دروس للشيخ عطية سالم

عطية سالم

دروس الحرم [1]

دروس الحرم [1]

السبق

السبق

مشروعية السبق

مشروعية السبق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق). مسجد بني زريق كان وراء مسجد الغمامة من الجنوب الشرقي، وكان موجوداً إلى عهد قريب وشاهدناه، والحيفاء إلى الشمال جهة بئر عثمان، والمسافة ستة أميال. ما معنى الخيل المضمرة؟ العرب تضمر الخيل للسبق وللحرب، وتضميرها من الضمور، وهو أن تعلف مدة طويلة علفاً زائداً عن حاجتها لتسمن سمناً وافياً، ثم تشمس في مكان قليل الهواء، وتجلل، أي: توضع عليها الجلال ومع ضيق المكان، وعدم وجود الهواء، وكثرة الجلال يكثر عرقها، والعرق يخرج بفضلات الجسم، وتبقى عضلاتها، فهم يسمنونها، ثم يخففون سمنها بإخراج العرق منها، فتكون قد اجتمعت قواها وتخلصت من ثقلها الذي هو رطوبة الجسم، وغير المضمرة تأكل وتنام كعادتها. فهم يضمرون الخيل ويعدونها للجري؛ لأنها تكون أخف جسماً وأقوى، وتكون أدعى إلى السبق، وفي الحرب تكون أدعى إلى الصبر على الكر والفر، فهي أمسك من غيرها.

ما يشترط في المسابقة

ما يشترط في المسابقة ومن هنا قال العلماء: يجب في السبق أن يكون الفرسان من نوع واحد، فلا يصح السباق بفرس عربية أصيلة مع فرس غير عربية، ولا مضمرة مع غير مضمرة؛ لأن هذا فيه تفاوت، لكن تكون حقيقة القوة والمعادلة والسبق إذا كانا متساويين. وكذلك الفارسان اللذان يركبان يجب أن يكونا متقاربين في الوزن والثقل، وبهذا يتم لنا تحديد المسافة ونوعية الخيل، فإذا اختلف واحد من هذا فسد عقد السبق، ولا يجوز ذلك، والإبل ليس فيها تضمير. وبعض العلماء ألحق بالفرس كل ما له حافر، ويذكرون ذلك عن الشافعية، ويلحقون بالبعير كل ذي خف كالفيلة، ولكن المعهود عند العرب أنهم لا يقاتلون على فيلة، ولا يقاتلون على كل ذي حافر؛ لأن كل ذي حافر لا يصلح للكر والفر كالخيل، قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل معقود بنواصيها الخير).

شروط جواز الجعل للمتسابقين

شروط جواز الجعل للمتسابقين فإذا كان نوع الخيل واحداً، والمسافة محددة في كل عقد مع الجنس، فهنا تبقى عملية السبق بينهما إذا جعل أحدهما الجُعل للسابق ولم يدفع الثاني شيئاً، فنفترض أن السبق بين اثنين، فالمال الذي يدفع جائزة للسابق، من أين يأتي؟ إن كان من واحد منهما على أن من سبق منهما أخذه، فلا مانع، فإن سبق الدافع استرجع حقه، وإن سبق الآخر أخذه. أما إذا دفع كل منهما جزءاً، وقالا: الجميع لمن يسبق، فلا يجوز؛ لأنه قمار! وإذا جاء ثالث غيرهما وقال: تسابقا فمن سبق منكما فجائزته عليَّ، فلا مانع؛ لأنه ليس بين المتسابقين مقامرة إذا كان الأمر كذلك بإيجاد الجائزة من ثالث غير مشترك. الأئمة الثلاثة يقولون: أي واحد تدخل بينهم وتبرع بجائزة فلا مانع، ومالك يقول: لا يصح هذا التبرع إلا من ولي الأمر؛ لأنه هو الذي من حقه أن يأخذ من بيت مال المسلمين ويعطي، والجمهور يقولون: هو متبرع، وليس في ذلك غضاضة عليه. إذا لم يكن هناك ثالث تبرع بالجائزة، ولم يقبل واحد من الاثنين أن يدفع الجائزة بمفرده، وقالا: لا بد من مشاركة في الجائزة أنت تدفع النصف وأنا النصف، يقولون: إن جعلا محللاً بينهما جاز، ومن هو المحلل؟ المسابقة الآن على خيل، وكلا الفرسين في الطرفين من جنس واحد، والمحلل شخص ثالث يدخل معهما بفرس من نوع فرسيهما ويكون من عادته السبق، وكلا المتسابقين يظنان أنه قد يسبق، ويعتقدان أنه يمكن أن يسبق، لا أن يكون عاجزاً وهما يعلمان أنه لن يسبق، لأن دخوله حينئذ سيكون شكلياً ما له قيمة؛ لأن السبق سيكون بينهما فقط، والثالث معروف أنه لا يسبق، فهذه حيلة لا تصح. فيشترط في المحلل الذي يدخل بينهما أن يكون نظيرهما تماماً، فإذا دفع أحد المتسابقين النصف، ودفع الثاني النصف الآخر، ودخل هذا المحلل على أساس أنه لو سبق أخذ الجائزة التي دفعها الطرفان، وإذا سبق واحد من الاثنين أخذها؛ لأنه يوجد ثالث يمكن أن يفوز بالجائزة، فهنا سلمت من المقامرة، هذا ما يتعلق بالسبق في الخيل والإبل. أما النصل، وهي: الرمي بالسهام، فيكون بين اثنين أو بين فريقين، خمسة مع خمسة، أو عشرة مع عشرة، أو أكثر أو أقل، فإن كان الرمي بين اثنين فبعض العلماء يقول: يوضع لكل واحد هدفاً مستقلاً، هذا يقف هنا وهدفه أمامه هناك، والثاني هدفه أمامه هناك، وبعضهم يقول: يبقى الهدف واحداً، ويرميان تباعاً لا في وقت واحد، فإذا حددت مسافة الهدف بين أطراف أصابع القدمين وهدف الإصابة؛ كذا قدماً أو كذا متراً تحددت. كم يكون الرمي مثلاً؟ قال: الرمي عشر مرات، كل واحد منهما يرمي عشرة أسهم، ثم يقولون: من أصاب بأكثر العشرة فهو الفائز، فكل واحد منهما يرمي عشرة أسهم. وننظر الأول كم أصاب من العشرة، والثاني كم أصاب، فمن كانت إصابته أكثر فهو الفائز. أو يقولون: الرمي من عشرة أسهم ولكن الفوز من إصابة خمسة، الذي يصيب خمسة من عشرة فهو فائز، فهنا يبدأ الفريق الأول يرمي إذا كان الهدف واحداً، وإن كانا هدفين فيرميان معاً، فإن أصاب أحد الفريقين الخمسة التي هي نصاب الفوز فاز، وإن أصاب الفريق الثاني الخمسة أيضاً تساويا، فلا جائزة، ولا يقال: نصلح بينهما، فالقرعة لا تدخل هنا، وإن كان الهدف واحداً فالأول يرمي إلى أن يصل إلى الخمسة، ثم يأتي الثاني ويرمي إلى أن يصل إلى الخمسة، ومن لم يصب خمسة أسهم من العشرة فليس بفائز، ومن أصاب خمسة فأكثر من العشرة فهو الفائز. وهكذا إذا كانوا جماعة، فريق من عشرة أشخاص، وفريق من عشرة أشخاص، والرمي من عشرة سهام، فكل فريق سيرمي مائة سهم، كم مجموع الفوز من مجموع الفريقين؟ نقول: الفوز بإصابة خمسين، سواء كان الفريق الأول شخصين أو خمسة أو أكثر، على حسب العدد المتفق عليه. إذا وصل الفريق الأول بإصابة خمسين سهم وصل إلى الفوز بالجائزة، وإذا وصل الفريق الثاني بمجموعه إلى أربعين أو إلى تسعة وأربعين، وليس بلازم أن يكون كل واحد من العشرة يصيب مثل بعض، ولو اثنين أصابوا الخمسين فهذا الفريق قد فاز، هذا ما يتعلق بعموم موضوع السبق بين المتسابقين. نعود إلى متن الحديث، وهو الحديث الأول: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحيفاء ستة أميال)، إذاً: لا مانع من أن يكون هذا المقدار على هذا النوع من الخيل في المسابقة، وسابق بين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق، ومسافتها ميل واحد، والله تعالى أعلم. [وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وفضل القرّح في الغاية)]. سابق صلى الله عليه وسلم بين الخيل، وفضل القرّح أي: الخالصة الأصيلة، يقال: ماء قراح، أي: صاف، وكذلك الخيل القرّح هي الأصيلة. ولأصالة الخيل عند العرب تاريخ، وهواة الخيل يجعلون سجلاً لولادة خيلهم، فإن كان عنده ثلاثون رأساً من الخيل من ذكور وإناث للتناسل، فعنده سجل يسجل فيه مواليد الإنتاج، ويسجل فيه سلالة الأم وسلالة الأب، الأم هذه من أين؟ أمها ما نوعها؟ وأم أمها من أين؟ ويتبع تاريخها إلى مدى بعيد، فإذا لم يدخلها هجين قيل عنها: قرّح، أي أنها من سلالة خيل صافية، وكذلك الأب، ويغلون أثمانها إذا استوفت الشروط، وهو أن تكون من سلالة خيل صالحة لم يدخل في نسلها هجن، فكان يفاضل صلى الله عليه وسلم بينها وبين غيرها؛ لأنها أقوى وأزهى وأنسب للسباق.

لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر

لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر [قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر)]. فـ (لا سبق إلا)، هذا الأسلوب عند البلاغيين يسمى: النفي والإثبات، وهو أقوى أنواع الحصر. (لا سبق): نفي جميع أنواع السبق، (إلا): إثبات للمطلوب: نصل، حافر، خف، فـ (لا) نفت جميع صور وأفراد وأنواع السبق، ولو قيل: (لا سبق) ولم يستثن لنفي كل سبق في أي نوع من الأنواع؛ لكن لما جاءت إلا وهي من أدوات الاستثناء، وقع الاستثناء، ويشترط أن يكون متصلاً وألا يفصل بين المستثنى والمستثنى منه بزمن طويل أو أو إلى آخره، فـ (إلا) تثبت بعض أفراد المنفي. وهذا الأسلوب أقوى أنواع الحصر، كما في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فلو أن إنساناً يقول: لا إله، فإنه يكون قد نفى جميع الألوهية، حتى نفى الألوهية عن رب العزة، أي: إذا قال: لا إله، فمعناه أنه لا يعترف حتى بألوهية رب العالمين، لأنه نفى جميع الألوهية، ثم تأتي (إلا) وتثبت الألوهية لله وحده. فـ (لا) نفي لجميع الآلهة، و (إلا) أثبتت المطلوب، وهو الله الواحد. فكذلك هنا، والحصر ينفي ما قبل إلا، ويثبت ما بعد إلا، وقد يكون هناك أدوات حصر أخرى مثل: (إنما) كان يقول: إنما السبق في كذا وكذا، والتقديم والتأخير، مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يعني: لا نعبد غيرك، ولا نستعين بغيرك. فهنا جاء الحديث بأسلوب النفي والإثبات وهو أقوى أنواع الحصر، فنفى السبق في كل شيء واستثنى من ذلك هذه الثلاث. إذاً: لا يجوز لأحد أن يدخل مع صاحبه في سباق لم يأت به نص، والنص إنما جاء بهذه الثلاث، فلا سبق في غيرها. كلمة: (لا سبق) عامة، بجعل وبغير جعل، لكن المراد هنا ما فيه المحظور وهو الذي بالجعل، أي: لا يجوز السبق بجعل إلا في هذه الثلاثة، وأما بدون الجعل في السباحة، أو في الجري، وفي جميع أنواع الرياضيات؛ فلا مانع في ذلك. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.

دروس الحرم [2]

دروس الحرم [2]

الجزية والفيء والغنائم

الجزية والفيء والغنائم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فمن الموارد المالية للدولة الإسلامية الجزية التي تؤخذ من الكفار إذا لم يسلموا، واختاروا دفع الجزية بدلاً من قتال المسلمين، وقد اختلف العلماء هل تؤخذ الجزية بغير اسمها؟ فأجاز ذلك كثير من العلماء واستدلوا بقصة نصارى بني تغلب مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنهم قالوا له: فرضت علينا الجزية، واعترفنا بها، وصالحنا عليها، إلا أننا نأنف من تقديمها؛ لأن تقديمها كما قال تعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، والعرب تأنف من ذلك؛ قالوا: فخذ منا كما تأخذ من المسلمين، لأن ما يأخذه من المسلمين في الزكاة أكثر مما يأخذه من أهل الذمة في الجزية. فامتنع عمر، فزادوه، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين من أموالهم، فأرادوا أن يدفعوا ضعف الجزية باسم الزكاة ولا تكون باسم الجزية، قالوا: وإلا فدعنا نرحل إلى أرض الشرق، ونخرج من الجزيرة، فشاور عمر من حضره، فقالوا له: يا عمر! اقبل منهم، وأبقهم تحت يدك بدلاً من أن يخرجوا عن طاعتك فيكونون عليك بعد أن كانوا لك وفي قبضتك، فقبل منهم، وأضعف عليهم العشر كما يقال، وأبقاهم على ما هم عليه، باتفاق بينهم وبينه. هذه هي الجزية على الكفار، والزكاة تكون على المسلمين في الأموال.

اجتهاد عمر رضي الله عنه بعدم قسمة الأراضي المغنومة

اجتهاد عمر رضي الله عنه بعدم قسمة الأراضي المغنومة ومن الموارد: الخراج، والعشر، والخراج مختص بالأرض المزروعة، ولا علاقة له بالأشخاص، والجزية مختصة بالرقاب والأشخاص ولا علاقة لها بالأراضي. وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه أوقف قسمة الأراضي المغنومة على الغانمين، ولما عارضه بلال وابن الزبير وقالا له: اقسم علينا كما قسم رسول الله خيبر وبني النضير، قال: إن الرسول فتح مكة ولم يقسمها. وقال: إنني رأيت رأياً وأستشيركم فيه، إننا لو قسمنا كل ما فتحه المسلمون على الغازين، فسيأتي وقت ويأتي أجيال فيما بعد فلا يجدون من الغنائم شيئاً، وإننا في الوقت الحاضر في حاجة إلى المال بصفة مستمرة للمصالح العامة، لنمون الثغور، ونجهز الجيوش، ونطعم الأيتام والأرامل والمحتاجين، فمن أين نأتي بالمال لهذا كله إذا كنا نقسم كل قرية فتحت على الغانمين؟ ولو فعلنا ذلك لم يبق عندنا شيء، فإني أرى أن نقسم ما كان منقولاً من الثياب والأموال والحيوانات على الغانمين قسمة غنيمة، ونبقي الأرض ونجعل عليها خراجاً لمن هي تحت أيديهم. وهذا الخراج بمعنى أجرة، جزية، جُعل، غرامة، وكل هذا يقول به بعض العلماء، وإذا جئنا إلى استعمال القرآن لكلمة خراج أو خرج لوجدنا أنها تدور بين الجُعل وبين الإجارة، كما في قصة أصحاب السد: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] فـ (خرجاً) هنا بمعنى: أجرة على هذا العمل، وبعضهم يقول: إن هذا الخراج الذي فرض على الأراضي أجرة تؤخذ ممن هي تحت أيديهم. وكيف يقدر الخراج على الأراضي المختلفة في النتاج والغلة؟ قالوا: أرسل عمر رضي الله تعالى عنه خبيراً، فجعل على النخل ثمانين درهماً، والعنب ستين درهماً، وما عداهما من الأرض البيضاء والحبوب والخضروات عشرين درهماً، أي أنه وضع نسباً مختلفة لأرض النخيل ولأرض الأعناب، وعلى الأرض البيضاء كذلك. قيل: وجعل الخراج على الأرض البيضاء والسوداء أيضاً، والبيضاء هي: التي لم تزرع، والسوداء هي: المزروعة المسودة بخضرة الزرع الذي هو فيها، قيل: جعل الخراج على السوداء والبيضاء ليهتم أصحاب القرية بإحياء الموات، ولا يبقى بياض في الأرض. وهناك من يقول: إنما جعل الخراج على الأراضي السوداء التي تنتج، وترك الأرض البيضاء لولي الأمر ليمنح منها، ويقطع الإقطاع منها لمن يريد، أو تركها لمن يحيي مواتاً منها فهي له، وهكذا كان الخراج على الأرض تختلف النسبة فيه بنوع الثمرة والغلة، فعلى النخيل أكثر مما على العنب، وعلى العنب أكثر مما على الخضروات.

إرسال عمر رضي الله عنه للمعشرين

إرسال عمر رضي الله عنه للمعشرين وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرسل إلى الحدود وإلى ثغور بلاد الإسلام المعشرين، فإذا مر بهم تاجر يريد أن يدخل أرض الإسلام لتجارة نظر المعشر لشخصيته، سواء كان مسلماً جاء من أرض أخرى إلى أرض جوار أرضه، أو كان ذمياً أتى بتجارة إلى أرض المسلمين، أو كان حربياً له عهد أو في وقت هدنة وأتى بمال إلى أرض المسملين. كل هؤلاء يسمح لهم بدخول بلاد المسلمين، فالمسلم يدخل الأرض الإسلامية، والذمي يدخل الأرض الإسلامية، والحربي بالمعاهدة وبالصلح يدخل الأرض الإسلامية، فكان المعشر يأخذ من المسلم ربع العشر على تجارته، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وهكذا تحصل الأموال بالتعشير على اختلاف الأشخاص بصرف النظر عن نوعية التجارة التي أتى بها، والتي يريد أن يروجها في أرض المسلمين. ثم كان يقع الظلم على أهل الأموال عند تعشيرها، فكان أحدهم يمر على هذا المعشر فيأخذ منه، ثم في طريقه يمر على غيره فيأخذ ولا يصدقه بأنه قد دفع، فأنشئت السندات؛ ففي أول معشر يمر به ويدفع له العشر أو نصفه أو ربعه يعطيه سنداً على أنه عشر ماله، بحيث لو مر على عدة معشرين لا يكرر عليه أخذ مال منه. واتفقوا على أن من تكرر مجيئه في السنة الواحدة لا يكرر عليه العشر قبل الحول، إلا الحربي، فإذا أتى وباع تجارته، ثم رجع إلى بلده، ثم جاء مرة أخرى عُشِّر ماله ولو كان قبل الحول. واتفقوا على أنه لا يعشر مال أقل من نصاب الزكاة، وهو مائتا درهم من الفضة، وعشرون مثقالاً من الذهب. هذا ما يتعلق بالأموال التي تدخل على المسلمين بطريق المعشرات. والغنيمة هي: المال المأخوذ بغلبة السيف، فما فتح عنوة من القرى فهي وما فيها غنيمة، والغنيمة تخمس ثم يقسم ما عدا الخمس على المجاهدين، إلا أن عمر أوقف قسمة الأراضي على المجاهدين وقال لهم: أوقف قسمة تلك الأراضي من أجل أن يستمر خراجها لسد حاجة المسلمين الآن ولمن يأتي بعد ذلك، ثم أعلن لهم وقال: وجدت حجته من كتاب الله، وذكر قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8]، ثم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} [الحشر:9]، ثم {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10]، واستقر الأمر على ذلك. فالفيء طريقه مثل طريق الغنيمة، ولكنه ما أخذ بدون قتال كما قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6].

مشروعية النفل من الغنيمة

مشروعية النفل من الغنيمة النّفل: النفل جزء من الغنيمة ينفله قائد الجيش لمن رآه أهلاً لذلك، فمثلاً: أرسل سرية من جيشه إلى جهة من الجهات أو كما يقولون: إلى جيب من جيوب العدو، فذهبت السرية وانتصروا، وغنموا منهم غنائم، فلقائد الجيش أن ينفل تلك السرية مما غنموه زيادة لهم، والباقي يضمه إلى أموال غنيمة الجيش؛ لأن عموم الجيش يشاركهم في غنيمتهم، وهم يشاركون عموم الجيش في غنائمه. والخراج هو: ما جعل على الأرض. والجزية هي: ما جعلت على الأشخاص. هذا ما يتعلق بالأموال التي تؤخذ من غير المسلمين عند القتال في سبيل الله.

مقدار الجزية

مقدار الجزية الجزية مصدرها الأشخاص، وكم مقدارها؟ هناك من يقول: هي محددة بدينار على كل محتلم، وهناك من يقول: أربعة دنانير، وهناك من يقول: على الموسر ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى العامل: اثنا عشر درهماً. والظاهر أنه حسب اجتهاد الإمام وحالة من يدفع الجزية، وهذا محل اجتهاد، وليس توقيفاً. هذه الأموال تساق إلى بيت مال المسلمين لتصرف في مرافق المسلمين بصفة عامة.

أخذ الجزية من المجوسي

أخذ الجزية من المجوسي [عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها -يعني: الجزية- من مجوس هجر)]: قال عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه هذا حينما توقف عمر في أمرهم، وقال: ما أدري ماذا أفعل بهم؟ فقال قائل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي: في الجزية، وابن عوف يقول: إن الرسول أخذها من مجوس هجر، فالرسول أخذها وخفي ذلك على عمر، أو نسي عمر، المهم أن الجزية أخذها رسول الله وفعلها عمر مع وجود الصحابة، وكانت الجزية موجودة من قديم، وجاء الإسلام وعدل فيها بالرفق والشفقة. عرفنا أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، فمن المجوس؟ عرف العلماء المجوس كما في كتاب الملل والنحل للشهرستاني أو لـ ابن حزم، وكذلك عرّفهم الشوكاني في نيل الأوطار. المجوس: أمة كان لها كتاب، سئل علي رضي الله تعالى عنه عنهم فقال: أنا أعرف الناس بهم، كانوا أمة لهم كتاب، لكن كتابهم رفع!! نزع الله كتابهم منهم، فأصبح الكتاب ورقاً أبيض ليس فيه كتابة، وانتزع من صدروهم ما كان محفوظاً منه من صدورهم، والذي كان مكتوباً محاه الله من صحفهم، وأصبحوا بدون كتاب. ومن هنا كان فيهم شبه بأهل الكتاب؛ لأنهم باعتبار ما كان أهل كتاب، فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). إذاً: الجزية من أهل الكتاب مفروغ منها؛ لأنها بنص القرآن الكريم، والجزية من غيرهم ثبتت بالسنة، أعني بالحديث الفعلي والقولي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزية تكون على الأشخاص، والخراج يكون على الأرض. والخراج يكون باجتهاد الإمام على حسب إنتاج الأرض، والآن هناك الأراضي التي فيها القطن أو القصب، وفيها مزروعات ما كانت موجوة من قبل، فيكون خراجها على حسب رأي الإمام. هل مقدار الجزية بالتوقيف أو باجتهاد؟ باجتهاد، وقيل: على الغني ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى العامل بيده اثنا عشر درهماً. وقد بينا نظام العشر على التجارة، وممن يؤخذ، وكم مقدار المأخوذ، سواء كان المال من الحديد أو الحبوب أو القماش. والتجار ثلاثة أصناف: مسلم، وذمي، وحربي، فالمسلم يدفع ربع العشر زكاة، والذمي: نصف العشر ضعف ما يدفعه المسلم، والحربي: العشر كاملاً. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.

دروس الحرم [4]

دروس الحرم [4]

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: كتاب الأيمان والنذور عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمنيك وائت الذي هو خير)، متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: (فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك)، وفي رواية لـ أبي داود: (فكفّر عن يمنيك ثم ائت الذي هو خير)، وإسنادما صحيح. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه) رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان].

من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير

من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير الشرح: قال رحمه الله: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمنيك وائت الذي هو خير) متفق عليه. هذا الحديث يعتبر باباً بذاته، وهو كيف يخرج الإنسان من عهدة اليمين ويسلم الحنث فيما بينه وبين الله؟ أي: ليس يتعلق بها حقوق للآخرين، وليست في معرض القضاء والدعاوى، وليست في معرض الصلح والإصلاح، ولكن في حلف الإنسان نفسه ومنهجه في تعامله، كما لو قال: والله! لا أكلم فلاناً. فهذا يمين، ولكن قوله: لا أكلم فلاناً. إن التزم بهذا اليمين وطال به المدى؛ فقد يؤدي ذلك إلى قطيعته لأخيه المسلم ونحو ذلك، فقد يكون سبب اليمين مشكلة بينه وبين هذا الشخص، أو عللاً قائمة، أو مزاحمة ومنافسة، أو خصومة، أو حسداً، أو أي شيء آخر سَبَّبَ هذه اليمين فحلف على أن لا يكلمه، ثم بعد مدة ذهبت تلك العلة، وصفا الجو، ورأى أن يكلمه، فلأن يكلم أخاه خير من أن يبقى على خصومته، كما جاء في الحديث: (لا يحق لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام). وهذا الحالف أراد أن يخرج من عهدة هذه اليمين، ويعود إلى كلامه مع صاحبه، ماذا يفعل؟ أعرض مسألة عرضت على بالي، وأنا أتهيب من المسائل التي لا أجد لي فيها سلفاً ذكرها واعتمدها في هذا الموضوع. إذا جئنا إلى كتاب الله، وجئنا إلى كفارة الظهار، ماذا نجد؟ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة:2] ماذا؟ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3]، (يعودون) أي: يريدون العودة إلى الحياة الزوجية فيعود المظاهر إلى زوجته بإمساكها، لأن المظاهر هو بين أحد أمرين: إما أن يمضي ويتركها في ظهارها ولا تحل له بعد ذلك، أو أنه يَحلُّ يمين الظهار، وجاء القرآن فماذا قال؟ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّاِ} [المجادلة:3]. ما معنى الظهار؟ معناه: أن يقول لزوجته: (أنت عليّ حرام كظهر أمي). إذاً الظهار يُحرِّم وطء الزوجة. وهنا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ولكن الله حييٌ يكني ولا يصرّح، كقوله في سورة أخرى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]. وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فهنا نص صريح بأن يكفّر عن يمين الظهار من قبل أن يطأها، ولم يقل: يتماسا ثم يكفر، فنجد هنا أن النص القرآني الكريم يقدم الكفارة على المماسة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، فيصوم شهرين حتى تتم الكفارة بالصيام، ولا يقرب زوجته حتى تتم الكفارة، ومن لم يطق الصيام فليطعم ستين مسكيناً، وهذا فيه تفصيلات لا يتسع المجال لذكرها. والذي يهمنا: التنصيص على أنه يكفّر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، فلو أخذنا هذه الآية الكريمة وجعلناها شاهداً أو قرينة لا نقول: نصاً، فذاك موضوع وهذا موضوع، لكن التنصيص على تقديم الكفارة في نظيرها، ويستأنس به في تقديم الفعل -تقديم الكفارة- ووجدنا القرآن يقدم الكفارة على الفعل، ووجدنا (ثم) ترجح تقديم الكفارة على الفعل. يقول القرطبي رحمه الله: لا يجوز له أن يعود في الظهار قبل أن يكفر، فإن عاد قبل أن يكفر عصى الله. وعليه أن يكفر خلافاً لمن يقول: سقطت الكفارة؛ لأن الله قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، أفإذا وطأها من قبل أن يتماسا سقطت الكفارة؟ يعني: أعتدي وتسقط الكفارة؟ لا، بل يكون قد ارتكب إثماً وعليه الكفارة قضاء؛ لأن محلها قبل المجيء، إذا حلفت على يمين ووجدت غيرها خيراً منها، فلا تكن عنيداً مصرّاً على القطيعة، فهذا صديقك وهو أخوك وبينكما عشرة و (عيش وملح) وصداقة. وهذا الحلف له ما يفكه، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل للإنسان من كل ضيق مخرجاً، وكنت -منذ زمن- أقول: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود. افرض أنه في ساعة غضب، حلف هذه اليمين، ثم بعد ذلك تأسف وندم، فهل يظل حبيس يمينه أو نجد له مخرجاً؟ A نجد له مخرجاً. والثانية أيضاً: قضية اللعان، رجلٌ رأى بعينه ما لا يصبر عليه الحيوان، ولكن السيف على رأسه، إن أتى ببينة أربعة شهود، وإلا جُلد ظهره، إن سكت سكتَ على غيظ، وإن تكلم خاف السوط على ظهره فماذا يفعل؟ قال سعد بن عبادة: (أتركه وأمضي وأذهب وآتي بالشهود؟! -ويعود وقد حاجته ومضى- والله لئن رأيت لأضربن بسيفي)، وبعض الروايات: (بين فخذيها)، والذي يكون هناك يحصل السيف. إذاً: الطريق -فعلاً- مسدود، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل للزوج الذي شاهد المكروه من أهله مخرجاً، ولهذا لا يكون اللعان إلا بين الزوجين، أما إنسان اتهم بالزنا وقال: أنا ألاعن! لا، أو امرأة ادعت الزنا وقالت: أنا ألاعن، لا؛ لأنه لا يلحق الزاني أو الزانية معرة ما يلحق الزوج في زوجته. إذاً في هذا الحديث: إيجاد نافذة يخرج منها الإنسان فيما عليه في يمين ووجد ما هو خير له، ولا يحرم من الخير ولا يلزم بتلك اليمين، بل يأتي بما يفكها ويكفر عنها، وبهذا يكون قد تحلل منها، والله تعالى أعلم.

