دروس للشيخ عبد الله الجلالي

عبد الله الجلالي

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله إن الجهاد في سبيل الله عز وجل هو ذروة سنام الإسلام، ولا عزة للإسلام والمسلمين إلا به، ولا قيام للأمة إلا بإقامته، وما ذل المسلمون إلا يوم أن تركوه، وركنوا إلى أعدائهم. وللجهاد حالات، وله أحكام ينبغي لكل مسلم معرفتها.

مكان نزول سورة الأنفال وسبب نزولها

مكان نزول سورة الأنفال وسبب نزولها بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1 - 19]. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أحبتي في الله! هذه هي الحلقة الثانية من: "دروس من القرآن" أسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، ولقد كان الحديث في الحلقة السابقة عن أول سورة النور، وكيف حافظ الإسلام على الأخلاق والفضيلة، وحارب الرذيلة، لكن بناءً على رغبة إخوتي الذين يرون الجهاد يقرع أبواب الناس في هذه الأيام، آثرت أن يكون هذا الحديث في هذه الحلقة الثانية عن الجهاد في سبيل الله متمثلاً في جزء من سورة الأنفال التي نزلت يوم بدر، والتي تتكلم عن الجهاد من أولها إلى آخرها، وبناءً على ذلك ستكون هذه الحلقة -إن شاء الله- عن بعض سورة الأنفال، وعن الجهاد في سبيل الله. ثم أيضاً بناءً على رغبة كثير من الإخوة في ألا نكثر في ذكر معاني الكلمات اللفظية والإعرابية ليكون التفسير موضوعياً وشاملاً نستجيب لذلك إن شاء الله، علماً أن تحليل الكلمات اللغوية هو منطلق من منطلقات فهم كتاب الله عز وجل، لكن ربما أنه قد يحتاج إلى وقت أطول. سورة الأنفال هذه سورة كلها مدنية، إلا أن هناك خلافاً في سبع آيات، ومنها قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، قال بعض المفسرين: إنها نزلت في مكة يوم الهجرة، ولا شك أن هذه الآيات نزلت في شأن الهجرة؛ لأنها تصف موقف المشركين بالنسبة للهجرة، لكن لا يمنع أن تكون نزلت في المدينة؛ لأن الهجرة هي الهجرة إلى المدينة نفسها، فلا يمنع أن تكون تأخرت عن الموقف بضعة أيام، إلا أن الذين يقولون إنها مكية يقولون: نزلت في ليلة الهجرة في مكة لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن مؤامرة القوم في دار الندوة، وسوف نتعرض -إن شاء الله- لمؤامرتهم ضد الإسلام في دار الندوة في ليلة الهجرة حينما اتفقوا وجاءهم الشيطان، ودخل عليهم في صورة شيخ نجدي، وكانوا يتداولون الرأي: هل نقتل محمداً؟ هل نخرجه من مكة؟ هل نحبسه ونكبله بالأغلال؟ فقال أبو جهل: أرى أن تقتلوه، وصوب الشيطان الرأي الذي يرى قتله، وأن يُؤتى برجل من كل قبيلة، ويعطى سيفاً حاداً، ويقتلون محمداً جميعاً، ويستريح الناس من شره، ويتفرق دمه في القبائل، فلا يطالب بنو هاشم ولا بنو المطلب بدمه، وتدفع لهم الدية، فكشف الله تعالى هذه المؤامرة، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. ولا يمنع أن تكون نزلت في المدينة. أما الآيات التسعة والستون البقية فبإجماع علماء المسلمين أنها نزلت في المدينة بعد موقعة بدر الكبرى التي أكرم الله عز وجل فيها الإسلام والمسلمين، ورفع فيها راية الإسلام، وبالرغم من أنها أول معركة في تاريخ الإسلام، فما كانت هناك غزوة مثل غزوة بدر، فهي الغزوة الأولى التي وقف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة.

تركيز سورة الأنفال على الجهاد في سبيل الله عز وجل

تركيز سورة الأنفال على الجهاد في سبيل الله عز وجل نجد أن في هذه السورة تركيزاً على تقوى الله عز وجل، وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى نزع العاطفة من قلوب المسلمين على هؤلاء الكافرين، حتى قال الله تعالى في هذه السورة: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال:57]، أو (فشرذ بهم) وهي قراءة سبعية، أي: قطعهم تقطيعاً، حتى الذين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أسرى منع الله عز وجل أن يكون هناك أسرى لنبي من الأنبياء حتى يثخن في الأرض، أي: يكثر القتل؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي. وسيأتينا -إن شاء الله- في قصة الأسرى في آخر السورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع كبار الصحابة وقال: (عندي سبعون أسيراً ماذا أفعل بهم؟) فمنهم من قال: يا رسول الله! هم إخواننا وأبناء عمنا نأخذ منهم فداء، فقام عمر وقال: يا رسول الله! أرى أن تسلم لكل واحد منا قريبه ليقطع عنقه الآن، حتى قال بعض الصحابة: أرى يا رسول الله! أن نجعلهم بين جبلين فنحرقهم بالنار، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما نظر إلى هذين الرأيين، وإنما أخذ الفداء، حتى أنزل الله تعالى العتاب لرسوله صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، ثم قال بعد ذلك: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، أي: لولا أن الله تعالى غفر لأهل بدر لأصابكم العذاب؛ إذ كيف تأخذون الفداء من الأسرى مع أنها أول معركة في التاريخ، ويجب على المسلمين إذا كانت معركتهم الأولى مع عدوهم أن يشردوا الكافرين، وأن يقطعوهم تقطيعاً. ولذلك يقول المفسرون: إن الله تعالى لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال وبين التوبة، مع أنه لم تنزل سورة من القرآن إلا وفي مقدمتها (بسم الله الرحمن الرحيم) يقولون: حتى لا تكون هناك رحمة في قلوب هؤلاء المؤمنين لهؤلاء الكافرين؛ لأن سورة الأنفال نزلت في القتال، وسورة التوبة نزلت أيضاً في القتال، إلا أن سورة الأنفال نزلت تتحدث عن موقعة بدر، وسورة التوبة تتحدث عن غزوة تبوك مع أحداث أخرى. وعلى كلٍ نقول: هذه السورة جلها نزل بعد غزوة بدر الكبرى مباشرة، ونزل في بدر بعض الآيات منها.

تفسير الآية الأولى من سورة الأنفال

تفسير الآية الأولى من سورة الأنفال

اختلاف المسلمين على الغنائم وذكر قسمتها

اختلاف المسلمين على الغنائم وذكر قسمتها وأول ما يتبادر للذهن أن الآية الأولى تشير إلى خلاف حصل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس غريباً أن يحصل الخلاف؛ لأنها أول معركة، والمسلمون ما زالوا جدداً على القتال في سبيل الله وعلى الغنائم، والمسلمون الذين هاجروا فقدوا أموالهم كلها في مكة؛ فقد هاجروا بأنفسهم وما أخذوا شيئاً من أموالهم، وإنما عاشوا فقراء في المدينة، وكانوا من أثرى الناس في مكة، فحصل شيء من الخلاف في غنائم بدر، فإنه لما انتهت المعركة اختلف بعض المسلمين في الغنائم؛ لأن قوماً استمروا في المعركة، وصاروا يحرسون موقع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرقة أخرى أخذت الغنائم، فلما انتهت المعركة قال بعضهم لبعض: أنتم أخذتم الغنائم، ونحن نحرس ثغور المسلمين، وقالت الأخرى: نحن الذين حصلنا عليها، فأنزل الله تعالى قرآناً يزيل فيه هذا الخلاف، وأن هذه الغنائم ليست ملكاً لكم، وإنما هي لله ولرسوله، وذلك قد يحتمل أنها قبل أن تباح الغنائم لهذه الأمة، أو بعدما أبيحت الغنائم لهذه الأمة، لكن قسمتها أجلت حتى يحكم الله تعالى في ذلك.

كيفية قسمة الأنفال

كيفية قسمة الأنفال ولذلك نجد في سورة الأنفال آيتين ظاهرهما التعارض في بادئ الأمر، لكن الحقيقة أنه ليس هناك تعارض بينهما. فالآية الأولى فيها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، هذه الآية تعطينا أن الأنفال -أي: الغنائم- ترجع إلى الله وإلى رسوله، لكن في الآية الأخرى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] إلى آخر الآية، ظاهرها خلاف الآية الأولى، ولذا قال المفسرون: هل هذه ناسخة لتلك، أو تلك ناسخة لهذه، أو نوفق بينهما؟ فمنهم من قال: إن هذه هي المنسوخة، وهو الأقرب؛ لأن هذه نزلت قبل تلك، بقطع النظر عن الترتيب في المصحف، ومنهم من قال: ليس بينهما تعارض؛ فلا حاجة إلى النسخ، وإنما هذه توقف قسمة الغنائم، وتجعل الأمر لله ولرسوله، وتلك تبين كيف تقسم الغنائم حسب أمر الله عز وجل وقسمة رسوله، وبهذا لا يبقى إشكال في معنى الآيتين.

تعريف الأنفال

تعريف الأنفال وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] النفل أصله في اللغة: الزيادة، ويُسمى ولد الولد نافلة، كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، أي: زيادة. لكن النفل في الحقيقة هو: مال يعطيه قائد المعركة لبعض المقاتلين زيادة وتشجيعاً، إلا أنه صار يُطلق على الغنائم. قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، أي: قل لهؤلاء: الله تعالى هو الذي يقسم، وسيقسم هذه الأنفال.

أهمية إصلاح ذات البين

أهمية إصلاح ذات البين ثم قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، أي: أصلحوا الخلاف الذي حدث، ولماذا ركز القرآن على الإصلاح؟ A لأنها أول معركة، والدولة حديثة النشء، ولو بدأ الخلاف في دولة جديدة لكانت ثغرة يدخل منها العدو إلى الإيقاع بالأمة الإسلامية، لكن الله سبحانه وتعالى أمر هنا بالإصلاح حتى لا توجد ثغرة؛ لأن الخلاف دائماً إنما يحدث بسبب المال أو بسبب العدو، فهذان أمران يحدثان الخلاف دائماً؛ فإما أن يندس العدو داخل صفوف المسلمين فيفرق المسلمين، وإما أن يكون هناك مال يختلف عليه الناس فيكون سبباً للفرقة بين الناس. أما لو كان الخلاف في البحث عن الحق فذلك لا يضر، أما الخلاف بالنسبة للمال أو بالنسبة لتدخل عدو خارجي ليفرق صفوف المسلمين إلى قسمين فهذه هي المشكلة، ولذلك دعا الله تعالى المسلمين إلى إصلاح ذات البين قبل أن يفكروا في قسمة الغنائم، ودائماً الشيطان يدخل من هذه الهوة وهذه الثغرة التي يحدثها المال أو يحدثها العدو في صفوف المسلمين.

حكم الصلح مع الكافرين

حكم الصلح مع الكافرين إذاً: لابد من إصلاح ذات البين، ولابد أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين، لكن هل هذا الإصلاح يقوم بين المؤمنين أنفسهم؟ أو يقوم بين المؤمنين والفاسقين والكافرين؟ A أما مع الكافرين فليس هناك إصلاح، بل لابد أن تكون حرب شعواء بين المسلمين وبين عدوهم لا تهدأ أبداً حتى يكون الدين كله لله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالإصلاح إذا كان؛ لأن الاختلاف بين المسلمين في أمور جزئية، أما إذا كانت هناك كليات أو كانت هناك أمور هامة يختلف عليها المسلمون الصالحون والفاسقون ثم يأتي واحد ليتدخل ليصلح بين هؤلاء، فنقول: لا يقبل الإصلاح في مثل هذه الحال، وإنما الإصلاح يجب أن يكون بين المؤمنين. وعندنا آيتان في القرآن: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. والثانية: قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فكيف نفعل بهذا العموم وهذا الخصوص؟ الجواب: نقول: الآية التي فيها الإصلاح بين الناس نحملها على الآية الخاصة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. إذاً: الإصلاح ليس بين الناس عموماً، وإنما بين الناس المؤمنين أنفسهم. وعلى هذا نقول: إذا كان الخلاف على هذا الدين ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فلا نقبل أي وساطة ولا نقبل أنصاف الحلول وأرباع الحلول في هذا الأمر، ولا نقبل إلا أن يكون الدين كله لله، ونرفض أي مبدأ أو أي ثغرة تريد أن تفرق بين المسلمين، أما إذا كان هناك خلاف بين المسلمين على أمر من الأمور الجزئية التي لا تؤثر على الدين فيجب الإصلاح في مثل هذه، وهذا هو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، وهو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، ونحمل عليه الآية العامة في قول الله تعالى: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فإذا كان الإصلاح بين الناس لمصلحة هذا الدين فنقبله، وإذا كانت وساطة بين الكفار والمسلمين حتى يحصل تقارب فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يعتبر التقاءً مع الجاهلية في منتصف الطريق، والإسلام لا يقبل أي مفاهمة أو أي مفاوضة أو أي مساومة على دين الله سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]؛ أمرهم بهذا لأنهم مؤمنون، وكلهم يسعون إلى الإصلاح وإلى الخير، لا إلى اختلاف جزئي في أمر من الأمور.

وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم

وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1]، ومن طاعة الله ورسوله إصلاح ذات البين بين المسلمين المؤمنين. وقوله: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، لا شك أنهم مؤمنون، ولكن قال: (إن كنتم مؤمنين) ليثير غريزة الإيمان في نفوس الناس، كما تقول لواحد من الناس: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حماس الرجولة فيه، وكذلك أقول له: إن كنت مسلماً فدافع عن دينك ضد هؤلاء الطغاة والفجرة الذين يحاولون هدم هذا الدين، فأنا أعرف أنه مسلم وهو يعرف أنه مسلم، لكن أريد أن أحرك غريزة الإسلام في قلبه.

ذكر صفات المؤمنين كاملي الإيمان

ذكر صفات المؤمنين كاملي الإيمان ثم بعد ذلك حصر الله تعالى المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، فهناك إيمان ناقص، وإيمان كامل، فالإيمان الناقص هو إيمان عامة الناس، لكن الإيمان الكامل له ميزات يجدها الإنسان في نفسه في مواقف وفي مواقع، ذكرها الله عز وجل في هذه الآية:

وجل القلوب من ذكر الله

وجل القلوب من ذكر الله وأولها: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): فالمؤمن كامل الإيمان تجده حينما يسمع ذكر الله يهتز قلبه، ويشعر بقشعريرة في جسده؛ حتى كأنه لا يملك نفسه، وهذه تعتبر مقياس الإيمان, ولذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بمثل هذا الموقف، فإذا شعر الإنسان بهذه القشعريرة فعليه أن يسأل الله؛ لأنها ساعة قوي فيها الإيمان وزاد وارتفع.

ازدياد الإيمان عند سماع القرآن

ازدياد الإيمان عند سماع القرآن الميزة الثانية: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا): إذا سمع القرآن يزيد عنده الإيمان، ويخشع قلبه، وكأنه لم يسمع هذا القرآن قبل أن يسمعه في هذه اللحظة، ولذلك حينما يقرأ القرآن بصوت جميل وبترتيل وبخشوع يزيد الإيمان عند هذا الإنسان، وهذه علامة الإيمان، فالمؤمن هو الذي يشعر بهذا، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

التوكل على الله

التوكل على الله الميزة الثالثة: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): كامل الإيمان عنده اعتماد على الله سبحانه وتعالى، وليس عنده اعتماد على أحد من البشر، فأياً كان هذا البشر، ومهما أعطي من القوة، ومهما كان له من السطو، ومهما أوتي من الحنكة والذكاء والعلم، فلا تعتمد عليه، وإنما تعمد على الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. لم يقل: يتوكلون على ربهم، والفرق بين قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وبين: (ويتوكلون على ربهم) أن فيه تقديم ما حقه التأخير؛ يقول علماء اللغة: هذا يدل على الحصر، مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، أصلها: نعبد إياك، أو نعبدك، فتقديم الجار والمجرور على الفعل المتعلق به هو تقديم للحصر، أي: لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون إلا على الله، مهما كان الجو مظلماً ومكفهراً، ومهما أوتي البشر من قوى مادية ضاربة في الأرض يحسبها الإنسان تدفع شيئاً من قضاء الله وقدره، لكنها في الحقيقة لا تغني من الله عز وجل شيئاً، فإذا اعتمد الإنسان على قوة البشر أو على قوته أو على أي قوة دون الله عز وجل، فهو لا يمكن أن يستفيد من هذه القوة. إذاً: لابد أن يتوكل العبد على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله عز وجل، وإذا توكل على غير الله فإن الله تعالى يرفع يده عنه، وإذا توكل على الله تعالى فإن الله كافيه، قال عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]. إذاً: الله تعالى لا يكفي إلا من توكل عليه، أما من توكل على غير الله من قوى البشر فإنه مغلوب لا محالة.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة فمن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، أي: يأتون بالصلاة مستقيمة، والصلاة يا إخوان! هي عمود الإسلام، فمهما عمل الإنسان من الطاعات ولكن كانت الصلاة غير مضبوطة وغير صالحة؛ فإنه لا يقبل منه هذا العمل، ولذلك أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة. وليست الصلاة هي الحركات الآلية التي يؤديها بعض الناس دون أن تصل إلى القلب، وإنما هي الصلاة المستقيمة، ولذلك ما قال الله تعالى: يصلون، وإنما قال: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، فالصلاة كما نعرف هي عمود الإسلام، وتركها ردة عن الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تركها فقد كفر)، بل إن الله تعالى أمرنا بأن نقاتل كل من ترك الصلاة حتى يعود إلى الصلاة، ونقاتله قتال الكافرين لا قتال العصاة، فقال عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. إذاً: ترك الصلاة مع إنكار وجوبها ردة بإجماع علماء المسلمين، وعلى رأي جمهور علماء المسلمين: إذا كان يعتقد وجوبها ولكنه يتركها تهاوناً فإنه يقتل؛ فاتفقوا على أنه يقتل تارك الصلاة إذا لم يتب، واختلفوا: هل يقتل ردة أو يقتل حداً؟ فالذين قالوا: إنها ردة وكفر قالوا: يقتل ردة، ويترتب على هذا أنه لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث إلى غير ذلك.

الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، أي: أنهم من أهل الزكاة والبذل أيضاً. ولما كانت الآيات سوف تتحدث عن الجهاد جاء الإنفاق؛ لأن الجهاد يكون بالمال كما يكون بالنفس، ولربما الرجل قد يبخل بنفسه ودمه فلا يقدمه في سبيل الله، لكنه يجود بماله، فيقوم هذا المال بسد ثغرة من ثغرات الجهاد في سبيل الله، كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن لو بخل الناس بأنفسهم وبأموالهم جميعاً عن الجهاد في سبيل الله، فهذه هي التهلكة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فلابد من بذل المال. وقال الله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، وأصحاب الصلاة منهم. وقال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، يعني: ليسوا مؤمنين أدعياء فقط، لكنهم مؤمنون حقاً، و (حقاً) هنا مصدر لفعل محذوف، أي: أحق الله ذلك حقاً، فأصبح أمراً مؤكداً. إذاً: هذا الذي جمع هذه الصفات هو المؤمن. فإذا أردت يا أخي! أن تعرف مقياس الإيمان عندك فزن بنفسك بهذه الآية: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، فإذا كانت هذه الصفات موجودة فيك فأنت -إن شاء الله- من المؤمنين حقاً، وذلك لا يمنع أن تكون هناك صفات أخرى مطلوبة أيضاً في المؤمن، من ترك ما حرم الله وفعل ما أوجب الله، لكن هذه الصفات المذكورة مقياس واضح لكل واحد من الناس.

الإرهاصات بين يدي معركة بدر

الإرهاصات بين يدي معركة بدر ثم بعد ذلك بدأ الحديث عن موقعة بدر، وكأن الآيات السابقة مقدمة لترقق قلوب المؤمنين، ولترفعهم إلى الجهاد في سبيل الله. أما موقعة بدر الكبرى -وهي أول موقعة في تاريخ الأمة الإسلامية- فبدأ الحديث عنها في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، وعندنا هنا مشبه ومشبه به، فالمشبه: صدق إيمان أصحاب النبي وتفاوتهم في الدرجات، والمشبه به: إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد، وهذا أمر شاهده المسلمون، وشاهده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك فيه، إذاً: المشبه هو: أن هؤلاء المؤمنون لهم درجات عند ربهم، يعني: إذا كان عند أحد شك بأن للمؤمنين درجات عند الله تعالى في الآخرة فليقطع الشك؛ لأن هذا شيء ملموس رآه المسلمون بأعينهم وعايشوه، وهو أن الله تعالى أخرج المؤمنين من بيوتهم وأخرج معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد. وأداة التشبيه هي الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال:5]، أي: بالشيء الثابت الذي لا شك فيه. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ولماذا كره المؤمنون القتال في معركة بدر؟ ما كان المؤمنون جبناء، بل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا شجعان، فقد تركوا الوطن وجاءوا من مكة إلى المدينة، وتركوا الأهل والعشيرة، وأُوذوا في سبيل الله، وكانوا في الحياة المكية يتمنون الجهاد في سبيل الله، كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77]، وهذا في الحياة المكية، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك.

سبب غزوة بدر

سبب غزوة بدر إذاً: لماذا فرض القتال في معركة بدر حتى كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون؟ A لأنها معركة خرجوا لها على غير استعداد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع بأن عيراً قدمت من الشام بقيادة أبي سفيان، وكان المسلمون المهاجرون قد تركوا أموالهم في مكة يتمتع بها المشركون، بل وتركوا بيوتهم وأولادهم وأهليهم هناك، فأراد المسلمون أن يعوضوا عن هذا المال الذي تركوه بمكة من هذه العير القادمة من الشام إلى مكة، وكانت تمر بالمدينة، فأرادوا أن يأخذوا هذه العير، وكان فيها مال كثير، وكان يقودها أبو سفيان، وكان من أدهى العرب. فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً من المسلمين يريد أخذ العير، لا يريد القتال، وليس معهم سلاح إلا سلاح دفاع، لكن الله تعالى يريد أن يكون ذلك قتالاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسلمين يكرهون هذه المعركة، يعني: يخافون منها، ليست كراهية نفسية، وإنما هي كراهية خوف؛ لأنهم كانوا على غير استعداد.

موقف الصحابة رضي الله عنهم من المشاركة في معركة بدر

موقف الصحابة رضي الله عنهم من المشاركة في معركة بدر ولما سلمت العير جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في بدر فاستشارهم وقال: (أروني ماذا أفعل؟ فقالوا: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للقتال، وليس معنا سلاح، ثلاث مرات، فانتبه سعد بن معاذ رضي الله عنه -وكان زعيم أهل المدينة- فقال: يا رسول الله لعلك تعنينا؟ قال: نعم) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بايعه أهل المدينة على الدفاع لا على الهجوم. قال: (والله يا رسول الله لقد آمنا بك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق)، وهذه المقالة لابد أن يقولها كل واحد حينما يسمع داعي الجهاد في سبيل الله تحت راية المؤمنين، ثم قال: (وإنا والله لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فوالله! لو وجهتنا إلى برك الغماد أو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك ما تخلف منا رجل واحد)، هذا هو موقف المسلم حينما ينادي منادي الجهاد في سبيل الله. ثم قال (والله يا رسول الله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر من رجل ما كان بينه وبينه اتفاق، وهو يمثل جميع الأنصار وهم الأكثرية، فعزم رسول صلى الله عليه وسلم على القتال، ثم قضى ليلة بدر وما قبلها من الليالي بين ركوع وسجود لله سبحانه وتعالى. هكذا القيادة، فيجب أن تتعرف إلى الله تعالى في ساعة الشدة، فلا ترقص وتغني وتأتي بالأشياء التي حرم الله عز وجل وتطرب للمعركة تحت أصوات الراقصات والمغنيات، كما يُفعل في أيامنا الحاضرة! فأمة الإسلام تعرف الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي ساعة الشدة يزيد تعرفها على الله عز وجل، بل هذه صفة من صفات المشركين في الجاهلية قبل الإسلام، فإنهم كانوا إذا خافوا وإذا هبت ريح عاصف فزعوا إلى الله عز وجل، ودعوا الله مخلصين له الدين، فقارن يا أخي! بين هذا وبين حال الناس في أيامنا الحاضرة، فالعدو يطوق البلاد الإسلامية من كل جانب، ومع ذلك لا يلتفتون إلى أفكارهم ومذاهبهم ولهوهم ولعبهم حتى في مثل هذه الظروف.

وجوب الرجوع إلى الله في الشدائد

وجوب الرجوع إلى الله في الشدائد والله لو رأينا في هذه الأشهر التي مرت بنا ونحن نرابط أمام أقسى عدو وأشرس عدو من أعداء الله عز وجل، لرأينا أن ما أحدثه الناس من معاصي الله أضعاف ما أحدثوه في السنوات الماضية! فالرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ويريه في المنام أنه سوف ينتصر، ومع ذلك يقضي ليلته التي تسبق المعركة راكعاً وساجداً لله عز وجل، يتوسل بين يدي الله، ويقول: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، حتى يأتيه أبو بكر رضي الله عنه عند الفجر، فيقول: (يا رسول الله! إن الله ناصرك ومنجزك ما وعد) وكان قد سقط رداؤه من شدة رفع يديه بين يدي الله عز وجل، فكان أبو بكر يضع رداءه على كتفيه ويقول: (يا رسول الله! امض حيث أراك الله). هذا هو الفرق الذي جعل الهزيمة تحل بالمسلمين اليوم، فإن النصر ينزل من عند الله عز وجل، بل إن الله عز وجل أنزل خمسة آلاف من الملائكة مقابل ألف رجل جاءوا كافرين، مع أن واحداً من الملائكة استطاع أن يحمل ديار قوم لوط ويرفعها فوق السماء إلى أن سمعت الملائكة صياح ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها، فواحد يستطيع أن يهلك هذه الأمة كلها بأمر الله عز وجل، لكن الله سبحانة وتعالى يريد أن يبين أن الأسباب ولو كانت كثيرة لا تغني من الله عز وجل، فأنزل خمسة آلاف من الملائكة، وأيضاً أنزلهم مسومين، أي: مزودين بالأسلحة. فما هو الفرق؟ الفرق: هل يرجع الناس في ساعة الصفر وفي ساعة الشدة إلى الله عز وجل أو يتمادون في ضلالهم؟ وهل يتوب الناس من معصية الله عز وجل أو يبقون على ما حرم الله، أو يحدثون أشياء جديدة؟ فالربا ينتشر في بلاد المسلمين حتى في ساعة الشدة، والأغاني لا تتغير، والمسرحيات، وكأننا نعيش حياة سلم في هذا العالم الإسلامي الذي نعيش معه اليوم. إذاً: لابد من التغيير، والله سبحانه وتعالى ربى المسلمين قبل أن يتحدث عن هذه المعركة؛ ليعلم المسلمون أنه لابد من التربية قبل المعركة، ولابد من العودة إلى الله عز وجل قبل المعركة، ولابد من التضرع بين يدي الله عز وجل قبل المعركة، والله تعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]، فإذا كان الأمر كذلك فإن نصر الله أبعد عن هؤلاء الناس مما بين المشرق والمغرب؛ حتى يعود هؤلاء الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ولو -على الأقل- في ساعة الشدة، وكان المطلوب أن يتعرفوا إلى الله في ساعة الرخاء قبل ساعة الشدة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن نطالب المسلمين اليوم في وقت الشدة أن يعودوا إلى الله عز وجل، وأن يهجروا المحرمات، وأن يتضرعوا بين يدي الله عز وجل إذا كانوا يريدون النصر، أما إذا كانوا يفكرون في نصر يأتي من غير الله عز وجل فهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو الخلل في التوحيد فضلاً عن الأعمال.

