية على الحقيقة- هيهات للسيل إذا أتى أن يقف قبل أن يمد مده ويبلغ حده. ومن يسد طريق العارض الهطل؟! أرأيت سلمان ابن الإسلام، سابق الفرس، المنارة الشامخة في طلب الهداية، من تشتاق له الجنة، لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله مثله، قال فيه علي رضي الله عنه بسند رجاله ثقات: [[أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحرٌ لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت]] طلب الهداية في مظانها، فوفقه الله ليصحب رسوله صلى الله عليه وسلم، هبت رياح الهداية في بيداء الأكوان، ونجم الخير، وهدأت الريح، فإذا أبو طالب في لجة الهلاك بلا أمان، وسلمان على ساحل السلامة في أمان، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه في تيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم في غير ما كبرٍ ولا تيه، والنجاشي في أرض الحبشة يعج بلبيك اللهم لبيك، وبلال على ظهر الكعبة يصدح بالأذان ليسمع الآذان ويوقظ الجنان، لما قضي في القدم سلامة سلمان، أقبل يناظر أباه في دينٍ أباه، فلما علاه بالحجة لم يعرف أبوه جواباً إلا القيد، وهذا جوابٌ مرذولٌ يتداوله أهل الباطل من يوم: {حَرِّقُوهُ} [الإنبياء:68] ويوم {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] فنزل بـ سلمان ضيفُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31]، فنال بإكرامه مرتبة: {سلمان منا}. سمع أن ركباً على نية السفر، فسرق نفسه من حرز أبيه وما قطع، ركب راحلة العزم يرجو إدراك السعادة والسيادة، وقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء، ليكون من الأجلاء السعداء وكان، فلما أحسَّ الرهبان بانقطاع دولتهم، سلموا إليه أعلام الإعلان على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إن زمانه قد أظل، فاحذر أن تضل، وإنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين. فلو رأيتموه قد فلَّ الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن فلم يزعجه تطلعه وتوقه، ورحل مع رفقةٍ لم يرفقوا به، فشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، ابتاعه يهوديٌ بـ المدينة، فلما رأى الحرتين، توقد حرُّ شوقه، وما علم المنزل بلهفة النازل: أيدري الربع أيُّ دمٍ أراقا وأيُّ قلوب هذا الركب شاقا لنا ولأهله أبداً قلوب تلاقي في جسوم ما تلاقى فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير النذير والسراج المنير؛ عليه صلوات الحكيم الخبير، وسلمان في رأس نخلة، كاد الفرح أن يلقيه لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] ثم عجل النزول لتلقي ركب السيارة، ولسان حاله يقول: خليلي من نجدٍ قفا بي على الربى فقد هبَّ من تلك الديار نسيمُ فصاح به مالكه: ما لك ولهذا؟ انصرف إلى شغلك، فأجاب بلسان حاله: كيف انصرافي ولي في داركم شغلُ فأخذ مالكه يضربه، فأخذ لسانه يترنم لو سمع الأطروش الأصم: خليلي لا والله ما أنا منكما إذا علمٌ من آل ليلى بدا ليا فلما لقي الرسول صلوات الله وسلامه على الرسول، عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافق وطابق، فإلى الهداية سيق فسابق، حرر نفسه من هواها، فانتصرت يوم زكاها وحماها، ضعفت الأخلاط، فخفت الأغلاط، وتجدد النشاط، وهدي سلمان إلى سواء الصراط، ما آل كبلال،، وما حقيقةٌ كخيال يا محمد! صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، أنت تريد أبا طالب، والله يريد سلمان، أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب فللآباء، وإذا ذكر المال عد الإبل، وسلمان إن سئل عن اسمه، قال: عبد الله، وعن نسبه، قال: ابن الإسلام، وعن لباسه، قال: التواضع، وعن طعامه، قال: الجوع، وعن شرابه، قال: الدموع، وعن وساده، قال: السهر، وعن فخره، قال: {سلمان منا} وعن قصده، قال: يريدون وجهه. قصدنا الله حجتنا يوم يأتي الناس بالحججِ نورٌ مسخ الظلام، وهدىً محق الضلال، وحقٌ محق الباطل. طلع الصباح فأطفئ القنديلا ما حقيقةٌ كخيال الهداية على الحقيقة نورٌ من الله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] ومنةٌ وهبةٌ من الله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] ورحمةٌ من الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. رحمة الله لا تعزُّ على طالبٍ في أي مكان ولا في أي حال، كما يقول صاحب الظلال في تصرف: وجدها إبراهيم عليه السلام في النار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ووجدها يوسف عليه السلام في الجب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ثم وجدها أخرى في السجن: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:54 - 56] ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفلٌ رضيعٌ مجردٌ من كل قوة ومن كل حراك: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ثم وجدها أخرى في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به، يبحث عنه ليقتله، فإذا به يغذوه {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآه أحدٌ إلا أحبه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلمات يوم نادى: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88] وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16] وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم ويقصون الآثار: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال: لا تحزن إن الله معنا} وجدها كل من أوى إلى الله يائساً من كل ما سواه، منقطعاً عن كل شبهةٍ في قوة، ومظنةٍ في رحمة، قاصداً باب الله وحده: إلهي وجهت وجهي إليك فحقق منايا وأحلاميا وهب لي من العزم ما أرتجي وحقق بفضلك آماليا وثبت فؤادي في حاضري وتمم قوابل أياميا الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك. هذه حقيقة عارية، من أنكرها فهو ساعٍ على جسر الخيال، مستبدل بالماء الآل، وما حقيقةٌ كخيال.

إنما يهدي الله من اهتدى

إنما يهدي الله من اهتدى هاهو غلامٌ أسودٌ راعٍ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ لبعض حصون خيبر، معه غنم هو أجيرٌ فيها لرجلٍ من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض عليَّ الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يعرض عليه الإسلام، فعرض عليه الإسلام فأسلم وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. وباح الصباح بأسراره وحرُّ الهوى في حشاه استعر قال: يا رسول الله! إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانةٌ عندي، كيف أصنع بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: {اضرب في وجوهها ترجع إلى ربها، فقام فأخذ حفنة من حصى، فرمى بها في وجوه الغنم، وقال: ارجعي، لا أصحبك والله أبداً، فخرجت كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت حصن اليهودي، ثم تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل، فأصابه حجرٌ، فقتله وما صلى لله صلاةً قط، لم يكن بين إسلامه وقتله صلاة، فيؤتى به ويوضع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسجى بشملةٍ كانت عليه، ثم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ من أصحابه، ثم يعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله! لم أعرضت عنه؟ فقال فيما روي عنه: إن معه الآن زوجتيه من حور العين}. تحول عنه الأذى وانتهت صروف الحياة وأشجانها سقاه الغوادي رحمانها وحياه بالخلد رضوانها وحور الجنان وولدانها هكذا يا معاشر المسلمين أبصر نور الهداية أسود راعٍ مملوك، بينما حجبت عن علماء أهل الكتاب في حصونهم مع أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ليسوا للهداية بأهل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] اتبعوا الهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] زاغوا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وكتموا الحق وهم يعلمون، فبئس ما يصنعون. إذا ما تردى في الضلالة جاهلُ فما عذر من يأبى الهدى وهو عارفُ يظنون ألن ينسف الله ما بنوا ولن يثبت البنيان والله ناسفُ سيلقون بؤساً بعد بؤسٍ ومحنةً فلا العيش فياحٌ ولا الظل وارف

العبرة بالمسميات لا بالأسماء

العبرة بالمسميات لا بالأسماء الهداية على الحقيقة لا الخيال استقامةٌ حقةٌ على تكاليف الدين، والتزامٌ بها، وعدم سلوك ما يناقضها. حقيقة الهداية ليست بمجرد الانتساب، أعني: الانتساب إلى الدين مع ارتكاب كل مناقضٍ له: إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلةً كحالاتها أسماؤها والمصادر أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء فحسب، وبالأفعال لا بالأقوال فقط، ولو أن كل من سمته أمه صالحاً كان صالحاً على الحقيقة، وكل من سمي عادلاً كان عدلاً على الحقيقة، لكنا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا، ولو أن كل من تسمى حسناً لا يأتي إلا الفعل الحسن، لعظم وطغى الحسن على القبيح، ولكن وراء هذه الأسماء والألقاب الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه كثيرٌ من هذه الأسماء والألقاب، وتنفلق فلا تجد إلا الحقيقة من فعلٍ يصدق ذلك أو يكذبه: ومن يقل الغراب أبو القمارى يكذبه إذا نعب الغرابُ ذكر أبو الفرج أن تأبط شراً الشاعر ثابت بن جابر لقي ذات مرة رجلاً من ثقيف يكنى بأبي وهب، وكان رجلاً أهوج أحمق وعليه حلةٌ جميلة فارهة، فقال أبو وهب لـ تأبط شراً: بم تغلب الرجال يا ثابت: كيف تغلب الرجال وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ -نظر إلى المظاهر وترك الحقائق- قال ثابت: أغلبهم باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت. فقال الثقفي: أبهذا فقط؟! قال: ليس إلا. قال: فهل لك أن تبيعني اسمك؟ قال: نعم ولكن ما الثمن؟ قال: هذه حلةٌ جميلة مع كنيتي، قال: أفعل، ففعل، وعندها قال تأبط شراً: لك اسمي ولي اسمك، وأخذ الحلة وأعطاه طمريه، ثم انصرف تأبط شراً وهو يقول مخاطباً زوجة الثقفي: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهبٍ فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطبِ؟! وأين له بأسٌ كبأسي ونجدتي؟! وأين له في كل فادحةٍ قلبي؟! مضى وتركه وهو يعيش باسمٍ دون مسمى، وخيالٍ أشبه بالخبال. وبعض الداء ليس له شفاءُ وداء الحمق ليس له دواءُ لكأنك به عند أول لقاء وقد هزم، وذهبت حلته وبقي له حمقه وكنيته، وحاله: وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال إخوتي في الله! ليس كل من تزيا بزي الشجعان، وأخذ ألقابهم وأسماءهم وكناهم، وتحدث حديثهم، وردد عباراتهم وشعاراتهم يعتبر شجاعاً، حتى يكون في ذاته وهمه وشعوره، وتصوره وإقدامه وقوة قلبه كالشجعان حقاً، ليس كل من ارتدى مسوح أهل العلم، وإن كان في غاية البلادة في الفهم، والضحالة في العلم، والغباء في الذهن، ورسوخ الجهل؛ يعتبر عالماً حتى يكون في همته وشعوره، وتصوره وإدراكه، وفهمه واتباعه وخشيته كالعلماء حقاً. من ادعى وصف الكرام البررة فاستشهدوا أخلاقه وسيره ليس كل من تزيا بزي المستقيمين المهتدين، ولبس لباسهم، وردد ألفاظهم؛ يعتبر مستقيماً مهتدياً حقاً، حتى يكون في شعوره وولائه، وحبه وبغضه، وهمته وجديته، وسمته وخلقه، وتعامله وكبح جماح نفسه على الخير كالمستقيمين حقاً. ليس كل من ادعى سبيلاً، وتشدق بأبعاده ومراميه يكون من أهل ذلك السبيل؛ حتى يكون بفصيح لسانه وبليغ ما يخط بنانه ويعتقد جنانه حقاً كما قال، فليست العبرة بالمظاهر فحسب، بل بالمظاهر مع الحقائق، فاعلم وعِ: لا يخلبنك بارقٌ متلمعُ إن البروق تكون في ظلمائها

عدي بن حاتم بين دين الحقيقة ودين الخيال

عدي بن حاتم بين دين الحقيقة ودين الخيال إليك عدي بن حاتم يتحدث عن نفسه فيما رواه ابن إسحاق والإمام أحمد في مسنده وروى الشطر الأخير منه البخاري في صحيحه رحم الله الجميع، يقول: كنت امرءاً شريفاً نصرانياً أسير في قومي بالمرباع -يأخذ ربع الغنيمة وهي لا تحل له قبل أن تقسم- وكنت في نفسي على ديني ملكاً في قومي لما يصنع بي، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهته أشد ما كرهت شيئاً قط. ألقى الشيطان في روعه كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيل له أنه سيسلبه ملكه، ليحول الشيطان بينه وبين الملك الكبير ثمة في الجنة، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20]. يقول: فقلت لغلامٍ لي كان راعياً لي إبلي: لا أب لك، اعدد لي من إبلي أجمالاً جللاً سماناً، فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش محمد- صلى الله وسلم على نبينا محمد- قد وطئ هذه البلاد، فآذنّي، ففعل، وأتاني ذات غداة، فقال: يا عدي! ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمدٍ فاصنعه الآن، فإني رأيت رايات أقبلت، وسألت عنها، فقيل: هذه خيله، قال: فاحتملت أهلي وولدي، وخلفت بنت حاتم في الحاضر، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيب ابنة حاتم في السبايا، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا، فقامت إليه، وكانت امرأةً جزلة عاقلةً أصيلة الرأي، فقالت: يا رسول الله! هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك، قال: {ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي} ومنَّ عليها بعد أيام، وقدم ركبُ من بلي أو قضاعة فكساها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاها دابةً ونفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام أقصى أرض العرب مما يلي الروم، يقول عدي: فوالله إني لقاعدٌ في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينةٍ تؤمنا وتنحدر إلينا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت عليَّ، انسحلت تلوم وتشتم، وتقول: القاطع الظالم، احتملت أهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك، قلت: أي أخيه! لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرتِ، فنزلت، فقلت لها وكان امرأةً حازمةً ذات رأي: ما ترين في أمر هذا الرجل؟ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرى أن تلحق به سريعاً، إن يكن نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل وأنت عنده، ووصفت له من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاملته ما وصفت، وماذا تصف؟!! فما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أبرَّ وأوفى ذمةً من محمدِ صلوات الله وسلامه عليه. يقول عدي: وقد كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت: لو أتيته، فسمعته إن كان كاذباً لم يَخْفَ عليَّ، قال: فأتيته، فانتشر في الناس أن قالوا: جاء عدي بن حاتم، ودخلت المسجد، وسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: {من؟ قلت: عدي بن حاتم، قال: الفار! ثم أخذ بيدي، وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعائد بي إلى بيته، إذ لقيته امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرةٌ معها ابنها، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك -وهو أعرف بحياة الملوك- قال: ثم دخلت بيته، وتناول وسادةً من أدمٍ جلدٍ محشوةً ليفاً، وقال: اجلس، وجلست بين يديه، فما رأيت في بيته شيئاً يرد البصر، قلت: ووالله ما هذا ببيت ملك، وما أمره بأمر ملك، ثم قال- يعني: صلى الله عليه وسلم-: إيه يا عدي! أسلم تسلم، أسلم تسلم} حاله: إلى الله فارغب يا عدي بن حاتمِ ودع دين من يبغي العمى غير نادمِ فقلت: إني لعلى دين، قال صلى الله عليه وسلم: {أنا أعلم بدينك منك، ألست رسوسياً؟ قلت: بلى، قال: ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع؟ قلت: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فإن ذلك لا يحل لك في دينك، قال: فلم ألبث أن اتضعت لها، ووجدت عليًّ فيها غضاضة، قلت: نبيٌ مرسل يعلم ما يجهل}. كشف أمره، وحصل لديه يقينٌ بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم من دينه ما لا يعلمه من حوله، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل بقية العوائق التي تعوق هذا الملك في قومه عن الإسلام، فقال: {يا عدي! لعلك إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله، فوالله إن طالت بك حياة، ليوشكن أن يفيض المال حتى ترى الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، فلا يجد أحداً يأخذه. لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، والله لئن طالت بك حياة، ليوشكن أن ترى الضعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله. قال: فقلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُّعار طي الذين سعروا البلاد؟ -أين قطاع الطرق؟ - ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عدي لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم- يعني: فارس والروم- وايم والله إن طالت بك حياة، لترين قصور بابل البيض وكنوز كسرى قد فتحت، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز. قال: فقلت: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله}. وكشفت الحجب، وزالت العوائق، ولا غرابة في عودة الشيء إلى أصله وفطرته، فحاله: ومن يعدل بحب الله شيئاً كحب الجاه ضل هوىً وخابا يقول عدي: [[وايم الله لقد رأيت الضعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت في أول خيلٍ أغارت على المدائن فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، وايم الله لئن طالت بكم الحياة لترون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليفيضن المال حتى لا يوجد من يقبله]] إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغالب الحق مغلوب، ومحارب الهدى محروب، ولا ينير الدنيا هلال مقنع، وعند غربال السبق خبرٌ يقين، وما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال معاشر المسلمين! الهداية الحقة ليست بمجرد الانتساب وإظهار الولاء فحسب، إن من يظهر الانتساب للإسلام ولا يطبق أحكامه، ويرتكب ما يناقضه؛ لا يكون مسلماً حقاً كما كان عديٌ على غير دينٍ الحقيقة، ولما كان عدي غير مستقيمٍ على دينه السابق؛ صار دعايةً سيئةً لذلك الدين، ومنفراً عن اعتناقه، فكذلك من ينتسبون إلى الإسلام وسلوكهم يناقض أحكامه وآدابه، هم صادون عنه وإن كانوا يحملون اسمه، فهم كالطائر قص جناحاه، فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه طائراً. إن الانتماء إلى الإسلام ليس انتماء وراثة، ولا هوية، ولا مظهر فحسب، وإنما هو انتماء للإسلام، والتزام به، واستقامة على أحكامه، تكيف به في كل مناحي الحياة، كنزٌ ثمين، فلنشد عليه يد الضنين: فلو لم يكن الزهر في البستان ما غرد قمري على الأغصان، وما صدحت الحناجر بأعذب الألحان. منزل الشاهين في أوج السحاب لا له أن يك في وكر الغراب هكذا وإلا: إليك عني إليك عني فلست منك ولست مني

الهداية الحقة احتكام إلى الوحي

الهداية الحقة احتكام إلى الوحي الهداية على الحقيقة تحولٌ جذري في السلوك والفكر، والتصور والمعتقد، والشعور والانتماء والمعاملة، والظاهر والباطن، إنها باختصار إسلام النفس لله وحكمها بوحي الله، أقوال المهتدي حقاً، وأعماله، وعطاؤه ومنعه، وحبه وبغضه، ومعاملته؛ لوجه الله، لا يريد بذلك جزاءً من الناس ولا شكوراً، ولا ابتغاء جاهٍ عندهم، ولا طلب محمدةٍ ومنزلةٍ في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، قد عدَّ الناس بمنزلة أهل القبور، لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، عرف الناس فأنزلهم منازلهم، وعرف الله فأخلص له، وأصلح ما بينه وبينه، فمقاله: أسلمت وجهي لله. همه لله لا في غيره ولأجل الله مولاه خضع وحاله: عملٌ أريدَ به سواك فإنه عملٌ وإن زعم المرائي باطلُ فإذا رضيت فكل شيءٍ هينٌ وإذا حصلت فكل شيءٍ حاصلُ هاهو أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مأموناً يتاجر في أموال قريش، واقتنع أن دين الله هو الحق، وأسلم سراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع ليرد الأموال، فقيل له وهو عازمٌ على أن يؤدي الأمانات إلى أهلها في مكة: هل لك أن تأخذ هذه الأموال، إنما هي أموال المشركين؟ فقال في اعتزاز المسلم وأمانته وطهره، وتحوله عن كل جاهلية: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. رعدٌ يجلجل يخلب لبك، ويأخذ سمعك، وتحولٌ عظيم يزأر صاحبه وحاله: على المال والجاه حرص الجميع فمن ذا على دينه يحرص؟ ومن يعرف الله لا ينقصُ أنا لله وليٌ لا لعزى أو مناة أنا شمس ليس تطفى بهبوب العاصفات ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.

عبر وعظات

عبر وعظات

قصة شاب اهتدى بسبب حادثة

قصة شاب اهتدى بسبب حادثة عبد الله! قف على ساحل بحرٍ لجي من العبر والمثلات؛ في صياغة الهداية على الحقيقة للمرء صياغةً جديدة، قفها مع أحد التائهين يذكر قصة هدايته كما أوردها القاسم حفظه الله، ومضمونها ما يلي في تصرف: في أيام العشر الأواخر من رمضان العيد قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين أذهب، أنتظر صديق الطفولة بلهفة، الجزء الأكبر من وقتنا ليلاً نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وفي النهار نلزم المضاجع، وجاء عبد الرحمن، وركبت معه، وسألني: هل جهزت ثوباً جديداً لقد أقبل العيد؟ قلت له: لا، قال: نذهب للخياط الآن، قلت: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد خياطاً يسابق العيد؟ انطلق بنا في سيارته، لم يكلمني حتى توقف أمام خياط، وفاجأني بالسلام الحار على ذلك الخياط، فهو يعرفه منذ زمن، قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، فضحك الخياط، وقال له: كم بقي على العيد؟! لماذا لم تأت مبكراً؟ قال عبد الرحمن، وهو يهز يده بحركة تفيد: سنزيد لك في الأجرة، المهم أن ينتهي بعد غد نعم بعد غد. ويدفع جزءاً من الثمن وهو يردد: بعد غد، لا تنس الموعد. قال: وإلى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة لم نذكر الله فيها مرة واحدة، ولربما كانت ليلة القدر، حياةٌ لا طعم فيها، وسعادةٌ لا مذاق لها. أعيش في قلقٍ حيران مضطربا وإن تخلني هنيء العيش منشرحا ولجنا المعاصي من كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، وفي القلب همٌ وغمٌ ونكدٌ وحسرات، ونظهر السعادة، ونملأ المكان بالضحكات. أعمالنا تكشفنا وتفضحُ ما في الوعا على الوعاء ينضحُ افترقنا قبيل الفجر، يجمعنا الليل والسهر والعبث، ويفرقنا النوم الطويل الذي يمتد من الفجر إلى العصر، صيامٌ بلا صلاة، وصلاة بلا خشوع، ساعات الصيام التي أستيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة، وقراءة الصحف الهابطة، وبينا أنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء، وصوته متغير، يقول: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت له: لا مساء البارحة إلى الفجر وهو معي كان بصحةٍ وعافية، قال: إنه مريض وأنهى المكالمة. والأمر لا يعني لي شيئاً سوى معلومةٍ غير صحيحة، فأنا معه إلى الفجر، وإذا بالمؤذن يرفع أذان العشاء، وإذا بالهاتف يرن، إنه شقيق عبد الرحمن الأكبر، قلت في نفسي: إنه سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن، فلعل أحداً أخبره بزلةً من زلاتنا وسقطاتنا ويأتي صوته منهكاً مجهداً، عبراته تقطع الحديد، وأخبرني الخبر، وياله من خبر! مات عبد الرحمن!! لا إله إلا الله!! دهشت لم أصدق لا أزال أراه أمامي، صوته يرن في أذني، كيف مات؟!! قال: وهو عائدٌ إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة، وحمل إلى المستشفى، وفارق الحياة ظهر اليوم، وسنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملائك وقفل الهاتف، أذني لا تكاد تصدق ما تسمع، الليل موعدنا في سوق كذا، وغداً موعد ثياب العيد، لا إله إلا الله! الأمر جدٌ لا هزل فيه، انقضت أيام عبد الرحمن، والموت حق، وغداً موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد، عبرٌ تثار، وعبراتٌ تسيل، تسمرت في مكاني، تشتت ذهني، أصبت بدوار في رأسي، التراب يابس، والمرعى عابس، قررت الذهاب إلى منزل عبد الرحمن لأستوضح الفاجعة، ركبت السيارة، فإذا شريط الغناء لم يزل في جهاز التسجيل، أخرجته، ثم فتحت الراديو، فإذا إمام الحرم من المذياع يخاطب الجنان لا الآذان، أنصتُّ بكل جوارحي، أرهفت سمعي، لكأن الدنيا انقلبت والقيامة قامت، أوقفت سيارتي أستمع وأستمع، وكأني لأول مرةٍ أسمع القرآن، وبدأ الإمام بدعاء القنوت، كانت دمعاتي أسرع من صوت الإمام، قلبي يردد صدى تلك العبرات ليعلنها توبةً صادقةً في حسرةٍ وتأسفٍ على ما سلف وفات. كأنما أنا طيرٌ لا جناح له فما استطاع بغير الدمع تبيانا ميلادٌ جديد، حياةٌ جديدة بدأتها بصحبةٍ طيبة، ورفقةٍ صالحة، لله ما أجمل السير في ركاب الصالحين!! من كرهتهم هم أحب الناس اليوم إلي، من تطاولت عليهم هم أرفع الناس في عيني، من استهزأت بهم هم أكرم الناس عندي، كنت على شفا جرفٍ هارٍ، ولكن الله رحمني: يا من عليه اعتمادي في الأمر بعضاً وكلا بك اهتديت ومن لم يرج الهدى منك ضلا إنها الهداية على الحقيقة، تحولٌ جذري حقيقي. فاضرب بسهمٍ في سهام أئمةٍ سبقوك في هذا السبيل القيمِ وافتح مغاليق القلوب لتهتدي وعلى إلهك فاعتمد واستعصمِ يا ويل كل مفرطٍ مستسلمِ! قال: وبعد شهرين فاجأت الخياط، وسألت عن ثوبي، فسأل عن عبد الرحمن، قلت له: مات، قال: لا إله إلا الله! عبد الرحمن؟! قلت له: مات، فأعطاني ثوبه، وبدأت أقول في نفسي، وآخذ شريط الذكريات في ذهني: هل حقاً مات؟! ثوبي بجوار ثوبه! مقعدي في السيارة بجوار مقعده! مضى، وبقي لي أجل لعلي أستدرك فيه ما فات، من يهرب من شيءٍ تركه وراءه إلا القبر؛ فما يهرب منه أحدٌ إلا وجده أمامه، ينتظر غير متململ، وأنت متقدم إليه غير متراجع، فانظر ما أنت عامل، يقول: وما هي سوى فترة من الزمن، وهدوء النفس يزداد يوماً بعد يوم، وتقرُّ عيني، وتطرأ السعادة الحقيقية على قلبي، انشراحٌ في الصدر، وسكينةٌ ووقار، وصدق الله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] حمدت الله كثيراً، ولكن بقي لي أخ لا يزال على عينيه غشاوة، هل أتركه؟ لا، لن أتركه وقد هداني الله، لا أنسى عبد الرحمن، لا، لن أترك هذا الأخ، وقد هداني الله، هناك كتاب، وهناك شريط، وهناك مطوية، وبيني وبينه نصيحة، والدين النصيحة. فمن لم يعش بعد بيت هدى شقيٍ وإن بلغ الفرقدا إذا وجدت النملة ذخيرةً من القوت، أسرعت إلى سربها تحمل لها البشرى، وتأتي بها إلى الغنيمة لترى غزوها وفتحها، ثم يتكاسل ويضعف حامل الهدى! الهنود يغارون على بقر تهان فتطيح الرقاب، ثم لا يغار المسلم على حرمات دينه ويسعى في تبليغه. إنه الهوى من أطاعه هوى شراب الهوى حلوٌ ولكنه يورث الشرغ أرأيت عبد الله كيف تحولت مقاييس هذا الرجل واهتماماته ونظراته! إنها هداية الحقيقة لا الخيال، تحولٌ جذري، وعزلةٌ شعورية كاملةٌ بين ماضي الإنسان في غوايته وحاضره في هدايته، وإنما يكلّ من كان في ريبٍ من أمره. هذا السبيل فأين يذهب من أبى؟ أوليس نور الله قد كشف الدجى؟ بلى ما حقيقةٌ كخيال. الهداية على الحقيقة -معاشر المسلمين- تسرّ صاحبها وترقيه، وتبشره وتهديه، تنفعه وترفعه، فلا يزال يحلق في سماء المعالي حتى لا ينتهي تحليقه دون عليين برحمة أرحم الراحمين، فمن سار مهتدياً على ذكر الحقيقة لا الخيال، رجونا له الوصول وإن طال الدجى: فأول ما يكون الليث شبلٌ ومبدأ طلعة البدرِ الهلال

علي بن أسد يتوب لسماع آية

علي بن أسد يتوب لسماع آية علي بن أسد رحمة الله على ذاك الأسد، مرَّ ليلة بـ الكوفة، فإذا برجل يقرأ في جوف الليل قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] صادفت قلباً مزاح العلة، فتمكنت منه، فقال: أعد عليَّ رحمك الله، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم عمد إلى بيته فاغتسل، ثم غسل ثيابه، وانطلق وجدَّ على جسر الحقيقة، فلم يزل يرتقي في مدارج العبودية حتى عمشت عيناه من كثرة البكاء من خشية الله، وصارت ركبتاه كركبتي البعير، ويداه كثفن الإبل من كثرة قيامه وسجوده لله رب العالمين، وحاله: قصدي المؤمل في جهري وإسراري ومطلبي من إلهي الواحد الباري شهادةٌ في سبيل الله خالصةٌ تمحو ذنوبي وتنجيني من النارِ تاقت نفسه للجهاد في سبيل الله، فغزا مع المسلمين في البحر، ولقي الروم، فقرن مركبه ومن معه بمركب العدو، ثم قال: آن لك أي علي بن أسد ألا تطلب الجنة بعد اليوم أبداً، والحال الحال: شهادةٌ في سبيل الله خالصةٌ تمحو ذنوبي وتنجيني من النارِ إن المعاصي رجسٌ لا يطهرها إلا الصوارم في أيمان كفارِ فاقتحم بنفسه عليهم في سفائنهم؛ رجلٌ يطلب إعلاء كلمة الله، والموت في سبيل الله لا حيلة فيه، يحب الموت كما يحب أولئك الكفار الحياة، فما زال يضربهم وينحازوا، ويضربهم وينحازوا حتى مالوا في شقٍ واحدٍ من سفينتهم، فانكفأت عليه وعليهم، فغرق وعليه درعه، وغرقوا جميعاً، شتان بين غريق وغريق، غريقٌ في الصد عن سبيل الله، وغريقٌ في سبيل الله، هداة: تقدم في الله أرواحها وتبذل في الله أموالها فحيِّ الأسود وأشبالها أسلافنا -أيها المسلمون- ركبوا البحر غزاةً فاتحين، فكان البحر -وإن غرقوا فيه- لهم عرشاً،، ولما تخلف من تخلف بعدهم عمَّا هم عليه، ركبوا البحر لأغراضهم وشهواتهم، فكان البحر لهم نعشاً، ما تغير البحر، ولكن تغيرت نفوس الراكبين.

محاكمة في العراء لبيان حقيقة الاهتداء

محاكمة في العراء لبيان حقيقة الاهتداء عبد الله! من لم يهتد على الحقيقة ويأخذ بأسباب الهداية، ولم تنهض همته لها، لا يزال قلبه في حضيض طبعه محبوساً منكوسا، راعٍ مع الهمل، سائمة مع الأنعام، استطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل والبلادة: ليس ضليلٌ حائرٌ كمهتدي

واقع الأمة العقدي

واقع الأمة العقدي عبد الله! لننزع البرقع، وهلم فلنحتكم على سفور وإن كنا لا نبيحه للغانيات. أليس فينا معشر المسلمين من اهتدى اسماً وخيالاً منذ سنين، ولم يزل بعيداً عن هدي القرآن، عاكفاً على القباب والأوهام، ألهته عن دنياه، وأفسدت عليه أخراه، شد لها الرحل، وقدم لها النذر، وسألها ما لا يكون إلا لله الرحيم البر. قد فتن البعض بقبر زينب وتركوا الله مزيل الكربِ وفتن البعض بقبر الهادي وتركوا ذا الطول والأيادي وفتن البعض بقبر المهدي وتركوا من يبتلي ويهدي بقبر عيدروس قد ضل الغبي وتركوا منهاج أحمد النبي صلوات الله وسلامه عليه هل يكون مهتدياً على الحقيقة من هذا حاله؟ كلا. إنه يعيش الخيال، إنه يدفع نفسه إلى بحرٍ لا يجيد السباحة فيه، وإن نهايته الغرق المحتوم ولا شك، ما حقيقةٌ كخيال. دع كل بابٍ غير باب ربي ولذ به وسله كشف الكرب هل يكون مهتدياً على الحقيقة من يأخذ من الدين ما يوافق هواه ويطرح ما عداه؟ كلا. ما عهدنا أن نرى في الليل شمسا أو نرى في وهج القيظ هلالا ما حقيقةٌ كخيال. هل يكون مهتدياً حقاً من يوالي أعداء الله ويتخذهم بطانةً من دون المؤمنين، ولو صلى وصام وحج وزكى؟ يكرم من أهانه الله، ويعز من أذله الله، ويدني من أبعده الله، ثم يدعي هداية الله. لكم يُرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلتِ ما حقيقةٌ كخيال.

التعامل مع الله والخلق بين الحقيقة والخيال

التعامل مع الله والخلق بين الحقيقة والخيال هل يكون مهتدياً حقاً من ظاهره الاستقامة، ثم في انهزامية مقيتة وبحجة ضغط الواقع يتراجع عن ثوابت ومسلمات؟ أما إن الحق لا ينقلب باطلاً، ولا الباطل يصير حقاً مهما كانت التبعات. هل يكون مهتدياً على الحقيقة من يهمل حقوق الخلق ويسيء في المعاملات، لا يتقبل النصح ويرى ذلك اتهامات، يعيش الفوضى وعدم الانضباط، مضيعاً وقته، غير منتظمٍ في درسٍ، أو محاضرةٍ، أو عملٍ نافعٍ، أو حلقات، ومع ذا منشغلٌ بالملهيات، مغرقٌ في سماع الأناشيد والتمثيليات، سيارته ومكتبه مستودعٌ للأناشيد والطرائف الاحتفالات؛ يحفظها حفظاً يفوق حفظ الأحاديث والآيات، حتى إن بعضهم ليذهب مع اللحن يترنم ويطرب، ثم يبكي ما لا يبكيه عند سماع قوارع الآيات، ولربما صاحبها الدف، وترخص في ذلك، فلم يشعر إلا وهو من أهل الأغنيات؟ فالهبوط سهلٌ والارتقاء صعب التبعات. عفواً إخوتي: من كتم داءه، قتله، آن لنا أن نعلنه لعلنا نتعاون فنصلحه، عظم الاهتمام بالتحسيني والكمالي، وترك الحاجي والضروري، صارت الكماليات عندنا ضروريات، فنأكل الحلوى ونحن في بلوى كما قيل، وبعضنا من هو مهتمٌ بمظهره اهتماماً يفوق اهتمام البنيات، ألف السطحية والمظهرية، فهو تمثال خشبٍ لا يخيف ولا يرهب، يمني نفسه ويسوف، وقد أمن الهرم كما أمن الصيد حمام الحرم. يدٌ فارغة، ويدٌ لا شيء فيها، فضولٌ بلا فضل، وسنٍ بلا سنة، وطولٌ بلا طَول، وعرضٍ بلا عِرض، متساهلٌ في الأمر الخطير، متشددٌ في الأمر السهل اليسير، لم يتخلص من رواسب الجاهلية من صورٍ وقنوات ومجلات، لا يتورع عن المشتبهات، يتهاون بالسنن والمندوبات، ويفرط في الواجبات، جلساؤه قبل أن يهتدي هداية الخيال هم جلساؤه، مع أنهم أخطر شيءٍ عليه إذ هم أعرف الناس بنقاط ضعفه، فهم له كالمجذوم؛ تصافحه تحيةً وسلاما، فلا يبلغه منه إلا الجذام والمرض. ونور الشمس يحجبه الغبارُ فما معنى الخضاب وأنت تدري بأن العيب من تحت الخضاب عاداته، أفكاره، اهتماماته هي هي لم تتبدل، لم يزل مصراً على بعض المال المشتبه، حتى إذا ما تورع عن حرام، لم يزل لسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات؛ يشتم ذا ويجرح ذاك ويعدل ذلك. أمانيه، حبه، بغضه، عطاؤه، منعه هي هي، ولاؤه لمصلحته، عداؤه لكل ما يقف في طريقها، نفعيٌّ ذاتي، مستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله: حياته عارضةٌ وصفية فألغين عارض الوصفية أيكون من هذا حاله مهتدياً على الحقيقة؟ كلا إنما هو عش حمامة؛ عودٌ من غرب وعود من ثمامة، بل غيمٌ حمى الشمس ولم يمطر ولم يكف.

حقيقة الهداية والمهتدي

حقيقة الهداية والمهتدي أيها المهتدي! الهداية تحولٌ جذري؛ مظهريٌ ومخبري، والله ما يجدر بحامل الهداية أن يظهر بمظهرٍ يرده الشرع، فلو خالف حامل الهداية، لكان كل مخالف أشرف منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود كما قيل. أنت للهداية لا للتلبيس ذاك خلق إبليس. أنت للنور لا للظلمة، ربما زلةٍ أهلكت، وعثرةٍ قتلت، وفائت لا يستدرك، لا يبنى على الصلاح إلا صالح، وكل ما بني على الفساد فهو فاسد، ولن يأتي يومٌ فيقول مهتدٍ على الحقيقة لإبليس: رضي الله عنه"! بل نعوذ بالله منه. إذا ما الجرح رمَّ على فساد تبين فيه تفريط الطبيب الهداية ليست كلمةٌ تقال، بل هي حقيقةٌ ذات تكاليف، وأمانةٌ ذات أعباء، وجهادٌ يحتاج إلى صبر، وجهدٌ يحتاج إلى احتمال، وما حقيقةٌ كخيال. الهداية على الحقيقة لا الخيال عبوديةٌ مطلقةٌ لله رب العالمين، والعبد المطلق كما يقول ابن القيم في كلامٍ قيم مضمونه في تصرف: لا تملكه رسوم، ولا تقيده قيود، عمله على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه في سواه، ملبسه ما تهيأ، مأكله ما تيسر، شغله ما أمر به في وقته، مجلسه حيث انتهى وخالياً وجد، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حرٌ مجردٌ، دائرٌ مع الأمر المأمور به حيث دار، يأنس به كل محب، ويستوحش منه كل مبطل؛ كالغيث حيثما وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعةٌ حتى شوكها، حزمٌ مع المخالفين لأمر الله، غضبٌ إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله، ومع الله، واهٍ له ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته! وما أعظم أنسه بالله وفرحه وطمأنينته وسكونه، والله المستعان! وعليه التكلان، ما حقيقةٌ كخيال. هذا دأب المهتدي حقيقةً في السير إلى الله، كلما رفعت له منزلة سار إليها واشتغل بها، حتى تلوح له منزلةٌ أخرى، ولم يزل هذا دأبه حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته بذاته معهم، وفي سمتهم وعلمهم وزيهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين والمحسنين رأيته معهم، وإن رأيت العاكفين الخاشعين المخبتين رأيته معهم: كالليث يسرف في الفعا ل وليس يسرف في الزئير ما حقيقةٌ كخيال. هداية الحقيقة تمثيلٌ للدين في تصريف شئون الحياة، واستخلافٌ للمهتدين في الأرض، وتبديل للخوف بالأمن، وعدٌ واقعٌ ماله من دافع، إنه وعد الله، ووعد الله حق، ولن يخلف الله وعده، قال الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وعدٌ من الله للعصبة المهتدية في كل عصر، وسنةٌ من الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]. إذا لم يكن الغيث هامياً؛ فلا ترج أن يكون النبت نامياً؛ فما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.