الاستثناء في اليمين بقول: (إن شاء الله)

الاستثناء في اليمين بقول: (إن شاء الله) قال رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه)، رواه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان. الشرح هذا الحديث جار على أسلوب العربية؛ لأن القرآن -وهو أصل هذا الدين الكريم- عربي، فأسلوبه يتمشى مع الأساليب العربية، وكذلك السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب والعجم بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر)، يعني: جمع أطراف الفصاحة في أفصح قبائل العرب. كلمة (إن شاء الله) عند علماء اللغة دالة على الاستثناء، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، لأنك لا تدري ما الذي سيحصل؟ والاستثناء عند علماء العربية له شروط: أولاً: أن يكون وقوع الاستثناء متصلاً بالكلام، كما لو قال شخص: والله لا أكلم فلاناً إن شاء الله. وإذا كان الفصل بشيء لا يؤثر غالباً، كأن يأخذ نفساً، أو يبلع ريقه، أو كحة، أو عطاس وغيرها من الأمور التي لا تأثير لها، ولا تعتبر فاصلة بين حديث وحديث، فهذا الاستثناء يظل معتبراً. لكن إن دخل حديث أجنبي عن موضوع المستثنى والمستثنى منه وفصل بين المستثنى والمستثنى منه؛ كقول أحدهم: والله! لا أكلم زيداً، أتدرون لماذا؟ لأنه فعل كذا وفعل كذا، وحاولت معه ووسّطت فلاناً، وكذا وكذا إن شاء الله، هل جاء هذا الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، أم أن بينهما فاصلاً أجنبياً عنه؟ فصل بينهما بأجنبي عنه، هذا واحد. الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه. إذا قال: عليّ لزيد، مائة دينار إلا خمسة دنانير، فالمستثنى من جنس المستثنى منه. ولو قال: عليَّ لزيد ألف دينار إلا إردباً من التمر، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وجمهور علماء اللغة يقولون: هذا الاستثناء باطل ويلزم بالمائة كاملة؛ لأنه استثنى ما ليس من جنس الذي اعترض به، وبعض مُنصفي علماء العربية يقول: يصح ونقدر قيمة ما استثناه ونخصمه مما اعترف به، فلو قال: له عليّ مائة دينار إلا بعيراً، فالبعير ليس من الدنانير، فيقول هذا القائل من أهل اللغة: نقدر كم قيمة البعير؟ فمثلاً: قيمة البعير خمسة دنانير، فيكون استثنى خمسة دنانير من المائة، لكن جمهور علماء العربية يقولون: لا، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه. الشرط الثالث: ألاّ يكون المستثنى أكثر من الباقي من المستثنى منه، كما لو قال له: علي مائة إلا ستين، فاستثنى من المائة ستين وصار الباقي أربعين، وهذا لا يصح؛ لأن الاستثناء وضع لرفع الأقل تداركاً. وعلى هذا: إذا تمت شروط الاستثناء كان صحيحاً واعتبر وعمل به، هذا من حيث الناحية اللغوية، والكتاب والسنة على هذا المبدأ، وإذا قال شخص: والله! لأعطين زيداً كذا أو لآخذن منه كذا إن شاء الله، فكلمة: (إن شاء الله) هنا أعطته مفتاح الباب، إن شاء بقي على ما حلف، وإن شاء فتح، وخرج من عهدة هذا اليمين؛ لأنه استثنى وعلقه على المشيئة، وهذا راجع لعلم الله وراجع لذات الله سبحانه ونحن ما عرفنا: شاء الله أو لم يشأ الله؟! لكن هل حنث في يمينه أو لم يحنث؟ فإذا شاء الله أن يفعل وقع الفعل بالذات، وعرفنا أن الله قد شاء الفعل، وإذا طالت المدة ولم يفعل، عرفنا أن الله لم يشأ له أن يفعل. فعلى كل لا يهمنا في هذا الحديث أن الاستثناء في اليمين إذا استوفى شروطه نفعه، إلا أن بعض العلماء يقول: لا يصح الاستثناء في اليمين إلا بالمشيئة، لكن في بقية الحقوق لا مانع، فإن قال: له عليّ كذا إلا كذا، فهذا معتبر في المعاملات وفي الحقوق، لكن في الأيمان التعبدية والمنعقدة بين العبد وبين ربه تختص بالمشيئة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

صفة يمينه صلى الله عليه وسلم

صفة يمينه صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب)، رواه البخاري. الشرح: هذا بحث في صحة اليمين بصفات الله؛ لأنه مقلب القلوب هو الله سبحانه وتعالى، ومعنى تقليب القلب، هل هو مثل ما تقلب السلعة أو تقلب الحبل أو تقلب المروحة؟ لا، وإنما هو تصريفه؛ لأن القلب كما يقولون عضو صنوبري معلق في الصدر، فليس هناك تقليب، وإن كان لديه حركة لكن في محله لا ينقلب، ولكن الغرض من تقليب القلوب هنا، إنما هو التصريف المعنوي. وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

دروس الحرم [6]

دروس الحرم [6]

الجزية

الجزية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام: باب الجزية والهدنة: [عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها -يعني الجزية- من مجوس هجر) رواه البخاري، وله طريق في الموطأ فيها انقطاع. وعن عاصم بن عمر عن أنس وعثمان بن أبي سليمان رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه، فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية) رواه أبو داود. قال: وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) أخرجه الثلاثة، وصححه ابن حبان والحاكم. وعن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يعلو ولا يعلى) أخرجه الدارقطني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) رواه مسلم. وعن المسور بن مخرمة ومروان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فذكر الحديث بطوله، وفيه: (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض) أخرجه أبو داود وأصله في البخاري. وأخرج مسلم بعضه من حديث أنس، وفيه: (أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: أتكتب هذا يا رسول الله؟! قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)]. أشرنا إلى تداخل هذا الباب مع أبواب عديدة فيما يتعلق بالأموال التي يحصل عليها المسلمون من غيرهم، سواء كانوا مشركين أو أهل كتاب أو ممن ألحق بأهل الكتاب. ومجموع هذه الأموال قد ذكرنا الفرق بينها.

ممن تؤخذ الجزية

ممن تؤخذ الجزية الجزية: فعلة من الاجتزاء، قال بعض العلماء: إنها تجزئ صاحبها عن الدخول في الإسلام، وعن تسليم جميع ماله، وتعصم دمه. وهي تؤخذ ممن أبى الدخول في الإسلام، قيل: من عموم غير المسلمين، وقيل: تؤخذ من أهل الكتاب فقط، فلا تؤخذ جزية من وثني مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب ومن ألحق بهم، وهم المجوس، لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه أخذها من مجوس هجر)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، وهذه السنة فيما يتعلق بقبول الجزية منهم، وعصمة أموالهم ودمائهم، بخلاف ذبائحهم، وحل نسائهم، فإن فيهم وجهاً من الشرك وفيهم وجهاً من أهل الكتاب، فمن وجه أهل الكتاب قبلت الجزية، ومن وجه الشرك لا تحل نساؤهم، فلا تحل حرائرهم بعقد كما تحل اليهودية والنصرانية، ولا تحل إمائهم بملك يمين كما تحل النصرانية واليهودية. وفي مسألتي الذبائح والنساء خلاف، أما الحرائر فبإجماع المسلمين أنه لا يجوز لمسلم أن يعقد عقد نكاح على مجوسية. وهل يجوز له أن يستمتع بإمائهم بملك اليمين كالكتابيات؟ قال الجمهور: لا، وشذ بعض العلماء من غير الأئمة الأربعة وقال: يجوز. الجزية مقابلة لفرض الزكاة، فالمسلم يدفع زكاة ماله، وغير المسلم يدفع الجزية، إلا أن الزكاة على الأموال، والجزية على الرقاب، أي: على الأشخاص. ولو قارنا بين الزكاة وبين الجزية لوجدناهما وفق الحكمة والرحمة، فأهل الجزية يخفف عنهم، كما جاء في حديث معاذ أنه أخذ على الحالم ديناراً، وكانت الجزية تقدر على الأثرياء: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى الوسطاء: أربعة وعشرون درهماً، وعلى العمال الذين لا مال لهم وإنما يتكسبون بأبدانهم كالأجراء أو الفلاحين أو الصناع اثنا عشر درهماً. والزكاة في الإسلام ربع العشر، وتكثر الزكاة مع وفرة المال وتنزل مع قلته، فقد يدفع المسلم من زكاة ماله ما يعادل جزية عشرين أو ثلاثين أو خمسين واحداً من أهل الذمة. لكن الجزية على من تؤخذ؟ العلماء يتفقون على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، أما الوثنيون فلا تقبل منهم إما الإسلام وإما القتل، وبعضهم يلحقهم بأهل الكتاب، ولكن الجمهور على عدم أخذها منهم.

شروط من تؤخذ منه الجزية

شروط من تؤخذ منه الجزية تؤخذ الجزية من كل حالم بالغ صحيح معافى ذكر حر، فلا تؤخذ من النساء، ولا من الصبيان، ولا من الشيوخ الكبار، فكل هؤلاء تسقط عنهم الجزية في الإسلام. وكانت الجزية يفرضها الفرس على من كان بالعراق قبلهم عندما غلبوهم، وفرضوها على الصغير والكبير والغني والفقير والذكر والأنثى على السواء، وأجحفوا عليهم في ذلك، فلما وجدوا هذا التخفيف في الإسلام بادروا إليها، وكانوا يجمعونها ويقدمونها للمسلمين. ومن دفع الجزية في شبابه وغناه وكسبه وقوته، ثم تقدمت به السن وعجز عن العمل ولم يستطع أن يدفع الجزية سقطت عنه، وجاء ذلك عن كل من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. فعن عمر أنه رأى رجلاً شيخاً كبيراً يتكفف ويسأل الناس، فقال: (ما شأنك يا رجل؟! قال: أنا رجل من أهل الجزية عجزت عنها، فأنا أتكفف الناس لأجمعها، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: والله ما أنصفناك إن أكلنا شبابك وأفنيناك، ثم أضعنا كبرك وشيخوختك)، وأسقط عنه الجزية، وفرض له رزقاً من بيت مال المسلمين. وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه رأى رجلاً كبيراً ومعه أولاده، وهو يتكفف الناس ويسألهم، فقال: (ما بالك يا رجل؟! قال: أنا من أهل الجزية وعجزت عنها، فأنا أسأل الناس لأقدمها، فقال كلمة عمر: والله! ما أنصفناك)، وأسقط عنه الجزية، وفرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه ويكفي أولاده، لأنه كان معه عياله، ففرض له ولعياله من بيت مال المسلمين ما يكفيهم. فالذين تفرض عليهم الجزية من أهل الكتاب هم: الأحرار الذكور البالغون أصحاب الثراء.

مقدار الجزية

مقدار الجزية وهل تكون الجزية ديناراً على كل حال أو ينظر إلى حال اليسار؟ جاء أن أهل الشام كان يؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير، وأهل اليمن دينار واحد، فقيل لـ معاذ: ما بال أهل الشام يدفعون أربعة دنانير وأنت تأخذ من أهل اليمن ديناراً واحداً؟ قال: إنما الجزية حسب اليسار، وكان أهل الشام أهل يسار، وهو أوسع وأكثر من أهل اليمن، ومنهم من يقول: يرجع في هذا إلى اجتهاد الإمام بشرط ألا يكلفهم فوق ما يطيقون. عمر رضي الله تعالى عنه لما أتى الجابية مر بأشخاص وقوف في الشمس، فقال: ما هؤلاء؟! قيل: قوم لم يدفعوا الجزية، فقال لهم: لِم لم تدفعوها؟ قالوا: ليس عندنا ما ندفع، فقال: لا توقفوهم في الشمس، ولا تضربوهم عليها، ولا تضيقوا عليهم، من عجز عنها فاتركوه. ما هو المال الذي يدفعه من عليه الجزية؟ أهل الكتاب يستبيحون أشياء هي محرمة في الإسلام، وقد يستبيحون الميتة ويتداولونها بيعاً وشراء، ويتناولون الخمر والخنزير، ولهم ذلك في بيوتهم، وقد تقدم قوم بالعراق إلى عامل الجزية، وقدموا له خمراً بقيمة ما عندهم من الجزية، فكتب عامله إلى عمر، فقال عمر: (لا، لا تأخذوا منهم خمراً ولا خنزيراً ولا ميتة، ولكن ولوهم بيعها، ثم خذوا منهم الجزية). هنا نقطة: ربما يظن إنسان أن هذا العمل من الحيلة، هم قدموا خمراً فردها العامل فباعوها وجاءوا بثمنها ودفعوه إليه، فدفعوا ثمن الخمر، وهل يجوز للمسلم أن يأكل ثمن الخمر؟ أول ما حرمت الخمر؛ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فجاء رجل كان من عادته كل سنة أن يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم زقاق خمر والرسول ما كان يشرب المسكر، ولا كان يشرب النبيذ إذا عليه أيام، فكانت الخمر آنذاك مباحة، وكان قد نزل تحريمها قبل أن يأتي هذا الرجل، فلما قدمها قال: (يا أخا العرب! إن الله قد حرم الخمر) فقام رجل فأسر إلى صاحب الخمر وقال: اذهب فبعها، فقال له رسول الله: ماذا قلت له؟! قال: قلت له: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، ففتح الرجل وكاء الزقاق، وترك الخمر يسيح في الأرض. وأيضاً في الحديث: (لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فجملوها -أي فأذابوها- فأكلوا ثمنها)؛ هو محرم فاحتالوا وباعوه فاستحقوا اللعن!. إذاً: كيف يقول عمر: ولوهم بيعها؟ لو باعها أمام العامل وأخذ الثمن وأعطاه للعامل، فالعامل قبض نقداً، ولكن من أين هذا النقد؟ هو ثمن للخمر، لكن يقول العلماء: ننظر إلى جهة أخذنا وتملكنا لهذا المال، فهو وجه صحيح، هو حق الجزية من الكتابي، فمادام أخذ المال من الكتابي بوجه مشروع فلسنا مسئولين من أين أتى هذا المال؟ نحن نعلم أنهم يتاجرون بالخمر والخنزير، ويربون الخنازير كما تربون الأغنام، ويبيعونها فيدخرون الأموال، ويدفعون لكم الجزية منها، وهم حينما يبيعون ويشترون ذلك يظنونه حلالاً بحسابهم، فليس عندهم في بيع الخمر وأخذ ثمنها حساب؛ لأنها مباحة عندهم، ونحن حينما نأخذ منهم الجزية أخذناها بوجه حلال مسموح لنا به، فلا حرج علينا في ذلك. هذا ما يتعلق بالمال، ومن تؤخذ منهم الجزية. كيف كانوا يعاملون من دفع الجزية؟ كانوا في سابق الأمر إذا جمعوا أهل الكتاب في مدينة أو في قرية ودفع الواحد منهم ما عليه من الجزية، ختموا في عنقه علامة على أنه دفعها حتى لا تؤخذ منه مرة ثانية، حتى إذا تم جمع الجزية من هذه القرية أو المدينة وعلم أنه لم يبق أحد؛ كسرت تلك الأختام التي في أعناقهم. وكان هناك علامات لأهل الذمة يتميزون بها عن المسلمين، منها منعهم من ركوب الخيل، ومنعهم من بعض الأعمال، ومنعهم من حمل السلاح، هذه أمور اصطلاحية في الدولة، والذي يهمنا أنه يدفع الجزية بوجه مشروع. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

دروس الحرم [7]

دروس الحرم [7]

اللغو في الأيمان

اللغو في الأيمان الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام في كتاب الأيمان والنذور: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] قالت: هو قول الرجل: لا والله! وبلى والله!]. هذا تفسير أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لقوله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، قالت: هي قول الرجل: لا والله! بلى والله! إيجاباً ونفياً. وهذه -نسأل الله السلامة- بعض الناس يسرف فيها، فيقال له: تعال نشرب شاي، فيقول: لا والله! ولماذا حلف؟! يعتذر، وعلى أخيه أن يقبل عذره، فيقول الآخر: بلى والله! وقد قال الله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، لكن من قالها في معرض الحديث، ولم يرد انعقاد القلب عليها صدقاً أو كذباً، فلا حرج عليه. وبعضهم يقول: لغو اليمين هو أن يحلف على شيء يظن صدقه فيه فيظهر خلافه، فهذا لغو من حيث إنه حلف على غلبة ظنه، وهو لغو من حيث إنه انكشف على غير الظن الذي ظنه. ولكن تفسير أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أصح، وكما يقولون: قول الصحابي في تفسير الآية مقدم على غيره ما لم يوجد له معارض، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها اشتهر عنها من الفقه والعربية، ومن الورع والعبادة أشياء كثيرة. لما قيل لها: السعي ليس لازماً، قالت: لماذا؟ قيل: لأن الله أسقط الجناح عمن ترك الطواف بهما فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، فقالت: لا -يا ابن أختي- لو كان الأمر كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، وإنما الآية جاءت رداً على اعتقادهم؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة، ووضعوا على كلٍ منهما صنماً، وكانوا يسعون بين الصنمين على الجبلين، فلما أراد المسلمون أن يسعوا بين الصفا والمروة خافوا أن يشابهوا المشركين في سعيهم لأصنامهم، فتحرج المسلمون أن يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأن المشركين كانوا يسعون بينهما وعليهما الصنمان، فأنزل الله الآية لأنهم تأثموا، فقال: (فلا جناح) والجناح: الإثم. فهم تأثموا أن يسعوا؛ نظراً لما كان عليه أهل الجاهلية من السعي بين الصنمين، فقالوا: كيف نفعل مثلما كانوا يفعلون؟! مع أن الأصنام قد حطمت وأزيلت، لكن محله محل فعل المشركين، فجاء: (لا جناح) فقد أزيلت الأصنام، والصفا والمروة من شعائر الله، فلا جناح على من سعى بينهما. انظر إلى فقهها في اللغة، قالت: لو كان الأمر كذلك لقال: (فلا جناح عليه ألا يطوف). إذاً المطلوب السعي وهو الطواف بينهما، فحينما تفسر عائشة رضي الله تعالى عنها آية من كتاب الله، ولا يوجد ما يعارضها؛ فتفسيرها مقبول كالحديث المرفوع.

أسماء الله الحسنى

أسماء الله الحسنى قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) متفق عليه، وساق الترمذي وابن حبان الأسماء، والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة]. هذا الحديث أكثر العلماء من البحث فيه، وأفرده البعض بتآليف مختصة، ونتكلم عليه من نقطتين: هذا الحصر العددي من أين؟ أهو اجتهاد وتلمس أو هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لهذا العدد مفهوم أو لا مفهوم له؟ وما المراد بأحصاها؟ هل المراد جمعها؟ فقد يجمعها يهودي أو نصراني أو بوذي!! وقد يحفظها شريط مسجل، وتسجل عليه، وتكون محفوظة فيه! هل حفظها عن التغيير فيها؟ هل حفظها بالعمل بمقتضاها؟ كل ذلك فيه مباحث متشعبة وعديدة. وهناك من يتعمق نوعاً ما فيقول: كيف يكون لذات واحدة أسماء متعددة؟! وبعضهم نفى تلك الأسماء، وأثبت اسماً واحداً وهو الله. وهل الاسم هو عين المسمى؟ ودخلوا في أشياء لا نقدر أن نمشي وراءهم فيها. ولكن نتناول الحديث بقدر المستطاع وبقدر الحاجة في إيراده في باب الأيمان والنذور. قوله: (لله): لفظ الجلالة علم على الذات، ولم يسم به غير الله، حتى الذين ادعوا الألوهية والربوبية ما قال واحد منهم: (أنا الله) أبداً، قال فرعون فيما حكى الله عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] لكن هل قال: أنا الله؟ لا. وقالوا: لفظ الله هو الأصل، وجميع الأسماء والصفات راجعة إليه، يقال: الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله، الحي القيوم اسمان من أسماء الله؛ فكلها ترجع إلى لفظ الجلالة. وعند العرب كلما عظمت الذات كثرت أسماؤها، انظر الرسول صلى الله عليه وسلم كم له من الأسماء؟ بعض الناس جعلها مثل أسماء الله الحسنى مائة، وبعضهم زادها قليلاً عن المائة.

الاختلاف في مأخذ الأسماء الحسنى

الاختلاف في مأخذ الأسماء الحسنى قوله: (اسماً): أصل الاسم من السمو والسمة، والسمة في اللغة: العلامة، أنت علي، وهذا حسن، وهذا محمد، إذا أطلق هذا اللفظ كان علامة لهذا، يقال: يا علي! فيقول: نعم، أو يا حسن! نعم؛ لأن هذا اللفظ وسم له. وسمي اسماً لسموه أيضاً؛ لأنه يعلو ويشمخ به. فالاسم علم على الشخص، والعلم: العلامة. التسعة والتسعون اسماً من أين جاءت؟ لا يوجد حديث في الصحيحين والسنن والمعاجم، وكل دواوين السنة لا يوجد فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التسعة والتسعون هي: كذا كذا. فلم تأت في كتاب الله مرتبة ولا محصورة، ولم تأت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة محصورة. إذاً من أين نأخذها؟ ومن أين نعرفها؟ اجتهد العلماء في جمعها، حتى أن بعضهم تتبع سور القرآن، كم في كل سورة من أسماء الله؟ وأوصلوها إلى تسعة وتسعين، وبعضهم وقف عند سبعين، وبعضهم وصل إلى الثمانين، وبعضهم أخذ الثمانين وكمَّل من السنة، وبعضهم قال: التسعة وتسعين اسماً كلها كتاب الله. ولكنهم يعدون الأسماء والصفات، وصاحب استنباطها من سور القرآن يقول: الفاتحة فيها: الله، الرحمن، الرحيم، الملك، أربعة أسماء من أسماء الله، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1 - 4] أو: ((ملك يوم الدين))، قراءتان، فالفاتحة فيها خمسة من أسماء الله الحسنى. ويأتي إلى البقرة فيسرد ما وقف عليه منها، إلى أن ينتهي إلى سورة الناس، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] وهذه مكررة فيما تقدم، وينتهي حسابه في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيها الأحد والصمد؛ فهذه أسماء من أسماء الله. إذاً: الأسماء الحسنى اجتهد العلماء فيها، وأكثر من توسع في جمعها -كما قالوا- الترمذي رحمه الله. ونحن نجد بعض المصاحف خاصة التي تطبع في باكستان في نهايتها صفحة بأسماء الله الحسنى، والناس يختلفون في لفظ مكان لفظ، وينتهون إلى تسعة وتسعين، لكن قد يستبدلون اسماً مكان اسم.

لا يجوز اشتقاق أسماء الله من صفاته

لا يجوز اشتقاق أسماء الله من صفاته قالوا: نثبت كل ما سمّى الله به نفسه أو سماه به رسوله، أو وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وهل نشتق من الوصف اسماً؟ اتفقوا أن هناك صفات لله لا يجوز اشتقاق الاسم منها؛ لأنها ما جاءت ابتداء ولكن جاءت في معرض المقابلة، كما جاء في قوله سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] هل تقول: الله من أسمائه: الماكر؟! لا؛ لأن إفراد هذا اللفظ ذم، لكن لما يأتي في مقابلة إبطال مكرهم، وأن مكره أقوى، يكون مدحاً، فنقول: هم يمكرون والله يمكر بهم. قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9]، مكرهم أنهم نافقوا، وأظهروا الإيمان، وخالطوا المؤمنين، وناكحوهم، وتوارثوا معهم، واقتسموا سهام الغنيمة معهم بظاهر عملهم، والله كأنه يقول: اتركهم على هذا إلى أن يأتي يوم القيامة: (تحشر أمتي غراً محجلين من أثر الوضوء)، فيبعثون كالمسلمين عليهم أثر الوضوء، ويمشون معهم، حتى وقت المرور على الصراط، فيضرب بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. فتطفأ أنوار الوضوء عنهم، ويبقون في الظلام، يستغيثون بالمسلمين ذرونا نقتبس منكم، ذرونا نقتبس منكم نوراً، فضرب بينهم بسور، في هذه الحالة ظهر بطلان مكرهم وخداعهم، وجاء نصر الله. فإذا كانوا في الدنيا يمكرون ويتحايلون، فعندما يمرون على الجسر يجدون مكر الله أمامهم، فهو خير الماكرين وهناك يقول المؤمنون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8]، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد:12] فأولئك أطفئت أنوارهم التي كانت من آثار الوضوء، وهؤلاء ثبتت أنوارهم، ثم كانت نهاية الفريقين معلومة. كل صفة في كتاب الله لك أن تأخذ لله اسماً من تلك الصفة إلا ما أشعر بنقص، وهو ما أتى على سبيل المقابلة، تقول: يمكرون ويمكر الله، ولا يصح أن تقول: الله يمكر، وتسكت، بل: يمكر في مقابل مكرهم. وقالوا: لا يسمى الله أنه زارع، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63 - 64]، لا تقل: الله زارع؟ أو فلاح!! هو قادر، هو خالق، هو على كل شيء قدير، لكن لا تسمه بهذا الاسم. هل قولك: رب العرش العظيم كقولك: رب الذبابة والبعوضة؟ ليسا سواء. أما ما يدل على قدرة الله كقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] أي: ولا فوقها في الصغر؛ فإنه أدل على العظمة والقدرة، المخلوقات الحقيرة من آيات الله، البعوض يطير في الهواء فمن يحرك عضلاته؟ بماذا يتغذى؟ أين معدته؟ أين قلبه؟ تعجز أن تتصور ذلك. والكل خلق الله! الصفات المذكورة في المقابلة لا يجوز أن تشتق له منها اسماً سبحانه وتعالى، أما ما جاء في كتاب الله على سبيل المدح وعلى سبيل التذكير، فلا مانع من ذلك، والعلماء بحثوا في كتاب الله عما جاء من اسم صريح، أو صفة من الصفات توحي بقداسة لله، وإجلال لله، فأخذوا منها اسماً من أسمائه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

دروس الحرم [8]

دروس الحرم [8]

شرح حديث: (من صنع إليه معروف فقال) الحديث

شرح حديث: (من صنع إليه معروف فقال) الحديث الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء) أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان. ] أيها الإخوة الكرام! هذا الحديث في منطوقه ودلالته استوقف كثيراً من العلماء، فهو في ذاته لا إشكال فيه، ولكن إدخال المؤلف إياه هنا في الأيمان والنذور، هو الذي جعل العلماء يتساءلون: ما علاقته بهذا الباب؟! ومن المعلوم أن من الواجب على الإنسان شكر النعمة، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فأي إنسان صنع لك معروفاً أياً كان، استحق أن تثني عليه أو أن تحمده أو أن تشكره.

الفرق بين الحمد والثناء والشكر

الفرق بين الحمد والثناء والشكر فالحمد: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولو لم يصلك منه شيء، وليس هذا الحمد المطلق إلا لله؛ لأن كمال الذات خاص بالله سبحانه، وهو منزه عن النقص: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولهذا يقول العلماء: (ال) في قولك: (الحمد) للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وأضافتها لله سبحانه. والثناء: هو امتداحك الشخص لحسن فعاله، هناك لكمال ذاته ولو لم يأتك ولا غيرك منه خير، ولو لم يصدر منه فعل، وهنا لحسن فعاله تثني عليه، فمثلاً: إنسان برز في مهمته واختصاصه، طبيب برع في مجال طبه وأجرى عمليات ناجحة، فسمعت به ولم تره، ولم يصنع لك شيئاً، فأنت تثني عليه لتفوقه؛ لأنه صدر منه للغير فعل حسن جميل، ولو لم يصلك من جميله شيء. فمثلاً: نحن في هذا العصر نثني ونذم، نثني على غير المسلم لأنه اخترع ما ينفع الناس، فهذا الهاتف أنت في آسيا تخاطب شخصاً في أوروبا وكأنه وراء الحائط، فنثني عليه لأنه سهّل اتصال العالم، ويسر الكلام عن بعد. ونذم من اخترع تفجير الذرة؛ لأنه سلاح فتاك، وإن كان قد يستعمل في الأغراض السلمية. إذا جنح في جانب السلم أثنينا عليه، وإذا ذهب إلى التدمير العام ذممناه، ولهذا قالوا: جائزة نوبل تكفيراً عن ذنب. أيضاً: من قام بإعادة إعمار الحرم المكي، ومن خطط لذلك من المهندسين؛ نثني عليهم. وأما الشكر: فيكون لمن صنع لك معروفاً، ولو لم يصل لغيرك منه شيء، فمثلاً: مقاول اتفقت معه على بناء مسكن لك، ونصح في بنائه وأخلص في عمله وقدمه إليك على أحسن ما يكون، فتشكره على حسن صنيعه وعلى الوفاء بوعده معك. عندك مريض أدخلته المستشفى، فجاء طبيب غير مسلم وعمل كما يقولون عندهم: بشرف المهنة؛ لأن الأطباء يعترفون بأن مهنة الطب شريفة وهي إنسانية وليست إقليمية ولا تعصبية، فالطبيب يعالج خصمه وعدوه كما يعالج صديقه، هذا مبدأ الطب، إلا إذا غير في مبدأه. فإذا قدمت طفلاً أو شخصاً آخر إلى المستشفى وتولى طبيب علاجه وأحسن معه وتماثل للشفاء، فيكون قد أسدى إليك معروفاً تشكره عليه، فإذا ما قلت لهذا الذي استحق عليك الشكر: جزاك الله خيراً، فقد أضعفت المثوبة والجزاء؛ لأنه إذا تولى الله جزاءه بالخير لا يكون مثل ما تعطيه حفنة تمر أو مائة ريال؛ لأن هذا القول يجعل الجزاء من الله، فيتولى الله جزاءه بالخير على هذا الفعل، وسيكون عطاء جزلاً.

علاقة الحديث بكتاب الأيمان والنذور

علاقة الحديث بكتاب الأيمان والنذور هذا موضوع الحديث، ونفس الشارح يتساءل: ما علاقة هذا الحديث بالأيمان والنذور؟ وقد يكون الحديث أقرب إلى كتاب مكارم الأخلاق وحسن الآداب والفعال منه إلى كتاب الأيمان والنذور. ووجه الجمع بين هذا الحديث وإنزاله في هذاالباب أنه حينما ينذر الإنسان نذراً لشخص فقال: يا فلان، إن لي حاجةً، فنذر عليّ لله إن أنت قضيتها لي لأجازينك جزاءً ولأكافأنك مكافأة عظيمة. فإن عجز عن الوفاء بنذره لهذا الشخص، فلا بأس بأن يلحق جزاءه على عمله بالله عز وجل، ويكون بذلك قد وفاه. ولنرجع إلى الحديث: (من صنع له معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً)، أي: كنت وعدتك على صنعك المعروف لي ما هو واسع جداً، ولكنني عجزت عنه، فأسأل الله أن يجزيك عني خيراً، فأكون بهذا قد وفيت بنذري. وأرى أننا لو حاولنا وتلمسنا علاقة ولو كانت واهية؛ أنه أولى من أن نخطئ المؤلف في إيراده الحديث في كتاب مخصص للأحكام، وهذا في نظري هو أولى. ومن المعلوم أن الإنسان قد تأخذه العاطفة والانفعال وينذر بشيء ليس في وسعه، والرسول صلى الله عليه وسلم في باب القضاء إذا وجد إنساناً سيطرت عليه العاطفة لا يتركه، بل ينبهه. فهذان الخصمان اللذان أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتكمان إليه في مواريث بينهما، وهي تركة لا حجة عندهما ولا معالم عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع) قد كان الله قدراً أن يأتيه الوحي؛ ولكن إذا جاء الوحي لرسول الله في خصومات القضاء فكيف يصنع من بعده، فكان المنهج للجميع: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، يعني: أبلغ وأفصح في البيان، وإن من البيان لسحراً (فأقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم)،هذا تحذير، (فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة). فلما سمع الطرفان هذا القول قال كل منهما: حقي للآخر. فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إذا فعلتما فاذهبا واقتسما وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه). لماذا وجههم هذا التوجه المستغرق: (اقتسما وتوخيا)؟ فالقسمة يجب أن تكون عادلة، فإذا قسمتما فتوخيا الحق، وليأخذ كل منكما قسمه، وذلك يكون بالقرعة. (ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) أي: يتسامحا بعد القسمة وبعد التحري وبعد القرعة، ونرضى ويرضي كل منا بقسمه مخافة أن يتركوا إلى سلطان العاطفة والعاطفة أمدها قريب، فبعد انطفاء جذوتها تعود الخصومات -عياذاً بالله-. والشاهد هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركهما تحت تأثير العاطفة، بل نبههما إلى ما ينبغي أن يكون قطعاً للنزاع فيما بعد. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [9]

دروس الحرم [9]

النذر

النذر باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام: [وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) متفق عليه]. ما علاقة الأيمان بالنذور؟ اليمين ملزم، وكذلك النذر، ومن حنث في يمينه فعليه أن يكفر، وبعض أقسام النذر حكمها كفارة اليمين. إذاً: اقتران الأيمان بالنذور هو لقوة الصلة بين البابين، وقد ساق المؤلف في خصوص النذر حوالي ثمانية أحاديث.

معنى النذر

معنى النذر ما هو النذر؟ وما مشروعيته؟ النذر هو: أن يلزم الإنسان نفسه لله بشيء، يقول: لله عليّ نذر أن أصوم يوماً، ألزم نفسه لله بشيء وهو صوم يوم، أو بصدقة كذا، أو بصلاة كذا، أو بتلاوة كذا، أو بحج، أو بعمرة؛ فهو ألزم نفسه بما لم يكن لازماً عليه. حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، الجمهور على أن الصوم عام، كالصوم الواجب من فرض الشرع أو بالإلزام الشخصي؛ بأن ألزم نفسه بصوم يوم لم يكن لازماً عليه، وبعضهم قالوا: المعنى: إذا كان صوماً لازماً بالشرع فلا قضاء عليه، لأن الذي أوجب عليه الصوم هو الذي أماته. فلو كان مريضاً وعليه صيام وعجز عنه، وكان هذا الصوم مما أوجبه على نفسه فعليه الوفاء؛ لأن الله ما ألزمه وإنما ألزم نفسه فعليه الوفاء، إذاً: فرق بين ما التزم به الإنسان بنفسه وبين ما ألزمه الشارع به، وقيل: المعنى صوم النذر خاصة. إذاً: النذر هو أن يلزم المرء نفسه لله بشيء.