المسلمون في بدر بين القتال والغنيمة

المسلمون في بدر بين القتال والغنيمة

سبب كراهة بعض المؤمنين للقتال في غزوة بدر

سبب كراهة بعض المؤمنين للقتال في غزوة بدر وهنا يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]. فدارت المعركة وكان المسلمون كارهين، ولابد أن يأتي نصر الله؛ لأن هؤلاء المسلمين عرفوا من يقاتلون، وعرفوا إلى من يرجعون وإلى من يتضرعون، حتى قال أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة وهو يصفها: (والله إنا نرى الرأس يقطع ونرى اليد تقطع ولا نرى من هو الذي يقطعهما). لقد أنزل الله عز وجل ملائكة، وليس نزول الملائكة محصوراً على المرسلين عليهم الصلاة والسلام وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً في بدر، بل إن الله تعالى يقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران:13]، وهذه الآية دليل على أنها خالدة إلى يوم القيامة. وهنا يقول الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ما كرهوا القتال، وإنما خافوا لأن السلاح غير موجود، ولا تعجب أن يكون هناك خوف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي؛ ولأنه ليست لهم تجارب مع عدوهم، لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يغير معايير الحياة، ونواميس الحياة التي ألفها الناس، فالعدد لا قيمة له والعدة لا قيمة لها إذا أنزل الله وجل النصر من السماء، ولذلك هم لا يكرهون القتال بل كانوا يتمنون القتال، وكانوا يستعجلون القتال وهم في مكة، والله تعالى يقول: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي: حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى. ثم قال عز وجل: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، أي: تبين أنه لابد من القتال، وبعضهم كان يجادل، لكن ليس الجدال الحاد الذي يفرق الصف، وإنما جدال نقاش حيث كانوا يقولون: يا رسول الله! نحن خرجنا للعير وليس معنا سلاح، فكيف نقاتل العدو؟ والله تعالى يقول: لابد أن تقاتلوا العدو. وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، أي: بعدما اتضح أنه لابد من القتال، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، أي: كانوا يظنون أنها مهلكة، فكانوا يقولون: هؤلاء ألف من أهل مكة مزودون بالسلاح، ونحن ثلاثمائة ليس معنا سلاح، فإذا واجهناهم فهذا هو الموت، لكن الله تعالى يعلم أن هذا هو الحياة؛ لأن الحياة تكون في الجهاد في سبيل الله، وبمقدار ما يعطل المسلمون الجهاد في سبيل الله يكون لهم نصيب من الموت.

وعد الله عز وجل المسلمين إحدى الطائفتين

وعد الله عز وجل المسلمين إحدى الطائفتين وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين، فهناك عير أقبلت من الشام وفيها مال، وليس فيها قتال، وهناك قتال من عدو أقبل من مكة مزود بالسلاح، والله تعالى أخبر أنه لابد من واحدة، وحينما يُخير الإنسان بين القتال وبين غنيمة بدون قتال فبطبيعة البشر يختار غنيمة بدون قتال، فكان المسلمون يتمنون ويظنون أنهم سوف يجدون العير، ثم بعد ذلك يأخذون أموالها ويرجعون إلى المدينة يتمتعون بهذا المال. لكن هذا غير مراد؛ لأن الله تعالى يريد أن يقع الحق هنا، ويريد أن تنطمس معالم الباطل التي طالما انتفخت في الأرض، ورفعت رءوسها، وأحاطت حتى بكعبة الله عز وجل، فلابد أن ينحط الباطل ويرتفع الحق في مثل هذا الموقف، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال:7]، أي: واذكروا (إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)، إما العير أو النفير، والنفير هو: الجيش الذي قدم من مكة، {أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، يعني: سيحصل نصر بمعركة أو سيحصل عير بدون معركة، فماذا سيتمنى الناس؟ {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} [الأنفال:7]، يعني: الذي لا يحتاج إلى قتال ولا يحتاج إلى سلاح هو الذي يتمنونه؛ لأن معنى الشوكة السلاح. (وَتَوَدُّونَ)، يعني: ترغبون، فالإنسان له رغبة لكن لله سبحانه وتعالى إرادة هي التي تنفذ لا إرادة البشر، والله تعالى يريد أن تكون المعركة حتى تنقمع هذه الشوكة، وحتى تنكسر هذه الشوكة، وحتى يبطل مفعول الكفر الذي رفع رأسه في هذه الأرض، وحتى يرتفع الحق.

إحقاق الله عز وجل الحق وإبطاله للباطل

إحقاق الله عز وجل الحق وإبطاله للباطل يقول الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال:7]، أي: يريد الله تعالى أن يقع ما يريد، ولابد أن يقع ما يريد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله غالب على أمره، ولابد أن يكون القتال حتى تنطمس معالم الكفر. قال سبحانه: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]، الكافرون دائماً يفسدون في الأرض، ودائماً هم الذين يشوشون على المسلمين، ودائماً هم الذين يفتنون المؤمنين في دينهم، ودائماً هم الذين يستعملون أولياء لهم ولو من المسلمين من أجل أن يفتنوا هؤلاء الناس عن دينهم، فالله تعالى يريد أن يقمع هؤلاء وأولئك من المنافقين والكافرين وغيرهم، وترتفع كفة الإسلام، ولذا قال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]. والدابر معناه: المؤخر، أي لا يبقى للكفر على هذه الأرض مكان، ولا تبقى له دولة، ولا يبقى له أنصار ولا أعوان ولا دعاة ولا أحد يمده، وهذا هو الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وإرادة الله تعالى تنفذ، لكن لابد أن تنفذ على أيدي هؤلاء المؤمنين، فإن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يمتحن المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، يعني: هل تتحملون هذه الفتنة؟ ولابد أن تتحملوها. ثم يقول الله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ} [الأنفال:7]، يعني: مؤخر ونهاية {الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7]، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال:8]، أي: حتى يظهر الإسلام، وفعلاً ظهر الإسلام بعد موقعة بدر، وسقط الباطل، قال سبحانه: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8]، فالمجرمون بطبيعتهم لا يريدون أن يسقط الباطل ويرتفع الحق، وهم دائماً أعوان للباطل ضد الحق، وهم دائماً يريدون أن يرتفع الباطل وينخفض الحق، ولذلك تجد أنهم يستعملون كل الوسائل وجميع الطاقات حتى إنهم يقدمون أنفسهم وربما يقدمون أعراضهم أيضاً وأموالهم حتى ترتفع كفة الباطل وتنخفض كفة الحق، أما الله سبحانه وتعالى فهو يريد أن يسلط المؤمنين على الكافرين، حتى تنخفض كفة الباطل وترتفع كفة الحق.

استغاثة المؤمنين بالله عز وجل في بدر

استغاثة المؤمنين بالله عز وجل في بدر

التوجه إلى الله وحده

التوجه إلى الله وحده صار المسلمون يستغيثون بالله، وهذه النقطة الحساسة هي التي يجب أن ننتبه لها اليوم؛ فليس الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي وقف يسأل الله ويتضرع بين يدي الله ويقول: (اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، بل حتى المسلمون كانوا يستغيثون، وما استغاثوا بغير الله عز وجل، ولا فكروا في أن يمدوا أيديهم إلى فارس أو إلى الروم؛ لأن الإسلام لا ينتصر إلا بنصر الله عز وجل وبجهود المسلمين الذين يسلطهم الله تعالى على الكافرين. فالاستغاثة في مثل هذه الظروف الشديدة يجب أن تكون بالله عز وجل، والله تعالى يملك قلوب العباد، وهو الذي يملك نواصيهم فكلها بيده، كما قال عز وجل: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، وقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، سواء كان المستغيث من البشر أو من الملائكة؛ فالمكروب الذي وصل إلى ساعة الصفر وطوقه عدوه من كل جانب حينما يستغيث بالله عز وجل، فإن الله تعالى قريب مجيب. ولذلك لم يخيب الله عز وجل استغاثة هؤلاء القوم, إنما أسعفهم بملائكة، وأخبرهم أن هؤلاء الملائكة لا ينفعون ولا يضرون من دون الله. وهؤلاء الملائكة نزلوا من السماء، وكانوا خمسة آلاف ملك مدججين بالأسلحة، وواحد منهم يستطيع أن يقلب الأرض كلها رأساً على عقب بأمر الله عز وجل، ومع ذلك لا يُعتمد عليهم، ولذلك سيأتينا من أين يأتي النصر، فليس من الملائكة، وإنما هو من عند الله عز وجل. فالله تعالى يقول للمسلمين هنا (إِذْ)، أي: اذكروا أيها المسلمون! {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} [الأنفال:9]، أي: تطلبون الغوث من الله عز وجل وتقولون: يا رب! يا رب! يكررون هذه الدعوة، ويتهجدون في جنح الليل المظلم، ويتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويزيلون المنكرات حتى لا يبقى في الأرض منكر؛ لأن النصر لا ينزل مع وجود المنكرات في الأرض، لاسيما إذا كانت هناك منكرات كبيرة، ولاسيما إذا كان هناك دعاة للباطل والضلال قد رفعوا رءوسهم، ولاسيما إذا كانت هناك أماكن يحارب فيها الله عز وجل، وينتشر فيها الربا، ويُؤذى فيها الدعاة إلى الله تعالى، ويُؤذى فيها أولياء الله؛ وهم الذين تعتبر أذيتهم حرباً لله، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وهل يستطيع إنسان أن يحارب الله ويحارب الناس في آنٍ واحد؟! يستطيع، وإذا حارب الله وحارب الناس فسوف يسلط الله عز وجل عليه هؤلاء الناس؛ لأن نواصي المؤمنين والكافرين كلها بيد الله عز وجل وفي قبضته. فهنا كانوا يستغيثون بالله، لأنه لا يغيث ولا يكشف الضر ولا يأتي بالخير ولا يزيل الكربة إلا الله عز وجل، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، هذه الفاء يقول علماء اللغة: إنها للترتيب السريع؛ ولذلك إذا جاء الجواب بالفاء فهو سريع، وإذا جاء بـ (ثم) فهو بعيد. إذاً: لماذا لا يجرب الناس الآن الاستغاثة بالله عز وجل وحده! فإن كل التجارب قد جربوها إلا العودة إلى الله عز وجل عودة صحيحة. فلماذا لا تُعمل هذه التجربة ولو مرة واحدة في حياة الناس اليوم وفي عالمهم؟

إمداد الله عز وجل المسلمين بالملائكة في يوم بدر

إمداد الله عز وجل المسلمين بالملائكة في يوم بدر فالمسلمون لما استغاثوا بالله تعالى في بدر قال لهم: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، وجيء بالفاء التي تدل على السرعة، ولذلك ما كاد الرسول صلى الله عليه وسلم ينهي تضرعه بين يدي الله عز وجل في ليلة بدر حتى نزلت الملائكة مع الفجر، فقبل أن تبدأ المعركة أمر الله عز وجل فرقة من الملائكة تتكون من ألف مردفين، يعني: كل واحد معه مجموعة، فبلغ المجموع خمسة آلاف جندي نزلوا من السماء، وواحد منهم يستطيع أن يحمل الأرض كلها بجناحه ويقلبها على الأرض، ولكن الله عز وجل يريد أن يطمئن المؤمنين بهذا العدد. قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فلماذا استجاب؟ A استجاب لأن الاستغاثة كانت بالله عز وجل وحده، لو كانت استغاثة بالمخلوق لما حصل لهم النصر؛ لأن الله تعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، كما في الحديث القدسي. وقوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، السين أيضاً تدل على السرعة، كما أن الفاء تدل على السرعة، أي: فاستجاب لكم في الحال، وماذا استجاب لهم الله عز وجل؟ قال عز وجل: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وفي قراءة سبعية: (بألف من الملائكة مردَفين)، وسواء كانوا هم أردفوا غيرهم أو أردفهم غيرهم فالمهم أن العدد بلغ خمسة آلاف، كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة آل عمران بقوله: {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران:124]، ثم بين بعد ذلك فقال: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، يعني: معهم السلاح. إذاً: واحد يردف مجموعة معها اثنين يصبح العدد ثلاثة، وواحد يردف معه أربعة يصبح العدد خمسة، والعدد (خمسة) مضروب في (ألف) يصبح العدد خمسة آلاف، فليس هناك تعارض بين آية آل عمران وآية الأنفال.

لا يتحقق النصر إلا بإرادة الله وحده

لا يتحقق النصر إلا بإرادة الله وحده لكن هل هذا العدد سوف يحقق النصر بدون إرادة الله؟ A لا، ولو نزلت كل ملائكة السماء الذين {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، والذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس هناك موضع شبر في السماء إلا وملك ساجد لربه أو راكع)، فلو نزل هذا العدد الكبير كله إلى الأرض دون أن يحقق الله عز وجل النصر لهؤلاء المسلمين لما كانوا سيستفيدون من هذا العدد. إذاً: لابد أن يكون الاعتماد على الله، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} [آل عمران:126]، والضمير في (جعله) يعود إلى نزول الملائكة الألف المردفين. فإذا كان خمسة آلاف من الملائكة مدججين بالأسلحة لا يغنون من الله عز وجل شيئاً، فهل لو أتانا من بلاد الكفر ملايين البشر ليدفعوا الضر عنا يستطيعون ذلك دون إرادة الله عز وجل؟ لا أحد يستطيع ذلك، فإن الملائكة وهم الملائكة يقول الله تعالى عنهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]؛ وذلك حتى لا يعتمد أحد على غير الله عز وجل. فانظروا يا إخوان! بالرغم من كثرة العدد، وبالرغم من عظمة الملائكة الذين نزلوا من السماء، وبالرغم من أنهم مسومون، فإنه لا يأتي النصر على أيدي هؤلاء، وإنما هم بشرى فقط، ومعنى بشرى: تستبشرون ولا تخافون مرة أخرى، ولذا قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، يعني: أنكم إذا رأيتم الملائكة تقاتل تطمئنون فقط، لكن النصر لا يأتي على أيدي هؤلاء، وإنما يأتي من عند الله عز وجل مباشرة. إذاً: تعلق مخلوق بمخلوق من دون الله عز وجل نقص في الملة وفي العقيدة، وضعف في الدين، وسبب من أسباب الفشل مهما كان هذا الإنسان قد أُعطي من القوى البشرية، وليس معنى ذلك أن نقول: إن الإنسان لا يستعين بالإنسان، وإنما نقول: الإنسان لا يعتمد إلا على الله عز وجل، فإن الله تعالى هو الذي يملك النصر، ولذلك سنجد في دروس لاحقة أن المسلمين في غزوة حنين بلغوا اثني عشر ألفاً، وهو أكبر عدد وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة من المعارك، ومع ذلك غُلبوا. فبعدما تمكن الإسلام من قلوبهم ودخلوا المعركة وهو مزودون بالأسلحة وعازمون على القتال، وفيهم أهل مكة والمدينة قد اشتركوا جميعاً في غزوة حنين، وذلك بعدما دخل أهل مكة في الإسلام، ومعهم كل شيء من وسائل النصر المعروفة مادياً، لكن قال واحد منهم كلمة هي: لن نهزم اليوم من قلة! فالله تعالى قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، ولكن لابد أن يكون نصر المؤمنين: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]. إذاً: نحن لا نقول: الرقم لا قيمة له، أو الاستعداد لا أثر له، بل الاستعداد مطلوب، كما قال عز وجل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].

أهمية ربط الجيوش بالله وإصلاح الأوضاع

أهمية ربط الجيوش بالله وإصلاح الأوضاع وتجهيز المسلمين لقتال العدو أمر مطلوب، لكن ذلك يحتاج إلى أمرين اثنين لابد منهما: ربط هذا الجيش بالله عز وجل، وإصلاح أوضاع المسلمين الذين سيدافع عنهم هذا الجيش؛ فإنه لا يأتي النصر إذا كان هذا الجيش بعيداً عن الله عز وجل؛ ويُفرض عليه أن يحلق لحيته في كل يوم، وأن يأتي في الصباح ويقدم التحية للعلم، بدلاً من أن يقدمها لله عز وجل. وهذه معاصٍ تتكرر كل يوم، بل تتكرر كل لحظة، بل حتى الصلاة لا تُقام في كثير من ثكنات الجيوش التي تقول: إنها جيوش إسلامية، مع أن الله تعالى أمر المسلمين أن يقيموا صلاة الخوف في ساحة المعركة، بل لو نظرنا إلى وسائل التربية لوجدنا أن كثيراً منها بعيد عن الله عز وجل! إذاً: لا يمكن لمثل هذه الجيوش أن تنتصر مهما بلغت من القوة، وريما يقول قائل: إن هذه الجيوش الكافرة قد اكتسحت العالم؟ فنقول: هؤلاء كافرون، والكافرون الله تعالى يقول عنهم {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لكن المسلمون لا يقبل الله تعالى منهم أنصاف الحلول، وإنما يريد منهم أن يدخلوا المعركة وأن يقبلوا على العدو بإيمان صادق، وأن يعتمدوا على الله عز وجل، أما الاعتماد على قوى بشرية من دون الله عز وجل فإنها لا تغني من الله تعالى شيئاً، ولذلك الملائكة وهم خمسة آلاف مدججون بالسلاح يقول الله تعالى عنهم {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} [آل عمران:126]، أي: فقط في الظاهر، ويُستفاد منهم وجودهم كمظهر قوة.

لا عزة ولا نصر إلا من عند الله عز وجل

لا عزة ولا نصر إلا من عند الله عز وجل وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، أي: لترتاح نفوسكم حتى لا تصابون بالقلق؛ لأنه كان المسلمون قلقين. ثم قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، (ما) و (إلا) صيغة حصر، أي: النصر لا يأتي إلا من عند الله، لا من الملائكة ولا من جيش آخر يفد لمساعدة أمة من الأمم، ولا من سلاح فتاك نادر في الأرض، الله تعالى إذا أراد أن يبطل هذا يبطل مفعوله في لحظة، فلا يُستفاد منه أبداً، كما حدث لجيوش في بلاد المسلمين سبقتنا بسنوات قليلة، فلما أراد الله ألا يستفاد منها لم يستفد منها، لكن إذا نزل النصر من عند الله عز وجل تحقق ولو العدد قليل، بشرط أن يكون المنصور مؤمناً متمسكاً بدينه. ثم يقول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، عزيز: قوي، وحكيم: يضع الأمور في مواضعها، فينزل النصر حيث يتطلب الموقف النصر، وينزل الهزيمة حيث يتطلب الموقف الهزيمة تربية للمؤمنين، كما حدث يوم أحد ويوم حنين، والله تعالى قد ينفع بالقوة الضاربة في الأرض فيُستفاد منها، وقد يبطل مفعول هذه القوة الضاربة في الأرض فلا يُستفاد منها، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]. إذاً: العزة لله ليست لأحد من البشر إلا من أعزه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى لا يعز بهذة العزة ولا يعطيها إلا من يستحقها من المؤمنين، فالله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].

تأمين المسلمين وتثبيت أقدامهم بالنعاس والمطر

تأمين المسلمين وتثبيت أقدامهم بالنعاس والمطر

إنزال الله عز وجل النعاس على المسلمين يوم بدر

إنزال الله عز وجل النعاس على المسلمين يوم بدر ثم يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]. هذا أمر عجيب! في ساعة المعركة من يستطيع أن يأتيه النعاس؛ فالنعاس معروف أنه لا يأتي الإنسان إلا وهو مطمئن، وإذا كنت في حالة خوف فإنه لا يأتيك النعاس، بل النوم لا ياتي أبداً، وربما تسهر الليالي والأيام، ثم تبحث عن النوم وأنت قلق خائف فلا يأتي النوم أبداً. لكن المسلمين وهم هذا العدد القليل أصابهم النوم في ساعة المعركة، وليس نوماً معناه أنه غفلة عن المعركة، وإنما هو نعاس يهدئ الأعصاب؛ لأنهم سهروا في الليل في التهجد، وما سهروا على رقص وغناء وحفلات، كما نشاهده في عالمنا اليوم في أعياد ميلاد المسيح والكرسمس وما أشبه ذلك. فهم سهروا في طاعة الله عز وجل، ولما سهروا ما بين راكع وساجد لله عز وجل أراد أن يعطيهم النوم، ولكنه ليس نوماً يضيع عليهم الفرصة، وإنما هو نوم تطمئن فيه النفس، وتهدأ فيه الأعصاب، ويشعر المسلم إذا أصابه النعاس في مثل هذا الموقف أنه مطمئن، ولذلك لا يأتي النعاس -وهو مقدمة النوم- إلا بعد أن يطمئن هذا الإنسان على نفسه، فالله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. ويقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} [الأنفال:11]، وفي قراءة (إذ يغشاكم النعاس)، يعني: سواء أن الله تعالى غشاهم النعاس أو النعاس غشيهم فهو بإرادة الله سبحانه تعالى، والغشيان التغطية، يعني: غطى كل واحد؛ حتى كان أحدهم في المعركة يشعر بالنوم، ثم ينتبه ويقول لجاره: كم عدد هؤلاء القوم؟ فيقول: هم بين السبعين والثمانين، فينظر العدو أيضاً إلى المسلمين فيقول: كم عدد أهل المدينة؟ فيقول صاحبه: هم ما بين المائة إلى السبعين، وكل واحد يقلله الله تعالى في عين الآخر؛ حتى تكون هذه المعركة، وحتى يبدأ هذا الصدام، وحتى لا يرجع أحدهم دون أن تكون معركة.

إنزال الله عز وجل المطر على المسلمين يوم بدر

إنزال الله عز وجل المطر على المسلمين يوم بدر وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]، أي: من أجل أن يؤمنكم حتى لا تخافوا، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، بالرغم من أن الموقع كان لصالح الكافرين فإن الله تعالى جعل الموقع أيضاً لصالح المؤمنين، فكانت العدوة الدنيا في جهة المدينة، وكانت أرضاً رملية صعبة، وكانت الحركة السريعة للقتال كما يتطلب الموقف تصعب على هذه الرمال، فمن رحمة الله عز وجل أن أنزل المطر في تلك الليلة، فلما نزل المطر ابتلت الأرض، وشرب الصحابة، واغتسلوا، وكان بعضهم قد أصيب بالجنابة، وكان بعضهم يشعر بالقلق قبل ذلك، فالله تعالى ربط على القلوب بنزول هذا المطر، فأخبرهم بأن النصر سوف يأتي؛ لأن المطر يعتبر رحمة من رحمات الله عز وجل. فالله تعالى يقول هنا: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، أي: يطهرهم في أجسامهم فيغتسلون، ويتوضئون، ويصلون، ويطهرهم في قلوبهم، حتى تزول تلك الوحشة التي يشعرون بها، فإن الذي أنزل المطر هو الذي سوف ينزل النصر. يقول الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال:11]، ومن رجز الشيطان ما يحدثه في القلب من قلق وخوف، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال:11]؛ لأن نزول المطر علامة على نصر الله عز وجل وعلى كون الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين. {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، حتى إذا تحرك المسلمون يتحركون بسرعة على هذه الرمال اللينة، وينطلقون بسرعة؛ فتكون الأقدام ثابتة، كما أن الله تعالى يثبت به أيضاً الأقدام من الناحية المعنوية بحيث يشعرون بأن النصر سوف ينزل عليهم عما قريب. يقول الله تعالى هنا: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، وسواء كان المعنى: يقوي أقدام السير أو يقوي جانبكم في المعركة؛ فيؤهلكم إلى أن تدخلوا المعركة بقلوب ثابتة. وبعد ذلك أصدر الله تعالى أمره للملائكة أن تنزل إلى الأرض، وهذا هو الشيء الذي يجب أن يطلبه المسلمون دائماً وأبداً، سواء جاءت الملائكة أو نزل النصر من عند الله تعالى مباشرة دون أن يحتاج إلى واسطة، فنزول الملائكة يُعتبر طمأنينة لقلوب المؤمنين، وإلا فإن النصر يأتي من عند الله تعالى، لا يأتي بقوة من قوى البشر أو غيرهم.

نصر الله عز وجل للمسلمين يوم بدر وهزيمة الكافرين

نصر الله عز وجل للمسلمين يوم بدر وهزيمة الكافرين

المسلمون يحققون شروط النصر

المسلمون يحققون شروط النصر يقول الله تعالى بعد ذلك: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]: فهذه أمة مؤمنة خرجت لهدف الجهاد في سبيل الله، لا تريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، أمة خرجت تائبة إلى الله تعالى منيبة، تريد أن يظهر هذا الدين، وأن ينخفض جانب الكفر، أمة خرجت منيبة إلى الله عز وجل تتضرع في جوف الليل الآخر، لا تلهو، ولا تغني، ولا تلعب، ولا ترقص، ولا تأتي بمسرحيات قبل المعركة ولا بعد المعركة، ولكنها أمة تريد فقط أن ترتفع كفة الإسلام. ثم بعد ذلك صدقوا مع الله عز وجل وعزموا على القتال ولو بعدد قليل، ووجد يقين في هذه القلوب على أن النصر يأتي من عند الله، ووجد أيضاً يقين على أن المقاييس المادية والعددية والكمية والكيفية لا أثر لها إذا أنزل الله عز وجل النصر، فهنا جاء النصر من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، فالله مع الملائكة أيضاً، والملائكة مع المسلمين، وبهذا لا يمكن أن تكون هزيمة في مثل هذا الموقف أبداً. إذاً: لابد أن يكون نصر؛ لأن الله تعالى مع هؤلاء المؤمنين، وقد أمر بأن تنزل الكتائب من الملائكة من أجل أن تطمئن المؤمنين، ثم أمر الله تعالى بالنصر فتحقق؛ لأن النصر لا يأتي إلا من عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، حتى لا يفهم الناس أن الملائكة وحدها هي التي تقاتل، بل الله عز وجل من فوق سبع سموات يراقب هذا الموقف ويدبر هذا الكون، ولذا قال: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، يعني: النصر سيأتي، وإنما المسألة تثبيت فقط، فالتثبيت غير القتال، فالله تعالى ما أمرهم أن يقاتلوا، ولا أمر المسلمين أن يقاتلوا، بل الله تعالى حقق النصر؛ لأن المسلمين قد استعدوا لذلك، فالمسألة مسألة تثبيت، وليست مسألة قتال، مع أن القتال حصل بعد ذلك. وقوله سبحانه: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، فمهما أظهروا من القوة والإرهاب لنا في أي وقت من الأوقات فإن الله تعالى يضع في قلوبهم الرعب وينزع من قلوبنا المهابة لهؤلاء، وحينئذ يتحقق النصر. ولذلك فإن الرعب من الميزات التي أعطيت للرسول صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء من قبله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر).

قتال الملائكة مع المسلمين يوم بدر

قتال الملائكة مع المسلمين يوم بدر ثم أمر عز وجل الملائكة بأن يقاتلوا فقال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، أي: قطعوا الرءوس، وقطعوا الأصابع التي جاءت لتحارب الله عز وجل ولتكتب فى سب الإسلام، ولتتعرض لدين الله عز وجل، لأن هذه أصابع مجرمة، طالما تحركت في معصية الله عز وجل، وطالما سعت في الأرض فساداً فقطعوها تقطيعاً. فالله تعالى أمر بتقطيع الأيدي التي تحمل السلاح أو تحمل القلم لتتناول من دين الله عز وجل، وأمر بأن تقطع الرءوس، وأرشدهم كيف يضربون, وإذا كان الضرب في الوجه ممنوعاً في الإسلام، فإنه في مثل معركة بدر أمر الله تعالى بضربها فقال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، والذي فوق الأعناق هي الوجوه والرءوس. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، أي: قطعوا الأصابع، لماذا؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، أي: حاربوا الله، وبارزوا الله تعالى بالمعصية، وأغضبوا الله سبحانه وتعالى بكيدهم ومكرهم، وتعرضهم لدين الله عز وجل، وتعرضهم للمؤمنين. إذاً: لابد أن تقطعوا هذه الرءوس التي تتكلم وتبصر وتسمع، وأن تقطعوا هذه الأيدي التي طالما حملت السلاح أو آذت المسلمين بأي نوع من أنواع الأذى.