قصة للاعتبار بين الحقيقة والخيال

قصة للاعتبار بين الحقيقة والخيال ماذا كان العرب قبل الهداية إلى منهج الله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قد كانوا حفاةً عراةً رعاءً، لا شأن لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء، يتقلبون من شدق الأفعى إلى ناب الأفعوان، حتى إن سابور أحد قادة الفرس كان يقوم بتعذيب الأسرى عن طريق نزع أكتافهم، فنزع أكتاف خمسين ألفاً من تميم وبكرٍ وغيرهم، حتى قالت عجوزٌ عربية وهي ترى ذلك المنظر: إن لهذا قصاصاً ولو بعد حين. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] * {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] ورفع الله شأن الأمة المهتدية حقاً ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا بثلةٍ من مهتديها حقاً يقفون أمام يزدجر يدعونه لخيري الدنيا والآخرة الإسلام، وإلا فالجزية، وإلا فالقتال، فيقول وهو يعرف سابق العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول -وصدق وهو كذوب-: والله ما أعلم قوماً أشقى منكم، ولا أسوأ ذات بينٍ، ولا أقل عدداً منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي، فلا تقومون لهم، فإن كثر عددكم فلا يغرنكم، وإن كان إنما هو الجوع والفقر، فرضنا لكم طعاماً وكسوةً وملكنا عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم. فقال المغيرة رضي الله عنه: دعوني أرد عليه، قالوا: كفءٌ كريم، قال: اختر ولا تكثر، تسلم فتنجو ومن معك، أو الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. إن كنت من ريح فيا ريح اسكني أو كنت من لهبٍ فيا لهب اخمدي قال: أتستقبلني بمثل هذا أيها العبد! قال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك ما استقبلته، قال: أما إنه لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا حاجة لكم عندي، ارجعوا ليس لكم إلا رستم يدفنكم غداً في خنادق القادسية، قالوا: ستعلم ونعلم. ورجعوا وقد دخل الرعب إلى أعماق قلبه، رأى قوماً صيغوا بالهداية الحقة صياغةً جديدة، فليسوا بالعرب الذين يعرفهم من قبل، وطلب من قائدٍ من قادته أن يكر على المسلمين كرة على غرة ليأسر أضعف المسلمين، ليرى هل هم جميعاً على هذا المستوى، فكروا، ورجع المسلمون متحرفين لقتال، فلحقوا بأضعفهم فاختطفوه أسيراً، وعادوا به لقائدهم، فقال له: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ فقال أضعف المسلمين: جئنا نطلب موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم ونساؤكم إلا أن تسلموا، أو تسلِّموا، قال: فإن قتلناكم قبل ذلك؟ قال: موعود الله لمن قتل الجنة، ولمن بقي أرضكم ودياركم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، إنا لعلى يقين! قال: إذاً وضعنا الله بين أيديكم؟! قال: ويحك، بل أعمالكم وضعتكم، وبها الله أسلمكم، لا يغرنك من حولك، إنك لست تحارب الإنس، إنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره. إني وإن كان ردائي خَلِقا قد جعل الله لساني مطلقا فاستشاط غضباً، وأمر بقتله، فقتل رحمه الله، وبدأ الاستعداد، وقربت ساعة الصفر، وأسرجوا لـ رستم فرساً، وقد كان محارباً بارعاً، وخبيراً عسكرياً مجرباً، فقفز قفزةً واحدةً ليستوي على ظهر جواده دون أن يمس الركاب، ثم قال لجنده عن المسلمين: غداً ندقهم، فقال له رجلٌ: إن شاء الله، فرد عليه في كبرياء مقيتةٍ ومجوسيةٍ بغيضةٍ: وإن لم يشأ، إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد، يعني: كسرى، وأخشى أن تكون سنة القرود. له الويل، وبفيه الحجر: فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها وطلع النهار، وبدأت المعركة، ووصلت وحدةٌ من جيش الإسلام إلى حيث يوجد رستم، عثرت على سريره ولم يعثروا عليه فوقه، إذ كان بجوار بغلٍ محملٍ بعدلين من مسك، يستظل بالظل ويشم الرائحة، ويدير المعركة، واقترب رجلٌ من المسلمين من بني تيم؛ هلال التيمي، وهو لا يعلم بوجود رستم، فضرب الحبال التي تشد العدلين إلى ظهر البغل فقطعها، فوقع أحد العدلين على ظهر رستم، وكان ثقيلاً جداً، فأصابه إصابةً بالغة أثرت في فقرةٍ من فقار ظهر رستم، ثم ضرب هلال العدل، يريد أن يعرف ماذا يحوي هذا العدل، فضربه بالسيف، فانبعثت رائحة المسك، فعرف أنه رستم، تسلل رستم هارباً نحو النهر، وعرفه هلال وتوجه نحوه، ورماه رستم بسهمٍ فأصابه في قدمه، وهو يقول له بالفارسية: كما أنت، وأوغل في الهرب وهلال خلفه نحو النهر، ولما رأى أن هلالاً سيدركه، بدأ يتخفف من سلاحه وعدته، فرمى بدرعه، ثم رمى بسيفه، ثم قذف بنفسه في النهر، فلم يدع له هلال فرصة النجاة، إذ اقتحم النهر خلفه، وهو يعوم في الماء لم يشعر إلا وهلال يأخذ برجله يجذبه ويسحبه حتى خرج به إلى البر، ثم ضرب جبينه بالسيف ففلق هامته، وضرب أنفه، وحاله: الآن أدقك يا من كان يتبجح بالأمس بغداً ندقهم. لله دره! وبوركت يمينك، أي هلال ما أثبتك! من ذا يجاريك وأنت السيل والسيل فيه غرقٌ وويل والأرض أحوج لدرء العيش منها إلى جلب الحيا والغيث فسحب جثته حتى رمى بها بين أرجل البغال، ثم صعد على سرير رستم، ونادى بأعلى صوته: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ معشر المسلمين إليَّ، فأطافوا به، ورأوا مصرعه، فكبروا من فوق سريره، وتهدم قلب جيش الفرس، وعمتهم الهزيمة، وبقوا بدون قائد ينظم انسحابهم، فصار همهم النجاة بأنفسهم، ركبهم الذل والهوان، حتى إن الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم، فيأتي حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه المسلم بسلاحه، ويأمر أحدهم بقتل صاحبه، فيفعل كما روى الطبري رحمه الله، ومنهم ثلاثون ألفاً من مغاوريهم -وما فيهم مغوار- قد وطنوا أنفسهم على الموت، فاقترنوا بالسلاسل، وعندما رأوا الهزيمة، تهافتوا في النهر يجر بعضهم بعضاً كالحمر لاقت قسورة، فما أفلت منهم مخبر، ولم تسمع لهم ركزا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 9]. من حاد عن هدي الإله تعنتاً يتبدل الأدنى ويلق الأحقرا والله الذي لا إله إلا هو ما من مرة سارت فيها هذه الأمة على هداية الله على الحقيقة؛ ليكون الدين كله لله، إلا تحقق لها وعد الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] إذا كانت الهداية لمنهج الله سبب استخلاف وتمكين جيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فهي كذلك سببٌ استخلاف وتمكين الطائفة التي هي على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، يقول صاحب مدارج العبودية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف الجيل المؤمن المنتظر وهو يستأصل شأفة اليهود المغضوب عليهم، أحفاد القردة والخنازير، وقتلة الأنبياء؛ لينقذ البلاد والعباد من مكرهم وخبثهم، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهوديٌ خلفي تعال فاقتله}. إن الشجر والحجر لينادي ذلك الجيل: يا مسلم يا عبد الله! وأنا أناديك: يا مسلم يا عبد الله! حقق العبودية لله، وأقم منهج الله يكن لك التمكين والاستخلاف، وعد الله قائم، وشرط الله معروف، من أراد الوعد فليقم الشرط، ومن وفى وفّي له: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] ولكنكم تستعجلون. إن هذا لا يعني -يا معشر المسلمين- أن نبقى دون إعدادٍ وتربية؛ منتظرين ظهور المهدي ونزول عيسى عليه السلام، واليهود يعيشون في أرض المسلمين ينقصونها من أطرافها، ولا يعني أن يستعجل المسلمون موهنين الإعداد والتربية الإيمانية القائمة على تحقيق العبودية، فيؤتى على غراس الإسلام فيستأصل قبل أن يبلغ السعي، بل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} [الأنفال:60] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

أعظم طاعونين أخلاقيين مرت بهما البشرية

أعظم طاعونين أخلاقيين مرت بهما البشرية يا أيها الجيل! إن العالم لم يكد يشهد مذ أن برأه الله على ظهر البسيطة إفساداً عاماً، وطاعوناً أخلاقياً جارفاً إلا مرتين على كثرة ما شهد من الطواعين الجسمانية، كما يقول صاحب الآثار، إحداها في الجاهلية قبل الإسلام، يوم كان العالم فريسةً للأثرة والاستعباد والاستبداد، والفساد والإفساد، يوم كان العقل عبداً للهوى، والفكر عبداً للوهم، والحقيقة للخرافة، والفطرة رهينة الاعتلال والاختلال، ولكن الله تداركهم بالإسلام، وكتابه القرآن، ورسوله الأمين صلى الله وسلم عليه، فما هي سوى فترة حتى أصبح يمرح ويسبح من النعيم في النعيم. وأما الثانية فهي في عهدنا هذا، ولو أننا استشهدنا التاريخ: أيُّ المرتين كانت أشد وأدهى وأمر؛ لقال غير متجانفٍ لإثم: إن شر المرتين الثانية، الآخرة الحاضرة، الشر في الأولى كان من بعض دواعيه الجهل، أما الشر في الثانية، فكل دواعيه العلم، قد كان الشر يعرض على الناس باسمه وفي ثوبه الحقيقي، فأصبح اليوم يعرض باسم الخير وفي ثوب الخير، كان العالم متباعد الأجزاء، وفي تباعد الأجزاء تقليلٌ من بواعث الشر، واليوم أصبح العالم حياً واحداً الشر فيه يسري ويستشري. لابد من حلٍ ومن علاج من غير تطويلٍ ولا لجاج هذا هو داء العالم، والقرآن دواؤه، هذا مرض العالم العضال، والقرآن طبيبه.

داء دواؤه القرآن

داء دواؤه القرآن فيا مشفقاً على العالم انصحه بالعودة إلى القرآن، ويا أهل القرآن لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، ويا أيها المهتدي على الحقيقة العالم في عذاب وعندك توجد الرحمة، العالم في اضطراب وعندك منبع الأمان، العالم في غمة من الشك وعند مشرط اليقين، فهل يجمل بك أن تكون معه خيالاً لا حقيقة وآلاً لا بلال؟ حققوه في وجودكم يتحقق، وتكونوا أطباء، ويكن بكم دواء. يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن أقيموه وهللوا وكبروا فالفجر لاح والديك صاح والعطر عطر الحق فاح ما حقيقةٌ كخيال. أخيراً: أيها الجيل المهتدي على الحقيقة إخواننا في أرض فلسطين، وفي كل صقعٍ مشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، أشلاؤهم للعوافي، فهل نحن من الرحمة والنصرة والولاء مجربون؟ ما كان لمسلم أن يبخل بماله ومهجته في سبيل الله والانتصار لدينه، وهو يعلم أنه قربةٌ إلى الله، ما كان له أن يرضى الدنية في دينه إذا رضيها في دنياه؟ ألا هل أتى عباد الفلس والطين ما حل ببني دينهم في فلسطين؟ يا أهل القرآن! ما زالت التضحية بالأقوال والأهواء متبعة، فالزعامة زعم، والنصر تصفيق، والفضيلة مائعة، والتذكير سطحي، كما قال صاحب الآثار: قد فرقت منا الليوث، وأكثرت فينا الشياة، وضاعت الهوية أو كادت، إن بين جنبي ألماً يتنزى، وإن في جوانحي ناراً تتلظى، وإن بين فكي لساناً سمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وفي ذهني معاني أنحى عليه الهم فتهافتت، وعلى لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت. فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت ما آلٌ كبلال، وما حقيقةٌ كخيال. يا أبناء الإسلام! الصراع عقديٌ أبدي: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] والحل الناجع مواجهتهم بسلاح العقيدة الصحيحة؛ لساناً وسناناً وفعالاً، وحقيقةً لا خيالاً، لاستئصال شرهم، وإبادة خضرائهم؛ جهاداً في سبيل الله في كل ميدان، وما عدا ذلك سرابٌ وصابٌ وعلقمٌ وإذلال. فلكل من رفع علم الجهاد في سبيل الله في الشيشان وفي فلسطين وفي كشمير وفي أندنوسيا، وفي كل بلاد العالمين قد أقدمتم فصمموا، وبدأتم فتمموا، وحذار التراجع؛ فإن اسمه الصحيح الهزيمة، وحذار من التردد، فإنه ثل العزيمة: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. لا يخدعنكم وعد، ولا يزعجنكم وعيد، ولا تلهينكم محادثات؛ فكلها ضياع أوقات، وإطالة ذل، ولقد جربتم ولدغتم من جحرٍ واحدٍ مرات ومرات، هذه هي الحقيقة، من أخبركم بغير هذا فقد غشكم، لا تحسبوه شراً لكم!

لسنا على شيء حتى نقيم القرآن

لسنا على شيء حتى نقيم القرآن ويا أيها المسلمون! إن من العار أن نطلب لهم الحياة ممن يحاول أن يميتهم، ونسأل لهم القوت ممن يجهد بالجوع أن يهلكهم. إن علينا أن نعرف عدونا حق المعرفة من خلال كتاب ربنا، ونتعامل معه بثاقب بصيرة، ولا نأخذ منه ولو من مباحٍ إلا بقدر ما يباح للمضطر من الميتة لإضعافه، والاقتصاد عامل قوة فخذها بقوة، ولنربِّ أنفسنا، ونشد أيدينا على البراءة من عدونا، وبغضهم، والإعداد لهم، فإن أعمالنا ونصرتنا لإخواننا لم تزل إبلاً يوردها سعد، وعواطف لا عضد لها ولا ساعد ولا زند، فلنجرد سيف الحقيقة العقدي من الغمد، فما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال. فوالذي خلق القلوب مضغاً، وبث فيها شعلاً من نور الإيمان؛ لئن عدنا إلى الله، ليعود الله لنا بالنصر كما وعدنا، ولئن غيَّرنا ليغير، حققوا الشرط معشر المسلمين يحقق الله الجزاء {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] نصر الله واقعٌ حال لمن اهتدى بهداية القرآن على الحقيقة لا الخيال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]. يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ضعوا الأساس على صخرةٍ وإلا انهار البناء، يا أهل القرآن! إن لم يكن فعال، فليكن حسن فال، ما حقيقةٌ كخيال. يا أهل القرآن! إنه خلق نبينا صلى الله عليه وسلم، فزينوا القرآن بالفعال، ما حقيقةٌ كخيال، يا أهل القرآن. ما خضب رأسٍ كخضبٍ في بنان يدي وحمرة الفجر ليست حمرة الشفق يا شباب القرآن! أربأ بكم ونفسي بالله أن نكون رواد خيال، ما آلٌ كبلال، وما حقيقةٌ كخيال. يا أهل القرآن! لا يستوي المصباح والإصباح. يا أهل القرآن! القرآن القرآن! القرآن القرآن! عملاً وحسن فال، إنما هي غمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا نافذ التدبير ما شاء يفعلُ ويا هادي النحل إلى بيته. ويا هادي الطفل إلى ثديه، اهدنا بهداية القرآن، واهد بنا ويسر الهدى لنا. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، ويا حي يا قيوم، يا قوي يا عزيز، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، يا ذا العزة التي لا تضام، والركن الذي لا يرام نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر إخواننا في فلسطين وكشمير والشيشان وأندنوسيا، وفي جميع بلاد العالمين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتول أمرهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء يا سميع الدعاء، اللهم اشدد وطأتك على عدوهم، اللهم أحص عدوهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم اغفر لعلماء المسلمين، اللهم عوض على الأمة خيراً في علمائها، اللهم اجعل في الأمة من يخلف من ذهب، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

من أسباب تخلف المسلمين

من أسباب تخلف المسلمين يوم نقلب صفحات ماضينا المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم؛ نأسى ونتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا. فقد كنا قادة الركب وأصبحنا في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب. ولهذه المشكلة أسباب وآثار ولها حلول. فلتجتنب الأسباب، وليعمل بالحلول عسى الله أن يرفع ما بنا.

حسرات على أحوال المسلمين اليوم

حسرات على أحوال المسلمين اليوم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أني مطيلٌ فاصبروا واحتسبوا، وأسأل الله الإعانة لي ولكم، واسألوا وسائلوا: سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا واليوم: اسألوا التاريخ عنا كيف صرنا نحن أصبحنا مثالاً تبعيا سامنا الأعداء ذلاً ومهاناً نال ذاك الشيخ منا والصبيا أيكون المثل اليوم لينين وشارون وريغان الشقيا أنسيتم الصديق والفاروق وذا النورين والصحب الرضيا خاب من يستبدل الخير بشر يا من أنادي يا أخيا إخوتي إن أخانا رافع التوحيد أما من سواه فعديا وإن كان اسمه سعدا رضيا يوم نقلب صفحات الماضي المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم يوم يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يوم نقلب ونتدبر ونتأمل؛ نأسى ونتحسر، نتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا مع نظرنا لماضينا. نتحسر يوم نجد البون شاسعاً والفرق هائلاً، نتحسر يوم كانت هذه الأمة تهابها فارس والروم، ثم أصبحت غثاءً كغثاء السيل. نتحسر يوم كنا سادةً قادةً، ثم أصبحنا غوغاء أتباعاً. نتحسر يوم صار عددنا ألف مليون مسلم، ثم لا قيمة لهم، ولا وزن، دماء الكلاب أغلى من دمائهم هذه الأيام. نتحسر يوم نسمع بين الناس أخبار السافلين تملؤ الساحات ولا نسمع شيئاً عن أخبار المسلمين. نتحسر يوم يقذف بالمئات كل يوم في ساحات الوغى من المسلمين، والأعداء بنا يتربصون ونحن ساهون لاعبون لاهون. نتحسر يوم يرفع الناس أبطالاً على ساحات الوغى الخضر يلعبون ويقتلون أوقاتهم ويضيعون شبابهم وزهرة أعمارهم، ونتحسر اليوم أن الأبطال الحقيقيين في ساحات الوغى الحمر لا أحد يعلم عنهم، أو يقيم لهم وزناً، جراحٌ على صلبين كل يوم جديد يُنكأ الجرح الذي نكاد ننساه فيجمع من جديد، تلك جراحات الإسلام المحارب في كل أصقاع المعمورة، يتجمع عليه الكفر وأهله، يحاربون الإسلام وأهله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج:8]. نتحسر يوم تجد الحيوانات من يناصرها ويؤيدها وينشئ لها الجمعيات التي ترفق بها والمسلمون لا يجدون من يعزيهم في شهدائهم في كل مكان ومآسيهم وجراحاتهم في كل زمان ومكان، بالمئات يموتون يومياً تهراق دماؤهم وتملأ السدود والأنهار، لم تبق بقعةٌ إلا ارتوت بدمائهم، نتحسر ونقول: هل سأل عنها أحد؟ هل قبض على جرحها أحد فداواه؟ هل على الأقل بكينا لأجلها، ولأجل ما يحل بها؟ نتحسر يوم تكون دماء شهدائنا رخيصةً في كل مكان لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بفنانين ولا أصحاب قوميات ولا وطنيات، وطنهم لا إله إلا الله، وفنهم سبحان الله، وغناؤهم الله أكبر. نتحسر يوم يرقد مليار مسلم لا يسمعون أنةً ولا صدىً لوقوع الأجساد على تراب فلسطين وأفغانستان، لم يرحم أحد أشلاءهم الممزقة، ولم يرحم أحد أطفالهم الرضع وشيوخهم الركع، لم يرحم أحد ثكالاهم اللائي ما فارقت الدموع مآقيهن، لكن يرحمهم أرحم الراحمين. لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ نتحسر ونتألم، ونقول: متى ينزاح السواد الحالك من الذلة والمسكنة، والتبعية المخيمة على هذه الأمة؟ متى ينزاح سواد الخنوع والركوع لغير الله جل وعلا؟ متى ينبري خالد وصلاح الدين والقعقاع، فيحرروا المسلمين من عبودية اليهود والنصارى والشيوعيين؟ متى يكون الأمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتدعو مطمئنةً دون خوف ترصُّد أو ترقُّب؟ لا يكون والله حتى نرى في نفوس المجرمين العلمانيين الذين يسرقون خيرات الأمة، ويدبرون لها المكائد في الظلام ما تقر به عيون الموحدين: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20]. متى نحيي في قلوبنا سورة (الأنفال) و (براءة) و (آل عمران) لننسف المنافقين والكافرين نسفاً {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] لا إله إلا الله! ماذا دهى هذه الأمة ماذا أصابها؟ يوم ننظر لواقعها ونتذكر ماضيها يعصرنا الألم والأسى والحسرة، لا يملك الإنسان إلا أن يقول: أواه أواه لو تجدي أواه! أزماتنا متكررة ونحتاج لعودة للماضي وما تذكرناه إلا ذبنا ألماً. إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه بالله سل خلف بحر الروم من عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا سل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدةٍ منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه نذوب حزناً، ونقول ونتساءل: لم تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ لم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التخلف والتأخر والانحطاط؟ لم نحن الآن في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب، وقد كنا قادة الركب فيما مضى؟ فلنبحث عن الأسباب علنا أن نشخص الداء ونجد الدواء، والله المستعان!

أسباب تخلف المسلمين

أسباب تخلف المسلمين

فصل الدين عن الدولة

فصل الدين عن الدولة أعظم سبب يا عباد الله لتخلف المسلمين الآن هو: جعل الدين في المسجد لا صلة له بالدولة ولا الحياة، بمعنى: لا يُحكم البشر بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والبشر قاصر وعاجز، وبهذا يحل ما حل من المصائب. وكل يوم نرى للدين نازلة يا أمة الحق لا سمعٌ ولا بصر يزداد الألم يوم نسمع كثيراً من المنتمين لهذا الدين ينادون بفصل الدين عن الدولة، أي: بالعلمنة، أي: بالجاهلية مع أن أهل الجاهلية أنفسهم يئنون تحت وطأتها، هاهو أحد رؤساء الدول الغربية في انتخاباته الرئاسية يرفع الإنجيل، ويقول: آن الأوان لعودة حكم الدولة بالدين، لا إله إلا الله! رجلٌ منحرفٌ يقول هذا! والمسلمون بسخرية وسذاجة يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ونقول: الكل لله، والملك لله، والأمر لله، ولا إله إلا الله! كثيرٌ من المسلمين لا يعون ولا يدركون خطورة هذا الأمر، خطرٌ داهم، وشرٌ قائم، ومع ذلك فالمسلمون في غالبهم الآن يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، لا يخضعون لحكم الله. وسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير أن من تخلى عن حكم الله؛ تخلى الله عنه، ثم لا يبالي في أي وادٍ هلك، أفغير دين الله يبغون؟! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].

الهزيمة النفسية

الهزيمة النفسية وسبب آخر وهو هزيمتنا النفسية، هزيمتنا أمام عدونا سببٌ لتخلفنا وانحطاطنا، لأن هذا الداء ما تسلط على أمةٍ إلا ساقها إلى الفناء والزوال والسقوط، سُئل علي رضي الله عنه ذلك الشجاع المقدام: يا أمير المؤمنين! إذا هجمت على عدوك نجد أنك تكبر تكبيرةً تنخلع لها القلوب، فلم؟ قال: [[إني أفعل ذلك لأني أقدم على عدوي وأنا موقنٌ بأني سأقتله، عندي من الثقة بالله ثم بنفسي ما يجعلني أثق بقتله، وهو لديه ثقةٌ بأني سأقتله، فأكون أنا ونفسه عليه، فكيف ينتصر؟]] الهزيمة النفسية أشد من السرطان على الأمة، والأمة والله قد أصيبت بها، وما دخل علينا الأعداء إلا يوم أصبنا بالهزيمة النفسية، أصبح لدى كثيرٍ من المسلمين قناعة أنه لن يُهزم أعداؤنا أبداً؛ مع أنه -ويا للأسف- من أمة تُنصر بالرعب مسيرة شهر كما أخبر بذلك نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، لكن متى تُنصر بالرعب؟ إذا تمسكَتْ بهدي محمد صلى الله عليه وسلم. وسبب تخلفنا سببٌ واحد نشأت عنه أسباب كثيرة لما حل بأمتنا اليوم من تجرع لكئوس الذل والهوان، وعامل نتج عنه عوامل كثيرة ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه ومن أسباب تخلفنا: إعجابنا بالغرب، واعتباره القدوة الصالحة، إعجاباً يبينه ويظهره البعض ويبيته البعض الآخر ويخفيه، حتى وصل الإعجاب بنا بالغرب أن أصبح الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثيرٌ من شباب المسلمين، أصبحنا نبحث عن العلم في بلاد الغرب، وبعضنا يدرس الشريعة في بلاد الغرب، ولا إله إلا الله! يشعر البعض منا بنقصٍ إذا قال أحمل شهادةً من بلد إسلامي، لكنه يرفع رأسه إذا حمل شهادة من بلاد أوروبا والغرب كله. وصل الهوان بنا أنه لو تبرع لاعب نصراني لأحدنا (بفانيلة) لاعتبرها كنزاً لا يفنى، ووالله إنها لمهزلة ما بعدها مهزلة ومأساة ما بعدها مأساة إن رضينا بذلك، فهي العقوبة لا تبقي ولا تذر. بفحش وقلة حياء يتسابق شبابنا لتوقيع ورقة تذكار من لاعب نصرانيٍ كافر، ويعتبرون هذا التوقيع أجل من مخطوطات المسلمين جميعها، ثم نرجو النجاة أواه! أي فحشٍ مظل وعن فساد القوم نم أي خيبة هبطت لها هذه الأقوام والأمم إعجابنا بالغرب طغى على الأولاد، لو اشتهر منهم رجلٌ برذيلة، يقلَّد عندنا بعد ساعات، يسأل أحد الشباب: ما مثلك الأعلى؟ فيقول: مارادونا؛ وهو لاعبٌ كافر، والفتيات من مثلهن الأعلى؟ إنها ديانا، لا إله إلا الله حقائق تنطق بإعجابنا بالغرب، وهواننا على الله يا أحفاد محمد بن عبد الله! يا أمة الإسلام! أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم

إفساد بعض المسلمين

إفساد بعض المسلمين ومن أسباب تخلفنا وانحطاطنا وتأخرنا وهواننا: الإفساد من البعض في الإصلاح والتطور وعدم الأخذ على أيديهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] قدوتهم فرعون يوم يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ولا إله إلا الله باسم الإصلاح انتُزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية! باسم التطور ضاعت جامعات من أعرق جامعات العالم الإسلامي! باسم التطور تنتهك حرمات الله! باسم التطور يضرب بأوامر الله عرض الحائط! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]. عباد الله: الأعداء متفرقون متشتتون بطبعهم، ذاك قول الله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] لكنهم مع تفرقهم يجتمعون علينا ويتفقون جميعاً على ضرب الإسلام، وعلى ما يهيننا ويذلنا، ونحن نختلف في كل شيء إلا في الولاء لهم إلا من عصم الله، هذا يلجأ لذاك، وذاك يلجأ لهذا، وما لجأنا إلى الله، ناسين أو متناسين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحصل التأخر والتخلف من أمة مسلمة، ووالله لن ترتفع وتعزَّ الأمة إلا بما عزَّ به أسلافها. بعضنا ذهب إلى أوروبا وجاء لينشر ما تعلمه هناك على أنها مُثل لا تقبل النقاش والجدل، فالأمر ما أمروا والعلم ما ذكروا، يقول أحدهم: علينا أن نلحق بـ فرنسا حتى في لباسنا، ومنهم من تولى مناصب قيادية في الأمة المسلمة، فقادوا المسلمين إلى الهاوية، قادوهم إلى التأخر والتقهقر والتدهور باسم التطور، وهم يعيشون بيننا الآن ويتكلمون بلغتنا، أسماؤهم محمد وعبد الله، والله منهم براء {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]. في قومنا من يدعي صدق الهوى ودم الهوى في عرقه يتخثر

ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين

ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين من أسباب تخلف المسلمين: ضعف القدوة لدى طلبة العلم والعلماء والقادة، لم يعد كثيرٌ من هؤلاء أهلاً للاقتداء بهم، ولذلك اقتدى الناس بالمنحرفين، وحمَّلوا الأمة الهوان والذل. يا معشر القراء يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد ومن أسباب تخلفنا: خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم، أصبحوا عملاء للشرق والغرب، فخانوا الله والرسول وأماناتهم، فحسيبهم الله الذي لا إله إلا هو.

تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات

تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات وجماع هذه الأسباب، بل من أعظم هذه الأسباب التي أدت إلى التأخر والتخلف: نشوء العصبيات والقوميات والوطنيات، والإقليميات. تعلمون -أيها الإخوة- أن العرب أمةٌ مشتتةٌ مفرقة حتى جاء الإسلام فجمعها، فهل اجتمعت تحت لواء قريش؟ لا. هل اجتمعت تحت لواء الأوس أو الخزرج؟ لا. إنما جمعتهم ووحَّدتهم لا إله إلا الله، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] دان الشرق والغرب كله لهذه الكلمة، وأهان ذلك الأعداء، فرأوا أن أحسن طريقٍ لبُعدنا عن ديننا نشوء العصبيات، فأنشئوا القوميات، ثم جاءوا بالوطنيات، ثم جاءوا بالإقليميات حتى أصبح أهل الوطن الواحد يتفرقون إلى شيع وأحزاب، ولا زال ينحدر كثير من الناس في هذا الطريق، ذبحونا بعشق الوطن والكلمات المائعة عن الوطن حتى قال قائلهم: بلادك قدِّمها على كل ملةٍ ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُم وقال الآخر: وطني لو شغلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! ما أكرمك! أيُقدَّم الوطن على الجنة؟! إنها الوطن الذي نسعى إليه، لكنه ليس لها بأهل، ولن يكون الأول والآخر ممن يتكلم بهذا، وطننا وأرضنا وسماؤنا وهواؤنا وتنفسنا هو: لا إله إلا الله، من عمل بمقتضاها فهو أخٌ حميم ولو كان عبداً حبشياً، ومن رفضها فهو عدوٌ لدودٌ ولو كان حراً قرشياً. أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد عباد الله: والجبن والخوف والهلع وحب الدنيا وكراهية الموت وترك الجهاد أدت بنا إلى ما نحن فيه من التخلف والانحطاط. هذه -يا عبد الله- بعض أسباب الضعف والانحطاط التي حلت بالمسلمين، وغرزت فيهم الهزيمة التي استطاع الشاعر أن يعبر عنها بقوله: كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه

آثار تخلف المسلمين

آثار تخلف المسلمين

انحراف في الفكر

انحراف في الفكر عرفنا أسباب التخلف والتأخر، فما الآثار التي نتجت عن هذا التأخر والتخلف؟ لا إله إلا الله ما أعظم الآثار! لكن قلوبنا غلف، نتج عن ذلك انحراف في الفكر، يتمثل في الإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة -وما الحداثيون منا ببعيد- وفساد بعض المناهج في البلاد الإسلامية، وخللٌ اجتماعيٌ اعترى الأسر حتى صارت أوضاع الأسر مؤلمة محزنة، ولو ذهبنا لمراكز التربية الاجتماعية أو المحافل لوجدنا ما يدمي القلوب من المشاكل الاجتماعية. المرأة استخدمت سلاحاً فتاكاً للقضاء على القيم والمثل، استغلها أعداؤنا استغلالاً بشعاً، الإسلام صانها وأكرمها، وفي عصرنا لا دين، ولا حمية، ولا غيرة، وجهوا لها السهام، واستغلوها أبشع استغلال؛ أكثر من ستين مجلة على غلاف كل واحدة منها امرأة، هذا ما يرى، وما يمنع دخوله كثير وكثير، استخدمت المرأة للدعاية حتى على الحراثات -استخدمت صورة المرأة مع الحراثة للدعاية- فيا سبحان اللهَ! هل في الحراثة جمال؟ لا. وهل في المرأة قوة؟ لا. إذاً ليس الهدف جمالاً ولا قوةً، ولكنه استغلالٌ بشعٌ للمرأة باسم المدنية لتحقيق مخططاتهم وأغراضهم، ونجحوا في ذلك. أوضاع كثيرٍ من نسائنا مؤلمة، ضعيفات كُذِب عليهن فصدقن وطبقن فكانت الكارثة، وكان الخلل، وهو من آثار التخلف والانحطاط. أين القوامة يا رجال؟! أمانةٌ شرفٌ أليس لكم إباءٌ يذكر وفي المقابل انحراف كثيرٍ من الشباب يوم يذهبون لبلاد العهر والكفر ليقضوا أوقاتهم على كأس وغانية، ويموت بعضهم في أحضان باغية، ماذا دهانا؟! إنه أثرٌ من آثار تخلفنا وانحطاطنا. وقليلٌ -يا عباد الله- في هذا العالم من يعمل بنظام الاقتصاد الإسلامي، ما عرفنا الرأسمالية والشيوعية إلا بعد تدهورنا وتخلفنا، أين تستثمر أموال الأمة المسلمة يا عباد الله؟ إنها تستثمر في بلاد النصارى. إن مشروعاتنا تقوم بها شركات شرقية أو غربية، إن أرصدتها عند أعدائها، لو سحبت أرصدة المسلمين من أوروبا وأمريكا لانهارت بعد ساعات، لأنهم يشتغلون بأموال الأمة، وذلك منشؤه التخلف والتأخر ولا تيئسوا. ستظل طائفةٌ على إيمانها منصورة تبني الكيان الأكبرا يا أمة الإسلام وجهك لم يزل بالرغم من هول الشدائد مسفرا

ذلة المسلمين في كل مكان

ذلة المسلمين في كل مكان من آثار تخلفنا: أن المسلم لم يصبح كما كان، كان مهاباً عزيزاً كريماً، وأصبح ذليلاً مهاناً، يُتَنَدَّر عليه ويُسْخَر منه، بل أصبح رمز السخرية والضعف والهزيمة، يقول ولا يفعل، بل يفعل عكس ما يقول. قومٌ يثيرون الكلام قنابلاً فليشتك مما نقول المنبر نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا لنا، لأننا لم نخف الله ولم نطعه، ولم نحفظه، فتحولنا من سادة وقادة إلى ما يسمى بالعالم الثالث والعالم النامي، وسمانا بذلك من؟ أعداؤنا، ونرددها ببلاهةٍ وهوانٍ وضعف، هانوا على الله فأذلهم، ولو عزوا عليه لعصمهم وأعزهم. يئس الناس وقنطوا، وتبلدت أحاسيسهم بمشكلات الأمة، وانشغل كل فرد بمستقبله عن مستقبل أمته، همُّ الواحد أن يملك بيتاً وزوجةً ومالاً ورغيفاً، ولا إله إلا الله ما أرخصها من أمنية! أين أمنية التحرير لبلاد المسلمين؟ أين أمنية للمخرج مما نحن فيه؟ أين أمنية لرفع راية الجهاد وإعلاء كلمة الله؟ عباد الله: هذه بعض أسباب وآثار تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، فعودة عودة إلى الله أيها المسلمون! إن كلامنا هذا منطلق مما نراه ونشاهده من إعراضٍ وتيهٍ رغم كل الأحداث، ورغم إحاطة البلاء بالأمة، ورغم حاجتنا الملحة إلى الله، فعودةً وتوبةً وأوبةً إلى الله، صحوةً منظَّمةً، فضحاً فضحاً لأعداء الأمة، وإبطالاً إبطالاً لكيدهم، ونصراً لله تنصروا. يا أمتي أصبحتِ في دائرة مستحكمة ما بين إلحادٍ له أطماعه المقتسمة وبين بعثٍ ظالمٍ يحني ظهور الظلمة يا أمتي لا تخدعي بالشفة المبتسمة أخشى على أمتنا من فتنة محتدمة أقسمت بالله الذي أسدى علينا نعمه لن يدفع الشر الذي صب علينا حممه إلا يقينٌ صادقٌ إخلاصنا فيه سمة نطلب فيه النصر من ذي القوة المنتقمة. اللهم ارفع ما بالمسلمين من بلاءٍ وخورٍ وتأخر، اللهم ارفع ما بهم من ضعفٍ وهوان، اللهم أعد للإسلام والمسلمين عزهم وقوتهم ومجدهم إنك على كل شيءٍ قدير، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حلول مشكلة تخلف المسلمين

حلول مشكلة تخلف المسلمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: عباد الله: تتوالى على المسلمين النكبات والهزائم، وستظل تتوالى ما بقي المسلمون على حالهم من حربهم لله ولرسول الله وتركهم الجهاد في سبيل الله {ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا} وما انتصر المسلمون الأوائل بالعدد ولا بالعدة، ولكن انتصروا بالله، فلنراجع صلتنا بالله ونحن نعيش في هذا الزمن العصيب الدقيق، الذي فيه: دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجعٌ ولا أثرُ والقدس في قيدها حسناء قد سلبت عيونها في عذاب الصمت تنتظرُ سل الملايين من أبناء أمتنا كم ذُبحوا وبأيدي خائنٍ نُشروا سلوا بلاداً من الأفغان ما برحت دماؤنا في ثراها بعدُ تستعرُ وسائل الليل والأفلاك ما فعلت جحافل الحق لما جاءها الخبرُ هل جُهزت لحياض الدين أبنيةٌ هل في العراق ونجدٍ جلجل الغُيُرُ هل قام مليون مهديٍ لنصرتها؟ هل قامت الناس؟ هل أودى بها الضجرُ هل أجهشت في بيوت الله عاكفةً كل القبائل والأحياء والأسرُ آمالنا من صلاح الدين يعتقنا وقد تكالب في استعدادنا الغجرُ يا أمة الحق إنا رغم محنتنا إيماننا ثابتٌ بالله نصطبرُ غداً بين يدي الجبار سيسألكم الله حكاماً وشعوباً ماذا عملتم تجاه دينكم؟ ما دوركم في عز هذا الدين بعد أن تخلف المسلمون وانحطوا اليوم عن دينهم وبعدوا؟ إن الدور عظيم، والمواقف المنتظرة منكم هي المواقف المنتظرة من رجال الأمن. ما العلاج لما نحن فيه؟

العودة الصادقة إلى الإسلام

العودة الصادقة إلى الإسلام إن العلاج لتخلفنا نحن المسلمين يتمثل في عودةٍ صادقةٍ إلى الإسلام، وتحكيمٍ لشرع الله، فوالله لا حياة، ولا عز، ولا فخر إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شرع الله في أرض الله، ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

التربية الجهادية

التربية الجهادية وعليكم بالتربية الجهادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لنتساءل: هل ربينا أبناءنا على حب الجهاد؟ هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله؟ لا والله، تركنا الجهاد، وأخذنا وراء الدنيا نلهث ونركض، فحل بنا ما حل من تأخر وتخلف وفساد: [[لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها]] وبمَ صَلُح أولها؟ بالجهاد في سبيل الله. أعداؤنا يحيكون المؤامرات، ونخشى أن يقضوا علينا بين عشيةٍ وضحاها، أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، فأين المهرب؟ أين المفر يا عباد الله؟ ففروا إلى الله، وعودوا إلى الله، وربوا الشباب على الرجولة، شبابنا في غالبهم مائعٌ ضائع لا يتحمل لسعة الهواء، ولا ضربة الشمس، هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم؟ في ملعب من الملاعب يجتمع أكثر من ثلاثين ألف متفرج لمشاهدة مباراة، ويتساءل المسلم لو نادى منادي الجهاد: حي على الجهاد! كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي إبليس فأجابوه. والله لئن بقي شبابنا على أساليب تربيتهم الآن، فهي الكارثة، فلا تلوموا إلا أنفسكم: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].

وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجتمع كلمة المسلمين، وليلتف الشباب حول العلماء وطلبة العلم، ولتُصْلَح المناهج والوسائل، ولننصح ولنأمر ولننه لا نخشى إلا الله، أطالبكم: من رأى منكراً في صحيفة، أو جهاز، فليكتب إلى المسئولين، لا نستكين ولا نلين، فكلٌ منا على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك يا عبد الله! ثم لنهتم بالأسرة: {فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته {وما من راعٍ استرعاه الله رعية، فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} القائد مسئول، والأب مسئول، والكل مسئول، والأم مسئولة، والأم مسئوليتها تعظم وتعظم هذه الأيام، نريد أماً صادقة تضحي في سبيل دينها بكل شيء، لا في سبيل ما يريد أعداؤها منها من غزوٍ في أزيائها، وخروجٍ بها إلى الشوارع سافرة، وتضييعٍ لبناتها مع السائقين والخدم. والأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ والأم مدرسةٌ إذا أفسدتها أفسدت شعباً طيب الأعراقِ نريد أماً قدوتها عائشة وحفصة وخديجة وزينب، ونعم القدوة هن، انتبهوا لنسائكم يا عباد الله! أصابهن الداء، والبعض منا لا يدري. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ تخلينا عن قيادتنا في بيوتنا، تركناها لآلات اللهو والخدم، وأصبح الأب يمارس بطل مسرحية الضياع في بيته، النار فيه تلتهب وهو جالس لا يحس أين العقول؟ أما لديكم حكمةٌ؟ أين القلوب، أما تحس وتشعرُ؟ لابد من وقاية المجتمع، لابد من تطهيره إن أردنا العزة والمنعة والمجد، والإسلام عزيزٌ بدونكم، محفوظٌ بدونكم، واعلموا أنه باقٍ ما بقي الليل والنهار ومهما تطاولت الأيدي، ومهما كثر الأذناب والخونة والمجرمون والمنافقون الذين يملأ الجبن قلوبهم، لا يقاتلون مبارزة، بل يطعنون من الخلف، ويتقنعون بالإسلام والإسلام منهم براء، نحن نقول هذا: والله لا نخاف على الإسلام بقدر خوفنا عليكم -أيها المسلمون- أن يتزعزع إيمانكم ويصل اليأس إليكم فتتزلزل قلوبكم، أو يصيب الوهن عزائمكم، لأنكم ترون الخذلان يجتمع عليكم من كل صوب، وترون شراسة العدو وخيانة الصديق، لكن اعلموا أن الكفر كله تجمع يوم الأحزاب يريد القضاء على دين الله، فخاب وخسر {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] وما ظن المؤمنون بالله إلا خيراً {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]. الله أكبر! انظر أخي المسلم وأنت تعيش الفتنة كيف إيمان هؤلاء؟ وكيف تعلقهم بالله؟ كيف كانت عاقبتهم يوم تجمع الأحزاب عليهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] والذين ظاهروهم ماذا عمل فيهم؟ {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:26 - 27]. يا عباد الله: ألا لا يداخلنكم ريبٌ في ذلك ولا شك، فما ترونه اليوم من علو للباطل، فإنما هو سرابٌ خادع وابتلاءٌ من الله، والله أغير منا على دينه وهو حكيمٌ عليم غير غافلٍ عما يعمل الظالمون، لكن كل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ويمحق الكافرين، فالكفر ذليل مهما حاول كسب العزة: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]. نحن والله لا نقول هذا الكلام تيئيساً، فإننا والله نعلم أن العاقبة للمتقين، لكن حزننا اليوم على أنفسنا أن لم نكن أهلاً لحمل راية الله، ولا لحمل صفات المتقين. حزننا على غفلتنا عن عقيدتنا وعن إخوةٍ لنا في كل مكان لا نسمع أنينهم ولا نواسيهم، حزننا وخشيتنا أن يستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا، حزننا أننا على اللهو عاكفون والسُّخف، وأعداؤنا يخططون ويدبرون ويمكرون، والله خير الماكرين. أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم وكسا ثوب عزةٍ كل من بالهدى اعتصم ورمى مدمن الضلال بسوطٍ من النقم إن قنعنا بسُخطنا وركنا إلى النعم فخطا الخصم ماضيات من القدس للحرم عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بها من انحطاط وذل وهوان، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأهلك الطغاة والمجرمين والمنافقين، وأرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، نجعلك اللهم في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوءٍ، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا أكرم الأكرمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منا وما بطن، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين. اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

أبو بكر الصديق 2،1

أبو بكر الصديق 2،1 الوقوف على أخبار رجال الإسلام الأعلام يمثل نقطة البداية لسلوك طريقهم واقتفاء آثارهم. وعند الوقوف على شخصية كشخصية أبي بكر الصديق يستشعر المرء أنه أمام عملاقٍ عظيم ورعاً وتقوى، علماً وعملاً، تضحية وفداء. ولعل ذلك هو ما أهله ليكون ثاني اثنين إذ هما في الغار، وليكون بعد ذلك أول خليفة للمسلمين، ولقد سجل لنا التاريخ مواقف رائعة لهذا الرجل العظيم. هذا ما احتوته هذه المحاضرة، وفي آخرها نبذة عن عمر بن الخطاب، وفضائله.

رجال الإسلام وأهمية الوقوف على أخبارهم

رجال الإسلام وأهمية الوقوف على أخبارهم الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرف بحكمته وقدر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحظر، فأحل وحرم وأباح وحظر، وابتلاه في بداية النبوة بمداراة من كفر، فدخل دار الأرقم فاكتسى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كـ أبي بكر وعمر، فصلوات الله عليه وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر، صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتثان المطر، وهدلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليماً كثيراً على سيد البشر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من جمع التقى حباً في ذكر الله، وحيا الله قلوباً أقبلت تئرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تعز فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات، اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، ووصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجل المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن الختام. صور وعبر: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111]. اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا أيها الأحبة في الله! إن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الخلق بعد رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن من أمة وجدت على وجه الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضيء الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة أخبارهم وسيرهم، ونشرها بين المسلمين عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع، لماذا؟ لأنهم نقلوا الإسلام إلينا نقلاً صحيحاً؛ ولأن المحافظة على الإسلام تستوجب العناية بتاريخهم، لئلا يجد أعداء الإسلام سبيلاً للطعن في الإسلام عن طريق الطعن في نقلته. ولما كان الأمر كذلك دعت الحاجة إلى تبيين فضائلهم؛ ليكون ذلك ردعاً للموتورين الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وأسقطوا عدالتهم كي يهدموا الإسلام من قواعده وأنى لهم ذلك؟ لكنهم قوم لا يفقهون!! كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ولعل ديننا القويم قد تميز عمن سبقه من الأديان بمعجزة تتجدد في كل وقت وآن، ألا وهي معجزة الرجال الذين عاشوا حياتهم للإسلام فلم يعرفوا للراحة طعماً، ولم يعرف الخمول إلى نفوسهم طريقاً، فكانوا حركة مشبوبة لا تهدأ ولا تفتر ولا تكلُّ ولا تملُّ، لا يهمها من الحياة مالٌ أو متاع، ولا تشغلها دون غايتها زخارف الدنيا وبهجتها، وحدوا همتهم في إرضاء الله، محقوا من بواطنهم كل نية تشوبها الشوائب فكانوا خالصين لله، فأكرمهم بأن جعلهم من معجزات نبيه الكريم، ليثبتوا للدنيا كلها أن دين الله تام كامل، وأن شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون والظالمون والفاسقون. إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فمنهم مثال يحتذى، ونبراس يقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه. بالوقوف على أخبار هؤلاء الأخيار تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة سيرهم ومناقبهم تحيا القلوب، وبمعرفة مناقبهم تحصل السعادة، وبمعرفة مناقبهم تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال، فهيا أيها الجمع الكريم إلى الصور ذات العبر، ولست مدعياً ولست زاعماً أني سأبين العبرة من كل صورة، بل إن البعض منها سيسرد سرداً تتبين فيه العبرة من خلال الصورة، فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

أبو بكر الصديق أول خطيب في الإسلام

أبو بكر الصديق أول خطيب في الإسلام فإلى صورة رجل من أولئك الأخيار، رجل عظيم القدر رفيع المنزلة، عَبَدَ الله متأسياً برسول الله، وجاهد في الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، بخسوه حقه، وهضموه منزلته، ولم يقدروه قدره، بعض أجيالنا يعرف عن مغنية أو ممثلة أو تافهٍ رخيص أو ساقط أو ساقطة أكثر مما يعرفون عن هذا العلم، تجاهله لا أقول حتى العامة بل تجاهله الخطباء والوعاظ والكتاب، ربما لأنه عظيم بجوار من هو أعظم، وكريم بجوار من هو أكرم، فطغت عظمة صاحبه وقدره ومنزلته على عظمته وقدره ومنزلته. إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه أول من آمن من الرجال على الصحيح، إنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه، إنه الورع الحيي، الحازم الرحيم، التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر عنه أنه شرب خمراً قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل برباً قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، كان شبيهاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم به من شبه، رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، إنه من لا يخفى عليكم، ولا على مثلكم من المؤمنين، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه. إنه من دعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر إلى الإسلام وما تلبث وما تلعثم، وما كان لأصحاب الفطر السليمة أن يتلبثوا عن خير دعوا إليه، وكيف يتلبث وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه، وكرم خلقه، علم عدم كذبه على الخلق فكيف يكذب صلى الله عليه وسلم على الخالق، إذ كان لسان حال أبي بكر رضي الله عنه يوم دعي إلى الله من جانب رسول الله: ما جربت عليك كذبا. أما لسان مقاله: فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فتمتد يده إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فتكون أول يد تمتد إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحسبي وحسبكم هذه الليلة أن نقف مع بعض صور من حياة هذا العلم، وقفة تذكر وتدبر وعظة وعبرة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن منهج أبي بكر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، لنعلم أنه يوم توارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة. وجدير إذا الليوث تولت أن تلي ساحها جموع الثعالب .

صورة من معاناة الصديق في سبيل الدين

صورة من معاناة الصديق في سبيل الدين الصورة الأولى: قال الصديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله، علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله سبحانه وتعالى، اسمع إلى ابن كثير في سيرته يوم يقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور وعدم الاختفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيباً في الناس -فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مسقوفتين، ثم يجثو على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه رضي الله عنه وأرضاه. وجاء بنو تيم قوم أبي بكر، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـ أبي بكر، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه. أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل: أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم. فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل: هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله. همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا. أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم. بشرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا

دور الصديق في الدعوة إلى الإسلام

دور الصديق في الدعوة إلى الإسلام صورة أخرى: عَلِمَ أبو بكر أن من أول مقتضيات لا إله إلا الله الدعوة إليها، فالدعوة ليست وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي وظيفة الأمة في مجموعها. علم ذلك أبو بكر فخرج من عند نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، خرج وهمه نصرة هذا الدين ونشره في العالمين، خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود فبم عاد أبو بكر؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقاً مبلغاً فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد. فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة الزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين. أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء! قد يعيش الإنسان منا ستين عاماً أو سبعين عاماً أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلاً واحداً، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب. حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا صهيله غير أنا ما امتطيناه فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لـ أبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك، فـ {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

دور الصديق في نصرة المستضعفين من المسلمين

دور الصديق في نصرة المستضعفين من المسلمين صور أخرى: تلفت أبو بكر وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام، وهويته ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه فلم يستبق في نفسه بقية، استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين قد صب عليهم طغاة الكفر وصناديد الشركة وسدنة الوثنية سوء العذاب، حبسوهم، جوعوهم، عطشوهم، عذبوهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أنَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار. في السيرة لـ ابن كثير يقول ابن عباس: إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106]. الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة. يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـ مكة - توضع على صدره ثم يقول له أمية: لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول: أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً بنار شوقي إلى الأفياء والغرف وقد أمر على الدنيا وسادتها من الطغاة مروراً ليس بالجيف أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـ أبي بكر، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح. يقول أمية: يا أبا بكر! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر: [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]]. إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة و p=1000071> النسية وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة. ويأتي المنافقون: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79] {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـ بلال عنده، أي: لمعروف كان لـ بلال عنده. وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21] أي متاع يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟! أي زخرف يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟! أي دنيا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟! لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟! من الذي وعده بالرضى؟ إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].

أعلى درجات التصديق والثقة

أعلى درجات التصديق والثقة صورة أخرى: ويسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى في ليلة، ويعود في الصباح ليخبر الخبر وهو الصادق صلى الله عليه وسلم، ويطير الخبر في مكة، ويسري سريان النار في الهشيم، ويكذب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويضطرب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لـ أبي بكر يريدون أن يزعزعوا عقيدته، يريدون أن يهزوا إيمانه، فيخبرونه الخبر وهم على ثقة أنه لن يصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بعدها وسيرتد عن دينه. فما موقف هذا الرجل؟ وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة التي حددت منهج الإيمان في حياته: [[إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتي بالخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، أفلا أصدقه الآن]] أو كما قال، وانظروا إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بـ الصديق. أيها الأحبة في الله! لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق.

دور الصديق وأسرته في الهجرة

دور الصديق وأسرته في الهجرة صورة أخرى: لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته بالهجرة إلى المدينة، تجهز أبو بكر يريد أن يكون الأول في كل شيء، يسابق إلى الخيرات، واتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن بالهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم له: {لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً} يدخره رسول الله صلى الله عليه وسلم لحدث ومنزلة لا يتكرر عبر تاريخ الحياة كلها، فقام بإعداد الرواحل، وقام يعلفها من ورق التمر استعداداً للهجرة، وكان من عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة وعشياً، قالت عائشة: {وبينما نحن جلوسٌ يوماً في نحر الظهيرة، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبداً، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس على سرير أبي بكر وقال: اخرج من عندك يا أبا بكر! قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: فإن الله قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة يا أبا بكر! قالت عائشة: والله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذٍ من الفرح} أخرجه البخاري. يا لله! هل يبكي فرحاً بمنصب؟! هل يبكي فرحاً بمال؟! بجاه؟! بوظيفة؟! لا والله الذي لا إله إلا هو إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن. فما لجرح إذا أرضاكم ألم. أولئك حزب الله آساد دينه بهم عصب الطاغوت تشقى وتعطب أولئك أنصار النبي ورهطه لهم يتناهى كل فخر وينسب أولئك أقوام إذا ما ذكرتهم جرت عبرات العين حراً تصبب جزى الله خيراً شيخ تيم وجنده فراياته في الخير والبر تضرب

صور وعبر في الطريق إلى الغار

صور وعبر في الطريق إلى الغار وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى غار ثور، وفي حديث الهجرة صور أي صور، وعبر أي عبر، حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل أبو بكر قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركاً الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة. ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: {والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله. وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي -: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا بكر! لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها} وضوح في الرؤية وفهم وذكاء وتلك سمات المؤمن. ويصلان إلى الغار، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.

صور من تضحيات أبناء أبي بكر

صور من تضحيات أبناء أبي بكر يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها -لطمه الله بنار تلظى- ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك. فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر. أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك. تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم. ولذا كان لـ أبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر}. تلك المكارم لا صعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار، ووصل المشركون إلى الغار، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية. وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـ جابر وعائشة، أو رجالاً وفتيات كـ أسماء وعبد الله، ليؤدي كل واحد دوره. ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر: [[والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر]] يقصد ليلة الغار، إذ هو: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]]. إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.

رسالة هذه الأمة

رسالة هذه الأمة إننا أمة رسالة ولا شك، وحين نتخلى عنها تتنزل بنا المحن والمصائب والنكبات، ورسالة أمتنا في الحياة هي الدعوة إلى الله عز وجل على المنهج الصحيح الصادق، والله عز وجل قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدعوة إلى الله، ونحن أمناء الله على رسالته، ونحن مستخلفون لتبليغ منهج الله، ونحن مكلفون بقيادة البشرية وفي ظل عدالتنا يعبد الله، وفي ظل حضارتنا يكرم الإنسان في أرض الله، وكل وضع يجعل قيادة البشرية لغير الأمة المسلمة فهو وضع نشاز طارئ تضج منه الأرض والسماء، ويأثم المسلمون حتى يعيدوا القيادة لهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فأنتم أمة رسالة، بل أنتم شهود الله في أرضه، فأين الشهادة على البشرية؟! أين حملنا لمنهج الدعوة إلى الله؟! أصبحت الدعوة إلى الله وظيفة أفراد قلائل، ليست وظيفة الأمة في مجموعها ومجملها، أصبحت وظيفة عالم أو داعية، أو موظف في الدعوة، فأين نحن من التكليف الرباني: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]؟ ألست من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! ألست ترضى بالسير على خطى محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن كنت كذلك فلا بد لك أن يكون لك من دعوته نصيب {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].

بيان منزلة الصديق

بيان منزلة الصدِّيق صورة أخرى: في الترمذي بسند حسن أن عمر رضي الله عنه قال: {ندب النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة ذات يوم، فوافق ذلك مال عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً من الدهر، قال: فجئت بنصف مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله} وكانوا أهل صدق، لا يعرفون التباهي بغير الحق، ولا يعرفون الالتواء، كانوا أصفياء أتقياء أنقياء رضي الله عنهم {ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بكل ماله لم يُبْقِ قليلاً ولا كثيراً، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: فقلت في نفسي: لا أسابقك في شيء بعد اليوم أبداً} أيقن عمر واقتنع عمر بأن المرتبة الأولى وأن المركز الأول أصبح محجوزاً لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ولا شك، فلينافس فيما بعد ذلك المركز. في الفضائل للإمام أحمد بسند صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة التي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: وددت يا رسول الله! أني معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي}. صور عجيبة وحقيقة بالتأمل يا أيها الأحبة، أبو بكر ينفق كل ماله، وعمر نصف ماله، وعثمان ينفق حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وأبو ضمضم لم يجد ما ينفق، فتصدق بعرضه على المسلمين، فسامح كل من سبه وشتمه وآذاه. من منا أيها الأحبة يلقى الله وقد أنفق عشر ماله مرة واحدة في حياته في سبيل الله ومآسي المسلمين في كل مكان، وجراحات المسلمين في كل مكان، شباب المسلمين صاخب باسم الشهوة فلا يجدون من يعينهم على إعفاف أنفسهم، بيوت تصاب بالتخمة وأخرى بجوارها تصاب بالضعف والهزال، مسلم ينام على الحرير وجاره ينام على الكراتين، فأين الشعور بالجسد الواحد يا أيها المسلمون؟! القرآن للصدقة يندبنا، والسنة تندبنا، وحال المجتمع يندبنا، وفيض المال من فضل الله سبحانه وتعالى بأيدينا يندبنا، من منا يلقى الله وفي صحيفة عمله أنه تصدق بعشر ماله مرة واحدة في حياته؟! يا أحفاد أبي بكر! ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي! سيروا كما ساروا لتجنوا ماجنوا لا يحصد الحب سوى الزراع وتيقظوا فالسيل قد بلغ الزبى يا أيها النومى على الأمطاع واسترجعوا ما فات من أمجادكم ما دمتم في مهلة استرجاع يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع صورة أخرى: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: {كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل أبي بكر آخذاً طرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فلم رآه صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم فقد غامر -معنى ذلك: أنه وقع في هول وخطر- فأقبل حتى سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله! إن كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه -أي: أخطأت عليه- ثم إني ندمت على ما كان مني، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر! يغفر الله لك يا أبا بكر! ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يغفر له، فخرج يبحث عنه حتى أتى منزل أبي بكر فسأل، هل ثم أبو بكر؟ فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وقال: يا رسول الله كنت أظلم، كنت أظلم، مرتين يقول: أنا أظلم له، أنا البادئ بذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة أبي بكر وفضل أبي بكر: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي لي فهل أنتم تاركو لي صاحبي}. عن ربيعة الأسلمي بسند صحيح كما في الفضائل للإمام أحمد، قال: {كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت: هي في نصيبي، وقال أبو بكر: هي في نصيبي، فكان بيني وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم عليها، ثم قال: يا ربيعة! ردَّ علي مثلها حتى يكون ذلك قصاصاً، قلت: ما أنا بفاعل، قال أبو بكر: لتردنها أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من قومي أسلم، فقالوا: رحم الله أبا بكر، بأي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال ما قال، فيقول ربيعة وقد عرف منزلة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: اسكتوا هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار، هذا ذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة. وانطلق أبو بكر وتبعته، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: فحدثه الحديث، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا ربيعة! مالك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله! قال كلمة كرهها وطلب مني أن أقتص، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل فلا ترد على أبي بكر، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر يبكي}. أيها الأحبة! قفوا وتأملوا كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر، ويأبى إلا القصاص منه، فيا لله! ماذا يقول الفاحشون؟! ماذا يقول اللعانون؟! ماذا يقول الطعانون؟! ماذا يقول المغتابون؟! ماذا يقول النمامون؟! ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين؟! ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة لكنهم ولغوا في أعراض خواص المسلمين وهم العلماء، ثم يَدَّعون أنهم على منهج أبي بكر وعمر وسلف المؤمنين؟! وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا رويداً على علمائنا أيها الأحبة، رفقاً بورثة الأنبياء، حسن ظن بالعلماء، معرفة لحق العلماء، احتراماً وتوقيراً وتقديراً للعلماء، علماؤنا هم زهرة الدنيا ومشعل نورها في دربنا المتعثر، أنفسنا لأنفس العلماء فداء، وأعراضنا لأعراضهم مطاء. أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

دروس من صلح الحديبية

دروس من صلح الحديبية صورة أخرى: في صلح الحديبية صعب على المسلمين تلكم الشروط التي تدولت في ذلك الصلح، كما أورد ذلك ابن إسحاق في السيرة وكما هو في الصحيح. وكان من هذه الشروط: إن جاء من قبل المشركين مسلماً رد عليهم، عندها قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلماً، وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، فضرب أبوه وجهه وأخذ بتلابيبه -أبوه سهيل مشرك- وضرب وجهه، وقال: يا محمد! هذا أول من أقاضيك عليه أن ترده، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نكتب الكتاب بعد، قال: فوالله لا أصالحك على شيء أبداً. فوافق صلى الله عليه وسلم على رجوع أبي جندل إلى المشركين، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين! أورد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت، وقد عذب في ذات الله عذاباً شديداً، فازداد الناس غماً على غم، وهماً على هم، ثم قال صلى الله عليه وسلم -كما روي- لـ أبي جندل: {يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً إنا قد أعطيناهم عهد الله ولن نغدر بهم} لم يتحمل عمر الموقف، رأى أن الموقف موقف ذلة، وما أدرك تحت وطأة غضبه أن رسول الله نبي يوحى إليه، وأن ذلك الصلح فتح من الله مبين، لكن العباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد، لم يستبن له الأمر فأبى إلا أن يعلن عن نفسه عمر حتى يجد الحق الذي يوجد بهما بكبده. فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قال عمر: أولست كنت تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به} أخرجه البخاري. ثم أتى عمر أبا بكر رضي الله عنه، فقال: [[أوليس رسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أولسنا على الحق؟ أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد استحق أن يكون الصديق، قال: يا عمر! إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، الزم غرزه حتى تموت فوالله إنه على الحق، أشهد أنه رسول الله، فيقول عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، يقول عمر: والله ما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق مخافة محاورتي واعتراضي على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم]] وفي صحيح البخاري يقول: [[ولقد عملت والله لذلك أعمالاً]] أي: أعمالاً صالحة عظاماً.

عبر من صلح الحديبية

عبر من صلح الحديبية أحبتي في الله: ليس الهدنة أو الصلح عن ضعف كما يظن، بل هي من موطن القوة، بل هي من الند للند، من كانوا يختفون بإسلامهم أصبحوا يفاوضون، حاول كفار قريش أن يثنوهم عن دخول مكة بالإرهاب والتخويف، ثم وجدوا أنفسهم مرغمين مسوقين إلى المفاوضات، إنها لانتصار في حد ذاته، وإنه ليدل على عظمة القيادة النبوية التي هي أسوتنا وقدوتنا التي تسيطر على الموقف، وتواجه كل طارئ بما يناسبه، إنها لتدل على عظمة الصف المسلم الذي بدأ أمام عدوه في أعلى مستوى من الانضباط والطاعة والاستعداد للفداء، وإن حصل ما يحصل من المواقف التي تستثير النفوس، كموقف أبي جندل.

لكي نكون قاعدة صلبة

لكي نكون قاعدة صلبة إننا نحن الدعاة إلى الله، ونحن طلبة العلم اليوم مدعوون إلى أخذ أنفسنا بالتربية النبوية، واتهام آرائنا أمام النصوص، مدعوون إلى أن نجاهد أنفسنا حتى نقترب من هذه القدوات السامقة السامية، لنكون قاعدة صلبة منضبطة تحارب حين يحارب وليها الصالح، وتسالم حين يسالم، طاعة في المعروف في اليسر والعسر والمنشط والمكره، عندها نؤهل للدعوة إلى الله، ثم للتمكين في الأرض، ونحقق موعود الله بنصره وتأييده {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

مواقف الصديق بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم

مواقف الصديق بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم صورة أخرى: في يوم الإثنين من ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة وفي ضحى ذلك اليوم، فاضت أطهر روح في الدنيا من أشرف جسد، في ضحى ذلك اليوم خرج أكرم إنسان في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها، لم يترك مالاً ولا متاعاً، وإنما ترك هداية وإيماناً وشريعة خالدة، ما تعاقب الليل والنهار، وترك أمة هي خير الأمم ما تمسكت بنهجه وطريقته، وشاع الخبر في المدينة كأفجع ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة، وضجت بالبكاء، وأغلقت القلوب بحزنها، وذرفت العيون بدمعها، وليس لعين لم يفض ماؤها عذر، ضاقت على المسلمين أنفسهم، وتبدلت الأرض فما هي بالأرض التي يعرفون، يقول أنس: [[ما رأيت يوماً كان أحسن من يوم دخل فيه علينا المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، لقد أضاء منها كل شيء، وما رأيت يوماً أظلم من يوم مات فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم]]. أما فاطمة رضي الله عنها، فكانت تقول: [[أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، ثم تقول بعد دفنه: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!]] فلا والله ما تسمع بعدها إلا النشيج والنحيب، ولسان حال أنس ما طابت والله ولن تطيب، ولكنه امتثال لأمر الحبيب، والله ما دفن حتى أنكرنا أنفسنا. أما الفاروق فأذهله الخبر عن صوابه، فصار يتوعد وينذر ويشهر السيف ويقول: [[ما مات لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن، وليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا أنه مات]]. ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيدخل المسجد، فلم يكلم أحداً حتى دخل على عائشة، ميمماً وجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىً ببرد، فيكشف عن وجهه الشريف، ثم يكب عليه يقبله ويبكي ويقول: [[بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً]]. ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: [[اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر، فقال أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]]] يقول ابن عباس: [[والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس فلا أسمع بشراً إلا يتلوها]]. أما عمر فيقول كما في صحيح البخاري: [[والله ما أن سمعت أبا بكر يتلوها حتى هويت إلى الأرض ما تقلني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]] ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع نبيه وحبيبه، وذلك موقف الصحابة جميعهم، والله لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة ما كان لـ أبي بكر أن يقفه، معذورون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الخطب جسيم والمصيبة عظيمة، قد كان صلى الله عليه وسلم كل شيء لهم في حياتهم، كان حاكمهم وحبيبهم وأباهم وأخاهم وقائدهم ومربيهم ومنقذهم وهاديهم، فقدوا ذلك كله في ساعة من نهار. فليهنأ الصديق إذ اختص بذلك الموقف، ومعه لم يكن يضعف وهو اللين الرقيق البكَّاء الحنون، إنه الإيمان الذي وقر في قلبه فصدقه حياً وميتاً، قال في حياته: [[إن كان قال فقد صدق]] وقال بعد موته بلسان حاله: إن كان مات فقد بلغ وصدق، ولا ننسى موقف الصحابة ووقوفهم عند كتاب الله، يوم سمعوا الآية من فم أبي بكر رضي الله عنه، صدقوا وآمنوا وثبتوا وأيقنوا، كيف لا وهم خير القرون، بل هم تربية محمد صلى الله عليه وسلم.

بعض وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم

بعض وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم أحبتي في الله: إن مصاب الأمة بفقد النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدله مصاب، فمن أصابته مصيبة فليتعزَّ بمصيبته في فقد النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ما لنا من عزاء إلا أن نمضي على نهجه وشرعته، فهي حية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن نتذكر عند ذكر موته وصاياه جميعها، ونخص منها وصاياه الثمينة الأخيرة، وأعظمها خشيته صلى الله عليه وسلم على أمته أن تنصرف عن عبادة الله إلى عبادته هو صلى الله عليه وسلم، أو إلى عبادة غيره، فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تتخذوا قبري وثناً يعبد} يريد لنا سلامة العقيدة، وتخرج ثمرة هذه الوصية واقعاً مطبقاً في قول أبي بكر -ولما يدفن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد-: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]] فإلى دعاة الأموات من دون الله، وإلى رواد الأرض حيث يرجون منها كشف الكربات، وإلى المستغيثين حتى برسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة} فهلا وعينا هذه الوصايا من صاحبها القائل: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}، كان شغله الشاغل صلى الله عليه وسلم سلامة الصف الذي لا يمكن أن يسلم إلا بسلامة العقيدة، فلا بد أن يبقى عند الدعاة إلى الله في الأرض هم هاتين القضيتين: سلامة العقيدة يتبعها بالتالي سلامة الصف، ولعل آخر نظرة ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في فجر يوم وفاته قد أثلجت صدره، وهو يرى أمته صفاً واحداً وراء أبي بكر يصلي بهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى غبطته بوحدة أمته وراء أبي بكر رضي الله عنه. وتذهب اللحظات، وما يطلع فجر اليوم الثاني إلا والمسلمون قد جعلوا الصديق خليفة لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون نموذجاً فريداً من خريجي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فيا له من نموذج! ويالها من لحظتين متضادتين! لحظة وداع مؤثرة تمزق الأكباد والقلوب، ولحظة أخرى هي لحظة تولي الصديق أمر الأمة، التي أثلج الله بها صدور المؤمنين يوم ولى عليها خيرها، فله الحمد والمنة أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.

الخطاب الأول لأبي بكر

الخطاب الأول لأبي بكر صعد المنبر ليلقي أول خطاب على الأمة، فجالت في نفس الصديق خواطر، وجرت على ذهنه أمور، ذكره المنبر بصاحب المنبر صلى الله عليه وسلم، تذكر حبيبه وتذكر صاحبه وتذكر معلمه، فانصدع باكياً وكفكف دموعه، وأعلن مبدأه العظيم في كلماته القليلة، التي لا تحتاج إلى تعليق، وإنما جدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً، جدير بالمدرس في مدرسته، والموظف في وظيفته، والرجل في أهله، وكل من ولي من أمر الأمة قليلاً أو كثيراً أن يتأمل هذا الكلمات، كلمات الصديق التي يقول فيها كما في تاريخ ابن كثير بإسناد صحيح: [[أيها الناس! إني وقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم]] دستور عظيم فما القوي قوي رغم عزته عند الخصومة والصديق قاضيها وما الضعيف ضعيف بعد حجته وإن تخاصم واليها وراعيها

إنفاذ الصديق لجيش أسامة

إنفاذ الصديق لجيش أسامة بدأ أبو بكر خلافته بتطبيق ذلك المنهج الذي أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ ببعث جيش أسامة، وكان صلى الله عليه وسلم قد عقد اللواء لـ أسامة وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، أمر الجيش بالتوجه إلى الشام في وقتٍ ارتدت فيه بعض قبائل العرب، وعظم الخطب، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم وكثرة عدوهم، فأشار الناس على الصديق ألا يبعث جيش أسامة، وأن يؤجل ذلك، ومن جملة من أشار بذلك عمر، فوثب أبو بكر وثبة الأسد، وأبى أشد الإباء، وقال: [[والذي نفسي بيده لا أحل عقدة عقدها رسول الله، والذي لا إله إلا هو لو ظننت أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، أو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشاً وجهه رسول الله، وما حللت لواءً عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري لأنفذته]] لسان حاله أفأطيع رسول الله حياً وأعصيه ميتاً؟! فيا للحزم ويا للاتباع! أسدٌ يقدم في ذاك الوغى رحمة الله على ذاك الأسد استعرض الجيش، وأمرهم بالخروج رغم الأعداء، ورغم إحاطة الأعداء بموطن الدعوة والرسالة، ومع ذلك يخرج طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ من تكريمه لـ أسامة رضي الله عنه أن خرج في توديعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة: [[لتركبن أو لأنزلن -فيعلن أن من تواضع لله رفعه- فيقول أبو بكر: والله لا نزلت ولا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي هاتين ساعة في سبيل الله]] لقد كان أبو بكر مسدداً رشيداً، فإخراجه لجيش أسامة حقق للأمة مصالح عظيمة، فما مر الجيش على حي من أحياء العرب إلا أرعبهم، وأثبت أن الضعف لم يتسرب إلى الأمة بعد وفاة نبيها. تقول قبائل العرب التي ارتدت: ما أخرج أبو بكر الجيش إلا لقوة ومنعة عنده، اتجه أسامة بجيشه إلى البلقاء، ورجع من هناك بعد سبعين يوماً بعد أن قضى على كل من وقف بوجهه من أعداء الإسلام، رجع مظفراً منصوراً، قد انتقم للمسلمين ولأبيه وأرضى ربه ونبيه والمسلمين، وكل ذلك والله ثمرة للاتباع، أطاع أبو بكر ربه بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الرعب في قلوب أعداء الله، فكان النصر الأول على الروم يشهد بعظمة الصديق، وسداد رأيه وصلابة موقفه وحزمه، وكل ذلك ثمرة للاتباع. بمثل هذه المواقف ثبت الصديق أركان الدولة، وعزز هيبة المسلمين. لا تعرضن بذكرنا مع ذكره ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

موقف الصديق من المرتدين

موقف الصديق من المرتدين وترتد كما قلنا بعض قبائل العرب، بعد أن ظنوا أن شوكة الإسلام انكسرت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أبا بكر علم الناس أن الإسلام لا يموت ولا ينتهي، حتى وإن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثقل الأمر على الصديق إذ ارتدت قبائل العرب، ففي وقت من الأوقات لم تقم الجمعة إلا في مكة والمدينة، تقول عائشة: [[نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها لكنه طار بحظها]]، فأعلن الحرب على المرتدين، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه مجتهداً: [[أرفق بهم وتألفهم، كيف تقاتل الناس وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله} إنهم يشهدون أن لا إله إلا الله يا أبا بكر!]] فغضب أبو بكر رضي الله عنه غضبة لله، وقال قولته الشهيرة: [[ثكلتك أمك يـ ابن الخطاب! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك، إنه قد تم الدين، وانقطع الوحي، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كان يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه]]. أيها الأحبة! لقد عامل الصديق مانع الزكاة كالمرتد تماماً، وهذا من فقه أبي بكر رضي الله عنه، فإنكار شريعة من شرائع الإسلام كفر وخروج من الإسلام يستحق صاحبه أن يقاتل، انشرح صدر عمر والمؤمنون لهذا الموقف، فمضى ذلكم الجيل الرباني يلاحق المرتدين في أوكارهم، يدك عروشهم ويفل جيوشهم حتى يعودوا للإسلام أو يلقوا مصارعهم كافرين، وكان له ذلك.

صفحة مضيئة من تاريخ الإسلام

صفحة مضيئة من تاريخ الإسلام أحبتي في الله: أرأيتم إلى الحزم والعزم في تنفيذ أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصديق، إنها والله الكلمات الصادقة التي تخرج من القلوب الصادقة كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على قلوب أولياء الله. والله يا أيها الأحبة إن الإنسان وهو يسمع تلك الكلمات التي سمعتموها من أبي بكر آنفا ليذكره ذلك بصفحة مضيئة من تاريخنا أيضاً، ومن صحابي آخر ألا وهو خالد رضي الله عنه كما في تاريخ ابن كثير، يوم يقول ماهان أحد قادة الروم: قد علمنا ما أخرجكم من بلادكم أيها العرب إلا الجوع، فهلموا نعطي كل واحد منكم عشرة دنانير وارجعوا، فإذا كان كل عام بعثنا لكم مثل ذلك. فقال خالد بعزة المؤمن الذي يثق بنصر الله، والذي أرعب الناس بذلك الدين الذي يحمله في قلبه، قال: [[لا والذي نفس خالد بيده، ما خرجنا لذلك، غير أننا قوم نشرب الدم، وبلغنا أن هنا دم ما أطيب من دم الروم فجئنا لذلك، ولن نرجع حتى نشرب من دمائكم]]، أو كما قال، فألقى الله الرعب في قلوبهم؛ فنصر الله خالداً عليهم. خالد الذي يحاصر بلدة من البلدان أشهراً، فتستعصي عليه هذه المدينة، فيكتب رسالة لقائدها من قلب صادق تخرج الكلمات منه صواعق وقذائف، يقول لذلك القائد الرومي -وهو قائد بلدة قنسرين: [[من خالد بن الوليد إلى قائد الروم في بلدة قنسرين، أما بعد: فأين تذهبون منا، ووالله لو صعدتم إلى السماء لأصعدنا الله إليكم أو لأمطركم علينا]]، فما كان من ذلك الرجل إلا أن رعب وفزع، وألقى الله الرعب في قلبه، فقال: اخرجوا وافتحوا أبواب المدينة لا طاقة لنا بهؤلاء. خالد معركة اليرموك، يقابله فيها الروم وعددهم مائتان وأربعون ألفاً في مقابل أربعون ألفاً مع خالد، ربع مليون نصراني قريبون من قياداتهم ومن مصادر تموينهم ومن كل شيء، وأربعون ألفاً من المسلمين بينهم وبين أرض الخلافة صحار شاسعة يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد. يقال لـ خالد في هذه الظروف الحرجة الحالكة القاسية: ما أكثر الروم! فيقول خالد مغضباً: [[اسكت بل ما أقلهم، إنما يكثر الروم بنصر الله ويقلون بخذلانه، وددت أن الروم أضعفوا لنا العدد، وأن الأشقر برء من وجعه]] والأشقر هو فرسه فقد كان قد أصيب بوجع في حافره، فما أصبح يمشي كما ينبغي، أصبح يضلع وهو يمشي، الله أكبر يا أيها الأحبة! إن الإنسان ليقف أمام هذه، فيقول: قد وقعت هذه؟ نقول: والله لولا النقل الصحيح لما صدقنا ذلك. في عالم القوة المادية المزمن ربع مليون نصراني لا يساوون ضلعاً في رجل فرس خالد رضي الله عنه، لماذا؟ لأنه عَلِمَ عِلْمَ يقين أن الله سينصره، ووالله لا نصر لنا في حياتنا إلا بتطبيق منهج الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، حتى نرى الله سبحانه وتعالى يسير أحداث الكون بقدرته لصالح تحقيق أهداف المؤمنين التي تتمثل في هدف واحد وهو تحقيق العبودية لله في الأرض وحده لا شريك له. انظروا كيف تصبح كلمات أولياء الله قدراً يجري في هذا الكون لا يثبت أمامها شيء بإذن الله، ينطقون بالكلمة فيطوع الله لها كل شيء، فتبلغ مبلغاً عظيماً لا يقدره إلا الله جل وعلا. أحبتي في الله: إن الدين الذي قاتل به خالد وأصحابه رضوان الله عليهم محفوظ غض طري بين أيدينا نقاتل به مدى الحياة متى ما شئنا فننصر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

عوامل انتصار المسلمين في نظر أعدائهم

عوامل انتصار المسلمين في نظر أعدائهم أيها الأحبة في الله! هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت لهم العدو طواف ناقة عند اللقاء، ونحن تحت ضغط الحياة المادية قد نعتبر هذا الكلام خيالاً، لكن حتى الأعداء قد شهدوا بذلك. ها هو هرقل وهو على إنطاكية كما في تاريخ ابن كثير يقول لجنده وقد قدمت الروم منهزمة: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موقف، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: أأصدقك؟ قال: نعم. قال: لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم، أما نحن فنشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال هرقل: لقد صدقتني ولقد أتانا منهم ما لا طاقة لنا به. هكذا كان الجيل الأول من أمة الإسلام، العبرة عندهم بقوة العقيدة لا بكثرة العدد ولا العدة، إذ لا قيمة للسلاح في يد الجبان. شهد الأنام بفضلهم حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء إنهم منهم: عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدوهن رؤياه فما حالنا أيها الإخوة في الله! نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بنعمة منه توقظ قلوبنا، مع الكفار استسلام وضعف وذلة وهزيمة، وبيننا أسود أشاوس، أشداء جلداء. أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر فيا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! ألم يبق أوس آخرون وخزرج ألم يبق للإسلام جيش عرمرم فغاية ما نبلي من الجهد أننا نسب طواغيت اليهود ونشتم إذا اتسموا باللؤم والغدر فالذي يفاوضهم منا أخس وألئم فيا أمة الإسلام إن شئت عزة فإن كتاب الله هاد مقوم وليس لكم شيء سواه يعزكم ويحفظكم من كل سوء ويعصم ومع ما نحن فيه أيها الأحبة! إلا أن هناك بشائر عظيمة، ومع ما نحن فيه فإنا نقول: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج في قمة الظلام يولد النور، ولا تزال طائفة على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، وإني لأرجو الله أن نكون من أهل هذه الطائفة. وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج

وفاة الصديق رضي الله عنه

وفاة الصديق رضي الله عنه صورة أخرى: وحلت سكرات الموت بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقد عهد بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، قائلاً واضعاً دستوراً معيناً: [[إن عدل فذاك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227]]]. جاءته السكرة رضي الله عنه بعد أن قدم للرسالة والرسول والأمة ما قدم، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وقال: حسن غريب: {ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها، إلا أبا بكر فإن له عند الله يداً يكافئه بها يوم القيامة}. ثم يقول أبو بكر وهو في السكرات لابنته عائشة كما في كتاب الخلفاء للذهبي: [[أما إنا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً ولا ديناراً، ولكنا أكلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي]] فما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ خلف عبداً حبشياً، وبعيراً كان يسقي عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، بعثت بها عائشة إلى عمر، فلما جاءته بكى عمر حتى سالت دموعه، ونشج وهو يقول: [[رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، فيقول الصحابة: يا عمر! ردها على عياله فهم أحوج لها، قال عمر: والذي بعث محمداً بالحق نبياً لم يكن ليخرجها عند الموت، وأردها على أهله بعد الموت، ولكن أهله أهلي وعياله عيالي]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا أسلم الروح أبو بكر إلى بارئها، فأسكت فم لطالما جلجل بذكر الله، ودعا إلى الله، وأغمضت عينان لطالما سهرتا وبكتا من خشية الله، واستراحة يدان لطالما دافعتا وجاهدتا مع رسول الله، ودّع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلاً للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي، جاهد في الله حق جهاده طيلة أيام رسول الله، ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك المواقف، في أحد والأحزاب وحنين وجميع المشاهد، ولما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، يوم وسد الأمر إليه لم يحد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر أُنملة. فحقق في سنتين ونيف ما لا يفعل في مئات السنين، والبشر لا تقاس بأعمارها، لكن بهممها وأعمالها، وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فرضي الله عمن خطها وأرضاه، وجزاه الله خير ما جزى خليفة عن رعيته، بل عن أمته المسلمة إلى يوم القيامة، قد حفظ الله به الدين، وأعز به الحق المبين، ونصر به الإسلام والمسلمين. أيها المسلمون! أولئك آباؤنا وهاهم أجدادنا فمن نحن؟ أبواب أجدادنا منقوشة ذهباً وهاهياكلنا قد أصبحت خشباً من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وبعضنا اليوم من أعدائنا شرباً إني أبشر هذا الكون أجمعه أنّا صحونا لنبني للعلا عجباً بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضباً عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنباً أنتم كهم، ومن يشابه أَبَهُ فما ظلم. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح لا أريد أن أطيل الحديث بحياة أبي بكر رضي الله عنه، وإن كانت حياته جديرة بأن نطيل فيها الحديث، لكن لعل هذه الإشارات كافية في مثل هذا الحين.