مشروعية النذر

مشروعية النذر النذر ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع. يستدل العلماء بقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] امتدح الله الموفين بالنذر، وأصرح من هذه الآية قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، نذرت به، وهو لا يزال في الغيب ما وضعته بعد. ومريم عليها السلام ماذا قالت؟ بأمر من الله وبتعليم من الله: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]. إذاً: هذا نص في مشروعية النذر في كتاب الله. وفي السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وأقر صلى الله عليه وسلم من نذر نذر طاعة، وأورد عليه حالة فيها نذر يشتمل على حلال وحرام ومعصية وطاعة، فألغى ما لا يجوز، وأقر ما يجوز، وذلك في حديث الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه)؛ لأن الصوم عبادة، وبقية تلك الأشياء ليست عبادة، وفي الحديث: (إن الله لغني عن أن يعذب أحدكم نفسه). ولما سئل عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فطلبت من أخيها أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (لتمش ولتركب). إذاً: السنة جاءت بتقرير النذر، والقرآن الكريم يذكر لنا قضايا نذر في الأمم الماضية، وما ذكرها لنا إلا لأنها مشروعة، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه.

ما ينعقد به النذر

ما ينعقد به النذر بم ينعقد النذر؟ وفيم ينعقد؟ ينص ابن قدامة في المغني بأن النذر لا ينعقد إلا باللفظ، أما لو نوى في نفسه وحدث نفسه بنذر ولم يتلفظ به فلا ينعقد.

أقسام النذر

أقسام النذر واستخلص العلماء من مجموع الأحاديث الواردة في باب النذر أقسامه، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: النذر خمسة أقسام: الأول: نذر مطلق أي: لم يذكر فيه المنذور، يقول: لله عليّ نذر، ولم يسم هذا النذر، فهذا نذر مطلق عن تسمية المنذور. الثاني: نذر لجاج، وهو قول الإنسان في الخصومة والغضب: لله علي نذر كذا، إذا تخاصم مع إنسان ولج معه في الخصومة وغضب قال: إن كلمتك فلله علي أن أحبو في الشارع، فهذا نذر غضب، ونذر لجاج، واللجاج هو المخاصمة. الثالث: نذر مباح، يقول: لله عليّ أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي. الرابع: نذر معصية. الخامس: نذر تبرر، أي: فعل البر. النذر المطلق هو الذي لم يعين فيه ما هو المنذور، ترك أن يسمي شيئاً مخافة أن يعجز عن الوفاء به مثلاً، فكفارته كفارة يمين. نذر اللجاج هو مخير فيه بين أن يأتي بنذره على ما فيه من مشقة وثقل، وبين أن يخرج منه بكفارة؛ لأنه خرج في ساعة الغضب وفي خصومة. النذر المباح كذلك، إن شاء فعل الأمر المباح، وإن شاء أعرض عنه وعليه كفارة. نذر المعصية يحرم الوفاء به، وهل عليه كفارة أم لا؟ يرجع هذا إلى مسألة نذر المعصية هل ينعقد أو لا ينعقد؟ فقد جاء في الحديث كما تقدم: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه) وجاء الحديث الصريح: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) وقوله: (فلا يعصه) هل انعقد النذر وانحل بكفارة أم لم ينعقد فلا كفارة فيه؟ اختلفت وجهة النظر عند العلماء، فقيل: إنه لم ينعقد أصلاً، وقيل: انعقد وعليه كفارة يمين، وهناك بعض التفصيلات والتفريعات التي تدخل في هذا، وكل مباحث النذر ترجع إلى هذه الأمور. إذا نذر مكروهاً فلا ينبغي أن يأتي به، كما لو نذر بطلاق زوجته، فالطلاق مكروه، فلا يفي به، ويخرج منه بكفارة. نذر التبرر هو نذر عبادة، يقول مثلاً: لله عليّ أن أصوم يوماً، هذا النذر إما أن يكون خالياً عن الشرط، ابتداءً من نفسه، مثلاً كان كسلان عن الصيام، يرى الناس يصومون الإثنين والخميس والأيام البيض وكذا وكذا، وهو لا يصوم، فيقول: لله علي نذر أن أصوم يوم الإثنين، فهذا نذر تبرر مطلق عن شرط، فعليه أن يأتي به إلا إذا عجز فينتقل إلى الكفارة. وإما أن يكون مشروطاً، يقول مثلاً: لله علي نذر إن شفى الله مريضي أن أصوم عشرة أيام، فهذا نذر تبرر بصيام عشرة أيام لكنه مشروط بشرط، فكأنه معاوضة بيع وشراء، فإن أعطاه الله ما اشترطه عليه وفى بنذره، وإذا لم يعطه الله ما شرط كان في حل؛ لأن المشروط لم يحصل، وليس عليه كفارة وليس عليه أي شيء. هذه أقسام النذر فيما يتعلق بالمنذور، والأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله كلها تدور حول هذه النقاط وحول هذه المباحث، إلا أن تفريعات الفقهاء واستنتاجاتهم وسعت الباب إلى حد بعيد، فمثلاً عند نذر المعصية قالوا: لو نذر أن يذبح ولده، كما نذر عبد المطلب أن يذبح ولده، فماذا يفعل؟ لأن ذبح الولد معصية! قالوا: يكفر بذبح شاة: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، وعبد المطلب نحر مائة بدنة كما حكمت الكاهنة في فداء عبد الله بعشرة إبل ثم عشرة عشرة حتى بلغت المائة، فكانت هي الدية عند العرب، ثم جاء الإسلام فأقرها. فإذا نذر أن يتبرع بجميع ماله، فيتصدق بالثلث، كما في حديث أبي لبابة لما وقع منه ما وقع، وجاء وربط نفسه في سارية المسجد وجعل على نفسه إن تاب الله عليه أن يخرج من ماله كله في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يكفيك الثلث، تصدق بالثلث والثلث كثير). ومن العلماء من يقول: إن عين ألفاً فعليه الوفاء، وإن كان مائة ألف أو شيئاً كثيراً يعجز عنه فكفارة. وتوسعوا في الجزئيات في باب النذر وفرعوا على ما تقدم من الأقسام الخمسة. هذا مجمل مباحث النذر، وسنمر على الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله لنطبق هذه المبادئ وهذه الأقسام على تلك النصوص إن شاء الله.

كراهة النذر المشروط

كراهة النذر المشروط قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) متفق عليه]. القرآن ينص على النذر، والسنة تنص على النذر، والرسول يقرر الكثيرين على النذر، وفي هذا الحديث نهى عن النذر، فهذا النهي نحمله على التحريم أم على الكراهة؟ على الكراهة؛ لأن الأصل الإباحة، والأصل الجواز، فإذا جاء النهي عن الجائز فيبقى النهي للكراهة، لأن الإنسان قد يمد في نذره ثم يعجز عنه. ثم ما قيمة النذر في حياتك؟ هل قولك: لله عليّ نذر إن شفى الله مريضي أن أفعل كذا، فهل سيشفيه من أجل أن تفعل؟! إذا قلت: إن شفى الله مريضي ذبحت شاة، فإذا كان الله قد قدر وفاته، فهل قولك هذا سيجعل الله سبحانه وتعالى يشافيه؟! النذر لا يأتي بخير، ولكن قد يصادف نذرك إرادة الله فيقع ما طلبت، الله يريد الشفاء ذبحت أو لم تذبح، فقد قضى الله أنه يشفيه، حتى لو لم تنذر أن تذبح الشاة، إذا نذرت إن شفى الله مريضك أن تذبح شاة، والحال أن الله قدر شفاءه، فإنك لو لم تقدم النذر هل ستذبح الشاة؟ لا. إذاً: النذر لا يغير إرادة الله، ولا يقدر على جلب ما لم يرده الله. إذاً: فما الفائدة منه؟ (يستخرج من البخيل) لو قيل له: اذبح أرنباً أو اذبح دجاجة يقول: لا، لكن بالنذر استخرجنا منه شاة، وهذا نهي عن المباح، فهو نهي تنزيه لئلا يقع الإنسان فيما لا يقدر عليه أو يعجز عنه. قال رحمه الله: [وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة يمين) رواه مسلم، وزاد الترمذي فيه: (إذا لم يسم)]. أي: فإن أطلق النذر ولم يعلقه بشيء فكفارته كفارة يمين، ومفهوم المخالفة من قولنا: (ما لم يعلقه بشيء) أنه إن علقه يكون حكمه حكم النذر المسمى، وعليه أن يأتي بما سماه إن كان في استطاعته، والعلماء يقولون: لا نذر في مستحيل، ولا في معصية. معنى: (لا نذر في مستحيل ولا في واجب في أصل الشرع) أنه لو قال: لله علي أن أصوم يوم الخميس الأخير من الشهر الماضي، هل يمكن صومه؟ لا، فلا نذر في مستحيل. وإذا قال: لله علي نذر أن أصوم رمضان الآتي إن أحياني الله!! وهل صوم رمضان متوقف على النذر أو مفروض في أصل الشرع على الناذر وغير الناذر؟ إذاً لا ينعقد هذا النذر؛ لأنه في واجب في الشرع. إذاً: لا نذر في مستحيل ولا في واجب في الشرع، ولا فيما لا يملك، كأن يقول: لله علي نذر إن شفى الله ولدي أن أعتق عبد فلان، لكنه ليس ملكه، وبعضهم يقول: ينعقد، وعليه أن يشتري عبد فلان ويعتقه. ومن مباحث نذر المعصية أنه لو نذر صوم يوم العيد، فصوم يوم العيد محرم والجمهور أنه لا ينعقد، والإمام أبو حنيفة يقول: ينعقد، ولكن يخرج منه بكفارة يمين؛ لأنه ممنوع من صومه، فإذا كان ممنوعاً من صومه فلا يذهب نذره بدون شيء، بل عليه كفارة يمين، وهناك من يقول: لا كفارة عليه ولكن يقضي يوماً مكانه، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [10]

دروس الحرم [10]

باب النفقات

باب النفقات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النفقات.

أدلة وجوب النفقة من السنة

أدلة وجوب النفقة من السنة وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، رواه النسائي. وهو عند مسلم بلفظ: (أن يحبس عمن يملك قوته). قال: وعن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها زوجها، قال: (لا نفقه لها) أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، لكن قال: المحفوظ وقفه. وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها كما تقدم، رواه مسلم. قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى، ويبدأ أحدكم بمن يعول، تقول المرأة: أطعمني أو طلقني) رواه الدارقطني، وإسناده حسن. وعن سعيد بن المسيب: (في الرجل لا يجد ما يمسك على أهله؟ قال: يفرق بينهما) أخرجه سعيد بن منصور عن سفيان عن أبي الزناد عنه قال: قلت لـ سعيد بن المسيب: سنة؟ فقال: سنة. وهذا مرسل قوي]. سيتكلم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا المبحث عن إعسار الزوج بالنفقة، وما يترتب على ذلك من حق الزوجة بالمطالبة بالفسخ، وهذا الموضوع له أهميته في الحياة الزوجية ولا سيما في هذه الآونة التي نعيشها.

معنى الحديث

معنى الحديث فبدأ رحمه الله بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). كفى: تشعر بأن هذا الفعل هو بذاته وحده إثمه يكفي في هلاك صاحبه، ما هو هذا الشيء الوحيد الذي يكفي إثمه في إهلاك فاعله؟ هو أن يضيع المرء من يعول، يعول: من عال يعول، وعال يعيل، فَعَال يعيل: من العيال، وعال يعول: من الزيادة، ويعول أي: ينفق. (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، أي: من تلزمه نفقته. وقد جاء نظير ذلك لكن في أعمال الخير، جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه حينما جهز جيش العسرة، قال له صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم). وكذلك الحارس الذي أرسله في غزوة حنين يستطلع له خبر هوازن في بطن الوادي، فمكث من بعد صلاة العشاء إلى ما بعد صلاة الفجر على صهوة جواده، وما طلع عليهم إلا وهم في مجلسهم من صلاة الصبح، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ماذا فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما نزلت عن جوادي إلا مصلياً أو لقضاء حاجة، قال: لا عليك أن تعمل بعد اليوم). وكما جاء في عموم أهل بدر، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة لما أرسل خطاباً إلى المشركين وكان من شأنه أنَّ عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). أي: أن هذه الأعمال وحدها يكفي ثوابها لنجاة العبد، وليس معنى ذلك أنه يبيح له المعاصي، أو يبيح له ترك الواجبات، ولكن المراد: تعظيم وتفخيم هذا الأمر الذي قام به هذا الشخص، فهنا كفى في الخير كذا، وهناك كفى في الشر كذا. يعني أن الأعمال تتباين وتتفاوت، وأعمال الخير تتفاوت في تعاظم الأجر، وأعمال الشر تتفاوت في عظم الإثم، وهذا ذهب إليه بعض المفسرين في قوله سبحانه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34]، الجمهور يقولون: (ولا تستوي الحسنة) أي: جنس الحسنات، (ولا السيئة) أي: جنس السيئات، الحسنة ما هي مثل السيئات، الحسنة أحسن، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] هذا رأي الجمهور، وبعض المفسرين يقولون: لا تستوي الحسنات في أفرادها، بل تتفاوت الحسنات بعضها على بعض. ولا تستوي السيئة، أي: لا تستوي السيئات بعضها مع بعض، ولكن هناك سيئة وهناك أسوء، وهناك حسنة وهناك أحسن. فهنا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كفى بالمرء)، والمرء مذكر، ومثله امرؤ، ومؤنثه امرأة. (كفى بالمرء) أي: الإنسان مطلقاً، ويشمل المرأة. (إثماً) أي: ذنباً عظيماً، (أن يضيع): يكون ذلك بأحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون غنياً ويمسك النفقة بخلاً أو تغافلاً أو سهواً، أو يقدم غير من يعولهم على من يعولهم، أو لكون العائل ينفق ماله في مباحات يسرف على نفسه بها، ويترك النفقة على من يعولهم. الوجه الثاني: كونه لا يجد النفقة ولم يتصرف معهم تصرف المعذور المعسر، وإذا كان الأمر كذلك، إذاً: من وجبت نفقة إنسان عليه فعليه أن يبادر وأن يقدم له ما يعوله، وهل يدفع له نفقته يومياً أو إسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً؟ كل ذلك بحسب الاتفاق، وإن تنازعوا فيوم بيوم؛ لأن كل يوم له نفقة مستقلة.

هل يدخل العبيد والخدم والحيوان في معنى الحديث

هل يدخل العبيد والخدم والحيوان في معنى الحديث واللفظ الثاني: (أن يحبس عمن يملك قوته). في الرواية الأولى: (من يعول)، وفي هذه الرواية: (عمن يملك). يدخل في الملك أولياً: الخدم، أي: المماليك؛ سواء كن الجواري أو العبيد، ويتبع ذلك كل ما يدخل في ملكه وحوزته حتى الحيوان، وقد أشرنا سابقاً إلى ما تنص عليه كتب الحنابلة: بأن الإنسان إذا كان عنده حيوان يستخدمه ثم عجز الحيوان عن الخدمة، فلا يحق له أن يحبسه حتى يموت بل ينفق عليه، وإن عجز عن النفقة عليه أخرجه إلى أرض مخصبة منبتة يرعى فيها. أما إذا كان مأكول اللحم ذبحه وانتفع بلحمه وبرئ من إثمه، وإن كان غير مأكول اللحم لا ينفع ذبحه، فإنما يرسله إلى ما يمكن أن يجد قوته أو طعامه أو مرعاه هناك. وبهذه المناسبة ننبه على هؤلاء الذين يستخدمون الخدم، بأن طعامهم وشرابهم ومنامهم على الكفيل؛ لأنهم في ملكه للخدمة؛ ولأنهم من ضمن من يعول. وهنا تأتي المروءة، ويأتي حسن الخلق، ويأتي حسن الصحبة، فمن الناس من يجلس خادمه معه ليأكل، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل، ومنهم من يغرف له قبل عياله، ومنهم من يحبس ويتحفظ على حصته من الطعام، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الصنف من الناس، إذا قدم لك خادمك الطعام فإما أن تجلسه معك وإلا أطعمته منه، فقد عالجه وأنضجه وقدمه إليك. هذه ناحية نفسية عجيبة يا إخوان، الخادم والطباخ يعالج الطعام، وبرائحته، بلونه، بشهيته، بكل نفسيته، ثم أنت تأخذ الطعام ولا يذوق منه شيئاً، ألا تخشى من عينه، ألا تخشى من حقده عليك، بل المفروض أن الإنسان إذا كان يأكل طعاماً وجاءه طفل أو جاءه خادم أو جاءه إنسان أن يدعوه لمخالطته ما دام قد رأى الطعام بين يديه، ولعل نفسه تعلقت به! سئل رجل من السلف وكان لا يأكل مع والديه، عن سبب ذلك، فقال: أخشى أن تسبق يدي إلى شيء تتعلق به نفوسهما. فمعنى ذلك أن العين تسبق إلى الطعام، حتى العامة يقولون: الناس تأكل بعيونها لا ببطونها. فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن نلاحظ حقوق الخدم الذين يكونون معنا في البيت، ومما يمكن أن نضيفه إلى ذلك -نبين مدى سعة رحمة الله وعناية الإسلام بالمملوك- الذين يقتنون الطيور ويجعلونها في أقفاص، فلا بد من توفير الماء والطعام لها، وتغيير الماء وغسل آنيته كلما دعت إلى ذلك حاجة. وبعض الناس يدعه ولا يسأل عنه وقد ينساه، وينتهي ما معه من ماء، فيموت عطشاً، فهذا يخشى عليه من حديث المرأة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). فإن لم ترد إطعامها فاتركها تأكل من خشاش الأرض.

بيان مدى عظم أجر الإحسان إلى خلق الله

بيان مدى عظم أجر الإحسان إلى خلق الله يقابل هذا في الجانب الآخر أنه دخل رجل الجنة في كلب -هرة وكلب! سبحان الله- وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش)، الثرى: التراب المبلل بالماء، طلباً لأثر الماء الموجود في ذلك التراب. (فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي)، وليس عنده دلو، ولا عنده ماعون، فماذا فعل؟ (فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)، وجاء في لفظ الجلالة الرفع والنصب. فأما على النصب: (فشكر اللهَ) أي: أن الكلب شكر الله لهذا الرجل الذي أحسن إليه. وعلى رواية الرفع على الفاعلية: شكر اللهُ له صنيعه في مخلوق. قالوا يا رسول الله: ألنا في الحيوانات أجر، قال: (في كل كبد رطبة أجر). على هذا: إذا كان الإنسان يقتني كلباً مما تجوز قنيته؛ ككلب الماشية، وكلب الزرع، وكلب الحراسة، وما عدا ذلك من اقتنى كلباً لغير هذه الأسباب الثلاثة نقص من أجره كل يوم قيراط؛ فواجب على من اقتنى كلباً عليه أن يوفر له المأكل والمشرب، وإلا تركه لحال سبيله يأكل من خشاش هذه الأرض. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دروس الحرم [11]

دروس الحرم [11]

وجوب العدل والمساواة بين الضعيف والقوي

وجوب العدل والمساواة بين الضعيف والقوي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كيف تُقدّس أمة لا يؤخذ من شريفهم لضعيفهم؟!) رواه ابن حبان، وله شاهد من حديث بريدة عند البزار، وآخر من حديث أبي سعيد عند ابن ماجة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي، ولفظه: (في تمرة). وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري].

هلاك الأمم بسبب ترك العدل

هلاك الأمم بسبب ترك العدل يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في هذا الموطن ليبين أن العدالة في القضاء بها تقدّس الأمة، فإذا ما ضاعت العدالة في الأمة لم تكن أهلاً لأن تقدس. وكيف تقدّس؟ أي: تنزه وتطهر ويكون لها قيمة عند الله وعند الناس. فالتقديس هو: التنزيه، والرسول صلى الله عليه وسلم بسؤال التعجب هذا: (كيف تقدس أمة؟!) كأنه يقول: لا يمكن أن تقدس أمة لا يؤخذ من شريفها لوضيعها؛ لأنه إذا لم يؤخذ من الشريف للوضيع حقه فحينئذ تسود الفوضى، ويختل النظام، وتصبح تلك الأمة في عداد الأمم التي لا قيمة لها؛ لأنها لم تنصف بين أفرادها، ولم تحسن أن تقيم العدالة بين الجميع. وكما قيل سابقاً: العدل أساس الملك، فالعدالة لا بد أن تكون عامة شاملة، وقد سمعنا في هذا الموضوع من بعض المعاني، وقرأنا كذلك فيما يتعلق بمساواة الشريف بالوضيع في الخصومة، وفي أخذ الحق. وقد أحسن الصديق رضي الله تعالى عنه حين أعلنها مدوية في خطابه الذي يسمى اليوم بخطاب العرش، أي: الخطاب الذي يرسم فيه رئيس الدولة خطته في الحكم، ومنهجه في السياسة، فمما قاله الصديق رضي الله تعالى عنه: (ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه) فالحق أعطى الضعيف قوة، والحق حط من قوة القوي حتى يتعادلا ويتساويا في الحقوق وفي الحكم. ومما سمعنا ولم نقرأه: أن جبلة بن الأيهم كان يطوف بمكة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه آنذاك موجوداً في وقت الطواف، فوطئ رجل على إزار جبلة بن الأيهم، فأساءه، فالتفت إليه فصفعه على وجهه، فاستعدى عليه عمر وقال: القصاص يا أمير المؤمنين! فقال عمر لـ جبلة: القصاص يا جبلة!، قال: كيف تقتص مني لأعرابي يبول على فخذيه! -يعني: استخف به واستضعفه واستهان بأمره، ورأى في نفسه أنه لا يقتص من مثله لأعرابي- فقال له عمر: شرع الله القصاص، فلا بد من القصاص، فقال: إن كان ولا بد فأمهلني حتى أنهي عمرتي، فأمهله، فلما أنهى العمرة شرد إلى الشام، فأوى إلى الغساسنة هناك. هنا استعظم في نفسه أن يقتص منه لمن هو دونه، فهو من سادة العرب، وهذا الذي وطئ على إزاره فرد من الأفراد وشخص دونه، فتعاظم في نفسه وامتنع أن يعطي من نفسه القصاص لصاحب الحق؛ لأنه أضعف منه.

بنو إسرائيل ومفاضلتهم بين الشريف والوضيع في الحكم:

بنو إسرائيل ومفاضلتهم بين الشريف والوضيع في الحكم: وقد سُجل لنا في بني إسرائيل كما جاء في الحديث: (كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). ولما جاءت قضية الزانية والزاني اليهوديين، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم، لأنهم قالوا فيما بينهم: امضوا إلى محمد لعلكم تجدون عنده أهون وأسهل مما عندكم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عما في كتابهم، فقالوا: إن عندنا في التوراة أن نسخم وجوههما ونرسلهما على حمار مقلوبين ونطوف بهما ونشهر. فقال: هذا حكمها؟ قالوا: بلى، فقال شاب حاذق: لا والله أخبروا رسول الله عن الحقيقة، والله إن فيها الرجم، فلما جيء بالتوراة أخذ القارئ يقرأ من موضع آخر ووضع يده على نص الرجم، وقرأ ما قبله وما بعده، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها نص الرجم، فقال: سبحان الله! ما الذي حملكم على هذا؟ قالوا: لقد فشا الزنا في بني إسرائيل -النساء جميلات، والرجال متوفرو الشهوة، والاختلاط موجود- وكثر القتل فيهم بسبب ذلك عند الرجم، فقالوا: لو استمر الرجم على ذلك لقتل أشراف بني إسرائيل، فهلم نجتمع على رأي نطبقه على الصغير والكبير، على الشريف والوضيع، فاتفق رأيهم أنهم يسخمون وجوههم، أي: يسودونها بالفحم، ويركبونهم على دابة، ووجوهما إلى قفاها، ويطوفون بهما في الطرقات معلنين أن هؤلاء زناة، ثم حكم صلى الله عليه وسلم بالرجم. وهل حكم بالرجم على ما يوجد في التوراة لأهل التوراة، أو حكم بالرجم على ما في كتاب الله؟ قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]. كذلك قضية العسيف والرجل اللذين أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقضيتهم في الموطأ مطولة فقال الرجل: (إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)، ثم قضى بينهما أن على ولده -أي: العسيف- جلد مائة لأنه أعزب، ولم يكن أُحصن، فقال: (الوليدة والغنم رَد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها). الكلام على إثبات موضوع الرجم هذا محله غير هذا المكان، وهو أمر مفروغ منه، وبإجماع جميع الملل أو النحل السماوية، فإن الزنا محرم وفيه الرجم.

أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعدلهم بين الرعية

أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعدلهم بين الرعية فلذلك لا تقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، وهكذا بنو إسرائيل حينما لم يأخذوا حق الضعيف من القوي آل أمرهم إلى التمزق، وآل أمرهم إلى السقوط والضياع، وقد فطن لذلك الصديق رضي الله تعالى عنه فأعلنها مبدئياًَ: (ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه) يعني: لا يعتصم أحد مني بقوته، ولا ييأس أحد مني لضعفه، الكل سواء في حكم العدالة. وهذا هو ما ينبغي، فإذا ما ضيع هذا الجانب، وروعي الأشراف أو السادة أو الكبار أو ذوو الجاه، فهودنوا فيما يتعلق بحدود الله، وجيء إلى الضعفاء المساكين فنفذ عليهم حق الله، فهذه الأمة لا تستحق التقديس، وهي إلى الضياع أقرب، نسأل الله تعالى العافية والتوفيق. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط)، وكما تقدم في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: (سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك)، وأمره أن يسوي بين الخصمين أمامه، وألا يميل إلى واحد منهما بلحظه أو بنظره، لئلا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييأس الضعيف من عدله. لأن الشريف إذا وجد القاضي يحابيه أو يصانعه أو يميل إليه، أو يلين له الحديث عند المناقشة؛ فإنه يطمع في المجاملة، والضعيف إذا وجد ذلك من القاضي في نبرات صوته، وفي كلماته وعباراته؛ فحينئذ يدخله كسر الخاطر، ويدخله الرعب والخوف من القاضي. ولهذا ينبغي على القاضي أن يسوي بين الخصوم في خصومتهم، وبين مفاهمته معهم، حتى قال بعض القضاة: لو أغضب أحد الخصوم القاضي فرفع صوته عليه، وتكلم القاضي على هذا الذي أغضبه أو أثاره؛ فإنه ينبغي أن ينتهز فرصة من الطرف الثاني ولو كانت أقل من خطأ صاحبه، ويصيح عليه كما صاح على الأول، ليشعر بالمساواة. وهكذا تبدأ العدالة من مجلس القاضي: (أجلسهم بين يديك، وأصغ إليهما، ولا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر) إلى آخر تلك الإرشادات التي جاءت في خطاب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. كيف تقدس أمة لم يؤخذ الحق من شريفها لضعيفها؟ لا يمكن، فإذا ما تساوى الجميع وأخذ الحق من القوي للضعيف، شعر الضعيف أنه قوي بالحق، وشعر القوي أنه ضعيف بمصادرته ومصادمته للحق، فيكون الحق هو حق النصر، وحق الاعتدال بين الطرفين كما قيل: الفضيلة وسط بين طرفين. وبالله تعالى التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دروس الحرم [12]

دروس الحرم [12]

باب الولاية

باب الولاية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

أدلة منع المرأة من الولاية

أدلة منع المرأة من الولاية قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري. وعن أبي مريم الأسدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم؛ احتجب الله دون حاجته) أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم) رواه أحمد، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي. عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري. الذين قالوا بعدم صحة تولية المرأة القضاء، قالوا: لأن القضاء مبناه على العقل والفهم، والفهم هو مقياس نجاح القاضي، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى عنهن تمام العقل والفهم، ونفى عنهن تمام الدين، وقال: (إنكن ناقصات عقل ودين)، ولما ذكر الله الشهادة قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، وكأن المرأتين معاً صيغا وسبكا فجعل منهما رجل. وعلى هذا يكون نقص العقل في المرأة لا بد أن يكون نقصاً في التفكير ونقصاً في الفهم. ثم إذا نظرنا إلى وصف المرأة في معاتبة المشركين في ادعائهم بأن لله البنات ولهم الذكور فقال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، أي: عاش على النعيم والترف، لم يذق شظف العيش، ولم يقف مواقف اضطرارية في حياته فيصبر عليها، ويفكك المشاكل، بل ينشأ في الحلية، وقد أشرنا إلى قضية اليهودي مع الجارية أنه وجدها ووجد على رأسها أوضاحاً من ذهب، فأخذ الأوضاح ورض رأسها، وكنا كتبنا عن ذلك مطولاً، وقلنا: إن أولياء هذه الطفلة وكل طفلة يكثرون عليها من الحلي فاعتدي على الطفلة لحليها، فإن أهلها شركاء في قلتها مع القاتل المعتدي؛ لأنهم علقوا عليها أسباب القتل والاعتداء، فإذا رآها مجرم ورأى الذهب سال لعابه أمام بريق الذهب، فارتكب جريمة القتل وأخذ ذهبها. فقوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) دليل على ضعف القوى في مواجهة الخطوب والصعوبات، (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي: ضعيف البيان، وكما قالوا: المرأة إذا حزبها أمر فزعت إلى البكاء، وإذا ضاقت حيلتها وعجزت قوتها عمدت إلى الضعف وبكت، فإذا كانت القضية حازمة، وكانت دلالاتها خفية، وحزبها الأمر، أتجلس تبكي أمام الخصوم، أم ماذا تفعل؟ لأنها بتركيبها التكويني جبلت على هذا الأمر، ومن يطلب من الماء ذهباً فقد كلف الماء ما لا يطيق، وعلى هذا لم يكن تكوينها الذاتي يعطيها الصلاحية للولاية.