سبب هزيمة الكفار يوم بدر

سبب هزيمة الكفار يوم بدر ثم قال تعالى: (ذَلِكَ) أي: السبب: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، أي: حاربوه، وبارزوه بالمعصية، وهل هذه خاصة بأولئك المبارزين لله بالمعصية، أم هي عامة؟ A ليست خاصة؛ لأنها لو كانت خاصة لما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، ولكن حتى يعلم الناس أن الذين يشاقون الله ويبارزون الله سبحانه وتعالى ويعاندونه ويؤذون أولياءه الذين ينافحون عن دين الله إلى يوم القيامة، حتى يعلم هؤلاء أن الله تعالى لهم بالمرصاد، فالله تعالى قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13]، يعني: يتحدث عن أمر مستقبل أيضاً. فقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، يتحدث عن هؤلاء القوم، لكن بالنسبة لمن يأتي في أي عصر يريد أن يبارز الله وأن يحارب الله سبحانه وتعالى بالمعصية فإن الله تعالى لا يتركه ولا يهمله، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، لا نقف عند هذا الحد، بل {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]، سواء كان في بدر مع محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد محمد مع الصالحين الذين يسيرون على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أو في أي عصر من العصور التي تكون فيها المشاقة من هؤلاء المجرمين والكافرين والملاحدة والضالين والظالمين والطغاة إلى يوم القيامة، فمن يبارز الله عز وجل بالمعاصي فإن الله شديد العقاب. فليست العقوبة خاصة بأمة ولا بعصر ولا خاصة بالأنبياء، وإنما هي باقية وخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع بين الحق والباطل سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، فكل من شاق الله ورسوله فسوف يجد هذا الجزاء، لكن ربما يرد على بعض نفوس ضعاف الإيمان شيء من الشك، فيقول: كثير ممن يبارز الله عز وجل بالمعاصي ويشاقه اليوم أين هذه العقوبة منهم؟ فنقول: إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لكن بشرط أن يكون الصراع بين الإيمان والإلحاد، بين الحق والباطل، لا في سبيل التراب، ولا في سبيل العرق ولا الجنس، ولا ليرى مكانه، ولا ليقال: إن فلاناً شجاع، ولكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا وقف المسلمون في أي عصر من العصور هذا الموقف وأرادوا أن يوقعوا العقوبة بمن شاق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، أي: لهؤلاء الذين يشاقون الله ورسوله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

المراحل التي مر بها الجهاد في سبيل الله عز وجل

المراحل التي مر بها الجهاد في سبيل الله عز وجل Q ما رأيك في القول بأن الجهاد الإسلامي إنما شرع لإزالة القوى الكافرة، والطغاة الذين يحولون بين البشر وبين تلقي الهدى والإسلام؟ وإذا كانت الدولة الكافرة تسمح للدعاة بممارسة نشاطهم في أرضها بكل حرية فهل يسقط الجهاد ضد هذه الدولة؟ A الإسلام مر بأربع مراحل: مرحلة الصبر، وتجدونها في الآيات المكية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا} [الأعراف:87]، وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]. ثم جاء الدفاع في المرحلة الثانية، ومن ذلك قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، وذلك أول ما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ثم أُمر المسلمون بالقتال ابتداءً، لكن من قدم الجزية تقبل منه الجزية، وهذه هي المرحلة الثالثة. المرحلة الرابعة التي أعتقدها أنا: أنها مرحلة القتال دون أن تقبل الجزية، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، إلى غير ذلك من الآيات التي تجدونها في سورة التوبة؛ لأن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن في آيات الجهاد؛ حيث إنها نزلت في غزوة تبوك، وهي تعتبر من أواخر الغزوات. وعلى كلٍ تكون المراحل أربع، ولذلك المسلم لا يضع السلاح حتى يكون الدين كله لله، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، والفتنة ليس معناها الفوضى، وإنما معنى الفتنة: الكفر، يعني: قاتلوا الكافرين حتى لا يبقى كفر على وجه الأرض، وحتى يكون الدين كله لله، فلا يبقى دين غير دين الإسلام. ولذلك أعتقد أن المسلمين مفرطون حينما يضعون السلاح على الأرض وهناك من يعبد في هذه الأرض غير الله سبحانه وتعالى، لكن لو بقيت دولة تهادن المسلمين، والمسلمون يشعرون بالقوة فنقول في مثل هذه النقطة: هذه نقطة ضعف، فيدعون القتال حتى يتقوى هؤلاء المسلمون لينشروا هذا الإسلام في هذه الأرض بطريق القوة. ولذلك لا يضير الإسلام أنه ينتشر بالقوة؛ لأن الإسلام انتشر بالحكمة فوقف العدو في وجهه فالله سبحانه وتعالى أراد أن يزيح ما يقف في وجه هذه الدعوة، ولذلك الذي أعتقده أنا أن آخر ما استقر عليه الدين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، أي: كفر، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، لكن لا مانع أن يبقى كافرون يعيشون في ظل دولة إسلامية، والله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]. لكن يا إخوان! لا تظنوا أن معنى (تبروهم) هو هذا اللين وهذه الرقة التي يعيشها المسلمون مع أعداء الله، ولكن إذا كان هناك كافر فقير عاش بدولة إسلامية وهو ذليل فقير، فنحسن إليه، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإذا تحاكم رجل كافر ومسلم أمامنا نحكم بالعدل بينهما، هذا معنى (تقسطوا إليهم)، أما هذه الرقة وهذا اللين وهذا الذوبان مع الكافرين، فهو الشيء الذي لا يقبله الإسلام في أي حال من الأحوال.

كيفية جهاد المنافقين الموجودين داخل البلاد الإسلامية

كيفية جهاد المنافقين الموجودين داخل البلاد الإسلامية Q كيف نجاهد المنافقين في بلادنا وقد استولوا على كثير من الأمور كالإعلام ووسائل النشر؟ وكيف نرد على باطلهم وقد احتكروا جميع المنابر ما عدا منابر الجمعة والتي يُراد حصرها في تعليم الناس الصلاة، وأمور العبادة فقط؟ A يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73]، وهذا دليل على أن المنافق غير الكافر؛ لأن الكافر كافر معروف، أما المنافق فهو أخطر على الإسلام من الكافر، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. أما كيف نقاتل هؤلاء، فإذا علمنا بأن هؤلاء منافقون فعلينا أن نراسل الدولة ونناصح الدولة ونقول لهم: اتقوا الله، هؤلاء منافقون لا تتركوهم يتسلمون أمور الحياة؛ لأن هؤلاء سوف يدمرون الحرث والنسل، وهؤلاء متربصون، كما تربص المنافقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أحاط الأحزاب بالمدينة خرج المنافقون من أوكارهم وتعاونوا مع الأحزاب، وأعتقد أن هذا هو الذي يحدث في مثل هذه الأيام، لما أحاط بنا عدونا من كل جانب تحرك المنافقون وكأنهم بدءوا يتمالئون مع العدو، ولربما لا يظهرون للدولة أنهم يتمالئون مع العدو، لكن تحركاتهم تريد أن تربك الدولة، وتربك المجتمع، كما نلاحظ في أيامنا الحاضرة. فهؤلاء لابد أن ننبه الدولة على أخطارهم، ونقول: فلان وفلان وفلان أبعدوهم عن المناصب؛ لأنهم سوف يوقعون بهذه الدولة، ونحن لا نريد إلا أن تكون هذه الدولة؛ لأنها دولة حكمت بحكم الله ولا نريد غيرها يحكم هذه البلاد، فوجود هؤلاء المنافقين سوف يربك الدولة؛ لأن الدولة الآن ما تدري: هل تحارب العدو الخارجي الذي يطوقها من جميع الجهات أو تحارب العدو الداخلي؟ فهؤلاء المنافقون بدوء يحرضون ضد الدعاة والمصلحين والمؤمنين من أجل أن يحولوا بينهم وبين الدولة، ولربما يقولون: إن هؤلاء أعداء لكم، فتوقع هذه الدولة بهؤلاء الدعاة، فتسقط من عين الله عز وجل؛ لأن هذه الدولة لو آذت هؤلاء الدعاة فسوف تقع في حرب مع الله عز وجل، وإذا حاربت الله عز وجل فسوف تنهزم، بل ستنهزم حتى في حربها مع الناس؛ كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً -يعني: رجلاً صالحاً- فقد آذنته بالحرب)، ومن يستطيع أن يحارب الله، ثم يحارب الناس بعد ذلك؟! فنحن ندعو المسئولين الكبار في الدولة أن ينتبهوا للمنافقين الذين يندسون في دوائر الدولة، ولا أقول: في الإعلام أو غيره، بل الحقيقة أننا أصبحنا نشك في كثير من الناس الآن، وأنهم غير مخلصين للدولة، إضافة إلى أنهم غير مخلصين لدين الله عز وجل، وأنهم أعداء لدين الله عز وجل، ولكن البوادر تدل أن في وسائل الإعلام وفي غيرها أناساً مندسين الآن، ولذلك ما قالوا للدولة ولا وجهوا الدولة في مثل هذه الظروف الحرجة أن تغير كثيراً من برامجها وكثيراً من تحركاتها وأعمالها، فأصبح الأمر إن لم يكن أشد من السابق فهو ليس بأقل من السابق خطراً. وهذه كلها من أعمال المنافقين الذين يضرون بالدولة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي الدولة حتى تعرف هؤلاء ومواقعهم، فهم مكشوفون الآن، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا نحن أمام هؤلاء المنافقين، كما نسأله أيضاً أن يثبت أقدامنا أمام الكافرين المحيطين بهذه الدولة.

حكم جهاد أعداء الله عز وجل

حكم جهاد أعداء الله عز وجل Q لا شك أن عدونا يتربص بنا الدوائر، وأن الجهاد ضد هؤلاء فرض عين علينا خاصة، فما موقفنا الآن وقد استعدت هذه الجيوش لحربنا الآن؟ وما هو واجبنا نحن المسلمين نحو هذه الحرب؟ هل نجاهدهم أو نبقى نعتمد على غيرنا؟ وهل نأثم على جلوسنا، وفقكم الله؟ A الاعتماد على غير الله عز وجل كفر ومذلة وسبب سقوط هذا الإنسان من عين الله عز وجل، والله تعالى لما أنزل الملائكة ما قال للمسلمين: هذا النصر جاء، بل قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، مع أنهم ملائكة يضربون بقوة الله تعالى. إذاً: من باب أولى أن يكونوا أناساً من البشر فضلاً عن ناس غير مسلمين يكرهون الإسلام ويكرهون بلاد الإسلام والدولة الإسلامية، فلا يعتمد على هؤلاء، وإنما هؤلاء نعتبرهم قوة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شرهم وشر من جاءوا ليحاربوه. أما موقفك أيها المسلم! فأنت مطالب بالجهاد في سبيل الله، والدفاع عن بلاد المسلمين، فعليك أن تستعد لهم بقدر ما أوتيت من قوة، ولا مانع أن تنضم إلى المجموعة غير المسلمة في مثل هذه الظروف؛ لأن الظروف يوجد فيها عدو يطوق بلاد المسلمين، ويطوق دولة إسلامية، ويريد أن يقضي على هذا الإسلام في مهده. ولذلك فنحن مطالبون أن ندافع عن بلاد المسلمين، لا عنها كتراب، وإنما عنها كأرض للإسلام، وكمقدسات يتجه إليها المسلمون في كل يوم خمس مرات في صلاتهم، ويحجون ويعتمرون إليها، فلابد أن نستميت في الدفاع عن هذه البلاد. وأقول أيضاً: نحن لا نفرط بهذه الدولة، ولا نريد غيرها، وإن كان الواشون والمنافقون لربما يوقعون بيننا وبينها، فنحن لا نريد غيرها، فهي التي تحكم بشرع الله، ولكن نرجو أن تضرب بيد من حديد على هؤلاء المفسدين؛ حتى لا تفسد العلاقات بيننا وبينها؛ لأن هؤلاء المنافقين والعلمانيين إنما يريدون أن تفسد العلاقات بين المؤمنين والدولة، ثم يحدث ما يحدث من جفاء، وهذا هو أكثر ما يحدث الخلل في صفوف المسلمين. إذاً: لابد من الدفاع، فقد يصبح الدفاع فرض عين في مثل هذه الظروف وليس فرض كفاية، وقد أجمع علماء المسلمين على أنه إذا هجم عدو من الخارج على دولة إسلامية، فإن كل واحد من هؤلاء المسلمين أصبح عليه فرض عين أن يكافح هؤلاء بقدر ما أوتي من قوة، ومن يتأخر عن ذلك فهو من الذين قال الله تعالى عنهم: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:16].

كيفية الاستعداد لجهاد أعداء الله عز وجل

كيفية الاستعداد لجهاد أعداء الله عز وجل Q هل في هذا الوقت المليء بالفتن يكون الاستعداد للجهاد بالسلاح أم الاستعداد النفسي والإيماني؟ وكيف يكون ذلك لنا، وفقكم الله؟ A يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فقوة الإيمان وقوة السلاح والتدريب والرمي، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، كل هذا يدخل في الاستعداد. إذاً: المسلمون مطالبون بكل نوع من أنواع القوى التي يستطيعون أن يقدموها في مثل هذه الظروف، ولذلك فهم مطالبون بأن يقووا إيمانهم، وحينما يقوون إيمانهم هم مطالبون بأن يقووا جيشهم وعددهم وعدتهم. وأيضاً هم مطالبون بألا يرحموا هؤلاء الكافرين، لقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]، أي: قطعهم تقطيعاً. إذاً: المسلمون مطالبون بإعداد جميع أنواع القوى، لكن حينما يعدون إعداداً مادياً ويغفلون أو يتغافلون عن القوى المعنوية فإن هذه هي البلية، وهذا هو الذي يحدث في كثير من الأحيان، أو حينما يتعلقون بغير الله سبحانه وتعالى، ويظنون أن غير الله سبحانه وتعالى هو الذي سوف ينصرهم، فهذه هي البلية، والله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فعلينا أن نبحث عن النصر في موقعه وحيث يكون.

معنى الحكمة يختلف باختلاف الظروف

معنى الحكمة يختلف باختلاف الظروف Q أريد أن أعرف الحكمة ما هي؟ وما شروطها؟ وكيف لنا أن نتحلى بالحكمة في مثل هذه الظروف؟ مع أن هناك من طلبة العلم من رمي بالتحمس وترك الحكمة في القول، أرشدونا وفقكم الله؟ A الحكمة معناها في اللغة: وضع الأمور في مواضعها، فالكلمة الطيبة الرقيقة اللينة حكمة حينما يكون الموقف يتطلب مثل هذه الكلمة، والقتل حكمة، وإبادة أمة من الأمم منحرفة عن منهج الله تعتبر حكمة، فمعنى الحكمة تختلف حسب الظروف وحسب مقتضيات الأمر، فاللين حكمة إذا كان الموقف يتطلب اللين، والقسوة والشدة حكمة إذا كان لابد من هذا الأمر، ولذلك قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، ولربما يطلق على الحكمة -وهذا في أول الإسلام- معنى اللين. لكن الحكمة في معناها اللغوي والاصطلاحي الذي اتفق عليه علماء المسلمين بعد ذلك هي: وضع الأمور في مواضعها، ولذلك فإننا مطالبون بالحكمة بمعنى اللين حينما يكون للين موقعاً، ولكن إذا كان لابد من القوة فلابد أن تكون للأمة الإسلامية قوة. ولذلك لا تعجبوا حينما ذكر الله عز وجل إنزال الحديد مع إنزال الكتب السماوية، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25]، فمعنى ذلك: أنه لابد من القوة، وتعتبر حكمة حينما يتطلب الموقف القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة بضوابط كثيرة أهمها: ألا تجر وراءها مشاكل، ولذلك نحن ندعو الشباب الذي أصبح الآن يتحمس لدينه إلى الحكمة، ولربما نكرر هذه الكلمة دائماً وأبداً لكثرة ما يردنا من الأسئلة، سواء كان من خلال الهاتف أو من خلال الأوراق أو من خلال المواجهة والمشافهة كلهم يقول: ماذا نعمل في مثل هذه الظروف؟ وكأن الشباب يريد أن يدمر ويفسد الحرث والنسل، ويريد أن يستعمل قوته ويعتبرها حكمة، فنقول: هذه ليست من الحكمة، بل عليك يا أخي! أن تضبط نفسك وتوازنك، فأنت تعيش في دولة إسلامية، وأنا واثق أنها لن تترك هؤلاء المجرمين الذين أثاروك في يوم من الأيام، أو في أيام كثيرة، لن تتركهم يتمادون في مثل هذا الباطل؛ لأن إثارتك سوف تسبب غضب الله أولاً، ثم لربما تسبب غضب مسلم من المسلمين، فيدمر أشياء كثيرة بدافع غيرته على دين الله عز وجل. فأنا أنصح المسئولين في الدولة بالانتباه لذلك، فوالله الذي لا إله غيره إننا دائماً وأبداً يأتينا شباب يريدون أن يقدموا على أمور نخشى أن تكون لها خطورة، فنحن نكون كوابح أمام هؤلاء، ونقول لهم اتقوا الله، لكن ربما يأتي يوم من الأيام لا يأخذون رأينا في مثل هذه الأمور، فأقول للمسئولين: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء الشباب، ويحركون فيهم الشجاعة والحمية والغيرة، والغيرة أحياناً تكون غير منضبطة، لاسيما في عصر الصحوة الإسلامية التي وجه الله تعالى فيها كثيراً من الشباب إلى دين الله، ولربما أن بعضهم كان في يوم من الأيام حرباً على الإسلام، فإذا به الآن قوة ضاربة في الأرض لهذا الدين، فأنا أقول: امنعوا هؤلاء الذين يثيرون هؤلاء؛ حتى لا تكون فتنة، والله المستعان.

أهمية الجهاد في سبيل الله عز وجل بالمال

أهمية الجهاد في سبيل الله عز وجل بالمال Q جميع آيات الجهاد في القرآن قدم فيها المال على النفس، ما عدا موضعين تقريباً، فهل معنى ذلك أن الجهاد بالمال يفضل على الجهاد بالنفس في الظروف العادية؟ A قد يكون المال أنفع للمسلمين من النفس، لاسيما في ظروف بلاد فقيرة، كما يوجد في أفغانستان وفي أرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي غيرها، ولربما تكون النفس أنفع من المال حينما يتوفر المال ولا نجد الرجال، كما يوجد في بعض المواقع الأخرى، ولذلك نقول: المال غالباً أنفع من الرجال في الظروف العادية؛ لأن مال رجل واحد من الأثرياء ربما يمون آلاف الرجال للجهاد في سبيل الله، لاسيما حينما يكون هناك فقر ومسغبة، كما يوجد في بعض المناطق الإسلامية. ولكن حينما يكون المال ولا يكون رجال فلابد أيضاً من الرجال، فالله تعالى يقدم المال في أكثر الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم المال في أكثر الأحاديث، ولربما يتقدم الرجال على المال، المهم أن التقديم يكون حسب الحاجة، فإذا كانت الحاجة إلى المال فالمال يكون أفضل، وذلك حينما يتوفر عدد الرجال، وحينما يكون المال متوفراً والرجال قلة لابد أن نقدم أنفسنا وأرواحنا في سبيل الله. وخير هذه الأمور من يقدم نفسه وماله في سبيل الله، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، أي: لم يرجع لا بنفسه ولا بماله، وهذه أعلى المراتب وأفضل الدرجات.

الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة

الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة Q كيف نوفق بين حب القتال والشهادة في سبيل الله وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (لا تتمنوا لقاء العدو)؟ A الفرق بين تمني لقاء العدو وتمني الشهادة واضح، فتمني لقاء العدو إذا لم يقم قتال، والأمور مستقرة على طاعة الله، فلا نتمنى لقاء العدو في مثل هذه الحال، لكن إذا وجد القتال وقام العدو ووقف صفاً في وجوه المسلمين، أو في وجه الزحف الإسلامي ففي مثل هذه الحالة نتمنى الشهادة، ولكني أرى الآن -خصوصاً من خلال أخبار أسمعها من شباب يسافرون إلى بعض مواقع قتالية في أرض الله- أن أحدهم دائماً يسعى إلى الشهادة فقط، أنا لا أريد هذا، فالله تعالى يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111]. إذاً: لابد أن يقدموا جهداً قبل أن يسعوا إلى الشهادة، فالشهادة مطلب يستفيد منه هذا المستشهد، لكن قتل الكافرين ومصارعة الكافرين تستفيد منه الدولة الإسلامية كلها، ولذلك الأصل: ألا نتمنى قتال العدو، لكن إذا قام القتال ووجد وأصبح حقيقة ففي مثل هذه الحال نتمنى الشهادة، ولا نتمنى القتال؛ لأن القتال موجود، وإنما نتمنى الشهادة، لكن تمنينا الشهادة لا يعني أن الإنسان يزج بنفسه في أمور مخاطرة لا يستفيد منها الإسلام، أو لربما تجر على الإسلام أضراراً أو تقلل عدد المسلمين أو عدد هذا الجيش، أو تفت في عضد المجاهدين حينما يرون كثرة الاستشهاد، وإنما المسلم يقاتل لا ليستشهد، وإنما يقاتل حتى يستشهد بعد ذلك، ولذلك نجد في قتال المسلمين يوم مؤتة أنه لما رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن المعركة ليست لمصلحة المسلمين انسحب بالجيش، ولو كانت المسألة مسألة استشهاد فقط لزج بثلاثة آلاف معه من المسلمين في وسط الروم وأبيدوا، وحصلوا على الشهادة وانتهى الأمر، لكن لما رأى خالد رضي الله عنه أن الموقف والتكتيك الحربي يتطلب الانسحاب انسحب، فالمسألة مسألة هزيمة أعداء لا مسألة شهادة فقط.

شروط المرابطة في سبيل الله عز وجل

شروط المرابطة في سبيل الله عز وجل Q هل المرابط على حدود المملكة في هذه الأيام يعتبر مرابطاً في سبيل الله؟ وهل هناك شروط للمرابط، أم أن كل من جلس على الحدود يعتبر مرابطاً؟ A يعتبر المرابط مرابطاً في سبيل الله بشروط: الشرط الأول: أن يكون مخلصاً في القصد لله سبحانه وتعالى، فيقصد من وراء مرابطته الدفاع عن دين الله وعن أرض الإسلام، لا عن وطنه الذي هو تراب وأرض. الشرط الثاني: أن يكون مستعداً مجرباً قبل أن يكون مرابطاً، فعليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل باحثاً عن الحق، يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يكون أيضاً تحت قيادة إسلامية خالصة إن أمكن، ولكنه قد يعذر حينما يكون تحت قيادة غير إسلامية إذا أصلح هدفه، فلربما يكون اثنان أحدهما في سبيل الله والآخر في سبيل آخر، والله تعالى يبعث كل واحد يوم القيامة على نيته، ويعطي الله سبحانه وتعالى كل واحد على حسب ما يعتقد وما ينوي وما يقصد. فالمرابطة تعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله؛ لأنه صراع بين المسلمين وبين الكافرين، ولا يمنع أن تكون هناك أمور لا يرضى بها كثير من المسلمين، لكن المهم أن الدفاع عن بلاد المسلمين كأرض إسلام أمر مطالب به كل واحد من المسلمين، لكن بشروطه.

ضعف دور المؤسسات الإسلامية تجاه القضايا الإسلامية

ضعف دور المؤسسات الإسلامية تجاه القضايا الإسلامية Q ما موقف المؤسسات الإسلامية على مستوى الدول أو على مستوى الأفراد تجاه انتهاك حرمة المسلمين في كثير من بلاد العالم في الدم والمال والعرض، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ A ليست هناك مؤسسات إسلامية لها وزن كبير وإن كانت موجودة والحمد لله، كرابطة العالم الإسلامي وغيرها، لكن الحقيقة أن فيها الضعف الشديد، وهذا هو الشيء الذي يحز في النفس، وهو أن تكون هذه المنظمات الإسلامية على هذا المستوى الصغير لا تدافع عن حقوق المسلمين إلا بشجب أو بكلمة فقط لا أكثر ولا أقل، والذي نتمناه من الله سبحانه وتعالى ونرجوه منه سبحانه وتعالى أن يهيئ لهذا العالم دولة إسلامية تتبنى الإسلام بمعناه الحقيقي، وتملك جيشاً إسلامياً ضارباً في الأرض يدافع عن المسلمين لا يفرق بين المسلمين في فلسطين ولا في جنوب الفلبين، ولا في أي مكان من الأرض. أما واقعهم في الحقيقة فهو موقف ضعيف وهو الشجب والاستنكار في بعض الأحيان، لا في كل الأحيان، أما الدم الإسلامي فهو أرخص الدماء اليوم على وجه الأرض! ولو تتبعت أخبار العالم عبر الأثير لوجدت أن هناك تركيزاً كاملاً على المسلمين، ويكفي ما يدور في الهند في أيامنا الحاضرة، من أجل مسجد سيهدم يدافع عنه المسلمون نجد أن قوىً ضاربة داخل الهند قامت ضدهم، بالرغم من أن عدد المسلمين في الهند يزيد على مائة وثمانين مليون مسلم، ومع ذلك لا يجدون إمداداً، أكثر ظني أن كثيراً من المسلمين لا يدري ماذا يحدث في الهند، بل أخوف ما أخاف أن المسلمين في الهند يُذبحون بأموال المسلمين! فهذا يأتي بهندوسي وهذا يأتي بسيخي، ثم يأخذون هذه الأموال ويذهبون هناك يذبحون بها المسلمين، فنقول لهؤلاء أصحاب المؤسسات أو الدوائر الرسمية الحكومية الذين يستقدمون غير المسلمين: اتقوا الله! فالمسلمون يُذبحون في الهند، وقد يكون ذلك بأموال مسلمين، والمسلمون يُذبحون في جنوب الفلبين، وقد يكون ذلك بأموال المسلمين! إذاً: لا يجوز أن تذهب أموال المسلمين إلا إلى المسلمين، والله المستعان. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الشباب والزمن

الشباب والزمن إن الزمن هو الكنز الذي لا يقدّر بثمن، فضياعه أعظم من الموت؛ لأن الموت يقطعك عن الدنيا، وضياع الوقت يقطعك عن الدنيا والآخرة، فما أحرى أن يغتنم الشباب هذا الوقت، الذي إذا ذهب بعض الإنسان. إن الشباب مرحلة زمنية مباركة، فيها الحيوية والقوة والعطاء، وفيها تبنى المعالي، وفيها تكون التضحية التي لا تعادلها تضحية في مرحلة أخرى، فما أحسن أن يُستغل في طاعة الله تعالى!

محاسبة النفس على ما قدمت

محاسبة النفس على ما قدمت إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! حديثي معكم هذه الليلة عن الزمن والشباب، والحديث عن الزمن مهم جداً، وعن الشباب أهم، لا سيما وأننا في هذه الأيام المباركة قد ودعنا عاماً شاهداً لنا أو علينا، وبدأنا عاماً جديداً، فنسأل الله أن يجعله عام خير وبركة وعزة وكرامة للأمة الإسلامية.

المسلم كالتاجر لابد أن يدقق في المحاسبة

المسلم كالتاجر لابد أن يدقق في المحاسبة إنّ مرور هذه الأيام والسنين آية من آيات الله عز وجل قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:12 - 13]. وإن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم طويل باق ما بقيت الحياة الدنيا، وهو موجود منذ أن أهبط الله عز وجل أبانا آدم من الجنة، وأهبط عدوه إبليس، وقال لهما: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]. ومنذ ذلك الوقت والشيطان يتربص الدوائر بابن آدم، وقد توعد ابن آدم فقال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهذا أحد الأعداء. والنفس عدوة للإنسان أيضاً، فهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والشهوات التي جعلها الله عز وجل بيننا وبين الجنة خطيرة في سبيل هذا الإنسان أيضاً؛ ولذلك فإن هذا الإنسان على خطر، وعليه أن يستعد لكل أعدائه، وأن يأخذ من السنين والأيام العظة والعبرة، فإن هذه الأرض قد عاش عليها من عاش من هذه البرية، وكل جيل ينتهي، ويأتي جيل آخر، وهكذا كتب الله عز وجل الفناء على كل كائن حي، وما مرور الأيام والسنين إلا درس وعبرة لهذا الإنسان. إن التاجر الذي يعمل طول عمره في التجارة، ويبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويتعامل مع الناس، لا بد أن تكون له ساعة يفتش فيها دفاتر تجارته؛ لينظر ربحه أو خسارته، وهذا أمر فطري طبعي فطر الله عليه هذا الإنسان. وإن المسافر سفراً طويلاً وهو يمر بلوحات الطريق ومنعطفاته لا بد أن يقف أمام كل منعطف، وحول كل لوحة من لوحات الطريق؛ لينظر مقدار الطريق الذي قطعه، وماذا بقي عليه؟ وكم معه من الزاد؟ وهل معه ماء يبلغه؟ وهذه سنة الله أيضاً في الحياة. ونحن تجار مع الله، ومسافرون إلى الدار الآخرة، وبداية عام ونهاية عام تعتبر من أهم معالم الحياة ومنعطفاتها التي تستوقف المسلم؛ لينظر في ربحه أو خسارته، ولينظر مقدار الطريق، ومقدار ما بقي، وما قطع. نقف في هذه الفترة من الزمن التي ابتدأ فيها العام الجديد، وانتهى فيها العام الأول، وعلينا أن نتيقن من أن ما قدمناه في العام السابق محفوظ كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، وأن الله عز وجل قد وكل بكل واحد منا ملائكة تعلم ما يفعل كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. وقد يتجاوز الله عز وجل عما يتجاوز عنه من تلك السيئات، ويضاعف ما يضاعفه من هذه الحسنات، وقد أعد الله عز وجل لكل إنسان كتاباً، تطوى في كل يوم صفحة من صفحات ذلك الكتاب، لتفتح في اليوم الآخر صفحة جديدة بيضاء نقية، وهذا الإنسان يكتب له فيها ما يكسبه من صالحات أو سيئات، ثم إذا كان يوم القيامة فتحت هذه الصحائف، ونشر ذلك الكتاب: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:13] أي: نصيبه وحظه {فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] فيقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. هذه هي حصائد الأعمال، وثمرات الأيام والليالي التي قضيتها -أيها الإنسان- في حياتك، ويؤتى بهذه الصحائف، وينصب ميزان العدل يوم القيامة، وتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ويوقف الإنسان بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك من ملائكة الله، وتوزن الحسنات والسيئات، فإن ثقلت الحسنات نادى الملك: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت الحسنات وثقلت السيئات نادى هذا الملك: شقي فلان شقاوة لن يسعد بعدها أبداً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فالمسألة ليست مسألة أجسام، أو أحساب، أو آباء وأجداد وأنساب، أو كراسي، أو رتب عسكرية، أو أي ميزة من الميزات التي يتمايز بها الناس في هذه الحياة الدنيا؛ وإنما هي الحسنات والسيئات، وإنما هي الثمرة التي تغرس غراسها بنفسك في كل يوم وليلة، وفي كل ساعة ودقيقة وثانية من عمرك في هذه الحياة. ولذلك صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل ينشر على عبد من عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الله عز وجل لعبده: أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ -فيبهت الرجل، ويعلم أنه قد هلك، ولكن لطف الله عز وجل لا يفوت إلا من مات على الكفر أو على الشرك- فيقول: لا، فيقول الله عز وجل: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة، فيؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فتوضع السجلات في كفة وهذه البطاقة في كفة، فيقول هذا الإنسان: يا ربي! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، ثم تطيش السجلات، وتثقل البطاقة)؛ لأن فيها لا إله إلا الله. إن هذه الكلمة يقولها المؤمن والمنافق، والعاصي والمستقيم، لكن لا يستفيد منها إلا من عرف أهميتها، وعمل بمقتضاها؛ فلم يحن رأسه لغير الله عز وجل كائناً من كان، ولم يطأطئ ظهره لغير الله عز وجل، ولم يتمسح بأعتاب ميت كما يعمل المخرفون وأصحاب البدع والوثنيون، ولم يحن رأسه أمام أعتاب حي من الأحياء كما يعمل هؤلاء المتملقون لغير الله عز وجل. فهذه بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه السجلات عددها تسعة وتسعون سجلاً، وكل واحد منها مد البصر، ومع ذلك تثقل (لا إله إلا الله) بتلك السجلات، فحققوا يا إخوتي! (لا إله إلا الله)، وستجدون في طريقكم كل خير وسعادة، وتخلصوا من الشرك، ومن حقوق البشر، واعلموا أنكم تقدمون على رب كريم.