وقفات مع الخليفة عمر بن الخطاب

وقفات مع الخليفة عمر بن الخطاب ونريد أيها المسلمون أن نقف مع صور قلائل من حياة قمة أخرى ألا وهو عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقفة عظة وتدبر؛ علَّ الله أن يوقظ قلوباً غافلة عن منهج أبي بكر وعمر والصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل: أن أم عبد الله بنت حنتمة كانت تستعد للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينها أن تفتن فيه، وإذ بـ عمر يقف عليها وهو لا يزال مشركاً، ويقول في رقة لم تعهد منه: [[إنهم طلاق يا أم عبد الله قالت: نعم، لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا لعل الله أن يجعل لنا فرجاً، فقال عمر في رقة لم أكن أراها منه: صحبكم الله، ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا]]. فجاء زوجها، فقالت: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر الآن ورقته وحزنه علينا لطمعت في إسلامه، فقال زوجها: لا يسلم هذا حتى يسلم حمار آل الخطاب، لما يرى من غلظة عمر وقسوته على المسلمين.

إسلام عمر

إسلام عمر القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يهدي الله لنوره من يشاء، فلا يأس ولا تواني ولا استعجال ولا قنوط، فهاهو الذي قيل عنه: لا يسلم حتى يسلم حمار آل الخطاب، يسلم بفضل الله، ويعلن إسلامه في وقت كانوا يخفون إسلامهم، ويقول كما يقول لابنه عبد الله بإسناد حسن: [[أيُّ قريش أنقل للحديث؟ -يريد أن ينتقل خبر إسلامه- قيل له: جميل بن معمر -وكان جميل هذا وكالة أنباء- غدا عليه وعبد الله يتبعه ينظر ماذا يفعل، فقال لـ جميل: أما علمت أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد، قال: فوالله ما راجعه جميل، وإنما قام يجر رجليه مسرعاً وعمر يتبعه]]. حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! ألا إن عمر قد صبأ، قال: فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فثاروا عليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه في المسجد حتى قامت الشمس على رءوسهم، فتعب وضعف وأرهق، وهو يقول بعزة المؤمن وهم وقوف على رأسه وهو جالس: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لتركتموها لنا أو لتركناها لكم. فيا لله! من كان يقال فيه: إنه لن يسلم حتى يسلم حمار أهله يصبح اليوم يتحدى الكفر، ويعلن إسلامه في وقت لا زال الناس يخفون إسلامهم خوف الفتنة، إنه أمر الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38]. أخي لا تيأسن والله خالقنا بالصبر في محكم التنزيل أوصانا .

عمر بعد الإسلام

عمر بعد الإسلام ولعلي أقف على صورة أو صورتين وأدع الباقي لتكملته في محاضرة أخرى، يقول صهيب: [[لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعونا له علانية وجلسنا حول البيت وطفنا]] فرضي الله عن عمر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}. هو الوقاف عند كتاب الله، هو المجاهد المجالد مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، هو الشديد في الحق، ثم هو المستشار لـ أبي بكر رضي الله عنه، ثم هو من ولي الخلافة بعد أبي بكر؛ فنشر دين الله في الأرض وعدل وفتح الله على يديه فتوحات عظيمة، أزيلت في عهده دول، شَرَّق الإسلام في عهده وغَرَّب، لم يكد يمضي وقت حتى صار الإسلام بلغ غالب الأرض، فامتدت دولة الإسلام من الشرق إلى الغرب، واهتزت عروش كسرى وقيصر، بل وسقطت على يدي عمر فرضي الله عن عمر. يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه ونظرة أيها الأحبة يجيلها المرء اليوم على الحاضر بعد تذكر هذا الماضي، وهذه الصورة المضيئة، فلا يملك إلا أن يقول: إني أرى ناراً أعد هشيمها وثقابها لكنها لم توقد عام وآخر مقبل ومودع لم نعتبر وكأننا لم نشهد ولقد تشابهت السنون كأنني ما عشت عمري غير عام مفرد ما حيلة العصفور قصوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غرد أين الذي نظم الجيوش من الذي نظم الكلام قلائداً من عسجد قد كان همهم الفتوح وهمنا أن نغتدي أو نرتوي أو نرتدي ومع هذا فإننا متفائلون؛ لأن العاقبة للمتقين، والضربات توقظ النائمين، وظننا بالله حسن. وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما روى ذلك الإمام أحمد في الفضائل بسند حسن: [[لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله جل وعلا، والله لو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـ عمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيء حتى العضى]] إن إسلامه كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وسلطانه كان رحمة، فرضي الله عنه ورحمه، ولي ولكم موعد مع صور أخرى من حياة هذا العلم وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التأسي والاقتداء بأعلام الأمة

التأسي والاقتداء بأعلام الأمة هذه صور موجزة من أحداث حياة علمين جليلين من أعلام هذه الأمة هي غيضٌ من فيض وقطر من بحر، والصور ذات العبر من حياتهما والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن إدراكها في مثل هذه العجالة من الزمان، ولا يستطيع والله لتنفيذها من البيان، لأنا أقل وأذل من أن أقف على كل صورة لهذين العلمين. لكني أقول: ما هي المناهج التي خرجت مثل هذه النماذج؟ وما هي الثقافة التي نهلوا منها؟ وما هي التربية والتوجيه الذي جعلهم يقومون بهذا الدور؟ إن المناهج التعليمية والتربوية والثقافية التي خرجت هؤلاء لا زالت بين أيدينا، وتحت أسماعنا وأبصارنا، ما أجدرنا نحن المسلمين رجالاً ونساء شيباً وشباباً أن نقف على هذه المناهج وقفة الضنين على الثروة الرائعة، والظمآن على الماء البارد، لنعد وننهل ونقذف ونتذكر ونذكر. ما أجدرنا أن نقف على صور هؤلاء العظماء لنتخذها نبراساً نسير على ضوئه بتربية أنفسنا وأبنائنا، وتنشئة جيل مؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بصلاحية هذا الدين وهذا المنهج لكل زمان ومكان، جيل يضحي بكل شيء في سبيل سيادة دينه، لا يثنيه عن هذه الغاية الشريفة بلاء ولا إيذاء ولا طمع ولا إغراء، لسنا نريد الوقوف على هذه الصور لتكون حصيلة علمية نتشدق بها في المحافل والنوادي، ونتفيهق بها في المساجد لنحظى بالثناء وننتزع من السامعين مظاهر الإعجاب. لا والله: إننا نريد أن تكون هذه الأحداث الصادقة من تاريخنا مدرسة نتخرج منها كما تخرج أولئك السادة الأولون، لنكون مثلاً صادقة لهم في إيمانهم وعلمهم وعملهم وأخلاقهم وسلوكهم وقياداتهم حتى يعتز بنا الإسلام كما اعتز بهم، وما ذلك على الله بعزيز. وإنا لنرجو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع والخير في هذه الأمة أولها وآخرها. اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، يا من دبر الظهور، وقدر الأمور، وعلم هواجس الصدور، يا من عز فارتفع وذل كل شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أعظم العطية، تجيب المضطر وتكشف الضر وتغفر الذنب وتقبل التوب لا إله إلا أنت، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا عظيم المن، يا كريم الصفح، يا سامع كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا رافع كل بلوى، يا من عليه يتوكل المتوكلون، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك أن ترحم هذه الأمة رحمة عامة، تعز فيها أولياءك وتذل أعداءك، وتجعل كلمتك العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، اللهم أدم ودها واهدها واهدِ بها ويسر الهدى لها، اللهم ولِّ عليها خيارها. اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا. اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله. صورة تظهر فهل لها من معتبر يهدى بها من حيرة الخذلان لم آت فيها من جديد محدث غير اختيار اللفظ يا إخواني فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان يا رب لا تجعل جزائي سمعة تسري على البلدان والأكوان أهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله في الأكوان سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أختاه هل تريدين السعادة

أختاه هل تريدين السعادة إن المرأة المسلمة التي تبحث عن السعادة الحقيقية، الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة؛ عليها أن تعلم أن السعادة ليست هي تلك التي يدعيها ثعالب المسلمين من المنافقين والعلمانيين، ولا التي يروج لها دعاة الغرب والحاقدون، من النصارى واليهود المتهتكين، ولكنها في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتزام هديه وأوامره والانزجار بزواجره ونهيه.

أنواع السعادة

أنواع السعادة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذه الروضة أن يجعلنا ممن تتنزل عليه الرحمة، وتغشاه السكينة، وتحفُّه الملائكة، ويذكره الله عز وجل فيمن عنده. اللهم إنا نسألك ألا تصرفنا -رجالنا والنساء- من هذا المسجد إلا وقد غفرت لنا ما تقدم من ذنوبنا، اللهم لا تعذب جمعاً الْتقى فيك ولك، اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب أعيناً ترجو لذة النظر إلى وجهك، اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقائك. ما أجمل أن تلتقي الأسر المسلمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ما أجمل أن نتذاكر الله عز وجل جميعاً ليعم النفع للرجل والمرأة، والصغير والكبير، والذكر والأنثى! إنها لَنعمة عظيمة كان صلى الله عليه وسلم يفعلها، وذاك من هديِه، وخير الهدي هديُه صلى الله عليه وسلم. وعذراً لكم أيها الرجال! سيكون الخطاب هذه المرة من بين مرات كثيرة وكثيرة -لطالما خوطبتم أنتم- للنساء، فعذراً وعفواً، وما يُقال للرجل يُقال للمرأة، وما يُقال للمرأة يُقال للرجل إلا فيما اختص به كل جنس عن جنس آخر، والذي خصَّه به شرعنا المطهر الذي أُنِزَل على محمد صلى الله عليه وسلم. أيتها الأخوات أيتها الأمهات! هل تُردْن السعادة؟ هل تُردْن السكينة؟ هل تُردْن الأمن والطمأنينة؟ هل تُردْن ذلك في الدنيا والآخرة؟ أم تُردْنها في وقت غير وقت من هذه الأوقات؟

السعادة الدنيوية

السعادة الدنيوية إنني لأقول لَكنَّ: إن السعادة سعادتان: دنيوية مؤقَّتة بعمر قصير محدود: من طلبها مجردة وحدها فسينسى ذلك في غمسة واحدة يُغمسها في جهنم، يُؤتَى بأَنعَم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مرَّ بك خير قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! فينسى كل نعيم ولذة في الحياة بغمسة واحدة يُغمسها في النار، نعوذ بالله من النار.

السعادة الأخروية

السعادة الأخروية أما السعادة الثانية: فهي سعادةٌ أخروية دائمة لا انقطاع لها أبداً: وهذه هي المطلوبة، فلو حصل للإنسان في حياته ما حصل من التعاسة والشقاء لم يكن بعد ذلك نادماً أبداً؛ لأن غمسة واحدة في الجنة تُنسيه تلك الآلام، وتُنسيه ذلك الشقاء وتلك التعاسة. ويا أيها الأحبة! إن سعادة الدنيا مقرونة بسعادة الآخرة، وإنما السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة للمؤمنين والمؤمنات، للصالحين والصالحات، للطيبين والطيبات، للقانتين والقانتات، للعابدين والعابدات، للمتقين والمتقيات؛ اسمع إلى ربك يوم يقول سبحانه وبحمده: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] فالسعادة كلها في طاعة الله، والسعادة كلها في السير على منهج الله وعلى طريقة محمد بن عبد الله صلى وسلم عليه الله، يقول الله جل وعلا: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] والشقاوة كلها في معصية الله، والتعاسة كلها في منهجٍ غير منهج الله وغير منهج محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِيناً} [الأحزاب:36]. فيا أيتها الأخوات المسلمات! هل تُردْن السعادة؟ إن كنتن كذلك، وما أظنكن إلا كذلك. فلتسمعن مني النصيحة والعتاب من مخلصٍ في نصحِكن يرجو لَكُنْ حُسن الثواب يخشى على هذه الوجوه من الحميم من العذاب أخواتنا لا تغضبن فالحق أولى أن يُجاب أيتها الأخت المسلمة! بصوتِ المحب المشفق، وكلام الناصح المنذر، أدعوكِ وأدعو الكل وأدعو نفسي إلى تقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أكفر تم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ} [آل عمران:106 - 107] تبيضُّ وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] ألا هل تُردْن النجاة؟ إن النجاة لفي تقوى الله -جل وعلا- لا غير: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].

مكانة المرأة في الجاهلية

مكانة المرأة في الجاهلية ثم إني أدعوكِ أخرى -يا أخت الإسلام- إلى أن تحمدي الله عز وجل الذي أنعم عليك بنعمة الإيمان، ونعمة القرآن، وكرَّمكِ، وطهَّركِ، ورفع منزلتك أيَّ رفعة، ولم تُرفَع منزلة المرأة تحت أي مظلة مثلما رُفعَت تحت مظلة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ليس هذا فحسب؛ بل أنزل الله فيك وفي أخواتك سورةً كاملة في قرآنه باسم (سورة النساء)، وسورة أخرى باسم (سورة مريم)، وسورةً ثالثة باسم (سورة المجادلة). ليس هذا فحسب؛ بل خصَّك بأحكام عديدة في كتابه الكريم، في حين كانت المرأة قبل هذا الدين سلعة رخيصة سلعة ممتهنه كسقط المتاع، عار على وليها، وعار على أهلها، وعار على مجتمعها الذي تعيش فيه؛ ولذلك تعامل أحياناً كالحشرة، بل تُفضَّل البهائم عليها. لم تنالِ عِزَّكِ إلا في وسط هذا الدين يا أَمَة الله؛ فاستمسكي به، واسمعي إلى قول الله -عز وجل- يوم يحكي ماضياً لابد أن تتذكريه؛ فتحمدي الله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً على ما أنتِ فيه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] بشر أحدهم! لا إله إلا الله، إنه ليئدُها ويقتلها ويدفنها حية أحياناً، فاسمعي يا أمة الله. يُذكر أن صحابياً اسمه عبد الله بن مغفل -رضى الله عنه وأرضاه- كان إذا جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر على وجهه حزن وكآبة -حزن عظيم وكآبة عظيمة- فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب حزنه ذلك الذي لا ينقطع أبداً. فقال: يا رسول الله! كنت في الجاهلية، وخرجت من عند زوجي وهي حامل، وذهبت في سفرٍ طويل لم أعُدْ إلا بعد سنوات، وجئت وإذا بها قد أنجبت لي طفلة تلعب بين الصبيان كأجمل ما يكون الأطفال، قال: فأخذتها، وقلت لأمها: زيِّنيها زيِّنيها! وهي تعلم أني سأئدها وأقتلها، فقامت أمها تزينها وبها من الهمِّ ما بها، زينتها وتقول لأبيها: يا رجل! لا تضيِّع الأمانة، يا رجل! لا تضيِّع الأمانة، قال: ثم أخذتها كأجمل ما يكون الأطفال براءة وجمالاً، فخرجت بها إلى شِعْب من الشعاب، قال: وبقيت في ذلك الشعب أبحث عن بئر أعرفها هناك، فجئت إلى بئر طوية دوية، ليس فيها قطرة ماء، قال: فوقفت على شفير البئر، أنظر إلى تلك الصغيرة، فيرقُّ قلبي لما بها من البراءة وليس لها من ذنب، ثم أتذكر نكاحها وسفاحها؛ فيقسو قلبي عليها، بين هاتين العاطفتين أعيش، قال: ثم استجمعت قواي، فأخذتها، فنكبتها على رأسها في وسط تلك البئر. قال: وبقيت أنتظر هل ماتت؟ وإذا بها تقول: يا أبتاه! ضيعت الأمانة، يا أبتاه! ضيعت الأمانة. ترددها وترددها حتى انقطع صوتها؛ فوالله يا رسول الله! ما ذكرت تلك الحادثة إلا وعلاني الحزن والهم، وتمنيت أن لو كنت نسياً منسياً لو كان ذلك في الإسلام، ثم نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا دموعه تهراق على لحيته صلى الله عليه وسلم، وإذ به يقول -فيما رُوي- {يا عبد الله! والله لو كنت مقيماً الحد على رجل فَعَل فعلاً في الجاهلية لأقمته عليك، لكن الإسلام يَجبُّ ما قبله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وصايا للمرأة المسلمة

وصايا للمرأة المسلمة

العمل بطاعة الله سبحانه

العمل بطاعة الله سبحانه ألا فاحمدي الله -يا أخت الإسلام- الذي هداك لهذا الدين، وشرَّفكِ وأكرمكِ ورفع قدركِ بهذا الدين يوم ضلَّ غيرُك من نساء العالمين، ثم استمسكي بحبل الله جل وعلا، واعتصمي بدين الله عز وجل؛ فإنه الركن إن خانتكِ أركان، ثم أنقذي نفسك من النار، يا أَمَة الله! والله لستِ خيراً من فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال لها أبوها يوماً من الأيام كما في صحيح مسلم: {يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار لا أُغني عنكِ من الله شيئاً} وهذا إخطار لكِ -أمة الله- وإنذار منه صلى الله عليه وسلم، يوم عُرضت عليه النار فرأى أكثرها النساء. ألا فاعلمي أنكِ عرضة لعذاب الله إن لم تخضعي لأوامر الله إن لم تطيعي الله إن لم تقفي عند أوامره وحدوده وتجتنبي نواهيَه. ألا فأنقذي نفسك من النار، واعملي بطاعة الله، ولا تجعلي لكِ رقيباً غير الله -جل وعلا- الذي {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. إنك -والله- لأعجز من أن تطيقي عذاب النار، إن الجبال لو سُيِّرت في النار لذابت من شدة حرِّها؛ فأين أنتِ -أيتها الضعيفة- من الجبال الشمِّ الراسيات {قل مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77]، لا مهرب من الله إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه الكل راجع إليه الكل مسئول بين يديه الكل موقوف بين يديه، الكل سيُسأل عن الصغير والكبير والنقير والقطمير: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92] فماذا عسى يكون الجواب؟! ماذا عسى يكون الجواب يا أخا الإسلام ويا أخت الإسلام؟! ألا فأعدي وأعدَّ للسؤال جواباً، ثم أعدي للجواب صواباً. أطيعي الله يا أمة الله! وأطيعي رسوله صلى الله عليه وسلم، خذي من أوامر الله ما استطعتِ، واجتنبي نواهيَه، وقفي عند حدوده، وتمسكي بدين الله.

الشعور بالمسئولية

الشعور بالمسئولية ثم تمسكي بحيائك -والحياء من الإيمان- ما استطعتِ إلى ذلك سبيلا؛ فإنكِ إمَّا قدوة اليوم، وإما قدوة الغد، وكلٌ سيُسأل؛ فماذا سيكون الجواب؟ أنت راعية في بيتك أَمَة الله، وأنت راعية إن كنتِ معلمة في مدرسة، ومسئولة عن رعيتك أيّاً كانت تلك الرعية -يا أَمَة الله- ألا فلتكوني قدوة حسنة في تربية الجيل، ألا ولتقومي بهذه المسئولية؛ فإن الله سائلكِ عمَّن استرعيت ماذا فعلتِ؟ أَقُمتِ بالأمانة فيهم أم ضيعت الأمانة؛ ليكون لك مثل أجور من اتبعك إن عملت بالحق لا يُنقَص من أجورهم شيء، وإياك ثم إياك! أن تكوني قدوة السوء للأخرى؛ فتأتين يوم القيامة تحملين أوزارك وأوزار من أضللت كاملة، ألا ساء ما تزرين. ألم تسمعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} ثم خصَّك -أيتها المرأة- فقال: {المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها} وفي الحديث الصحيح الآخر: {وما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشّاً لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة}. أنت راعية في مدرستك في بيتك؛ فاللهَ اللهَ لا يأتي يوم القيامة ولكل ابن من أبنائك عليكِ مظلمة، ولكل بنت من بناتك عليكِ مظلمة؛ لم تأمريهم ولم تنهيهم، ولم تربيهم على قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إياكِ أن يأتي يوم القيامة، ولكل طالبة -إن كنت معلمة- عليكِ مظلمة؛ لأنكِ لم تربيهم على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عندها التعامل بالحسنات والسيئات، يأخذون حسناتكِ، ثم تحملين من سيئاتهم، ثم تُطرَحين في النار، أجارَكِ الله من النار ومن غضب الجبار وكل مسلمة ومسلم. اسمعي يوم يقف الناس في عرصات القيامة، يوم يقول الله -كما في الأثر-: {وعزتي وجلالي! لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم} [[يؤخذ بِيَدِ العبد ويؤخذ بِيدِ الأَمَة يوم القيامة -كما يقول ابن مسعود - فيُنادَى على رءوس الخلائق: هذا فلان أو فلانة من كان عليه حق فليأتِ إلى حقِّه، فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أو أخيها أو زوجها أو أمها. ] {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. فاللهَ اللهَ لا يكون أبناؤك وبناتك خُصماءكِ عند الله فتهلكي، أجاركِ الله من الهلاك يا أَمَة الله! يا أيتها الأخت المسلمة.

الاقتداء بالمرأة الصالحة

الاقتداء بالمرأة الصالحة هل تريدين السعادة؟ اقتدي بالصالحات تفوزي في الحياة وفي الممات، واعملي صالحاً ثم اخلصي العمل لله -جل وعلا- تتخلصي، وبلغي العلم إن كنتِ تعلمين شيئاً، بلِّغيه لأنكِ ستُسألين عنه بين يدَي الله عز وجل ماذا عملتِ في ذلك العلم، وإن لم تكوني قد تعلَّمت من العلم شيئاً، فعليكِ أن تتعلمي ما يجب عليكِ؛ لتعبدي الله -عز وجل- على بصيرة وعلى هدى؛ فهذا واجب وفرض عين لا يسقط عن أي إنسان كائناً من كان. يا أمة الله! إن الإنسان ليَأْلَم يوم يسمع عن عجائز في البيوت لا يُجِدْن قراءة الفاتحة، بل لا يعرفن كيف يصلين، بل لا يعرفن بعض أحكام النساء. أحد الرجال -كما يذكر أحد الدعاة إلى الله- يعود إلى أهله في البيت في يوم من الأيام، ويُجلس أسرته ليربيهم، ويعرف ماذا وراء هذه الأسرة؟ فجلس معهم، وقال لأمه العجوز اقرئي لي الفاتحة، يريد أن يعرف هل هي تعرف قراءة الفاتحة التي لا تتم الصلاة إلا بها أم لا؟ قالت: وما الفاتحة يا بني؟ قال: إذا كبرتِ ماذا تقولين في صلاتكِ؟ قالت: أقول: لا جريت كتاباً، ولا حسبت حساباً، فلا تعذبني يوم العذاب. عمرها سبعون سنة، وأنا أقول: ربما أنه يخرج من بيتها من يذهب إلى المتوسطة، وقد حفظ من القرآن ما حفظ، ويخرج من بيتها ويذهب إلى الثانوية، وقد حفظ ما حفظ، وتخرج من بيتها المعلمة وقد حفظت من كتاب الله ما حفظت، لكننا تعلمنا العلم لا لنعمل به، ولكن لتنال شهادة، حاشاكِ -أختي المسلمة- أن يكون هذا ديدنك، إنكِ مسئولة عن هذا {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟} فماذا سيكون الجواب يا أمهات المستقبل! ويا معلمات الجيل! ويا مربيات الأمة! اقتدي بالصالحات -كما قلت- وتشبهي بهم، واعملي بما عملوا به، وامشي على أثرهم ليلحقك الله عز وجل بهن.

نماذج من النساء الصالحات

نماذج من النساء الصالحات

موقف سارة زوج الخليل عليه السلام من طاغية مصر

موقف سارة زوج الخليل عليه السلام من طاغية مصر ها هي سارة زوج الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اعتصمت بالله عز وجل، والْتجأت إلى الله عز وجل، وحفظت الله في الرخاء فحفظها الله عز وجل في الشدة، أُخذت من بيتها بالقوة من قِبَل زبانية طاغية مصر آنذاك، وقام إليها يريد فعل الفاحشة بها. امرأة ضعيفة لكنها عزيزة قوية يوم تستمسك بحبل العزيز القوي سبحانه وبحمده. قامت وتوضأت وقامت لتصلي، واتصلت بربها -سبحانه وبحمده- مباشرة، لا وسائط بين أحدٍ وبين الله سبحانه وتعالى قائلة: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي؛ فلا تسلط عليَّ هذا الكافر، اللهم اكفنيه بما شئت"، فجَمُد الكافر هذا مكانه لا يستطيع أن يتحرك منه شيء، يوم لجأت إلى الله وقد حفظته في وقت الرخاء، فحفظها الله عز وجل في وقت الشدة، جمُدَ في مكانه ولم يتحرك ولم يتزحزح، ثم يُطلق بعد ذلك، فيمدُّ يدَه مرة أخرى على زوج الخليل، فتتجمد أعضاؤه مرة أخرى، ويبقى على ما كان عليه في المرة الأولى، ثم يمد الثالثة، ثم يمد الرابعة، ثم في الأخيرة يقول لهم: ما جئتموني إلا بشيطان، أرجعوها إلى إبراهيم، وأخدموها هاجر. لم ترجع سليمة محفوظة بحفظ الله فقط؛ بل رجعت ومعها مملوكة لها وهي هاجر عليها رضوان الله، رجعت إلى إبراهيم عليه السلام وهي محفوظة بحفظ الله؛ لأن الله عز وجل قد قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطلاق:2 - 3] وقد قال رسوله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك}. فالعز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذلَّه الله فهلاَّ ائتسيتنَّ بها أيتها المسلمات! هلَّا لجأتُنَّ إلى الله وتركتنَّ ما يُبعدكنَّ عن الله، وعكفتُنَّ على كتاب الله وسنة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فتعلمتُنَّ كتاب الله وعلمتنه وبلغتنه فكنتنَّ فيمن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.

بعض مواقف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعض مواقف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هذا فحسب، هل كانت أسوتكِ -أختي المسلمة- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك التي تربَّت في بيت النبوة، وذاقت ما ذاقه ذاك البيت من أذى في سبيل الله عز وجل، ترى أباها صلى الله عليه وسلم وهو يقوم بالدعوة يقف صفاً واحداً، والبشرية كلها صفٌّ ضده. تراه وهو يصلي، فيقول أحدهم: أيكم يُمهل هذا المرائي حتى يسجد، فيأخذ سَلى جَزور بني فلان، فيضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم؟ رأت المنظر وهي طفلةٌ صغيرة تتربى على "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، يسجد أبوها، والسَّلى -والفرث والدم- على ظهره صلى الله عليه وسلم ولم يجد نصيراً له في تلك اللحظة بعد الله إلا ابنته فاطمة، وهي جارية صغيرة لتمتد إليه وتأخذه من على ظهره، وتدعو عليهم وتسبهم وتشتمهم، عاشت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام كان في مكة، ويوم هاجر إلى المدينة، ويوم استقرَّ هناك. انظر إليها في تمسُّكها بدينها، وتمسكها بعفتها وحيائها وصبرها العظيم، تلك المرأة التي تزوجت بـ علي رضي الله عنه وأرضاه، فما حملت معها الجواهر ولا الفساتين، وما دخلت القصور ولا الدُّور، وإنما دخلت بيتاً من طين. أما جهازها -يا أمة الله- فهو وسادة محشوة بليف، وسقاء وجرتين، ورَحَى تطحن الحبَّ عليها، وهي سيدة نساء العالمين -رضي الله عنها- وأرضاها ما ضرَّها ذلك وما أنقص من قدرها ذلك. انظر إليها يوم يتحدث عنها زوجها في آخر حياته، يتحدث عنها علي -رضي الله عنه وأرضاه- فيقول: [[كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت أكرم أهله عليه- جرت بالرحى تطحن الحب حتى أثَّر الجر في يدها، واستقت بالقربة حتى أثَّر الحبل في نحرِها رضي الله عنها وأرضاها، وقَمَّت البيت حتى تغيَّرت هيئتها رضي الله عنها وأرضاها، وأوقدت النار حتى تغيرت هيئتها، وأصابها من ذلك ضرٌ أيَّما ضر]]. اسمعي إليها يوم تقول -يوماً من الأيام-: [[خيرٌ للنساء ألا يَرَيْنَ الرجال، ولا يراهنَّ الرجال]]. بضعة منه صلى الله عليه وسلم أخذت من علمه وفقهه وحكمته صلى الله عليه وسلم. انظري إليها يوم تَقمُّ البيت، وتوقد النار، وتجرُّ بالرَّحى، وتطحن الحب، وتصبر، ولم تتشكي، أو تسخط من قضاء الله عز وجل، ثم فوق ذلك تُربي أبناءها تربيةً عظيمة؛ تُربيهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألَّا يُراقبوا أحداً غير الله عز وجل، فمن كان من أبنائها؟ كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة رضى الله عنهم أجمعين. هي بنت مَنْ؟ هي أمُّ مَنْ؟ هي زوج مَنْ؟ من ذا يساوي في الأنام علاها أمَّا أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها وعليٌّ زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تيَّاها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخدمها مملوكة من المماليك؛ فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: {لا والله! ما دام على الصفة فقير يحتاج إلى لقمة أو إلى كسرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى بيتها وقد تعبت من أعمال البيت، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها ليدخل بيتها وهي وزوجها في فراش واحد، ثم قال لهما صلى الله عليه وسلم: {أولا أدلكما على خير لكما من خادم} من الذي قال هذا؟ إنه من لا ينطق عن الهوى. {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، قال: {إذا أويتما إلى فراشكما فَسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين؛ فذلكما خير لكما من خادم}. هل فعلنا ذلك يا أيها الأحبة؟ بل هل علمنا نساءنا أن يذكروا هذا الذكر قبل أن يناموا؟ إنه من المعين على خدمة البيت. يقول علي: [[والله ما تركته من بعد ذلك اليوم حتى لقيت الله -جل وعلا- قالوا: حتى ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين]] في وسط المعركة وفي وسط ما حصل ما نسيه رضي الله عنه وأرضاه. إني أقول لكنَّ أيتها الأخوات: عليكنَّ بهذا فذلكنَّ خيرٌ لكنَّ من خادم هل تعلمين يا أَمَةَ الله! أن في بيوت المسلمين -الآن- سبعمائة وخمسين ألف خادم في هذه الجزيرة، ما بين مسلمة وبوذية ونصرانية ومجوسية، تولَّى هؤلاء، فماذا تولوا؟ تولوا تربية فلذات الأكباد، والله إن هذا لأعظمُ الغش، وأعظم ما تغشين به أطفالك ومجتمعك وأُمتك وبلادك - الجزيرة - التي لا يجوز دخول كافر إليها أبداً. يا أيها الأحبة! عليكم بهذا الدعاء فذلكما خير لكما من خادم، اذكري فاطمة يا أيتها الأخت المؤمنة! ثم اذكري ما عليه بعض أخواتك في الرغبة الملحة من النظر إلى الرجال، والحديث مع الرجال، والاختلاط بهم، وتشبههن بالكافرات في لباسهن ومشيتهن. وبالله يا أختي المسلمة! أنت قمَّة، وأنت فضيلة، وأنت طهر قمة بالقرآن فضيلة بالإيمان طهر بتمسكك بهذا الدين؛ فكيف تتشبه القمة بالسافلة؟ وكيف تتشبه الفضيلة بالرذيلة؟ وكيف يتشبه الطهر بالنجس؟ يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ويبقى العود ما بقيَ اللِّحاء فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء إني لأذكركِ مرات ومرات بتلك المؤمنة الطاهرة التي يذكرها أهل السِيَر، بأنها قد قُتل لها ولد في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة ومتحجبة، فقيل لها: كيف تبحثين عنه وأنت متنقبة ومتحجبة قد لا تعرفينه؟! فأجابت إجابة المؤمنة، إجابة من أطاعت الله: [[لأَن أفقد -والله- ولدي خيرٌ من أن أفقد حيائي وديني! إن الله خاطب رسوله قائلاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والله ما أنا بخير من أمهات المؤمنين ولا من نساء المؤمنين ولا من بناته صلى الله عليه وسلم]]. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

بنت من بنات الأنصار واستجابتها لأمر رسول الله

بنت من بنات الأنصار واستجابتها لأمر رسول الله وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رجلاً لخطبة بنت من بنات الأنصار له، ويأتي ويقول: رسول الله يطلب ابنتكم لي -وكان رجلاً فقيراً ودميماً- فما كان من الرجل إلا أن تردد، وما كان من الأم بعد ذلك إلا أن ترددت؛ فما كان من هذه المرأة التي تربت على الإيمان إلا أن خرجت، وقالت: أترُدَّان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين تذهبان من قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِيناً} [الأحزاب:36] ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني. أرأيتم -يا أيتها الأخوات- الاستجابة لله عز وجل إذا قضى أمراً هو أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهلا كانت هذه أُسوة لكِ.

سمية أول شهيدة في الإسلام

سمية أول شهيدة في الإسلام سمية: تعتنق الإسلام، وتُضَرب وتُؤذَى، يريدون أن يردُّوها عن دينها، وما نقموا منها إلا أن آمنت بالله الذي لا إله إلا هو فأبَتْ؛ لأنها علمت أنها على الحق؛ فماذا كان منها؟ تقدم إليها الشقي بحربته ليطعنها في موطن عِفّتها، ولسانُ حالها يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فكانت أول شهيدة في الإسلام بإذن الله سبحانه وبحمده.

موقف آسية بنت مزاحم مع فرعون

موقف آسية بنت مزاحم مع فرعون ومن قبل هؤلاء: امرأة فرعون آسية التي آمنت في وسط بيت من يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات:24] لم يصدها جبروته، ولم يصدها قوته، ولم يصدها طغيانه. لما تبين إسلامها طلب فرعون منها أن ترجع عن دينها، فأَبَتْ وأنَّى لمسلم يعرف هذا الدين ثم يعود عنه وينكص على أعقابه؛ فماذا كان منه؟ أوْتدَ رجليها، وأوْتدَ يديها بأربعة أوتاد، ثم ربطها وألقاها في الشمس، ومنع عنها الطعام والشراب، وضربها ضرباً مبرحاً، وآذاها ووكَّل من يؤذيها، فقالت؛ ماذا قالت؟ وإلى من لجأت؟ لجأت إلى فاطر السماوات والأرض: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] روي أنها لما قالت ذلك رُفعت دونها الحُجُبُ حتى رأت بيتها في الجنة من دُرة بيضاء مُجوَّفة، فضحكت وهي تُعذَّب حتى قالوا: هذه مجنونة، تُعذَّب وتضحك؟! يقول الضحَّاك: [[فأمر فرعون بعد ذلك بحجر يُلقى عليها، وهي في أوتادها؛ فما وصل الحجر إليها حتى أخذ الله روحها قبل ذلك، فصارت مثلاً للذين آمنوا]]. أرأيتم -يا أيها الأحبة ويا أيتها الأخوات- كيف تكون المؤمنة متعلقة بالله عز وجل فيحفظها سبحانه وبحمده؟

امرأة تموت وهي ساجدة لله

امرأة تموت وهي ساجدة لله قد تقولون: هؤلاء في عصر مضى، فسأذكر لكم نموذجاً من هذا العصر. عجوز جالست النساء وهي تخشى الله عز وجل، وتعلم أن هذا اللسان لطالما أردى الكثير من الناس في حفرةٍ من حفر النار، وأوقعهم في أعراض المسلمين -وأعراض المسلمين حفرةٍ من حفر النار- ما كان من هذه المرأة يوم أن جالستهم؛ فلم تجد فائدة إلا أن اعتزلت بيتها؛ فهي تذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وتقرأ القرآن، واعتزلت النساء ولم تجلس معهن، وكان لها ولد بارٌ بها، وفي ليلةٍ من الليالي، قد كانت تقوم أكثر ليلها يوم أصبح قيامنا وقيام أهل بيتنا -إلا من رحم الله- على التمثيليات والمسلسلات، ونسأل الله أن يعصم قلوبنا أن نلقى الله على ذلك. يا أيها الأحبة! كانت تقوم ليلها، وفي ليلةٍ من الليالي، وإذا بها تنادي ابنها في ثلث الليل الآخر، وتقول: يا بني! ها أنا على وضع سجودي لا يتحرك مني عضو واحد. فما كان منه إلا أن أخذها وذهب بها إلى المستشفى، وهو بارٌ بها، يريد أن تعود إلى صحتها، نورٌ في البيت تذكر الله ليلاً ونهاراً، وذهب بها إلى الأطباء، وفعلوا ما فعلوا، وأنَّى لبشر أن ينجي من قدر؟ وأنَّى لِحَذَرٍ أن ينجي من قدَر، سألته بالله أن يعيدها إلى بيتها، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ووضَّأها، ثم قالت: أعِدني على وضع السجود كما كنت على سجادتي في آخر الليل، وإذا بها بعد فترة ليست بالطويلة تنادي ابنها، وتقول: يا بني! أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لتلقى الله -عز وجل- وهي ساجدة؛ يغسلونها وهي ساجدة؛ ويكفنونها وهي ساجدة؛ ويذهبون ليصلوا عليها وهي ساجدة، تُحمل إلى المقبرة وهي ساجدة، وتدخل القبر وهي ساجدة، ومن مات على شيءٍ بُعث عليه، تُبعث بإذن الله ساجدة. يا أيها الأحبة رجالاً ونساءً! امرأة تقوم من الليل ما تقوم، وبعضنا لا يقوم من ليله ولو لساعة أو لنصف ساعة أو لدقائق أو لركعتين أو ثلاث يرجو بها رحمة الله، يرجو بها نفحة من نفحات الله عز وجل. إني أقول: تشبهوا بهذه العجوز وقد منحكم الله ما لم يمنحها من الصحة والقوة.