ندرة صلاح المرأة للتدبير

ندرة صلاح المرأة للتدبير ومن أعجب ما قرأت أن الزبّاء وكانت ملكة بعد أن آل إليها حكم زوجها، وكان جذيمة ينافس زوجها فخافت منه، فأرادت أن تحتال عليه لتقتله لتأمن غيلته، فكتبت إليه، ومما قالت: إن تنصيب المرأة ملكة ثقيل في الأسماع -تتظاهر بعدم رضاها عن توليتها الملك- وضعف في السلطان، يطمع فيها الخصوم، فأت إلي لنتفق معاً ويتم الزواج وأكون بك قوية، فاستشار جذيمة أصحابه، فأشاروا عليه بذلك إلا رجلاً يسمى قصير، قال: لا أرى ذلك إلا خدعة، فلو كانت صادقة فلتأت هي إلى آخر أمرها، وذهب برجاله، فقال له قصير: إذا رأيت الخيل مشت أمامك فاعلم بأنها صادقة، وإذا رأيت الخيل قد أحاطت بك فاحذر. وكان لـ جذيمة فرس لا تدرك، فقال له قصير: فإن رأيت الغدر فاركب فرسك وانج بنفسك، فلما ساروا معه في الطريق وكان قصير معه، لقيتهم خيل الزبّاء وأحاطت به، فنبهه قصير فأبى، فحالاً بادر قصير وركب فرس الملك ونجا بنفسه، ثم لما دخل جذيمة عليها وجد المكيدة مدبرة وقُتل، وكان له أخ أو ابن أخ يدعى عمرو، فقال له قصير: قم واثأر لأخيك، قال عمرو: وكيف ذلك؟ قال قصير: اجدع أنفي واكسر ظهري، ففعل، فرجع إليها يبكي، فقالت له: ما بالك؟ قال: إن عمراً اتهمني أنني مالأتك على أخيه فقتلتيه، فلم أجد لي مهرباً إلا عندك، وأخذ يتقرب منها إلى أن وثقت به، إلى أن دبر المكيدة لقتلها الذي يهمنا: أنها كتبت إليه وقالت: إن تملك المرأة ثقيل في السمع ضعف في السلطان، فإذا كان هذا اعتراف ملكة بوضع المرأة في الولاية، فنحن لسنا في حاجة إلى ذلك، ولكن نقول: إن الذين ناصروا جانب تولية المرأة استشهدوا بهذه وبغيرها، وقالوا: بلقيس كانت ملكة سبأ، كيلو بترا كانت ملكة مصر، وملكة بريطانيا، وملكة إيطاليا، وملكة فرنسا، كلهن نساء، فكيف نوفق بين ذلك وبين هذا الحديث: (لن يفلح قوم) وهؤلاء نسوة قد تملكن في بلادهن، وسارت بلادهن على ما يرام؟ والجواب عن ذلك: أننا لو قرأنا تاريخ تلك النسوة في ملكهن، لوجدناهن جميعاً قد قتلن، واضطرب الملك تحت أيديهن، ولم تفلح دولة تحت ولاية امرأة خلفت زوجها أو أباها أو أخاها. ولا يهمنا تاريخ تملك النساء، ونتائج ذلك، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب: الدر المنثور في أخبار صاحبات القصور؛ ففيه من الأخبار العجائب. ومن المعلوم أنه لم تتول امرأة حكماً في العرب إلا بلقيس، ثم إذا وجد هناك نسوة حصيفات العقول، حكيمات السياسة، فيكون ذلك من الندرة بمكان، كما فعلت بلقيس حينما بلغها أمر نبي الله سليمان، وقالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:29 - 31]. ثم قالت: ماذا تشيرون علي؟ فكان رأيهم رأياً عسكرياً {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، لكن بحصافة عقلها ورجحان فقهها ما رأت أن تبدأ بالقتال لمن تجهل قوته، ولم تعرف حقيقة ملكه، قالت: لا أنا سأبدأ باللين أولاً {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، وكانت تلك المهاداة، وهذا النظر اللين، كما يقال: الحرب الباردة، فكانت موفقة، ورجع الهدهد سفيراً إليها، وجاء الله بها مسلمة، فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. فهذه استعملت عقلها وحصافتها في قضية تأزمت، وقد صدر من بعض نساء المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما بعد ذلك من هذا شيء كثير.

موقف أم سلمة الحكيم في الحديبية

موقف أم سلمة الحكيم في الحديبية ففي الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحللوا وأن ينحروا هديهم، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة مغضباً، فقال: (يا أم سلمة: ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك)، لأنهم خرجوا لا يظنون إلا أنهم آتون البيت، وما صدر في فكرهم أن يمنعوا منه، فهم متحمسون، وينتظرون فرجاً من الله بأن يهيئ لهم دخول مكة وإتمام عمرتهم. وقالت له: اخرج عليهم ولا تكلمن أحداً منهم؛ لأن النفوس مشحونة ليس فيها سعة لتتحمل شيئاً، وأصبح الآن القدوة الفعلية أولى من الكلام والبلاغة والخطابة، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق يحلق لك، والزم خيمتك. نحن هناك نجد عمر حينما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل وبنحر الهدي وقف وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فـ عمر يريد أن ينهي القضية بالسيف كأصحاب بلقيس: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33]، بينما أم سلمة رضي الله تعالى عنها ليست من أهل القوة والسيف، ولكن من أهل الفطنة وبعد النظر والتريث، فحلت القضية بالحكمة؛ فما أن رأى المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه وحلق شعره إلا تبادر الجميع وتسابقوا إلى الحلق والنحر، وانتهت القضية. ونجد التطبيق العملي في تاريخ المسلمين منذ أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم رسالته، وبلغ وحي الله، ومدة مكثه في مكة، وعند مجيئه إلى المدينة، وفي زمن الخلفاء الراشدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن تبعهم، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية، لم نجد خلال هذه المدة الطويلة أن امرأة تولت القضاء أبداً. إذاً: حينئذ لا ينبغي أن نجعل تولية المرأة القضاء قضية، ونناقش فيها، ونأتي بأدلة من هنا أو هناك، ونجرح من يقول بولايتها لا وكلا، ويهمني تصحيح المفهوم عن الأحناف أنهم يجيزون ولايتها بالإطلاق، ولكن التحقيق عندهم أنهم لا يجيزونها إلا عند الضرورة. والله تعالى أعلم.

التركيب الخلقي في المرأة لا يناسب القضاء

التركيب الخلقي في المرأة لا يناسب القضاء هناك أيضاً الذين يمنعون تولية المرأة القضاء، يوردون على الموضوع لوازم القضاء، ومن لوازم القضاء: أن القاضي يستقبل الخصوم، ويجلسهم بين يديه ويناقشهم، فهل المرأة تتحمل هذا في كل الظروف؟ قد يتقوى عليها الخصوم، وقد يسمعانها ما لا تطيق، وقد تعجز في مجاراتهما، فحينئذ يضيق صدرها ويعتريها الغضب، فتأتي إلى المحظور: (لا يقضين أحد بين اثنين وهو غضبان). ثم سيأتيها مواطن تضطر فيها إلى المشاهدة والمعاينة لواقع هذه القضية أو تلك، أو إنابة من ينوب عنه ليرى وينقل إليها الواقع، فإذا تولت المرأة ذلك كان شاقاً عليها، كما قالوا الآن في تولي المرأة النيابة في البلاد النيابية، وتقف وتذهب وتناقش وتعمل محاضر معاينة، ويكون في ذلك مشقة عليها، وهي امرأة ضعيفة. بل إن المرأة تعتريها لخلقتها ما يعتري النساء، وهذا قد يسيء إليها نفسياً، وقد تعجز معه أن تسع الخصومة بحلم وعفو وعقل، بل هي من نفسها تتضايق؛ فكيف تتحمل غيرها. وعلى هذا ذكروا أشياء عديدة في أن المرأة لا تصلح خلقياً أن تكون قاضية. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [13]

دروس الحرم [13]

أحكام الظهار

أحكام الظهار باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وقعت عليها قبل أن أكفر، قال: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، رواه الأربعة وصححه الترمذي ورجح النسائي إرساله، ورواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد فيه (كفر ولا تعد). وعن سلمة بن صخر رضي الله عنه قال: (دخل رمضان فخفت أن أصيب امرأتي فظاهرت منها، فانكشف لي شيء منها ليلة، فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرر رقبة، فقلت: ما أملك إلا رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: أطعم فرقاً من تمر ستين مسكيناً)، أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود.

الظهار وكفارته

الظهار وكفارته تقدم لنا أن الظهار هو تشبيه الرجل زوجته بظهر أمه، وكان هذا معروفاً في الجاهلية، وكانوا يعتبرونه طلاقاً، يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أي: في المحرمية، وتصبح امرأته حراماً عليه لا يصح له أن يطأها، وهذا معروف عند الجميع. وجاءت قضية خولة مع زوجها أوس بن الصامت الذي نزل في شأنها وشأنه سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:1 - 2]، إلى آخر السياق. تقول خولة: كنت تحت ابن عمي أوس بن الصامت، وكان رجلاً كبيراً فيه غضب، فغضب مرةً ثم قال: أنت عليّ كظهر أمي. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: (ما أراكِ إلا حرمت عليه)، فتجادلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا، ويقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أراك إلا حرمت عليه)، إلى آخره، فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الظهار. وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! هذه خولة تجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معها في الغرفة، أسمع بعض حديثها ويخفى عليّ بعضه، والله يسمعه من فوق سبع سماوات. هذا مبدأ الظهار في الإسلام، فجعل الله سبحانه وتعالى على الذين يعودون لما قالوا: تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. فأما الحديث الأول: قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وقعت عليها قبل أن أكفر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به). ولكن جاءت قصة سلمة بن صخر قال: (كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء مالم يؤت غيري -أي كان به نهم على الجماع- فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلتي، فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل! نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري، فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، وهأنذا فامض في حكم الله فإني صابر لذلك. قال: أعتق رقبة، قال: فضربت صفحة عنقي بيدي، فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال: صم شهرين متتابعين، قلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه مالنا عشاء). فلما عرف للنبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه لا يملك رقبة، ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين، ولا يجد ما يطعم ستين مسكيناً، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكيناً، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك). والمعنى: أنها أكثر من المطلوب.

مقدار كفارة الظهار

مقدار كفارة الظهار وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم: أتي بعرق تمر، والعرق: هو ما يسمونه المكتل، واختلفوا في مساحة هذا المكتل، وبعضهم يذكر أنه يسع وسقاً والوسق ستون صاعاً، لكل مسكين صاع. وفي بعض الروايات: فيه خمسة عشر صاعاً، فيكون الصاع لأربعة أشخاص. وفي قصة خولة التي نزلت فيها سورة المجادلة، قال صلى الله عليه وسلم لما أخبرها: (ليعتق رقبة قالت: لا يملك، قال: يصوم شهرين متتابعين، قالت: شيخ كبير لا يستطيع، قال: يطعم ستين مسكيناً، قالت: والله ليس عنده ما يتصدق به، فأتي بمكتل تمر فقال: خذي هذا ليطعمه، قالت: وأنا سأعينه بمثله)، فيكون المكتل خمسة عشر صاعاً، ومكتل آخر من زوجته خمسة عشر صاعاً، فيصير ثلاثين صاعاً، إذن يعطى للشخص الواحد نصف صاع. وعلى هذا: اختلفت الأقوال في مقدار الكفارة للشخص الواحد من صاع إلى نصف إلى ربع، وهو المد النبوي. وقد وقع بين الإمام مالك رحمه الله وشخصٌ من غير أهل المدينة مناظرة، فقال للإمام مالك: إن الإطعام على الشبع، يعني: أطعم ستين مسكيناً كل واحد ما يشبعه، فقال مالك: نعم على الشبع، فقال: لا يشبع الواحد عندنا إلا الصاع، فقال مالك: ونحن يشبع الواحد عندنا نصف الصاع؛ لأننا قد دعا لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبارك لنا في صاعنا ومدنا، وأنتم لم يدع لكم: (اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا)، فالإمام مالك رحمه الله استعمل هذه الدعوة المباركة في مقدار ما يشبع الشخص من الكفارة.

أقوال العلماء في صور الظهار

أقوال العلماء في صور الظهار وصور الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي؛ هذا هو الأصل. وفرعوا على ذلك مسائل: منها لو ذكر عضواً غير الظهر، كالفخذ والبطن ونحوها، والراجح أن كل عضو في الأم يحرم عليه من أجنبية، فإن شبه زوجته بهذا العضو فهو ظهار، فلو قال: أنت علي ككتف أمي كذراع أمي كفخذ أمي أي: في المحرمية؛ فهو ظهار. ومعلوم أن الكتاب والسنة ذكرا الأم، فإذا شبه زوجته بغير أمه كالأخت أو البنت أو الخالة أو العمة، فهل يكون ظهاراً أو لا؟ القول الأول: قول ابن حزم فقد قصر الظهار على ظهر الأم، وما سوى ذلك فليس بظهار. القول الثاني: أن من شبه زوجته بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً أو مؤقتاً فهو ظهار. ومن هنا تأتي قضية تقدمت لنا في تحريم المرأة قبل أن يتزوجها، كقول القائل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، هنا في الظهار: هل يصح الظهار من امرأة لم يتزوجها إن تزوجها؟ أو هل يصح تعليق الظهار على زواجه بامرأةٍ معينة أو بامرأة مطلقة؟ كما تقدم لنا في الطلاق، كأن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة أو امرأة من القبيلة الفلانية أو البلد الفلاني أو الأسرة الفلانية؛ فهي طالق. فرق بين التعميم والتخصيص، ويقولون: التفريق استحسان، والحنابلة الذين يقولون بالتفريق في الطلاق، يقولون: لا يصح الظهار معلقاً على امرأة إن تزوجها؛ لأن الله قال: {يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3]، ومن كانت غير زوجة فليست من نسائهم. ومن هنا أيضاً: ذهب العلماء إلى عدم صحة الظهار من الأمة. ومباحث الظهار عند الفقهاء متعددة، يذكر ابن رشد وغيره في بداية المجتهد مسألة: هل للمرأة أن تظاهر من زوجها؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فمنهم من يقول: لها أن تظاهر، وإذا مكنته من نفسها فعليها كفارة ظهار، وهو خلاف ما عليه أصحاب المذاهب الأربعة الذين لا يقولون بصحة ظهار المرأة من زوجها، لأنها أصلاً لا تملك حق منع نفسها عنه، وبعضهم يوجب عليها كفارة يمين قبل أن تمكنه من نفسها. ثم الظهار يكون مؤقتاً بوقت أو مطلقاً، فإن كان مؤقتاً بأقل من أربعة أشهر -كالذي ظاهر من امرأته شهر رمضان- فتنتظر الزوجة حتى تنتهي المدة، وإن كان الظهار مؤقتاً بأكثر من أربعة أشهر؛ فإن مضت مدة أربعة أشهر ولم يكفر، فالمرأة لها أن تصبر أو أن ترفع أمرها للحاكم، وكذا إن كان الظهار مطلقاً. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

دروس الحرم [14]

دروس الحرم [14]

الدلالة العامة لقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)

الدلالة العامة لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: Q فضيلة الشيخ! رأينا في بعض الكتب قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] في ضمن الأدعية المسنونة عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا من السنة؟ وإن كان من السنة، فما المقصود بها؟ A أيها الإخوة الكرام: لعلها من ساعات التوفيق من الله سبحانه وتعالى أن نجتمع في هذا المسجد النبوي الشريف، وأن نستمع إلى هذا السؤال من الأخ السائل الكريم الذي عبرنا عنه بحسن الظن إن شاء الله. ونحن أولاً نتناول صيغة السؤال، ثم نأتي إلى القضية في كتاب الله على منهج التفسير الموضوعي وليس الموضعي. يقول الأخ الكريم: وجدنا في بعض الكتب. أعتقد أن هذه الصيغة صيغة مجهول، ولو سألنا كل إنسان -سواء الأخ السائل أو غيره- في أيِّ الكتب؟! أهي العلمية التي هي مراجع المسلمين في الفقه والأحكام، أم هي الكتب التجارية التي تطبع وتباع للزوار بقصد الربح والتجارة؟! هذا أول ما يلزمنا معرفته؛ لأن هذه دعوى تتعلق بمعتقد، وتتعلق بحق المسلم وبهذه القضية، وهي: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جاءه، وكنت أود لو أن الأخ السائل الكريم أو غيره حتى لا يكون هناك إحراج أن يسمي لنا كتاباً من تلك الكتب لنعرفها جميعاً، ونحن نريد أن نبحث هذه المسألة بحثاً علمياً هادئاً إلى أبعد حد، من غضون سياق الآية أو جزء الآية في كتاب الله سبحانه وتعالى. فإذا كنا لا نعلم عن هذه الكتب التي قرأ فيها، فأنا أقول له ولغيره: قد ذكر ابن كثير في تفسيره هذا القول، ولم يعقب عليه، ولكن قال: وقال شيخنا ابن الصائغ وقيل أو وذكر. وهي قضية مشهورة عند الناس قديماً وحديثاً، وتناولها المتأخرون بالنقض والنفي وإبطالها بالكلية. نحن نترك كلام الناس أولاً -ولا غنى لنا عنه- ونأتي إلى كتب التفسير المعتمدة كـ ابن جرير والشوكاني وأبو السعود وغيرهم من كتب التفسير المعتبرة. نأخذ سياق هذا النص، ما موضوعه لكي نتصور هيكل القضية؟ لا نأخذ النص من حيث هو فقرة، فنقطعه عما قبله ونقطع ما بعده عنه، ولكن نأخذ السياق كاملاً، ونأخذ المصحف الشريف ونقرأ من سورة النساء.

الأمر بأداء الأمانات

الأمر بأداء الأمانات {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]. الشيخ: انظروا يا إخوان وتأملوا هذا التنبيه، فقبل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ} [النساء:64] بثماني آيات متضمنة مسار تمجيد وخطاب، قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء:58] أي: المسلمين. (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ): ولفظ (الناس) هنا عام يدخل فيه المسلم والكافر، لأن المسلمين واجب عليهم فيمن يتحاكم إليهم ممن تحت رعايتهم أن يحكموا فيهم بكتاب الله. وإذا تحاكم غير المسلمين فيما بينهم فلا دخل لنا فيهم، أما إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحاكم المسلم الموجود، أو إلى قاضي المسلمين ليقضي بينهم؛ حكم بينهم بكتاب الله. (يأمركم أن تؤدوا الأمانات) جمع أمانة، نزلت في مفتاح الكعبة ولكنها عامة، والحكم أمانة.

وجوب طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر بالمعروف

وجوب طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر بالمعروف ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. من جانب ولي الأمر: إذا حكمت بين الناس فاحكم بالعدل، ومن جانب الرعية: واجبهم ما دام ولي الأمر يحكم بالعدل؛ فأنتم يا أيها المحكومون: يجب عليكم الطاعة. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ))، طبعاً طاعة الله في طاعة رسوله، ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ))؛ لأنهم نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذان نصان مقترنان: الأول: في حق الحكام أن يأمروا بالعدل. والثاني: في حق المحكومين أن يسمعوا ويطيعوا، لمن يحكم بالعدل.

العودة إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف

العودة إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]. نادى المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر. ولاحظوا هنا في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي، فعل الطاعة: ((أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) (أولى الأمر)، هل قال: (وأطيعوا أولي الأمر) أم وردت بدون لفظ الفعل؟ (أطيعوا الله) (وأطيعوا الرسول)؛ لأن لله على خلقه حق الطاعة، وللرسول على الأمة حق الطاعة مستقلاً ابتداءً؛ لأنه مشرعٌ عن الله ومبلغ عنه. أما أولو الأمر فليست لهم طاعة مستقلة ذاتية، ولكنها طاعة بطاعة الله ورسوله، ولهذا لم يقل في أولي الأمر: (وأطيعوا أولي الأمر)؛ لأنه لو قال: (وأطيعوا أولي الأمر)، لكان لهم حق الطاعة الذاتية، ولكن لا؛ لأنه لا طاعة لأولي الأمر في معصية الله، ولا طاعة لأولي الأمر إلا إذا كانت في طاعة الله. إذاً: طاعة أولي الأمر تبع لطاعة الله ورسوله ماذا إذا وقع النزاع؟ (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، فإذا حصل نزاع فيما بينكم، أو بينكم وبين أولي الأمر، كما لو أمروكم بأمر لم يأمر الله به، أو أمروكم بأمر فيه معصية لله، وتنازعتم في الأمر؛ فالمرد لمن؟ أولو الأمر لهم السلطة، لكن السلطة العليا هنا لمن؟ (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، وتأمل أداة الشرط، (إن كنتم). قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].

حال المنافقين واليهود إزاء التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

حال المنافقين واليهود إزاء التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لاحظ، بعد ذلك التمهيد وبيان حق ولي الأمر في الحكم بالعدل، وبيان واجب الأمة في السمع والطاعة، وبيان مرد النزاع إلى الله ورسوله، يعجب الله رسوله من قوم خرجوا عن هذا كله، وهنا مبدأ القضية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} [النساء:60] (ألم تر) يا محمد رؤيا تعجب (إلى الذين) من هم؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60]، يقولون: الزعم أخو الظن، إذا قوي الزعم وصل إلى الظن، وليس بيقين ولا بحقيقة، (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهذا الخلق في بعضٍ من المنافقين، (وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)، وهذا في بعض اليهود؛ لأن اليهود آمنوا بما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والمنافقون آمنوا ظاهراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فالمنافق يزعم أنه آمن بما أنزل إليك، واليهودي يزعم أنه آمن بما أنزل من التوراة والإنجيل. مع هذا الزعم {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]، يريدون أن يتحاكموا إلى من أمروا أن يكفروا به، ويبقى Q هل هم في هذا موافقون لمنهج الحكم السليم في الإسلام أم أنهم خرجوا عنه؟ لا شك أنهم خارجون عنه. {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، يبين سبحانه العلة، وأن من وراء ذلك الشيطان. (أن يضلهم):، أي: يغويهم ويضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق والهدى. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)، أي: هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالحاضر والسابق، وهم المنافقون واليهود، (تَعَالَوْا) في الحكم والتحاكم (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، أي: تعالوا إلى ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. {وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:61]، أي: تعالوا إلى الكتاب المنزل من عند الله ومن الرسول، لماذا؟ ليحكم بينكم. (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)، فهل هؤلاء مؤمنون بما أنزل إليك، وهل هم صادقون في زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك، كيف يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك؛ وهم إذا دعوا إليك يصدون عنك. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)، وهو محمد صلى الله عليه وسلم (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ)، (يَصُدُّونَ)، أي: يعرضون عنك، ويصدون صدوداً بعيداً، وفعلهم هذا وصدهم موجه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم. لم يقل: يصدون عما أنزل الله، وإنما قال: (عنك)، أي: يصدون عن شخصك يا محمد استثقالاً لما جئت ولعدم الرضا به. (صُدُودًا)، يقول العلماء: يؤتى بالمصدر بعد الفعل؛ لتأكيد معنى الفعل، كما سيأتي {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وكما جاء في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، تأكيداً للفعل الذي جاء قبل المصدر، فهم يصدون عنك صدوداً حقيقياً أكيداً مقصوداً. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]. (أُوْلَئِكَ)؛ أي: هؤلاء الموصوفون بالصد عنك، الزاعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، الله يعلم ما في قلوبهم، والقلوب هي محل الإيمان والتصديق؛ فهل في قلوبهم ما زعموه من الإيمان، أو في قلوبهم غير ذلك؟! ما أسباب الصدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المانع لديهم هو النفاق. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهذا فيه خسارة، ولا يهم ذلك؛ لأنهم لا يستحقون التقدير وليسوا أهلاً له. (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ)، (في أنفسهم) يعني: في مسلكهم، وصدودهم عنك ونفاقهم بين المسلمين، أو في أنفسهم: بينك وبينهم لا تفضحهم (قولاً بليغاً). فهذا السياق من الآيات الدالة على معنى ومفهوم قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، ومنه يتضح سبب هذا الخطاب الإلهي لنبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [15]

دروس الحرم [15]

التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]، أي: لا يحكمونك بقوة القانون غصباً عنهم، بل يحكمونك طواعية، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا ضيقاً ولا مضاضة، بل إيماناً وتصديقاً، يحكمونك ولا يجدون في صدورهم حرجاً، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. قد يأتي المدعى عليه عند القاضي فيحكم عليه ويسلم رغماً عن أنفه، فهل هو رضي وسلّم بالحكم عن رضا؟ لا، بل مخافة العقاب ومخافة السلطان، أما التحاكم إلى رسول الله لا يتم إلا إذا كان عن رضا، ولا يقع أي حرج منه، وأن يسلم تسليماً كاملاً، لأنه بإيمانه بأنه يحكم بالعدل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]، فالمؤمن يؤمن بذلك، ولهذا يرضى ويسلم كل التسليم. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء:66] هذا موضوع آخر راجع إلى المنافقين، وهم يعرضون عن حكم رسول الله، والله يحكم ما يشاء، {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] اليهود كان من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم فتاب الله عليهم، فالله لم يأمرنا بذلك، فهذا معنى هذا السياق. أعتقد -يا إخوان- أن هذا العرض قد يكون كافياً، ولكن بعض الإخوة يحب أن يطمئن أكثر، ويقف على نصوص أئمة التفسير في هذه الآية، وقد حاولت نقل ذلك عن بعض كتب التفسير ليسمعها الأخ السائل الكريم، وكل من تحوك في نفسه هذه الشبهة، ليعرف أن الأمر بعيد كل البعد عما ظن، وأنها من سنة أدعية السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أجد الكتب التي ذكرت مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) ابن جرير شيخ المفسرين، لما سئل الإمام ابن تيمية: أي التفاسير أولى؟ قال: ابن جرير أصحها سنداً، ثم ابن عطية أسلمها بدعة، وابن جرير عليه مآخذ، لكن يهمنا في موضوعنا تفسيره لقوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] إلى آخر الآية. قال: وهذا خبر من الله تعالى عن هؤلاء المنافقين أنهم لا تردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم يثوبوا ولم يتوبوا.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله) ثم ذكر تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64]، أي: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصفت صفتهم في هاتين الآيتين، وهم الذين دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله فصدوا وأعرضوا؛ لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم الخطايا، لاحتكامهم إلى الطاغوت وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك -يا محمد- حين فعلوا ما فعلوا من تحاكمهم إلى الطاغوت ورضائهم بحكمه دون حكمك، فجاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح عنهم، وسأل الله لهم رسول الله مثل ذلك، وهذا معنى قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64]. نقل أبو حيان والفخر الرازي ما ملخصه: فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم في قوله {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] أنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله وأساءوا إلى رسول الله، أي: بالإعراض عنه والصدود عنه، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار لحقه الخاص، أو لأنهم لما لم يرضوا بحكم رسول الله ظهر منهم التمرد، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يخالف التمرد، وذلك بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار. وقال الزمخشري في الكشاف: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء:62] الآية، أي: بسبب التحاكم إلى غيرك، واتهامهم لك في الحكم، ولو أنهم جاءوك تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا، فاستغفروا الله، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك حتى انتصبت شفيعاً لهم. ويقول أبو السعود: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء:62] بظهور نفاقهم وبما قدمت أيديهم وبسبب ما عملوا من الجنايات التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك، وظلموا أنفسهم بتركهم طاعتك، والتحاكم إلى غيرك، ولو أنهم جاءوك من غير تأخير متوسلين بك في التنصل من خيانتهم، ولم يعتذروا بالباطل، ولم يحلفوا كما قال الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62]، وهذا إثم ومعصية، فكيف إذا أصابتهم مصيبة، مثل الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم رسول الله فقتله عمر، والمعنى: فكيف بهم إذا أصابتهم مصيبة في قتل قريبهم بسبب تحاكمهم إلى غير رسول الله. وفي قصة أن جبريل جاء -حينما طالبوا بدية القتيل- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد! إن عمر قد فرق بين الحق والباطل)، فسمي فاروقاً من ذلك الوقت. هذه النصوص من كتب التفسير المعتبرة، التي تبين ما هي المصيبة التي أصابتهم، والتي تبين أنهم ظلموا أنفسهم في قضية التحاكم إلى غير رسول الله والإعراض والصدود عن رسول الله، فيكون مجيئهم إلى رسول الله لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ابن كثير في تفسيره قصة، وقال: ذكر الشيخ السباط -ومن هو الشيخ السباط؟ - في كتابه الشامل، ولا يعرف كتابه هذا؟ وما هو سند هذه القصة؟ وهي لا يوجد لها ذكر في كتب السنة ودواوينها، ولا في كتب الفقه وأصوله، وقد بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله عن هذه القصة، وأكد جازماً بأنها كذب موضوعة لا أصل لها. والقصة مشهورة وهي: أن أعرابياً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم على يديه، فوجده قد توفي ودفن، فجلس عند قبره، وقال يا رسول الله! الله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64]، وقد جئتك ظالماً لنفسي فاستغفر لي، ثم ذهب، فقال العتبي: فأخذتني عيني بالنوم، فرأيت في نومي أن رسول الله يقول: أدرك الأعرابي وأخبره أن الله قد غفر له. هذه قصة لا سند لها ولا أصل لها، ولا توجد في الكتب المعتبرة، والمنامات مهما كانت لا تؤخذ منها الأحكام، لا في المندوب، ولا في المفروض، ولا في المحرم، ولكنها من باب البشرى. إذاً: قول هذا عند الزيارة لا أصل له، وأود أن الجميع قد فهم هذا البحث، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى شاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب) لما قال لـ أبي هريرة: إذا أردت أن تحفظ مالك من الشياطين فاقرأ آية الكرسي، فقبل الحكمة من الشيطان؛ لأنه صادق فيها. فمن وجد هذه القصة في كتاب من كتب المسلمين سواء كانت أصول الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، أو كانت في كتب الحديث ولو الضعيفة، فليطلعنا عليها، وجزاه الله خيراً. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [16]

دروس الحرم [16]

باب اللعان

باب اللعان الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين. قال المؤلف رحمه الله: [كتاب: النكاح.

سبب مشروعية اللعان

سبب مشروعية اللعان باب: اللعان. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (سأل فلان فقال: يا رسول الله! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله الآيات في سورة النور، فتلاهن عليه ووعظه، وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها كذلك، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنّى بالمرأة، ثم فرق بينهما) رواه مسلم]. قال: وعنه رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله! مالي؟ فقال: إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها) متفق عليه].

تعريف اللعان

تعريف اللعان وهو في الاصطلاح: أن يرمي الزوج زوجته وليس عنده بينة إلا نفسه، فلتعذر إحضار الشهود، ولصعوبة سكوته على ما رأى، ولئلا يكون في حرج وضيق، فله أن يلاعن، كما جاء في قصة اللعان: (إن تكلم ضرب ظهره -أي: لأنه قذف مسلمة محصنة- وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على أمر عظيم). وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (قد جعل الله لك مخرجاً)، وذلك أن اللعان وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا شخصياً لم أقف على صورة لعان بعد زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا أدري إن كان الإخوة قد وقف أحدهم على صورة لعان في عهد الخلفاء الراشدين أو ما بعدهم، أم لا. وهذه القصة التي ساقها المؤلف يتفق العلماء أنها أول لعان في الإسلام، وذلك أن عويمر العجلاني أو هلال بن أمية، ورواية عويمر أنه قال لابن عمه عاصم العجلاني: ماذا يفعل الرجل لو وجد رجلاً مع أهله، إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه الحد، وإن سكت سكت على مكروه؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فأعرض عنه ولم يجبه، وكره المسألة؛ كره أن يقع السؤال عن الشيء المكروه قبل وقوعه-. وقد كان ابن مسعود حينما يسأل عن مسألة يقول: أوقعت؟ فإن قيل: نعم وقعت أفتى فيها، وإن قيل: لم تقع، يقول: دعوها حتى تقع، وليس معنى هذا منع السؤال عن الأمور المستقبلية إذا كانت مظنة الوقوع، ولكن عندما يكون السؤال متعلقاً بالفاحشة، فإن الآذان تكره ذلك وتمج سماعه والرسول سكت ولم يجبه؛ لأنه لم يكن نزل في حكم ذلك شيء من قبل. فرجع عاصم إلى عويمر فقال: ماذا قال لك رسول الله؟ قال: ما وجدت منك خيراً، لقد سكت عني ولم يجبني، فقال عويمر: والله لا أتركها، وذهب بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات لما سأل رسول الله صلى الله قال له: قد نزلت فيك وفي صاحبتك آيات فاذهب فأت بها)، هذا ما يتعلق برواية عويمر. فنزلت الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] الآيات إلى آخر آيات اللعان، فقال: (قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها) فجاءت -وفي بعض الروايات- أن عويمراً لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حد في ظهرك وإلا بينة) أي: بينة على ما أخبرت ورميتها به، وفي بعض الروايات: (يا رسول الله! أحدنا يجد الرجل على أهله، ثم يتركه ويذهب ويأتي بالبينة، فيكون قد قضى حاجته ومضى)، وفي بعض الروايات: (بأن عويمراً رجع من مزرعته بعد العشاء فوجد عند أهله رجلاً، فلم يهجه وتركه، وفي الصباح أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر) كل ذلك مقدمات يسوقها العلماء في ملابسات وظروف اللعان. وأجمع العلماء أنه لا لعان إلا بين الزوجين، واختلفوا: هل كل زوجين يمكن أن يقع بينهما لعان؟ فالبعض كـ أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه يقول: لا لعان إلا بين مسلمين حرين بالغين.