ماذا عملنا في العام الماضي

ماذا عملنا في العام الماضي في هذه الأيام نودع عاماً وهو يساوي نسبة كبيرة من العمر، لا بد أن نقف أمام سجلات الأعمال وكأنها قد نشرت أمام كل واحد منا يوم القيامة، فنحاسب أنفسنا، كما يقف التاجر أمام دفاتر التجارة، ويحسب القرش والريال؛ حتى يتلافى الأخطاء التي وقع فيها في العام الماضي، ثم يصحح ذلك في العام المستقبل، وكما يقف المسافر الذي يسير في طريق طويلة، ومعه قليل من الزاد، والسفر طويل، والسفر شاق، والجو قائظ حار، فلا بد أن يتفقد متاعه وما يحمله؛ حتى لا يعرض نفسه للهلكة. أيها الإخوة المؤمنون! إنّ الساعة التي نعيشها في هذه الأيام ساعة حاسمة، فإذا كنت قد أودعت سيئات فيما مضى فاستغفر الله وتب إليه، واشكر الله عز وجل الذي أمد في عمرك حتى تنتبه إن كنت في غفلة، واشكر الله عز وجل الذي يفتح باب التوبة دائماً وأبداً، فيبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. إنّ هذه النعمة لا تتوافر لغير المؤمن، فمهما عمل من السيئات، ومهما أسرف على نفسه، ومهما جنى من الخطايا فإن باب التوبة مفتوح، ولا يغلق حتى يغرغر هذا الإنسان، أي: حتى تبلغ الروح الحلقوم، أو حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].

الشباب والغرور

الشباب والغرور احذر -يا أخي- إن كنت شاباً أن يغرك الشباب، فتقول لك هذه النفس البشرية: أمامك فرصة، وأمامك زمن، وأمامك مهلة، انهل من متاع هذه الحياة وتمتع، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً! فإنّ هذه الأماني هي التي تغر كثيراً من الناس: {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، وهي أخطر شيء على حياة الإنسان، فإنّ الشيطان يأتي هذا الشاب فيقول له: انتظر، وتمتع، وافعل، واترك، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً فتصلي، ويمكنك أن تتوب مستقبلاً فتترك هذه المحرمات، ثم يوقعه الشيطان في حبائله إلى أن تغرغر هذه النفس، وتبلغ الروح الحلقوم، ثم يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] فيقال له: {كَلَّا} [المؤمنون:100]، وهذا الأمر يقع فيه كثير من الناس، ولذلك كم من الشباب من كانت تراوده التوبة وتدغدغه، وهو يؤخرها يوماً بعد يوم، ثم إذا به يفاجئه الأجل، فيحال بينه وبين ما يشتهي. كان الموت بالأمس القريب غالباً ما يكون على الفراش فلا يموت إلا مريض، ولا يموت إلا كبير السن، أما الآن فقد صرنا نعيش في فترة متأخرة من زمن الحياة الدنيا، فأصبح موت الفجأة أكثر بكثير من الموت الذي سبقته إنذارات وإرهاصات، وانظروا إلى حوادث السيارات، وانظروا إلى السكتات القلبية والجلطات، وانظروا إلى الأمراض المتعددة التي حدثت بسبب ما أحدثه الناس من معصية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، فما كان الناس يعرفون مرض السكري، ولا مرض ارتفاع ضغط الدم، ولا الجلطة، وإنما حدثت هذه الأمراض بسبب ما أحدثه الناس من معاصٍ لله عز وجل. ولذلك لو عملنا إحصائية: هل الذين يموتون من الشباب أكثر أم الذين يموتون من كبار السن؟ لوجدنا أن الذين يموتون من الشباب أكثر، ولو بحثنا لوجدنا أن الذين يموتون وهم أصحاء أكثر من الذين يموتون على فراش المرض، وإذا كان الأمر كذلك فعلى المسلم أن يبادر بالتوبة، فإن كان شاباً فعليه أن يستغل الفرصة قبل أن تنتهي مدة الشباب، وإن كان صحيحاً معافىً لا يشتكي مرضاً من الأمراض فعليه أن ينظر في هذه الأمراض التي تفتك بهؤلاء الناس.

وجوب الاستقامة كما أمر الله تعالى

وجوب الاستقامة كما أمر الله تعالى لا بد من المبادرة بالتوبة، ولا بد أن يطرح الإنسان كل هذه الأماني التي غرت كثيراً من الناس؛ لأن الشيطان توعد بني آدم من أربع جهات: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:17] أي: الأمام {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17]. وهذا أمر عجيب أيها الإخوة! فإن هذه الآية وأمثالها فسرها لنا الواقع، فنحن نعرف إلى عهد قريب أن أكثر ما يدخل الناس النار هي المعاصي، أو الكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هل تظنون أن هناك طاعات مزعومة أصبحت تدخل الناس النار أكثر من المعاصي؟! فإنك لو ذهبت إلى بعض البلاد لوجدت أُناساً يعبدون الله عبادة لا نستطيع أن نعبد الله معشارها، ونحن متأكدون أنهم ماتوا على هذه العبادة، ومع ذلك فهم حطب لجهنم، وليس هذا الأمر غريباً، فإن أهل النار إذا دخلوا النار يقولون لمن كان سبباً في إضلالهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، أي: لم تأتونا عن طريق المعصية، وإنما أتيتمونا عن طريق الطاعة. ولذلك لو أقسمت بأنّ أكثر من ثلاثة أرباع هذا العالم الآن يعرضون أنفسهم لعذاب الله عن طريق الطاعة، وأنّ الربع هو الذي يعرض نفسه للعذاب عن طريق المعصية ما كنت حانثاً، فهناك بدع وخرافات ووثنيات تفعل بقصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى! ووالله لقد رأينا بعضهم يقضي الليل كله في عبادة، ولكنها لا تزيده من الله إلا بعداً، وتذكرنا قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:1 - 4]. إذاً: لا بد أولاً أن نصحح المسار، قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ولم يقل الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) فقط، والاستقامة هي لزوم الطريق المستقيم، لكنه قال: (كَمَا أُمِرْتَ) فيفهم من ذلك أنّ هناك استقامة ليست كما أمر الله تعالى، أي: ليست استقامة حقة، ولكنها تشبه الاستقامة في ظاهرها، وأما الاستقامة التي تدخل الجنة فهي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وليست: فاستقم كما تهواه نفسك، وكما يمليه عليك ضميرك. أيها الإخوة! نحن مطالبون بأن نقف في أول خطوة من خطوات هذا العام الجديد تائبين متفقدين لأعمالنا، فإن كان هناك شرك أو أخطاء في المسار فعلينا أن نعود وأنْ نصحح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال الصحابة ذات يوم: يا رسول الله! الرجل منا يعمل العمل من أجل الله، ولكن يحب أن يراه الناس -أي: فماذا عليه في ذلك؟ - فأنزل الله عز وجل جواباً على هذا Q { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فاشترط الله تعالى في العمل شرطين: أن يكون صالحاً، وألاّ يكون فيه شرك. والمراد بالعمل الصالح أن يكون موافقاً للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، فالعمل الذي تحقق فيه هذين الشرطين هو العمل المقبول. ولذلك لما ذكر الله تعالى الوصايا العشر في سورة الأنعام قال في آخرها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، (وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً ثم قال: هذا صراط الله، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً كثيرة وقال: وهذه هي السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها ستر مرخاة) أي: مغطاة، ولكن يأتي الشيطان ويكشف هذا الطريق، ويدخل الناس منها يميناً أو شمالاً، ويتركون الطريق المستقيم. لقد أدركنا الآن أن هناك طرقاً منحرفة يميناً وشمالاً، وعرفنا الشياطين الذين يدعون إلى السبل، وللأسف أن أسماءهم لم تكن أبا جهل وأبا لهب كما كان ذلك في الجاهلية السابقة، بل تجد أن أسماءهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وسيف الدين، وصلاح الدين، وعماد الدين، وسعد الدين، ومع ذلك فهم الذين يزيحون هذه الأستار، ويقولون للناس: اسلكوا هذه السبل إلى النار، وهذا أمر خطير، فلم يمر في تاريخ البشرية مثل هذا الحدث التاريخي الأسود: أن يكون دعاة على أبواب جهنم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، فلو كان العدو من الخارج فمن السهل أن تحصن الحدود، وتحمى الطرقات، وتطوق بلاد المسلمين، ولكن المشكلة كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند وقديماً قال أحد أعداء الإسلام كلمة ما كان الناس يعرفون معناها، بل لم يكن معناها يخطر بالذهن، قال: إن شجرة الإسلام عظيمة، ولها جذور، وإنكم لا تستطيعون أن تقطعوها إلا من غصن من أغصانها. فما كان هذا الكلام معروفاً أولاً، أما الآن فقد رأينا هذه الأغصان التي يحاول أعداء الإسلام أن يقطعوا بها شجرة الإسلام السامقة.

استعراض صحائف الأعمال في كل عام والدعوة إلى التوبة

استعراض صحائف الأعمال في كل عام والدعوة إلى التوبة إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه. ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.

خطورة التهاون بالصلاة ووجوب التوبة من ذلك

خطورة التهاون بالصلاة ووجوب التوبة من ذلك لا بد أن يتفقد كل واحد منا نفسه، فإن كان عنده شيء من البدع التي تخالف المنهج الصحيح فعليه أن يبادر بالتوبة، وإن كان لا يحافظ على الصلوات الخمس فليبادر بالتوبة؛ لأن الله عز وجل يقول عن الذين لا يحافظون على الصلوات الخمس: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا} [القلم:42 - 43] يعني: في الدنيا {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] فتراه يسمع: الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح، وهو سليم وصحيح ومعافىً وفي نعمة وفي رخاء، وليس بينه وبين المسجد إلا أمتار، وهناك أنوار كاشفة، وكل شيء متوافر، ومع ذلك لا يستجيب لنداء الله عز وجل. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي يقدم على الله عز وجل بدون صلاة (يؤمر بأن يسجد يوم القيامة على طبق من نار، فإذا أراد أن يسجد لا ينثني ظهره، فينكب على وجهه في نار جهنم)، وهذا هو معنى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: يكشف الله عز وجل عن ساق نفسه، ويدعى هذا الإنسان ليسجد فلا يستطيع؛ لأنه كان في الدنيا يسمع المنادي يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو سالم، ثم لا يستجيب.

خطورة تعاطي الربا ووجوب التوبة منه

خطورة تعاطي الربا ووجوب التوبة منه من كان يتعاطى الربا فليبادر إلى التوبة، وليس هناك ذنب من ذنوب بني آدم بعد الشرك بالله أعظم من هذا الربا الذي تساهل فيه الناس، وأصبحوا يتعاملون به مع البنوك وكأنه أمر سهل! وأصبحوا يتعاملون بحيل مكشوفة فيما بينهم، فإنّ هذا من أخطر الذنوب، بل هو أخطر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل والكفر، بدليل أن الله تعالى توعد الذي يأكل الربا ولا يتوب بالخلود في نار جهنم، مع أنه لا يخلد في نار جهنم إلا الكافر، قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى} [البقرة:275] أي: تاب {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275]، ويقبل الله تعالى توبته بشرط أن يرد هذه الزيادات المحرمة التي وصلت إلى جيبه، فليست ملكاً له: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إذا كان يوم القيامة، قيل لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب!) يعني: حارب الله، فكما كنت تحاربه في الدنيا، حاربه الآن!

خطورة عدم أداء الزكاة ووجوب التوبة من ذلك

خطورة عدم أداء الزكاة ووجوب التوبة من ذلك ومن كان لا يؤدي زكاة المال فليتق الله، وليؤد زكاة المال، فإن في العالم الإسلامي مجاعة، وإن في العالم الإسلامي جهاداً يكاد أن يتعطل، بالرغم من وفرة الأموال بأيدي الناس، فليبادر المؤمن بأداء هذه الزكاة قبل أن ينتقل هذا المال من يده إلى يد الوارث، فيكون الحساب عليه، والمتمتع به غيره، وليبادر بأداء الزكاة قبل أن يصفح له هذه المال صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره عياذاً بالله! وكلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد -وهذا قبل دخول النار والجنة-، فيُرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار. ويقول الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] فالذين لا يؤدون الزكاة يشابهون المشركين في هذا الذنب. ومن كان يتناول المحرمات كالمخدرات والمسكرات، أو يركب الفواحش، فعليه أن يبادر قبل أن يسقيه الله عز وجل من طينة الخبال يوم القيامة، وهي عصارة أهل النار، فليتب قبل أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أكثر الذين تركوا ذلك اليوم، فعليهم التوبة والقيام بهذه الشعيرة العظيمة، فوالله لو أن كل واحد منا ألقى كلمة في المجتمع، وقال للفاسق: اتق الله، لخجل هذا الفاسق، واتقى الله، سواء كان حياءً أو استقامة، لكن يمر الصالحون بالمجموعات في وقت الصلاة فلا يكاد أحدهم يقول لهؤلاء: اتقوا الله وصلوا، والجار يعرف بأن جاره يفعل بعض المحرمات من الفواحش والمعاصي والذنوب وترْك الواجبات فلا يبالي هذا الجار أن يقول له: اتق الله، بل الأعجب من ذلك أنّ بعض الآباء يعرف ما يفعله أبناؤه من المعاصي في داخل البيت، فلا يقول لهم: اتقوا الله، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. فالأمانة والمسئولية عظيمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وإذا أردتم الدليل على التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فانظروا إلى المسلمين المصلين في صلاة الفجر، وأحصوا الأطفال والشباب، فستجدونهم قلة، بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية المباركة، وتجد هذا الأب كالسارية من سواري المسجد من شدة ملازمته للمسجد، ولكن لا يبالي ما يحدث في بيته، وكأنه وحده هو الذي سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل؛ فهذه كلها من البلايا والفتن التي أصابت المسلمين. فعلينا أن نبادر بالتوبة، وأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وألاّّ نخاف في الله عز وجل لومة لائم، فإن الأرزاق والأعمار والآجال والحياة والموت كلها بيد الله عز وجل وحده، (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك تجب علينا التوبة من الغيبة والنميمة والحديث في أعراض الناس، فهذه الأمور يجب علينا أن نحذرها.

انتشار الدين في هذا العصر واستغلال ذلك

انتشار الدين في هذا العصر واستغلال ذلك إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه. ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.

التفاؤل بالصحوة الإسلامية

التفاؤل بالصحوة الإسلامية أيها الإخوة! نحن متفائلون في هذا القرن، فأنتم تشاهدون -والحمد لله- أن كل سنة أفضل من السنة التي قبلها، وأن كل جيل يكون أحسن من الجيل الذي مضى قبله في هذه السنوات الأخيرة، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، فبالرغم من تقصيرنا في جنب الله عز وجل، وتقصيرنا في الدعوة، وتقصيرنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، وإذا أردتم دليلاً على ذلك: فانظروا إلى الأبناء والآباء، فستجدون غالباً أنّ الأبناء أفضل من الآباء، بل ستجدون الأبناء الصغار أحسن من الأبناء الكبار، وهكذا كلما صغر السن كان صاحبه أقرب إلى الحق وإلى الفضيلة، فهذه فرصة أخشى ألاّ تطول، وإن كنا متفائلين بأنها -إن شاء الله- سوف تستمر، ولكن أخشى أن يُعترض سبيلُها؛ لذا يجب علينا أن نجد ونجتهد في الدعوة، وأن نستغل هذه الفرصة كما قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فالرياح إذا هبت وأنت تريد أن تذرأ الزرع فلا تفوت الفرصة؛ لأنّ الرياح إذا توقفت في يوم من الأيام فإنك لا تستطيع أن تصلح حبك، ولذلك أقول: لا بد أن ننشط في الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام، فهذه المراكز الصيفية والحمد لله، وهذه مراكز الدعوة التي يقوم فيها الشباب بتربية أبنائنا دون أن نحتاج إلى كلفة أو عناء، فما عليك يا أخي إلا أن تسلم ولدك إلى هذه المراكز التي منّ الله تعالى على هؤلاء الشباب الصالحين بإقامتها، فسعوا إلى تربية أبناء المسلمين، فنشكر هؤلاء الشباب، ونشكر الله سبحانه وتعالى، ثم نشكر للدولة أيضاً فقد كانت سبباً في وجود هذه المراكز، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهديهم للاستقامة على دين الله، وأن يثبتهم على ذلك، وأن يهدي جميع ولاة أمور المسلمين.

حث الشباب على أن يكونوا على مستوى المسئولية

حث الشباب على أن يكونوا على مستوى المسئولية أيها المؤمنون! لا بد من التوبة والمبادرة بالعمل الصالح قبل أن تفوت الفرصة، وأدعو الشباب ألاّ يفوتوا هذه الفرصة، وأن يبادروا بالتوبة، وأن ينضمّوا إلى أصحاب الصحوة الإسلامية، فقد تبين الرشد من الغي، وظهر الأمر جلياً، وأصبح الأمر واضحاً. ونريد من شبابنا هؤلاء ألاّ تغرهم هذه الأماني التي غرت كثيراً من الناس، فقدموا على الله عز وجل على غير استعداد، وعلى غير أهبة، بل نريد منهم أن يكونوا في مصاف الرجال الذين أخبرنا الله عز وجل عنهم في مواطن كثيرة من القرآن: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7]، وأن يتحملوا المسئولية، وأن يقتدوا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإن كانت أعمارهم في سن الشباب، أو في سن الطفولة، أو في سن ما يسمى بالمراهقة، فينبغي أن يكونوا في عقول الرجال، وفي مصاف الرجال، وهذا هو المنهج الذي سار عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فقد كان في سلفنا الصالح من هم على مستوى المسئولية، وفي مصاف الرجال، وهو مازال في سن مبكرة من العمر، ولو أردنا أن نتحدث عن شيء من أخبار هؤلاء لأصبح الحديث قريباً من الخيال. أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قاد جيشاً إلى بلاد الشام في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمره لا يتجاوز ثماني عشرة سنة، وكان في هذا الجيش من كبار الصحابة، وسار هذا الجيش في الفترة التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبت للمسلمين قوته وشجاعته أمام الرومان، وكان لهذا الجيش ما له من الأثر، والقائد شاب لا يتجاوز عمره ثماني عشرة سنة! قائد آخر يصغره بالسن سنة كاملة، وهو: محمد بن القاسم الثقفي رحمه الله، فقد قاد جيشاً وعمره سبع عشرة سنة إلى بلاد السند، فضم إلى بلاد المسلمين ما يسمى بشبه القارة الهندية اليوم، وقتل داهراً ملك البلاد، ونشر الإسلام، وحطم الأصنام، وأقام دولة إسلامية هناك، ولعلكم تعرفون أن سكانها من المسلمين في أيامنا الحاضرة يزيدون على ثلاثمائة وخمسين مليوناً في الباكستان والهند وبنغلادش، وهي ما يسمى بشبه القارة الهندية، فهذه البلدان، وهذا العدد الكثير من السكان فتحها رجل واحد بجيش قليل، لكن بعزيمة أعتى وأصلب من الحديد، وما زال العالم الإسلامي يعتز بتلك المنطقة التي تعتبر من أبرز وأهم مناطق العالم الإسلامي، وسكانها يزيدون على ثلث العالم الإسلامي، فهذا شاب لا يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، إلاّ أنّه شاب تربى على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين. وكان من شباب المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقف في الصف على رءوس أصابعه، فسئل عن السر في ذلك؟ فقال: حتى يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، فيكتبني مع المجاهدين، ولذلك فنحن نريد هذا النوع من الشباب، علماً أن الساحة لم تخل -والحمد لله- من هذا النوع من الشباب، لكن نريد أن ندخل في السلم كافة، ونريد أن تنضم المجموعة إلى المجموعة؛ وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

سقوط صنم الشيوعية

سقوط صنم الشيوعية والله يا إخوان! من يسافر إلى أرض أفغانستان في أيامنا الحاضرة فسيرى شيئاً من هذه العجائب، سيرى شباباً في مستهل العمر، وقد كانوا أبناء ترف، ونشئوا في بيوت نعمة ورخاء، من هذه البلاد المباركة ومن غيرها، ويتسابقون هناك إلى الموت، وكأنهم عاشوا في شظف من العيش، وخشونة من الحياة، وما كأنهم أبناء نعمة ورخاء، وكان لتواجدهم هناك أثر في سقوط صنم الشيوعية، فقد كان أبناء المسلمين يتسابقون إلى الموت من كل بلاد العالم الإسلامي، وحتى من البلاد المدنية، ومن أصحاب الرخاء والنعمة، فوالله لو رأيتم ما رأيت لرأيتم أمراً عجباً، وليس بالعجب على هذا الدين، فإن الإسلام يصنع أمثال هؤلاء الرجال، ولو كانوا في مستهل الحياة. نحن نريد من شبابنا أن ينتبه، فمنهم من لم ينتبه بعد، وأن يستيقظ، فمنهم من لم يزل نائماً، وأن يبدأ هذه الحياة بتوبة وإنابة وعمل وجد، لا سيما وأن المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة بدأت تتساقط اليوم أمام أقدام المسلمين، فهذا هو صنم الشيوعية المادية الملحدة -وهو أكبر صنم- قد هوى وتساقط، وقد كانت ترهب العالم الإسلامي في يوم من الأيام، وكانت تقض عليهم مضاجعهم، وأنا واثق بإذن الله، بل وأقسم -لأن الله عز وجل قد وعدنا بذلك، وهو لا يخلف الميعاد- أنّ كل هذه الأصنام، وكل هذه الأوثان، وكل هذه الملل، وكل هذه الأفكار المنحرفة سوف تهوى وتتساقط بإذن الله عز وجل أمام أقدام المسلمين؛ وذلك حينما يشعر شباب الأمة الإسلامية بالواجب الذي أناطه الله عز وجل بأعناقهم، وحينما لا يقتل الوقت في لعب الورق والأعمال التي تضيع العمر، بل فيما هو أخطر من ذلك فيما حرم الله عز وجل، ولذلك فأنا أدعو الشباب إلى أن يتربى في المسجد، فإن الله عز وجل قد أخبرنا أن شباب المسجد هم الرجال، وهم الذين تلتهب في عقولهم وفي قلوبهم أضواء الإيمان: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، فهذا هو متربى الرجال حقيقة، ولا أريد شباباً يتربى أمام الأفلام، ويرقب عقارب الساعة منتظراً لمواعيد الأفلام، ويبحث عن المسلسلات، ويبحث عن أشياء أخرى تعرفونها لا تحتاج إلى تعداد، بل أريد شباباً قلوبهم معلقة بالمسجد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فتراه يرقب عقارب الساعة منتظراً مواعيد العبادة والوقوف بين يدي الله عز وجل. ينبغي أن يكون الشباب على هذا المستوى، ويشعر بهذه المسئولية، ويقدر لها قدرها، ويقيم لها وزنها، ويأخذ من مرور السنين والأيام العظة والعبرة، وكلما مر عليه يوم من أيام الله عز وجل ازداد قرباً من الله عز وجل، فكل يوم مضى يقربه من الحياة الآخرة، مهما كان، وفي أي سن كان، قال الشاعر: والمرء يفرح بالأيام يقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل وقال الآخر: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان يعني: اعرف أن عمرك دقات قلب، ولو أردت أن تحسب دقات هذا القلب لوجدتها محدودة، وسوف تتوقف هذه الدقات في أي لحظة، وتنتهي الحياة، فالمسلم مطالب أن يستغل الفرصة، والله تعالى قد أخبرنا بالحكمة من خلق هذا الإنسان، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فجميع ما يزاوله الناس من أعمال في تعمير الحياة الدنيا أو كسب العيش، أو تحصيل أي أمر من الأمور، إنما هي وسيلة وليست بغاية، أما الغاية فهي العبادة.

استغلال الحياة وفترة الشباب في الطاعة

استغلال الحياة وفترة الشباب في الطاعة إنّ الأمر الذي يهمنا: أننا الآن نعيش فترة عام جديد، ونبتدئ فترة من فترات العمر الثمين، فلا بد أن نقف فيها لحظات من الزمن للتفكير، وكل واحد منا يستعرض صحائف الأعمال وكأنها منشورة أمامه، ويقول لنفسه: أنا عملت في العام الماضي كذا وكذا وكذا، فالتوبة التوبة، وقصرت في جنب الله في العام الماضي في كذا وكذا، وأولادي لم أُربّهم في العام الماضي على طاعة الله، وكانت في بيتي أفلام وصور وكتب ضلال ومحرمات وغير ذلك، فهل هذه تقربني إلى الله أو تبعدني من الله عز وجل؟ وقد فرطت في الأمانة، فأنا مدرس مؤتمن على أبناء المسلمين ومع ذلك ما كنت أقوم بالنصيحة لهم، وما كنت أقوم بتربيتهم، وأنا إمام مسجد ولم أتفقد جيراني والمصلين معي، وهذه كلها أخطاء لا بد أن أصلحها في هذا العام الجديد، ولم أكن أقوم في العام الماضي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي مثل هذه الأيام بصفة خاصة، لأن هذه الأيام تعتبر مفرقاً بين طريقين: أجل قد مضى لا ندري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا ندري ما الله قاض فيه. ولذلك: فعلى كل واحد منا أن يقف ساعة مفكراً بينه وبين نفسه: ماذا عمل؟ وماذا ترك؟ وهل أعماله ترضي الله عز وجل، أو أنها مما يغضبه سبحانه؟ فلا بد أن يبادر بالتوبة، وما يدريك يا أخي! ربما يكون هذا العام هو آخر أيامك في هذه الحياة، بل ربما تكون هذه الليلة هي آخر ليلة لك في الحياة، وكم من الناس من ينام على فراشه الوثير آمناً مطمئناً، فلا ينتبه إلا في يوم الحشر! وكم من الناس من يعيش مع زوجته وأهله في رغد من العيش، وفي نعمة، وفي فرح وسرور، ثم إذا به لا ينتبه إلا في ظلمة القبر! وهذا أمر مؤكد لا ينكره أحد من الناس، بل يؤمن به المؤمن والكافر، أعني: الموت.