ابنة سعيد بن المسيب وغزارة علمها

ابنة سعيد بن المسيب وغزارة علمها وهاهي ابنة سعيد بن المسيب -عليه رحمة الله- وهذه مثل للأخوات المتعلمات؛ لما دخل عليها زوجها -وكان من طلبة العلم- أصبح في الصباح فأخذ رداءه يريد أن يذهب ليُثنيَ ركبته في مجلس سعيد بن المسيب أبيها. فقالت: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس أبيكِ سعيد أتعلمُ العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد؟ فوجد ما كان يتعلمه من سعيد عند ابنته. هكذا تكون المرأة المسلمة، وهكذا تكون المعلمة الفاضلة، تصبح نوراً يَشِعُّ على زوجها وعلى بيتها؛ فلا يخرجون من البيت إلا طيبين وصالحين بإذن الله.

عائشة رضي الله عنها العالمة الفاضلة

عائشة رضي الله عنها العالمة الفاضلة وإن نسينا فلا ننسى عائشة -رضى الله عنها- تلكم العالمة التي ماتت ولم تَخْطُ بعد إلى التاسعة عشر، وملأت الأرض علماً حتى قال فيها الزهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل وأكثر وأفيد". طلبت العلم ولم تعزف عن الزواج، كما يفعل بعض أخواتنا في هذه الأيام، يطلبون العلم فيعزفون عن الزواج. تزوجت -يا أيها الأحبة- وهي في التاسعة أو أقل من ذلك، ولم تتعلم إلا قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تتعلم قصص الغرام والحب أو الأدب الإنجليزي، ولم تصرف وقتها إلا فيما ينجيها؛ كتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنها وأرضاها، ووفق أخواتنا لتكون هي وأمثالها قدوة لهن.

امرأة تشارك في الجهاد بضفائرها

امرأة تشارك في الجهاد بضفائرها وهاهو أبو قدامة الشامي يقف خطيباً في يوم من الأيام على المنبر يَعِظ الناس، ويذكرهم بفضيلة الجهاد في سبيل الله جل وعلا. ماذا كان من هذا الرجل؟ خرج من المسجد، وقد اشْرَأَبَّتْ الأعناق للذهاب إلى القتال في سبيل الله، وخرج يمشي في شارع من شوارع مدينته، وإذا بهذه المرأة تقول: يا أبا قدامة! السلام عليك، فلم يرد عليها السلام؛ لأنه خشي أن تفتنه؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم يقول: {فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} فلم يرد عليها في الأولى، ولا في الثانية، وفي الثالثة قالت: السلام عليك يا أبا قدامة! ما هكذا يفعل الصالحون. قال: فتوقفت فتقدمت إليّ، وقالت: سمعتك وأنت تشحذ الهمم للجهاد في سبيل الله، وفتشت، فلم أجد -والله- أغلى عندي من ضفيرتَيْ شعري، فقصصتهما، فخذهما، واجعلهما لجاماً لفَرَسِك في سبيل الله؛ علَّ الله أن يكتبني من المجاهدات في سبيله. ولا إله إلا الله تقصُّ ضفائرها لجاماً لخيل الله ولجند الله، وأخرى تقصُّ ضفائرها لتكون أشبه بالبغايا العاهرات، شتان بين مشرق ومغرب! شتان بين الفريقين! يا أيها الأحبة! {من تشبَّه بقوم فهو منهم}. أرأيتم هذه المرأة في اليوم الذي بعده؟ يقول أبو قدامة: وقد انطلقنا نريد الجهاد في سبيل الله، قال وإذا بطفل يأتي ويلحق بنا، ويقول: يا أبا قدامة! سألتك بالله أن تجيزني في القتال في سبيل الله. قال: تطؤك الخيل بحوافرها. قال: سألتك بالله إلا أخذتني. قال: إن قُتلت تشفع لي عند الله شرط؟ قال: نعم. فأخذه معه على فرسه، وانطلقوا حتى قابلوا الروم، وحينما قابلوهم قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم. قال: تضيعها إذاً. قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم، فأعطاه، فأخذ سهماً، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! باسم الله، ثم أطلقه، فقتل رومياً، ثم أطلق الثاني فقتل رومياً، ثم أطلق الثالث فقتل رومياً ثالثاً، ثم جاءه سهم فضربه في لُبته، فأرداه من فوق الفرس وهو يقول: السلام عليك يا أبا قدامة! سلام مودع، ثم سقط فسقط وراءه أبو قدامة، وقال: لا تنسَ الوصية، لا تنسَ الوصية. فما كان منه بعد ذلك إلا أن قال: خذ هذا وأعطِه أمي. قال: ومن أمك؟ قال: أمي صاحبة الضفيرتين التي أعطتك إياها بالأمس. أرأيتم إلى البيوت المسلمة يوم تُربَّى على لا إله إلا الله محمد رسول الله، المرأة مربية الأجيال. والأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيِّب الأعراق

صفية بنت عبد المطلب الصابرة المجاهدة

صفية بنت عبد المطلب الصابرة المجاهدة هاهي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تِلْكُم المرأة الحازمة التي ربَّتْ للأمة أول فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله، توفي عنها زوجها وترك لها الزبير -وهو طفل صغير- فنشَّأته على الخشونة والبأس، وربَّتْه على الفروسية، لم تُنشِّئْه على التنعُّم والترفُّه والميوعة حتى أصبح الأطفال والرجال -الآن- أشباه رجال ولا رجال، جعلت لعبَه في برْيِ السهام وإصلاح القسي، لم تجعل لعبه في لعب الكرة، وفي مطاردة الدراجات في الشوارع يميناً وشمالاً؛ يتسكعون. كانت تقدمه في كل مخوفة، وكانت ترميه في كل خطر؛ تريد أن يكون لَبِنَة صالحة في هذا المجتمع؛ فإذا تردد عنها ضربته وأوجعته، حتى إنَّ أحد أعمامه يوماً من الأيام قال لها: إنكِ تضربينه ضربَ مبغضةٍ لا ضرب أم، فارتجزت قائلة: من قال قد أبغضته فقد كذب وإنما أضربه لكي يَلُبَّ ويختم الجيش ويأتي بالسلب. هاجرت إلى المدينة النبوية، وهي تقفو إلى الستين من عمرها، تركت مدارج الشباب، وتركت مكة، وهاجرت بدينها فارَّةً إلى الله -جل وعلا- في المدينة، شاركت في يوم أحد لما رأت ما حل بالمسلمين، وهي تسقيهم بالماء، هبَّت كاللبؤة، وانتزعت رمحاً من أَحَد المنهزمين، ومضَتْ تشق الصفوف به، وتزأر وتقول: [[ويحكم أتنهزمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟]] فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم خشيَ أن ترى أخاها حمزة وقد مثَّل به المشركون؛ فما كان منه إلا أن أشار إلى ابنها الزبير، وقال: {دونك أمك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فقال الزبير: [[يا أماه! إليكِ يا أماه إليكِ. قالت: تنحَّ عني، لا أمَّ لك. فقال: إن رسول الله يأمركِ أن ترجعي. قالت: الأمر أمر الله وأمر رسوله]] فتوقفت. ثم قالت: [[والله لقد بلغني أنه مُثِّلَ بأخي حمزة ولأصبرنَّ، وذلك في ذات الله وفي سبيل الله]] ثم انتهت المعركة، وما كان منها إلا أن وقفت على أخيها وقد بُقرَ بطنُه، وأُخرِجت كبدُه، وجُدِع أنفه وأُذناه، وشُوِّهَ وجهُه، فاستغفرت الله له، وجعلت تقول: [[في ذات الله، لقد رضيت بقضاء الله لقد رضيت بقضاء الله]]. لم تلطم خدّاً، ولم تُشق جيباً، ولم تنُحْ، وما كان لها أن تكون كذلك. وها هي في يوم الخندق يوم وضع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في حصن حسان -وهو حصن من أمنع الحصون- ولم يترك معهن من الرجال، فذهب الجيش إلى الخندق، وما كان منها إلا أن رأت يهودياً يتسلل إلى القصر، وإلى هذا الحصن يريد أن ينظر هل في الحصن رجال أم يستخلي اليهود بهذا الحصن؛ ليسلبوا النساء والذراري؟ لما رأته أخذت عموداً من الحصن، ثم هجمت عليه حتى قتلته، ثم لم تكتف بذلك فاحتزت رأسه واقتطعته، وأخذته وخرجت إلى أعلى الحصن، ثم رمَتْ برأسه على اليهود يتدحرج بينهم، فقالوا: قد علمنا أن محمداً لن يترك النساء بلا رجال. رضي الله عن صفية، ربَّت وحيدها أحسن تربية، وأُصيبَتْ في شقيقها، فاحتسبت ذلك، وعملت لهذا الدين، وحملت همَّ هذا الدين، وهكذا يكون نساء المسلمين أيتها الأخوات.

أم الإمام أحمد وتربيتها له

أم الإمام أحمد وتربيتها له إن النماذج لكثيرة كثيرة لكني أقف مع نموذج أخير أو قبل الأخير، وهو مع أم الإمام أحمد الذي يموت أبوه عنه وهو صغير، فتكفله أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة، تقوم بتربيته، وهذا دور المرأة يوم تكون صالحة. تنتج اللَّبِنات الصالحة، نشَّأت ابنها على حب الله ورسوله، وعلى حب كتاب الله، يقول أحمد: "حفَّظتني القرآن وعمري عشر سنوات"، ومن حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيْه. يقول: كانت توقظني قبل صلاة الفجر بوقت ليس بالقصير، وتدفئ لي الماء؛ لأن الجو كان بارداً في بغداد، وتُلبسُني اللباس، ثم نصلي أنا وإياها ما شئنا، ثم ننطلق إلى المسجد وهي مختمرة؛ لأن الطريق كان بعيداً مظلماً موحشاً لتصلي معه صلاة الفجر في المسجد -وعمره عشر سنوات- وتبقى معه حتى منتصف النهار لتعلمه العلم، ولتربيه التربية؛ ليكون لَبِنَةً صالحة ينفعها يوم تقْدمُ على الله جل وعلا. يقول: فلما بلغت السادسة عشرة قالت: يا بُني! سافِرْ في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرة في سبيل الله. أعدت له بعض متاع السفر من أرغفة الشعير، ومن صُرَّة ملح، ومن بعض مستلْزَمَات السفر، ثم قالت: إن الله إذا استُودِع شيئاً حفظه، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. ذهب من عندها إلى المدينة، وإلى مكة، وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وقد قدَّم للأمة ما قدَّم ولأمه -إن شاء الله- من الحسنات مثلما عمل أحمد، ومثل من يعمل بعمل أحمد إلى أن يلقى الله بمنِّه وكرمه، والخير في الأمة كثير وكثير. فلو كان النساء كمن ذكرنا لفَضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال هل أعجبتكِ خصال هؤلاء النساء؟ إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن ما يعجبك فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يمنعك

المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة

المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة يا أيتها الأخت المؤمنة! إن أعداءك كُثْرٌ، وإنما يريدون استغلالكِ لهدم الدين والحياء والفضيلة كُثْر كُثْر، وقد يكونون ممن يتكلمون بألسنتنا، ومن بني جلدتنا. يقول أحدهم: لا تستقيم حالة الشرق إلا إذا رفعت الفتاة حجابها عن وجهها وغطَّت به القرآن الكريم!! ويقول آخر: كأس وغانية تفعلان بالأمة المحمدية ما لم تفعله المدافع والقذائف؛ فأغْرِقوهم بالشهوات والملذَّات؛ فما موقفكِ أمَةَ الله من هؤلاء؟ إن الموقف المنتظَر مِنكن هو الاعتصام بدين الله والوقوف عند حدود الله، ولكننا نرى -ويا ليتنا ما نرى- أحياناً الكاسية العارية، نرى أن بعض النساء تتصور أن السفور هو كشف الوجه فقط! لا، ذاك شيء، ومعه -أيضاً- السفور الذي لو غَطَّت المرأة وجهها قد يكون أحياناً برؤيتها، وكأنها تمشي في صالة عرض، تُبدي مفاتنها، وتُخرج محاسنها. إن من السفور لبسَ الضيق، إن من السفور لبس العباءة الخفيفة الجذابة في منظرها، السفور بلبس القصير والخفيف من الملابس، أهان عليكِ -يا أختي المسلمة- أن تلبسي لباس أهل النار، ألم تسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرَهما بعد -وذكر منهن:- نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأَسْنِمَةِ البُخْت المائلة، لا يدخلْنَ الجنة ولا يجدْن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}. ألا هل ترضين أن تكوني من أهل النار؟ هل ترضين أن تخرجي من آداب القرآن والسنة إلى عادات قوم أخذوها من اليهود والنصارى؟ هل ترضين أن تكون ابنتكِ وثمرة فؤادك من أهل النار؟ هل ترضين أن تُلبسي بناتك لبساً تتعرَّى به من الحياء، والحياء من الإيمان؟! هل ترضين لابنتك أن تُعرَض كما تُعرَض السلع فاتنة ليتعلق بها كل سافل وحقير ومهين ورذيل؟ هل ترضين أن تَلبسي أو تُلبسي لباس أهل النار؟ لا -يا فتاة الإسلام- لن ترضَيْ، ولا ترضَيْ، وهذا هو المأمول، حصنكِ الحصين دينكِ العظيم؛ يحافظ على عفتكِ وحيائكِ وفضيلتكِ، يأمرك بالحجاب والاحتشام، متى ما تركتِ هذا الأمر كنت عرضة لعذاب الله في الآخرة، وفي الدنيا عرضة للذئاب البشرية التي تريد عفافك الذي به تشرفين، تريد أن تفجعك بعفافك لتتجرعي الغُصص مدى الحياة. وبعض أخواتنا-هداهُنَّ الله- يسمعْن لنداء الذئاب، ويسعين لهم. حالهن كقول القائل: قطيع يُساق إلى حتفه ويمشي ويهتف للكافرين يا فتاة الإسلام! الأيادي الماكرة الخبيثة تمتد إليكِ في صورة مقالات ساحرة في صورة مجلات خليعة في صورة مسلسلات فاتنة في صورة كلمات أدبية في أعمدة الصحف تريد إخراجكِ إلى الشقاء والتعاسة؛ فكم من مقالة تقول: إن الإيمان في القلوب لا في ستر الوجه والجيوب، و {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5]. إنهم يريدون منك الخطوة الأولى: -وهي أصعب خطوة، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة- يريدون أن تكوني فاجرة عاهرة سافرة حاشاكِ من ذلك، ينتظرون منكِ بفارغ الصبر أن تلقي العباءة وتتخلصي من الحجاب ومن مستلزماته من الإيمان والحياء والطهر، ثم تتركي الصلاة، ويومها تقرُّ أعينهم؛ فيلعبون بكِ لَعِب الأطفال بالكرة، ويعبثون بك عبث الكلاب بالجِيَف -حفظكِ الله منهم- أغيظيهم بعدم الالتفات إليهم والسماع لهم، اقتليهم حسرة بتوفير حيائك وملازمة حجابك؛ فإنما أطمعهم في الوصول إلى غاياتهم ما لاحَ لهم من النجاح في سماع منكِ لمختلف الأغنيات والمسلسلات والأفلام الماجنات، أغراهم بالوصول إلى بعض فتياتنا الخروج إلى الأسواق، والوقوف أمام الباعة من غير ما ضرورة، والتجوال في الشوارع والأسواق، ألستِ تؤمنين بالله واليوم الآخر؟ ألستِ ترجين الله والدار الآخرة؟ إن عُرف هذا؛ فاعلمي أن الله حرَّم السفور كما حرَّم الفسق والفجور، وأمر المؤمنات بغضِّ الأبصار وحفظ الفروج، ونهاهنَّ عن إبداء شيء من الزينة؛ بل أمر أن يقَرْن في بيوتهن فلا يخرجن من غير ما حاجة، وإذا خرجن لحاجة فليخرجن متسترات غير متجملات ولا متعطرات وبإذن وليِّهن: {أيَّما امرأة خرجت بغير إذن وليها فهي في سخط الله حتى ترجع، وأيما امرأة استعطرت ومرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية}. ألا فلتمشين متواضعات في أدب وحياء، ألا لا تتخذن -خلاخل أو ما يشبه الخلاخل- ولا أحذية تضرب الأرض بقوة فيُسمَع قرعها، وربما أوقعت في القلوب شيئاً، فإن الله يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور:31] {لا تخلونَّ امرأة بغير ذي محرم لها}، {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}. لا تصافحي الرجال؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدت إليه يد امرأة تبايعه، فقال: {إني لا أصافح النساء}. اتقين الله -أيتها الأخوات- فإنه لا صبر لكُنَّ على النار، إنكنَّ تصبرْنَ على الجوع وعلى الضر وعلى التكاليف، لكن -والله- لا صبر لكُنَّ على النار. أجاركن الله وكل مسلمة من النار. أيتها الأخوات! لا تتَّبعْن خطوات الشيطان؛ فإنه يأمر بالسوء والفحشاء. يا من آمنت بالله! ويا من سجدت لله! ويا من استترت بستر الله! حذارِ حذارِ من السقوط؛ فإن السقوط إلى النار وبئس القرار، حذارِ حذار يا بنت عائشة وحفصة وسارة وزينب وأسماء أن تغتري بزيف حضارة الغرب المادية؛ فهي زَبَدٌ اكتووا هم بنارها؛ فاستمعي واعتبري. واعرف الشر لا للشر لكن لتوقِّيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

أخبار وأحداث مؤلمة

أخبار وأحداث مؤلمة نشرت إحدى الصحف الأمريكية استقراءً خطيراً في إحدى جامعاتها في سنة واحدة: ثبت أن عشرين ألف فتاة حملن من الزنا -نعوذ بالله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن- وأن أمريكا تستقبل مليون طفل من الزنا والسفاح سنوياً، وتعاني من مشكلة رعاية هؤلاء الأطفال الآن. وفي إحصائيات للتليفزيون الفرنسي بلغ عدد العازبات من النساء ثمانية ملايين امرأة، وبلغت حوادث اغتصاب الفتيات اثنتين وعشرين ألف حالة سنوياً. كاتب أمريكي يقول: إن إحصائيات عام تسعة وسبعين للميلاد تدق ناقوس الخطر؛ فعدد اللواتي يلدن سنوياً دون زواج في سن المراهقة ستمائة ألف فتاة، منهن عشرة آلاف دون سن الرابعة عشرة. ومع ذلك يقولون -وكبرت كلمة تخرج من أفواههم-: إن الحجاب وعدم الاختلاط كبْتٌ جنسي، ومع ذلك تجد الواقع يُكذبهم، أين اثنان وعشرون ألف حالة سنوياً من الاغتصاب عندهم؟! أين هذا الكبت الذي يقول: بأنه لا يعيشه إلا المسلمة التي تأتمر بأمر الله؟! حالات الاغتصاب -كما سمعتن- لا تُحصى، ونكاح الرجل ابنته وأمه وأخته مألوف ومشهور، عافانا الله وإياكم من الفسق والفجور. وفي بريطانيا عشرون ألف حالة إجهاض سنوياً، ناهيك عن الأمراض التي طمَّت وعمَّتْ كالإيدز والسيلان والهربز. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -قبل أربعة عشر قرناً-: {وما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى أعلنوا بها؛ إلا ظهرت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم}. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر:31]. يا فتاة الإسلام! إنهم يريدون لمجتمعنا أن يكون كمجتمعهم {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فانتبهي واحذري يا أخت الإسلام! أنت أمام داعييْن: داعٍ إلى النار والعار والشنار؛ ففرِّي منه فرارك من الأسد، وداعٍ إلى الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعل من أكبر اهتماماته المرأة، خاطبها، ووعظها، وبالله ذكَّرها وأبكاها، كان يصلي العيد، ثم ينتقل إلى النساء، فيعظهنَّ، ويذكرهن بالله، ويربيهن على الإيمان، وهديه صلى الله عليه وسلم موجود بيْن أَيْديكنَّ، وخيرُ الهدي هديُه صلى الله عليه وسلم فالْزموه. في وقت ستجدين فيه من يستهزئ بكِ، ويريد منكِ أن تكوني غربية سافلة ساقطة. ستجدين من يقول للحجاب: خيمة!! ولقد قيل وكبرت كلمة تخرج من أفواههم. ستجدين من يقول: عليكِ أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة! وستجدين من يقول: آن لكِ أن تمزقي حجابك وتمشى سافرة، يدعونكِ إلى جهنم إن أجبتيهم قذفوكِ فيها؛ فليكن جوابك: اخسئوا. لأني مولعة بالحق لستُ إلى سواه أنحو ولا في نصره أئنُّ دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن

أسماء بنت أبي بكر وحملها هم الإسلام

أسماء بنت أبي بكر وحملها هم الإسلام ولنقف مع نموذج هنا وهو وقفة عظيمة أخيرة، وقفة تأمل وتدبر لابد أن نقفها مع هذا النموذج، إنه مع نموذج فريد، مع نموذج درس وحده لنقف مع أسماء رضى الله عنها وأرضاها ذات النطاقين، الصدِّيقة بنت الصديق التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها ولا حتى الرجال، ألا وهو خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار، في طريق الهجرة إلى المدينة النبوية، حدثٌ لم يتكرر، وخدمة لن تتكرر. تزوجت بـ الزبير -رضى الله عنه وأرضاه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضيت به زوجاً؛ لأنه ابن الدعوة الذي شهد فجرها كما شهدتها هي، ولأنه ابن الدعوة الذي ذاق حلاوة الأذى في سبيلها كما ذاقتها هي، إنهما يشتركان في الإيمان والدعوة والشجاعة. انتقلت من بيت أبيها إلي بيت زوجها المتواضع، لم تحمل جواهر، أو فساتين، وإنما تحمل همَّ مستقبل الإسلام بين أضلاعها ومصير الدعوة.

خدمة أسماء لزوجها الزبير

خدمة أسماء لزوجها الزبير تقول ذات يوم: [[تزوجني الزبير، وما له في الأرض مالٌ ولا مملوك غير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وكنت أكفيه مئونته، وكنت أقوم فوق ذلك بأعباء بيته]]. واسمعوا -يا أيتها الأخوات- لم تكن أسماء عبئاً على زوجها الزبير بما لها من مطالب دنيوية ورغبات ذاتية؛ لأنها لم تطلب الدنيا للمتعة، ولم تطلب من زوجها أن يكون لها لوحدها يحقق رغباتها، ويسعى لتوفير السعادة لها؛ بل كانت هي في خدمة زوجها تسعده وترضيه، وتقف وراءه، وتحتسب ذلك، فهو على ثغر في خارج البيت، وهي على ثغر في داخل البيت، وهذه هي القسمة العادلة، وهكذا تكون الأسرة المسلمة. فأين تقف المرأة المسلمة اليوم مع زوجها في دعوته؟ هل تتعهده بالطمأنينة؟ هل تشحنه بالعزيمة؟ هل تقف صفّاً وراءه، وتتخلى عن بعض رغباتها في سبيل الله؟ أم أنها تقف عقبة تُعيقُه في طريق دعوته ورسالته، إني لأدعو الأخوات إلى دفع الأزواج، والأبناء، والإخوان، والأخوات إلى الإصلاح والدعوة والعلم، ولهن في أسماء قدوة ونعم القدوة.

تربية أسماء لأبنائها

تربية أسماء لأبنائها لا زلنا نعيش مع أسماء ويرزقها الله -جلَّ وعلا- بـ عبد الله، فتربيه تربية المؤمنات، تُتحفُّ سمعه وقلبه بمبادئ هذا الدين، تُتْحف سمعه -صباحاً ومساءً- بتلاوة آيات الله البينات على آذانه، تُتْحِف سمعه وقلبه بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار حتى شبَّ وترعرع، وأبواه لا يفتران عن تعليمه أمور الدين، وتربيته على الإسلام، حتى إنه ليقتحم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، وهو لا يزال صغيراً؛ فيتبسم صلى الله عليه وسلم يوم جاء يبايعه، ويقول: {إنه ابن أبيه، إنه ابن أبيه} كما روي عنه صلى الله عليه وسلم. فهل تعي الأمهات مسئولية الأبناء؟ نرجو ذلك. إن المرأة الغارقة في الرفاه والتنعم والترف، والتي تستهلكها الدنيا من طعام وشراب، وزينة وتفاخر، ومظاهر براقة لا تربي الأطفال، ولا تربي العلماء، ولا تربي الأتقياء؛ إنما تربي التنابلة والبطَّالين، والكسالى والخاملين، والعالة على المجتمع المتسكعين؛ أشباه الرجال ولا رجال. انظرن -يا أيتها الأخوات- لـ أسماء في أحْلَكِ المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين من عمرها، يوم حوصر ابنها في الحرم، فيدخل هو عليها يستشيرها في الموقف؛ ماذا يفعل. فقالت بثبات المؤمنة المربية: [[أنت أعلم بنفسك يا عبد الله! إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق؛ فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، قال: يا أماه! والله ما أردت الدنيا، وما جُرْتُ في حكم، وما ظلمتُ، وما غدرت، والله يعلم سريرتي وما في قلبي. فقالت: الحمد لله! وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن سبقتني إلى الله، تعانقَا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني! اقترب حتى أشمَّ رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها ووجهها يلثمها ويقبلها، وتشتبك دموعه بدموعها وهي تتلمسه -عمياء لا ترى- ثم ترفع يدها، وهي تقول: يا عبد الله! ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي. قالت: يا بني! ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخفُّ لحركتك، والبس بدلاً منه سراويل مضاعفة؛ حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك]]. نزع درعه، وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم، وهو يقول: يا أماه! لا تَفْتُري عن الدعاء، فرفعت كفَّها وقلبها إلى الله قائلة: [[اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة وهو صائم، اللهم إني قد أسلمته إليك، ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين]]. ويذهب ويصلي طوال ليلته تلك، ويصلي بالناس الفجر، ثم يحمد الله، ويثني عليه، ويحرض أصحابه على القتال، ثم ينهض ليقاتل، وتأتيه ضربة في وجهه، يرتعش لها ويسيل الدم على وجهه، فيقول: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا يقطر الدَّما ثم سقط فأسرعوا إليه، فأجهزوا عليه، فارتجت مكة بالبكاء عليه -عليه رحمة الله- ثم لم يكتفوا بذلك، بل صلبوا جسمانه كالطود الشامخ في ريع الحجون. عُلو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المكرمات كأنك واقف فيهم خطيباً وهم واقفوا قياماً للصلاة

صبر أسماء عند مقتل ابنها عبد الله بن الزبير

صبر أسماء عند مقتل ابنها عبد الله بن الزبير وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب كالطود الشامخ، وتقترب منه، وهي لا ترى وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان، ويقول: يا أمَّه! إن الخليفة أوصاني بكِ خيراً، فتصيح به: [[لست لك بأم، إنما أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم]]، ويتقدم ابن عمر مخاطباً عبد الله المصلوب: السلام عليك يا أبا خبيب! السلام عليك يا أبا خبيب، والله ما علمتك إلا صوَّاماً قوَّاماً وصولاً للرحم، أما وقد قال الناس: إنك شرُّ هذه الأمة، أما والله لأمةٌ أنت شرُّها لأمة خير كلها -ثم الْتفت إلى أصحابه قائلاً-: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، ويتقدم ابن عمر إلى أسماء معزياً مواسياً، ثم يقول لها: اتقي الله واصبري، فقالت -بلسان الصابرة المؤمنة الواثقة بموعود الله-: [[يا ابن عمر! وماذا يمنعني من الصبر وقد أُهِدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغِيٍ من بغايا بني إسرائيل؟!]] أرأيتنَّ ما أعظم الأم المربية! وما أعظم الابن المربَّى! لم تلطم خدّاً، ولم تشق جيباً، ولم تنُح، وإنما سلَّمت الأمر لله، فلله الأمر من قبل ومن بعد: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة:155 - 156].

لتكن القدوة أسماء

لتكن القدوة أسماء انظرن -أيتها الأخوات- إلى أسماء يوم يقدم ابنها المنذر بن الزبير، فأرسل إليها بكسوة من بلاد مرو، كسوة رقاق عتاق، وهي لا ترى، فقامت تتلمس هذه الكسوة، ثم قالت: [[أفٍ أفٍ. ردوا عليه كسوته]]، فشقَّ ذلك على ابنها، وقال: [[يا أماه! إنه لا يشفُّ -يعني: لا يشف عما تحته- قالت: إن لم يشفّ فهو يَصِفُ، إن لم يَشفّ فهو يَصِفُ]] فاشترى لها ثياباً أخرى لا تشف وأعطاها، فقالت: [[مثل هذا فاكسني يا بني، مثل هذا فاكسني يا بني]] رحم الله أسماء لو رأت ما يصنع بعض نساء المسلمين اليوم، وما يلبسه بعض حفيدات أسماء وخديجة وسمية وصفية ماذا يكون الجواب؟ إننا لنعجب والله من أُذن تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار -وذكر منهم- نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مميلات -إلى أن قال-: لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسافة كذا وكذا}، ثم لا نزال نرى في بعض المسلمات -هداهنَّ الله- من تلبس الضيق، وتلبس الشفاف، وتجمع الحشف وسوء الكيل؛ فتلبس القصير والضيق والشفاف. كأن الثوب ظل في صباح يزيد تقلصاً حيناً فحيناً تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرين إنه وعيد شديد، وزجر أليم، ماذا بعد الحرمان من الجنة ورائحتها الزكية التي توجد من مسيرة ألف عام وأكثر، إلا النار؟! يا أيتها المسلمة! إنكِ في هذه الحياة يوم تخالفين أمر الله، تقعين في الوعيد الشديد. يوم تجوبين الأسواق سافرة، وتقفين مع باعة الأغنيات والمجلات والفيديوهات ماجنة لتحطِّي من قدركِ في هذه الحياة؛ فلا عفاف ولا حياء، والحياء من الإيمان، ثم تتنازلين شيئاً فشيئاً حتى تقعي فيما نسأل الله أن يجيرك منه، وإذا وقعت بالطبع لا أحد -حتى الفجرة- يريدون رؤيتك بهذا المستوى. إذا سقط الذباب على طعامٍ رفعتُ يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه

تحذير للنساء وتذكير ونذير

تحذير للنساء وتذكير ونذير فيا أيتها المسلمة المصلية الساجدة! يا من خضع رأسك للحي القيوم! وخشع له سمعك وبصرك، ألا يكفيكِ زاجراً حديث رسول الله الذي سمعتيه آنفاً، والله إنه لعظيم لو صُبَّ على الجبال الراسيات لأذابها، فأي شيء بعد الحرمان من دار النعيم، وهل هناك دار إلا الجنة أو النار. لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

تذكير بالله والدار الآخرة

تذكير بالله والدار الآخرة فارفعي رأسك أختي المسلمة، وانظري بعين بصيرتك إلى أُمهاتك وأخواتك من خير سلف الأمة، وسلي الله اللحاق بهن، واعملي عملهن، علَّكِ أن تلحقي بهن؛ فتُحشَري معهن، والمرء مع من أحب. يا أمَةَ الله! راقبي الله، وقومي بما أوجب الله عليكِ من تكاليف، وادعي إلى الله ما استطعتِ إلي ذلك سبيلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا ممن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] وإذا قسا قلبك فتذكري كرباً بيد من سواك، لا تدرين متي يغشاك، إنه الموت الذي لا بُدَّ منه: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. يا أمة الله! تذكري يوم يأتيكِ منكر ونكير، فيسألانِك: من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيُّك؟ كيف بكِ إذا صاح إسرافيل، ونفخ في الصور، وجُمِعْتِ مع الخلائق حافية عارية ذاهلة، قد دنت الشمس منك قدر ميل، ونادى الرب أبانا آدم: يا آدم! أخرج بَعْثَ النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعْثُ النار؟ فيقول الله عز وجل: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، عند ذاك يشيب الصغير، وتذهل المرضعة عما أرضعت: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. كيف بكِ يا أمة الله! إذا رُجَّت الأرض، وبست الجبال، وشخصت الأبصار، وخشعت الأصوات للرحمن؛ فشاب الصغير، وزفرت النار، وتقطعت الأسباب، وصاح الكبير: واشيبتاه، وصاح المفرِّط: واخيبتاه، وأَزِفَتِ الآَزفة، وبلغت القلوب الحناجر، وتوالت المِحَن على العباد، ونُوديتي باسمك من بين الخلائق للحساب، ما حالك عندها يا أمة الله؟ لا إله إلا الله! أين عُدتُك أيتها الغافلة؟ كم في كتابك من حسنات؟ كم فيه من سيئات؟ هل تنفع الأزياء والموديلات؟ هل تنفع الأغاني والمسلسلات والتمثيليات؟ هل تنفع الفيديوهات والتليفزيونات والإكسسوارات؟ هل تنفع الجواهر والمجوهرات؟ ألا فتوبي قبل ألا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب. إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب

تحذير من التبرج والسفور

تحذير من التبرج والسفور ألا فازدادي من الحسنات، والحسنات يُذهبن السيئات؛ فوالله ما بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار، والله لَلْجنَّة أقرب من شِراك النعل، والنار كذلك. اتقي الله! يا ابنة الإسلام. اتقي الله! يا من تخرجين إلى الأسواق متبرجة. اتقي الله! يا من تلبسين العباءة للزينة لا للستر. اتقي الله! يا من كلَّفكِ الله بمهمة عجزت عن حملها السماوات والأرض. اتقى الله! وصوني نفسك من أن تكوني ألعوبة في يد ضعاف الإيمان. اتقي الله! يا من تزاحمين الرجل، وتخرجين مع الرجل الذي ليس بمحرم لكِ كالسائق وغيره. اتقي الله! يا من تدخلين على الطبيب بدون محرم ودونما ضرورة. اتقي الله! يا من تربي أبناءها تربية البهائم؛ فلا تذكرهم بالله ولا تَعِظُهم. اتقي الله! يا من تتعطر وتخرج حتى إلى الصلاة؛ فإن رسول الله قد نهى عن ذلك، يقول: {أيما امرأة أصابت بخوراً؛ فلا تشهدْ معنا العشاء الآخرة} كما رواه مسلم. اتقي الله وارجعي إلى الهدى قبل يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، واعلمي أن عذاب الله شديد، وأن الدنيا ليست مقراً، وأن الفضيحة أمام الأولين والآخرين عظيمة؛ فاتقي الله، ثم اتقي الله، ثم اتقي الله. ووفَّقكنَّ الله جميعاً -أيتها الأخوات- لما يحب ويرضى، ووفَّقنا الله جميعاً لما يُحبُّ ويرضى. نسأل الله أن يحفظ فتيات المسلمين من كيْد الكائدين، وتربص المتربصين. اللهم اجعلهن من الصالحات، وبالصالحات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة متبعات. اللهم اجمعهن -كما جمعتهن في هذه الروضة- على الإيمان، وفي الآخرة في جنات ونهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. اللهم وفِّقنا للقيام بمسئولياتنا -أيها الرجال- فنحن القوَّامون على النساء. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتال من تحتنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلا والجود وعلي النبي محمد صلواته ما ناح قُمَريٌ وأورق عود

الأسئلة

الأسئلة .

دور المرأة الداعية

دور المرأة الداعية Q هل من وصايا للمرأة الداعية؟ وما هو دورها في موقعها؟ A أقول للأخت المسلمة الداعية/ والمفترض في كل أخت مسلمة أن تكون داعية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بلِّغوا عني ولو آية}. أقول لهذه الأخت: أوصيكِ ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي جامعةُ كل خير، وهي منطلق كل داعية؛ فمتى اتقيت الله عز وجل نجَّاكِ الله في الدنيا والآخرة، ثم عليكِ بالرفق واللين: {فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزِعَ من شيء إلا شانه}. ثم عليكِ -يا أيتها الأخت- أن تعلمي أن وسائل الدعوة ليست بالكلام فقط، وأن وسائل الدعوة كثيرة كثيرة، وأعظمُها أن تكوني قدوة في لباسك، وفي مشيتك، وفي كلامك، وفي كل أمورك؛ فتلك -والله- هي الدعوة العظيمة، وعندها يقبل الله عز وجل عملك، وتقع الكلمة من الناس موقعاً جميلاً. ثم بعد ذلك: إن من الوسائل الشريط، الشريط إذا رأيتِ منكراً من المنكرات؛ فلا بأس أن تأخذي هذا الشريط، وتقدميه لأختك، وتقولي: اسمعي هذا، ولعل الله -عز وجل- أن ينفعكِ به بالرسالة بأمور كثيرة ووسائل الدعوة لا تخفى علينا ولا عليكم إن شاء الله تعالى، وارجعوا إلى بعض الكتب التي تدعو وتوصي، وكل كتب المسلمين تدعو إلى ذلك.

حكم مقابلة غير المحارم

حكم مقابلة غير المحارم Q في بعض الأحياء -وذكر الحيَّ- الزوجة تقابل أخا الزوج، وكذلك الزوج يقابل أخت الزوجة، أرجو التوجيه؟ A أما التوجيه؛ فأقول قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أفرأيت الحموَ يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت، الحمو الموت، الحمو الموت}. اسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يحفظ علينا بيوتنا، وأن يحفظ علينا أنفسنا، وأن يحفظ علينا أولادنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الإيمان والحياة

الإيمان والحياة إن من أراد أن يعيش الحياة فعليه بالإيمان، فالإيمان هو الحياة، لذا فلا ينبغي أن يكون الإيمان أمراً هامشياً بل لا بد أن يكون هو قضية القضايا في هذه الحياة، فإن السلف عندما عاشوا حياتهم كما يريد الله وجدوا لذة الإيمان، ولما تركناها نحن لم نجد لا طعم الحياة ولا طعم الإيمان.