من يصح لعانه

من يصح لعانه ومالك ومن وافقه يقول: يقع اللعان بين كل زوجين مسلمين، أو ذميين، أو أحدهما مسلم والآخر ذمي، فاسقين أو عدلين، حرين أو مملوكين، فكل زوجين يصح منهما اللعان. والسبب في هذا الخلاف كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: هل أيمان اللعان أيمان، أو هي شهادات؟ فإن كانت أيماناً فاليمين يصح من الحر ومن العبد، وإن كانت شهادات فالشهادة لا تصح من العبد، فليس للعبد ملاعنة، وهذه تفصيلات فيمن يصح منه اللعان. إذاً: اللعان مبدئياً ثابت بالكتاب والسنة، وموجبه أن الأصل في رمي النساء المؤمنات المحصنات بالزنا أحد أمرين، فإما أن يأتي الرامي بأربعة شهود على صدقه، وإلا يثبت عليه حد القذف. وهذا في الأجنبي مع الأجنبية، ولكن في الزوجين كما قال عويمر في بعض الروايات، وكما قال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أمهله حتى أذهب وآتي بأربعة شهداء؟! يكون لكع قد قضى حاجته ومضى، والله لأضربن -أي: بسيفي- بين الفخذين، فقال صلى الله عليه وسلم (أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني). فهنا كما يقال: العقل والعاطفة، العاطفة تنجلي حينما يرى الزوج إنساناً أجنبياً يغشى زوجته، فإذا كان في هذه الحالة لا يتمالك، ولا يصبر ولا يقوى على ذلك إلا فحول الرجال، فهنا العقل في جانب، والعاطفة في جانب آخر، العقل يقول: تريث، وأثبت هذه الواقعة وأحضر الشهود، لأنك إن قتلته قتلت به، ولذا لما سأل رجل علياً رضي الله تعالى عنه قال: أتركه وآتي بأربعة شهود؟ قال: بلى، قال: وإن قتلته؟ قال: قتلناك. وهذا أيها الإخوة سد للذريعة، بمعنى: أنه لا يتسلط الناس بعضهم على بعض، وأن يكون كل من أراد أن يقتل إنساناً، يحتال عليه ويأتي به إلى بيته، ثم يحتال أيضاً على زوجته وهي لا تعلم، ثم يلفق بينهما لقاء فيقتله فيقول: وجدته مع امرأتي، فتضيع الدماء. الذي يهمنا: أن الإسلام احتاط للدماء، واحتاط أيضاً للفروج، فإذا ابتلي إنسان بمثل هذه الصورة، فماذا يفعل؟ بين لنا هذا الصحابي الجليل تفصيل الأمر: إن سكت سكت على أمر عظيم، وإن تكلم حد ظهره، وإن قتل قُتل، فلما قال له رسول الله: بينة وإلا حد في ظهرك، قال: والذي بعثك بالحق يا رسول الله إني لصادق ما كذبت عليها، وإن الله لمنزل عليك ما يبرأ ظهري من الحد؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

دروس الحرم [18]

دروس الحرم [18]

رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري في أمور القضاء

رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري في أمور القضاء باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

النظر إلى الأشباه والنظائر عند القضاء

النظر إلى الأشباه والنظائر عند القضاء انظروا إلى أي مدى يسطر عمر منهج القضاء، وانظروا أيضاً ماذا يتعين على القاضي! (الفهم الفهم! وانظر الأشباه والنظائر) يعني: كن محيطاً بغالب القضايا المتقدمة، وبآراء سلف الأمة، وهذه حصيلة ليست بسيطة، ثم ينظر أيها أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذه مسئوليات ليست بالهينة، وأي القضاة يدرك ويجمع ذلك كله؟ وكما قال مالك رحمه الله: لو أننا أخذنا بكلام العلماء فيما يشترط في القاضي أن يكون عليه، لما وجدنا أحداً يصلح للقضاء! أي: لا يوجد أحد تجتمع فيه هذه الأمور، مع ما يذكرون في ذاته من الورع والتقى والصلاح والأمانة وذكر الله إلى آخره، ولكن يقضي بين الناس الأشبه فالأشبه، والأمثل فالأمثل، فمهما كانوا على حد من المعرفة أو من التقى، فلا بد أن نأخذ الأمثل فيهم وننصبه قاضياً عليهم، ولو لم يصل إلى درجة القضاة الذين يقول عنهم السلف.

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا ما استثني من ذلك

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا ما استثني من ذلك (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد). والأصل في المسلم العدالة ما لم يجرح، فلو جاءنا شاهد مسلم لا نعرف ماضيه ولا حاضره وقال: أنا رجل مسلم وأشهد بأني سمعت أو رأيت كذا وجب على القاضي أن يسمع شهادته، حملاً على البراءة الأصلية (عدول بعضهم على بعض). أما إذا كان يعلم فيه شيء، أو طعن الخصم فيه بشيء، فعلى القاضي أن يسمع الطعن، فإن كان طعناً يجرح في عدالته قال: ائتني بشاهد آخر، ولا ينبغي أن يقول: اذهب فشهادتك غير مقبولة، وإنما يقول لمن طعن فيه: ائتني بشاهد آخر. (إلا مجلوداً في حد): هنا استثناء، فممن لا تصح شهادته المجلود في حد إذا ثبت عليه حد ونفذ؛ لأنه قد يدعى عليه بحد ولا يثبت، وقد يدرأ الحد بالشبهة، لكن إذا ادعي عليه الحد وثبت عند القاضي، وأقيم عليه الحد، فحينئذ ترد شهادته. (أو مجرباً عليه زور): أي: إذا عرف في اليوم الفلاني أو في السنة الفلانية أنه شهد زوراً وشهر به، فيبقى أنه شهد زوراً وشهر به، فلا تقبل شهادته. (أو ظنيناً في ولاءٍ أو نسب): أي: عتق ولكن ولاؤه مظنون فيه، كذلك إذا كان مظنوناً في نسبه إلى أبيه، فلا تقبل شهادته؛ لأن الشاهد حين يشهد، يترتب على شهادته إثبات الحق على المدعى عليه. فالشاهد له ولاية على المدعى عليه، ولا ينبغي أن يكون لمظنون النسب ولاية على إنسان غير مظنون؛ لأنه ليس من أهل الولاية. (أو نسب أو قرابة). فلا تصح شهادة القريب لقريبه، ولكن أي القرابة؟ جميع الحاضرين توجد قرابة بينهم، كما قال الأعرابي لـ معاوية: سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلا أعطيتني، قال: ومن أنت يا أخا العرب حتى أعرف هذه الرحم؟ قال: أنسيت؟ قال: لا بأس ذكرني، قال: الرحم التي بيني وبينك في آدم وحواء. فقال: والله صحيح! هذه رحم لا يمكن لأحد أن يجحدها، وهذه رحم تستحق الصلة، فأخذ وكتب له بدرهم، فأخذ الخطاب إلى بيت المال وقال له: خذ هذا عطاء معاوية، فتأمل! أنت متأكد، قال له: نعم، فقام وأعطى له درهماً، فوضع الدرهم وقال: ما هذا؟ قال: هذا ما كتب لك في خطابك؛ إن كان لك اعتراض فارجع إليه، فرجع إلى معاوية وقال: ما هذا يا معاوية؟! تصل رحم آدم وحواء بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لو أني وصلت هذه الرحم مع كل الموجودين ما بقي في بيت المال درهم. فهنا القرابة ثلاث درجات: قرابة ذوي رحم من ذوي الميراث، وقرابة ذوي رحم ليسوا من ذوي الميراث، كابن خالته وابن خاله وخاله وخالته، فليسوا من أهل الميراث ولكن الرحم موجودة، لكن أخوه وعمه وابن أخيه وابن عمه هذه الرحم موجودة، والميراث موجود عصبة. وقرابة ليست ذات رحم ولكنها أخوة الإسلام، فعندما نتفق معه في الجد العاشر، أو يكون هذا من قبيلة وهذا من قبيلة وليس بينهما اشتراك في ولادة ولا في شيء؛ فهذه -كما يقولون- أخوة في الدرجة النهائية. إذاً: ما هي القرابة التي تمنع الشاهد أن يشهد؟ قالوا: كل قريب كانت في شهادته مظنة نفع للشاهد عن طريق المشهود له، فالزوج إذا شهد لزوجته فأين سيذهب المحكوم به؟ الولد لأبيه، والأب لولده، هل يشهد له؟ هناك من يقول: يشهد عليه ولا يشهد له، لكن الكل مرفوض؛ لأنه مظنة أن يجر النفع إليه. إذاً: القريب الذي هو في الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية من ذوي الرحم لا يرث؛ فهؤلاء لا تصح شهادتهم للإنسان، وكذلك لا يحق للقاضي أن يقضي بين اثنين أحدهما من هذه الطبقة في القرابة، فلا يقضي لأبيه ولا لولده ولا لزوجه. والأخ مختلف فيه، فحينئذ القرابة مظنة جر النفع للمشهود له، فتمنع قبول شهادته. (فإن الله تعالى تولى منكم السرائر) هنا يجب أن يسمع القاضي الظاهر من الكلام، فإن الله تعالى تولى منكم معشر القضاة السرائر، لأن السرائر لا يعلمها الخصوم، ولا يعلمها عامة الناس. إذاً: من الرقيب على القاضي؟ الله، ولهذا يقول أهل العلم: القضاء مستقل لا سلطة لأحد في الدولة على القاضي، ولا لرئيس الدولة ملكاً كان أو رئيساً، فلا يحق له أن يتدخل في الحكم، ولا أن يملي رأيه في توجيهه وإلا بطل الحكم، فإن الله تولى منكم السرائر فليتق الله معشر القضاة؛ لأن الرقيب عليهم والمحاسب لهم إنما هو الله، وكما يقولون: لا واسطة بين القاضي وربه.

العمل بالبينات والأيمان

العمل بالبينات والأيمان (وادرء بالبينات والأيمان) وادرء بالبينات والأيمان يعني: اقبلها واعمل بمقتضاها.

الغضب والقلق من المؤثرات على القاضي

الغضب والقلق من المؤثرات على القاضي (وإياك والغضب والقلق والضجر!) أي: وإياك والغضب والقلق والضجر! فكل هذا منقصة في عدالة القاضي، وليس الغضب مخلاً بالعدالة، والأمور الغريزية والجبلية لا يقوى الإنسان على دفعها، ولما جاء الرجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه فقال له: (لا تغضب)، هل معنى هذا أن تنزع غريزة الغضب من ذهنك وأعصابك؟ لا، فإنك تغضب غصباً عنك، ولكن النهي ليس منصباً على ذات الغضب، ولكنه منصب على نتائج الغضب؛ لأن الغضبان يبطش، ويسب، ويؤذي ويتعدى، فلأجل هذا منع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وسيأتي الحديث بعد هذا في هذا الموضوع. (والضجر) إذا جاء خصم وصاح عليك، ومن الناس من يدخل المحكمة في خصومة تافهة، ولا يريد القضاء بها بقدر ما يريد أن يثير القاضي ويغضبه ليتكلم عليه، أي: أن بعض الناس قد يتعمد إثارة القاضي، والقاضي العاقل إذا عرف مراد هذا الخصم يمكنه من ذلك ولا يفوت عليه، ما لم يخل بحرمة مجلس القضاء، فإذا أخل بحرمة مجلس القضاء فللقاضي الحكم ابتداءً بسجنه إلى ثلاثة أيام، لأنه انتهك حرمة مجلس القضاء، ولا أحد يسأله عن ذلك. إذاً: لا تضجر من الخصوم؛ لأنك إذا كنت في حالة الضجر هل تفهم ما يقال لك؟! وإذا كنت في حالة الغضب هل تفهم فهماً كاملاً ما يلقى إليك؟! ولكن الغضب درجات، الطفل الصغير يغضب، والرجل يغضب، والمرأة تغضب، والحيوان يغضب، والقاضي إذا لم يكن عنده استعداد للغضب لا يصلح قاضياً؛ لأنه تنتهك عنده حرمات الله، أو يرى انتهاك حرمات الله في الدعوى ولا يغضب لها! لكن إذا غضب فليجعل الغضب في فعله ولا يجعله في لسانه ولا في عقله، ولهذا كنت أقول في مذكرة القضاء: على القاضي أن يجعل نفسه في فانوس من زجاج، يرى ويسمع، ولا يتعدى الفانوس الذي هو فيه، لكنه في زجاج يستطيع أن يرى أحوال الخصوم ويسمعها. لكن إذا كان الغضب مطبقاً، فلا يحق للحاكم أن يحكم في وقته، والغضب المطبق هو الذي يبحثونه في باب الطلاق، ومثاله أن يقول: أنا كنت غضبان، وتكلمت وما شعرت، هذه هي محل الدعوى. والأدباء يقسمون الغضب إلى أقسام: غضب أسود، وغضب أحمر، وغضب أخضر، وهذه اصطلاحات! فالغضب الأسود الذي يسيطر على الغضبان بحيث لا يرى أمامه شيئاً، ولا يفرق بين رجل وامرأة، ويتكلم بمقتضى الغضب وهو لا يدري ما يقول، والأحمر دون ذلك بقليل، والأخضر يكون في الأمور العادية، مثاله: أن تكون ماشياً في الطريق ورأيت رجلاً يضرب ولده، فأنت تتأذى وتغضب، لكن لا تملك شيئاً فهذا أب وهذا ابنه، وكما تغضب إذا لم يقدم لك الطعام على العادة المعلومة. إذاً: الغضب المنهي عنه هو الذي يأخذ على الإنسان عقله ويصرفه عن مراده؛ لأنه في هذه الحال لا يدري ماذا يقول، ولا يعقل ما يحكم به.

الحذر من التأذي بالناس عند الخصومة

الحذر من التأذي بالناس عند الخصومة (والتأذي بالناس عند الخصومة) أي: إياك أن تتأذى من الناس عند الخصومة، وذلك إذا تكلموا على بعض، إذا رأيت من فحوى المدعي أن خصمه ظالم، فلا تظهر التأذي منه وتظهر أنه ظالم، ومن أول وهلة تعلن ميولك أو عطفك على الطرف الثاني، فلا تتأذ بين يدي الخصوم، فلربما حمل أحد الخصمين تأذيك منه فييأس من عدلك. (والتنكر عند الخصومات) إياك والتنكر عند الخصومات! بأن تتنكر للطرفين، فلا ينبغي هذا، ولا بد أن تكون حليماً بشوشاً واسع الصدر، وأن تسمع من الطرفين، وكما تسمع من هذا تسمع من ذاك، ولو كنت تعلم من فحوى خطاب المدعي وبيناته أن المدعى عليه لم يأت بشيء، فعليك أن تسمع بهذا الذي ليس بشيء؛ لأنك توفيه حقه وتعطيه فرصة الدفاع عن نفسه. (فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر) فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله تعالى به للقاضي الأجر -وهذه من المحسنات أو الملطفات لتولي القضاء- ويحسن به الذكر بعد ذلك أو بعد تركك القضاء، فيثني عليك حتى الخصوم الذين حكمت عليهم، لأنه في قرارة نفسه يعلم بأن الحكم صحيح. (ومن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس) إلى آخر ما جاء في هذا الخطاب. ويكفينا ما تقدم من القواعد والأصول والتوجيهات والإرشاد في هذا الكتاب المبارك، والذي أشرنا إلى أنه اختير في جامعات بعض الدول الأوروبية، وترجم وقرر في الدراسات القضائية، فعلى كل قاض قبل أن يجلس على منصة القضاء أن يحفظ هذا الكتاب. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

دروس الحرم [19]

دروس الحرم [19]

غزوة بدر وقضية الأسرى

غزوة بدر وقضية الأسرى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: تقدم الحديث عما تيسر فيما يتعلق بغزوة بدر الكبرى، إلى أن وصلنا إلى نهاية المعركة، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى إلى المدينة، وهناك أتاه جبريل عليه السلام، وقال: (يا محمد! إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أكون معك حتى ترضى، فهل رضيت يا محمد؟ قال: نعم رضيت).

قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم

قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم وخبر الملائكة في غزوة بدر خبر طويل، ولم نعرّج عليه، وقد نوّه القرآن الكريم بأمره، وجاء الواقع المشاهد يصف حالهم، فبيّن الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، وكان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه: علمهم الله تعاليم ميدانية، ما كانوا يعرفون القتال من قبل؛ ولأن الملائكة لم تقاتل في معركة قبل معركة بدر. وقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] قال: الضرب فوق الأعناق للقتل، والضرب فوق البنان -وهي الأصابع- لتعطيل الحركة. وهذا نص قرآني كريم بأن الله بعث الملائكة تثبت الذين آمنوا وتشارك بالقتال معهم، وجاءت الآية الأخرى في معرض التأييد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30 - 31]، ومن تلك الموالاة في الحياة الدنيا أن يأتوا عوناً ومدداً ونصرةً للمسلمين في غزوهم. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قام في العريش، واجتهد يدعو ربه ضارعاً يستنصره، أخذته إغفاءة فانتبه متبسماً، وقال: (أبشر يا أبا بكر! هذا جبريل في ألف من الملائكة قد أقبل). وأخبار أخرى، يقول رجل من الأنصار وكان قد ذهب بصره -نسيت اسمه-: لو كنت في بدر ورد عليّ بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة. ويقول آخر: خرجت أنا وابن عم لي يوم بدر -وهم آنذاك على شركهم- فجلسنا على كثيب، ننظر لمن تكون الدائرة فننهب من الغنائم، وبينما نحن على تلك الحال، إذ جاءت غمامة، وسمعنا فيها من يقول: أقدم حيزوم، أما صاحبي فقد تصدع صدره فمات، أما أنا فقد غشي عليّ، فلما أفقت وجدت المعركة قد انتهت والغنائم في أيدي أصحابها. هذا ومن آثار الملائكة في المعركة أن الرجل كان يسعى وراء المشرك ليضرب عنقه، فإذا به يرى الرأس قد انفصل عن سائر الجسد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (علامة قتلى الملائكة وقتلاكم أنكم تجدون في أثر الضربة كأنه وسم بنار)، وهكذا ميّز النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من إصابة المسلمين وما كان من إصابة الملائكة، وأنهم فعلاً قاتلوا وضربوا وقتلوا. وجاء رجل فوجد أسيراً موثقاً فوقف وقال: (أسير من هذا؟! من الذي أسر هذا؟! فلم يجبه أحد، ففك وثاقه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وجدته موثقاً وناديت فلم يعرفه أحد، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرك؟ قال: رجل طوال بثياب بيض على فرس أبلق، قال: صدقت، هذا من ملائكة السماء الثالثة)، إلى غير ذلك من الأخبار التي وردت تدل بواقعها على أن الله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للمسلمين. وهنا نقول: إن المولى سبحانه هو الذي أخرج رسوله من بيته بالحق، وهو الذي تولى أمره، وهو الذي أيده بنصره، وسخر العوامل من أرض وسماء، ومن جنود المسلمين والملائكة، لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

دور إبليس اللعين في معركة بدر

دور إبليس اللعين في معركة بدر لقد ساهم في هذه المعركة حتى إبليس، وكانت مساهمة إبليس من الطرف الآخر، لما أرادت قريش أن تخرج تذكروا أنه كان بينهم وبين بني كنانة ثأر، فخافوا إن هم خرجوا أن يخلفوهم في ديارهم، فجاء إبليس وتصور في صورة سراقة بن مالك، وقال لهم: لا تخافوا منهم، أنا جار لكم لن يأتيكم منهم شر، وخرج معهم ويقول ابن كثير: خرج إبليس برايته، وبجند معه بالرايات ومشوا حتى قاربوا أرض بدر، وكان مع عمرو بن مالك النضري، فلما رأى نزول الملائكة إذا به يسُلّ يده منه، ويقول: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله رب العالمين، فجعل عمرو بن مالك يناديه: يا سراقة! يا سراقة! ألم تعاهدنا أنك تكون معنا؟! ألم تعاهدنا على النصرة؟! فلم يجبه ومر في طريقه حتى نزل البحر، فلما سمع بذلك أبو جهل قال: لا يضرنكم انسحاب سراقة، لقد كان على موعد مع محمد. هكذا ساهم في إخراجهم، وتكثير عددهم ليكون ذلك أنكى على قريش وأكثر لغنائم المسلمين، وها هي الملائكة تنزل، وها هي السماء تمطر، وها هي الأرض تتلبد، وها هو النعاس يأتي عوامل نصر متعددة من جميع الجوانب

حال المشركين قبل المعركة ووقعة نخلة

حال المشركين قبل المعركة ووقعة نخلة وصدق قولنا: إن غزوة نخلة كانت هي سابقة لغزوة بدر. فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عتبة، وكان من سادات القوم، وما جاء مع القوم إلا كمشجع وما كان يريد أن يصل إلى بدر ولما رأوا تلك الرؤيا أن رجلاً نحر بعيراً فسال دم البعير وانتشر في خيام المشركين، ولم تبقَ خيمة إلا ودخلها من دم ذلك الجزور، فخافوا من هذه الرؤيا. وكذلك رؤيا عاتكة من قبل، فجاء حكيم بن حزام، إلى عتبة، وقال: يا عتبة! أنت سيد الوادي هل لك أن تذكر بخير مدى الدهر، قال: وما ذلك؟! قال: أن ترجع بالناس. لأنهم قبل ذلك أيضاً كانوا أرسلوا شخصاً ينظر كم عدد المسلمين، فذهب ونظر من بعيد ورجع، وقال: القوم نحو الثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكن أمهلوني حتى أنظر هل هناك مدد وكمين لهم؟ قال: فذهب فأبعد في الوادي ثم رجع، فقال: يا معشر قريش! والله ليس لهم مدد ولا كمين، والله! إني رأيت المطايا تحمل المنايا، والله إنهم يتلمظون كما تتلمظ الأفاعي بأنيابها، والله يا معشر قريش لن يقتل واحد منهم حتى يقتل واحداً منا، ولئن قتل منا بعددهم؛ فما قيمة الحياة بعد ذلك؟! هناك حكيم بن حزام جمع هذا كله، وجاء عتبة فقال: هل لك أن تحمد ويثنى عليك وتشكر الدهر كله، قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وهذا ابن الحضرمي الذي قتل في غزوة نخلة حليفك تحمل ديته، قال: هي لك عندي فاذهب بها، ولكني أخشى ابن فلانة -وسمى أم أبي جهل - على الناس، اذهب إليه. فذهب إليه، وقال: إن عتبة يقول كذا وكذا، قال: ما وجد رسولاً إلا أنت، قال: نعم، ولا أكون رسولاً لغيره، فقال: انتفخ سَحَره، لقد خشي المسلمين على ولده، وكان ولده سبق إلى الإسلام، فرجع إلى عتبة، وأخبره الخبر، ثم جاء أبو جهل وأتبعه، ووقف على عتبة، وقال: خشيت على نفسك؟! والله! لا نرجعنّ حتى نقتل ونفعل ونفعل، وقال لأصحابه: لا تقتلوا أصحاب محمد وخذوهم بالأيدي لنعلمهم كيف يخرجون على آلهتنا، ثم أخذ سيفه، وضرب فرسه على متنه فقطعه، فقال الحاضرون: بئس الفأل والله. ثم كان من شأنه أن قال: ونادى ابن الحضرمي أخاه قال: إن حليفك يريد أن يضيع عليك ثأرك، فقم في الناس واسأل الثأر، فقام وفسخ ثيابه، ونادى: وابن حضرماه، وقام واشتعل القتال. وهذا مما يدل على أن غزوة نخلة قبيل غزوة بدر. بينما النبي صلى الله عليه وسلم قال -قبل أن يقوم حكيم لـ عتبة -: يا علي! سل حمزة -وكان حمزة أقرب المسلمين إلى المشركين-: من ذاك الرجل الذي على جمل أحمر، فسأله علي، فجاء حمزة وقال: ذاك عتبة، فقال: إن يطيعوا هذا الرجل يرشدوا، إنه يدعوهم إلى خير، فقام عتبة فعلاً، يدعوهم إلى الرجوع، ولكن كان أبو جهل على خلاف ذلك، ولم تنجح خطة حكيم بن حزام، فشبت المعركة، وجاءت الملائكة وانتهت المعركة على ما تقدم لنا.

من قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسرى

من قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسرى وفي أثناء الطريق مع الأسارى إلى المدينة النبوية هناك في عرق الظبية، نزل صلى الله عليه وسلم وأمر بقتل أشخاص من الأسارى صبراً، منهم رجل اسمه عقبة بن أبي معيط، قال: أتقتلني دون قريش يا محمد! قال: نعم. ثم التفت إلى أصحابه وقال: أتدرون ماذا فعل هذا؟! لقد أتاني وأنا ساجد خلف المقام، فوضع قدمه على عنقي، وغمزها، حتى ظننت أن عيني ستبرزان، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي، فجاءت فاطمة فأزالته. فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة مع الأسارى، وقتل واحداً معه.

الاختلاف في شأن الأسرى

الاختلاف في شأن الأسرى ولما وصلوا إلى المدينة، وكان بعض أهل المدينة غير مصدق بما سمعوا من قتل صناديد قريش، وبما سمعوا من العدد الكبير الذي لقي المسلمين، فلما جاء الأسارى وشاهدوا بأعينهم اطمأنوا، ووزع النبي صلى الله عليه وسلم الأسارى على أهل المدينة. لنرجع إلى أهل مكة عقب الغزوة حينما أتاهم الخبر، فإنهم أقاموا المحازن وأكثروا البكاء، وجمعوا مال تلك العير، وقالوا: ولا تبكوا قتلاكم؛ حتى لا يتشفى فيكم محمد والمسلمون، ومنعوا الناس من البكاء والصياح، ولكن عواطف الناس لا يملكها أحد، ومنعوا قسمة المال، وقالوا: أرصدوه لقتال محمد، ولأخذ الثأر، وكانت غزوة أحد بعدها في السنة الثالثة مباشرة، هذا شأن أهل مكة هناك. أما الأسارى في المدينة فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزعهم، وبعد ذلك جمع أصحابه، وسألهم: ماذا تقولون في شأن الأسارى؛ فسأل أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! هؤلاء القوم والعشير، فاقبل منهم الفداء، ونحن بحاجة إلى المال نستفيد به، ولعل الله أن ينعم عليهم بالإسلام، فيكونوا لنا عضداً، قال: ما تقول يا ابن الخطاب؟ قال: أرى ما لا يرى أبو بكر، أرى أن تعطي عمر فلاناً -لقريب له- أضرب عنقه، وتعطي عقيلاً لـ علي يضرب عنقه، وتعطي فلاناً لـ حمزة، وتعطي كل قريب لقريبه يضرب عنقه، حتى يعلم المشركون أن لا هوادة بيننا وبينهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! انظر وادياً كثير الحطب، وأدخلهم فيه، وأجج عليهم الوادي ناراً، ثم تركهم صلى الله عليه وسلم ودخل؛ فقال قوم: يأخذ بقول أبي بكر، وقال قوم بقول عمر، وآخرون: بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم، فقال: (إن الله يليّن قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوباً حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم؛ قال: {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] وإن مثلك يا أبا بكر مثل عيسى؛ قال: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)) [المائدة:118] الآية، ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] ومثلك مثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]) ثم أخبرهم بأنه يرى الفداء. وبالله تعالى التوفيق، والله تعالى أعلم.

جزء من شرح حديث النهي عن المتعة

جزء من شرح حديث النهي عن المتعة

جدال الشيعة في شأن المتعة

جدال الشيعة في شأن المتعة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: أحب للإخوة طلبة العلم أن يقرءوا ما كتب عن المتعة، سواء كان قديماً، أو كان للمتأخرين؛ لأن بعض كتّاب الشيعة يدافعون عنها دفاعاً شديداً. وقد ناقشت فيها بعض علمائهم أو رجالاتهم، فقلت: أتفعلها يا فلان؟! قال: لا. قلت: أتبيح لابنتك أن تفعلها؟ قال: لا. قلت: إذاً: لماذا تبيحها للغير؟ قال: ليس بلازم، كوني لا أرضاها لا يعني أني أحرمها، إنما هي مباحة للضرورة. وفي ذات مرة في نفس هذا المكان، وفي أثناء الحديث عن الشيعة، في أول دراسة الموطأ في باب غسل الميت، سأل سائل عن ميت من الشيعة في وسط السنيين، أيغسلونه، أم يتركونه؟. إلى كلام طويل. وقلت: إن من حق لا إله إلا الله كذا وكذا. فلما خرجت فإذا رجل عند منعطفٍ جوار البيت، فقال: السلام عليكم، التفت فإذا هو شيعي، أجبته، ثم قلت: نعم، ماذا تريد؟ قال: أتحدث معك قليلاً. قلت: لا، حديثكم عمره ما يكون قليلاً، أنتم تكثرون الحديث وتتخذون التقية، وأنا الآن متعب، إن كنت تريد الحديث بشكل مطوّل فموعدنا غداً الضحى، وهذا باب البيت. فقال: كلمة واحدة فقط. قلت: فلتكن كلمتين! قال: سمعت منك الليلة أمراً عجيباً، كنا نقول: أهل الحجاز أحد لساناً وسناناً على الشيعة، وسمعت منك الآن تقول: من حق لا إله إلا الله أننا نغسّل ميتهم، هذه ما سمعناها أبداً. قلت: لا، فهذا موجود، وذكرت له أننا نعتقد ذلك، وليس كما يقول الشيعة فإنهم يقولون كما في كتب الفقه عندهم-: إذا وجدت جثة مخالف فلا تواره إلا تقية. فقال: أين هذا؟ قلت: لما تأتي غداً إن شاء الله أكلمك أين هو. لما جاء وأخبرته، وسألته: ماذا تعمل؟ قال: مدرس الإسلاميات في جامعة النجف. قلت: أنت -إذاًَ- على مستوى من الفقه. قال: نعم. فتكلمت معه عن بعض الأمور، وقلت: اطلعت من كتبكم على كذا وكذا، ما ترونها عندكم؟ قال: من أصولنا المعتمدة. قلت له: عندي رسالة إلى الآن ما طبعت في المتعة، ولاحظت أن الرجل أقرب إلى الصدق، ولا يتخذ التقية. قلت: كتبت الرسالة ترد عليكم في نكاح المتعة، أريد أن أعرضها عليك، حتى لو كان لك اعتراض أستطيع أن أتداركه وأناقشه معك. فوافق، فأتيته بالرسالة، قلت: الرسالة طويلة، ويهمني ما أوردته عليكم من كتاب الشريعة للحلي، وسألته: ما تقول في الحلي؟ قال: إمامنا، إمام عظيم. قلت: يقول في كتاب الزواج: يتزوج عدد ما شاء، وفي كتاب الطلاق: لا يحلها لزوجها الأول إذا كان زوجها الأول قد بت طلاقها، وأنتم ملزمون في هذا: إما أن تقولوا: إنها زوجة، فلا يزيد عن الأربع، وإما أن تقول ليست بزوجة، وهذا الذي نلزمكم به، وكذلك في الطلاق، إما أن تقول: إنها نكحت زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً، فيلزمكم أن تبيحوا بهذا النكاح إن طلقها أن تحل لزوجها الأول المحرمة عليه. إذاً هذا ليس بنكاح، وعليه: فهي لم تنكح زوجاً غيره، وهذا جاء عن ابن عباس فيما اطلعت عليه أخيراً، سئل: أزوجة هي؟ قال: لا، أمملوكة يمين؟ قال: لا، قيل: إذاً: ماذا تكون؟ قال: متعة. فقلت له: إن الحلي يقول كذا وكذا؟ قال: ما أعتقد -أي: ما أظن أنه قال ذلك-!! قلت: على كل حال تعتقد أو لا تعتقد هذا موجود، وأتيته بالكتاب وقلت: اقرأ، وقرأ. قال: أمهلني إلى الغد. قلت: لك إلى بعد الغد، وفعلاً كان رجلاً -كما قلت- منصفاً، ثم لقيته من الغد، فقال: اعذرني لم أجد الجواب، ولكن أمهلني إلى الغد. والتقينا في المسجد، فقال: ما قلته عن الحلي صحيح، ولكنه رأيه الخاص. قلت: هذه هي الحيدة. أنت قلت: إنه إمام، والإمام لا يقول رأياً خاصاً. على كلٍ -يا إخوان- المسألة هذه أخذت حيزاً كبيراً كما أشرت. وينبغي لطالب العلم أن يوسع مداركه فيها؛ لأن الجدال في خارج هذه البلاد -نسأل الله أن يحفظها- طويل وحاد وشاق بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم. والله تعالى أعلم.