حال الإنسان في هذه الدنيا

حال الإنسان في هذه الدنيا هذا الإنسان إما أن يكون جاداً في السير إلى ربه، أو غير جاد، وأنا أشبه هؤلاء الناس بقسميهم برجلين، أعلنت الدولة أن هذين الرجلين سوف ينفيان بعد مدة من الزمن إلى صحراء قاحلة، إلاّ أنّ هذه المدة مجهولة وغير محدودة الأمد، فكان أحدهما عاقلاً فقال: ما دامت هناك صحراء قاحلة ليس فيها سكن، وليس فيها ماء، وليس فيها ظل، فسأقوم بعمارة هذه الصحراء، فمتى تم الرحيل كنت مسروراً، فشرع في عمارة هذه الصحراء، فحفر فيها بئراً، وغرس فيها غرساً، وبنى فيها داراً، وجهزها للرحيل، أما الآخر فكان ذا كسل، وكان ذا ملل، وكان ذا تسويف فقال: سأنام، حتى إذا قرب موعد الرحيل إلى هذه الصحراء سعيت إلى عمارتها. وهكذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما أسرع ما تنقضي هذه الحياة الدنيا! ولذلك فإن الله تعالى يمثل لنا هذه الحياة الدنيا بالزرع فقط، وأكثركم يستعمل الزراعة، فإنك ترى الزرع ينبت اليوم، ثم يرتفع، ويخضر، وينمو، ويقوى، ثم يبدأ يصفر، ثم يتساقط: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ} [يونس:24] اخضرت {أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24] زهور وروائح جميلة {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24] يعني: الحصاد في أي لحظة {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، هذا هو مثل الحياة الدنيا! {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. أيها الإخوة! إن أمر الإنسان قريب الشبه بالنبات؛ ولذلك كثيراً ما يصور الله عز وجل الحياة الدنيا بالنبات، والإنسان في ولادته يشبه النبتة حين تنبت من الحبة في جوف الأرض، ثم في نموه، ثم في اكتمال نموه، ثم في اصفراره، ثم في يبوسته وتساقطه على الأرض، ثم في عودته مرة أخرى حينما يأتي الماء؛ لذا يشبّه الله عز وجل دائماً هذا الإنسان بهذا النبات.

الحكمة من الحياة والموت

الحكمة من الحياة والموت لقد أخبرنا الله تعالى عن الهدف من الموت والحياة، فنحن لا نقول كما يقول ذلك الملحد: أنا لا أدري من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ بل نحن نعرف أننا جئنا من أصلاب آبائنا، ابتداءً من أبينا الأول آدم، ونعرف أننا خلقنا للعبادة، ونعرف أننا ذاهبون إلى الدار الآخرة، ونعرف أن هذه الحياة الدنيا إنما هي جسر وممر، وقد حدد الله تعالى هذا الهدف فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2] فهذا هو الهدف، ومن جهل هذا الهدف فعليه أن يعرفه، واعلموا أنّ الليل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تودعون فيهما؟ والليل والنهار خلفة كما أخبر الله عز وجل، أي: يخلف أحدهما الآخر، فإذا فاتتك عبادة في الليل فاستبدلها بعبادة في النهار: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] وإذا فاتتك عبادة النهار: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26] ولهذا قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ} [الفرقان:62] والخلفة عند العرب: هي ما بين الحلبتين، فتحلب الناقة، ثم تكون هناك فترة، ثم تحلب مرة ثانية، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].

استغلال فترة الشباب في طاعة الله تعالى

استغلال فترة الشباب في طاعة الله تعالى اعلم يا أخي المسلم! بصفة عامة، ويا أخي الشاب! بصفة خاصة: أن لك عمراً محدداً من عند الله عز وجل، وأنك تمر بأطوار: طفولة، ثم فتوة، ثم شيخوخة، ثم فناء، وحينما نقول: فناء -أي: موت- أعني: فناء له عودة، قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] ولكن اعلموا أنّ أيام الفتوة وأيام الشباب هي أفضل وقت للعمل؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟). فهذه أربعة أسئلة استعدوا لها: أين أمضينا العمر؟ وكيف أمضيناه؟ وقوة الشباب التي هي أحسن فرصة للعبادة ماذا فعلنا بها؟ هل استعملناها في معصية الله، وغرتنا الأماني وقلنا: يمكننا التوبة فيما بعد، أم استعملناها فيما يرضي الله؟ والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، ولذلك فقوة الشباب نسأل عنها، وكذلك نسأل عن الصحة والعافية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: صحتك قبل مرضك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) فقد تشغلك الأمراض، فتحاول أن تعبد الله فتعجز، أما الآن فأنت في صحة، فبادر بهذه الصحة، واستغلها فيما يرضي الله عز وجل. إخوتي! أدعو نفسي وأدعوكم إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، واستغلال مستهل العمر، فإن للشباب طفرة لا بد أن يصحبها عقل وتفكير وخوف وخشية من الله عز وجل، وإلا فكما قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة إنّ الشباب والقوة سلاح ذو حدين، فإما أن يستغل الإنسان هذه القوة فيما يغضب الله عز وجل، فحدث ولا حرج عما تحدثه هذه الفتوة وهذا الشباب من شر، وإما أن يستغله في خشية الله عز وجل، وما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا أظن أن أحداً من الناس يستطيع أن يفعل ما يفعله الشباب من الأعمال الصالحة؛ لأن هذه القوة العارمة لا تقف عند حد من الحدود.

مسئولية الدعوة إلى الله تعالى وترك المنكرات

مسئولية الدعوة إلى الله تعالى وترك المنكرات أيها الإخوة الشباب! أنا أحمل كل واحد منا مسئولية أمام الله عز وجل، مهما كان موقعك في هذه الحياة، فإن كنت عضواً في المراكز الصيفية فاجذب أبناء المسلمين إلى هذه الخلايا الطيبة، وأنقذهم من جلساء السوء، ومن الفراغ، وإن كنت مدرساً فوجه هؤلاء الأبناء إلى ما يرضي الله عز وجل؛ فإنهم أمانة، وإن كان لك إخوان فاحفظ إخوانك مما يغضب الله عز وجل، وإن كنت أباً فاحذر أن تضيع الأمانة، فإنك ستسأل عنها يوم تقف بين يدي الله عز وجل، فقد جاء في الأثر: (إنّ البنت توقف أباها بين يدي الله عز وجل، وتقول يوم القيامة: يا رب! زده عذاباً ضعفاً في النار؛ لأنّه خانني). وإن كنت جاراً، فاتق الله في الجوار، وأد حق الجوار، وأعظم حقوق الجوار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كنت صاحب مكتبة فاحذر أن تجلب إلى بلادك ما يغضب الله عز وجل من الصور والفتن، وما يفسد أخلاق وعقول الشباب، وإن كنت في أي موقع من مواقع هذه الحياة، فاعلم أنك على ثغر من هذه الثغور، وسوف تسأل عن هذه الأمانة يوم تقف بين يدي الله عز وجل. وفي الأخير أقول: لا أعلم أن أحداً منكم أعظم تقصيراً مني، أو أكثر إثماً مني، ولكني أستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى (لا إله إلا الله) ولوازمها

معنى (لا إله إلا الله) ولوازمها Q إذا كان كل من قال: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) إلى الجنة، ولو عمل ما عمل، وفعل ما فعل من المعاصي، فلماذا نعمل إذاً؟ A هذا الظن خطأ! ولعل الأخ الذي أورد هذا الإشكال أخذ ذلك من حديث البطاقة، ففيه أن هناك بطاقة فيها: (أشهد أن لا إله إلا الله) توزن مع السجلات، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة، وهذا الحديث صحيح، وفي أحاديث أخرى: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله). اعلم يا أخي! أنّ هذا عنوان وأصل له فروع، فإن (لا إله إلا الله) لو أردت أن تحللها لوجدت أنها تحتوي على كل الأعمال الصالحات، وتجنب جميع المنكرات التي يفعلها الناس، فكلمة: (لا إله إلا الله) لها مسئوليات، ولها إثبات، ولها نفي، ولها إيجابيات، ولها سلبيات، فمعنى رجحان البطاقة: أنّ هذا الإنسان الذي قدم بها على الله عز وجل وفيها: لا إله إلاّ الله، أنه كان يطبق حقيقتها؛ لأن معنى (لا إله): أن تنفي كل ما يعبد من دون الله عز وجل من الشهوات والمحرمات وكل ما يغوي الإنسان ويورده النار، و (إلا الله) معناها: العبودية لله عز وجل وحده، وهذه العبودية تتطلب أداء كل أركان الإسلام، وكل الواجبات. لكن إذا أدى الإنسان أركان الإسلام، وكان عليه ما عليه من الآثام فقد يتجاوز الله عز وجل عنه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، أما الكفر والشرك فإن الله عز وجل لا يغفر منهما شيئاً، وكذلك ترك الصلاة فإنه كفر، فهل يفكر في دخول الجنة من لا يصلي؟! نقول: لا، فإنه كافر مرتد؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة:11]، فمعنى (لا إله إلا الله) أن يعمل بمقتضى هذه الكلمة نفياً وإيجاباً، وأن يؤدي الأركان التي هي أسس دخول الجنة، وهي مفتاح الجنة، لكن لو كانت عليه بعض الذنوب والآثام فإن الله قد يغفرها له بشرط ألاّ تكون حقوقاً للناس؛ لأن حقوق الناس لا بد أن تؤديها إلى أصحابها، أما لو كانت عليه سيئات بينه وبين ربه فإن الله تعالى قد يتجاوز عنها ولا يبالي، كما جاء في الحديث الصحيح: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وكون الإنسان يقدم على ربه سبحانه بسيئات لم يتب منها فهذه مخاطرة، لكن لو قدم بسيئات لا تصل إلى درجة الكفر، ولا درجة الشرك، فلعل الله أن يتجاوز عنها؛ لأنه تعالى وعد بذلك، ولكن لم يعط الوعد لكل الناس، بل لمن يشاء، فقال: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) يعني ما دون الكفر والشرك (لِمَنْ يَشَاءُ) أي ليس لكل الناس. فكلمة (لا إله إلا الله) وحدها لا تدخل الجنة، إلا إذا عمل الإنسان بمقتضاها نفياً وإثباتاً، لأن (لا إله) معناها: أن ينبذ العبد عبادة الهوى والشهوات والمعاصي والمحرمات، و (إلا الله) معناها: أن يقيم تعاليم الإسلام، لأن معنى الإيمان بالله عز وجل أن يقيم تعاليمه سبحانه وتعالى، وأن يطيعه في أوامره، ولذلك جاء في الأثر: (لا إله إلا الله: هي مفتاح الجنة، لكنها تحتاج إلى أسنان) فهي مثل شجرة تحتاج إلى ثمر، وهذه الثمر هي الصالحات.

أسباب الثبات على هذا الدين وأسباب الانحراف عنه

أسباب الثبات على هذا الدين وأسباب الانحراف عنه Q الصحوة بحمد الله منتشرة، ولكن ما هي الأسس التي تثبت الشباب التائب على التوبة، وجزاكم الله خيراً؟ A الأسس كثيرة، والعقبات كثيرة، وأكبر عقبة تصرف الشباب عن الصحوة الإسلامية بعد أن يهتدوا هي: جلساء السوء، فكثيراً ما نسر بشاب اتجه إلى ربه، ثم نفاجأ بعد فترة أنه قد انحرف، وإذا تتبعنا أخباره وجدناه يصاحب أناساً لا خلاق لهم، فربما يسخرون من تدينه، ويسخرون من لحيته، ويسخرون من ثوبه القصير، ويسخرون من سلوكه، وقد يسخرون من ذهابه إلى المسجد، فهذا يعتبر من أكبر العقبات التي تحرف الشباب. ولذلك نقول: إنّ أول ما تفعله حينما تتجه إلى الله أن تتجنب جلساء السوء، إلا إذا كنت على مستوى عالٍ من العقلية والقوة الشخصية، فتريد أن تدعوهم إلى الله فهذا أمر مطلوب، أما إذا كنت أقل منهم شخصية فإن عليك أن تجتنبهم. ومن الأسباب التي تثبت الإنسان على هذا الطريق العلم، فإني أرى اليوم كثيراً من الشباب الذين اتجهوا إلى الله قد اكتفى بما عنده من العلم، وربما يأتيه شيطان من شياطين الإنس أو شياطين الجن ويوسوس له، ثم يحرفه، ولذلك أقول: عليك أن تبحث عن العلم الشرعي الذي يعرفك بالله عز وجل، وأن تقرأ القرآن وتتفهم معانيه، وأن تقرأ شيئاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتتفهم معانيها، وأن تقرأ شيئاً من الكتب العصرية التي تحذر من الأفكار التي تفد إلى بلاد المسلمين، ثم تجتنب هذه الأشياء، فهذه كلها أمور مطلوبة في سبيل هذه الصحوة الإسلامية المباركة. كذلك من هذه الأشياء: أن يسأل الإنسان الثبات من الله عز وجل، بل هذا أهم الأمور، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمة فكيف بنا نحن المقصرين؟! فيجب علينا أن نسأل الله دائماً الثبات، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله: (يا رسول الله! أتخشى على نفسك وأنت رسول الله؟! فقال: يا عائشة وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟). فيجب علينا أن نسأل الله الثبات، لا سيما في عصر الفتن الذي نعيشه اليوم، هذا العصر الذي يصبح فيه الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، عصر التقلب؛ لذلك نسأل الله دائماً الثبات ولا نغتر؛ لأنّ الغرور أخطر شيء في حياة الإنسان، فهو الذي أخرج إبليس من الجنة، وأدخله النار، بل جعله قائد الكفرة إلى النار، فعلينا أن نستشعر التقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].

خطورة الاستهزاء بالدين أو بحامليه

خطورة الاستهزاء بالدين أو بحامليه Q ذكرت أن من الأسباب التي تثبت الإنسان على الدين: بعده عن قرناء السوء، وذكرت استهزاء بعض الناس به، فما توجيهك حول الاستهزاء بالشباب الصالحين؟ A هذا الأمر من أخطر الأمور التي يبتلى بها من يضل عن الطريق، فالاستهزاء بدين الله أعظم ذنب في هذه الحياة، ولذلك سمى الله تعالى الذين يسخرون من المؤمنين أئمة الكفر، وأمر بقتالهم، فقال سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان) فالذي يسخر من دين الله يكون من أئمة الكفر، وليس كافراً فقط، ولذلك فالذين يسخرون من الدين ويقولون: انظر إلى لحية فلان، وانظر إلى ثوبه القصير، لا يعلمون أنّ هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبسبب طول الأيام، والمشاكل التي أصابت المسلمين، والانحراف، والغفلة الطويلة، نسي المسلمون أن هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار بعضهم يسخر من ثوب الإنسان القصير، وما علم أن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصار يسخر ويقول: انظر إلى فلان إذا أراد أن يصلي يمد ظهره، ويضع يديه، وانظر كيف يقبض نفسه، ولا يصلي إلا إلى سترة، وما علموا أنّ هذه كلها من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك أمور كثيرة نسيها الناس وهي من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد بعض إخواننا أن يحيي هذه السنة، ظن هؤلاء الناس أنهم قد ابتدعوا في دين الله. المهم يا إخواني! إذا وصل الأمر إلى السخرية من دين الله فهو عظيم وخطير، فإذا كانت السخرية من نفس الإنسان مصيبة، فما بالك بالسخرية من دين الله تعالى، وأنت حينما تسخر من إنسان اتسم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما تسخر من السنة نفسها لا من ذات ذلك الإنسان، فيخشى أن يقع عليك هذا الوعيد: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]؛ لذلك أقول: اتق الله يا من وقع في السخرية بهؤلاء المؤمنين! وهذا الأمر يحدث في أيامنا الحاضرة كثيراً، بل أسمع بعض الآباء يسخرون من أبنائهم فيقولون في بعض الأحيان: ولدي موسوس، ولدي دخله الدين، ولدي فيه كذا، وهو في الحقيقة لا يسخر من ولده، وإنما يسخر من دين الله عز وجل، فنحذر هؤلاء الناس من الوقوع في ذلك. وقد أخبرنا الله عز وجل أن هذا الصراع سنته في الحياة دائماً وأبداً، فالناس على صنفين: مجرم، ومؤمن، والساخر هو المجرم، والمسخور منه هو المؤمن، ولذلك يقول الله تعالى في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]: انظر إلى لحيته انظر إلى ثوبه انظر إلى شكله، مسكين هذا، وما عرف هذا الساخر أنه هو المسكين، وليس هذا المسكين {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:30 - 31]؛ أي: إذا ذهب إلى بيته يقول لزوجته: ولد فلان ما أدري هل أصيب في عقله؟! أراه الآن قد رفع ثوبه، وأرخى لحيته، وأصبح يتمسكن، فما أدري ما الذي حدث له؟! فيتفكه هو وأهله بولد فلان من الناس، أو حتى بولده، والله تعالى يقول: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:32 - 33]، ثم تتغير هذه المعايير يوم القيامة، يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، ولذلك أقول: انتبهوا لهذا الأمر. وقد أخبرنا الله عز وجل في مكان آخر أن أهل النار يعتذرون إلى الله عز وجل فلا يقبل الله عذرهم، ويقول لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]، فنحتاج إلى صبر يا إخوان، لما تجد أباك أو أخاك يسخر منك، ويضحك منك، أو تجد إنساناً آخر لا يخشى الله يسخر منك، فإن هذه السخرية مؤلمة للنفوس، فتحتاج إلى صبر، وهذا الصبر هو الذي يدخلك الجنة، وامتداد هذه السخرية هي التي تدخله النار، نعوذ بالله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ). وكما أخبرنا الله عز وجل في القرآن في سورة الصافات: أن رجلاً كان له قرين كاد أن يفتنه في دينه، ويسخر من تدينه، وكاد أن يميل معه لولا أن الله تعالى ثبت أقدامه عن هذه المزلة، فإذا دخل الجنة بحث أين ذهب فلان؟ ويقول لجلسائه في الجنة: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:51 - 54] أي: يبحثون عنه {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55]، فماذا يقول له؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57]، يعني: بسخريتك وبأذيتك وبمخالطتك الخبيثة كدت أن تدخلني معك النار، ولولا أن الله رحمني لكنت معك، أي: أنه يطل عليه من شرفات الجنة، وذاك يتقلب في لهب جهنم. فالسخرية من المؤمنين أمر خطير، ومن ابتلي بمعصية فلا يسخرن ممن هداه الله عز وجل للفطرة، وأنا أقول لكم بهذه المناسبة: أنا أرى الثياب تجر في هذه البلاد أكثر من أي بلد آخر، فما أدري ما هو السبب؟ فإن كثيراً من الشباب الذين لم يهتدوا بعد، أو عندهم بعض الصبوة يجرون ثيابهم، ويسخرون في بعض الأحيان من الشباب الذين يرفعون ثيابهم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يرفع الثوب عن الكعبين، وفي الحديث: (أزرة المسلم إلى نصف ساقه) وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، فأنا أحذر هؤلاء الشباب الذي يجرون ثيابهم، ويجعلونها تخط الأرض، أحذرهم من هذا الوعيد الشديد، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) فأولهم المسبل، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فإذا رأينا من يجر ثوبه فعلينا أن نقول له: اتق الله، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى مرة رجلاً يجر ثوبه وهو يصلي فقال: (اذهب فأعد الوضوء) فاستدل بعض العلماء بهذا الحديث -وإن كان فيه شيء من الضعف- على أن الصلاة تبطل إذا كان المصلي مسبلاً إزاره خيلاء، فنعوذ بالله من ذلك.

كيف يستغل الوقت في العطلة الصيفية

كيف يستغل الوقت في العطلة الصيفية Q وقت الفراغ في العطلة الصيفية يكون كبيراً، فبماذا تنصحنا في هذه العطلة كي نستغل الفراغ؟ A استغل الفراغ فيما يرضي الله تعالى، واعلم أن الشيطان يبحث عن الفراغ ليملأه بالشرور، والفرص الآن -والحمد لله- كثيرة، فهذه المراكز الصيفية موجودة، وأنا أكرر رجائي لكل أب أن يضم ولده إلى هذه المراكز الصيفية؛ لأن القائمين عليها -والحمد لله- كلهم أهل خير، نحسبهم كذلك والله حسيبهم، أو إلى المكتبة، فإن المكتبة تشغل فيها الفراغ، وتعرف أمور دينك ودنياك، أو إلى العمل إذا لم تكن أهلاً لهذا ولا لذاك، فتعمل مع أبيك إن كان صاحب دكان، أو صاحب تجارة، أو صاحب مزرعة، المهم ألا تترك لك فراغاً؛ فإن الفراغ خطير في حياة الشباب.

خطر إيداع المال في البنوك الربوية

خطر إيداع المال في البنوك الربوية Q إذا كان عند الشخص مال في البنك مثلاً، وكان كلما وجد زيادة أرجعها إلى البنك، فهل يكون عليه إثم في إبقائه هذا المال في البنك مع أنه يرجع المال الزائد؟ A أخذ المال الزائد هو الربا الذي هو أخطر الذنوب كما قلت لكم، فلو تاب الإنسان فإن العلماء في عصرنا الحاضر مختلفون في جواز أخذ هذه الزيادة للتائب، فيقول بعضهم: خذه ولا تدعه للكفار، لا يا أخي! دعه للكفار، وأنا أقول: أتدخل نفسك النار بحجة أنك لا تدعه للكفار؟! دعه للكفار! فإن الكفار عندهم من الأموال أكثر من هذا المال الذي أعطيتهم بكثير، ولذلك قال الله تعالى في حق التائب: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، فالتائب لا يجوز له أن يأخذ غير رأس ماله، ولا يواصل العمل فيأخذ غير رأس ماله؛ فأخذ الزيادة إثم، وهو الربا الذي حرمه الله عز وجل، وهذه البنوك تحارب الله عز وجل، وتحارب رسوله. أما أن يودع الإنسان ماله في البنك فهذه بلية أصبح الإنسان لا مناص له منها؛ لأن أكثر الناس عندهم أموال أكثر من حاجتهم، فهم مضطرون إلى إيداعها في البنوك؛ كي تحفظها هذه البنوك، فنقول: ابحث عن أفضل هذه المستودعات والبنوك، فإذا رأيت من لا يتعامل بالربا فيجب عليك أن تدفع مالك له، وإذا وجدت أن بعضها أسهل من بعض فعليك أن تودع عند الأسهل، فالمهم أن تبذل الجهد، أما أن تودع المال مباشرة وبدون بحث وتثبت وهذا فيه خطر، ويخشى أن يكون فيه إثم، فأقل الحالات أن يصيبك الغبار، قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من لم يأكل الربا أصابه من غباره، أو من دخانه)؛ لأنك سوف تؤكل الربا، وسوف يستفيدون من مالك هذا في أكل الربا، ولكن إذا لم يكن هناك مناص من حفظ الأموال إلا في هذه البنوك، فعليك أن تبحث عن أسهلها، وأقربها إلى الصحة، وإلى البعد عن الربا، ولعل الله أن يتجاوز عن هذا الأمر.

الزواج وسيلة للعفاف

الزواج وسيلة للعفاف Q أرغب أن أسألك سؤالاً وهو: أني شاب، وأريد أن أستقيم، وكلما أردت أن أستقيم قلت في نفسي: أؤجل ذلك إلى بعد الزواج، والإنسان يخاف من الموت أن يدركه قبل أن يستقيم، فماذا أعمل حتى أستقيم قبل فوات الأوان، أفيدوني والله يحفظكم؟ A أقول لك يا أخي! {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وبادر بالتوبة، وأشم من سؤال الأخ أن مشكلة النساء هي المشكلة التي تعترض سبيله، والحقيقة أنها مشكلة عويصة، وهي أخطر المشاكل على الشباب، وعلاجها الزواج، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فبادر بالتوبة، وحصن نفسك بالزواج، وأنا أدعوكم أيها الإخوة! أن تتعاونوا مع الشباب الذين يرغبون في الزواج لإعفاف أنفسهم، وعليكم أن تتقوا الله في هذه الأمانة، وإذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض، واحذروا المساومة على المرأة، والمغالاة في المهور، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعظمهن بركة أيسرهن مئونة). وأخشى أن تكون أكبر عقبة أمام هذا الشاب هي الشهوة، وهي التي تصرفه عن التوبة؛ ولذلك فإني أقول: إنّ الذين لا يكونون مرنين في أمور الزواج بتزويج قريباتهم إذا جاء الأكفاء، أو يبالغون في المهور، أخشى أن يتحملوا آثام هؤلاء الشباب الذين لا يستطيعون التوبة بسبب هذه الشهوة الجامحة، وأقول لك: يا أخي الشاب! إن الله عز وجل يقول لك: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، فبادر بالتوبة، وبادر بالزواج، ولو أن تقترض، أو أن تبحث عن هذا المال من أي طريق من الطرق المباحة، واعلم أن الله عز وجل سوف يعينك في هذا الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله عونهم، وذكر منهم الناكح يريد العفاف).

أخبار الصحوة في العالم والجهاد الأفغاني

أخبار الصحوة في العالم والجهاد الأفغاني Q هذان سؤالان عن حال العالم، الأول يقول: نرجو منك أن تتحدث لنا عن أحوال المسلمين في العالم؟ والآخر يقول: فضيلتكم زار أفغانستان، فهل الجهاد المتواجد فيها الآن يعتبر جهاداً في سبيل الله؛ لأن الكافر الملحد قد انسحب من أرضها، وبقي القتال بين الأفغانيين أنفسهم؟ A أما أخبار العالم فلا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، لكن الشيء المؤكد أن العالم الآن يبحث عن الحق، حتى النصارى واليهود بدءوا يبحثون عن الحق، وأبناء المسلمين الذين كانوا يحاربون هذا الدين صاروا يبحثون عن الحق، والشيوعية التي كانت لا تسمح للمسلمين في الصين الشيوعية أن يتعلموا شرائع الإسلام، وكان آباؤهم يهربونهم مع الأثاث إلى البلاد الإسلامية، فتح الآن -والحمد لله- المجال للمدارس الإسلامية وللمساجد، وهذه الفترة تفرض على كل واحد من المسلمين أن يساهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وعلى كل: أخبار العالم تسير إلى الأسوأ، إلاّ أن هناك انفتاحاً إلى الخير والحمد لله، فما علينا إلا أن نستغل هذه الفرصة. أما بالنسبة للسؤال الذي يتعلق بشأن أفغانستان: فأنا آسف جداً أن هناك من يظن أن العدو قد رحل، والله تعالى يقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، والشيوعيون لا يريدون أفغانستان، وإنما يريدون المقدسات المتواجدة هنا حفظها الله، ومن يتتبع الخرائط التي يحملها الطيارون في جيوب طائراتهم يرى الأسهم موجهة إلى أرض المقدسات حفظها الله وحرسها، ووفق وهدى قادتها إلى الاستقامة على دين الله عز وجل. أما أنهم رحلوا فما رحلوا، فهم يعترفون الآن أن هناك عشرة آلاف خبير روسي يديرون الحرب في أفغانستان، وأن هناك أكثر من ثلاثين ألف طيار هندي من البوذيين الكفرة يحركون القتال أيضاً، إضافة إلى أن الكفر كله ما زال يحرك القتال، وهذه دعايات أشيعت إما بدافع جهل ما يحدث في أفغانستان، أو لأن هناك أعداء للجهاد يريدون أن نضع السلاح، وهذا كله خطأ، فالجهاد في سبيل الله على أشده، بل هو في هذه الفترة أكثر ما يكون ضراوة وشدة، وهذه الأيام تعتبر أياماً حاسمة، فلا نتوقف عن المساعدات، أو عن الانضمام إلى إخواننا المجاهدين في سبيل الله، كما أن هناك جبهات أخرى فتحت في هذه الأيام والحمد لله، والجهاد في سبيل الله مستمر، فهناك جهاد في أريتريا المسلمة، وفي جنوب الفلبين حيث يريدون أن يعود حكم الله عز وجل في الفلبين التي اغتصبها العدو، وسرقها منا، وفي فلسطين، وفي أماكن كثيرة، فالمقصود أنّ الجهاد -والحمد لله- تحرك الآن، وهذا يعتبر من آثار الصحوة الإسلامية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ذلك أزكى لهم

ذلك أزكى لهم إن للتزكية عدة عوامل، منها: غض البصَر، وحفظ الفروج، والابتعاد عن الفتن بكل أنواعها من شهوات وشبهات، ولذلك قال الله عز وجل بعد الأمر بغض البصر وحفظ الفروج: (ذلك أزكى لهم)، أي: أطهر وأنقى لمن غض بصره وحفظ فرجه. فعلى المسلم أن يسعى جاهداً إلى تزكية نفسه، وتطهير قلبه من المعاصي والذنوب حتى يكون نقياً طاهراً زكياً.