أهمية الحديث عن الإيمان

أهمية الحديث عن الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلْفاً. اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته. اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم أرنا الحق حقاً، والباطل باطلاً. اللهم وفقنا لاتباع الحق، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ابتغاء وجهك، وطلب مرضاتك: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران:193] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: أحبتي في الله: أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: -وأنا أعلم بنفسي منكم- ظن بي إخوتي ظناً عظيماً، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن وأجبتم، فخيرا جزيتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل هجر، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولاً وآخراً لله الواحد القهار. يا رب أنت خلقتني وبرأتني جمَّلت بالتوحيد نطق لساني وهديتني سبل السلام تكرماً ودفعتني للحمد والشكران وغمرتني بالجود سيلاً غامراً وأنا أقابل ذاك بالكفران فلك المحامد والثناء جميعه والشكر من قلبي ومن وجداني فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي لا يستطيع لشكره الثقلان أنت الكريم وباب جودك لم يزل للبذل تعطي سائر الأحيان أنت الحليم بنا وحلمك واسع أنت الحليم على المسيء الجاني أنت القوي وأنت قهار الورى لا تعجزنَّك قوة السلطان أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني لبيك يا ربي بكل جوارحي لبيك من روحي وملء جناني اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي واقبل مقلَّ الجهد في التبيان يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة تسري على البلدان والأكوانِ أنت المضاعف للثواب فإن يكن مثقال خردلة على الميزان تعطي المزيد من الثواب مضاعفاً من غير تحديد ولا حسبان فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني أحبتي في الله: الإيمان والحياة، لسائل أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟ فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمراً هامشياً في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا، لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان؛ كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره؟! إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد، إنه لجنة أبداً لصاحبه، والنار أبداً لمن تنكبه؛ لذا كان لِزَاماً عليَّ وعلى كل مؤمن بالله، بل وعلى كل ذي عقل: أن يفكر في حقيقة الإيمان وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب، وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصاً ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى إن كثيراً منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته: {ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:71]. الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميلها تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟ الفرد -باختصار- بلا إيمان: حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه. المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء. المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12] ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها. وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على إيمانها بالله الذي لا إله إلا هو، فهنيئاً لكم الإيمان، وهنيئاً لكم القرآن، وهنيئاً لكم التوحيد، وهنيئاً لكم الإسلام، هنيئاً لكم يوم يغدو النصارى إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النيران، ويغدو المشركون إلى بيوت الأوثان، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان يا أهل الإيمان: ما الإيمان؟ الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته: إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون. إنه ما يتحسس كل مسلم قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له، لينير به جوانب روحه. الإيمان؛ ما الإيمان؟ قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. الإيمان؛ ما الإيمان؟ نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيء لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه، فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، تقربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} متي نكون أهلاً لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ؟ يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره الإيمان، ما الإيمان؟ شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأُنس بالله، والطمأنينة بذكر الله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. الإيمان؛ ما الإيمان؟ إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله: {وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:44] تبارك عز وجل؛ فسبحان من آمن له الكون أجمعه! وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:44]. موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك -أيها العبد- تُسأل: أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب؟ وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه؟ وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟! الله هو الغني ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله الذي لا إله إلا هو: {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] وفي صحيح مسلم {إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة}. كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عموماً؟! ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات؟! ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر {إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رءوسكم التَّراب}. {أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون}. خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره: {أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج:18] هل جندت نفسك -أخي في الله- لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله -أعني: موكب المؤمنين-؟ إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].

أثر الإيمان على الفرد والمجتمع

أثر الإيمان على الفرد والمجتمع يا من يحب الكنز! ويا من يحب الثروة! إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن الناس، هل لهذا الكنز، وهذه الثروة من أثر على الحياة؟ إن أثرها عظيم جد عظيم لمن كان له قلب فملأه بالإيمان إن إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد، لا. بل على الأمة جميعاً أثراً عظيماً، فهاك موجزها ولا بأس بعده من تفصيل. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله، يحاسبه على الصغيرة والكبيرة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات، وخضع مستجيباً لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله؛ لعلمه أن الملائكة معه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ترافقه وتراه ولا يراها، تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله، ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به، ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه، والذي جاء القرآن مهيمناً عليها مصدقاً لها. والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتخذهم أسوة وقدوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي. بالشرق أو بالغرب لست بمقتدي أنا قدوتي ما عشت شرع محمد حاشا يثنيني سراب خادع ومعي كتاب الله يسطع في يدي والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى، ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفاً من نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى. والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها، ولا ترجو ما سوى ربها، لا تقنع إلا بالله، ولا تلجأ إلا لله، في الدنيا تزهد، بالموت لا تبالي، لا تركع للطغيان بل تخضع للرحمن، ولسان حالها: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة، حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص بعض الأفراد، فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة، فاسمعوا أيها الأحباب! وافقهوا وبلغوا فرب مبلغ أوعى من سامع.

من آثار الإيمان: الثبات بكل صوره

من آثار الإيمان: الثبات بكل صوره من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، والثبات للمصاب عند مصيبته، والثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات! هاهو صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ ولا يصده صادٌ، فوقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش! لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو والله بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو والله بساحر، قلتم: كاهن، ما هو والله بكاهن. يا معشر قريش! إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له. فاجتمع -كبراؤها- صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوا في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه. قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلاً منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل أبي الوليد عتبة بن ربيعة. فذهب عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بليغاً، وفصيحاً، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد! أنت خير أم أبوك؟ فسكت صلى الله عليه وسلم قال: أنت خير أم جدُّك عبد المطلب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كانوا خيراً منك فقد عبدوا ما عبدنا، وإن كنت خيراً منهم فقل. ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون: يا محمد! إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا. يا محمد! ما رأينا شخصاً -قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض، يا محمد! أخبرنا ما تريد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {أفرغت يا أبا الوليد؟} ويا للأدب منه صلى الله عليه وسلم! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع صلى الله عليه وسلم يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: {حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5] سمع كلاماً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهاً مبهوراً بما يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن. حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت! أنشدك الله والرحم إلا صمت! خرج مذعوراً خائفاً راجعاً إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، فلما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثاً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية -يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فوضعت يديَّ على فمه خوفاً أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمداً إذا حدث حديثاً لم يكذب. {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] جحدوا بذلك. هل استقاموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل انتفعوا بالآيات؟ لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-؟ لا والله! بل ناصبوه العداء كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم، ثم لم يجد له مُعِيناً بعد الله إلا بنيته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها. ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من مكة، ودموعه على وجنتيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {والله! إنك لأحب البقاع إلىَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت}. ومع ذلك فقد ثبت صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم. ويأتي صحابته رضوان الله عليهم ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية. هاهو خالد بن الوليد أبو سليمان رضوان الله عليه يقارع الروم في أرضهم -كما روى ابن كثير - حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة قنسرين؛ مدينة من مدنهم محصنة بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم، فماذا كان من خالد؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصاراً عاماً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا: [[من خالد بن الوليد أبي سليمان إلى قائد الروم في بلدة قنسرين. أما بعد: فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده! لو صعدتم إلى السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا]] كلمات الثقة بنصر الله عز وجل، كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله. وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائصه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء. ما الذي ثبَّت خالداً إلا الإيمان، ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية. ليس هذا فحسب، وليس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب؛ فها هو ابن تيمية عليه رحمة الله ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن وما استكان، لسان حاله: فكيف تخاف من زيد وعمرو وعند الله رزقك والقضاء ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان عليه الباب فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان واليقين. يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال: تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عُوَّادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها ثم يختم المصحف في السجن بضعاً وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر:54 - 55] لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله. الثبات للمريض في مرضه: - يروي ابن حجر في الإصابة أن عمران بن حصين رضى الله عنه أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر. - أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [[أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟]]. فيقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {والذي نفسي بيده! لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه} فقال: [[اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد]]، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتاً بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان. ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين، يقول الحافظ أبو نعيم: لما توفي ذر بن عمر الهمداني، جاء أبوه فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظُلمنا ولا قُهرنا ولا ذُهب لنا بحق، وما أُريد غيرنا بما حصل لـ ذر، ومالنا على الله من مأثم. ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي باراً، وكنت لك راحماً، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر! ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني -والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر! لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت، يا ليت شعري! ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه باكياً: اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لـ ذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت لـ ذر إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم، ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته. وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح تسيل فتقطر انصرف وهو يقول: يا ذر! قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك. ما الذي ثَبَّت هذا الرجل إلا الإيمان؟ هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات. علو في الحياة وفي الممات

من آثار الإيمان: الخوف من الرياء

من آثار الإيمان: الخوف من الرياء من آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول ابن أبي مليكة كما في البخاري: [[أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل]]. {المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده}، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق. يقول أنس كما في صحيح البخاري: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.

من آثار الإيمان: زيادة الأمن في البلدان

من آثار الإيمان: زيادة الأمن في البلدان من آثار الإيمان على الحياة: زيادة الأمن في البلدان وعلى الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب، يقول المولى سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82] سنَّة الله لا تتخلف: {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم:6].

من آثار الإيمان: نبذ العصبيات والنعرات الجاهلية

من آثار الإيمان: نبذ العصبيات والنعرات الجاهلية من آثار الإيمان: نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقاً؛ التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة} [الحجرات:10] لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب. لو كبرت في جموع الصين مئذنة سمعت في الغرب تهليل المصلين أبا سليمان قلبي لا يطاوعني على تجاهل أحبابي وإخواني إذا اشتكى مسلم في الهند أرَّقني وإن بكى مسلم في الصين أبكاني ومصر ريحانتي والشام نرجسي وفي الجزيرة تاريخي وعنواني أرى بخارى بلادي وهي نائية وأستريح إلى ذكرى خراسان وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني شريعة الله لَمَّتْ شملنا وبنت لنا معالم إحسان وإيمان يقول صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود وحسنه محققُ جامع الأصول {إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على قُرْبهم ومكانتهم من الله، قال صحابة رسول الله: من هم يا رسول الله؟ قال: هم أناس تحابّوا بروح الله على غير أرحام فيما بينهم، ولا أموال يتعاطونها فيما بينهم، فوالله! إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس}. {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. يقع في يوم من الأيام بين أبي ذر رضي الله عنه وبلال رضي الله عنه خصومة، فيغضب أبو ذر وتفلت من لسانه كلمة يقول فيها لـ بلال: يا بن السوداء! فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشكو أبا ذر. ويستدعي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر، فيقول -كما في الحديث المتفق على صحته-: {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية}، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: [[وددت -والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ويضع خده على التراب ويقول: [[يا بلال! ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه]] فتذرف عينا بلال رضي الله عنه الدموع، ويقول: [[يغفر الله لك يا أبا ذر! يغفر الله لك يا أبا ذر! والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين]]، ويعتنقان ويبكيان؛ ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد: {إنك امرؤ فيك جاهلية}. يأتي سهيل بن عمرو، ويأتي أبو سفيان رضيَ الله عنهما، إلى أين يأتون؟ يأتون إلى مجلس عمر رضيَ الله عنه وأرضاه الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقاً، فيستأذن أبو سفيان -وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد أنوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم رضى الله عنه وأرضاه بعد إسلامه. ويأتي سهيل بن عمرو -وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي بلال الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن له، ويأتي صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي سلمان الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟ كان من أبي سفيان رضى الله عنه أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: [[والله! ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي]] فقال سهيل -وكان لبيباً عاقلاً-: [[والله! ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلى الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن نحبس على أبواب الجنة]]، أو كما قال. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] أنا مسلم وأقولها مِلء الورى وعقيدتي نور الحياة وسؤددي سلمان فيها مثل عمر لا ترى جنساً على جنس يفوق بمحتدي وبلال بالإيمان يشمخ عزة ويدق تيجان العنيد الملحد وخبيب أخمد في القنا أنفاسه لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ ورمى صهيب بكل مال للعدا ولغير ربح عقيدة لم يقصد إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند

من آثار الإيمان: تنقية القلوب من الأدران

من آثار الإيمان: تنقية القلوب من الأدران من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: {أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. هاهو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من رواية أنس، وكما في رواية ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقل المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أنت؟} يعني: أين موقفك أنت؟ حدِّد موقفك؟ هل أنت منهم؟ فيقول: {يا رسول الله! ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون} لا يعرفون الخداع، ولا يعرفون الالتواء، إنما هم صرحاء أتقياء أنقياء. فقال صلى الله عليه وسلم: {اجمعهم لي} فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم، ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني -يا معشر الأنصار! - والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. أما ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير، وتعودون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، لسان حالهم خذوا الشياة والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر أرأيت كيف استلَّ صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لما استلَّ ما في قلوبهم رضوان الله عليهم جميعاً. وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- بين أصحابه، فيقول: {يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة}، فطلع رجل تقطر لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به أحد صحابة رسول الله، وجلس معه أياماً فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام. فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو إلا ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال- إنه الإيمان. الإمام الشافعي عليه رحمة الله عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة الإمام أحمد، وهو أكبر منه سناً، فقال رداً على هؤلاء: قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له رد على المعرضين، وكأنه يقول: دعهم يعضوا على صمِّ الحصا كمداً من مات من غيضه منهم له كفن إنه الإيمان وكفى!

من آثار الإيمان: أنه حجاب من المعاصي

من آثار الإيمان: أنه حجاب من المعاصي ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}. إن المؤمن -يا أيها الأحبة- يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده، ففي الأثر أن الله عز وجل قال: {وعزتي وجلالي! ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}. هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه الربيع بن خثيم، يتمالئ عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغاً من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خيثم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان. فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله! كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة. وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع. فما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إنها الشهوة العظيمة، إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها -سن الثلاثين- ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو. الإيمان -يا أيها الأحبة- كالجمرة، متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة. وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات. هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائماً لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلاناً، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، فألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه. فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة -أن ننتهك حرمة البيت الفلاني- أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة -كما يقول- فما كان من هذا -وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج في نصف الليل -وكان نائماً- مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية -لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل- برجليهما، ويذهبان إلى الفاحشة. ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارساً بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصا غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس -والذي كان نائماً في نومته- فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل. يا لله! ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضاً- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون للبحث عن الثاني. وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائماً معهم في القرية الفلانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي: أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}. ليس هذا فحسب، فإليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ سلمان العودة في كتابه: جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليتبين لك أثر نقص الإيمان في موت القلوب. ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عاماً جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولوداً في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها. فطلبوا منها بعد أيام من الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مراً مستمراً حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء. فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟ وما الخطب؟ وما الحدث؟ وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله ما أفظع الأمر! وما أقبحه! والله! لو قيل: إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفاً، ولم ينكروا منكراً؟! ولا تستبعد مثل هذا -أخي المسلم- فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته، وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضاً، والسقوط شيئاً فشيئاً، ورحلة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

من آثار الإيمان: سعادة البيوت والأسر

من آثار الإيمان: سعادة البيوت والأسر والإيمان هو الزمام والفيصل. ومن آثاره على الحياة: سعادة البيوت والأسر، بيت يدخله الإيمان بيت سعيد؛ لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛ استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم. سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالاً؛ فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار. هذا بيت الإمام أحمد عليه رحمة الله يتربى على الإيمان، فاسمع إليه يوم يقول بعد أن توفيت زوجته أم صالح رافقتني أم صالح -يعني: زوجته- ثلاثين عاماً، والله ما اختلفت معها في كلمة واحدة. إنه الإيمان يا أيها الأحبة. وليس هذا فحسب، إن البيت المتربي على الإيمان يدرك الأطفال هذا الإيمان، فيدخل إلى قلوبهم السعادة ولو كانوا لم يحظوا من الدنيا بقليل ولا كثير. إن الإمام أحمد كان دخله في الشهر سبعة عشر درهماً فيأتي أبناؤه ويقولون: يا أبتاه! لا تكفينا، قال: أيام دون أيام، وطعام دون طعام، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس حتى نلقى الله الواحد الأحد. حذاؤه تبقى في رجله ثمانية عشر عاماً -كما ذكر ابنه عبد الله - كلما انخرمت خصفها، وأعادها إلى رجله؛ لأنه ركل زخارف الدنيا وهو يعلم أن مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا. البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل: عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال، ويدخل أطفال الرعية في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك جعل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان. يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير -والذي تربى على الإيمان-: أبتاه! ما الذي طأطأ رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة. فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه! إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله. فمن الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان.

من آثار الإيمان: الولاء والبراء

من آثار الإيمان: الولاء والبراء ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد: الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].

من آثار الإيمان: العزة

من آثار الإيمان: العزة ومن آثار الإيمان على حياة الناس: أنه يُكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطئ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده. لا غرو إذا رأينا مؤمناً أعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم وما الذي جاء بكم؟ زعق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: [[نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]]. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان. أمَّة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى أي داعٍ قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من سواكم في قديم أو حديث أطلع القرآن صبحاً للرشاد هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد فكِّروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جَمَالاً للعُصُر وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر هاهو آخر قد آمن بالله حقاً، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يتكلم في هشام بن عبد الملك الخليفة كلاماً غليظاً جافياً، فأمر هشام بإحضاره، فلما وقف بين يديه جعل يتكلم، فقال هشام له: وتتكلم أيضاً في مجلسي؟! فقال: يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل:111] أفنجادل الله جدالاً ولا نكلمك يا هشام؟! فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشداً، فقال ما شاء وانصرف راشداً بعزة المؤمن: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. إن العزّة أثر إيماني يُظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحداً، ليس هذا فحسب، وهاكم مثلاً آخر. ذلكم الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه ماداً رجله في مسجد من مساجد الشام، فدخل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، وبقي مادّاً رجله في حلقته يلقي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا الشيخ، فقال في نفسه: لآتينه من باب لطالما أُتي طلبة العلم من هذا الباب. فذهب وأضمر له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية -في وقت الشيخ قد لا يجد فيه ليرة واحدة- وقال لأحد جنوده: اذهب إلى الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا زال مادّاً رجله في حلقته يدرس قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتسب العزة من خلال قال الله وقال رسوله. فجاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية. فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه. أنا أقول: ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة، لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا يكون المؤمنون: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. وإن نسيت -أيها الأحبة- فلا أنسى سيداً رحمه الله وتجاوز عني وعنه، الذي اعتزَّ بإيمانه، فصدع بكلمة الحق بلا استحياء ولا خجل، فحكم عليه بالقتل. وطلبوا منه أن يقدم استرحاماً حتى يخفف عنه الحكم، ولكنه أبى رحمه الله وقال قولته الشهيرة: إن كنت حوكمت بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت حوكمت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية مرات في اليوم لترفض أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية. ماذا كان سيفعل سيد لولا الإيمان؟ يا للعزة! ويا للثبات! {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

من آثار الإيمان: سعة الرزق وانشراح القلب وتوكله

من آثار الإيمان: سعة الرزق وانشراح القلب وتوكله ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه. المؤمن -أيها الأحبة- لا يذهب منه ريال في شراء ما يغضب الله جلا وعلا، لا يذهب منه ريال في شراء دخان، وما في حكم الدخان من الخبائث، ولا يذهب منه ريال في شراء فيلم مفسد أو مجلة أو جريدة مفسدة؛ لأنه يعلم أنه مسئول أمام الله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فيصون رزقه عن الربا، وعن الغش، وعن الحِيَل، وعن المكر والخداع، ويجند رزقه فيما يرضي الله جل وعلا، فيرزقه الله ويبارك الله له: {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إلى الله جل وعلا، والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله جل وعلا وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: {قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [التوبة:51 - 52]. هاهو خالد بن الوليد المؤمن الحق بإذن الله يُقَدَّم له في يوم من الأيام سم من قِبَل طاغية من الطغاة، ويقول له هذا الكافر: إن كنتم صادقين في التوكل على الله جل وعلا واللجوء إليه، والثقة به، فاشرب هذه القارورة من السم. فما كان من خالد رضي الله عنه إلا أن أخذها وقال: [[باسم الله، توكلت على الله، ثقة بالله سبحانه وتعالى]] ثم شربه، فلم يصبه إلا العافية: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] نعم أجر العاملين: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:42]. ومن آثار الإيمان: انشراح الصدر، وطمأنينة القلب: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ} [الزمر:22]، المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره. هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم. تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان فانشرحت صدورهم. والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف. والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه كانت حياته ضنكاً، وكان صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} [طه:124].

من آثار الإيمان على الحياة بعمومها

من آثار الإيمان على الحياة بعمومها ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان. فالحياة كلها سفينة تمخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد. والمجتمع كالسفينة يركب ظهرها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل، وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح وذاك يحرق ويفسد، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح، يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه. ومن آثار الإيمان: حفظ الجوارح، وتذليلها لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله. حفظ القلب من الشهوات والشبهات، وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد، وحفظ السمع إلا من كتاب الله، وذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله، وحفظ البصر من إطلاقه فيما حرَّم الله؛ ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله، وحفظ البطن فلا يدخله إلا ما أحله الله، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. ومن آثار الإيمان على الحياة: آثاره على المجالس، حيث يجعلها رياضاً من رياض الجنة، ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى، ورب رحيم كريم يقول: انصرفوا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات، فيا لله ما أعظمها من مجالس! وما أعظم جالسيها ومرتاديها، جعلنا الله وإياكم من أهلها!

الإيمان واللحظة الأخيرة

الإيمان واللحظة الأخيرة ومن آثاره على الحياة: آثاره في تلك اللحظة الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصيبة المريرة التي لا يثبت فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورءوسها؛ من شدة ما يلاقي من السكرات. اللحظة التي صورها من عاناها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: {لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات}، لحظة عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاناها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها أحدهم وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فقال وهو في اللحظات الأولى من لحظات السكرات، ولا زال لسانه لم يعتقل، ولا زال جسمه لم يخدر: [[والله لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما]]. في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة}. في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء وتعب، وآخر نَصَب ووصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31]. هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله في سكرات الموت يقول: مرحباً بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ليلقى الله عز وجل على ذلك. وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغاً فيقولون له: قل: لا إله إلا الله -وهو من الصالحين ولا يزكى على الله- فكان يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:6 - 27] ليلقى الله على تلك الحال: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يشاء} [إبراهيم:27]. ومؤذن لطالما رفع الأذان من على المنائر كل يوم خمس مرات يختمها بلا إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة من حياته يغمى عليه إغماءة مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاء وقت الصلاة قام وأذن حتى يقول: لا إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، وفي مرة من المرات، يفيق من إغمائه ويقول: يا بني -وابنه معه- أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر، الله أكبر حتى ختمها بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [إبراهيم:27]. وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في تلك اللحظات، الذين لم ينضبط سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم، ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا بها حياتهم، فيا لها من سوء خاتمة! هاهو شاب في سكرات الموت، يقولون له: قل: لا إله إلا الله -ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخاناً، أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا الله عله أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخاناً، ليلقى الله على تلك الحال، نسأل الله حسن الخاتمة. وشاب أخر -كما ذكر الشيخ سلمان -: كان صادّاً نادّاً عن الله جل وعلا، وحلَّت به سكرات الموت التي لابد أن تحل بي وبك، لا أدري أقريب أم بعيد؟ ونسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام، جاء جلاسه وقالوا: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكل كلمة ولا يقول لا إله إلا الله، ثم يقول في الأخير: أعطوني مصحفاً، ففرحوا واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله، فَيُختم له بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده، وقال: أشهدكم أني قد كفرت برب هذا المصحف، ثم يلقى الله على ذلك، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

من آثار الإيمان بعد الموت

من آثار الإيمان بعد الموت ومن آثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيداً فريداً لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهناً بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسناً تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئاً ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟ وأنت على هذه الحال -يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها، جعلنا الله وإياكم من سكانها. أحد الشباب يأتيني في يوم جمعة ويقول: يا شيخ! رأيت أخي الذي مات قبل فترة في المنام، وأحببت أن أذكِّرك بهذا لتذكِّر الناس بمثل هذه الرؤيا، قال: فقلت لأخي لما رأيته في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني فله الحمد والمنَّة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، قلت: فبم توصينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، وألا تناموا ليلة من الليالي إلا وقد تعبت أقدامكم من الوقوف بين يدي الله، واحمرَّت أعينكم بكاءً من خشية الله؛ فو الله ما نفعنا هنا بعد رحمة الله إلا تلك الأعمال. وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به، يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى، حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله: {يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون}. يومها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين! ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان: يوم تعرض السجلات سجلاً سِجلاً، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويوماً يوماً لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يوم ينادى على رءوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً. وتظهر آثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب. وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] فإلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلمُ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة والدنيا معاً فالطريق الإيمان. عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عاماً أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز: {ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تَضَّرم وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فِيهِ المهيمن يختم فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيَّم وحيَّ على روضاتها وخيامها وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيماناً نجد حلاوته، وقلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعيناً من خشيتك مدرارة. اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم انفعنا بما قلنا، اللهم انفعنا بما سمعنا، اللهم واجعله حجَّة لنا، اللَّهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا. اللهم أنت ملاذنا، اللهم أنت ملجؤنا، اللهم أنت حسبنا فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت حسبنا ونعم الوكيل. اللهم كما جمعتني بأحبتي في هذه الروضة في هذه الليلة على ذكرك، فاجمعني بهم إخواناً على سُرُرٍ متقابلين. هذه محاضرتي عليكم ألقيت، فلعلها موقظة الوسنان. لم آتِ فيها من جديد مُحْدَثٍ غير اختيار اللفظ يا إخواني فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان وأهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله بالأكوان سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت. وأعتذر كذلك عن الإجابة على الأسئلة، ولعل فيما ذُكِر خير، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالقليل، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجمعنا بكم مرات ومرات ومرات، ثم يجمعنا في دار: قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها

الرقابة لمن

الرقابة لمن إن رقابة المخلوقين تسقط وتزول، وتبقى رقابة الله الكاملة المطلقة، وإن العلم البشري قاصر ولا يكمل إلاَّ علم العليم الخبير؛ وهذا يستلزم مراقبة الله ظاهراً وباطناً. وإن شهادة الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والكتب والأرض والخلق والجوارح على العبد يوم القيامة لمما يدعو إلى المبادرة بالأعمال الصالحات قبل حلول الآجال وبقاء الحسرات.

التقرب إلى الله بالأعمال قبل فوات الأوان

التقرب إلى الله بالأعمال قبل فوات الأوان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا- وأن نُقِّدم لأنفسنا أعمالاً تُبيض وجوهنا يوم نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. يوم يُبَعثر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور؛ يوم {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يوم الحاقة يوم الطَّامة يوم القارعة يوم الزلزلة يوم الصاخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].

رقابة الله الكاملة ورقابة البشر الناقصة

رقابة الله الكاملة ورقابة البشر الناقصة ثم اعلموا -يا عباد الله- أن رقابة البشر على البشر قاصرة؛ بل رقابة المخلوقات على بعضها قاصرة، فالبشر يغفل ويسهو وينام، ويمرض، ويسافر، ويموت. إذًا فلتسقط رقابة المخلوقين، ولتسقط رقابة الكائنات جميعها، وتبقى الرقابة الكاملة؛ والرقابة المطلقة، ألا وهي: رقابة الله -جلَّ وعلا-. باري البرايا مُنشئ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق حيٌ وقيوم فلا ينام وجلَّ أن يشبههُ الأنام فإنه العلي في دنّوه وإنه القريب جلَّ في علوه

علم الله المطلق

علم الله المطلق لا إله إلا الله! علم البشر علم قاصر ضعيف قليل؛ فما وراء هذه الجدران نجهل منه الكثير ولا نعلمه؛ بل لا نعلم أنفسنا التي بين جنبينا، لكن الله يعلم ذلك، ويعلم ما هو أعلى من ذلك، فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس إلا في كتاب مبين، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تُسِرهُ الآن في سريرتك، ومَن بجوارك لا يعلم ذلك؛ يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات. إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم الخبير {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، في الليلة الظلماء، لا إله إلا هو! هو الذي يرى دبيب الذَّر في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علمًا بالجليِّ والخفي {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7].

مؤامرة تحت جدار الكعبة

مؤامرة تحت جدار الكعبة رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة قد هدأت الجفون، ونامت العيون. أرخى الليل سدوله، واختلط ظلامه، وغارت نجومه، وشاع سكونه، قاما يتذاكران، ويخططان، ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلم كثيرًا مما يعملون، استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتون مما لا يرضى من القول، تذاكرا مُصَابِهم في بدر؛ فقال صفوان وهو أحدهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير، فقال عمير: صدقت، والله! لولا دَينٌ عليّ ليس له قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة لركبت إلى محمد حتى أقتله -صلى الله على نبينا محمد- اغتنم صفوان ذلك الانفعال وذلك التأثر، وقال: عليَّ دَيْنُك، وعيالك عيالي لا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم شأني وشأنك -لا يعلم بذلك أحد- قال صفوان: أفعل. فقام عمير وشحذ سيفه، وسمَّه، وانطلق به يغذ السير إلى المدينة ووصل إلى هناك، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين، أناخ عمير على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحًا سيفه، فقال عمر -وهو يعرفه-: عدو الله! والله ما جاء إلا لشر. ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ، فأخذ عمر بحمائل سيفه فلببه بها -جعلها له كالقلادة- ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: أرسله يا عمر، ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ وكان له ابن أسير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت لهذا الأسير فأحسنوا به. قال صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحي بما يضمره عمير -: اصدقني يا عمير! ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك. فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له كذا، وقال لك كذا، وتعهد لك بدَينك وعيالك، والله حائل بيني وبينك. قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام. جاء ليقتل النور، ويطفئ النور، فرجع وهو شعلة نور، اقتبسه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم. عباد الله! سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة في ظلمة الليل لا يعلم بها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب، حُبكت المؤامرة سرًا، من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما وهما يخططان، ويدبران، ويمكران عند باب الكعبة؟ إنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء! كم تآمر المتآمرون في ظلام الليل؟! كم من عدو للإسلام جلس يٌخطط لضرب الإسلام وحده أو مع غيره سرًا؟! ويظن أنه يتصرف كما يشاء؛ متناسيًا أن الذي لا يخفى عليه شيء يسمع ما يقولون، ويبطل كيدهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.

أيها العبد المؤمن! لا تحزن

أيها العبد المؤمن! لا تحزن يا أيها العبد المؤمن: إذا لقيت عنتًا ومشقة، وسخرية واستهزاء، فلا تحزن ولا تأس، إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقال لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو. يا أيها المؤمن: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن، وضاقت نفسك، فلا تأس ولا تحزن؛ إن الله يعلم ويسمع ما تقول، وما يقال لك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى:11] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. يا أيها الشاب الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثًا يقاطعه؛ اثبت ولا تأس، واعلم علم يقين أنك بين يدي الله، يسمع ما تقول، ويسمع ما يُقال لك، وسيجزي كل امرئ بما فعل {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3].

أيها العاصي! تذكر رقابة الله

أيها العاصي! تذكر رقابة الله يا مرتكب المعاصي مختفيًا عن أعين الخلق: أين الله؟! أين الله؟! ما أنت -والله- إلا أحد رجلين؛ إن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك فكيف تجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108]. يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها لا تكاد ترى الشمس معها، ثم يقول: لو عملت المعصية -الآن- من يراني؟ فيسمع هاتفًا بصوت يملأ الغابة ويقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى والله! يا منتهكًا حرمات الله في الظلمات في الخلوات في الفلوات، بعيدًا عن أعين المخلوقات: أين الله؟! هل سألت نفسك هذا Q في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأعلمن أقوامًا من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورًا، قال ثوبان: صِفْهُم لنا؟! جلِّهم لنا؟! ألاَّ نكون منهم يا رسول الله؟ قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها}. إلى من يملأ عينه وأذنه ويضيع وقته، حتى في ثلث الليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله؛ أين الله؟! فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقْبِل هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريمًا قابلاً للمعذرة يمنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل فنسأله من فضله. إن الله لا يخفي عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله!

صور من المراقبة

صور من المراقبة يعسُّ عمر -رضي الله عنه- ليلة من الليالي، ويتتبع أحوال الأمة، وتعب واتكأ على جدار، فإذا بامرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه أن ينادي: ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا ابنتي قومي إنكِ بموضع لا يراكِ فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لرقابة الله: يا أماه! أين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا. ويمر عمر مرة أخرى بامرأة أخرى تغيب عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- قد تغيبت في ظلمات ثلاث: في ظلمة الغربة والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها: تطاول هذا الليل وازورَّ جانبه وأرَّقني ألا حبيب ألاعبه فو الله لولا الله لا رب غيره لحُرِّك من هذا السرير جوانبه من الذي راقبته في ظلام الليل، وفي بُعْد عن زوجها، وفي هدأة العيون؛ والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. أنْعِم بها من مراقبة، وأنْعِم بها من امرأة! وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها -كما أورد ابن رجب - ثم قال لها: لا يرانا أحد إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟! حالها: أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك، إذ تبيت ما لا يرضى من القول!

ثمرة المراقبة قصة وعبرة

ثمرة المراقبة قصة وعبرة أخيرًا! اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن، وإنما وقع في زمن مضى؛ لتعرف ثمرة مراقبة الله -عز وجل- واستشعار ذلك الأمر. رجل اسمه نوح بن مريم كان ذا نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة ذات منصب وجمال، وفوق ذلك صاحبة دين وخلق، وكان معه عبد اسمه مبارك لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولكنه يملك الدين والخلق -ومن ملكهما فقد ملك كل شيء- أرسله سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين، واحفظ ثمرها، وقم على خدمتها إلى أن آتيك، فمضى الرجل، وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، ليستجم في بساتينه؛ وليستريح في تلك البساتين. جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك! ائتني بقطف من عنب، فجاءه بقطف، فإذا هو حامض، فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، فقال: ائتني بآخر إن هذا حامض، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، وكاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك! أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتيني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه؟ قال: والله! ما أرسلتني لآكله، وإنما أرسلتني لأحفظه، وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو! ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو! ما راقبتك ولا راقبت أحدًا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السَّماء. فأعجب به، وأُعْجِب بورعه، وقال: الآن أستشيرك -والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن- تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟ فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم. أي نصيحة وأي مشورة! نظر وقدَّر وفكَّر، وتملى ونظر فما وجد خيرًا من مبارك، قال: أنت حرُ لوجه الله، فأعتقه أولاً، ثم قال: لقد قلبت النظر، ورأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال: اعرض عليها، فذهب فعرض على البنت، وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بـ مبارك، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم. قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فكان الزواج المبارك من مبارك، فما الثمرة وما النتيجة؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلَّب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيًا بسيرته وذِكْره الطيب، إن ذلك ثمرة مراقبة الله -عز وجل- في كل شيء.

مراقبة الله ظاهرا وباطنا

مراقبة الله ظاهراً وباطناً أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة؛ لصلحت الحال واستقامت الأمور. فيا أيها المؤمن: إن عين الله تلاحقك أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت؛ في ظلام الليل وراء الجدران وراء الحيطان في الخلوات في الفلوات، ولو كنت في داخل صخور صم. هل علمت ذلك واستشعرت ذلك فاتقيت الله ظاهرًا وباطنًا، فكان ظاهرك خيرًا من باطنك، بل باطنك خيرًا من ظاهرك؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب عباد الله: اتقوا الله فيما تقولون، واتقوا الله فيما تفعلون وتذرون، واتقوا الله في جوارحكم، واتقوا الله في مطعمكم ومشربكم، فلا تدخلوا أجوافكم إلا حلالاً؛ فإن أجوافكم تصبر على الجوع، لكنها لا تصبر على النار، اتقوا الله في ألسنتكم، واتقوا الله في بيوتكم، وأبنائكم، وخَدَمِكم، وأنفسكم، وليلكم ونهاركم، واتقوا الله حيثما كنتم: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الشهود يوم القيامة

الشهود يوم القيامة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

شهادة الله تعالى

شهادة الله تعالى عباد الله: اعلموا علم يقين أن الله هو الرقيب، وأنه الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، فهو الشهيد وكفى به شهيداً، ومن حكمته سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامة الحجة حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهود علينا وكفى بالله شهيداً.

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء الشهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41 - 42] فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيشهد على الأمم، وعلى هذه الأمة.

شهادة الملائكة

شهادة الملائكة والملائكة -أيضًا- سيشهدون، وكفى بالله شهيدًا، قال الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. ويقول جلَّ وعلا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]. فالملائكة أيضًا ستشهد.

شهادة الكتاب والسجلات

شهادة الكتاب والسجلات والكتاب سيشهد، والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغير والكبير، والنقير والقطمير، تنظر في صفحة اليوم الثامن من هذا الشهر، فإذا هي لا تٌغادر صغيرة ولا كبيرة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].

شهادة الأرض

شهادة الأرض والأرض التي ذللها الله -عز وجل- لنا ستشهد بما عُمل على ظهرها من خير أو شر: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4] ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر؛ بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة؛ فإذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء. وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.

شهادة الخلق

شهادة الخلق والخلق -أيضًا- سيشهدون، وكفى بالله شهيدًا. لطالما تفكه الإنسان بين هؤلاء الخلق بالوقوع في أعراض المسلمين، وبذكر ما ستره الله عليه؛ وما علم أن الخلق يشهدون. في الصحيح: {أن جنازةً مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه، فيثني عليها الناس خيرًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: وجبت. وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوءًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: وجبت. فيتساءل الصحابة، فيقول صلى الله عليه وسلم: أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه}.

شهادة الجوارح

شهادة الجوارح وسيشهد ما هو أقرب من هذا؛ ستشهد الجوارح، فأيدٍ تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].

وقفة محاسبة

وقفة محاسبة فاتقوا الله يا عباد الله! واجعلوا هؤلاء الشهود جميعهم لكم لا عليكم، وبادروا أنفسكم وأعماركم بالأعمال الصالحات قبل حلول الآجال وبقاء الحسرات: أيا من يدَّعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب بالذنب وتخطئ الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحطاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم وحتى ما تجافيك وإبطاؤك لافيك طباع جمعت فيك عيوب شملها انضم أتسعى في هوى النفس وتحتال على الفلس وتنسى ظلمة الرَّمس ولا تذكر ما تم ستذري الدم لا الدمع إذا عاينت لا جمع يقي في عرصة الجمع ولا خال ولا عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فبادر أيها الغمر لما يحلو به المر فقد كاد يهي العمر وما أقلعت عن ذم وزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخفف لجَّة اليمَّ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون! يا من دبَّر الدهور، وقدَّر الأمور، وعلم هواجس الصدور! يا من عليه يتوكل المتوكلون! أَقِلْ العثرة، واغفر الزلة، وجُدْ بحلمك على من لم يرجُ غيرك ولا قصد سواك. اللهم هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلاً، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولَّ أمرنا، لا إله إلا أنت. أنت حسبنا. اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، واغننا اللهم عمن أغنيته عنا. اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، يا حي يا قيوم، يا قوى يا عزيز. اللهم خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها، فزكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها. اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، في حاجة إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابنا، اللهم فجازنا بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عفوًا وغفرانًا، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور، واغفر لنا ولجميع موتى المسلمين يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أي الغادين أنت

أي الغادين أنت إن كل إنسان في هذه الدنيا لابد له من طريق يسلكه إما إلى خير وإما إلى شر، فعلى المسلم أن ينظر أي الغادين هو، فإن كان من الغادين إلى الخير والصلاح فليحمد الله، وأما إن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وعليه أن يتوب قبل أن يحال بينه وبينها.