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم

اصطفاء الله عز وجل لبعض مخلوقاته

اصطفاء الله عز وجل لبعض مخلوقاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]. فأجمل منك لم تر قط عين وأفضل منك لم تلد النساء ولدت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء لقد اختص الله سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم بالمحامد الوفيرة والمآثر الأثيرة، وأثنى عليه في كتابه في آيات كثيرة، وأبقى معجزاته ما تعاقب الجديدان، وخلّد ذكره ما توالى النّيران، حفظه بعينه التي لا تنام، وحماه بركنه الذي لا يضام، رعاه وأكرمه وسواه فأحسن خلقه وعدّله، أيده ببراعة اللسان بعد أن ركّب فيه كل خلق حسن، أوحى إليه وناجاه وبكريم الخصال حباه، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً. قرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعته، وأغلق طريق الجنة إلا باتباع أثره، ونفى الإيمان عمن خالفه، وحرم الجنة على من لم يطعه في هداه، فقال عز من قائل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. والحديث عن عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه قد يكون من جهته صلى الله عليه وسلم من باب تحصيل الحاصل؛ لأنه لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يأتي بجديد أو يحصي الموجود أو يزيد، ولكنه تنبيه للعقول وإيقاظ للقلوب وتجديد للشعور بالمعقول والمنقول، وهذا جهد المقل وحصيلة المشغول. فأقول وبالله التوفيق: إن رفعة شأن كل شيء وعظم قدره إما في اصطفاء الله إياه، وهو إما في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، وقد اختص الله من الناس ومن الملائكة أفراداً على بني أجناسهم، فاختص من الملائكة جبريل عليه السلام وجعله أميناً على وحيه {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]، وكذلك حملة العرش، واختص من الناس الرسل صلوات الله عليهم، واختص منهم أولي العزم، واصطفى من الجميع محمداً صلى الله عليه وسلم. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، ولما اعترض بنو إسرائيل على بعث طالوت عليهم ملكاً قالوا بمقياس البشر: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، كان A { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]. فأصل اختياره اصطفاء الله إياه، ثم آتاه مقومات الملك ومؤهلات السلطة: (بسطة في العلم والجسم) وقدم في العلم؛ لأنه الأساس للتخطيط والسياسة، والجسم للتنفيذ والتطبيق. وكذلك نبي الله موسى حين فر فزعاً من انقلاب العصا حيةً تسعى، ناداه ربه: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]، وكذلك مريم: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]. وهذا الاصطفاء البشري لإبلاغ رسالة الخالق إلى خلقه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] وفي هذا الاصطفاء رفعة لشأن من اصطفاهم وعلو لقدرهم. وقد شمل منهج هذا الاختصاص والاصطفاء بعض المخلوقات من الأمكنة والأزمنة، فقد اختص الله من عموم الأماكن مكة وبيت المقدس والمدينة المنورة؛ لما فيها من المقدسات والآيات البينات، وخص الأعمال فيها بمضاعفة الأجر، ومن الأزمان اختص من الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة الجمعة، ومن الساعات ساعة في يوم الجمعة، وبيّن تعالى موجب اختصاصها عن جنسها، وهذا الاختصاص قد أعلى شأنها وعظّم قدرها. وإذا جئنا إلى موجب اصطفائه سبحانه لرسله ابتداءً من آدم عليه السلام إلى عيسى إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن آدم كان أول الخلق من البشر، وأنه خلقه تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ويكفيه أولية الخلق، وخلقه سبحانه بيديه، وفي الأثر: ثلاث خلقهن الله بيده: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وبقية المخلوقات من كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ونوح عليه السلام خصه الله بالعمر الطويل، حتى لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يساير الليل والنهار، ويصابر قومه ويصبر عليهم، حتى أعلن يأسه منهم ودعا عليهم: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، وقال تعالى في سورة القمر: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:11 - 14]، وإبراهيم عليه السلام يتحدى قومه ويتلطف إلى أبيه: يا أبت! يا أبت! ويواجه الملك الطاغي النمرود ولا يبالي بهم جميعاً، ويحطم آلهتهم ويسخر منهم، ثم يواجهونه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، فأوقدوا نيرانهم فلم يبال بهم، وابتلاه الله بكلمات التكليف فأتمهن فجعله الله بإتمامها إماماً، وكان بإمامته أمة. أما موسى عليه السلام فقد نشأ في رعاية الله من حين مولده، فحفظه من تذبيح فرعون لأبناء بني إسرائيل، ورعاه حين ألقته أمه في التابوت في اليم، ورعاه في رضاعته، فحرم عليه المراضع؛ كي يُرد إلى أمه وهم لا يشعرون، ورعاه في بيت عدوه حين صار رجلاً، ورعاه في خروجه إلى مدين، ورعاه عند شعيب، ورعاه عائداً بأهله إلى مصر، ثم هاهو يُبعث إلى فرعون وقومه فيبدأ التحدي بين الحق والباطل، ورعاه حين سلك في البحر طريقاً يبساً، ورعاه حين أهلك عدوه وهو ينظر إهلاكه بعينيه. وعيسى عليه السلام: اصطفى الله مريم لتكون أماً له، واصطفاها حينما نذرت أمها ما في بطنها، واصطفاها حينما ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم؟ واصطفاها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، واصطفاها حينما {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:16 - 17]، واصطفاها في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:17 - 18]، واصطفاها حينما قال لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] إلى أن جاءت به قومها تحمله، وجابهوها بتلك الفرية، فجعل الله مصدر تهمتها هو بعينه دلالة براءتها، حين قال لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] إلى قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34]، وجاء الوحي فكشف ما التبس عليهم بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وموجباته

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وموجباته وبعد هذا التمهيد وهذه المقدمة نأتي إلى بيان موجب رفعة شأنه وعظيم قدره صلى الله عليه وسلم.

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي تقدم نبوته على الأنبياء

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي تقدم نبوته على الأنبياء لقد ذهب بعض المختصين في البحث عن ذلك إلى أول نقطة وجوده صلى الله عليه وسلم، وفي نظري أن وجوده صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أمرين: وجود قدري في عالم الملكوت، ووجود في عالم الإنسان. أما وجوده القدري: فقد ذهب البعض فيه إلى مسافات بعيدة، إلى ما قبل آدم عليه السلام؛ لأن بعد تلك المسافة لم تكن طريقها ممهدة فأجهدتهم، كما أن سلطان العاطفة قد دفعهم إلى أخذ كل ما وجدوه مما فيه تعظيم لقدره صلى الله عليه وسلم. وهنا مبحث تعارض العقل مع العاطفة، ولكل منهما مقامه، فمن ذلك على سبيل المثال: لما كانوا في غزوة تبوك، وقاموا يتهيئون لصلاة الصبح، وذهب صلى الله عليه وسلم للخلاء فأبعد وتأخر عليهم، فانتظروه ليصلي بهم حتى أسفروا، فتحيروا هل يصلون قبل خروج الوقت، أم ينتظرون قدومه؟ والعاطفة مع الانتظار ليصلي بهم، والعقل مع الإسراع وإدراك الوقت، فقدموا العقل وصلى بهم ابن عوف رضي الله تعالى عنه، وجاء صلى الله عليه وسلم وهم في الركعة الثانية، فأراد المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم صلى الله عليه وسلم للإمامة، فمنعه النبي ودخل في الصف، ولما سلم الإمام قام صلى الله عليه وسلم فأتم الركعة التي فاتت، ولما رآهم أسفوا لذلك قال: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف أحد من أمته) أي: أنهم أصبحوا أهلاً للإمامة. وكذلك موقف الصديق لما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما أقيمت الصلاة وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فنبهوا أبا بكر، فأخذ يتراجع، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك، وكان أبو بكر بين العاطفة والعقل، فالعاطفة: ألا يتقدم على رسول الله، والعقل: أن يمتثل أمره ويبقى مكانه، لكنه قدم العاطفة فتأخر وصلى بهم رسول الله، ولما فرغ قال له: (ما الذي منعك أن تبقى إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله). وفي كل من تقدم ابن عوف وتأخر أبي بكر وجهته، وقد أقر صلى الله عليه وسلم كلاً منهما على فعله، وهكذا لكل مقام مقال. وجميع كتّاب السيرة قد ذهبوا في بدايته وبداية وجوده القدري إلى ما قبل وجوده الفعلي، إلا أن منهم من أبعد الغاية وطوّل الطريق، فنقلوا آثاراً تنتهي إلى ما قبل آدم وربما إلى ما قبل خلق السماوات والأرض، وحصروا أولية الوجود في ثلاثة: العقل، والقلم، ونور محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اسمه مكتوب على ساق العرش وعلى ورق الجنة وثمارها. ومنهم من وقف عند خلق آدم، وهو بين الروح والجسد، أو وهو مجندل في طينته، وأثبت له النبوة هناك وقالوا: لقد أخذ نوره يتنقل في أصلاب آبائه حتى درج للوجود الفعلي مستأنسين بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217 - 219]، ذهبوا إلى أن (تقلبه) أي: تقلب نوره في أصلاب آبائه من النبيين قبله، ولكن تعقبهم النقّاد وقالوا: إن أباه إبراهيم لم يكن أبوه آزر من النبيين ولا حتى من المؤمنين، ونحن نقول: إن أباه صلى الله عليه وسلم عبد الله لم يكن من النبيين، بل كان من أهل الفترة على التحقيق. وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتابه الخصائص الذي قال عنه في مقدمته: كتاب فاق الكتب في نوعه جمعاً وإتقاناً، يشرح صدور المهتدين إيقاناً، ويزداد به الذين آمنوا إيماناً إلى قوله: مستوعباً لما تناقله أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة إلى أن قال: أوردت فيه كل ما ورد، ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد، وتتبعت الطرق والشواهد لما ضعف من حيث السند. انتهى، وتعقبه الشيخ الهراس رحمه الله: بأنه لم يلتزم كل ذلك، وقال في هذا الكتاب -أي: السيوطي - باب خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أول النبيين في الخلق، وتقدم نبوته وأخذ الميثاق عليه، وساق تحت هذا العنوان ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل من طرق عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] الآية. قال: (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) فبدأ به قبلهم. ونقل السيوطي أيضاً: أن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين سئل: كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: لما {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] كان محمد أول من قال: (بلى). ومن ذلك ما عزاه لـ أحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما عن ميسرة قال: قلت: (يا رسول الله! متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد). وكذلك ما عزاه لـ أحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته). وساق أيضاً: أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق لما أخذ من النبيين ميثاقهم، ودعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام) انتهى. وهذه كلها بدون شك آثار وأخبار تدل على علو شأنه وعظيم قدره، إلا أن بعضها لم يسلم من النقّاد في التفتيش عن السند، وهذا صاحب (سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد) قال: هذا كتاب اقتضبته من أكثر من ثلاثمائة كتاب إلى أن قال: ولم أذكر فيه شيئاً من الأحاديث الموضوعة إلخ. قال فيه: الباب الأول في تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم لكونه أول الأنبياء خلقاً، ذكر في هذا الباب أثر ابن أبي حاتم الذي ذكره السيوطي: (كنت أول الأنبياء خلقاً). وذكر المحشي عليه عدد من خرّجه: ابن عدي وأبو نعيم وابن كثير في التاريخ والثعالبي إلى آخره. ثم قال: وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف وابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء نيرة وعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة بين العرش والكرسي والسماوات والأرض، فعرفت الملائكة محمداً قبل أن تعرف آدم أبا البشر، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم! هذا سيد ولدك من المرسلين إلى قوله: ثم لم يزل النور يتنقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم. وأقول: هذا من الإسرائيليات التي تنقل في غير تشريع.

نور النبوة المحمدية يتقلب في الأصلاب

نور النبوة المحمدية يتقلب في الأصلاب ثم قال صاحب سبل الهدى: وفي كتاب الأحكام للحافظ الناقد أبي الحسن بن القطان، روى علي بن الحسين عن أبيه مرفوعاً: (كنت نوراً بين يدي ربي عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام)، ولم يعلق المحشي على ذلك بشيء. ونقل في باب آخر قول ابن رجب في اللطائف على حديث: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين) قال: المقصود من هذا الحديث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورةً معروفةً قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى دار الدنيا، وأن ذلك كان مكتوباً في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام. ثم قال المؤلف: أداء لأمانة العلم كتعليق على ذلك: هناك تنبيهان: الأول: ما اشتهر على ألسنة الناس بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، قال ابن تيمية والزركشي وغيرهما من الحفاظ: لا أصل له. وكذلك قوله: (كنت ولا آدم ولا ماء ولا طين). الثاني نقل عن السبكي قوله: لم يصب من فسّر: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) بأنه سيصير نبياً؛ لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء إلى آخر كلامه الملخص في أنه لو كان المراد ما كان في علم الله لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم زيادة فضل على غيره، سواء من الأنبياء أم عامة الخلق. وهنا يمكن أن يقال تعليقاً على هذين التنبيهين: أما الأول فإننا لم نجد اللفظ الذي قال عنه الإمام ابن تيمية: إنه لا أصل له، ثم إنه لم ينقل لنا عن هذا الإمام الجليل رحمه الله -وهو الناقد البصير- عن قضية النور شيئاً، ولا عن تقلبه في الأصلاب حتى ولد. ولعل مما يناسب ذكره هنا ما ذكره ابن هشام وغيره: أن أخت ورقة بن نوفل لقيت عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مفاداته بمائة من الإبل فقالت له: هل لك أن تذهب معي إلى بيتي ساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ فاستمهلها حتى يصل مع أبيه إلى بيته، ولكن أباه لم يذهب إلى البيت وذهب إلى بني زهرة، وخطب له آمنة بنت وهب فتزوجها ودخل عليها في ليلته، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغد لقيته تلك المرأة فأعرضت عنه فقال لها: مالك لا تعرضين عليَّ اليوم ما عرضته عليَّ بالأمس؟ فقالت: أما الآن فلا حاجة لي بك، كنت بالأمس أرى بين عينيك وبيص نور طمعت أن أظفر به، ولكن فازت به آمنة بنت وهب. ويمكن أن يقال: إن هذا الخبر مع أحاديث تقلب النور في الأصلاب ولو ضعفت الأسانيد فإنه يشد بعضها بعضاً، ولا سيما أنها ليست تشريعاً. وقد ساق صاحب سبل الرشاد قصة هذا النور بين عيني عبد الله بطرق متعددة، منها ما عزاه لـ فاطمة الخثعمية، وذكر من هذا الطريق جواباً لـ عبد الله لهذه المرأة يدل على رفضه ما عرضته عليه فقال: أما الحرام فالممات دونه والحل فلا حل أستدينه فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه ثم روى عن البيهقي وأبي نعيم عن ابن شهاب: أن عبد الله كان أحسن رجل رئي، فمر على نساء من قريش فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج هذا الفتى فتصطب النور الذي بين عينيه، فإني أرى بين عينيه نوراً إلخ. فرؤية النور بين عيني والده الوارد بطرق متعددة سالمة أسانيدها من الوضع -كما قال عنها أصحابها- ولا شك أنها تترك أثراً بالغاً في الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه وطهارة نسبه من نكاح لا سفاح فيه، كما قال القائل في ذلك: نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً كيف لا، والله تعالى يقول في حق إحدى زوجاته ما يعم أهل البيت جميعاً: {إِِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بذلك. وكما قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:4 - 5] وطهارة نسبه أولى وأحق. وبعد هذا التمهيد الطويل نقول: إن بيان عظيم قدره وعلو شأنه قد يكون بالنسبة إليه -كما أسلفنا- بمثابة تحصيل الحاصل، وأنه في غنىً عن ذلك؛ لأنه في ذاته معجزة تشهد بعلو قدره ورفعة شأنه، كما قال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه: لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر ولدينا من النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة ما يغني، ولن نبعد كما أبعد الآخرون، وإن كان المبدأ عند البعض قول البوصيري في البردة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

عظم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري والفعلي

عظم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري والفعلي وقد نبهنا على أنه صلى الله عليه وسلم له وجود قدري ووجود فعلي، وكلا الوجودين ثابت في الكتاب والسنة. وقبل المجيء إلى الكتاب والسنة وهما الأساسان العظيمان مع ما صح وثبت من أخبار التاريخ نجدد التنبيه على أن النصوص والآثار وصحيح الأخبار في هذا الموضوع أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تذكر، وقد جمع جلها علماء السيرة والتاريخ والخصائص، ونحن هنا نكتفي بالبعض، وفي البعض ما يغني عن الكل.

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري من القرآن

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري من القرآن فمن الوجود القدري في كتاب الله على سبيل المثال الآتي: أولاً: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، فكونه مكتوباً عندهم في كتبهم، وبيان منهج رسالته من أمره، وتخصيص في التشريع دلالة قاطعة على وجوده القدري في رفعة شأنه وعلو قدره. ثم إن هذا النص المنوه عنه والمأخوذ عليهم الميثاق به في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، فأخذ الميثاق عليهم وتوثيقه بإشهاد الله بعضهم على بعض، والله معهم من الشاهدين؛ دليل عظيم على قدره في عالم الملكوت والملائكة والأمم من قبل. ثم إنه سبحانه قد عرّفهم إياه بشخصه كما يعرفون أبناءهم فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، وسأل عمر رضي الله تعالى عنه كعب الأحبار: ما هذه المعرفة التي عرفكم إياها الله بمحمد؟ فقال: والله يا عمر! إني لأعرفه أكثر مما أعرف ولدي؛ لأن معرفتي إياه عن طريق الوحي، أما معرفتي لولدي فعن طريق أمه، والنسوة يقترفن. وجاء مصداق تلك المعرفة أن عيسى عليه السلام لما بشر به سماه باسمه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]، فقد ذكره قبل مجيئه وسماه باسمه، فهذا أيضاً من أعظم الدلائل على علو شأنه وعظيم قدره. وجاءت السنة توضح تطبيق الميثاق عليهم باتباعه في حق كل من موسى وعيسى عليهما السلام: أما موسى فقد جاء عمر بصحيفة من التوراة قد أعجبه ما فيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم آت بها بيضاء نقية يا ابن الخطاب؟ والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي). وأما عيسى عليه السلام فسينزل آخر الزمان ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أوضح الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه: أن الله تعالى عرفه وعرف أصحابه معه في كل من التوراة والإنجيل بالأمثلة المعبرة لكل من اليهود والنصارى في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:28 - 29].

عظم وجود النبي صلى الله عليه وسلم القدري في اصطفاء الصحابة الكرام لصحبته

عظم وجود النبي صلى الله عليه وسلم القدري في اصطفاء الصحابة الكرام لصحبته تنبيه: لا شك أن تسجيل صفات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في الكتابين السابقين مع تعريفه صلى الله عليه وسلم؛ شرف عظيم لهم وتكريم جليل له في بيان نوعية الذين معه، وأنه تعالى كما اختاره واصطفاه اختار واصطفى له من يكون معه في أعلى المستويات. ومما يسترعي الانتباه أنه لم يقتصر على مثال واحد للأمتين اليهود والنصارى، بل أفرد كل أمة بمثال مستقل ومغاير للآخر، فجعل مثالهم لليهود روحانياً سامياً: {رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، وذلك أن اليهود غلبت عليهم الماديات، فاحتالوا على ما حرم الله، وظهر ذلك في قضية يوم السبت. فبيّن سبحانه وتعالى فضل أصحاب رسول الله بعزوفهم عن الدنيا ورغبتهم في الآخرة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] سماحةً ونوراً ورونقاً وبهاء، استنارت قلوبهم بالطاعة ففاضت على محياهم بالنور {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] المنزل على اليهود. {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] المنزل على النصارى {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] وهو النبت الذي يخرج في أصل العود كالذرة والحب فكبر فآزر الفرع الأصل {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} [الفتح:29] وقام على سوقه مستوياً ملتفاً بعضه ببعض في قوة، يشد بعضه بعضاً ليعظم منظره ويجود مخبره ويضاعف إنتاجه ومحصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، ويقدم لهم هذا الوعد المحتوم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]. وهنا ما يسترعي الانتباه: وهو أنه سبحانه خص اليهود بالوصف بالجانب الروحي في العبادة وابتغاء الفضل من الله، وخص النصارى بالوصف بالجانب المادي في الزرع والاستثمار، وللمتأمل المسترشد أن يقول: إن كل مثال في مكانه أبلغ، وهو لمن خصه به أنسب؛ لأن اليهود غلبت عليهم القسوة والشدة، فوصف لهم أصحاب محمد بالرحمة: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، واليهود سيطرت عليهم المادة حتى احتالوا على ما حرم الله، وتهربوا من التزامهم بالشريعة كالصيد المحرم عليهم يوم السبت، حيث كانوا يلقون الشباك يوم الجمعة ويسحبونها يوم الأحد، والشحوم التي أذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وهي محرمة عليهم، وتخاذلهم عن دخول الأرض التي أمروا بدخولها، وقولهم لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]. بينما أصحاب محمد وقافون عند النهي سباقون عند الأمر، وهم القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (والله لا نقول لك كما قال اليهود لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك). فلعل اليهود بسماعهم وصف أصحاب محمد يكبحون جماح المادة ويعودون إلى الله! أما النصارى فكانوا على نقيض ما عليه اليهود، فقد أهملوا الجانب المادي وأغرقوا في الرهبنة وعطلوا مناهج الحياة: {وقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27]. فلعلهم بسماع وصف أصحاب محمد بالزرع والنماء يخففون من رهبانيتهم وينتبهون إلى أعمال دنياهم. وبهذه المناسبة فإن هذه الأمة -ومنها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- قد أخذوا بأحسن الخطتين الموضحة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، فجمعوا بين السعي إلى ذكر الله والانتشار في الأرض.

ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في القرآن

ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في القرآن أما الوجود الفعلي في الكتاب والسنة فمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] أي: تعرفون نسبه ومولده وصدقه وأمانته وفي قراءة: ((مِنْ أنفَسكمْ)) من النفاسة ورفعة الشأن وعلو القدر. افتتاحية رسالته وهو النبي بالأمر بالقراءة وبالعلم، والتنويه بشأن هذه الأمية في حقه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 - 4]. ومن ذلك فنجد في هذا إشارة إلى صفة من أعظم الصفات الدالة على عظيم قدره، إذ أصبحت الأمية التي هي عيب في حق صاحبها تعود مدحاً في حقه صلى الله عليه وسلم وكمالاً، فيعلم الأمة الكتاب والحكمة، ولم يقتصر تعليمه على معاصريه بل يمتد إلى آخرين لم يلحقوا بهم من الأجيال المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وذلك لاستمرارية معجزته الخالدة القرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظها، بخلاف معجزات الأنبياء قبله فهي مؤقتة بأزمانهم مختصة بأشخاصهم، والقرآن كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع المنهج القويم للتطبيق العملي الدائم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي)، فإنزال القرآن عليه وحفظ الله تعالى إياه واستمرار العمل به أعظم ما يعلي قدره ويعظم شأنه. ومن التنبيه على علو شأنه وعظيم قدره من كتاب الله افتتاحية سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، وقد نزلت في صلح الحديبية، وفعلاً كان صلح الحديبية فتحاً، وقد سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفَتْح هو يا رسول الله؟! قال: نعم إنه لفتح)، ويكفي في كونه فتحاً مبيناً، أن تجلس قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- على مائدة المفاوضات، وتجتمع تواقيعهم على صحيفة الصلح التي انتزعت منهم الاعتراف الفعلي بالكيان الإسلامي، ويقف الجميع جنباً إلى جنب في العرف السياسي والعسكري، وقد دخل في الإسلام بهذا الفتح في مدة السنتين نحو عشرة آلاف، وهم أضعاف من دخل فيه من قبل، ثم جاء الفتح الأكبر فتح مكة الذي جاء بالحق وأزهق الباطل، وتهاوت الأصنام المعلقة بالكعبة بمجرد الإشارة إليها بقضيب في يده. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقوم الليل حتى تتفطر قدماه شكراً لله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد يقول قائل: وأي ذنب كان منه وهو المعصوم؟ فيقال: هو رفع لدرجاته وتعظيم لقدره. وأما إتمام النعمة عليه فلقد أتم تمامها في الحج خاتمة أعماله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] إلى آخره. وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1]، قد يكون في صيغة الوعد، والوعد من الله حق. وقد بيّن تعالى أنه صدق وعده معه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام:161]، وجعله هادياً مهدياً: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3]. {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] السورة، وفي سورة الضحى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] رداً على الشامتين في فترة فتور الوحي، فقالوا: تركه ربه وأبغضه، فأكذبهم وأعظم له المواساة مع البشارة. {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، ولا حد لهذه الخيرية إلا ما يرضيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]. وقد بيّن صلى الله عليه وسلم عظم هذا العطاء حيث إنه في اليوم الذي يقول فيه كل نبي: (نفسي نفسي)، أما هو فيبعثه الله المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون حين يؤتيه الله الشفاعة العظمى على ما سيأتي. وسورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الشرح:1] وما جاء فيها من الآيات الكريمات إلى قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] قال القرطبي: قال مجاهد يعني: بالتأذين، وفيه يقول حسان: أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وروى عن الضحاك عن ابن عباس قال: يقول له: لا ذُكرتُ إلا ذُكرتَ معي: في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم عرفة ويوم الأضحى، وأيام التشريق، وعلى الصفا والمروة، وفي مشارق الأرض ومغاربها. انتهى. أقول: وعند دخول المسجد، والخروج منه، وقبل وبعد الدعاء. وقيل: أعلينا ذكرك في الكتب المنزلة إلى آخر ما ذكره من المقام المحمود. بل وفي قضية تظاهر نسائه عليه: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:4 - 5] إلخ، وهذه العناية به وحسن موالاته لا شك أنها من عظيم قدره عند الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة المكرمين.

ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في السنة النبوية

ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في السنة النبوية ثم في الصلاة والتسليم عليه جعلها الله قربة، وأثاب على الصلاة عليه مرة بعشر صلوات من الله، وهذا لا شك تعظيمٌ لقدره. ومن صحيح الأخبار والآثار قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اختار من الناس العرب، واختار من العرب كنانة، واختار من كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار). وكذلك حفظ نسبه الشريف من أن يصيبه شيء من أوضار الجاهلية رغم طول الزمن وكثرة آبائه منذ آدم وحواء، وقد أفصح صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (ولدت من نكاح لا سفاح فيه)، علماً بأنهم كانوا يتوسعون في مدلول النكاح كما جاء عن عروة عند البخاري رحمه الله وأبي داود أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أوجه: نكاح مثل نكاح الناس اليوم: بأن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح ثان: وكان الرجل فيه يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: اغتسلي ثم اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ونكاح ثالث: وفيه يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، وهو ابنك يا فلان! فتسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع الرجل أن يمتنع منه. ونكاح رابع: وهو نكاح البغايا. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. قال الشوكاني رحمه الله: وكان يوجد نكاح البدل يقول الرجل لآخر: انزل لي عن زوجتك وأنزل لك عن زوجتي، ونكاح الخدن: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] أي: ما استتر، ونكاح المتعة. ونقول: وكذلك السبايا في إغارة بعضهم على بعض، كما قيل: وبنت كرام قد نكحنا وما لنا لها خاطب إلا السنان وعامله وعلى الرغم من توسع العرب في ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يصب نسبه الشريف بواحد منها مع أن تلك الصور لم تكن معيبةً عندهم. وجاء عن ابن عباس عند قوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]: ما من قبيلة إلا وله فيها رحم. وقال القاضي عياض في الشفاء ما نصه: وروي عن علي رضي الله تعالى عنه في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الشورى:11] قال: نسباً وقرابةً: قرابة الآباء، {وَصِهْرًا} [الفرقان:54]. قال البيضاوي في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] أي: نسباً دون نسب، ذكور ينسب إليهم، وذوات صهر أي: إناث يصهر إليهن إلى قوله: (ليس في آبائه سفاح) ثم نقل عن ابن الكلبي قوله: عددت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهنَّ سفاحاً ولا ما كان عليه أمر الجاهلية، وتعقبه القاضي في ذكره لهذا العدد بقوله: لعله أراد العمات والخالات وأراد الكثرة، وقال: إنما بينه وبين عدنان واحد وعشرون أباً إجماعاً، وبين عدنان وآدم ستة وعشرون أباً، فيكون بينه وبين آدم سبعة وأربعون أباً وسبع وأربعون أماً.