النظرة المسمومة والآثار المترتبة عليها

النظرة المسمومة والآثار المترتبة عليها الحمد لله رب العالمين، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:30 - 33]. في ظلال كتاب الله من سورة النور نقف مع هذه الآيات التي نحن أحوج ما نكون إليها دائماً وأبداً، واليوم تزيد حاجتنا إلى هذه الآداب والأخلاق، لعل الله سبحانه وتعالى أن يرفع ما بالمسلمين من بلاء ومصيبة، سيما أن كثيراً من المسلمين قد ضيع هذه الأوامر، وانفلت من القيد، فأصبحت أخلاقه على خطر، بل أصبح وجوده في هذا الكوكب على خطر عظيم، نسأل الله العافية والسلامة. وسورة النور ركزت في نصفها الأول على الأخلاق والفضائل، ومحاربة الزنا والفواحش؛ لأن الزنا ما حل بأمة من الأمم إلا وسقطت من عين الله سبحانه وتعالى، وكذلك السفور والتبرج والخلاعة ما منيت بها أمة من الأمم إلا وقعت في شباك الشياطين شياطين الإنس والجن. وسورة النور -أيضاً- ذكرت العوامل التي تكفل للإنسان أن يبتعد عن الفاحشة، ولا أقول: عن الجريمة؛ لأن الجريمة أصبحت في مفهوم العصر -مع الأسف- هي الذنب الذي يتأذى به الناس، أما ما يعصى به الله عز وجل من فواحش البشر ومن سيئات البشر فأصبح في مفهوم الناس لا يسمى جريمة، أما هذه الفاحشة فإن الله تعالى قد حاربها وسد كل طرقها ومسالكها بوسائل كثيرة، منها: أولاً: الحد، يقول عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم صيانة المجتمع من الحديث الذي لا يجد رادعاً، ويسمى في مفهوم الإسلام القذف، وقد أمر الله عز وجل بجلد القاذف ثمانين جلدة، حتى لو كان صادقاً إذا لم يجد شهوداً يكملون العدد؛ لأنه إشاعة للفاحشة، وأي مجتمع لا يوجد فيه رادع لهذه القالة ييسر وجود الفاحشة في هذا المجتمع. إذاً لو شهد ثلاثة شهود على إنسان بالزنا ولم يأتوا برابع فإن كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] كل هذا حتى لا يتحدث الناس بمثل هذه الفاحشة. والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل، ولذلك رتب عليه عقوبة وحداً. وسنتكلم عن الطريق التي توصل إلى الفاحشة، وهي تعتبر في حقيقة الأمر وفي واقع الناس أخطر طريق للفاحشة، ألا وهي النظرة المسمومة التي يقول الله عز وجل عنها في الحديث القدسي: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) هذه النظرة الخطيرة التي لربما لا يقيم لها الإنسان وزناً، ولربما يظن أن الله قد غفل عنه عند هذه النظرة، وينسى أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، نظرة صغيرة تتبعها نظرة أخرى تتلوها نظرات، يتبع ذلك عشق وغرام، وانشغال قلب، يتبع ذلك تخطيط وبحث عن الفاحشة، وينتهي الأمر -نعوذ بالله- بأكبر الكبائر وبأكبر الآثام ألا وهو الزنا، ولذلك يقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وفي الآية الثانية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]. فما صلة البصر بالفرج؟ الصلة واضحة ومؤكدة، فإن النظرة توصل إلى فعل الفاحشة، ولذلك يقول الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أي: كما أن شرارة صغيرة قد تهلك أمة بالحريق فإن النظرة مهما كانت -صغرت أم كبرت- فهي سامة تحدث فساداً عريضاً في أمة. فالنظر يقترن بفعل الفرج، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]. والنظرة معناها رؤية العين لعورة أو لجمال أو لأمر من الأمور يحدث فتنة، فهذه النظرة خطيرة، بدليل أن الله تعالى أعقبها بصيانة الفرج وبحفظ الفرج، فمن لم يحفظ بصره فإنه يصعب عليه أن يحصن فرجه، ولربما يتساهل في النظرة، لكنه لن يتساهل بها حينما يرى آثارها في نفسه وفي أمته، ولذلك يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنين، وهذا أبلغ في أمر الله عز وجل أن يكلف رسوله بتبليغ المؤمنين هذا الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله. قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الغض معناه في اللغة: إطباق الجفن على الجفن ومعناه في الحقيقة: عدم النظر إلى عورة من العورات وإن لم يؤد ذلك إلى إطباق جفن على جفن. فليست كل نظرة محرمة، وإنما النظرة المحرمة هي التي إلى غير المحارم، ولذلك يقول الله تعالى: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يقل: يغضوا أبصارهم. لأن غض البصر عما أباح الله ليس أمراً واجباً ولا مطلوباً، وإنما المطلوب والواجب أن يغض البصر عما حرم الله عز وجل من النظر الحرام. والنظرة المحرمة إذا كانت الأولى فإنه يسامح فيها الإنسان، والمقصود بالنظرة الأولى غير المقصودة، كأن يفتح بصره فيقع البصر على امرأة من غير محارمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن لا يعيد النظرة مرة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لك الأولى وعليك الثانية) وليس معنى ذلك أن الأولى يسامح فيها مهما امتدت، وإنما نظرة الفجأة التي ينظر بها الإنسان إلى ما حرم الله دون إرادة، فعليه أن يغض بصره ولا يعيده مرة أخرى، وحينئذٍ يسامح على النظرة الأولى، ولكنه لا يسامح على النظرة الثانية، فالنظرة الثانية من الصغائر، ولربما تتلوها صغيرة وصغيرة حتى تصل إلى كبيرة، ثم تصل إلى أكبر الكبائر، وعلى هذا فإن غض البصر أمر واجب؛ لأنه لا يتم الواجب -وهو صيانة الفروج- إلا به (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وهذه قاعدة شرعية معروفة.

توجيه المؤمنين بغض البصر وحفظ الفروج لحصول التزكية

توجيه المؤمنين بغض البصر وحفظ الفروج لحصول التزكية قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال: للمؤمنين. ولم يقل: للناس. لأنه لا يتقيد بهذا القيد ولا يلتزم بهذا الأمر من أوامر الله عز وجل إلا المؤمنون، أما غير المؤمنين فإنهم لا يبالون، نظرة تتلوها نظرة تتلوها نظرات، يتلوها فعل كبائر يتراكم بعضها على بعض، ولربما تنتهي هذه الكبائر بكبيرة عظيمة قد تخرج هذا الإنسان من قاعدة الدين ومن دائرة الإسلام بسبب نظرات؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وكم من الناس من خرج عن دائرة الدين وانحل وانحرف وألحد بسبب نظرة، وكانت النظرة في بادئ أمرها صغيرة، لكنها ما زالت تتضخم وتكبر حتى وصلت إلى فاحشة عظيمة. قوله: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي: أن يحفظوها من الوقوع في الفاحشة. أي: قل للمؤمنين أن لا يزنوا. وهذا هو الرأي الراجح في قوله تعالى: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وإن كان طائفة من العلماء قالوا في قوله تعالى: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): أي: أن يصونوا الفروج حتى لا ترى، فكما أنهم مطالبون بعدم النظر إلى عورات الناس فهم -أيضاً- مطالبون بصيانة فروجهم وأهليهم حتى لا ينظر إليها إنسان، فتعقب تلك النظرة الفساد، لكن كما تقدم أن الأقوى والأرجح -والله أعلم- في معنى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي: أن يحفظوها من الفساد ومن الزنا، ومن هنا يكون التجانس بين النظرة وبين الفعلة، فالفعلة تكون نتيجة من نتائج النظرة، كما قال القائل: نظرة فابتسامة فموعد فلقاء وهذا شيء معروف عند الناس، فإن النظرة تعقبها محرمات كثيرة، يقول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ولربما تكون النظرة سهلة في بادئ أمرها، ولكنها صعبة عندما تجر وراءها آثاماً عظيمة. قوله: (ذلك) الإشارة تعود إلى غض البصر وحفظ الفرج، أي: حفظ الأبصار وحفظ الفروج أزكى لهم. قوله: (أزكى لهم) معناه: أطهر. أي أن الذي لا ينظر أزكى من الذي ينظر، وكذلك الذي يحفظه الله عز وجل من الفاحشة أزكى من الذي يقع في الفاحشة، وليس المراد أن صاحب الفاحشة زكي، فقد تكون (أفعل) هذه لا تفيد التفضيل، وإنما تفيد أن الزكاء لا يكون إلا لمن يحفظ فرجه، فإذا لم يحفظ فرجه فإنه قد فقد مقوم الزكاة إذ لم يزك نفسه، يقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من طهر نفسه وحفظها من المعصية والكفر والفسق. ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (خبير) على وزن (فعيل) صيغة مبالغة من الخبرة الشديدة، والخبير -كما هو معروف في علم اللغة- هو الذي يدرك الأمور الدقيقة. فتقول: فلان خبير في علم الزراعة، فلان خبير في علم الاجتماع، خبير في كذا. أي: عنده خبرة جيدة. وهذا بالنسبة للناس، لكن خبرة الله عز وجل لا تساويها خبرة، فهو سبحانه يعلم كل ما يصنعه الإنسان ويفعله؛ لأنه الخبير الذي يدرك الأشياء الخفية التي ربما تكون في ظلام الليل وخلف الأستار المرخاة وفي غيبة أعين الناس. فالنظرة الصغيرة التي لا يراها أحد من الناس هي في علم الله عز وجل مسجلة حتى يتجاوز الله عز وجل عنها، فالله تعالى -كما قال عن نفسه-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر:19] أي: إشارة العين وهي النظرة. {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] أي: يعلم سبحانه الذي لم يفعله الإنسان، أي: ما ينويه وما يفكر فيه. إذاً هذه هي الخبرة بالنسبة لله عز وجل، وهي: إدراك الأمور الخفية. وختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] لبيان دقة الإدراك في مثل هذه الأمور، أي: لا تظنن -أيها الإنسان- أنك حينما تنظر إلى جمال امرأة أو إلى عورة وقد خَفِيتْ نظرتُك هذه على الناس أنها قد خفيت على الله عز وجل، فالله تعالى خبير، أما الناس فإنه يغفل بعضهم عن بعض، لكن الله تعالى لا يغفل مثقال ذرة، ولا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء. إذاً -يا أخي- وأنت تنظر إلى ما حرم الله تصور أن الله تعالى يراقبك وإن غفل عنك الناس.

حكم نظر المرأة إلى الرجل

حكم نظر المرأة إلى الرجل النساء مطالبات بغض البصر، يقول سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] أي: وقل -يا محمد- للنساء المؤمنات يغضضن من أبصارهن. والغض معناه: إطباق الجفن على الجفن. أي: عدم النظر إلى ما حرم الله، و (من) للتبعيض؛ لأن هناك نظرات مباحة. وهنا يرد Q هل المرأة ممنوعة من أن تنظر إلى الرجل؟! جمهور العلماء على أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل بدون شهوة، وما ورد من حديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن النظر فالحديث فيه ضعف، لكن بشرط أن لا تكون هناك شهوة إذا نظرت المرأة إلى الرجل، فإذا كانت النظرة بشهوة كان الإثم، وكان ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما حرم الله، ولذلك يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) لأن نظرة واحدة إلى رجل وضيء، أو إلى رجل قوي، أو إلى رجل وسيم قد تلفت نظر المرأة وتحرك شهوتها وتثيرها، كما أن نظرة الرجل إلى المرأة تثيره. يقول عز وجل: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وجه الخطاب للمؤمنات؛ لأن النساء الفاسقات لا يستحققن أن يوجه إليهن الخطاب، وإن كان الخطاب موجهاً للجميع، حتى الفاسق والفاسقة كلاهما مطالبان بعدم النظر إلى الحرام، لكن المؤمنون هم أولى من يأخذ بهذه الأوامر. قوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أي: فلا يقعن فيما حرم الله. على المعنيين السابقين في الآية السابقة التي قبل هذه. ويمكن أن يكون معنى قوله: (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أي: لا يكشفن الفروج حتى لا ينظر إليها أحد من الناس فيقع في الفاحشة. وهذا المعنى ضعيف، أما المعنى القوي فهو كما يوافق الآية السابقة: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) أي: لا ينظرن إلى ما حرم الله؛ فإن هذه النظرة قد توقعهن في الزنا؛ لأن المرأة قد تعشق الرجل كما يعشق الرجل المرأة. ثم لما كان شأن المرأة أخطر وأعظم من شأن الرجل جاء التفصيل في النظر، ما هو النظر المباح، وما هو النظر المحرم، وإلى من يجوز أن تنظر المرأة، وإلى من لا يجوز أن تنظر، ومن يجوز أن تبدي له شيئاً من الزينة، ومن الذي لا يجوز لها ذلك عنده، هذه كلها قيود يلزم المرأة المسلمة أن تأخذ بها كاملة، سيما ونحن في عصر منيت الحياة فيه بفساد عريض، وانتشرت وسائل الحرام، فأصبح الأمر خطيراً، فأصبحت المرأة تكاد تكون عند طائفة من الناس مخيفة أن يبتلى أحد بشيء من البنات، وهو يرى الفساد يسري في المجتمع بهذا الشكل. يقول الله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الإبداء معناه: الإظهار، والزينة معناها: ما تتزين به المرأة، سواء أكان من جمال الجسد، أم من جمال الملابس، أم من الحلي، أم من الرائحة الطيبة، أم من تقاسيم الجسد إذا كانت تلبس الملابس الضيقة كما تلبس بعض النساء البنطال، أو كما يستعمل بعض النساء الملابس الشفافة، أم -على الأقل- الابتسامات والكلام الرقيق من النساء، سواء أكان بالهاتف أم من وراء الباب، أم أمام صاحب الدكان، كل هذا من الجمال الذي منعت المرأة أن تظهره.

حكم تغطية المرأة للوجه والكفين والراجح من أقوال أهل العلم

حكم تغطية المرأة للوجه والكفين والراجح من أقوال أهل العلم يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هناك من يفسر (ما ظهر منها) بالوجه والكفين، ونريد أن نناقش هذا الموضوع؛ لأن الموضوع كثر الخوض فيه في أيامنا الحاضرة، علماً أن الذين يخوضون في هذا الموضوع لا يبحثون عن كشف الوجه والكفين فقط، لكنهم يريدون العراء الكامل والفساد العريض، يريدون أن تخرج المرأة متفسخة لا تتقيد بقيد من قيود الشرع، فهم يبدءون بالوجه والكفين لأن هذا هو معيار الحياء، فإذا كشفت المرأة وجهها وكفيها، أو كشفت وجهها بصفة خاصة هان عليها كل شيء، كما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فالوجه هو موضع الحياء، كما أن الوجه هو موضع الجمال، ففيه العيون، وفيه الخدان، وفيه الفم، وفيه الحاجب، وفيه الشعر، وفيه كل شيء، فإذا كشفت المرأة هذا النوع أو هذا الجزء من هذا الجسد سهل عليها هي أن تكشف بقية الجسد؛ لأن الحياء قد تمزق، ولأن الجمال أصبح مكشوفاً أمام الناس، فمن السهل أن يكشف موقع آخر من مواقع الجمال، ولذلك تجد الآن في بعض بلدان العالم مسابح عارية، نسأل الله العافية والسلامة، وتجد -أيضاً- زواج الذكر بالذكر بصفة رسمية، وتجد نوادي للعراة رجالاً ونساءً، يخرج الرجل والمرأة كما خلقهما الله عز وجل. فما هي الشرارة الأولى؟ الشرارة الأولى هي كشف الوجه والكفين. ولقد نادى بذلك أقوام باسم الإسلام وهم يجهلون الإسلام -ولو لم يجهلوا الإسلام فأكثرهم أعداء للإسلام- وقالوا: إن الوجه ليس بعورة، فكشف الوجه، فما زال هذا الحجاب يتقلص وما زال هذا اللباس يتقلص من جسد المرأة حتى أصبحت المرأة شبه عارية في كثير من بلاد المسلمين، فضلاً عن بلاد الكافرين. وصحيح أن هناك رأياً قديماً لبعض فقهاء المسلمين أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ويستدلون بهذه الآية (إلا ما ظهر منها) وكذلك يستدلون بحديث ضعيف في سنن أبي داود: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثوب رقيق، فأعرض عنها وقال: (إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصح أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى الوجه والكفين). وهذا الحديث -أولاً- ضعيف. ثانياً: الآية ليس فيها دليل على جواز كشف الوجه والكفين؛ لأن لفظ الآية يدل على أنه ليس هذا المراد، يقول الله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهناك فرق بين (ظهر) و (أظهر)، فـ (ظهر) فعل ماض لازم و (أظهر) فعل ماض متعدٍ، و (ظهر) معناه: ظهر بدون إرادة. و (أظهر) أي: بإرادة. وأسلوب الآية هنا جاء بلفظ الفعل الماضي اللازم (ظهر) أي: ظهر بدون إرادة. إذاً فمعنى قوله: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: الملابس التي تنكشف، أو الملابس التي لربما يظهر ما فوقها فيبدو ما تحتها بدون إرادة. أما الذين فسروا قوله: (ما ظهر منها) بالوجه والكفين فلا توافقهم هذه الآية؛ لأنها جاءت بلفظ (ظهر) أي: انكشف بدون إرادة. ولم تأت بلفظ (أظهر). وعلى هذا نقول: إن الرأي الراجح هو أن الوجه والكفين من العورة، بل هما مصدر الفتنة بالنسبة للمرأة، وأجمل ما في المرأة وأكثر ما يعشق في المرأة الوجه والكفان. حتى الذين قالوا من علماء المسلمين السابقين -رحمة الله عليهم- بأنه يجوز كشف الوجه والكفين أجمعوا جميعاً على أنه إذا خيفت الفتنة ففي حال الفتنة لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من وجهها أو شيئاً من كفيها، فتكون النتيجة وجوب تغطية الوجه والكفين؛ لأن الفتنة ملازمة للوجه والكفين دائماً وأبداً، وبالتالي يكون هذا الخلاف لفظياً. إذاً هذا الذي يريد أن يدخل على الإسلام من هذا المدخل ليس له طريق يدخل منه، فعلماء المسلمين جميعهم حتى الذين قالوا بهذا الرأي أجمعوا على أنه في حال الفتنة لا يجوز كشف الوجه، والفتنة ملازمة للوجه دائماًً وأبداً. ثم -أيضاً- المرأة المسلمة تدرك في عصر الفتن ما أحدثه كشف الوجه والكفين في بعض بلاد المسلمين، فكان عليها أن تأخذ بذلك العظة والعبرة. كذلك أمر الإسلام النساء في الحج بكشف الوجه حال الإحرام؛ لأن إحرام المرأة مع كشف الوجه في الحج والعمرة كإحرام الرجل مع كشف الرأس في الحج والعمرة، ومع ذلك كان نساء الصحابة يسدلن الغطاء على الوجه إذا مررن برجال، بالرغم من أنه لا يجوز تغطية الوجه بالنسبة للمرأة المحرمة، فيكون هذا أكبر دليل على أن آخر ما استقر عليه أمر الإسلام هو تغطية الوجه والكفين، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]. إذاً آخر ما استقر عليه الإسلام وجوب تغطية الوجه والكفين. والنساء اللاتي لا يتقيدن ولا يعرفن أنظمة الإسلام وقواعد الإسلام منهن من تكشف الوجه والكفين -كما يوجد في بعض البوادي في أيامنا الحاضرة- حتى إذا عرفت الإسلام حقيقة غطت الوجه والكفين.

معنى وحقيقة ضرب المرأة بالخمار على الجيب

معنى وحقيقة ضرب المرأة بالخمار على الجيب قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] الخمار هو ما يغطى به الرأس. مأخوذ من (خمر الشيء) أي: غطاه. والجيب هو فتحة العنق. ويتضح من هذا أن المرأة لا تستطيع أن تأتي بالخمار من رأسها إلى صدرها إلا وقد مر بالوجه، هذه هي القاعدة المعروفة، ولذلك فإن كلمة: (يضربن) معناها: الإلقاء الكثير. والضرب غير الإسدال، أي: إلقاء الخمار بقوة، والخمار إذا انتقل من الرأس إلى النحر لا ينتقل غالباً إلا عن طريق الأمام، ولا يمكن أن تغطي نحرها إلا بعد أن تغطي وجهها. قول الله عز وجل: (عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أي: على فتحة العنق، وذلك عن طريق الإسدال على الوجه نفسه، وهذا لا يضير المرأة، وإنما يزيدها إيماناً وهدى وتقوى وجمالاً، ويزيد رغبة الرجال فيها.

أسباب انتشار فتنة النساء في بلاد المسلمين

أسباب انتشار فتنة النساء في بلاد المسلمين يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] أعادها مرة أخرى؛ لأن إظهار الزينة أمر خطير، ولذلك لا تعجب من أن يتكرر اللفظ مرتين في آية واحدة، فقد جاء في أول الآية: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وجاء مرة أخرى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)؛ لأن هذه الزينة فتنة، ولأنها بلاء وشر مستطير حينما تظهر المرأة زينتها أمام غير محارمها، ولذلك اشتعلت نار الفتنة في بلاد المسلمين لأسباب، منها: أن المرأة خرجت متبرجة متزينة، وأظهرت شيئاً من جمالها فأشعلت هذه الفتنة، سيما في نفوس الشباب العزاب، خاصة الذين لم يتمكنوا من الزواج لأسباب منها: الاختلال الموجود في أنظمة المجتمع، أو في الأنظمة الاقتصادية وما أشبه ذلك، فمن أكبر الفتن أن يكون هناك تبرج مع وجود عزوف من الشباب عن الزواج، أو عجز من الشباب عن الزواج، ولقد أصيب العالم في هذا العصر بفتنة أخرى وهي وسائل التقنية الحديثة التي انتقلت إلى بلاد المسلمين، فنقلت الصورة الثابتة والصورة المتحركة، ونقلت الأفلام والعراء، وواكب ذلك وجود دعاة للباطل، يريدون أن تشتعل الفتنة وتنتشر في هذا المجتمع، فصاروا يبثون هذه الأفلام وينشرونها في بلاد المسلمين. وهذا شيء لا يطاق، ولذلك أقول: علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نحفظ بيوتنا، فإن أعداء الإسلام ما أرسلوا لنا هذه الأشياء محبة لنا، أو رغبة في ترفيهنا، أو إرادة في أنسنا وسعادتنا، وإنما أرادوا أن نفسد ونسقط من عين الله عز وجل، والله تعالى يقول لنا في القرآن: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] ليس ميلاً فقط، وإنما ميل عظيم، ولذلك فإن وجود هذه المغريات وهذه الدعوات سواء أكانت عن طريق رؤية المرأة مباشرة، أم عن طريق دعوة إلى سفور المرأة أو إلى انفلاتها من القيد، أو إلى عدم انضباطها بأوامر الله عز وجل التي فيها الخير والسعادة للمرأة، أم وجود رجال يندسون في المجتمع يقولون: إن المرأة عندكم متخلفة ومحتقرة. أو يقولون: إن مجتمعكم مجتمع معطل لا يتنفس إلا برئة واحدة. وفي الحقيقة هم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه ما جاء نظام ولا دين ولا منهج قط أعظم من الإسلام يحترم المرأة ويكرم المرأة ويرفع من منزلتها، وهم يعرفون كيف كانت المرأة قبل الإسلام، وكيف كانت المرأة بعد الإسلام، لكنهم يريدون -وهم يتبعون الشهوات- أن تميلوا ميلاً عظيماً، سواء أعداء الإسلام من الخارج، أو كانوا من أبناء جلدتنا الذين يتقمصون أخلاق الكافرين، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، كلهم متفقون على إفساد المرأة، وأشد ما يكرهون المرأة المحافظة، وهم يحرصون على البلاد التي ما زالت فيها بقايا خير، بل -الحمد لله- فيها خير كثير، يركزون عليها أكثر من أي بلدة أخرى؛ لأنهم يرون أن وجود هذه الأخلاق والفضائل والمحافظة عليها في هذا البلد إنما يهدد مخططاتهم ويفسد مفعولهم ويبطل إرادتهم. فالمهم أن هذا غزو فكري عجيب متتابع منصب على بلاد المسلمين، وحرص شديد على البلاد المحافظة، وعلى المنطقة التي حماها الله عز وجل برجال عندهم غيرة وأخلاق وخشية من الله عز وجل، وبنساء صالحات رفضن كل هذه الدعوات. إذاً لا تعجب، فإن ما حصل ليس بالصدفة؛ لأنه ليس في هذا العالم شيء صدفة، وإنما هو بإرادة الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]. إذاً حرص أعداء الإسلام على المرأة من عدة جوانب منها: أرادوا أن تفسد المرأة في المجتمع، وأن تتفسخ وأن تخرج متبرجة، وأن تخرج شبه عارية من أجل أن يفسد هذا المجتمع، وإذا عجزوا عن امرأة المجتمع أن تصل إلى هذا المستوى الهابط فإنهم سوف يأتون لها بالصور وبالمناظر المزعجة المؤثرة التي لربما تتأثر بها بعض النساء؛ لأن النساء بطبيعتهن يعشقن كل جديد، ولديهن العواطف أكثر من العقول، ولربما تتغلب العواطف عند النساء أكثر من العقول فتغلب العقولَ، ومن هنا تتأثر بهذه الموضات. وهذه الأفلام التي غزت بيوت المسلمين من عراء وعشق وغرام ومسلسلات وأفلام كل هذه تشكل خطورة، وكلها تضاد وتحارب قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] إلى غير ذلك. ثم يقول تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أياً كانت هذه الزينة، سواء أكانت زينة الجسد، أم زينة اللباس، أم زينة التقاسيم للجسد، أم الطيب؛ لأن الطيب يفتن كما يفتن أي نوع من أنواع الجمال، أم المزاحمة والاختلاط بالرجال الذي يسعى إليه أعداء الإسلام، ويقولون: إنهم يريدون أن يشغلوا المرأة حتى لا يبقى هذا المجتمع يتنفس برئة واحدة كما يقولون!

من تبدي المرأة زينتها بحضرته

من تبدي المرأة زينتها بحضرته قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] البعل: هو الزوج وهذا البعل الذي هو أعلى درجة من المحارم تبدي له المرأة كل شيء من جسدها، فليس هناك شيء ممنوع من النظر إليه من جسد المرأة. فالزوج يأتي في الدرجة الأولى، ولا يطالب بأن يغض بصره عن أي شيء من جمال هذه المرأة؛ لأنها خلقت له وخلق لها من أجل أن يكون التمتع، ومن أجل أن يكون الإنجاب، ومن أجل أن تكون الحياة السعيدة. قوله: (أَوْ آبَائِهِنَّ) الأب يأتي في الدرجة الثانية، لكنه ليس في درجة الزوج، فلا تبدي له المرأة إلا ما يظهر غالباً من الشعر، والنحر والذراعين، أي: الأشياء التي جرت العادة بإخراجها للمحارم، حتى إن المحارم أنفسهم يختلفون فيما بينهم، فما تكشفه للأب غير ما تكشفه للأخ، وما تكشفه للأخ من النسب غير ما تكشفه للأخ من الرضاعة، وهكذا. قوله: (أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) آباء الأزواج من المحارم، لأن زوجة الابن محرمة على أبي الزوج تحريماً أبدياً، كما قال الله عز وجل: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]. قوله: (أَوْ أَبْنَائِهِنَّ) ولد المرأة تكشف له ما جرت العادة بكشفه. قوله: (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) أي: أولاد الأزواج؛ لأن زوجة الأب تحرم عليه تحريماً مؤبداً، فلا مانع أن تكشف شيئاً مما جرت العادة بكشفه لولد الزوج؛ لأن الله تعالى حرم عليه زوجة أبيه إلى الأبد، قال عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فالقاعدة عندنا: (من حرم الزواج به فإنه يجوز أن يبدى له شيء من الزينة)، هذه هي القاعدة المطردة. قوله: (أَوْ إِخْوَانِهِنَّ) الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم، حتى الأخ من الرضاعة، هؤلاء كلهم يدخلون على المرأة، لكن يتفاوت الأمر بالنسبة لكل واحد منهم. قوله: (أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ) أي: أولاد الإخوة، فهي عمتهم، فالعمة من محارم ابن أخيها، وكذلك أبناء الأخوات، لقوله تعالى: (أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) فهي خالتهم، فيجوز لها أن تبرز لهم شيئاً من الجمال الذي جرت به العادة لأبناء الإخوة وأبناء الأخوات.

وجه عدم ذكر العم والخال في الآية من المحارم

وجه عدم ذكر العم والخال في الآية من المحارم لم يذكر الله عز وجل الأخوال ولا الأعمام، مع أن الخال والعم من المحارم، فلماذا لم يذكر هنا الخال أو العم، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: أو أخوالهن أو أعمامهن؟ يقول بعض المفسرين: العلة في ذلك أن ولد الخال أو ولد العم يباح له أن يتزوج بهذه المرأة، أي: ببنت عمته أو بنت عمِّه، ولذلك لم يذكرا هنا؛ لأن الخال والعم ربما يصفها لابنه وهي ليست من محارم ولده. ولكن هذا الكلام أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من جمالها لخالها أو عمها غير صحيح. والأقرب -والله أعلم- هنا أنه لم يذكر الخال ولا العم لأنه تعالى ذكر أبناء الأخوات وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات يقابلهم الأخوال، وأبناء الإخوة يقابلهم الأعمام؛ فتكون هي خالته أو هو خالها، أو هي عمته أو هو عمها، ولذلك هنا لم يذكر الله عز وجل العم ولا الخال، ولكنه دخل بطريق المقابلة في أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، والله أعلم.