النهاية الكبرى

النهاية الكبرى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذا المسجد أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان، ثم يجمعنا بكم أخرى سرمدية أبدية في جناتٍ ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أيها الإخوة في الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة تُبيَّض وجوهنا يوم نلقى الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحاً يا صاح كيف البقاء مع اختلاف طبائع وكرور ليل دائم وصباح تجري بنا الدنيا على خطر كما تجري عليه سفينة الملاح تجري بنا في لج بحر ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح فاقضوا مآربكم عُجالى إنما أعماركم سفراً من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وحاذروا أن تُسترد فإنهن عوار

شدة خوف الصحابة الكرام من الموت

شدة خوف الصحابة الكرام من الموت في الصحيح عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله} وفي رواية المنذري {ولحثوتم على رءوسكم التراب} يوم روى هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه بكى وأبكى، وقال [[وددت -والله- أني شجرة تعضد]] ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص: [[والله لو تعلمون حق العلم ما تلذذتم بلذيذة، ولقام أحدكم بين يدي ربه حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته]] فلا إله إلا الله! الموت آت والنفوس نفائس والمستغر بما لديه الأحمق الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب وما من باب إلا وبعده دار. لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدار الدار دار نعيم إن عملت بما يُرضي الإله وإن فرطت فالنار

الموت صرخات وزفرات

الموت صرخات وزفرات فلا إله إلا الله كتب الموت على كل شيء واختص نفسه سبحانه بالبقاء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني! وإن كانت غير ذلك قالت -بصرخات تقض المضاجع-: يا ويلها أين تذهبون بها، لما ترى من العذاب، فيسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن} وتفزع البهائم فزعاً يلاحظه من يتابع سير البهائم بلا سبب، فلعل ذلك مما تسمعه ولا نسمعه نحن من صرخات المفرطين التي تقض المضاجع. أما والله لو حملنا جنازةً من الجنائز ثم سمعنا تلك الصرخات -يا ويلها أين تذهبون بها- لصعقنا، ولما تدافنا، ولما حملنا جنازة أبداً، ولقد خشي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا كما في الصحيح يوم يقول: {والله لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع} وها هو صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث البراء يرى أُناساً مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبرٍ يحفرونه، على ذاك المصير الذي لابُدَّ لكل واحد منا أن يسكنه؛ كبر أم صغر، عزَّ أم ذل، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً مسرعاً حتى انتهى إلى القبر، فجثى على ركبتيه ثم بكى طويلاً، ثم رفع رأسه، فإذا دموعه تتحدر على لحيته قائلاً: {أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا}. إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي فلو كُنَّا جماداً لاتعظنا ولكنا أشد من الجماد تُنادينا المنية كل وقت وما نصغي إلى قول المنادي وأنفاس النفوس إلى انتقاصٍ ولكن الذنوب إلى ازدياد إذا ما الزرع قارنه اصفرار فليس دواؤه غير الحصاد كأنك بالمشيب وقد تبدَّى وبالأخرى مُناديها يُنادي وقالوا قد قضى فاقرأ عليه سلامكمُ إلى يوم التنادي

الحكمة من خلق الإنسان

الحكمة من خلق الإنسان أحبتي في الله! لماذا خُلقنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وما الهدف؟ وما الغاية؟ وما الحكمة من هذا الخلق؟ إن لكل شئ حكمة وضعها الله عز وجل؛ عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، الشمس من حكمها أنها تضيء للبشر، والمطر ينبت الأرض، والحيوانات لتركب ولتؤكل وزينة، ويخلق ما لا تعلمون {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:7]. كل شئ في الوجود لحكمة من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة. فما الحكمة من خلقك أيها الإنسان؟! ألتذبح الحيوانات لتأكلها؟ ألتلبس أبهى اللباس؟ ألتسكن أحسن الدور والقصور؟ ألتنكح أجمل الزوجات لتتمتع بهن؟ ألتنام على الوثير ولتتنعم؟ ألتركب أفخم السيارات؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! ما خُلِقْنَا إلا لعبادة الله الواحد الأحد القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] والقائل سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].

القرآن كتاب هداية ونور

القرآن كتاب هداية ونور لقد جعل الله لنا طريقاً مستقيماً، فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] ليس هذا فحسب؛ بل أرسل إلينا رسولاً هو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، صاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، فجاء صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة عرفتها الأمم، ألا وهي القرآن، من استنار بنوره قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار. من التمس الهداية فيه هداه الله، ومن التمس الهدي في غيره أضله الله وأهانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. فما حالنا مع هذا القرآن؟! وما حال أبنائنا مع هذا القرآن؟ مع كلام الله جلّ وعلا، هل علَّمناه أبناءنا؟ هل دفعناهم إلى المساجد ليتعلموا كلام رب العزة والجلال؟ إن كُنَّا كذلك فأبشروا بالعزة والنصر في الحياة، والسعادة يوم تلقون الله عز وجل. وإن كُنَّا غير ذلك فإنَّ من جعله خلف ظهره ساقه إلى النار، نسأل الله العافية من النار. جاء صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليقطع الطريق على كل مبتدع وكذاب وأفاك ومُدعٍ للنبوة من بعده صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده؛ فخلَّد الله دعوته، وخلَّد الله رسالته، وجاء المدعون للنبوة في عهده ومن بعده فما جعل الله لدعوتهم أثراً؛ لأنها دعوة باطل، والباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة. جاء المدعون للنبوة من بعده فاندحروا بالقرآن، جاء مسيلمة فبم لُقِّب؟ لقب بالكذاب إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجاء الأسود العنسي فباد هؤلاء وسادت رسالته صلى الله عليه وسلم بالحق، فما على وجه الأرض أحد يقول: أشهد أن مسيلمة رسول الله، لكن على وجه الأرض ألف مليون مسلم في الجملة كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فوق ذلك أجرى أحد العلماء دراسة على خطوط الطول والعرض على الأرض، فأثبت أنه ما من دقيقةٍ تمر الآن إلا ومئذنة على وجه الأرض يسمع عليها "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله": {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فلا إله إلا الله! أيد الله رسوله بالقرآن، وبما يزيد على مئات المعجزات الظاهرات القاهرات.

اقتربت الساعة فالعمل العمل

اقتربت الساعة فالعمل العمل ها هو الإمام أحمد في مسنده يروي: {أن راعياً خرج بغنمه إلى الفلاة في يومٍ من الأيام، وجاء ذئبٌ فعدى على شاةٍ، فانقضَّ عليه الراعي وأمسك بالشاة وأخذها من فم الذئب، فما كان من الذئب إلا أن تأخر وأقعى على ذنبه، وتكلم كلام الإنس وقال: أما تتقي الله تأخذ رزقاً ساقه الله إليّ، فقال الراعي: يا عجبي! ذئبٌ يتكلم، قال الذئب: وأعجب من ذلك محمد بشر يُخبرك بأنباء من سبق، فما كان من هذا الراعي إلا أن أخذ غنمه وانطلق بها إلى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليدخل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فيُنادي النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة -لاجتماع الناس- فيجتمع الناس، فيقول صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس} ولقد كلمت السباع الإنس على عهد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وأشار بإصبعيه صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول من كان بعده بأربعة عشر قرناً، نسأل الله أن يحسن الحال. ليس هذا فحسب، فقد روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أن أهل مكة سألوه آية على قدرة الله عز وجل ليؤمنوا كما ادعوا، فسأل ربه آية، فانفلق القمر فلقتين، فلقة على جبل وفلقة على جبل آخر، فقالوا سحر أعيننا محمد -واستكبروا وصدوا وندوا- وقال المنصف منهم: نذهب إلى أهل البوادي فنسألهم هل رأوا ما رأينا، فذهبوا إلى البادية وسألوهم، قالوا: إي والله! قد انفلق فلقتين في تلك الليلة، فقالوا مصدين ومعرضين: سحرٌ عمَّ البادية والحاضرة، فأنزل الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]}. وها هو صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم لا يمر على شجرة قبل أن يبعث إلا وقالت: السلام عليك يا رسول الله! ولا يمر على حجرٍ إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! جماد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرٌ صدوا وندوا عنه صلى الله عليه وسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح بـ المدينة: {والله! إني لأعرف حجراً بـ مكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أُبعث}. ليس هذا فحسب؛ فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من الأيام في فلاة ليقضي حاجته، قال: فتبعته بماءٍ له، قال: وإذا به يأتي إلى واد على شاطئيه شجرتان، قال: فلم يجد ما يستتر به، فذهب إلى إحدى الشجر وأمسك بأغصانها، وقال: انقادي بإذن الله، قال: فوالله! لقد انقادت وراءه كما ينقاد البعير المخشوش -الذي في أنفه رباط يسحب به- ثم ذهب إلى الثانية فوضع يده عليها وقال: انقادي بإذن الله. فانقادت معه، حتى جاءت وأصبح بينها فقال: التئما عليَّ بإذن الله. فالتأما عليه حتى لا يرى صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته، قال: ثم ذهبت مولياً لئلا يبتعد المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا رآني وإذ به ينتهي من قضاء حاجته، ثم يقول للشجرة الأولى: ارجعي فترجع بأمر الله إلى مكانها، وترجع الثانية إلى مكانها} آيات ومعجزات ظاهرات بينات، لكن -يا أيها الأحبة- صدق قوم بذلك وآمنوا، فأطاعوا الله ورسوله، فكان لهم ما قاله الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70]. وصنف آخر! كذَّب وصد واستكبر بعقل جامد، وقلب فارغ، ساه لاه لا يفقه، عين لا تبصر، وأذن لا تسمع، بهيمة في مسلاخ بشر، عصى الله وتعدى حدوده؛ فكان له ما قال الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14]. ها أنت -أخي الحبيب- رأيت صنفين لا ثالث لهما، وسمعت بغاديين لا ثالث لهما، غاد غدا لإعتاق نفسه من النار فهو الفائز، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يغدو ويروح في طاعة الله جلَّ وعلا. وغادٍ آخر غدا ليوبق نفسه ويهلكها بالفسق والفجور فهو الخاسر، فأيَّ الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

موبقات ومعتقات

موبقات ومعتقات حدد موقعك، واعرف مصيرك، فأنت أحد غاديين لا محالة.

غاد مهلك نفسه بالشرك

غادٍ مهلك نفسه بالشرك فغادٍ يغدو من بيته ليهلك نفسه بالإشراك بالله، إن تكلم فلا تسمع منه إلا نتن الألفاظ الشِرْكِيَّة، تفوح من فمه وتغدو وتروح. مِن هذه الألفاظ: استعانته بالجن يقول: خذوه وافعلوا به واركبوه!! مع أنه قد كان قبلها قليلاً يُردد في صلاته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فأين العبادة وأين الاستعانة بالله عز وجل؟! إن أصيب بمصيبة -ليرفع الله درجته- في حبيب له مرض أو في قريب له أو في نفسه هو؛ لم يذهب ولم يلجأ إلى الله ويطلب الأسباب الشرعية، بل يذهب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين، فيبيع دينه ودنياه ناسياً قول الله جل وعلا: {إنه مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وينسى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم}. يغدو فيحلف بكل شئ إلا بالله الذي لا إله إلا هو، بالطلاق يحلف وبالحرام يحلف وبالذمة يحلف وبالحياة يحلف وبالنبي يحلف؛ لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ناسياً قوله صلى الله عليه وسلم أو متناسياً: {من كان حالفاً فليلحف بالله أو ليصمت} {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} {ومن حُلِفَ له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله}. وها هو -كما في الصحيح- رجل من بني إسرائيل احتاج إلى مائة دينار، فذهب إلي رجلٍ آخر، وقال له: أريد أن تقرضني مائة دينار؟ قال: هل لك من شهيد؟ قال: والله ما لي من شهيد إلا الله. قال: فكفى بالله شهيداً، قال: هل لك من كفيل؟ قال: ما لي من كفيل إلا الله. قال: كفى بالله كفيلاً، أعطاه المائة الدينار، ورضى بالله كفيلاً وشاهداً، وما كان من هذا الرجل إلا أن تواعد هو وإياه على أن يلتقيا بعد مدةٍ معلومة، فأخذ المائة الدينار وانتقل إلى بلده وعبر البحر، وكان بلده في الشاطئ الثاني وجمع المائة الدينار يريد أن يفي بوعده جزاء لمن أقرضه، وجاء إلى البحر ينتظر سفينة لعلها توصله، فلم يجد سفينة من السفن ولم يجد مركباً من المراكب، وهو يريد أن يوصلها في وقتها، فماذا فعل؟ أخذ عوداً من الحطب ثم حفره ثم وضع المائة الدينار فيه ثم أغلقه، ثم رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: اللهم يا رب! إني استقرضته فأقرضني، ورضي بك كفيلاً، ورضي بك شاهداً، ولم أجد ما أوصل له هذه الدراهم، اللهم فبلغه هذه الدراهم والدنانير ثم رمى بها في البحر، وتأتي رياح الله عز وجل تسوقها إلى الشاطئ الثاني، ذاك ينتظر آية من مجيء هذه الدراهم وآية من مجيء الرجل وظن أنه قد غدر به، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! وإذ بهذه الخشبة على الأمواج تأتي إلى طرف البحر، قال: إذاً آخذ هذا العود من خشب لعلي أرجع به لنحتطبه ولنشعل به نار خيراً من أن أرجع بلا شيء. أخذه وذهب إلى بيته وجاء ليكسر العود وإذ بهذه المائة الدينار في وسطه، فقال: لا إله إلا الله! من رضي بالله كفاه الله، فهل رضينا بالله جلَّ وعلا.

غاد معتق نفسه

غادٍ معتق نفسه وذاك غادٍ آخر يغدو؛ لإعتاق نفسه؛ إن تكلم فبذكر الله، وإن استعان استعان بالله، وإن سأل فبالله، وإن أُصيب بمصيبةٍ لجأ إلى الله، ثم طلب الأسباب الشرعية لا الأسباب الشركية، إن حَلَفَ فبالله، وإن حُلِفَ له بالله رضي، فهو غادٍ في حفظ الله وعائدٌ في عناية الله. فأي الغاديين أنت؟ فكلٌ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. وغاد آخر يغدو فيقدم مراد الله عز وجل على شهواته وعاداته، ويقدم مراد الله وأوامره على لذاته وعاداته وتقاليده، فالحكم حكم الله، والأمر أمر الله، والنهي نهي الله، والسعادة لا تكون إلا من الله، ووالله! لن يسعد إنسانٌ حتى يُقدٍّم أوامر الله على كل هوىً في نفسه، وعلى كل حكم، وعلى كل أمر وعلى كل نهي، وعند ذلك يكون له الأجر الجزيل والخير العظيم من الله. وفي الأثر: {أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي! ما من عبدٍ آثر هواي على هواه إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}. وآخر يٌقدِّم ويغدو؛ فيقدم شهوات نفسه ولذائذها وعاداتها وتقاليدها على مراد الله جلَّ وعلا، فتجده يعبد هواه، فما فما وافق عادته وشهوته وهواه فهو الحق في رأيه فيعمل به، وما خالفها فهو الباطل فيعرض عنه؛ حتى لو كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يريد الدين موافقاً لشهواته، ورغباته، ويريد أن يخضع له كل شيء، فيقبل أي حكم ويرفض أي حكم ما دام أنه لا يتفق مع شهوته: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وفي الأثر: {أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كَثَّرت همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه، ثم لا أبالي في أي أودية النار هلك}. فأي الغاديين أنت؟ فكلٌ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

من إيباق النفس ترك الصلاة

من إيباق النفس ترك الصلاة وغادٍ آخر يغدو فيترك الصلاة ويتبع الشهوات؛ فيوبق نفسه كأنه لم يسمع قولَ ربِّ العزة والجلال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]، كأنه لم يسمع قول الله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] كأنه لم يسمع الذين لم يصلوا يوم أصبحوا في النار، يوم يقول الله لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]. الصلاة ركن هام، وفرض فرضه الله لأهميته من فوق سبع سماوات، أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماوات العُلا؛ لتفرض عليه من فوق سبع سماوات، أمانة عظيمة ويل لمن ضيعها، فمن تركها فقد كفر بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر} ويترتب على ذلك: ألاَّ يزوج؛ لأنه كافر، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ولا يغسل إذا مات، ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث ولا يجوز الاستغفار له بعد موته، فلا يجوز أن نقول: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له؛ لأن الله يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] وأسأل الله ألا يكون فينا من يترك الصلاة، يترك الصلة بينه وبين ربه، لكن قد نجد فينا الكسول الذي لا يصليها مع المسلمين وإنما يصليها في بيته، نقول لهذا: قد فَوَّتَّ على نفسك أجراً عظيماً، وارتكبت إثماً مبيناً، إن رب العزة والجلال يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهو القائل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37]. تقول عائشة رضى الله عنها وهى تصف هيئة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته: [[كان يكون في خدمة أهله؛ يخصف نعله، ويعجن العجين أحياناً صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع: الله أكبر؛ فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه]] سمع نداء الله فلبى نداء الله صلى الله عليه وسلم. هو القائل صلى الله عليه وسلم في رؤياه -ورؤيا الأنبياء حق ووحي- كما روى البخاري عن سمرة بن جندب يقول: {أتاني الليلة آتيان، فانطلقا بي حتى جئنا على رجل مضطجع ممدود، وآخر قائمٌ عليه بصخرةٍ يثلغ رأسه ويتدهده الحجر، قال: ثم يصح رأسه فيعود كما كان، ثم يفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى، قال صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لرجل يقرأ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة} لا إله إلا الله! أيُّ جسدٍ يطيق مثل هذا العذاب؟ وَرُوِيَ كما أخرج الحاكم عن ابن عباس: {ثلاثة لعنهم الله: رجل أم قوماً هم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجلٌ سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجبه} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب]] ويقول صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب لأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وفي رواية: {ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذا غادٍ.

معتق نفسه بالصلوات

معتق نفسه بالصلوات أما آخر فيغدو إلى المسجد ليُصلي مع جماعة المسلمين فيعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح، ما خطا خطوة إلا كُتِبَ له بها حسنة، ولا رفع أخرى إلا وَرُفِعَ عنه سيئة، ما جلس من مجلس إلا وملك موكل به يقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى تقام الصلاة، فما بالك إذا كان يقرأ القرآن. ها هو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير يقول أبناؤه: كان كثيراً ما يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. قالوا: وما الميتة الحسنة يا أبتاه؟! قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد، وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب، ويسمع نداء: الله أكبر، الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح فماذا كان منه؟ قال: أقعدوني واحملوني إلى المسجد، قالوا: قد عذرك الله، مريض في سكرات الموت. قال: أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، فحملوه على أكتافهم وأوصلوه إلى المسجد، فصلى معهم صلاة المغرب حتى الركعة الأخيرة، فسجد فكانت السجدة الأخيرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. وها هو حاتم الأصم عليه رحمة الله فاتته صلاة العصر يوماً من الأيام جماعةً مع المسلمين، فذهب أهل المسجد يعزونه في جماعةٍ فاتته. كانوا يُعزِّي بعضهم بعضاً إذا فاتته جماعة، دخلوا عليه في بيته وهم قلة، فعزوه فبكى، قالوا: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنها فاتتني جماعة فعزاني بعض أهل المدينة، ووالله! لو مات أحد أبنائي لعزاني أهل المدينة كلهم، ووالله! لموت أبنائي جميعاً أهون علي من فوات هذه الجماعة. هكذا كان سلفنا الكرام. وهذا سعيد بن المسيب وهو في سكرات الموت وكان بنياته الصغار حواليه يبكين، فيقول لهن: "أَحْسِنَّ الظن بالله، فوالله! ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد ستين سنة". هكذا كانوا -أيها الأحبة- فأي الغاديين أنت؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

الاستهزاء بالدين

الاستهزاء بالدين وذاك غادٍ يغدو لإهلاك نفسه، فيُسلط لسانه وسنانه، ويسلط قلمه في النيل من المسلمين؛ بالسخرية بهم، والاستهزاء بدين الله، وبعباد الله، وبشعائر الله؛ ليرتكب أعظم جريمة ألا وهي الدعوة إلى الظلام، فيكون عليه وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة، وفوق ذلك يبوء بالكفر الذي يقوده إلى النار. في غزوة تبوك، يوم اتجه المسلمون مع قائدهم صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من المدينة حوالي ألف كيلو متر في صحارٍ في وقتٍ حار، وبلغ بهم الجهد مبلغه، حتى إن أحدهم في ليلة من الليالي قام يبول فسمع صوت جلد تحت بوله، فما كان إلا أن نفضه من البول ثم أشعل النار ووضعه فيها وأكله من شدة ما يلاقي من الجوع، وتأتي ثلة منهم ليسخروا برسول الله وبأصحابه فيقولون: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويأتي الكلام من الله عز وجل إلى رسوله، ويسري الخبر بينهم، فيلحقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. يغدو أحدهم فيكتب كلاماً يسب فيه الإله سبحانه وتعالى، يقول: لم يبق من كتب السماء كتاب مات الإله وعاشت الأنصاب جلَّ الله سبحانه وتعالى، ثم يستهزئ ويسخر ويظن أنه لن يقف بين يدي الله جلَّ وعلا، لكن: إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت كليلة وقال الدجى للصبح وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آخر يغدو ليُعتق نفسه، فيدعو الناس إلى توحيد الله، وإلى ما فيه الخير بقلمه وبلسانه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأنه من أمة الأمر والنهي، وأنتم يا أهل هذه القرية البعيدة عن صخب المدينة، وعما يحدث في المدنية من الفساد! إنكم لتغبطون على قريتكم هذه بين هذه الجبال، وإنكم لتغبطون على مثل هذا الاجتماع، فالله الله! لا تسكتوا على منكر، الله الله! سلطوا ألسنتكم في الأمر بالمعروف، كونوا جبهة ضد كل مفسد، فوالله! لا يمكن أن تسعد هذه البلدة ولا تسعد أي بلدة من بلاد الدنيا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فلنأمر بالمعروف في بيوتنا وفي شوارعنا، ولننه عن المنكر أياً كان المنكر؛ لأن الله عز وجل رتب النجاة للذين ينهون عن السوء: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]. يوم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فيستجيب لك واحد يكون لك مثل أجره لا ينقص من أجره شئ، ثم إن الله يهدي بك الضال فيكون لك من الأجور الشيء الكثير: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}. أتريد رحمة الله يا عبد الله؟ اسمع ما قال الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته، فأي الغاديين أنت؟ وكلٌّ يغدو؛ فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها.

موبقات ومعتقات من المصائب والحاجات

موبقات ومعتقات من المصائب والحاجات

الصبر عند المصائب

الصبر عند المصائب وذاك غادٍ في دنياه، ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه ويهلكها، فيتسخط من قضاء الله وقدره، ويعترض على قدر الله، ما علم أن المصائب ترفع الدرجات لمن احتسبها عند الله سبحانه وتعالى، وما علم أن الله مع الصابرين، يصاب في دنياه فيكسر دينه: وكل كسر لعل الله جابره وما لكسر قناة الدين جبران يقول عند الصدمة الأولى يوم يصاب في حبيب أو قريب أو في نفسه: لم يا رب؟ يعترض على قضاء الله وقدره يشق الجيب، ويلطم الخد، ويدعو بالويل، وبالثبور وبعظائم الأمور على نفسه، والملائكة في تلك اللحظة تقول: آمين آمين، فالمصيبة مصيبتان لا هو احتسب هذه، وإنما أصبحت مصيبته بفقد حبيبه، ومصيبته الأخرى: بضياع الأجر في تلك اللحظة، والمحروم من حُرِمَ الثواب. وأنا أسأل سؤالاً يا أيها الأحبة: هل سيعود ميت إن مات؟ والله! ما سمعنا أن ميتاً مات فعاد، لكنه ذهب ونحن على الأثر، إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر. هاهو أحد السلف -شابٌ من شباب السلف- كانت له زوجة صالحة، وكان له أولاد، ثم حلَّت به سكرات الموت التي لابد أن يعاني كل واحد منا هذه السكرات، ونسأل الله أن يهونها علينا وعلى كل مسلم، في تلك اللحظات التي يذعن فيها الإنسان ويخضع، ويذل لله عز وجل أياً كان، هذا الرجل مات فوجدت عليه زوجته وجداً عظيماً، ووجد عليه أولاده وحزنوا حزناً عظيماً؛ فأقسمت زوجته لتبكين عليه عاماً كاملاً. وهذا ليس من عمل الإسلام، هذا جزعٌ وتسخط واعتراض على قضاء الله وقدره، فأخذت أولادها، وأخذت خيمةً لها، وذهبت ونصبتها عند قبره، وبقيت عاماً كاملاً تبكي، وأولاده الصغار حول قبره، فما خرج إليهم فكلَّمهم بكلمة، ما خرج إلى زوجته وقال: أحسنت، أو قال: اذهبي ووالله! لو خرج لقال: لا إله إلا الله، أو الحمد لله، أو سبحان الله؛ لأنه لا ينفعه في القبر إلا مثل هذه الكلمات، والله! لو كلَّم أبناءه بكلمة واحدة لسكن الناس كلهم المقابر ليُكلموا أحبابهم وأخواتهم وأصحابهم وأولادهم، فما منا واحد إلا وله في القبر عزيز أي عزيز؛ لكن قد حيل بينهم وبين ما يشتهون. بقيت سنة كاملة وفي آخر السنة طوت خيمتها، وأخذت أولادها، وجاءت راجعة مع الغروب إلى بيتها، لم تجد جدوى من جلوسها سنة كاملة. وإذ بهاتف يهتف بها ويقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ وإذ بهاتف آخر يرد ويقول: ما وجدوا ما فقدوا؛ بل يئسوا فانقلبوا. ووالله! لن يرجع ميت -يا أيها الأحبة- فما على الإنسان إلا أن يحتسب في تلك اللحظات. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد ابنه إبراهيم الصغير فلذة كبده، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ دمعت عينه، وتأثر قلبه؛ لكنه صلى الله عليه وسلم ما قال إلا ما يرضي ربه، وهو الأسوة والقدوة، قال: {العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}. ها هي إحدى بناته صلى الله عليه وسلم كانت في يوم من الأيام لها ولد في النزع الأخير من سكرات الموت، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، وقالت: أخبره أن ابني في النزع لِيَحْضُرَه، فأخبره فقال: {مرها فلتصبر ولتحستب، فإن لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شئ عنده بأجل مسمى}.

عبر وعظات على الصبر

عبر وعظات على الصبر يعقوب عليه السلام يفقد حبيبه وابنه وفلذة كبده يوسف عليه السلام مدة أربعين عاماً، فيصبر ولا يشكو إلى أحدٍ وإنما يشكو إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]. أما الآخر؛ فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله -كما سمعتم من هذا الذي ذكرت الآن- فيعوضه الله ويبشره: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وعند الترمذي: {أن الله عز وجل يقول للملائكة: قبضتم روح ابن عبدي المؤمن؟ -وهو أعلم سبحانه وتعالى- قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم. قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع -قال الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال الله: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]. ذكر الذهبي وابن كثير عليهما رحمة الله أن عروة بن الزبير أحد علماء المدينة، الذي كان يقطع يومه صائماً غالباً، ويقطع ليله قائماً، ويختم القرآن في كل أربع ليال مرة، أخذ ابنه وسافر في يومٍ من الأيام، وأصابته الآكلة في رجل قدمه. -وهو ما يسمى الآن بالسرطان- فجاءوا به إلى الأطباء فقالوا: نقطعها من القدم. قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب، فصعدت الآكلة إلى الساق، فقالوا نقطعها من الركبة. قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب. فدخلت إلى الفخذ فقالوا: يخشى عليك. قال: الله المستعان! سلمت أمري لله، فافعلوا ما شئتم. فجاء الأطباء، وتجمعوا بمناشيرهم وجاءوا ليس لديهم مخدراً كما لدينا الآن، ما عندهم إلا كأس الخمر، فجاءوا له بكأس خمر، وقالوا له: اشرب هذا عله أن يذهب عقلك فلا تحس بألم القطع. فصاح وقال: عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر؟! لا والله! لكن إذا أنا توضأت، ووقفت بين يدي الله وقمت لأصلي، وسَبَحَتُ مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما شئتم. فتوضأ ووقف بين يدي الله، وجمعوا مناشيرهم، وسَبَحَ مع آيات الله البينات، وقاموا يقطعون في رجله بالمناشير، وإذا بالدماء تنزف، وإذ به يخر مغشياً عليه، وفي تلك اللحظة كان ابنه محمد وراء ناقة من النوق يطاردها فرفسته فأماتته. مصيبتان في آن واحد أفاق من غيبوبته، فقالوا له: أحسن الله عزاءك في ابنك محمد، وأحسن الله عزاءك في رجلك. فقال: الحمد لله رب العالمين، أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم يا رب! إن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة من الولد وأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأعطيتني أربعة من الأطراف فأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. صبر وأي صبر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]. سمع به الوليد فطلب أن يأتي إليه، فذهب إليه في قصره، ودخل على الوليد وجلس عند الوليد وبه من الهم ما به؛ لكنه فوض أمره إلى الله جل وعلا، فجاء طفل صغير من أطفال الوليد وقال: ما أصاب عروة ما أصابه، إلا بذنب أصابه، فقال: لا والله! والله ما مديت كفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي ولا دلني سمعي ولا بصري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي لعله يتسلى به، فخرجوا يبحثون، فإذا هم برجلٍ أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة، فأدخلوه ويوم أدخلوه على الخليفة قال: ما خبرك؟ قال أنا رجل من بني عبس، والله! ما كان في بني عبس رجل أغنى مني، كانت عندي أموال كثيرة، وكان عندي أولاد كثر، كان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما يعلمه الله جلَّ وعلا. ثم عزب لي قطيع من الإبل، فخرجت أبحث عن هذا القطيع أتلمس، قال: ثم عُدتُ بعد ثلاث أيام وقد رجعت بالقطيع، فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي فلم يبق لي ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً. فإذا الديار خرابٌ بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب قال: فوقفت وإذا أنا بطفلٍ صغيرُ معلَّق بشجرة -طفلٍ صغير من أطفاله لم يبق سواه- قال: فتقدمت إليه وأخذته وضممته على صدري وأنتحب، قال: وإذا بأحد الجمال يند ويهرب، قال: قلت: ضيعت كل شيء من أجلك لأرجعن بك، فترك ابنه الصغير قال وبينما أنا أطارد الجمل، وإذا بصوت الطفل الصغير يصرخ، فإذا ذئب قد أخذه وسحبه من أمامي. مصيبة أي مصيبة!! قال: فبقيت وراء الإبل لم يبق لي إلا الإبل، أريد أن أستعيد هذا الجمل، قال: فذهبت وراءه أطارده، وإذ به يرفسني فيعمي عيني، فإذا أنا في الصحراء لا أهل ولا مال ولا صديق ولا صاحب ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو، وجئتك ووالله ما جئتك يا وليد شاكياً! ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عباداً يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره إذا قدر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]. ها هو أبو ذؤيب الهذلي يموت له ثمانية أبناء في يوم واحد بالطاعون؛ فيحمد الله، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويصبر ثم يقول بعض أبيات من الشعر هي عظة وعبرة يقول: ولقد حرصت بأن أُدافع عنهم وإذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع وتجلدي للشامتين أُريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فأي الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

الظلم وخيم العاقبة

الظلم وخيم العاقبة وذاك غاد يغدو ليهلك نفسه بظلم عباد الله جلَّ وعلا، يظلمهم بلسانه، ويظلمهم بيده، ويظلمهم بأي نوعٍ من أنواع الظلم، ناسياً قول الله عزَّ وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] متناسياً أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام، ويقول سبحانه: {وعزتي وجلالي! لأنصرنك ولو بعد حين}. هاهو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، تأتي امرأة فتذهب إلى أحد خلفاء بني أمية وتقول: إن سعيد بن زيد غصبني أرضي وأخذها، وما كان لـ سعيد أن يأخذها، فيأتي به الخليفة، ويقول: أغصبتها أرضها يا سعيد؟! فتدمع عيناه، ويقول: والله ما غصبتها أرضها، ووالله لن أغصبها أرضها؛ لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: {من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقَهُ يوم القيامة من سبع أراضين} يصبحُ طوق له من سبع أراضين يحمله يوم القيامة. ثم قال: فلتأخذ أرضي إلى أرضها، وبئري إلى بئرها، ونخلي إلى نخلها؛ فإن كانت صادقة فذاك، وإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها وأرداها في أرضها. وتصعد الدعوة إلى الله جلَّ وعلا -الذي ينصر المظلوم من الظالم، وتخرج هذه المرأة، وبعد فترة تُصاب بالعمى، ثم تذهب لتتخبط في أرضها التي أخذتها بالزور والجور، ثم تسقط في البئر مُتردية ميتة، نسأل الله أن يُحِسن لنا ولكم الختام. وهاهم البرامكة وزراء الرشيد الذين كان منهم ما كان، كانوا في نعمةٍ من الله؛ لكنهم ما صانوا نعمة الله، تكبروا وتجبروا وظلموا عباد الله عز وجل، وظنوا أنهم في بُعدٍ عن قبضة الله عز وجل، ويسلط الله عليهم الخليفة فيقتل منهم من يقتل، ويدخل السجن منهم من يدخل، ويضرب أحدهم ألف سوط ثم يُدخله السجن وهو من كبارهم. فيأتي أحد أبنائه يزوره، فيقول: أبتاه! بعد العز أصبحت في القيد؟ كانت قصورهم مطلية بالذهب والفضة، أين الذهب والفضة يا أبتاه؟ قال: ألا تدري يا بني؟ قال: لا. قال: دعوة مظلوم سرت في جوف الليل نمنا عنها وليس الله عنها بنائم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].

ظلم الحيوان

ظلم الحيوان ألا وإن من أعظم الظلم ظلم الحيوانات، بعض الناس جبان، شجاعته سلَّطها على العجماوات، على الحيوانات والدواب التي سخَّرها الله عز وجل له. شجاع على القطط وجريء على الكلاب!! ها هو رجل أعرفه في منطقة الجنوب، وفي يوم من الأيام تردد حمار على مزرعة له، فيدخل كل يوم في هذه المزرعة ويأكل منها ما يأكل، فطرده في اليوم الأول، ثم طرده في اليوم الثاني، ثم طرده في اليوم الثالث، ولما آذاه كثيراً أخذه في ليلة من الليالي ثم ربطه في سيارته حياً ثم سحبه على الإسفلت إلى منطقة بعيدة حتى تمزق قطعة قطعة. ظلم وأي ظلم! ويرجع إلى بيته ويأتي وفي البيت بعوض، فقام بمبيد حشري عنده يرشه في الغرفة حتى امتلأت بهذا الغاز، ثم جاء ليضيء المصباح فما كان من المصباح إلا أن أصدر شرارة فإذ بالغرفة تصبح عليه ناراً فيحترق بالنار، ثم يبقي يومين أو ثلاثة ليلقى الله، نسأل الله أن يحسن لنا وله الختام. فالبهائم تشكو إلى الله عز وجل. يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فيجد بعيراً هناك يجرجر ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودموعه تذرف، يعرف أنه صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا رحمة للعالمين، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أين صاحب هذا البعير؟ فيخرج فتى من الأنصار، ويقول: أنا يا رسول الله! فيقول: أما تتقى الله في هذه البهيمة تجيعها وتتعبها، إنها شكت إليَّ ما تجده منك} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].

دعوة المظلوم مستجابة

دعوة المظلوم مستجابة هاهو رجل كان يُكاري على بغلٍ له بين دمشق والزبدان كما يروي ابن كثير، وجاء يوماً من الأيام قاطع طريق فركب معه وذهبا في الطريق، وبينما هو في الطريق قال: اسلك هذه الطريق فهي أيسر وأقرب، قال: أنا منذ فترة وأنا أسلك هذا الطريق وأعرفها. قال: هذا أقرب وأيسر. فصدقه وذهب معه، فجاء إلى وادٍ سحيق وإذ بهذا الوادي فيه جثث القتلى كثير، وإذا به يأتي بالناس إلى هناك فيذبحهم ثم يسرق ما معهم، ظلم وأي ظلم! جاء بهذا الرجل وأراد أن يقتله فهرب الرجل، فلحق به وأمسك به، قال: يا أخي! خذ كل ما أملك، خذ بغلتي، وخذ ثيابي، وخذ دراهمي، وخذ كل ما تريد ودعني أرجع. قال: لابد من قتلك، قال: إن كان لابد فدعني أصلي ركعتين أودع بهما الدنيا. يلجأ إلى الله -جل وعلا- قال: فقمت أصلي، وهو قائم عليَّ بالحربة يريد أن يقتلني، قال: فضيعت القرآن وأنا أرى الحربة فوق رأسي، فوالله! ما استحضرت آية من القرآن إلا أنني تذكرت قول الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] قال: فكررتها وإذ بفارس من فم الوادي يخرج على فرس ومعه حربة فينطلق حتى يضربه بالحربة فيرديه قتيلاً، قال: فتعلقت بثيابه، وقلت له: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا من جنود الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. دخل طاوس -عليه رحمة الله- على هشام بن عبد الملك ينصحه ويعظه ويحذره الظلم، ويقول له: اتق الله يا هشام! ولا تنس يوم الأذان. قال: وما يوم الأذان يا طاوس؟! قال: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] فأغمي عليه. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}. وآخر يغدو ليعتق نفسه فلا يظلم أحداً، إن تكلم فبالعدل، وإن حكم فبالعدل، وإن خاصم فبالعدل، وإن عاهد فبالعدل، والمقسطون العادلون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فأي الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها.

معتقات وموبقات اجتماعية

معتقات وموبقات اجتماعية

صلة الأرحام

صلة الأرحام وذاك يغدو ليقطع رحمه، فيوبق نفسه وتحل به اللعنة، يقول الله عزَّ وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] {إن الله لما خلق الرحم تعلقت بالعرش، وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. فمن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله}.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين يغدو بعض الناس ليعق اللذين هما السبب في وجوده بعد الله جلَّ وعلا، والله عز وجل يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]. واليوم نسمع -يا أيها الأحبة- ويا ليت الإنسان أحياناً لا يسمع، غيِّر اسم الأب، وأهينت الأم في كثيرٍ من البيوت يوم ضاعت تقوى الله جلَّ وعلا، فما تسمع في بعض البيوت إلا تسمية نتنة نتن الجيف، يقول لأبيه: شيبة النحس ويقول لأمه: عجوز الشؤم أراحنا الله منهما، إن هذه الكلمات لتنطلق من أولاد على والديهم. فلا إله إلا الله! إن رضا الله في رضا الوالدين، وإن سخط الله في سخط الوالدين. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، ثم عقوق الوالدين} من أكبر الكبائر عقوق الوالدين، دعوة الوالدين غنيمة من الله عز وجل، دعوة الوالدين مستجابة لا تُرَدَّ، فكم من دعوة والد أوبقت دنيا الولد وأخراه! وكم من دعوة والد أسعدت دنيا الولد وأخراه! يقول أبان بن عياش خرجت من عند أنس بن مالك بـ البصرة ومررت على السوق؛ فإذا أنا بجنازةٍ يحملها أربعة نفر ووراءهم امرأة، فقلت: ميت يموت من المسلمين لا يتبع جنازته إلا أربعة نفر! والله! لأشهدن هذه الجنازة، قال: فتقدمت ثم ذهبت وراءهم وحضرت الجنازة، فلما دفنوا هذه الجنازة قلت لهم: ما حالتكم مع هذه الجنازة لم يحضرها إلا أربعة؟ أين المسلمون؟ قالوا: استأجرتنا تلك المرأة لدفن هذا الرجل، فسلها ما لديها. قال: فذهبت وتلمست الطريق وراءها حتى وصلت لبيتها، ثم تركتها وعدت لها بعد فترة ودخلت عليها، وقلت لها: أحسن الله عزاءك، لله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجلٍ مُسَمَّى، ما خبرك وما خبر الجنازة التي دفنتموها في ذلك اليوم؟ قالت: إن هذا ابني، كان مُسِرفاً على نفسه، مرتكباً للموبقات والمعاصي والسيئات، كثير العقوق لي، ويوم حلّت به سكرات الموت، قال: يا أماه! أتريدين لي السعادة؟ قالت: إي والله! والأم والأب ينسى كل زلة من ولده في تلك اللحظات، قال: فإذا أصبحت في السكرات الأخيرة فلقنيني شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ضعي قدمك على خدي وقولي هذا جزاء من عصى الله، ثم ارفعي يديك إلى الله وقولي: اللهم إني أمسيت راضية عن ابني فارض عنه، ولا تخبرين أحداً بموتى فإنهم يعلمون عصياني ولن يشهدوا جنازتي. قال: ففعلتي؟ قالت: إي والله! لقد فعلت ما قال، قال: فما الخبر؟ فتبسمت وقالت: والله! رأيته البارحة في المنام وهو يقول: يا أماه! قدمت على رب رحيم كريم غير غضبان عليَّ ولا ساخط بدعوتك. رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.