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في حصول أحداث عظيمة عند مولده ونشأته

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في حصول أحداث عظيمة عند مولده ونشأته أحداث الإيجاد، أي الإيجاد الفعلي: رافق الإيجاد الفعلي للنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الأحداث الدالة على رفعة شأنه وتعظيم قدره ومن هذه الأحداث: أولاً: أحداث يوم مولده: فمنها انصداع الإيوان، أي: إيوان كسرى، وهذا الصدع لا زال موجوداً إلى اليوم، ولما جئنا إلى المدائن وجئنا إلى إيوانه نظرت فإذا صدع في الجدار على ارتفاع ما يقرب من عشرة أمتار، والإيوان ارتفاعه لا يقل عن عشرين متراً، وجداره من أسفل في الأساس بعرض المترين وينتهي من أعلى إلى نصف المتر، وهذا الصدع تأملت ونظرت إليه، فإذا بالملحق الثقافي في السفارة السعودية يقول: ماذا تبحث يا فلان؟! قلت: أبحث عن جهة القبلة -جهة مكة- فأشار إلى الجهة التي فيها الصدع في هذا الجدار، فقلت: نعم الله، أكبر! قال: على ماذا؟ قلت: هذا الصدع قديم؛ لأنه الذي جاءت الأخبار فيه أنه انصدع يوم ولد صلى الله عليه وسلم، فسأل المسئولين هناك عن السياحة: متى كان هذا؟ قالوا: ولدنا وهو موجود ولا نعلم له تاريخاً، فلا يزال هذا الصدع موجوداً في هذا الإيوان في هذا الجدار. ومن ذلك إخماد نار فارس، وجفاف بحيرة ساوة. لما فيه من تنبيه العالم بحدث جديد. ثانياً: أحداث رضاعه: ومنها أخباره مع حليمة مرضعته من نزول الخير والبركة بأهل بيتها وبأرض قومها، ومن شق صدره في طفولته. نعم وألف نعم في كل ما تقدم ما يفصح ويوضح عظيم قدره ورفعة شأنه صلوات الله وسلامه عليه، بل إن في ذاته وصفاته من حيث خلْقه وخلُقه العظيم، وحسبه ونسبه الطاهر، وما أجراه الله له من الأخبار عنه قبل مجيئه والأخبار عن أصحابه معه، وأخذ المواثيق والعهود له من النبيين قبل، وإشهاد بعضهم على بعض، وشهادة الله معهم، لئن جاءهم في أزمانهم ليؤمنن به ولينصرنه. وفي دعوة إبراهيم وبشرى عيسى وموسى عليهم السلام، وما كان ليلة الإسراء من لقيا الأنبياء وصلاته بهم، وما اطلع عليه من نتائج أعمال العباد من جنة أو نار، وجرى له أمور عظيمة عنده سدرة المنتهى حين انتهى إليها جبريل وقال: تقدم أنت يا محمد! {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، ولم يزل بكامل حسه وإدراكه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18]، وما كشف له عن مغيبات الملأ الأعلى، فأصبح الغيب له عياناً؛ كل ذلك أو بعضه يدل دلالة قاطعة على عظيم قدره وعلو شأنه صلوات الله وسلامه عليه. ومما يزيد في علو قدره في ذلك أنها كلها خاصةً بجنابه لم يشاركه في واحدة منها، أحد من الخلق لا قبله ولا بعده، وهذا باعتراف العقلاء وشهادة الأعداء كما جاء عن هرقل وملوك العرب وشهد به النجاشي وغيره.

عظم قدره وعلو شأنه في أفعاله صلى الله عليه وسلم

عظم قدره وعلو شأنه في أفعاله صلى الله عليه وسلم علو قدره في أفعاله التي تصدر عنه وتنسب إليه: وهذا هو المجال الثالث بعد ذاته وصفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم هو أشد ما ينبغي العناية به؛ لأنه موضع التأسي به فيه؛ ولأنه في مجال طاقة البشر، وذلك استجابة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]؛ لأنه لا يكون التأسي به فيما يخصه في ذاته وصفاته، ولا في نسبه ولا في حسبه، ولا في خَلقه ولا في خُلقه، ولا في الإسراء والمعراج، ولا في شق الصدر، ولا انشقاق القمر، ولا حنين الجذع، ولا نبع الماء من بين أصابعه، ولا تكثير الطعام؛ حين أطعم أهل الخندق من عناق ذبحها جابر، لا تكثير الماء، حين سقى الجيش ودوابه من مزادتي المرأة المشركة، ولا تسبيح الحصى في كفه، ولا في غير ذلك من المعجزات الباهرات التي لا دخل للبشر فيها، ولا طاقة لهم عليها. إنما التأسي به في أفعاله وأقواله، وإن تفاوت البشر في الطاقة والاستطاعة على حد قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وقد بيّن تعالى طرفي التأسي الأدنى والأعلى في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:126 - 128]. وبعدها مباشرةً يأتي قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]؛ فالحد الأدنى للعامة هو المقاصة بالمثل، ثم نوّه بفضل الصبر وأنه خير للصابرين، ثم ندبه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، وهو مجال التأسي. وأشار إلى أن يكون الصبر لله ليس لعوض ولا عن عجز، ونظيره قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [الشورى:40]، وقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34]، فهذا مقام الكملة من الرجال، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

أولا: أفعاله قبل البعثة

أولاً: أفعاله قبل البعثة إن مظاهر عظيم قدره صلى الله عليه وسلم في أفعاله موجود منه صلى الله عليه وسلم فيما قبل البعثة وبعدها: أما قبل البعثة ففي قضية زيد بن حارثة عندما اختطف من أمه في الطريق وبيع في مكة، فاشتراه حكيم بن حزام وأهداه إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فأهدته إلى رسول الله ليخدمه. وكان أبوه يسأل الركبان ويتقصى عن مصير ولده، حتى علم أنه عند محمد في مكة، فجاء ومعه عم زيد ومعه الفداء، وأتى إلى محمد بن عبد الله وقال: (يا محمد! علمت أنك رحيم كريم، وأنك لا ترد سائلاً، وإن ابني عندك، وقد جئتك بفدائه، فأرجو أن تقبل منا الفداء وأن تعطينا ولدنا، فقال له محمد: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن أدعوه وأخيّره بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادٍ من يختارني على أهله، قال: والله لقد أنصفتنا. فاستدعاه وقال له: يا زيد! أتعرف هذين؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال: قد جاءا بفدائك وقد قلت لهما كذا وكذا، فاختر من شئت يا زيد! قال: والله! لا أختار عليك أحداً سواك أبداً، فقال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الغربة والرق على الأهل والحرية؟ قال: نعم، ومالي لا أختار ذلك، فوالله! مذ صحبته ما قال لي في شيء فعلتُه: لم فعلتَ، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله). هناك يئس أبوه من عودته، واطمأن على أن ولده يعيش حياة سعيدة، فما كان من رسول الله إلا أخذ زيداً وطاف به على الكعبة وقال: (زيد ابني) فتبناه، وكان التبني سائداً في الجاهلية، فقرت عين أبيه وتركه عند محمد ورجع إلى بلده. إن حسن معاملته لخادمه وذلك قبل شرف البعثة، لدليل قاطع على علو قدره وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم، وكان زيد ولا يزال حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك: قضية الحجر الأسود، لما أرادوا إعادة بناء الكعبة وقسموا جهاتها الأربع على القبائل، وبدأت كل قبيلة تبني حصتها، فلما ارتفع البناء إلى مستوى الحجر الأسود، توقفوا في من يحظى بشرف وضع الحجر الأسود مكانه؟ وتنافسوا وتنازعوا، حتى أحضروا الدم وغمسوا أيديهم إيذاناً بالقتال، لكن رحمهم الله بقول القائل: علام يقتل بعضنا بعضاً؟ فلنحكم أول من يخرج علينا من هذا الفج! وانتظروا فإذا أول من خرج عليهم محمد بن عبد الله، فنطقوا بصوت واحد بكلمة واحدة: الأمين الأمين ارتضيناه، فلما قصوا عليه القصة قال: نعم، فأخذ رداءه عن كتفيه وبسطه في الأرض وأخذ الحجر بيديه الكريمتين، ووضعه وسط الرداء، وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء، واشتركوا جميعاً في رفعه إلى مستواه، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه ووضعه مكانه، فحاز الشرف الذي تنافسوا فيه وكادوا عليه يقتتلون، وأرضى الجميع. وقضية بلغ اهتمامهم فيها حد الاقتتال عليها، يرتضون لها ويأتمنون عليها محمد بن عبد الله، لأكبر دليل على علو شأنه وعظيم قدره، وفعلاً لقد أنهى الخلاف بينهم بأمانة وأرضى الجميع فيها.

ثانيا: أفعاله بعد البعثة

ثانياً: أفعاله بعد البعثة أما ما بعد الرسالة فكانت أفعاله الدالة على علو قدره وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأعظم؛ لأنها ضمن التكاليف والتشريعات: فمن ذلك مواجهته أهل مكة بما لا يألفونه وما فيه تسفيه أحلامهم وإبطال عبادة آلهتهم. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]، أي: اصدع ولا تخافن ولا تخافت، وأعلن ولا تسر، واملأ أجواء مكة بكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله إنه أمر وتكليف. فلما كان هذا يجلب سخط المشركين أمر أن يعرض عنهم: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، ولما كان أيضاً سيعرضه للسخرية، قدم الله عز وجل له الضمان: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]، إلى أن بيّن وقع ذلك عليه من ضيق الصدر وحرج النفس فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فََسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:97 - 98] أي: وداوم على ذلك {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. كذلك دعوته قومه إلى الصفا، وإعلانه الدعوة إلى الله فيها بعد أن أُمر بذلك في قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وعزيمته ومضيه ورفضه التوقف أو الترك ولو ثامنوه بالشمس والقمر، وما لقي ومن معه نتيجة الصحيفة الظالمة وانحيازهم في الشعب، حتى أكلوا ورق الشجر. وثمن ثم صبره على فقدان الحماية التي تمثلت في عمه، والرعاية التي تمثلت في زوجه. ومن ذلك خروجه إلى الطائف بحثاً عن موطن رحب لدعوته، وما لقي من ثقيف، والموقف الذي كان من الملائكة وتعاطفهم معه لما سمعوا منه تلك المناجاة التي ضاقت بها الأرض وارتجفت لها السماء حين قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) ذكره ابن هشام وغيره. وفي هذا السياق يسوق ابن كثير في التاريخ: (أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض نفسه على عبد ياليل فلم يجبه، خرج مهموماً ولم يفق إلا وهو بقرن الثعالب، فإذا بسحابة قد أظلته، قال: فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله بعثني إليك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) انتهى. وعند صاحب سبل الهدى والرشاد: (إني لأني بهم) أي: أتأنى ولا أعجل، وقد سمعت في بعض الطرق أنه قال معتذراً عنهم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، وذكر صاحب سبل الهدى أيضاً أن ملك الجبال قال: (حقاً كما سماك ربك رءوف رحيم). فأي قدر أعظم من أن يعتذر عمن آذاه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتأنى في عودتهم منتظراً من سيخرج من أصلابهم، فعلها تنفعهم إن لم تنفع آباءهم، إنه موقف يجلّ عن الوصف! وهنا يرد على الذهن حالاً موقف نبي الله نوح حين غاضبه قومه، فدعا عليهم بالاستئصال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وأيس مما في أصلابهم: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]. ونبي الله موسى عليه السلام بعد طول حوار مع فرعون وقومه دعا عليهم: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]. فأي عظمة تجاوزت بنبي الله فطرة البشر، فبينما نوح وموسى يدعوان بهلاك قومهما؛ إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يتأنى بقومه رجاء إيمان من في أصلابهم، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة، فاستعجلوا بها، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة). وهنا قد يخطر ببال البعض أن رحلة الطائف لم تؤت ثمارها، والواقع أنها أتت بما هو أعظم من إيمان ثقيف؛ وذلك لما قام صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة يصلي فاستمع إليه نفر من الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30] إلى قولهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا} [الأحقاف:31]، فكان في ذلك إبلاغ الدعوة إلى الجن الذين يمثلون أحد الثقلين. ثم جاء إلى مكة عند عودته من الطائف وكان قد طلب من ثقيف أن تكتم صنيعها عنه فلم تفعل، وبلغ خبره أهل مكة، فمنعوه الدخول إليها حتى طلب من يجيره في دخولها، ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو على دين قومه، وهنا ينشأ Q نبي مرسل يرسل الله له ملك الجبال قوة بين يديه، والآن يرضى لنفسه أن يدخل في جوار رجل مشرك، وأن يكون للمشرك يد عنده، وفي مكة كبار الشجعان من أصحابه؛ كـ حمزة وعمر وأبي بكر وغيرهم؟ ولكن لا غرو في ذلك إنها الحكمة وبعد النظر وحسن السياسة والحنكة التي تمتع بها صلى الله عليه وسلم والتي كشفها الحوار الذي دار بين أبي سفيان والمطعم بن عدي حين وجد المطعم يطوف بالبيت، وأبناؤه سبعة في سلاحهم حول الكعبة، فدنا منه وسأله: أمجير أنت أم تابع؟ قال: بل مجير، فقال له: لقد أجرنا من أجرت، والفرق بينهما في ميزان أبي سفيان العسكري ومنهجه العدائي أنه إن كان مجيراً فالجوار مكرمة تحافظ عليها العرب وتفخر بها فلا بأس إذاً، أما إذا كان تابعاً -أي: أسلم وتبع محمداً- فيكون هذا تحدياً لأهل مكة كلهم، ولن يسكتوا على ذلك التحدي، فتكون حربٌ أهلية. وبهذا يتبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم لما لم يدخل في جوار أحد من أتباعه إنما أراد الحفاظ عليهم من حرب من لا طاقة لهم بهم آنذاك، ثم جاء حدث الإسراء، ولكأنه بمثابة التغطية والتعويض عما لحقه من ثقيف وأهل مكة، خاصةً عند سدرة المنتهى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:16 - 18]. ثم جاءت الهجرة، والحديث عن الهجرة وموجباتها والإعداد لها، والنتائج التي أعقبتها يستغرق الوقت ويستفرغ الجهد، وسبق أن قدمت فيه محاضرة بعنوان: معالم على طريق الهجرة، خاصةً فيما يتعلق بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والمؤاخاة بين المختلفين من الأنصار فيما بينهم. ثم كانت السرايا والغزوات، وفي جميع ذلك تشكيلات لمواقف تدل على عظيم قدره وعلو شأنه، نختار منها موقفاً واحداً وهو آخر مواقفه في غزواته وهي فتح مكة، حينما وقف بباب الكعبة وأهل مكة عنده، وقال مقالة بعيدة الدلالة: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟). عليهم أن يتذكروا حالاً أفعالهم وإساءتهم، فإذا بصحيفة مليئة بالإساءة، فما عسى أن يقولوا وهم الآن في قبضته وتحت سلطته، فما كان منهم إلا أن يلتمسوا الرحمة وصلة الرحم فقالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم). وهناك عندما انخفضت رءوسهم وغضوا أصواتهم زال عنهم كبرياؤهم، وتخلى عنهم طغيانهم، فأرسلها في رفق وعاطفة وعزة وإباء: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، طلقاء بعد ماذا: بعد تكذيبهم وإيذائهم، وتعذيبهم أصحابه؟ أم بعد إلقاء سلى الجزور عليه وهو ساجد في المكان الذي يأمن فيه كل خائف؟! أما بعد مقاطعته ومن معه وحصرهم في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر؟! أم بعدما منعوه دخول مكة إلا في جوار رجل مشرك؟! أم بعد تآمرهم عليه في دار الندوة ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه؟! أم بعد رصد بيته بعشرة شباب من القبائل بسيوفهم مصلته يرتقبون خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فيذهب دمه هدراً؟! أم بعدما اضطروه إلى الخروج من مكة مهاجراً، وألجئوه إلى الغار؟! أم بعدما جعلوا مائة من الإبل جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً؟! أم بعد مجيئهم بدراً بطراً ورياء بعد أن سلمت لهم تجارتهم؟! أم بعد تحالفهم مع كعب بن الأشرف وتحزيب غطفان وغيرهم في موقعة الأحزاب ليستأصلوه ومن معه في المدينة، وما صدهم إلا الخندق؟! أم بعد أن صدوهم عن البيت في عمرة الحديبية، والهدي معكوفاً أن يبلغ محله؟! نعم؛ أنتم الطلقاء، فلا مجازاة ولا عتب عليكم، إنه العفو والصفح بعد القدرة! فهل بعد هذا الشرف علو قدر في نطاق البشر؟! لا وألف لا، فإنا نجد مصداق ذلك ما يشاهد في أعقاب الحروب وما يفعل المنتصر من سلب ونهب وتقتيل واعتقالات وتدمير على حد قول بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِ

إرشاد المنهج القرآني للأمة في كيفية التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم

إرشاد المنهج القرآني للأمة في كيفية التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومسك الختام بعد هذه الجولة السريعة، نأتي ونتمهل أمام المنهج القرآني المنزّل، الذي جاء بالغاية القصوى في هذا المجال، فبيّن منتهى رفعة شأنه وعظيم قدره، فأدّب الأمة معه صلى الله عليه وسلم في جميع الجوانب وجميع الاعتبارات. أولاً: جانب الرسالة لاعتباره رسولاً، وجانب النبوة لاعتباره نبياً، وجانب الإنسانية لاعتباره إنساناًً، والجانب العام باعتبار عموم حقه حاضراً أو غائباً؛ وذلك في أوائل سورة الحجرات: أما جانب الرسالة فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] أي: كونوا متبعين إياه، ولا تتقدموا عليه ولا تقدموا آراءكم بين يديه، وذلك رداً عليهم في صلح الحديبية حينما امتنعوا من التحلل، حين لجت القضية وتم الصلح، حتى رأوه صلى الله عليه وسلم بنفسه ينحر ويحلق. بل جاء عمر إلى أبي بكر وحاجّه قائلاً: علام نعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فيقول له الصديق: بلى، ولكنه رسول الله فالزم غرزه يا عمر! ويقول عمر: وأنا والله أعلم أنه رسول الله. لا شك أن أبا بكر لم يُرد سائدة الخبر عند البلاغيين؛ لأنه يعلم أن عمر يعلم أنه رسول الله، ولكنه أراد لازم الخبر، وهو أن كونه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم اتباعه؛ لأنه إنما يعمل بتوجيه من الله، فلم ينتبه لها عمر وذهب إلى رسول الله وعرض عليه ما عرضه على أبي بكر، وكان جوابه طبق ما أجاب به أبو بكر: (يا عمر أنا عبد الله ورسوله)، فكان ذلك من عمر تقدم بين يدي الله ورسوله. وقد نزلت سورة الفتح في طريق العودة إلى المدينة وبعدها جاءت سورة الحجرات. أما جانب النبوة: فأدب في الحديث عنده: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ولو كان الصوت بتلاوة القرآن، {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض} [الحجرات:2] أي: نوعية الحديث وكيفيته مع شدة التحذير: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] أي: لعدم إعظامكم عظيم قدره، وما أحد عرفه إلا الرجل الثاني بعد النبي في الأمة من لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح عليها، ألا وهو أبو بكر الصديق وذلك حين قال لـ عمر: إنه رسول الله فالزم غرزه. ثم جاء التذييل بتنبيه الغافلين: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]. أما الجانب الإنساني: فرب أسرة، وله حرمة لبيته؛ فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4 - 5]. وأما الجانب العام: فقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] إلى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7] أي: فإن الله يكشف لرسوله الحقائق. فهذه النداءات للذين آمنوا وتلك الآداب الرفيعة في حقه في مختلف المجالات، والتي فهمها سادة الصحابة، ستظل قرآناً يتلى في كل جيل، وهي كافية لبيان علو شأنه عند ربه وعظيم قدره على عموم خلقه. ومن هذا المنطلق فقد جعل صلى الله عليه وسلم من الأميين في أقل مدة تاريخية {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أمةً وسطاً عدولاً، وأمة شهادة على الناس قبلهم، وكان الرسول عليهم شهيداً. وفي ذلك اليوم يكون الموقف الذي يتعطل البيان عنه ويتلعثم اللسان فيه ويحار العقل وتختلف المقاييس، موقف يشهده الأولون والآخرون، وفيهم الأنبياء والمرسلون، حين يُطلبون للشفاعة ويعتذرون ويقولون: (نفسي نفسي) وكل يحيل على من بعده من آدم أبي البشر إلى الخليل أبي الرسل إلى موسى، ثم إلى عيسى كلمته وروح منه، حتى يُنتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (نعم، أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد لم يك يعلمها قبل، إلى أن ينادى: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون. (ثم يذهب ويطرق باب الجنة فيقال: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، ثم يأذن الله له بالشفاعة لأمته حتى يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله، أو كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان). رزقنا الله وإياكم جميل حبه، وعلمنا عظيم قدره، وجعلنا في شفاعته واتباع سنته، صلوات الله ربي عليه وسلامه. والسلام وعليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

حقوق الجار

حقوق الجار

الوصية بالجار

الوصية بالجار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدي رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: إن من نعم الله، التي يجب على العبد أن يقوم بشكرها: أن يتيح له الفرص النفيسة بهذه اللقاءات الكريمة مع إخوة في الله، وفي بيت من بيوت الله، يتذاكرون آيةً من كتاب الله أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأعلم أن في مدينة عنيزة من المشايخ وطلبة العلم من يحيون المساجد بالذكر والمذاكرة والعلم والمدارسة، وإنه لمن نعم الله عليَّ أن يتيح لي هذا اللقاء في هذا المسجد هذه الليلة. وسأتكلم عن موضوع أعتقد أن الجميع قد سمعوا به، وكل الدعاة قد تناولوه، والسنة مليئة بأخباره، ألا وهو موضوع الوصية بالجار. وقد قرن الله حق الجار بأعلى وأعظم حقٍ لله سبحانه وتعالى وهو توحيده، فقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] إلى آخر الآية. فحق الجار مذكور في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللجار حقوق كثيرة ممكن أن نسميها: حقوقاً قضائية، أو نسميها: حقوقاً مدنية، أي: إلزامية للجار على جاره، وهذه الحقوق يذكرها الفقهاء وخاصةً الحنابلة في باب الصلح وحكم الجوار. كلنا يعلم أن الأسلوب العام في الإطار الإسلامي بل والإنساني أن الوصية تكون من منطلق الشفقة والرحمة، ولذا لا تجد إنساناً يوصي إنساناً بخير إلا وهو مشفق عليه، رحيم به، وقد جاء في كتاب الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف:15] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! إني أحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فأوصاه بذلك.

معنى الوصية

معنى الوصية وإذا جئنا إلى فقه أسرار اللغة العربية التي هي لغة القرآن، يقول علماء فقه اللغة: كلمات اللغة العربية أسر وقبائل، فكلما كانت المادة قريبة من المادة في بنائها فمعناها متقارب، وإذا اختلف حرف في هذه المادة عن تلك المادة كان المعنى المشترك بين اللفظين قريباً، وبقدر قرب الحرف من الآخر تكون الصلة والقرابة. فهنا مثلاً وصية وصلة، فتجد كلمة (وصية) أصلها: وصي، و (صلة) أصلها: وصَلَ، فالواو والصاد في المادتين، والخلاف في لام الكلمة، والياء واللام كلاهما من مخرج متقارب، تقول: إل وإي، فمخرجهما متعلق باللسان، وليسا من الحروف المتباعدة. إذاً: الوصية والصلة بينهما قرابة نسب وصلة رحم، فكل وصية فهي صلة، فعندما يوصي الإنسان غيره فكأنه وصله بما أوصاه به، وأنت إذا أوصيت إنساناً بشيء فكأنك وصلته بتلك الوصية. ويقال: خبن الثوب، وغبن في البيع، (خبن وغَبَن) الباء والنون موجودان فيهما، والغين في الغبن، والخاء في الخبن مختلفان، وكلاهما من أحرف الحلق، والخبن للثوب بمعنى: النقص، مثل أن تأخذ القميص وتقصر طوله، والغبن في البيع هو: نقص في الثمن، فمعنى النقص موجود في الكلمتين، ولكن لماذا جاءت الخاء في الثوب (خبن)، والغين في البيع (غبن)؟ يقول علماء فقه اللغة: انظر إلى الحرفين المتغايرين، فهما من أحرف أدنى الحلق، لكن الغين أخفى من الخاء، والغبن في البيع أخفى من الخبن في الثوب؛ لأن خبن الثوب ظاهر تلمسه بيدك، والغبن في البيع أمر معنوي نسبي. فنرجع إلى تعريف الوصية، فهي صلة، والصلة فيها ارتباط، فكأن الموصي يربط الموصى إليه بنفسه، ومن هنا نعلم معنى الوصية للجار ومكانتها، فحينما تقول: يا فلان! أوصيك بفلان، أي: أنك توصى به وتكرمه وتصله بنصيحتك وشفاعتك عند الغير، ويقال: أوصى لفلان ببيت أو بمال أو غير ذلك، أي: وصله بما أعطاه.

أركان الوصية بالجار واهتمام الشرع بها

أركان الوصية بالجار واهتمام الشرع بها وأركان الوصية: الموصي والموصى إليه والموصى به. فالوصية بالجار ما مقدارها؟ وما مصدرها؟ جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار)، فالموصي هنا هو جبريل عليه السلام، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، والذي وصفه الله بمكارم الأخلاق، وهو لا يحتاج إلى وصية، فهو فاهم ومدرك، ومكارم أخلاقه تحمله على حسن المعاملة، ومع ذلك يوصيه جبريل بالجار. ونعلم أن الوصية تكون محددة، كما في آية الوصية بالأولاد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وقوله: {إذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] فالوصية بالخير مطلوبة. وما هو أسلوب وسياق الوصية التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى رسول الله؟ جاء في الأدب المفرد للبخاري أن رجلاً من الأنصار قال: (خرجت مع أخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت فإذا هو قائم يقاوم رجلاً -يقاوم على وزن يفاعل، أي: هذا قائم وهذا قائم معه، وهو نظيره- فظننت أن له حاجة -أي: هذا الرجل- فجلست، فأطالا القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، ثم ذهب الرجل، وقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لقد رثيت لك من طول قيامك مع هذا الرجل، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا، قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وهذا القيام الطويل هل هو بكلمة (أوصيك بالجار)، أو أنه كان يعدد عليه جوانب الوصية فيما ينبغي للجار؟ لا نستطيع أن نحكم بشيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا صيغة الوصية، لكن يهمنا من هذا السياق أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أطال القيام مع جبريل، حتى أن الأنصاري جلس ورثى لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الجهد كله ليتلقى الوصية بالجار، وأعتقد أن هذا السياق يعطينا مدى مكانة الوصية، ومدى اهتمام الشريعة بها.

معنى حديث: (ما زال جبريل يوصيني بالجار)

معنى حديث: (ما زال جبريل يوصيني بالجار) وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني). كلمة: (لا زال) تدل على التكرار، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا نوعية الوصية فكيف نحققها؟ فهذه الوصية وصية إحسان للجار، فكيف نطبق هذه الوصية العامة الشاملة حتى نحقق وصية جبريل لرسول الله عليهما الصلاة والسلام؟ هذه الوصية مطلقة، والإطلاق يدل على العموم والشمول، فننظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، ونطبقها على أحاديث الوصية للجار، والأحاديث التي وردت في حق الجار كثيرة متنوعة، ولقد وصلت إلى أربعين حديثاً تتعلق بحقوق الجار. وما هي مقاصد الشريعة التي يمكن أن نحققها ونطبقها في حق الجار؟ يقول العقلاء أو الفلاسفة: مطامع العقلاء في الغيب، أي: أن كل إنسان في حياته -بصرف النظر عن دينه- يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع يستفيد منه، وإما لدفع ضر يسلم منه، ولذا يقول الشاعر الجاهلي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع يعني: إذا لم تنفع صديقك وأهلك فضر عدوك وخصمك، أما من لا ينفع أهله ولا يضر خصمه؛ فليس فيه خير، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المشركين وبين قبح فعلهم بعبادة الأوثان، وذكر أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء:66]، وإبراهيم عليه السلام قال لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] واحتج إبراهيم على قومه في عبادتهم الأصنام فقال: لماذا تدعونهم، وهم لا يسمعونكم حينما تدعونهم؟! أي: هل تعبدونهم لجلب نفع أو تعبدونهم خوفاً من أن يضروكم؟! فإذا كانوا لا ينفعونكم فلم تعبدونهم؟! وإذا كانوا لا يضرونكم فلم تخافون منهم؟! فالنفع والضر هما مطلب الإنسان، ولذا فإن المولى سبحانه لما خاطب قريشاً وألزمهم بحق العبادة قال: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:1 - 3]، وما هو مقتضى هذه العبادة التي أوجبها الله عليهم؟ قال: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) هذا هو النفع الذي جلبه إليهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) هذا هو الضر الذي دفعه عنهم. إذاً: مجموع المطالب العقلية منحصرة في هذين الأمرين، وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فـ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، أي: إنما يدفع العنت والمشقة عنكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي: يجلب لكم النفع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت خيراً يقربكم إلى الله إلا بينته لكم، ودللتكم عليه، ولا تركت شراً يباعدكم عن الله إلا بينته لكم، وحذرتكم منه، ونهيتكم عنه). إذاً: مطالب العقلاء منحصرة في جلب النفع ودفع الضر، وجاءت الشريعة الإسلامية بتحقيق هذين المبدأين، وجاءت بزيادة مبدأ ثالث جديد جاء به الإسلام، ألا وهو الحث على مكارم الأخلاق. واعلم أن جميع التشريعات في الشريعة الإسلامية تدور حول هذه المبادئ الثلاثة: إما جلب نفع للعبد في الدنيا أو الآخرة، وإما دفع ضر عنه في الدنيا أو الآخرة، وإما السمو به إلى مكارم الأخلاق وإلى الكمال الإنساني. ولكي نعلم بحقوق الجار، ولكي نطبق ذلك على هذه المبادئ، فنبحث عن حق الجار لجاره في جلب النفع إليه، ودفع الضر عنه، ومعاملته بمكارم الأخلاق.

أنواع الجيران وحد الجوار

أنواع الجيران وحد الجوار والجيران أنواع، وقد ذكرهم الله في كتابه فقال: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، فمن هو الجار ذو القربى؟ ذو القربى من كان من القرابة، فهل هو قرب المكان قرباً حسياً أو هو القريب النسب مثل: ابن عمك، وابن خالك وخالتك وعمتك؟ القربى هنا قربى النسب، فيجتمع له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القربى، وحق الإسلام. والجار الجنب قالوا: هو الأجنبي (الصاحب بالجنب) هي: الزوجة، وقيل: (الصاحب بالجنب) يشمل الزوجة وغيرها، فالزوجة صاحبة بالجنب، وقيل: (الصاحب بالجنب) الصديق الذي يصاحبك، هو الرفيق في السفر. أنواع الجوار: جار قريب في النسب، وجار بعيد نسباً، والقرب والبعد في الجوار إلى أي حد؟ ذكر البخاري في الأدب المفرد وغيره عن الزهري أنه قال: حد الجار أربعون داراً أمامك، وأربعون داراً وراءك، وأربعون داراً عن يمينك، وأربعون داراً عن يسارك، وقد روي هذا التحديد في حديث وهو: أن رجلاً جاء يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاره؛ فقال: (يا رسول الله! إني نزلت حرة بني فلان -منطقة أو جهة- وإن أقربهم لي جواراً أشدهم عليّ إيذاء، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعمر إلى المسجد، وأمرهما أن يقفا على الأبواب ويناديان: ألا إن أربعين داراً جار، لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه). فإذا كان تحديد الجوار أربعين داراً، وكلها داخل في الوصية بالجار، فهذه الأربعون تتفرع، فأقصى بيت من الأربعين يراعي حقوق أربعين بيتاً أخرى بجواره، وآخر الأربعين الثانية يراعي حرمة أربعين بيتاً أخرى، وهكذا، فماذا تكون النتيجة؟ تتموج حقوق الجوار وتنتشر كتموج موجات الأثير حتى تعم العالم كله، ولا يبقى شبر على وجه الأرض إلا ودخل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، وهذا إذا وسعنا نطاق الجوار في المدن، فالمدينة النبوية جوارها مثلاً عنيزة أو البلدة الفلانية، ولو راعينا حرمة الجوار بين الأفراد وبين القرى وبين المدن وبين الأقطار في الدنيا، لحصل خير كبير، فكل دولة تراعي حقوق جارتها، وكل قرية تراعي حقوق جارتها، فلا يوجد في وجه الأرض شبر إلا ودخل في هذه الوصية؛ فالجوار يشمل الجميع، وإذا توسعت دائرة الجوار شملت العالم.