المقصود بقوله تعالى: أو نسائهن

المقصود بقوله تعالى: أو نسائهن قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) جمهور المفسرين على أن قوله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) أي: المسلمات. وعلى هذا هناك فرق في العورة التي تكشف للمرأة المسلمة وللمرأة الكافرة، فيجوز للمرأة أن تبدي للمرأة المسلمة شيئاً من زينتها أكثر مما تبديه لامرأة كافرة، فلينتبه الذين يأتون لنا بطبيبات غير مسلمات، فهذا حكم الله، ولهذا يقول الله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) ولم يقل: (أو النساء). وعلى هذا نقول: إن المرأة يجوز لها أن تكشف شيئاً من جمالها للمرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة كسائر المحارم، لكن المرأة الكافرة تكشف لها الأشياء الضرورية كالوجه وما أشبه ذلك.

حد عورة المرأة أمام مملوكها والمملوكة أمام سيدها

حد عورة المرأة أمام مملوكها والمملوكة أمام سيدها قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) العبد الرقيق يجوز لسيدته أن تكشف له شيئاً من جسدها مما جرت العادة بكشفه، بشرط أن تؤمن الفتنة أيضاً، ولكن ذلك لا يصل إلى درجة ما تكشفه للزوج، وهذا يكون خلاف ما تكشفه المرأة المملوكة لسيدها، فإنه يجوز للمرأة المملوكة أن تكشف لسيدها كل شيء من عورتها؛ لأن حكمها حكم الزوجة. أما بالنسبة للمرأة فلا يجوز لها أن تكشف شيئاً من عورتها لمملوكها إلا ما جرت العادة بكشفه، ولذلك الله تعالى وضعه في المؤخرة ولم يضعه في المقدمة مع الأزواج. فهذا حكم المملوك مع سيدته فيما تكشفه من عورتها بمقدار ما تكشفه لمحارمها غير زيادة، وهذا معنى قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أي: الأرقاء، فإذا ملكت المرأة الرقيق جاز لها أن تكشف بمقدار معين.

المقصود بالتابع في قوله تعالى: أو التابعين

المقصود بالتابع في قوله تعالى: أو التابعين قوله: (أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ) التابع غير أولي الإربة هو الرجل الخصي، أو الرجل الذي ليس له شهوة في النساء. وقوله: (أو التابعين) لأنه أقرب ما يكون من المرأة هذا الرجل، وهو الذي ليست فيه شهوة يميل بها إلى النساء، فإذا تأكدنا بأن هذا الرجل فقدت عنده الشهوة تماماً مع النساء، وأنه أصبح إنسانا ًبين الرجل والمرأة، فليس له حظ وليس له مطمع في النساء، بحيث لو نظر إلى النساء أو خالطهن فإنه لا يستطيع أن يفعل ما يفعله الرجال؛ لأنه لا شهوة عنده كشهوة الرجال ففي مثل هذه الحال نلحقه بالمحارم، فيجوز للمرأة أن تكشف ما جرت العادة بكشفه أمام هذا الرجل الذي هو بين الرجل والمرأة.

الطفل الذي يجوز له الدخل على النساء

الطفل الذي يجوز له الدخل على النساء قوله: (أَوْ الطِّفْلِ) أي: جنس الأطفال. فمن هو الطفل الذي يجوز للمرأة أن تكشف له شيئاً من جمالها؟ قال تعالى: (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أي: الذين لم يصلوا إلى درجة معرفة الجمال عند النساء ولم يكن عندهم شهوة، ولم يبلغوا سن الحلم، حتى لو كان أحدهم مميزاً، أما إذا كان قريباً من سن الحلم ولديه شهوة رغبة في النساء وإن لم يبلغ الحلم ففي مثل هذه الحال تبتعد عنه النساء، لكن الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يميزون بين العورات، ولا يتمتعون بالنظر إلى النساء، ولا تتحرك الشهوة بالنسبة لهم إذا رأوا المرأة هؤلاء يعاملون معاملة الرجل الخصي أو الرجل الذي ليس لديه الشهوة. والأطفال يختلفون في هذا السن، فقد يكون أحدهم صغيراً في سن التمييز، أو قريباً من سن التمييز لكن عنده دوافع وعنده قوة ورغبة في النظر إلى النساء، فهذا يبتعد عن النظر إلى النساء. وقد يبلغ سن التمييز لكنه لا يصل إلى درجة البلوغ، وليست لديه هذه الدوافع، فلا مانع من أن لا يحذر منه النساء. إذاً هؤلاء هم الذين يجوز أن تكشف لهم المرأة شيئاً من جمالها، ولم يسقط من هؤلاء المحارم إلا العم والخال، وعرفنا كيف نوجه سقوط ذكر العم والخال.

الآثار المترتبة على وجود الخادمات الأجنبيات في البيوت

الآثار المترتبة على وجود الخادمات الأجنبيات في البيوت لا يجوز لأحد أن ينظر إلى شيء من المرأة التي ليست بمحرم أياً كانت هذه المرأة، حتى لو كانت خادمة، وهو الذي وقع فيه كثير من الناس اليوم، فلربما يؤتى بفتاة جميلة في سن صغير، ثم تعيش داخل بيت فيه رجال ويخلو بها الرجال، وينظرون إليها، وهذا من أكبر المحرمات، نسأل الله السلامة والعافية. إن مثل هذا يحدث فتنة، سيما إذا كانت هناك خلوة، وإذا غابت الأعين الأمينة، وإذا غابت النساء عن هذا البيت وخلا ذلك الرجل بهذه الخادمة، ولربما تكون امرأته عجوزاً وهذه الخادمة شابة، ولربما تكون أجمل من زوجته، بل هب أنها ليست بشابة ولا بجميلة، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. إذاً لماذا يتجرأ الناس على هذا الأمر من أوامر الله عز وجل، نظرات متكررة، وكأنه يعيش مع زوجته أو ابنته أو أخته، لا يبالي بأن ينظر إليها صباحاً ومساءً، وتمر مئات بل آلاف النظرات المحرمة يومياً بين هذا الرجل وهذه المرأة التي جاءت بصفة خادمة، ويسجل في الكتاب على هذا الرجل النظرات وهو في غفلة، ويوم القيامة ينشر هذا الكتاب ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14]. كيف يتحمل الناس هذه المسئولية الكبيرة وهذه النظرات الكثيرة المتكررة المحرمة، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ ولا يمكن أن يغض بصره وأمامه هذه الفتاة أو هذه المرأة التي أصبحت كأنها قاعدة البيت، بل لربما تقابل الرجال وتخدمهم أكثر من أن تخدمهم الزوجة والبنت والأخت، فهذه فتنة عظيمة علينا أن نحذرها، ولذلك الله تعالى حذرنا وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].

معنى ضرب النساء بالأرجل ليعلم ما يخفين من الزينة وحكمه

معنى ضرب النساء بالأرجل ليعلم ما يخفين من الزينة وحكمه يقول الله تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الخطاب للنساء، والضرب بالرجل معناه: لا تحرك المرأة رجلها بقوة على الأرض ليظهر صوت الخلخال، حتى لا يسمع الرجال الأجانب صوت الخلخال. فما الفرق بين هذا وما يوجد في الأمة الإسلامية من نساء راقصات مغنيات مائلات مميلات؟! الناس ابتعدوا كثيراً عن أوامر الله عز وجل، فالله تعالى نهى عن ضرب الرجل في الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال، والآن تضرب المرأة بنفسها على الأرض ليرى الرجل كثيراً من جمالها، فهي تتكسر وتتمايل أمام الرجال الأجانب، فهذا هو ما وقع المسلمون فيه اليوم، مصيبة وفتنة وبلية، تغني بصوتها الجميل الرقيق الذي يفتن الناس. أيهما أشد: صوت الغناء أم صوت الخلخال الذي حرم الله عز وجل أن تظهره المرأة أمام الرجال الأجانب؟! إذاً هذا يدل على ابتعاد كثير من الناس عن أوامر الله سبحانه وتعالى، إن الناس في جانب وأوامر الله سبحانه وتعالى في جانب، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى. فما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى ربهم سبحانه وتعالى تائبين.

دعوة عامة إلى التوبة المؤدية إلى الفلاح

دعوة عامة إلى التوبة المؤدية إلى الفلاح بعد ذلك الله تعالى يخاطب الأمة؛ لأنها معرضة للفتن ومعرضة للخطأ، ولأن من طبيعة بني آدم أنهم خطاءون كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وخير الخطائين التوابون. فباب التوبة ما زال مفتوحاً، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، حتى الذين وقعوا في الكبائر والذين ينشرون الفساد في الأرض باب التوبة مفتوح أمامهم، حتى الذين حرقوا المؤمنين -كأصحاب الأخدود- فإن الله تعالى يقول فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] أي: الذين أحرقوا المؤمنين بدون ذنب إلا لأنهم آمنوا بالله. ومع ذلك فالله تعالى يقول لهم: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا). أي أنه تعالى دعاهم إلى التوبة بعد تحريقهم المؤمنين. فمن نعمة الله عز وجل علينا أن باب التوبة ما زال مفتوحاً، فنقول للرجل الذي أفسد بيته بالمحرمات وبالأفلام: إن باب التوبة ما زال مفتوحاً أمامك، فعليك أن تبادر قبل أن يغلق هذا الباب، وإغلاق هذا الباب يكون بأحد أمرين: إما بطلوع الشمس من مغربها وهو نهاية الحياة الدنيا، أو بالغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وهذا قريب من الإنسان أيضاً، فليس بين الإنسان وبين هذا إلا أن تحضره ملائكة الموت، ولذلك الله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. أي: توبوا جميعاً كلكم، فلا يكون هناك أناس يتوبون وأناس ما زالوا في غي اللهو واللعب، ولا يكون هناك أناس مع الله وأناس بعيدون عن الله عز وجل، ولا تكون هناك توبة في بعض الأمور وإهمال في أمور أخرى، لابد من أن تكون التوبة من جميع الناس وفي جميع الأوامر والنواهي التي شرعها الله عز وجل وسنها. أما الذين لا يتوبون ويغترون بالصحة أو بالعافية أو بالتمكين في الأرض، أو بأمر من الأمور التي أصبحت مغرية من مغريات هذه الحياة لهم فعليهم أن ينتظروا ساعة الحساب وساعة القدوم على الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. قوله: (أيها المؤمنون) كما قال في أول الآية التي قبل هذه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فالتقى الطرفان في هذه الآية والتي قبلها، ويسمى في علم البلاغة: تلاقي الأطراف فالخطاب للمؤمنين في أول الآيات، وينتهي بالمؤمنين؛ لأن غير المؤمنين لا ينتبهون لهذه الأوامر ولا لهذه النواهي، ولأن من طبع الله على قلبه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع هذه الأوامر ولا ينتبه لها، والمؤمن المصدق بأوامر الله عز وجل هو الذي يقبل هذه الأوامر، فالله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. قوله: (تفلحون) أي: تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، و (لعل) هنا أصلها في اللغة العربية للترجي، لكنها إذا جاءت من عند الله فليست للترجي؛ لأن الله تعالى لا يترجى؛ لأن الترجي يكون من الأدنى إلى الأعلى، فمعناها للتوقع، أي: يتوقع فلاحكم إذا تبتم إلى الله عز وجل. وإني أنصح كل من أهمل أمره أو بيته، أو أطلق بصره فيما حرم الله أن يأخذ بأمر الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وأنصح كل من سعى في أمر يريد أن يخدع به المسلمين، أو يريد أن ينشر الفساد في بلاد المسلمين وفي الأمة الإسلامية عن طريق الكتابة، أو عن طريق الفلم، أو عن طريق المكتبة، أو عن طريق التسجيلات، أو عن أي طريق من الطرق التي تعددت في أيامنا الحاضرة أن يبادر إلى التوبة، وأن يطيع ربه الذي يقول له: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]؛ لأني أخشى أن لا يفكر في التوبة إلا بعد أن تفوت هذه الفرصة، ويبحث عن هذه الفرصة ولكن لات ساعة مندم. فأرجو من إخواني الذين ابتلوا بشيء من ذلك -سواء من كان منهم يشيع الفاحشة في المجتمع، أو من يدعو النساء بصفة خاصة إلى التفسخ والفساد، أو من ينشر الفساد بواسطة الأفلام أو بواسطة التسجيلات أو الأشرطة أو التجارة أو ما أشبه ذلك- أرجو أن يتقوا الله عز وجل؛ فإنها أمانة. كذلك أنصح أصحاب المكتبات الذين ينشرون الصور الفاتنة، والقصص الماجنة، والمسلسلات أنصحهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل، كذلك أنصح الذين يقومون على إعلام المسلمين الذين بدءوا بنشر هذه الأشياء أنصحهم أن يتقوا الله عز وجل؛ فإن الله سائلهم عن هذه الأمانة، وعن كل ما أحدثوا في هذا المجتمع من أسباب الفتنة والفساد ومن نشر الفاحشة بين المسلمين؛ لأن الله سبحانه قال: (جميعاً) أي: سواء منكم من يتقبل هذا الفساد أو من ينشر هذا الفساد، أو من يساهم في إيجاد شيء من هذا الفساد. جميعاً توبوا -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.

الزواج المبكر والآثار الإيجابية المترتبة عليه

الزواج المبكر والآثار الإيجابية المترتبة عليه العنصر الأخير من عناصر المحافظة على المجتمع قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] فالإسلام لا يؤمن بمبدأ: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فهذا مبدأ غير واقعي وغير حقيقي، ولذلك فإن الذي سد طرق الحرام فتح طرق الحلال؛ لأن الله عز وجل حينما ركب هذا الإنسان ركبه على هذه الشهوة بين الذكر والأنثى، وهذه الشهوة هي سبب تكاثر هذا العالم في هذا الوجود، ولولا هذه الشهوة ما كان لهذا العالم وجود على ظهر الأرض، ولذلك فإن الله عز وجل الذي سد طرق الفاحشة من تحريم الحديث عن الفاحشة، والنهي عن دخول البيوت دون استئذان، ومنع الاختلاط، وتحريم النظر الحرام هو الذي جعل الطريق مفتوحاً بالحلال، حتى لا يقال: ماذا يفعل الإنسان بالشهوة التي ركبها الله تعالى فيه؟ وهو هو طريق واسع يصل إلى أربع زوجات بحيث تسد حاجة أي واحد من الناس، وتستهلك كل الطاقة النسوية الموجودة في المجتمع، حتى لا تقول امرأة: إنها لم تجد زوجاً. وحتى لا يقول الرجل: إنه لم يجد طريقاً لإشباع هذه الرغبة وهذه الشهوة. ولذلك جاء الأمر من الله لمحاربة الفاحشة فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]. فمن طرق دفع الفاحشة وسد بابها الزواج، فهو المنفذ الوحيد الذي أباحه الله عز وجل من أجل أن تستهلك فيه هذه الطاقة الجنسية التي فطر الله الناس عليها، وهذا هو طريق الحلال الذي تبنى عليه الحياة الإنسانية على عش طاهر نظيف، ليس بالزنا ولكن بالزواج الذي شرعه الله عز وجل فقال عنه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]. فقوله تعالى: (وأنكحوا) أي: زوجوا. (الأيامى) جمع أيِّم، أي: غير المتزوج ومعنى ذلك أن الرجل غير المتزوج يزوج، والمرأة غير المتزوجة تزوج، حتى لا تبقى النساء عوانس في البيوت، ولا يبقى الرجال عزاباً داخل البيوت؛ لأن هذا النوع من البشر هو الذي يبحث عن الفاحشة، ولأن الزواج يغني عن الحرام، ولذلك الله تعالى هنا أمر بالزواج فقال: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى) أي: غير المتزوجين. (منكم) أي: من المسلمين، (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) الصالح ضد الفاسق. (من عبادكم) أي: الذكور، جمع عبد. (وإمائكم) أي: الإماء، جمع أمة وهي الأنثى، أي: ابذلوا المال لتزويج هؤلاء. وكذلك على الأولياء أن يبادروا بتزويج مولياتهم من النساء إذا جاء الأكفياء؛ وكذلك الرجال إذا بلغوا سن الحلم وشعروا بالحاجة الملحة وبالشهوة، فإن عليهم أن يبادروا بالزواج قبل أن يقعوا فيما حرم الله، والنساء كذلك إذا بلغن هذه السن وخفن من الوقوع فيما حرم الله عليهن أن يبادرن بهذا الزواج، ولا يكون شيء من الأمور يحول بينهم وبين أمر من أمور الله، لا التعليم ولا العمل ولا الوظيفة ولا شيء من ذلك. وهذا هو البلاء الذي حل بالأمة الآن، فالفتاة تقول: لا أتزوج حتى أكمل الدراسة الجامعية. فإذا أكملت الدراسة الجامعية قالت: لا أتزوج حتى أخدم وطني مدة من الزمن. ويمكن يا أختي أن تتزوجي وتكملي الدراسة، ويمكن أن تتزوجي وتشتغلي في المجال الذي يخص المرأة، دون أن يكون هناك شطط أو ميل أو اختلاط أو نظر، فهذا مفتوح أمام النساء والحمد لله. إذاً هذه من الفتن، ولربما تكون وراءها دعايات مضللة تريد أن تحول بين الفتاة وبين الزواج، أو بين الشباب وبين الزواج، فيتأخر الزواج فتمتلئ البيوت بالنساء العوانس، فيصبح الرجال عزاباً، فيبحثون عن الفاحشة في عصر فسد فيه الإعلام، وانتشرت فيه الصور والمحرمات، وتضخمت فيه وسائل النقل السريع، فتنقل الإنسان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في سويعات، فهذه كلها عوامل ساعدت على هذا الأمر الخطير، لذلك أقول: الله عز وجل يأمرنا بالزواج المبكر، فيقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -أي: تكاليف الزواج- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

الآثار المترتبة على عدم اختيار الصالح عند الزواج

الآثار المترتبة على عدم اختيار الصالح عند الزواج الله عز وجل هنا في قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] نبه على الصلاح، ولذلك فإن على الرجل إذا أراد أن يبحث عن امرأة أن يبحث عن المرأة الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)، وقال: (اظفر بذات الدين تربت يداك). وكذلك المرأة إذا أرادت أن تبحث عن زوج، أو أراد وليها أن يزوجها فعليه أن يبحث عن الرجل الصالح؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كثير) ولذلك كانت الفتنة وكان الفساد العريض عندما أعرض كثير من الناس عن هذا الأمر من أوامر الله، فساروا يشترون الرجل صاحب المركز أو صاحب الشهادة العملاقة، أو الرجل المثقف، أو صاحب المال الكثير، فأغفلت كل الجوانب الأخرى إلا ما شاء الله، ولم يلتفت إليها إلا أناس قلة، فكان ذلك سبباً في وجود فتنة في الأرض وفساد كبير. وانظر كم يسافر اليوم من أبناء المسلمين للفساد؟! وكم تنقل الطائرات؟! وكم تفتح من بيوت للفساد في العالم تستقبل أبناء المسلمين الذين ولدوا على الفطرة وعاشوا على الفطرة؟! الفتنة بدأت منا نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فمن يتحمل هذه المسئولية أمام الله؟ هل يتحملها ذلك الشاب الذي يقول: لا أتزوج حتى أملك بيتاً يتكون من طابقين، وأثاثاً راقياً، وأملك سيارة جميلة، وحتى وحتى، فإذا به يسوف في الزواج، ولربما يقع بعضهم في غضب الله عز وجل، أم تلك الفتاة التي أراد وليها أن يساوم عليها مساومة بالمزاد العلني، ويبحث عن أثرى الناس وأكثرهم مالاً، ويغفل كل الصفات التي يستفيد منها هو في الدنيا والآخرة وتستفيد منها تلك البنت التي تنظر إلى الصالح الذي يحترمها ويخاف الله عز وجل فيها، وينجب لها -بإذن الله- أولاداً صالحين يكونون لها سعادة في الدنيا والآخرة، هذه هي المشكلة وهذا هو الفساد العريض، والذي تسبب في وجود الفساد العريض هم الذين لا يحسنون اختيار الزوج، أو لا يحسنون اختيار الزوجة، فهنا يقول الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]!!! وكم من الناس من يأتي إلينا ويشتكي إلينا أمر موليته، فيقول: والله -يا أخي- لقد زوجت ابنتي رجلاً يشرب الخمر، فحل مشكلتي. نقول: لا نملك لك من الله شيئاً، هل حينما خطب ذلك الرجل البعيد ابنتك سألت عن أخلاقه وسلوكه ومن يخالط؟ لا نستطيع أن نخلصك من هذه المشكلة، ولربما ينجب من ابنتك أولاداً فسدت نطفتهم؛ لأن هذه تقارير علماء الاجتماع، أن إدمان المسكرات ربما ينتقل عن طريق النطفة لينجب أولاداً إما مجرمين وإما مدمني خمر، هكذا يقول علماء الاجتماع والمسئولية عليهم. ويقول آخر: زوجت ابنتي رجلاً لا يصلي فماذا أفعل؟ نقول: هو كافر وهي مسلمة، فكيف تضع امرأة مسلمة في عصمة رجل كافر والله تعالى يقول: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]؟! حتى العودة لا تعود فكيف بالابتداء؟! {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا نملك لك من الله شيئاً، فالزواج غير صحيح، ويقول بعض علماء المسلمين: الأولاد الذين يولدون في هذه الفترة غير شرعيين؛ لأن الزواج فاسد بطبيعته ما دام أنه رجل كافر مرتد وهي امرأة مسلمة. فهذا أمر خطير لا يدركه كثير من الناس إلا بعد أن يقع، فلماذا لا نبحث فيه قبل أن نقع وقبل أن ندخل في هذه المشكلة؟! لماذا إذا خطب هذا الرجل لا أبحث عمن يخالط؟ وأسأل الناس عنه هل هو رجل صالح أو غير صالح؟ هب أنه رجل فقير، أليس يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فهي لن تموت جوعاً عند ذلك الرجل؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] بل هي تموت عند الرجل المجرم الذي يهينها ولا يأتيها إلا في الهزيع الأخير من الليل، هذا الرجل الذي يفسد شهوته فيما حرم الله، هذا الرجل الذي يتناول المسكرات والمخدرات، ذلك الرجل الملحد الذي لا يصلي ولا يعرف الله طرفة عين، ذلك الرجل الذي يسب دين الله ويتجرأ على ما حرم الله، هذا هو الذي يجب أن يحذره، أما الفقير فإن الله تعالى سوف يغنيه، ومن أكبر عوامل الغنى الزواج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم)، وذكر منهم الرجل يتزوج يريد إعفاف نفسه، ويقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] وعد من الله تعالى، ألا يصدق أولياء النساء؟! ألا تصدق النساء بوعد الله؟! فكم من أناس كانوا في فقر مدقع لا يملك أحدهم قوت ليلة، فبعد أن يتزوج إذا بالدنيا تنفتح عليه من كل جانب؛ لأن رزق المرأة اجتمع مع رزق الرجل مع رزق الأولاد الذين سيأتون بإذن الله تعالى، فتجتمع هذه الأرزاق فتكون رزقاً واسعاً، إذاً لماذا لا يثق الناس بوعد الله وبرزق الله؟! ثم يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: العبيد الذين ستزوجونهم إذا كانوا فقراء فإن الله يعطيهم بكرمه. ثم يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] أي أن الله تعالى له خزائن السماوات والأرض، فعنده من السعة في الرزق ما يغني جميع المخلوقات فضلاً عن ذلك الرجل الذي تزوج لإعفاف نفسه، ويدر عليه الرزق لنفقة هذه الزوجة التي رضيت بهذا الرجل الصالح الفقير من أجل تعفه وتعف نفسها.

لزوم الاستعفاف لمن لا يجد القدرة على النكاح

لزوم الاستعفاف لمن لا يجد القدرة على النكاح قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور:33] أي: الذي لا يجد وسائل النكاح عليه أن يستعف، ويطلب العفاف ويبتعد عن مواطن الفتن حتى ييسر الله له طريق المهر فيتزوج بهذا المال الذي أعطاه الله تعالى. ولكن هناك طريق أخرى لا نغفل عنها، فلماذا لا تقدم الصدقات والزكوات وفضل المال العريض الذي من الله علينا به لتزويج هؤلاء العزاب؟! كذلك يجب أن يتعاون أولياء النساء مع الشباب في تخفيف هذه المهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة) ولذلك بمقدار ما تقل المئونة وتقل تكاليف الزواج تكثر البركة، ولكن حينما تكثر تكاليف الزواج تقل البركة، وهذا شيء نشاهده من خلال دراسة أحوال المجتمع، إذا خسر رجل على زوجته مئات الآلاف من الريالات فإنه لا تمضي مدة من الزمن إلا وهو يكرهها؛ لأنها أثقلته بالديون، وهب أنها ليست ديوناً، فإنه يشعر دائماً أنه اشتراها بثمن غال نفيس من ماله، وتجد أنه يستثقلها دائماً وأبداً، ولربما لا يتم لها مدة حتى يطلقها أو يؤذيها ليسترجع هذا المهر مرة أخرى وليتزوج امرأة أخرى، وهذا -والله- واقع كثيرٍ من الذين يبذلون المال الكثير في الزواج، لكن الذين يبذلون المال القليل يجعل الله عز جل فيه البركة، فعندما لا تبنى العلاقة الزوجية على مطامع مادية بل تبنى على محبة وعلى إحسان تكون النتيجة طيبة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]. فندعوا أصحاب الأموال إلى تقديم زكاة أموالهم للشباب العاجز عن الزواج، فإن هذا -في اعتقادي- هو أفضل ما يقدم فيه المال في أيامنا الحاضرة، وأظنه من المال الذي نقدمه للجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا نوع من الجهاد، ومحاربة للرذيلة، وإنشاء لبيوت مسلمة، سيما إذا كان الرجل صالحاً والمرأة صالحة، لكن حينما نبخل بهذا المال يكون الفساد العريض. فلابد من أن نقدم كثيراً من المال لتزويج العزاب، وأنا أدعو الجمعيات الخيرية وأدعو أصحاب الخير والمال لتزويج العزاب، لعل الله سبحانه وتعالى أن يحفظهم من هذه الفتن التي غصت بها الحياة الدنيا. قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفْ) أي: يطلب العفة. قوله: (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً) أي: أسباب النكاح. (حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيصوم إن كان الصوم يكسر الشهوة، ويغض البصر، ويبتعد عن مواطن الفتن إلى غير ذلك من الأمور التي يستغني بها العزب عن الحرام.

حقيقة المكاتبة وشروطها

حقيقة المكاتبة وشروطها قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] هذه الآية نزلت فيمن يريد أن يشتري نفسه من سيده كالعبيد الأرقاء، فيساعد هؤلاء الأرقاء حتى يعتقوا أنفسهم من سادتهم. فقوله: (يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ) أي: المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: الأرقاء. (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي: إذا طلب أن تبيع نفسه عليه نجوماً وتقسيطاً فبع نفسه عليه نجوماً وتقسيطاً، لكن إذا علمت فيه ديناً وخلقاً. (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) أي: أحسنوا إلى هؤلاء الأرقاء وأعطوهم من مال الله.

حرمة إكراه الإماء على الزنا عند إرادة التحصن وعدمه

حرمة إكراه الإماء على الزنا عند إرادة التحصن وعدمه يقول الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور:33] هذه نزلت في قوم من المشركين كان أحدهم يشتري جواري ويؤجرهن للزنا، نعوذ بالله، فالله تعالى قال: لا تفعلوا هذا العمل. مع أنهم غير مؤمنين وغير مسلمين، لكن لأن فعلهم هذا هو من باب نشر الفاحشة في المجتمع. قوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) أي: الرقيقات. (عَلَى الْبِغَاءِ) أي: على الزنا. (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) جملة (إن أردن تحصناً) قيد لا مفهوم له، حتى لو لم ترد التحصن لا يجوز له أن يفعل هذا العمل. يقول الله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33] أي أنكم تؤجرون الجواري للزنا من أجل المال، فهذا أمر محرم وعظيم عند الله عز وجل، وجملة (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) -أيضاً- قيد آخر لا مفهوم له، حتى لو لم يبتغوا عرض الحياة الدنيا فلا يجوز فعل ذلك. يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] أي: لو ألزمتها بهذه الفاحشة وهي تكره ذلك فإن الله يتجاوز عنها وأنت تتحمل الإثم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لبس النقاب ذي الفتحات الواسعة

حكم لبس النقاب ذي الفتحات الواسعة Q ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة النقاب بكثرة، وصارت فتحة النقاب تكبر تدريجياً، ويحتج بذلك أنه من الشريعة، فما رأي الشرع في ذلك؟ A أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز كشف الوجه إذا كانت الفتنة، والفتنة موجودة، لكن كشف المرأة عن عينيها وما حول العينين وتغطية بقية الوجه فأنا أعتقد أن النساء -خاصة غير الجميلات- لو كشفن الوجه لكان أسهل من أن كشف العينين؛ لأنه ربما يكون الوجه ليس فيه مظهر من مظاهر الجمال، وجميع عيون النساء فيهن هذا الجمال، ولذلك أنا أعتقد أن هذا النقاب لربما يكون أخطر من السفور في بعض الأحيان، وذلك حينما تكون المرأة غير جميلة، وعلى كل فإن العينين هما أجمل ما في الوجه، وإخراج أجمل ما في الوجه يعني إخراج الوجه كاملاً أو أشد من إخراج الوجه.