صور من عقوق الوالدين

صور من عقوق الوالدين هاهو شاب اسمه منازل رمز للعقوق عند العرب، ينهمك في المعاصي فيتقدم إليه أبوه فينصحه، ويقول له: اتق الله فيتقدم إلى أبيه فيلطمه، ويالله! ابن يضرب أباه، فحلف بالله ليحجن إلى البيت الحرام، وليدعون عليه وهو متعلق بأستار الكعبة، فذهب ووصل إلى الكعبة وتعلق بأستار الكعبة فكان يقول: يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا أرض المهامةً من قربٍ ومن بعد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد وتصعد الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، فييبس شق ولده الأيمن فيصبح يابساً بهذه الدعوة من هذا الأب. وهاهو آخر: يحكى لي بائع مجوهرات ويذكر أنه في رمضان في سنة من السنوات: تقدم إليّ رجل وأمه وزوجته وابنه الصغير، قال: دخلوا عليّ في المحل، قال: فوقفت الأم متحجبة على استحياء وابن ابنها معها تمسك به، قال: وتقدمت الزوجة وزوجها فأخذوا من الذهب بمقدار عشرين ألف ريال، قال: ثم تقدمت الأم من هناك فأخذت خاتماً بمائة ريال، وجاء يُحاسب صاحب المجوهرات وهو يعرف أنه أخذ بعشرين ألفاً، قال: كم حسابك؟ قال: عشرين ألفاً ومائة ريال؛ قال: وما هذه المائة؟ قال: أمك أخذت خاتماً بمائة. فغضب وأرغى وأزبد وتقدم إليها وأخذ الخاتم من يدها، وقال: العجائز ليس لهن ذهب وليس لهن زينة، فما كان من هذه الأم إلا أن ذرفت دموعها وتغصصت بجرعها، وما كان منها إلا أن خرجت بابنه تحمله بين يديها إلى السيارة، وركبت السيارة بها من الهم ما لا يعلمه إلا الله. يقول صاحب المجوهرات وأنا أعرفه: والله! لقد بكيت أنا مما رأيت من الموقف، قال: فقالت زوجته: إن أمك هي التي تمسك بابننا وهى التي تخدمنا فما لك لا تعطيها هذا الخاتم، لن تمسك بابني بعد ذلك ولن تخدمني، فذهب إليها بالخاتم، وقال لها: خذي يا أماه! قالت: والله ما لبست ذهباً ما حييت، والله ما عرفت الذهب ما حييت أبداً، كنت أريدها لأفرح به معكم، فرأيت أن الأم لا داعي لها أن تلبس الزينة. أرأيتم عقوقاً مثل هذا العقوق -أيها الأحبة-. إن هذا في غياب تقوى الله -عز وجل- وفى غياب التربية الإسلامية في البيوت.

دعوة الوالدين مستجابة

دعوة الوالدين مستجابة وهاهي قصة أخرى لتعلموا أن دعوة الوالدين مستجابة، فسلطوها فيما ينفع الأبناء في دنياهم وأخراهم. داعية من الدعاة إلى الله يذكر عن أبيه، يقول: كان أبي في سن الشباب وَجَدُّهُ كان رجلاً صالحاً، قال: وأنا في سن الشباب فُتِحَ القبول في السلك العسكري في المملكة قبل فترة طويلة، قال: وكان عندي غنم كنت أرعاها، فقلت: لأذهبن مع الناس لأُسجل في العسكرية، فقال لأبيه: أُريد أن تأذن لي أن أذهب، فماذا كان منه؟ ما كان منه إلا أن قال: أنا لا أستطيع فيك يا بنى، أما أن آذن لك فوالله لا آذن لك، أما إن ذهبت فوالله الذي لا إله إلا هو فما لي إلا سهم أوجهه إلى الله في منتصف الليل ولعل الله لا يرده. فذهب الرجل وخاف أن يذهب ويترك والده وبقي فترة ثم أغراه ذهاب الناس إلى هناك واستلام الرواتب وأغرته الدنيا، فترك غنمه مع غنم جيرانه وذهب، وقال: لا تخبروه عني إلا في الغد، فذهب وترك والده ولم يستأذنه ولم يخف من ذلك السهم الذي قال له. وفي اليوم الثاني: يُخبر أبوه بأنه قد ذهب مع مجموعة ليُسجل في العسكرية بـ الطائف قال: فدعا عليه أبوه، وبينما هم في منتصف الطريق وإذ بالولد يعمى ولا يبصر شيئاً، فأخذوه وتقدموا به إلى الطائف وجاءوا إلى هناك فقالوا: هذا لا يصلح للعسكرية، هذا أعمى أعيدوه لوالده، فأخذوه وذهبوا به إلى والده، ولا يدرى والده ماذا حدث له. وعندما دخلوا من الباب سمعه والده وعرف صوته وهو في فناء البيت لم يدخل بعد، قال: يا بُني! هل أصاب السهم أم لم يصب؟ قال: إي والله! إني لأدخل عليك أعمى مقاداً، فدخلوا به عليه فتأثر الأب تأثراً عظيماً، وندم أن دعا على ولده بهذه الدعوة، وبقى ليلته تلك في حزن لا يعلمه إلا الله، فقام يتوضأ ويصلي ويدعو الله أن يرد عليه بصره. يقول: ومن حزنه على ولده يتقدم إلى عين ولده وهو نائم فيلحسها بلسانه، ثم يرجع فيصلي ويدعو الله، ثم يرجع مرة أخرى فيلحس عينه بلسانه وهكذا يرددها، يقول: والله! ما طلع الفجر إلا ورد الله -سبحانه وتعالى- عليّ بصري. فهذه دعوة الوالدين. وأنا لا أدعو الوالدين إلى أن يدعوا على أولادهم، وإنما أدعوهم أن يدعوا لأولادهم بالفلاح والسعادة، فإن فلاحهم وسعادتهم قد تدركك ولو بعد موتك، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصلة الأرحام، وأن يجنبنا وإياكم العقوق، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. عبد الله بن عمر يرى طائفاً يطوف بالكعبة وهو يحمل أمه على كتفيه، ويقول: يا بن عمر! أتراني أوفيت أمي حقها؟ والله! إنها لعلى ظهري من كذا إلى الآن. قال: لا والله! ما أوفيتها طلقة من طلقات الولادة. العقوق دَين، وبروا تُبروا. أسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم إلى صلة الأرحام وأن يجنبنا العقوق. وهاهو غادٍ آخر يغدو ليبر والديه ويصل رحمه، فيصله الله -عز وجل- ويبره ويوفقه ويسدده ويدخله الجنة بإذنه سبحانه، شعاره: {ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها}.

صلة النبي صلى الله عليه وسلم لأخته من الرضاع

صلة النبي صلى الله عليه وسلم لأخته من الرضاع هاهي الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع؛ أرضعته وإياها حليمة السعدية في بادية بنى سعد، وبعد أربعين سنة من الفراق بين الأخ وأخته، حيث افترقا وهما صغيران، سمعت به أنه انتصر صلى الله عليه وسلم وانتصرت دعوته وهو بـ المدينة، فانتقلت من بادية بني سعد في الطائف تقطع الفيافي والقفار والصحاري التي يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، حتى جاءت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هناك، وبينا هي هناك والنبي صلى الله عليه وسلم في وسط جيشه؛ يدبر شئون الأمة ويصرف الجيوش، جاءت إلى أحد الصحابة تستأذنه لتدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية فاستأذنوه لأدخل عليه، فأخبروا النبي الله صلى الله عليه وسلم وكان جالساً في شئون الأمة يصرفها، قالوا: فذرفت عيناه الدموع صلى الله عليه وسلم، تذكر الوشيجة والعلاقة، وتذكر رضعات كانت بينه وبينها قبل أربعين عاماً، قالوا: ذهب إليها يستقبلها ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد فراق أربعين عاماً، ويسألها ما حالها: كيف حالك يا شيماء؟ مرحباً بك يا شيماء! يقولون: ويظللها صلى الله عليه وسلم من الشمس، ويجلسها في مكانه ليعلم الناس كيف يصلون أرحامهم -صلى الله عليه وسلم- وجلست معه وسألها عن رَبْعِها وعن أهلها وعن أخواتها، وما كان منه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن قال لها: يا شيماء! إن شئت أن تعيشي معي فأختي الحياة حياتي والموت موتي، وإن شئت أن ترجعي لأهلك فذلك لك. قالت: بل أرجع لأهلي، فقام صلى الله عليه وسلم فجهزها بقطيع من الإبل، وبأرزاق معها؛ لِيُعَلِّمَ الناس صلة الأرحام لتعود إلى بادية بني سعد. فأين الذين قطعوا عماتهم؟! وأين الذين قطعوا خالاتهم؟! وأين الذين قطعوا أمهاتهم؟! ما حال هؤلاء يوم يقفون بين يدي الله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. فأي الغاديين أنت؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

شهادة الزور

شهادة الزور وغاد آخر يغدو ليهلك نفسه، فيشهد شهادة الزور يوم أصبحت شهادة الزور قرضة في بعض القرى، اشهد لي زوراً أشهد لك زوراً. يقترض بعضهم من الآخر النار وبئس القرار. {ما يبرح شاهد الزور مكانه حتى تجب له النار} كما قال صلى الله عليه وسلم. أما الآخر: فيغدو فيعتق نفسه فيشهد شهادة الحق فيكون له الأجر، وياله من أجر! الجنة بإذن ربه. فأي الغاديين أنت؟ وكل يغدو فبائع النفس فمعتقها أو موبقها.

الرزق الحرام

الرزق الحرام والآخر يغدو ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام، لم يُوفَّق للحلال مطلقاً، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، بيعه حرام، وشراؤه حرام، وماله حرام في حرام، يتغذى بالحرام من أخمص قدميه إلى رأسه. إن تصدق لم يقبل الله منه صدقته، وإن خلف ماله وراء ظهره كان زاداً له إلى النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان لا يُبالي المرء أخذ ماله من حلال أم من حرام}، ويقول: {إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما}. ومن أعظم الحرام؛ الربا: {الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها: مثل أن ينكح الرجل أمه} {درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية}. والربا عم ودخل غالب البيوت إلا ما رحم الله، أسأل الله أن يجيرنا وإياكم من الربا، وغُيِّر بغير اسمه، وتناسى الذين تعاملوا به قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] نسوا قول الله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. تداوله الذين يُريدون إيباق أنفسهم، والله! لو لم يكن في أكل الحرام إلا أنه لا ترفع لصاحبه دعوة لكفى بذلك زاجراً عنه. وآخر يغدو ليعتق نفسه، فيبحث عن لقمة الحلال، ووالله! إن لقمة الحلال نادرة، لكنها هنيئة مريئة ميسرة؛ فمطعمه حلال، ومشربه حلال، ويغذى بالحلال، ودعوته أحرى أن تُجاب من رب الأرض والسماء. هاهو أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- ما كان يأكل إلا حلالاً؛ وكان أحياناً يسأل إذا شك في الطعام، وجاءه غلامه يوماً من الأيام، فقدَّم له طعاماً فأكل منه لقمتين، فقال الغلام: لم تسألني اليوم يا أبا بكر إن هذا من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية، فصادفني صاحبها فأعطاني هذا الطعام، فعلم أنه طعام محرم، فوضع أصبعه في فمه يريد أن يخرجه، كادت روحه أن تخرج وما خرج هذا الطعام، قالوا: يا أبا بكر رحمك الله! تقتل نفسك للقمتين لا تعلم أنها محرمة؟! عفا الله عنك، إن كنت مُريداً إخراجها فاشرب ماء، فشرب ماء ثم أدخل يده مرة أخرى، كادت روحه أن تخرج وخرجت اللقمتين، قالوا: عفا الله عنك. قال: والله! لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها؛ لأني سمعت حبيبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به}.

معتقات وموبقات سببها اللسان

معتقات وموبقات سببها اللسان وهناك غادٍ آخر يغدو ليهلك نفسه؛ فيسلط لسانه على عباد الله؛ يغتابهم ويتهمهم، ناسياً قول الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لما عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس ويأكلون لحومهم}. المغتابون الذين همهم فلان وفلان، ونسوا عيوب أنفسهم ولو اشتغلوا بإصلاح أنفسهم لكان أحرى وأولى، يهدي حسناته إلى الناس. الحسن البصري -عليه رحمة الله- سمع أن رجلاً اغتابه، فما كان منه إلا أن فتش في بيته عن هدية له، فما وجد سوى طبق من رُطَب، فأخذه وقال لخادمه: اذهب إليه، وقل له: سمع الحسن أنك أهديت إليه حسناتك فما وجد لك مكافأة إلا طبق التمر ولو عدت لعدنا، والله! لولا أني أخشى أن يُعْصَى الله لتمنيت ألاَّ يبقى أحد في الدنيا إلا اغتابني؛ لأنه يهدي إليّ حسناته وهو لا يشعر. كثير من الناس يُصلون ويعملون الصالحات، وفى جلسة واحدة يمحقون ذاك العمل كله بالوقوع في عرض هذا، والوقوع في عرض هذا، فإياك واللسان: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان احفظ لسانك واحترز من لفظه فالمرء يسلم باللسان ويعطب أما الآخر: فيغدو فيدافع عن أعراض المسلمين، ويرد عنهم في المجالس، وكلامه ذكر الله أو كلام مباح، فيرد الله -عز وجل- عن وجهه النار يوم القيامة. فأي الغاديين أنت؟! وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

النميمة

النميمة غاد آخر يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة والوشاية؛ ناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام}. أما الآخر: فيغدو للإصلاح بين الناس فأجره على الله أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده.

الغناء الماجن

الغناء الماجن وذاك يغدو ليهلك نفسه، ويقسي قلبه، بسماع الغناء الماجن الذي حرمه الله -جلَّ وعلا- وقال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} فيشتري الغِناء ويشتري الخَنَا والفجور بماله، ثم يدخلها إلى بيته لينشر الرذيلة فيه ليصبح أهل البيت بآذان لا تسمع، وقلوب لا تفقه، وأعين لا تبصر، بهائم في مسلاخ بشر: {ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}. وآخر يغدو لسماع آيات الله تقرع قلبه، فيلين قلبه، وتدمع عينه، ويطيع ربه، ويدِّخر الله له غناء ليس كهذا الغناء الماجن، غناء الحور العين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، كلمات الأغاني هي الآتية: نحن الخالدات فلا يمتن نحن المقيمات فلا يظعن نحن الراضيات فلا يسخطن نحن الناعمات فلا يبأسن نحن الحور الحسان أزواج قوم كرام طوبى لمن كان لنا وكنا له ثم يرسل الله ريحاً على ذوائب أغصان أشجار الجنة، فتهزها فتحدث منها صفير صوت كل طير في الجنة، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً لماتوا طرباً، ولكن خلود ولا موت: قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا خيبة الآذان لا تتبدلي بلذاذة الأوتار والعيدان خابت أذن استبدلت كلام الله -عز وجل- بأغنية، خابت أذن استبدلت ما أعده الله لها من الغناء في الجنة بهذا الغناء الماجن. فأي الغاديين أنت؟ فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. فيا من غدا لإعتاق نفسه جد واجتهد، واغتنم زمن الصبا، وسل الله الثبات حتى الممات، وأكثر من قول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك. ويا من غدا لإهلاك نفسه وإيباقها وأمهله الله؛ عُد إلى الله وتب إليه، بادر في فكاك رقبتك من النار فأنت في زمن الإمكان.

سعة رحمة الله

سعة رحمة الله عُد إلى الله تجد الله تواباً رحيماً، إن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وهو القائل سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران:135 - 136]، وهو القائل: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالى، يا بن أدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}. سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا يعطي الذي يُخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم}. اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم تب علينا، اللهم يا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك. الله عز وجل رحيم، والله عز وجل كريم، وسبقت رحمته غضبه. ها هو سبيٌ يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السبي امرأة ضيعت ولدها، تبحث عنه يميناً وشمالاً حتى وجدته، فضمته إلى صدرها ضمة الأم لابنها الذي أضاعته، والرسول صلى الله عليه وسلم يراقبها، فيقول لأصحابه: {أترونها طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا والله! وهى تستطيع ألا تطرحه. قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}. فيا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك. هاهو رجل من بنى إسرائيل مُوحِّد لم يشرك بالله شيئاً، ارتكب الموبقات؛ سرق وزنا وغش وارتكب السيئات، وحلت به سكرات الموت، ساعة الموت الذي يُذعن فيها الجبارون، ويذعن فيها المتكبرون، فجمع أبنائه في ساعةٍ لا ينفع فيها مال ولا ولد، وقال لهم: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فوالله! ما عملت خيراً غير أني موحد لم أشرك بالله عز وجل، فإذا أنا مت فأضرموا النار ثم ضعوني فيها حتى أصبح رماداً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح؛ فلأن لقيت الله ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. ومات الرجل، ونفذوا وصيته، حرقوه وسحقوه وذروه مع الريح، فتفرق على الجبال والسهول والوهاد والأشجار والأحجار، لكن الذي بدأه أول مرة أعاده، قال الله سبحانه وتعالى له: كن فكان كما كان. قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟! أما تعلم أني أغفر الذنب وأستر العيب؟! قال: يا رب! خشيتك وخفت ذنوبي. قال: فأشهدكم -يا ملائكتي- أني قد غفرت له وأدخلته الجنة. يا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك.

قصة آبق عاد إلى الله

قصة آبق عاد إلى الله أخيراً هذا نموذج لغادٍ غدا في إيباق نفسه ثم أمهله الله عز وجل فغدا لإعتاق نفسه، وهي قصة لعل فيها عبرة. رجل عمره ما بين الثلاثين إلى الأربعين، عربد وأفسد، وصدَّ وندَّ عن الله عز وجل، يقول عن نفسه: ما كنت أنام ليلةً من الليالي إلا على شربة خمر أو زنا، قال: ويشاء الله وأتزوج بامرأة، فأزداد في عنادي وطغياني، أترك الحلال في البيت، وأذهب أطلب الحرام في خارج البيت، قال: وجئت ليلةً من الليالي بعد أن ولدت لي هذه الزوجة بنتاً وأصبح عمرها خمس سنوات، قال: جئت في ليلة من الليالي فتواعدت مع أصحابي على أن نشرب الخمر في مكان معين، ويشاء الله عز وجل لي أن أبتعد عن هؤلاء وأتأخر عن الموعد بدقائق، فجئت فإذا هم قد ذهبوا، ذهبت يميناً وذهبت شمالاً أبحث عنهم، ما تركت مكاناً إلا وبحثت عنهم فيه، لا حباً فيهم ولكن كيف أنام ليلةً بلا زنا ولا شرب خمر. لا إله إلا الله! يوم يصد الإنسان ويند عن الله عز وجل. قال: ثم ذهبت إلى صديق سوء آخر عنده من الأفلام الخليعة ما يستحي إبليس أن ينظر إليها، قال: فذهبت إليه وأخذت منه فيلماً خليعاً، ورجعت إلى بيتي في الساعة الثانية ليلاً. لا إله إلا الله! الساعة هذه في الثلث الأخير من الليل، يتنزل فيها الرب سبحانه وبحمده نزولاً يليق بجلاله، يقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟} ثلث الأوابين ثلث التوابين. قال: دخلت بيتى -والناس على قسمين ما بين عبد وقف بين يدي الله دموعه تهراق على خده من خشية الله، وما بين أُناسٍ يرضعون المعاصي في تلك اللحظة وأنا واحد منهم- قال: فدخلت فنظرت لزوجتي وابنتي فإذا هما نائمتان، فدخلت في مكان فيه هذا الجهاز الخبيث الذي لطالما دمر كثيراً من البيوت، جهاز الفيديو وما يستتبع هذا الجهاز من أفلام تعلمونها يا أيها الأحبة. يذكر أحد المشايخ في الأسبوع الماضي أنه في مكة وفي بلد الله الحرام ستة عشر فيلماً جنسياً يستحي إبليس أن ينظر إليه، سجلت في وسط مكة وتباع في وسط مكة! أين تقوى الله؟! في حرم الله نبارز الله؟! والله! لنحن عند الله لا نساوي شيئاً، متى ما تركنا أمره يدمرنا ولا يبالي سبحانه وبحمده. قال: وأدخلت هذا الشريط في هذا الجهاز وأغلقت الباب، وقمت أنظر في مناظر -أكرم الله هذه الوجوه عن تلك المناظر- قال: وإذ بالباب يفتح، فدهشت وخفت وذعرت، وإذا بها ابنتي الصغيرة التي عمرها خمس سنوات تدخل عليّ من الباب، تُحدُّ فيّ النظرات وتقول: عيب عليك يا والدي! اتق الله. عيب عليك يا والدي! اتق الله. قال: تجمدت مكاني، وبقيت أُفكر في هذه الكلمات، من علمها وأنطقها إلا رب الأرباب سبحانه وبحمده. قال: بقيت أفتش في نفسي؛ من أين جاءت هذه الكلمات؟ فقلت: لعلَّ أُمها لقنتها هذه الكلمات. قال: وذهبت وإذا بأمها نائمة. قال: فخرجت أهيم على وجهي وأنا أتذكر قولها: عيب عليك يا والدي! اتق الله. قال: وبينما أنا في حيرتي واضطرابي ودهشتي وإذا بهذا المنادي ينادى: الله أكبر الله أكبر! نداء صلاة الفجر الذي حرمه كثير من المحرومين الغافلين. قال: فاتجهت إلى المسجد مباشرة، ودخلت دورات المياه، واغتسلت وتوضأت ودخلت مع المسلمين أُصلي، قال: ويوم سجدت مع الإمام انفجرت في البكاء، لا شعورياً، بدأت أبكي، تذكرت فضائحي، وتذكرت جرائمي، وتذكرت قدومي على الله، آلمتني الكبيرة، ولسعتني الفاحشة، قال: وبعد أن انتهت الصلاة وإذا برجلٍ بجانبي يقول: ما بك؟ قال: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي؟ سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة بأي وجه ألاقي ربى؟ وبقي مكانه يتذكر ما كان منه من صدود ومن هرب عن الله -عز وجل- وأين المهرب منه إلا إليه. قال: ويحين وقت الدوام، وأذهب للدوام من المسجد وأدخل إلى دائرتي التي أعمل فيها، وفيها رجل صالح لطالما ذكرني بالله ولا أسمع له، قال: ويوم دخلت عليه، قال: أهلاً بك، والله! إن بوجهك شيئاً غير الوجه الذي أعرفه منك سابقاً، فما الذي حصل؟ قال: كان من أمري كذا وكذا، وأخبره بقصته في تلك الليلة، ثم استأذنه ليذهب وينام، فنزل من عنده وقد أذن له، فنزل إلى المسجد ليصلي في مسجد الإدارة التي يعمل فيها، قال: وجئت لوقت صلاة الظهر -زميله الذي يعمل معه- قال: ويوم دخلت المسجد فإذا به أمامي يصلى، ولما رآني ذرف الدموع واعتنقني، قلت له: لِمَ لم تذهب لبيتك لتنام؟ قال: إن بي شوقاً عظيماً إلى الصلاة، سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة بأي وجه ألاقي ربى؟ ثم تواعدا على أن يلتقيا في الليل. وذهب إلى بيته وذهب هذا إلى بيته، ويوم دخل على أهله في البيت، وإذ بزوجته تصرخ في وجهه، وتقول: ابنتك ماتت منذ لحظات، فما كان منه إلا أن انهار وبدأ يردد: عيب عليك يا والدي! اتق الله. عيب عليك يا والدي! اتق الله. يرددها ويذكر أنها ذكرته بالله عز وجل، فيأتي زميله بعد أن اتصل به وأخبره الخبر، فجاء إليه، وقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك قبل أن تموت؛ لتذكرك بالله ولم يرسل لك ملك الموت ليقبض روحك. ثم غسلوها وكفنوها وصلوا عليها، ثم ذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصلوا إلى المقبرة قال زميله: خذ ابنتك وضعها في لحدها، يريد أن يربيه ليعلم أن المصير إلى هذا المكان. فأخذ ابنته بين يديه، دموعه تسيل على كفنها: وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيل فتقطر فأدخلها في لحدها، وقال كلاماً أبكى جميع من حضر الدفن، قال: أنا -والله- ما أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور. هذه البنت أرتني نور الهداية بعد طول ضلالة وغواية، فأسأل الله أن يجمعه بها في جنات ونهر. فيا أيها الحبيب! عُد إلى الله، وأعتق نفسك من النار، إذا رأيت صدوداً وقسوة في قلبك فتذكر ليلةً من الليالي وأنت بين أهلك سعيداً، وتذكر ليلة من الليالي وأنت على فراشك الوثير، ثم تذكر الأخرى وأنت تفترش التراب: تالله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره مُتلذذاً فيها بكل لذيذة مُتنعما فيها بنعمى عصره ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأَلْيَلِ ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُحَّلِ اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا. اللهم إنا نشهدك بهذه الساعة المباركة أنا تبنا إليك وأنبنا ربنا إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

عمر بن الخطاب

عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. عباد الله إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس وَرَبَّى عليه من رَبَّى من الناس أخرج لنا أفذاذا ورجالا عرفهم التاريخ وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم خلف هذا الدين رجالا حملوا لواءه وحكموه في العالمين وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بها من بعدهم وإن من الحق؛ من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم ونبلو أخبارهم أولا: لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج لنا هؤلاء الرجال

وثانيا: لأننا نقتدي بسلفنا ونقتدي بأئمتنا وهؤلاء الأئمة الأعلام هؤلاء منارات يهتدي بها في دجى الظلمات ونعلم أيضا بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئه الإسلامية والتربية التي تثقل النفوس وتهذبها فتغرس العقيدة وتثقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة ولا شك أن شخصية [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازية أو فسق وشرب خمر ونساء أو ظلم وبغي وجور ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام وكان يئد بنته ويفعل الأفاعيل وظلم الناس وظلم المسلمين حتى قال [سعيد بن زيد] لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ضلال الجاهلية إلى نور الإسلام فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب وكان لذلك بادرة وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر حتى قالت [أم عبد الله بنت أبي حفنة] والله إنه لنترحل إلى أرض الحبشة أقبل عمر حتى وقف عليّ وهو على شركه قالت وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشرا علينا فقالت فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن <مكة> إنه الانطلاق يا أم عبد الله قالت قلت نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا قالت فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا قالت فجاء [عامر] وهو مسلم من حاجاتنا تلك التي ذهب بها فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا

قال أطمعت في إسلامه قالت قلت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب هل يسلم الحمار قالها يأسا لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام ولكن ولكن الله أيها الأخوة إذا أراد أن يهدي هدى ولو كان الرجل أقسى الناس قلبا وأبعدهم عن الله وهذا درس للدعاة إلى الله عز وجل أن لا ييأسوا من الناس ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلبا لكن الله إذا أموراد بعبد خيرا هيأه له ووفقه له ويسر الأسباب إليه وهكذا حقا فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحا ولم يكن إسلامه سرا بل إنه قد جاء في الحديث الحسن أنه لما أسلم قال أي قريش أنقل للحديث قيل له [جميل بن معمر الجمحى] قال فغدى عليه عمر قال [عبد الله] وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال أما علمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم قال فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه واتبعه عمر واتبعته أنا حتى إذا قام على باب المسجد -جميل المشرك الإذاعة-وقف على باب المسجد صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن عمر قد صبأ قال يقول عمر من خلفه كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.

فأعلنها صراحة أمامهم هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة إعلان المبادئ قال وساروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم قال وقد تعب وأرهق فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فأحلف أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش وهو [العاص بن وائل] فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه لما أسلم عمر أعز الله به المسلمين وأذل الله به المشركين وطاف المسلمون حول الكعبة لما أسلم عمر علانية جماعة لما أسلم عمر فأعز الله به الدين أراد الله بعمر خيرا ففقهه في دينه وعلمه وهو العليم سبحانه وتعالى حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في علم عمر وفقهه وفضله أحاديث جمعها العلماء فمن ذلك أربعة ساقها [الزهري] في نسق واحد قد وردت في سياقات صحيحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت لعمر أربعة رؤيا رأيت كأني أوتيت بإناء فيه لبن فشربته حتى رأيت الري يخرج من أناملي ثم ناولت فضلي ما بقي في الإناء عمر قالوا يا رسول الله فما أولتها قال العلم ورأيت كأن أمتي عليهم القمص إلي الثدي وإلى الركب وإلى الكعب كل بحسب علمه وإيمانه ومر عمر يسحب قميصا سابغا من طوله قالوا يا رسول الله ما أولت ذلك قال الدين قال ودخلت الجنة فرأيت فيها قصرا أو دارا فقلت لمن هذا قالوا لرجل من قريش فرجوت أن أكون أنا هو فقيل لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك يا أبا حفص فبكى عمر وقال يا رسول الله أويغار عليك ورأيت كأني وردت بئرا فورده [ابن أبي قحافة] فنزع ذنوبا أو ذنوبين ونزعه فيه ضعف والله يغفر له ثم وردها عمر فاستحالت الدلو في يده غربا فاستقى فأروى الظمأة وضرب الناس بعطن فلم أرى أحدا من الناس أو قال عبقريا يفري فريه"

قال العلماء هذا تأويل خلافة الشيخين فإن [أبا بكر] استخلف سنة أو سنتين فكانت خلافته قصيرة وكان منشغلا عن الفتوحات بحروب الردة فلما جاء عمر صارت خلافته أطول ففتح الله في عهده من الفتوحات وأدخل الله من الناس في عهده في الإسلام ما لا يحصى من الخلق كثرة فنشر العدل في تلكم البلاد بعد أن أسس [الصديق] قاعدتها فأعاد القاعدة وأبلى بلاء حسنا فمهد الطريق لعمر فجاء عمر فولى الولاة وفتح الفتوحات وأتى للمسلمين بالخير من عند الله وقال النبي عليه الصلاة والسلام إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه هذا الهادي المهدي الذي علمه الله وهداه وبالعلم يهتدي الإنسان للحق والصواب فلابد من الاعتناء بالعلم والبحث عنه يا أيها المسلمون وإن فى اكتساب العلم هدى وإن العلم يهدي صاحبه في الظلمات ويكشف له عندما يحتار ويوقظه من المحرمات ويجنبه الشبهات هذا العلم فتعلموا هذا الدين يهديكم به الله فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه وافق ربه في آيات نزلت من القرآن على ما قال عمر كما قال فيما ثبت في الصحيحين وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى نصلي وراءه نصلي عنده فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يقول عمر فقلت وهو يعظ أمهات المؤمنين وينذرهن فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك تأملوا يا عباد الله آية تنزل على كلام عمر يلهم الله عمر أن يقول كلاما فتنزل الآية بألفاظ عمر تنزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرأنا يتلى إلى يوم القيامة

وافق عمر ربه في أمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا كان عمر رضي الله عنه مهيبا هيبة تفتقدها كثير من شخصيات المسلمين اليوم نزع الله منهم الهيبة فلا يهابون ونزع الله من قلوبهم خوفه فصاروا يخافون من الناس كان عمر شخصية رفيعة يهابه الناس فيرتعدون منه ومن ذلك ما حصل لما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جواري قد علت أصواتهن على صوته فأذن له عليه الصلاة والسلام فبادرن الحجاب فبادرن الحجاب هربن فذهبن فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك "فقال أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الخبر علام تضحك قال عجبت لجوارٍ كنّ عندي فلما سمعن حسك بادرن فذهبن فأقبل عمر عليهن من وراء حجاب فقال أي عدوات أنفسهن والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتن أحق أن تهبن منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن دعهن عنك يا عمر فوالله إن لقيك الشيطان في فج قط إلا اخذ فجا غير فجك "هذا الرجل المهيب هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه "أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم بأمر الله عمر" هذا الرجل الشديد المهيب لما تولى الخلافة ظهرت المعاني التي كانت مخبوءة في نفسه معاني الشفقة والعطف والإحسان والرحمة في الإسلام؛ والرحمة لقد كان رحيما في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لكن لما ولي الخلافة ظهرت رحمته أكثر هذا الرجل الذي جمع في شخصيته بين الهيبة والرحمة بين الشدة في دين الله والرقة حتى كان يبكي عندما يتلو القرآن ويمرض من قراءة الكتاب العزيز أحيانا فيعاد من مرضه الذي حصل بسبب تأثره بالقرآن ليست الهيبة يا أيها الناس أن يكون الإنسان صلبا فظا غليظ القلب ليست الهيبة أن يكون متعجرفا قاسيا وإنما الهيبة في مكانها محمودة هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله، ورحمته برعيته هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم بعده من أصحابه أمثلة عندما يرى الإنسان حاله ويرى المسلمون واقعهم يشتاقون لخلافة مثل خلافة عمر ويتوقون لقيادة مثل قيادة عمر الذي كان يخرج ليتفقد رعيته

قال [أسلم] خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق فلحقت عمر امرأة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغار والله ما يمزجون قراعا ولا لهم ذرع وضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا بنت [خفاف ابن إيماء الغفاري] هذا الصحابي الجليل وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض ثم قال مرحبا بنسب قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه جرارتين ملأهما طعاما وحمل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها بخطامه؛ البعير وما عليه ثم قال اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكما الله بخير فقال رجل يا أمير المؤمنين أكثرت لها قال عمر ثكلتك أمك والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته قال [أسلم] خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى <حرة واقم> وهي الحرة الشرقية <للمدينة> حتى إذا كنا بسرار مرتفع من الأرض إذا نار فقال يا أسلم إني لأرى ها هنا ركب قصر بهم الليل والبرد انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة علىنار وصبيانها يتضاغون يصيحون ويبكون فقال عمر السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول يا أصحاب النار هم يوقدون نارا وعمر ينظر إلى القدر قال السلام عليكم يا أهل الضوء فقالت وعليك السلام فقال أدنو .. ؟ فقالت أدن بخير أو دع؛ فدنى فقال ماذا بكم قالت قصر بنا الليل والبرد قال فماذا لهؤلاء الصبية يتضاغون قالت الجوع قال فأي شيء في هذه القدر قالت ماء أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر تقول المرأة والله بيننا وبين عمر فقال أي رحمك الله وما يدري عمر بكم المرأة تقول الله بيننا وبين عمر نحن في الصحراء وحدنا لا نجد طعاما عمر يقول وهي لا تدري من هو

يقول لها أي رحمك الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية قالت يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا قال فأقبل عليّ فقال انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم فقال احمله عليّ فقلت أنا أحمله عنك قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك فحملته عليه الخليفة يحمل على ظهره أمام الناس يمشي بين الناس على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية إلى المكان النائي الذي فيه المرأة ويهرول من أجل الأولاد فانطلق وانطلقت معه إليهم إليها نهرول فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها دري عليّ وأنا أحرك لك وجعل ينفخ تحت القدر الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل ثم أنزلها فقال أبغينى شيئا أسكب فيه فأتته بصحفة فأفرغها فيه ثم جعل يقول لها أطعميهم وأنا أصفح لهم فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك بقية الكيس وقام وقمت معه فجعلت تقول جزاك الله خيرا كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين فيقول قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله ثم تنحى ناحية عنها فابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد فضرب ضربة فقلنا له إن لنا شأنا غير هذا ولا يكلمنى يقول لابد أن تكون الوقفة لهدف وعمر لا يتكلم حتى رأى الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما أحب هذا عمر هذا عمر في الرعية هذا عمر في تفقده للمساكين وعقده هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء اللهم ارحم عمر واغفر له وأعلي شأنه وارفع درجته في المهديين اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الرحمين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدا لقد كانت وفاة عمر فاجعة فجع بها القريب والبعيد كان عمر هو الباب الذي يدرء عن المسلمين الفتن فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب عن [عود بن مالك الأشجعي] أنه قال رأيت في المنام كأن الناس قد جمعوا فكأني برجل قد صرعهم فوقهم بثلاثة أذرع أطول من الجميع قال قلت من هذا قالوا عمر بن الخطاب قال؛ قلت: لما؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم وإنه خليفة مستخلف وشهيد مستشهد قال فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه قال فأرسل إلى عمر يبشره فقال لي اقصص رؤياك فلما بلغت إلى خليفة قال زجرني عمر ونهرني قال تقول هذا وأبو بكر حي قال فسكت فلما ولي عمر كان بعد في الشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي اقصص رؤياك قال فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم قال إني لأرجو أن يجعلني الله منهم وأما خليفة مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني قال فلما بلغت وشهيد مستشهد قال وأنّى الشهادة وأنا في جزيرة العرب وحولي يغزون ويغزون ثم قال عمر مستدركا يأتي الله بها أنّى شاء يأتي الله بها أنى شاء ورأى عمر في منامه أن ديكا نقره ثلاث نقرات، وفعلا حصل نقاش بين عمر وكان لا يدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب والفرس فدخل بعضهم متسترين بالإسلام وكان من سياسة عمر أن لا يدخلهم دخلوا فأقاموا فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي [أبو لؤلؤة] الذي قال لعمر متوعدا لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس فقال عمر توعدني العبد وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته فقال عمر قتلني الكلب ثم صمت ثم سمع الناس قراءة [ابن عوف]

وصار العلج في الناس في صفوف المصلين ينحر يمينا وشمالا فقتل فيها ستة من الصحابة وحمل عمر مطعونا وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح فعلموا أن الأمر قد انتهى أوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى في قصة مشهودة عظيمة جدا أخرجها الإمام البخاري في صحيحه كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد قال [ابن المسيب بن رافع] سار إلينا [عبد الله بن مسعود] سبعا من المدينة سبعة أيام إلينا في مكانه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن غلام المغيرة [أبا لؤلؤة] قتل أمير المؤمنين عمر قال فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم هذا الخليفة الذي كان يرعاهم فيسوسهم بأمر الله قال ثم قال ابن مسعود إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا [عثمان بن عفان] فأخبرهم الخبر والنتيجة. قال عبد الله بن مسعود لقد أحببت عمر حبا حتى لقد خفت الله من شدة حب عمر خفت الله ولو أني أعلم أن كلبا يحبه عمر لأحببته ولوددت أني كنت خادما لعمر حتى أموت ولقد وجد فقده كل شيء حتى العضاة -شجرة الشوك- إن إسلامه كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن سلطانه كان رحمة ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جدا وهذا شيء قليل منها والمقصود أيها الأخوة أن لهؤلاء حق علينا في معرفة سيرهم وإن هؤلاء من أراد فليقتد بهم وإن في تذكر هؤلاء سبب لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدل كعدل عمر وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض اللهم ردنا إلى الإسلام ردا جميلا اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين اللهم ارفع الظلم عن المظلومين اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين.

§1/1