فقه معاملة الجيران

فقه معاملة الجيران والجار إما أن يكون جاراً صالحاً أو جاراً سيئاً، وفي الأثر أن الجار الصالح يحفظ الله به مائة بيت من جيرانه، فإذا كان الجار صالحاً، فالله سبحانه وتعالى يكرم جيرانه، ويدفع عنهم السوء إلى مائة بيت، فنعم الجار هذا الجار! أما الجار السوء فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول). ومن طلب الجوار الصالح، قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، يقول العلماء: طلبت الجار بالجوار قبل الدار، فإنها لم تقل: ابن لي بيتاً عندك، بل قلت: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا)، والناس يقولون: الجار قبل الدار. وأُقرب هذا المعنى بمثال: لو أن فلاناً عنده مخطط أراضٍ، وأنت لا تعرف بتخطيط القطع، وجاء إنسان صالح وقال لك: والله يوجد قطعة أرض فيها وجهتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، فقلت له: أنت أخذت إحداهما؟ قال: نعم. فتحب أن تشتري القطعة التي بجواره، ولا يهمك سعتها ولا ضيقها ولا توجهاتها، إنما يهمك أن تكون بجواره لصلاحه، وتختار جواره مهما كانت القطعة أقل نفاسة عن أي قطعة أخرى بعيدة عنه، فالجار الصالح يشترى، تقول: أنت أصلح الجيرة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم في خير الجيران أنه قال: (خير الصديقين أحسنهما صداقاً، وخير الجيران خيرهما لجاره)، فخير الجيران من كان أنفع وأشد خيرية لجاره، فهي عملية مقارنة، والخيرية نسبية، فبقدر ما تحسن إلى جارك تكون خيراً منه.

درء المفاسد عن الجار

درء المفاسد عن الجار وإذا نظرنا إلى درء المفاسد، نجد أنه صلى الله عليه وسلم يضع هذا المبدأ بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وقال: (والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه). وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وفي الراوية الأخرى: (فليحسن إلى جاره)، وفي الرواية الثالثة: (فلا يؤذ جاره)، وهذه الأحاديث في الصحيحين، وفي رواية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحسن إلى جاره). إذاً: ينفي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الذي لا يحسن إلى جاره، وعن الذي يسيء إلى جاره، وعن الذي لا يكرم جاره. والإحسان إلى الجار هو: جلب المنفعة إليه وعدم إيذائه، ودرء المضرة عنه، وإكرامه يكون بمعاملته بمكارم الأخلاق. فيجب أن تبتعد عن أذى الجار، وأن تصبر على أذاه، وعليك أن تراعي الجار حتى في دواجنه وفي ماله، جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان والبخاري في الأدب المفرد، (أن امرأة قالت لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إن إحدانا يدعوها زوجها إلى فراشه فتمتنع لمرض، أو لكراهية، أو لعدم رغبة، فهل عليها شيء؟ قالت: نعم، لو أن زوج إحداكن طلبها على قتب بعير لوجب عليها أن تجيبه، جاء صلى الله عليه وسلم في يوم نوبتي، وكان من عادته إذا جاء أن يرد الباب، وكان عندي شعير صنعت منه قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: إذا جاء أطعمه إياه، فدخل وهو مبرود شديد البرد، فقال: أدفئيني، وكنت حائضاً، فقلت: إني حائض، فقال: لا عليك، اكشفي فخذك، فوضع خده على فخذي، وترك الباب مفتوحاً، فدخلت داجن لجارنا فأخذت القرص، فبادرتها إلى الباب، فانتبه صلى الله عليه وسلم فقال: خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته). الرسول صلى الله عليه وسلم جاء وهو شديد البرد، وعملت له القرص ليتعشى به، وما عندها غيره، فرأت الداجن الباب مفتوحاً فدخلت، فلحقتها عائشة رضي الله تعالى عنها إلى الباب خوفاً أن تأكل منه شيئاً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (خذي ما أدركت، ولا تؤذ جارك في شاته)، مع أنها شاة معتدية، أخذت عشاءهم. إذاً: إيذاء الجار في أولاده، وفي قراباته، وفي ماله، وفي مصالحه، وفي شخصه، لا يجوز.

الصبر على أذى الجار

الصبر على أذى الجار فمن حقوق الجار أن تقدم له الخير، وتكف أذاك عنه، بل وتصبر على أذاه إن آذاك، وقد جاء في حديث أبي هريرة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي من سوء فعل جاره فقال: (ارجع فاصبر، فعاد فاشتكى، فقال: ارجع فاصبر -ثلاث مرات- وبعدها قال: اذهب وأخرج متاعك في الطريق)، الشاهد أنه أمره بالصبر على أذى جاره ثلاث مرات. وذكروا عن الإمام أبي حنيفة أن رجلاً كان بجواره يسيء إليه كل يوم في بيته، فكان يخرج ويبعد الأذى أو الإساءة وهو صابر، وفي يوم من الأيام خرج فلم يجد تلك الإساءة التي كان يعهدها، فسأل عن جاره عندما رآه تخلف عن عادته! فأخبر أنه أحدث حدثاً وسجن، فذهب وشفع عند صاحب الشرطة حتى أخرجه، ولم يعلم هذا الجار بالذي جاء يشفع له، فلما خرج قال: من الذي أخرجني؟ قالوا: جارك جاء يشفع لك، قال: من هو؟ قالوا: أبو حنيفة! فندم على إيذائه، وكف عن ذلك. وأخبرنا شيخنا عبد الرحمن الإفريقي يغفر له ويرحمه أن ولده ضرب بعض أولاد جيرانه، فضرب أبو المضروب ولد الشيخ، وصار في ولد الشيخ جرح أو شيء بسيط، فأخذت الشرطة هذا الأب الضارب الذي سيّل الدم من ولد الشيخ وسجنته، فذكر للشيخ ذلك، فقال: أين الجار؟ قالوا: أخذته الشرطة وسجنوه، فذهب حالاً إليهم، وقال: الولد ولدي، وهو اعتدى على ولدي، وأنا متسامح في هذا، ويجب أن تخرجوه، فقالوا: نعمل إجراءات الخروج، والمسجون لا يدري، وبعد أن طلبوه ليخرج، قالوا له: اخرج، قال: على أي أساس؟ قالوا: الشيخ جاءنا وسامحك، وطلب منا أن تخرج، فخرج من السجن ولم يذهب إلى بيته، بل ذهب إلى بيت الشيخ ليعتذر إليه من ذلك، فعلى المسلم أن يصبر على أذى الجار. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث فواقر -الفاقرة المهلكة-: أمير ظالم إن أحسنت لا يشكر، وإن أسأت لا يعفو، وجار سوء إن علم شراً أذاعه، وإن علم خيراً كتمه)، وهذا كما قال الشاعر: صم إذا سمعوا خيراً ذُكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا أي: إن سمعوا خيراً عني فهم صم لا يسمعون، وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا، أي: استمعوا ذلك، وهذا من سوء الجوار. والفاقرة الثالثة المذكورة في ذلك الحديث هي: (امرأة سوء؛ إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك) وقد ذكر الله صفة الزوجة الصالحة في قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].

جلب المصالح للجار والحفاظ على نفسيته

جلب المصالح للجار والحفاظ على نفسيته ذكرنا تقسيم الجيران، وذكرنا درء المفاسد عن الجار، والآن نذكر جلب المصالح إليه: جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة) وفي رواية: (ولو بظلف محرق)، وهي التي يسمونها الآن مقادم، أي: لا تحتقر الجارة أن تهدي لجارتها ولو رجل شاة محرقة الشعر، والآن لا أحد يقبل هذا، بل يستحي أن يقدم له حتى ربع شاة، لكن المراد: أن الإنسان لا يحتقر أي معروف مع جاره. وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) وهذا كان موجوداً في القديم، وإخواننا الكبار يذكرون هذا، أما الآن فلا أحد يقبل من الثاني مثل هذا الشيء، ولكن المراد: ولو كان الشيء قليلاً فتعهد به جيرانك. ثم نأتي إلى حفظ حقوق الجار، ودفع السوء عنه، وجلب النفع له، ومراعاة شعوره، وهذا من مكارم الأخلاق، وجاء في بعض الآثار في بيان حقوق الجار: (إذا اشتريت فاكهةً فاهد له، وإلا فأدخلها سراً، ولا تترك أولادك يخرجون بها يغيضون أولاده)، فهذه محافظة على نفسيته. فأنت إذا وسّع الله عليك تستطيع أن تأتي بالفاكهة، وهو لا يستطيع أن يأتي بها، فلا تجعل أولادك يتفكهون أمام أولاد الجيران، وهم ينظرون إليهم، لو كنت مكانه ونظرت إلى ولدك وهو يحدق النظر إلى ولد الجار، وهو يأكل الفاكهة التي حرم هو منها؛ ماذا سيكون إحساسك مع ولدك؟ وكيف لو نظر ولدك إليك في تلك اللحظة؟ فكأنه بنظراته يقول: أعطني واشتر لي يا أبي! وأنت لا تستطيع. فمن مكارم الأخلاق المحافظة على شعور الجار وأولاده، فإذا اشتريت فاكهة لأهلك فأدخلها سراً، ولا تدع ولدك يخرج بها فيسيء إلى ولد الجار ويحزنه. وبعد هذا نستطيع أن نقول: يتحقق القيام بحقوق الجار بجلب النفع إليه، ودفع الضر عنه، ومعاملته بمكارم الأخلاق. وقد روى في تعيين بعض حقوق الجار حديث فيه: (من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس الجار بمؤمن)، أي: إذا كان الجار يخشى من جاره على أهله أو على ماله فله أن يغلق الباب مخافة من الجار، مثل اللص الذي قد يأتي من بعيد، وإذا خاف ذلك من الجار، فهذا الجار ليس بمؤمن.

معاونة الجار بالحسنى وترك استغلال حاجته

معاونة الجار بالحسنى وترك استغلال حاجته ومن حقوق الجار أنه إذا استعانك فأعنه، فإذا طلب منك المعونة في أمر في بيته أو غيره فساعده عليه، وإذا استقرضك فأقرضته. فإذا احتاج الجار للمال، وقال لك: يا فلان! أقرضني ألف ريال إلى شهر، أو إلى شهرين، فلا يجوز أن تبيعه بيع العينة، فتبيعه مثلاً طاقة قماش بألف، ثم تشتريها منه بثمانمائة نقداً، فيذهب بالثمانمائة وهو مدين لك بألف نسيئة مكتوبة في الدفتر، وكان يجب عليك أن تقرضه. والمقرض متعامل مع الله، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245]، والقرض قربة مثل الصدقة، لاسيما القرض للمحتاج، وقد روي في الحديث: (الصدقة بالدرهم صدقة، والقرض بالدرهم صدقتان، أو له أجران: أجر القرض وأجر الإنظار)، ولهذا لا تجد من يقرض قرضاً حسناً ابتغاء وجه الله إلا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يتعامل بالربا إلا من كان في إيمانه شك. ومطالب العقلاء في هذه الحياة جلب نفع أو دفع ضر، وقانون الحياة مبني على المعاوضة، فتقول للبائع: خذ الثمن وأعطني السلعة، ويقول العامل: أنا أعمل عندك وآخذ الأجرة، وهكذا، فكل إنسان يتعامل مع غيره في الحياة على مبدأ المعاوضة، وبقدر ما تنفعه ينفعك. وهذا القانون قد يشمل حتى الحيوان، فيتعامل معك الحيوان على قانون المعاوضة، فمثلاً السفر على الإبل: فإذا كان السفر طويلاً فإنك من قبل السفر تعلف الراحلة زمناً طويلاً حتى تقوى على الرحلة، وفي أثناء سفرك تراعيها في أكلها، وبقدر ما تعطيها من علف تعطيك من المسير، وهكذا الشاة والبقرة، فبقدر ما تعطيهما من علف يعطيانك من الحليب، وإذا قصرت في علفهما قصرا في الحليب، فالأمر معاوضة! وقد ورد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! قد ندّ عليّ بعيري -أي: شرد وهاج، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل للبشر لا للإبل، لكنه لم يتخل عنه- فقال لأصحابه: قوموا بنا إلى بعيره، فذهبوا، فدخل صلى الله عليه وسلم البستان والبعير هائج، فقال الصديق: يا رسول الله! على رسلك! فالبعير هائج، فقال له صلى الله عليه وسلم: على رسلك أنت يا أبا بكر، ودخل الحائط وحده إلى البعير الهائج، فلما أقبل عليه انقاد له البعير، ومد إليه عنقه، ووضعه على منكب رسول الله، وأصغى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رفع البعير رأسه، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى صاحب البعير وقال: يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي منك كثرة العمل، وقلّة العلف!). فاشتكى من عدم المعاوضة العادلة، فكثرة العمل تقتضي كثرة العلف، لكن يكلفه العمل الكثير، ويعطيه العلف القليل! فهذا من حقه أن يهيج، فقانون المعاوضة يسري حتى على الحيوان. فالمرابي يريد أن يقرض على قانون المعاوضة، ولا يقرض قرضاً حسناً، بل يقول: أنا أريد عوضاً عن هذا القرض؛ لأنه يمشي على قانون المعاوضة المادية، لكن المسلف إذا أقرض بدون عوض فإنه يتعامل مع الله، وقانون المعاوضة موجود في التعامل مع الله بأكثر مما في الدنيا، ففي الدنيا تدفع ريالاً وتأخذ دفتراً، وتدفع ريالاً وتأخذ خمسة أقراص من الخبر، وتدفع عشرة ريالات وتأخذ ثوباً، وكل ذلك يكون عاجلاً. أما المتصدق فإنه يدفع الدرهم أو يدفع الدينار أو يدفع الألف، وهو يطمع فيما هو أكثر من ذلك، (الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)، ولكن متى ذلك؟ يوم القيامة. إذاً: المقرض يؤمن بيوم القيامة، ويوقن أنه يعامل من سيجزيه ويعوضه، ولكن ذلك يكون مؤجلاً إلى {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88]، فالمعاوضة موجودة، وعندما يتعامل المقرض يتعامل مع الله، كما قال الله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245]. والمرابي لو كان يؤمن بالله وباليوم الآخر مثل إيمان المقرض أو المتصدق لما قال: أنا لا أدفع لك ألفاً حتى تزيدني عليه مائتين، فهو يريد معاوضة عاجلة، بخلاف المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يدفع الألف ويخفيها عن الناس، وفي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم صلى الله عليه وسلم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله)، وفي رواية: (تصدق بيمينه)، والروايتان موجودتان، ولكن الأصح في سياق هذا الحديث بشماله؛ لأنه يريد أن يخفي تصرفه، والناس قد يراقبون اليمين؛ لأنها المعتادة في الحركة، وهو لا يريد أن يهتدوا لحركته، فيغافلهم ويتصدق بالشمال حتى يمعن في إخفائها، وهي لا تخفى على الله. وهذا كما يحكي المؤرخون أنه في بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينة، وصعب عليهم فتحها، وفي ليلة من الليالي علم أحد الجنود بمدخل لهذه المدينة، وفي الفجر دخل من هذا المنفذ وفتح الباب وكبّر، ودخل المسلمون وفتحوا المدينة، ولما تحقق النصر، واستتب الأمر، أراد الأمير أن يعرف من هذا الجندي الذي فتح الله على يده؟ فنادى في الجنود: من فتح الحصن فليأتني؟ من فتح الحصن فليخبرني؟ ولا أحد جاءه أو أخبره. وكان الجندي سامعاً مطيعاً، فألزمه بالإتيان بالسمع والطاعة للأمير، وفي منتصف الليل عندما نام الناس جاء الجندي متلثماً، إلى خيمة الأمير القائد، فسأله الحارس: من أنت؟ قال: أنا طِلبة الأمير، ولكن أخبره أني لن أخبره عن نفسي إلا بشروط، قال: ما هي؟ قال: ألا يسألني عن اسمي، ولا اسم أبي، وألا يُقدم لي مكافئة، وألا يطلبني بعد ذلك، فإن قبل هذه الشروط فإني أدخل عليه ثم أنصرف. فدخل الحارس على الأمير فوافق على شروطه، فدخل، فسلم على أميره وقال له: أيها القائد! لماذا أكثرت في طلبي؟ وماذا تريد مني؟ إن الذي خرجنا نجاهد في سبيله يعرف اسمي ونسبي وجزائي عنده، والسلام عليكم وانصرف، فالأمير ألزمه بالحضور بحق السمع والطاعة، لكن هذا الشخص الذي فتح الله على يديه كان مخلصاً، ولا يريد أن يعرف اسمه، لكن الأمر كما قال: إن الذي أخرجنا نجاهد في سبيله يعرف اسمي ونسبي، وهو الذي سيجازيني على عملي.

التصدق على الجار الفقير

التصدق على الجار الفقير على المؤمن أن يتعامل مع الله فيؤدي حقوق الجار مخلصاً لله، فإذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه. الغنى ليس بالقوة وليس بالذكاء، لا والله، قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ذمرت فقراً لأي الناس ينتج ذا الفصيل يعيل أي: يفتقر، فقد يصبح الرجل غنياً ويمسي فقيراً، وبالعكس، فالأمور بيد الله سبحانه وتعالى. إذا ولدت ناقتك الفصيل وأخذته فإنك لا تدري: هل هذا الفصيل يبقى لك أو ينتقل لغيرك؟ فإذا افتقر جارك فعد عليه من فضل خيرك، وإذا مرض فعده، وإذا أصابه خير فهنئه، وإذا أصابته مصيبة فعزه. وحقوق المسلم مبينة في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)، فهذا حق المسلم على المسلم في الإسلام، وهذه من حقوق الجار. فإذا مرض جارك عدته، وعيادة المريض لها آداب تذكر في كتاب الجنائز، منها: أنك لا تطيل الجلوس عنده، ولا تسرّح نظرك في محله، ولا تكثر السؤال عن علته ومرضه، وينبغي أن تبعث في نفسه الأمل والرجاء في الشفاء والصحة. ومن حقوق الجار أنه إذا أصابه خير هنأته؛ وتظهر الفرح بما أصابه من خير، وإن أصابته مصيبة عزيته؛ فتجبر خاطره وتساعده على تحمل ما نزل به. ومن حقوق الجار أيضاً ما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تستطيل عليه بالبنيان لتحجب الريح عنه إلا بإذنه)، وفي كتب الفقه: من رفع بناءه على جاره، فلا يكشف على الجار، بل عليه أن يقيم جداراً ليصون الجار عن نظره. ومن حقوق الجار ما جاء في الأثر: ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها. وقتار القدر: ريحه، أي: فإذا طبخت طبيخاً وصارت له رائحة نفاذة، ووصلت الرائحة إلى الجار، فعليك أن تطعمه منه، وليس هذا من حق الإسلام فقط بل هو حق إنساني. وبعضكم يسمع أن المرأة الحامل يصيبها الوحم، وهذه قضية لا أحد يقدر أن يعللها بشيء، وهي سنة كونية يجريها الله سبحانه وتعالى للنسوة في مرحلة الحمل، فتشم رائحة الطعام فتحتاج أن تتذوق من ذلك الطعام الذي شمت رائحته، فإن لم تأكل منه لحقتها مضرة، أو صارت المضرة في الطعام؛ لأن نفسها تعلقت به، وتعرفون أثر العين والحسد بسماع السيرة وبالرؤية وباللمس، فمن باب المروءة إذا طلعت هذه الرائحة إلى جيرانك أن تطعمهم من هذا الطعام، وإذا اشتريت فاكهة ولم تطعمهم منها فأدخلها إلى البيت سراً.

مضاعفة الإثم المتعلق بالجار

مضاعفة الإثم المتعلق بالجار ننتقل إلى مسألة مضاعفة الإثم بسبب الجوار، فنحن نعلم أن الإسلام جعل للأماكن المشرفة حرمة تعظم بسببها أجر الطاعة، فتتضاعف الحسنات، وكذلك السيئات. ففي مكة تتضاعف الحسنة، فالصلاة في مسجد مكة بمائة ألف صلاة، وفي المسجد النبوي بألف صلاة، والمعصية في مكة تتضاعف كما تتضاعف الحسنات، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما انتدبه عمر ليفتي الناس في الحج، فاعتذر، وقال: إني لا أقوى على سكنى بلد تتضاعف فيه السيئة كما تتضاعف فيه الحسنة، وقرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فمجرد إرادة السيئة في مكة يأثم به العبد. وقد جاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، وقال: (من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة)، فمجرد الهم بالسيئة لا يؤاخذ به الإنسان إلا في مكة، ولهذا سكن ابن عباس في الطائف وكان ينزل وقت الموسم فقط إلى مكة، ثم يرجع إلى الطائف. وكذلك يتضاعف الذنب في الأشهر الحرم، وفي كتب الحنابلة: إذا قتل الإنسان في الأشهر الحرم تتضاعف عليه الدية، وكذلك قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] فتتضاعف فيها أجور الأعمال. وهكذا حرمة الجار، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث المقداد بن الأسود أنه قال: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره، ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرام، حرمها الله ورسوله، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره، ومن أغلق بابه من جاره مخافة على أهله أو ماله فليس الجار بمؤمن). فلماذا كانت السرقة من الجار أشد إثماً من السرقة من عشرة بيوت؟ وما الذي ضاعف الجرم في تلك الجريمة؟ إنها حرمة الجار.

القيام بحق الجار من شيم العرب

القيام بحق الجار من شيم العرب فالقيام بحقوق الجار من مكارم الأخلاق، وقد كان العرب في جاهليتهم يحفظون حق الجار، وهذه الأبيات ساقها ابن عبد البر وغيره في كتب التاريخ تبين ذلك، فهذا عمرو بن الأطنابة -وكان من ملوك المدينة قديماً- يقول: إني من الذين إذا انتدو بدءوا بحق الله ثم النائل المانعين من الخنا جاراتهم والحاشدين على طعام النازل فمحل الشاهد قوله: المانعين من الخنا جاراتهم وكان يقول: أنتِ أختي وأنت حرمة جاري وحقيق عليَّ حفظ الجوار إن للجار إن تغيّب غيباً حافظاً للمغيب والأسرار ما أبالي أكان للباب ستر أم بقي بغير ستار يعني: أنا لا أنظر إلى حرمة جاري، ولو كان الباب بغير ستر! وقال: بشار بن بشر المجاشعي: وإني لعف عن زيارة جارتي وإني لشنوء لدى اغتيابها يعني: إذا غاب زوجها فأنا أبتعد عنها. إذا غاب عني بعلها لم أكن لها زوّاراً ولم تأنس إليَّ كلابها أي: لا أكثر التردد عليها حتى تألفني كلاب بيتها. ولم أك طلابّاً أحاديث سرها ولا عالماً من أي جنس ثيابها يعني: حتى لو تظهر ثيابها، فإني لا أعرفها من أي جنس هي. وقال الآخر: أقول لجاري إذ أتاني معاتباً مدلاً بحق أو مدلاً بباطل إذا لم يصل خيري وأنت مجاور إليك فما شري إليك بواصل وذكر ابن عبد البر القصيدة التي سمعها مالك بن أنس فقال: حفظوها أبناءكم، وهي قول الشاعر: ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الجدر

الهدي النبوي في معالجة إساءة الجوار

الهدي النبوي في معالجة إساءة الجوار والآن نذكر هدي النبي عليه الصلاة والسلام في معالجة إساءة الجار: وقد تقدمت الإشارة إلى أن رجلاً اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوء معاملة جاره، فقال: اذهب واصبر -ثلاث مرات- وأخيراً أمره بإخراج متاعه. فأخرجه وجلس في الطريق، فكان كل من مر به سأله عن شأنه، فيقول: جاري آذاني، فيقول المار: لعنة الله على هذا الجار، ويسبه ويلعنه، وكل من سمع بهذا لعن الجار، فجاء الجار يشتكي للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا، وعذاب الآخرة أشد) فرجع إلى جاره وقال: أدخل متاعك، وادخل بيتك، فوالله لن أوذيك بعد هذا. فيهمنا في هذا الحديث المنهج النبوي في هذا، فهل الرسول عليه الصلاة والسلام قال: احبسوه؟ أو قال: اضربوه؟ لا، بل جعل المجتمع كله يشارك في علاج هذه القضية؛ لأن قضايا الجيران والجوار قضايا اجتماعية، وليس حلها على السلطان فقط، بل على المجتمع بكامله إذا كان مترابطاً؛ لأن هؤلاء حينما يرون فرداً من المجتمع قد أسيء إليه في جواره، وقد أوذي من جاره، فإنهم يتعاونون على إصلاح هذه الإساءة. فالصحابة انتقموا من ذلك الجار المؤذي بالدعاء عليه، وبسبه، واستقبحوا فعله؛ وهذا الفعل يستقبح عقلاً، فصاحب الإساءة لما سمع بأن المجتمع كله صار ضده، رجع عن غيّه، وكف أذاه عن جاره، وبهذا رجع الجار إلى بيته وقد أمن من إيذاء جاره.

لا يحق للجار أن يتصرف في ملكه بما يضر جاره

لا يحق للجار أن يتصرف في ملكه بما يضر جاره ومن ناحية الحقوق القضائية التي أشرنا إليها، يتفق الفقهاء على أن الجار يجب أن يراعي حرمة الجوار، وليس له التصرف في ملكه بما يضر جاره، وقالوا: لا يحق للإنسان أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، وكيف هذا؟ مثاله: أن يبني كنيفاً -أي: مرحاضاً- بجوار جدار جاره، فإذا كان الجدر مبنياً بالطين، فإن الجدران تتضرر بهذا، وإذا حفر بئراً في أرضه فجفت بئر جاره لاشتراك المراوي في البئرين، فإنه يحكم عليه القاضي بردم بئره ليعود الماء إلى بئر جاره. وكيف نعرف أنها جفت بسبب بئر الجار؟ يقول الفقهاء: نضع النفط -أي: الجاز- في بئر المشتكي، وننظر إلى ماء البئر الجديدة فإن وجدنا ريح الجاز فيها، فهذا يدل على أن الماء يأتي من البئر القديمة. ومن قبل كان كل بيت يحفر بلاعة له، فلو أنه حفر بلاعة فتسربت على بئر الجار وأفسدت ماءها، وجب عليه أن يدفنها. وهكذا لا يحق للجار أن يجعل في بيته مدبغة فيتأذى الجيران بالرائحة، ولا يجوز للقصار يدق الثياب ويزعج جاره، ولا ينشئ مكائن تهز جدران بيت الجار، فلا يحق للشخص أن يحدث في ملكه الخاص ما يضر بجاره، وإذا خرج غصن شجرة جاره إلى هوائه، فليرده برفق ثم يعلم صاحب الغصن بذلك، فإذا لم يرده فحينئذٍ يأتي حكم آخر. نأتي إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: ما زال يوصيه جبريل بالجار حتى كاد الجار أن يرث؛ لأن الجار لو جعل له حق في ملكك مثل القريب من النسب، فهذا كأنه له نصيب من الميراث. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لألقين بها بين أكتافكم. فهذا جدارك بنيته في ملكك، ومن مالك الخاص، ثم جاء جارك ليبني، فلم يبن جداراً بجهتك، واكتفى بالجهات الثلاث، وأراد أن يضع الخشب في جدارك، وذلك بوضعها بالعرض من جداره الداخلي إلى جدارك، فإذا كان جدارك يحتمل ذلك؛ فلا يحق لك شرعاً أن تمنعه، بل اتركه يضع خشبه على جدارك. قال الحنابلة: ويجوز هذا ولو كان هذا الجار مسجداً إذا كان جداره قوياً، فيجوز حينئذٍ أن تضع خشب سقفك على جدار المسجد وهو بيت الله، أما إذا كان الوضع يضعف الجدار، أو يضر به، فـ (لا ضرر ولا ضرار)، فهذا الحديث يكاد يورث الجار، حيث جعل له حقاً في جدار الجار بوضع الخشب.

علاج الشقاق بين الزوجين

علاج الشقاق بين الزوجين نعود إلى قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [النساء:36] الآية، ما هي الآيات التي قبلها؟ هي في أمور الزوجين، قال الله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34] ثم قال سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]، وأنبه الأزواج أن قوامة الرجال على النساء ليست قوامة السلطة والجبروت، ولكن هي قوامة إحسان ورعاية وضمان وكفالة وإنفاق. وقال الله سبحانه وتعالى عن النسوة: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، والنشوز: الارتفاع والتعالي، فتتعالى على الوفاء بحق زوجها، فبادروا بوعظهن قبل أن يقع شيء، والموعظة هي التخويف من اليوم الآخر، والتي ينفع فيها التخويف هي المرأة المؤمنة، وهذا يجعلنا نتساءل كيف نختار الزوجة؟ جاء في الحديث: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فإذا اخترتها على مبدأ (لدينها)؛ فحينما تقع منها زلة أو تأنف في موقف، فإنك تعظها، فدينها يحثها على الاتعاظ، فإذا اخترتها على مبدأ دينها كان ذلك عوناً لك عليها، وقال الله في وصف المؤمنات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34]. فأمر الله سبحانه وتعالى بوعظ المرأة الناشز على زوجها، وإذا لم تنفع الموعظة فليهجرها في المضاجع، فلا يهجرها إلى بيت ثان أو غرفة ثانية، لا، بل في نفس الفراش؛ لأن البعد قد يزيد الجفا، ولا يتيح الفرصة للمصالحة، لكن اهجرها في نفس الفراش غير بعيد. والهجر أكبر سلاح يوجه للمرأة؛ لأنه يقفل سلاحها ضد الرجل، وهي لا تملك إلا ذلك فقط، فإذا كان ذلك لا يغري الرجل، واستطاع أن يستغني عنه، بطل سلاحها، وأصبحت معطلة، فهي طعنة في الصميم، فحالاً ترجع. فإذا لم ينفع هذا الهجر، وكان سبب النشوز قوياً، فأمر الله بضربهن، لكن أي ضرب؟ ليس كما يضرب الحيوان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم هو يضاجعها في آخر يومه!) لكن المشروع الضرب الذي ينبهها فقط، فإذا لم ينفع ذلك بعثوا حكمين، وقوله سبحانه: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]، والغيب هو كل ما غبت عنه، فهي تحفظ نفسها في غيبتك، وتحفظ مالك، وأهلك، وأقاربك، وأولادك، وخدمك، فكل ذلك تحفظه المرأة الصالحة بما حفظ الله. قال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35] في الآية السابقة قال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]، فعند إعطائك السلطة، واستخدامك للحق الذي أعطاك الله إياه من القوامة والموعظة والهجر والضرب، ذكرك الله بأنه علي كبير، يعني: بقدر ما تتعالى على المرأة، وبقدر ما تملك أن تتصرف هذا التصرف، فالله أعلى منك، وسلطة الله عليك أقوى من سلطتك عليها. ولما قال عن الحكمين: (إن يريدا إصلاحاً)، فهل الإرادة أمر ظاهر، أو أمر خفي؟ أمر خفي، والذي يعلم حقيقة إرادة الإصلاح هو الله، ولذا قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35]، فقوله: (عَلِيمًا خَبِيرًا) تتناسب مع النية وإرادة الإصلاح، وقوله: (عَلِيًّا كَبِيرًا) تتناسب مع القوامة والنصح والهجر والضرب. ثم بعد هذا ذكر الله الزوجين أثناء الخصومة والشقاق والنزاع بينهما بحق الله، وبحق الوالدين، وبحق الأقارب، وبحق الجيران، وبحق الأيتام والمساكين، وابن السبيل والصاحب بالجنب، وهذا التذكير حتى لا تطغى قضايا الزوجين من الشقاق والنزاع على الحقوق العامة لله وللآخرين، فذكر هنا الوصية بالجار. والله أسأل أن يوفقني وإياكم والمسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

§1/1