حكم تعدد الزوجات

حكم تعدد الزوجات Q معلوم أن الزواج من أعظم ما يعين على حفظ الفروج، سيما وأن النساء في مجتمعنا بكثرة، فأرجو توجيه كلمة إلى كل زوجة تعارض زوجها أن يعدد؟ A أنا أعتقد أن التعدد هو الأصل، وأن الإفراد هو الفرع بالنسبة للتعدد، ولربما يكون هذا الاعتقاد راجحاً في مثل هذه الأيام؛ لأننا نجد في هذه الأيام فيضاً في عدد النساء يزيد على عدد الرجال، بل إن الله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير هو الذي أباح للرجل أن يتزوج أربع نساء؛ لأنه يعلم أن كل رجل يريد أن يتزوج أكثر من واحدة، ولأن الله تعالى يعلم أن النسبة سوف تصل إلى هذا الحد، بل ستصل إلى أكبر من ذلك، فقد جاء في الحديث: (أنه في آخر الزمان يكون لخمسين امرأة القيم الواحد يلذن به من قلة الرجال)، وليس معنى ذلك أن تكون له خمسون زوجة، لا، وإنما يعطف على خمسين امرأة ينفق عليهن، منهن الزوجة ومنهن غير الزوجة. وعلى كل لا حاجة إلى الإحصائيات، فهذا أمر من أوامر الله عز وجل، والله تعالى لما ذكر الزواج قال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] فمعنى ذلك -حسب هذه الآية- أن التعدد أفضل، وهذا أولاً. ثانياً: أن الإفراد يكون في حال الخوف، والقاعدة الشرعية أن كل شيء ينهى عنه في حال الخوف يكون فعله أفضل في حال عدم الخوف، ويكفي أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو التعدد، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل، ويكفي أن الله تعالى جعل للرجل أن يميل بعض الميل إلى بعض الزوجات، وإن كان منع كل الميل؛ لقوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] فكلمة (كُلَّ) تفيد أن بعض ذلك مباح، وهو ميل القلب، إذاً لماذا أبيح الميل والنساء بحاجة إلى العدل؟! لأن مصلحة التعدد ترجح مصلحة مضرة شيء من الميل. وعلى كلٍ فإني أقول: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو عارض أحدنا وقال: أنا لا أؤمن بها نقول: أنت كافر مرتد. ولو قال أحد: أنا لا أستسيغها نقول: إن كنت تعني لا تستسيغها ولا ترغب فيها فأنت حر، لكن لو قال: أنا أعارضها وأرفضها نقول: أنت مرتد عن دين الله عز وجل وكافر بالقرآن. وإني أدعو المرأة الصالحة إلى أن لا تعرقل زوجها في هذا الأمر؛ لأنها حينما تعرقله لربما يلجأ إلى ما حرم الله، فتكون هي السبب في نظرات محرمة وفعلات محرمة، أسأل الله تعالى أن يوفق النساء حتى لا يثقلن على الرجال في هذا الجانب.

قياس الخادمة والسائق بالرقيق وحكم خروج المرأة مع السائق مع أطفال صغار

قياس الخادمة والسائق بالرقيق وحكم خروج المرأة مع السائق مع أطفال صغار Q ألا يكون للسائق والخادمة والعاملين في البيوت نفس حكم الرقيق؟ وما حكم الركوب مع السائق الأجنبي داخل المدينة مع أطفال لم يبلغوا سن الرشد؟ A أولاً: القياس الأول فاسد؛ لأن الله تعالى ذكر في الرق حكماً شرعياً، أما غير الرق فإنه حرم ذلك، فلا يمكن أن نقيس محرماً على مباح أو على أمر مشروع، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، ولا يصح أن يقال هذا؛ لأن هذه المرأة الخادمة التي تعمل في البيوت ليست رقيقة، وليس ذلك الرجل السائق الذي يعمل داخل البيت رقيقاً ولا محرماً، فلا يجوز أن يباع السائق والخادمة ولا أن يشتريا، ولا يجري عليهم غير ذلك من أحكام الرقيق. فالأمر خطير، وفي الحديث: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وإني متأكد من أن أي بيت لابد من أن تكون فيه خلوة؛ لأن ربة البيت لا تبقى في البيت، ولأن أهل البيت ربما يخرجون ويبقى الولد، أو يبقى رب البيت، والشيطان يكون الثالث، والأمر يكون خطيراً، وكذلك العكس، فلو جاء بسائق وجعله داخل بيته وخرج هو وزوجته وبقي السائق وإحدى البنات أو إحدى الأخوات يصبح الأمر خطيراً. أما أن تسير المرأة مع السائق ومعها محارم فهذا لا بأس به ما دام أنه ليس هناك سفر، فالمنهي عنه هو السفر أو الخلوة، فإذا كانت خلوة يكون الأمر محرماً، وإذا كان سفراً كان الأمر محرماً، ولكن لو كان الذي معهما أطفالاً صغاراً فأنا أعتقد أن الأطفال الصغار الذين لا يتصورون الموقف لا يصلحون للمحرمية، فلابد من أن يكون رجلاً بالغاً أو امرأة بالغة ثانية، فإذا كنّ أكثر من واحدة تزول الخلوة، أما إذا كان طفلاً صغيراً لا يعقل فلربما لا يستطيع أن يدافع عن هذه المرأة التي تكون مع هذا السائق.

حكم من يقول بأن ترك القرآن واستبدال الغناء به يعتبر رقيا

حكم من يقول بأن ترك القرآن واستبدال الغناء به يعتبر رقياً Q لقد قام التلفاز بمقابلة مع أحد المغنين المشهورين، ومن ضمن الأسئلة الموجهة لهذا المغني أن المذيع قال له بالحرف الواحد: كيف ارتقيت من مجرد قارئ للقرآن إلى فنان كبير صاحب شهرة عظيمة؟ فما حكم هذا القول؟ A الله المستعان! إذا كان ترك القرآن إلى الغناء يعتبر رقياً فماذا يكون الهبوط؟! هذا أمر خطير أن يقال مثل هذا الكلام، نسأل الله العافية والسلامة. أقول: إن كان هذا السائل يعتقد ما يقول ويتصور معنى ما يقول فقد وقع في خطر، ويكون بذلك قد خرج من دائرة الإسلام، ولكن لعله لا يتصور معنى ما يقول، وإنما هي أساليب يمارسها دون أن يتصور معناها. وعلى كل فإني أرجو أن لا نسأل عن التلفاز ولا عن غيره من هذه الوسائل؛ لأن هذه الوسائل أصبحت الآن موضع إشكال لدى الناس، وموضع التباس في الأمر. والأمر خطير ولا أطالب بأكثر من أن يقف كل واحد على باب داره حتى لا تتسرب هذه الأفلام أياً كان مصدرها، سواء أكان التلفاز أم (الفيديو) أم أي وسيلة من الوسائل الأخرى، فأنت أمير ومسئول عن البيت، والله تعالى سوف يسألك عن الذرية وعن الأمانة، والله تعالى يقول: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].

تحذير الآباء مما يعرض في التلفاز للأطفال

تحذير الآباء مما يعرض في التلفاز للأطفال Q كذلك نود من فضيلتكم تحذير الآباء وأولياء الأمور مما يعرض في التلفاز من أفلام الكرتون التي من ضمنها أن يقال في بداية ما يعرض للأطفال: (نسير نسير لا ندري إلى أين المصير)، وأرجو من فضيلتكم إيضاح هذا الموضوع الذي انتشر في كثير من البيوت، وادعى الأولياء أنهم لا يستطيعون تخليص بيوتهم من ذلك، والله عز وجل يقول: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]؟! A أما أفلام الكرتون فأنا لا أدري ما يعرض فيها، فإن كان فيها: (نسير نسير لا ندري إلى أين المصير)، فمعنى ذلك أنهم يشككون أبناء المسلمين في الحكمة من خلق هذا الكون، وخلق هذه الأمة، وخلق هذا العالم، ونحن نؤمن بأنا خلقنا للعبادة، وأنا نسير إلى الدار الآخرة، وأن أمامنا حياة غير هذه الحياة التي نعيشها الآن. وإذا وجد مثل هذا في بيوت المسلمين وأمام أطفال المسلمين فالأمر خطير، نسأل الله العافية والسلامة، أما بالنسبة لهذه الأشياء عموماً فأنا أقول: كل امرئ راع ومسئول عن رعيته، فالله الله أن يخون هذه الأمانة وهذه الرعاية، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].

حكم النظر إلى الشاب الأمرد

حكم النظر إلى الشاب الأمرد Q ربما ينزعج ويستثقل ويستعظم كثير من الناس النظر إلى النساء، ولكنهم يبيحون لأنفسهم ويستهينون بالنظر إلى المردان من الرجال، فيدخل عليهم الشيطان من كونه نظر رجل لرجل خالياً من الشهوة، وهل آية الأمر بغض البصر عن النساء دليل على النهي عن هذا الأمر، سيما ونحن نرى تلك الفاحشة التي بدايتها النظر قد انتشرت؟ A يقول الفقهاء: كما أنه لا يجوز النظر إلى المرأة فإنه لا يجوز النظر إلى الشاب الأمرد الذي فيه وضاءة وفيه جمال في وجهه وهذا قد يحدث فتنة، لكن لا يدخل هذا في البحث الذي نبحثه بالنسبة للآية، والأصل هو غض البصر عن كل ما يثير الشهوة، سواء أكان نظراً إلى امرأة أم إلى رجل، والمسلم بطبيعته يدرك الخطر في هذا وهذا، فالمهم أن نغض البصر عن كل ما حرم الله، وعن كل ما قد يحدث فتنة في نفوس الناس.

توجيه حديث: (عفوا تعف نساؤكم)

توجيه حديث: (عفوا تعف نساؤكم) Q إذا كان لأحد من الناس علاقة محرمة مع إحدى النساء، فهل يقتضي ذلك أن تقع إحدى محارمه في مثل هذه العلاقة حتى لو تاب من هذه الأفعال أو كان البيت بيتاً صالحاً؟ A ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في هذا الباب، وليس معنى ذلك أنه يلزم إذا كان له علاقة محرمة بامرأة أن يكون لإحدى محارمه علاقة محرمة، معاذ الله أن نقول هذا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن مثل هذه الأفعال قد تعرض أهله لهذه المشكلة، أما القاعدة الأصلية فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، لكن لربما يكون هذا الرجل الذي وقع فيما حرم الله لديه غيرة شديدة على محارمه لا يريد أن يقعوا فيما حرم الله، فيعاقب من هذا الجانب، وقد يحدث هذا بأن يحصل فساد في بيته بمقدار ما يحدثه من الفساد في بيوت الناس، والمهم أن الذي يفعل هذه الأمور يخاطر بأهل بيته، فنقول له: اتق الله حتى لا تعرض بيتك لمثل هذه الفتنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عفوا تعف نساؤكم) فالمرأة التي لا يعف زوجها أو لا يعف أخوها أو لا يعف أبوها هي معرضة في يوم من الأيام بأن تصاب بشيء من ذلك عقوبة لهم.

حكم الخروج من البيت الذي فيه خادمة غير متحجبة

حكم الخروج من البيت الذي فيه خادمة غير متحجبة Q هناك من يوجد في بيته خادمة، وأينما ذهب -تقريباً- يجدها أمامه، وأهله يمنعونه من أن يأمرها بالحجاب أو المكث في المطبخ وما شابه ذلك، وإذا كان مرغماً على مثل هذا الأمر هل يغادر البيت ويتركه على أنقاضه؟ أم ماذا يفعل؟ A كثيراً ما ترد الأسئلة في هذا الموضوع من شباب متدينين -والحمد لله- يكونون عند آبائهم أو إخوانهم الكبار فيفرضون عليهم هذه الأمور، ويعرضونهم لهذه الفتنة، فالشاب تجده خائفاً على نفسه، فنقول: عليك أن تبذل جهدك في أن تنظف هذا البيت مما حرم الله، وأن تنصح أباك أو أخاك الأكبر أن يتقي الله عز وجل، وأن يحفظ هذه الأمانة، فإذا عجزت فعليك أن تغض بصرك وأن تبتعد عن مواطن الفتن، ولو قدر لك أن تنعزل في بيت آخر بعيداً عن هذه الفتنة فذلك أولى.

الحكمة من إباحة تزوج الرجل بأربع والمرأة بواحد

الحكمة من إباحة تزوج الرجل بأربع والمرأة بواحد Q كيف نرد على من قال: إن الرجل أبيح له أربع زوجات ليقضي طاقته الجنسية، والمرأة لم يسمح لها إلا بزوج واحد، فكيف تقضي المرأة التي عندها طاقة جنسية حاجتها؟ A ليس الهدف هو إشباع الغريزة وإن كان ذلك مقصوداً؛ لأن أكبر الأهداف من ذلك هو الإنجاب، والقاعدة معروفة أن الرجل تكون له أربع زوجات يستطيع أن ينجب أربعة أولاد في السنة أو في السنتين بإذن الله، لكن امرأة لو قدر أنها تأخذ أكثر من زوج فهل يمكن أن تنجب أكثر من واحد؟! ولمن يكون هذا الولد؟! فالمسألة بعيدة عن المعقول، والله سبحانه وتعالى حكيم حيث أباح للرجل أكثر من زوجة ولم يبح للمرأة أكثر من زوج، فهذه حكمة الله سبحانه وتعالى ولا يجوز الاعتراض عليها؛ لأن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

حكم لبس المرأة للبنطال أو الملابس الضيقة والمفتوحة أمام النساء

حكم لبس المرأة للبنطال أو الملابس الضيقة والمفتوحة أمام النساء Q لبس البنطال للمرأة أمام النساء، وكذلك لبس الملابس الضيقة المفتوحة إلى الركبة، وظهور الذراعين وكذلك جزء من الصدر والظهر هل هذا يجوز إذا كان أمام النساء؟ A إن المرأة المسلمة يجوز لها أن تبرز شيئاً مما جرت العادة بإبرازه، فإذا كانت جرت العادة بإبراز هذه الأشياء ولا تثير النساء ولا تحرك فيهن الغرائز فذلك ربما يجوز ويغتفر أمام النساء المسلمات، والبعد عن ذلك أفضل. أما لبس البنطال الضيق أو المشقوق وما أشبه ذلك أمام المحارم -خاصة الأخ أو الأخ من الرضاعة- فهذا غير مستساغ وغير صحيح؛ لأنه لم تجر العادة بلبسه أمام الإخوة. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

استجيبوا لله وللرسول

استجيبوا لله وللرسول لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاستجابة لله والرسول في جميع الأوامر والنواهي، فإن في ذلك حياة القلوب، وراحة النفوس، وسعادة الفرد والمجتمع، فإن أعرضنا عن ذلك فإن الله قد تهددنا بفتنة القلوب، وتغير الأحوال، والحيلولة بيننا وبين الهدى والسعادة، فعلى المسلم أن يستجيب في السراء والضراء، وأن يستلهم من الله التوفيق والسداد.

حقيقة الاستجابة في آية: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلخ)

حقيقة الاستجابة في آية: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلخ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: يقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:23 - 31]. هذه هي الحلقة الثالثة من سورة الأنفال، سورة القتال التي تبين للمسلمين كيف يتعاملون مع الله في ساعة القتال، وما هو الطريق الأمثل والأنجح لكسب المعركة، وبدون هذا الطريق لا يفلح القوم أبداً، وأي مسلك يسلكونه لا يخضع لهذا النظام العظيم في هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فإنه نظام فاسد فاشل، نهايته البوار والدمار. يقول الله عز وجل في هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24 - 25] إلى آخر الآيات، كان الحديث عن شر الدواب، فالآية التي قبل هذه الآيات تقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، وقلنا: إن الدابة هي كل ما يدب على وجه الأرض، ابتداءً من الإنسان الذي هو أكرم مخلوقات الله، إلى أخس وأخبث حشرة موجودة في هذا الكون، فشر هذه المخلوقات كلها الإنسان الكافر نعوذ بالله، فإذا كان الإنسان المؤمن هو أفضل خلق الله فإن الكافر هو شر خلق الله، وما الفرق بين شر خلق الله وأفضل خلق الله! ليس هناك فرق بينهما إلا الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، والكفر به سبحانه وتعالى.

الإسلام يحقق الحياة السعيدة

الإسلام يحقق الحياة السعيدة ثم يبين الله بعد ذلك أن هناك وسيلة للحياة يجب على الناس أن يبحثوا عنها في هذا الدين، فهذا الدين ليس كما يظنه بعض الملاحدة والعلمانيين؛ الذين يعتبرون أن الدين قد استنفذ أغراضه، وأنه أصبح لا يصلح للحياة. فلا تصلح الحياة إلا في ظل هذا الدين، وبالأخذ بهذا الدين، والتخلف عن هذا الدين هو الرجعية والتخلف في الحقيقة، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، وإذا كانوا يعتقدون أن التقدم في منهجهم فنحن لا نشك بأن التقدم بالأخذ بالمنهج الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هذا الدين هو حياة الشعوب والدول، حياة الأفراد حياة الجماعة حياة المرأة حياة الرجل حياة الجميع بالأخذ بهذا الدين.

الجهاد حياة الأمة المحمدية

الجهاد حياة الأمة المحمدية ومن أعظم أسس هذا الدين الجهاد في سبيل الله، ففيه الحياة، عجيب أن يكون الجهاد الذي تقتل فيه النفوس وتراق فيه الدماء هو الحياة! نعم هو الحياة، كما قال الله تعالى عن القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، وهنا يقول عن الجهاد في سبيل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، فبالرغم من أنه قتل لكنه حياة، وبالرغم من أنه إراقة للدماء فإنه حقن للدماء، وبالرغم من أنه إزهاق للنفوس؛ لكنه إحياء للنفوس. ولذلك يا أخي! إذا أردت أن تبحث عن هذا الخبر من الواقع فانظر إلى الأمم الحية التي بدأت بالجهاد، وإن لم يكن لها مبدأ نظيف طاهر طيب وهدف؛ لكن بمقدار ما قدمت من النفوس تقدمت هذه الأمة، خصوصاً العالم الذي خاض الحربين العالميتين، فخسر عشرات الملايين من البشر كما في الحرب العالمية الثانية، فهو يبحث عن الأمن لكنه لم يحصل على الأمن الذي يقدمه الإسلام لهؤلاء الناس. فإذا كانت هذه الأمم التي ليس لها هدف الحياة الآخرة، فالأمم التي تسعى للحياة الآخرة هي أول من يجب أن يعلن الجهاد في سبيل الله، ولذلك قلت لكم يا إخوان: إن آخر مرحلة استقر عليها الإسلام: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وجميع الأحداث التي تعصف بالعالم الإسلامي اليوم إنما سببها إهمال الجهاد في سبيل الله، ولذلك قبل أن يفرض الجهاد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتمنون الجهاد، وكان الله تعالى يقول: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77]، إلى أن أذن لهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]. إذاً: الحياة هنا المراد بها السعادة، المراد بها البقاء، المراد بها العزة والكرامة، ولا تكون إلا بالجهاد في سبيل الله، فحينما وصف الله عز وجل لنا معركة بدر الكبرى بين أن الجهاد وإن كان صعباً على النفوس، لكنه في الحقيقة هو حياة الأمم، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، دعاكم للجهاد، فالأمم لا تحيا إلا بالجهاد، ولذلك تعتبر موقعة بدر الكبرى هي القاعدة المتينة لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، بل في العالم، بل في الدنيا كلها إلى يوم القيامة، لماذا؟ لأن الله تعالى شرع الجهاد من أجل أن تحيا الأمم، واليوم يتسلط الكافرون والطغاة والمتجبرون على المسلمين، لأن المسلمين أهملوا الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة الإسلام كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، فالجهاد قتل وفيه حياة؛ لأن هذا القتل يثبت مكانة هذه الأمة في هذه الأرض؛ لأن الجهاد هو الذي يقرر مصير أمة من الأمم، إذاً هو يحيي في الحقيقة وليس يميت.

اتباع أوامر الله ورسوله سعادة البشرية

اتباع أوامر الله ورسوله سعادة البشرية (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وفي هذه الآية يستدل على أن أي أمر من أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم هو سعادة البشرية، وإذا تخلفت الأمة وتركت أمراً من أوامر الله فإن هذه الأمة قد سقطت من عين الله.

وجوب تقديم طاعة الله ورسوله على طاعة المخلوقين

وجوب تقديم طاعة الله ورسوله على طاعة المخلوقين وتدل الآية: على وجوب تقديم طاعة الله وطاعة رسوله على طاعة أي مخلوق من المخلوقين، وعلى الهوى والشهوة والرغبات الخاصة والعامة؛ لأن الله تعالى قال: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). وقد فسر هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حينما دعا رجلاً من المسلمين، وكان الرجل يصلي فانشغل بصلاته، فلما انتهى جاء واعتذر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرسول الله: كنت أصلي، قال: أما سمعت قول الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) فهذا دليل على أنه لا يجوز أن تقدم طاعة مخلوق كائناً من كان على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله.

قلب الإنسان بيد الله يقلبه كيف يشاء

قلب الإنسان بيد الله يقلبه كيف يشاء ويبين الله تعالى بعد ذلك أن القلوب بيد الله، وأن الإنسان لا يدري مصيره وخاتمته، ولا يدري هل يستطيع أن يحقق آماله وأهدافه في هذه الحياة أم لا يستطيع؟! هل يطول به العمر أو لا يطول؟! الله تعالى يبين أن هذا الإنسان عليه أن يبادر، لأن الله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]. ما معنى (يحول بين المرء وقلبه)؟ أي: قد تكون هناك آمال طوال عراض لهذا الإنسان، لكن الله سبحانه وتعالى يقطع هذه الآمال على هذا الإنسان، فلا يحقق شيئاً منها، لأن الأجل قد قرب. أمر آخر تشير إليه هذه الآية في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، وهو أن القلوب بيد الله عز وجل، وهذا الإنسان عليه أن يبحث ويسعى إلى حسن الخاتمة، فقد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وقد يعمل بعمل أهل النار حسب ما يظهر للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها، والله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، فالإنسان يخضع لإرادة الله عز وجل ولما قدر له.

قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وما تحمله من معاني

قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وما تحمله من معاني ثم يقول الله عز وجل مبيناً أن ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الانحراف عن منهج الله في مجموعة من الناس لا يعني أنه يعرض هذه المجموعة وحدها للفتنة والبلاء، ولكنه يعرض العالم كله للدمار، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. الفتنة تفسر دائماً وأبداً بالكفر والانحراف عن الدين، وإن كانت تأتي في بعض الأحيان للفوضى والاضطرابات، لكن إذا أطلقت الفتنة فالأصل فيها الكفر أو الردة عن الإسلام، كما قال الله تعالى هنا: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، وتشير هذه الآية إلى معنيين عظيمين يغفل عنهما الناس:

العقوبة تعم ولا تخص

العقوبة تعم ولا تخص المعنى الأول: أن العقوبة على المعصية إذا حلت بالأمة فإنها تصيب الناس أجمعين: (واتقوا فتنة) يفعلها بعض الناس، (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) أي: تصيب جميع الناس، هذه لها أدلة وشواهد كثيرة من القرآن والسنة، من هذه الشواهد قصة بني إسرائيل في قصة السبت في آخر سورة الأعراف قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163]، فالقصة أن بني إسرائيل منهم من فعل أمراً عظيماً، فحرم الله عليه الصيد في يوم السبت، واستعمل الحيلة كما يستعمل كثير من الناس الحيل في أيامنا الحاضرة على أخذ الأموال، فصاروا يضعون الشباك في يوم الجمعة، ويخرجونها في يوم الأحد، يقولون: نحن لا نصطاد في يوم السبت، ويتحيلون على أمر الله، فانقسم بنو إسرائيل إلى ثلاثة أقسام: قسم فعل هذه المعصية الكبيرة، وقسم نهى عن هذه المعصية، وقسم لام من نهى وقال: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟! النتيجة يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]، إذاً: إنما ينجو من العذاب الذين ينهون عن السوء. والرسول صلى الله عليه وسلم صور الحياة بسفينة، فبعض الناس في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وهم المطيعون والعصاة، ففكر العصاة في خرق السفينة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). إذاً معنى ذلك: العقوبة إذا نزلت من عند الله فإنها تأخذ بالصالح والطالح، ولا يتخلص منها إلا الذين ينهون عن السوء، كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]. ويقول الله عز وجل مبيناً أن العقوبة تنزل بسبب مجموعة صغيرة فتعم الجميع: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16]، أي: أمة في قرية، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، وفي قراءة سبعية: {أمَّرنا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، أي: جعلنا السلطة بيد المترفين الفسقة، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، ما هي النتيجة؟ {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، القرية كلها دمرها الله تعالى تدميراً، مع أن الذين فسقوا هم المترفون، وقد يكونون هم أمراء هذه القرية. إذاً: معنى ذلك أن العقوبة تعم الجميع، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). إذاً: العقوبة لا تخص العصاة وحدهم، وإنما تعم العصاة ومن يسكت على معصية الله، أما الذين ينهون عن السوء فإن الله تعالى يخلصهم بأي حال من الأحوال، ولو أن يقبض أرواحهم قبل أن تأتي هذه العقوبة. هذه مسألة يجب أن نفهمها في وقتٍ ضعف فيه جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنجد أن كثيراً من الناس قد أغمض عينيه عن المنكرات، وخاف من البشر، وجامل في دين الله، ودس رأسه بالرمل كما تدس النعامة رأسها في الرمل، ورأى المناكر قد أعلنت أنفسها في وضح النهار، وسكت جبناً، أو طمعاً، أو لأي سبب من الأسباب، فهذه أمور خطيرة يجب أن نفهمها. إذا كان الناس يريدون أن يسلموا من عذاب الله، فلا بد من إنكار المنكر بأي حال من الأحوال، وأقصد المنكر الذي يعلن، وهو الذي يرى بالعين، ويسمع بالأذن، ويدرك بالحواس، أما إذا كان المنكر قد خفي فالله سبحانه وتعالى يعفينا من أمره حتى ينتشر، وإن كنا مطالبين بأن نتتبع خلايا المنكر بالطريقة المشروعة.

العقوبة أنواع وأعظمها الانحراف عن الدين

العقوبة أنواع وأعظمها الانحراف عن الدين يعرف الناس أشد الغفلة، وهي: يظن الناس أن العقوبة تكون عقوبة حسية: زلازل براكين تتفتح في الأرض صواعق تنزل من السماء رياحاً وعواصف جدباً، فتناً وحروباً داخلية بين الناس، اضطرابات، وهذه كلها أنواع من العقوبة، لكن هناك نوع من العقوبة لا يعرفه كثير من الناس وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، قد يكون الناس في نعيم ورغد من العيش، ورخاء وطمأنينة، وتفجر لهم الخيرات من وراء آلاف الأقدام في جوف الأرض، ويعيشون في قصور مترفة، لكن الفتنة موجودة، وهي الانحراف عن الدين. فالانحراف عن الدين عقوبة، يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، إذاً: احذروا أن تصيبكم هذه العقوبة التي تختلف عن العقوبات التي أصابت الأمم السابقة، فالذي أهلك أمماً بالغرق، وأهلك أمماً بالصاعقة، وأهلك أمماً بالريح وأهلك وأهلك، قد يهلككم بالفتنة، وهي الانحراف عن الدين، وهذا هو الشيء الذي لا يدركه كثير من الناس؛ لأن العقوبة لو نزلت على أساس أمر مادي يهلك الأجسام كما نزل على الأمم السابقة لكانت الأمم تدرك مقدار هذه العقوبة، لكن تجد أمة يعطيها الله من الخيرات والنعيم، وهي تبتعد عن الله بمقدار ما يأتيها من النعيم، فهذه قد أصيبت بعقوبة ليس لها نظير من العقوبات في الأمم السابقة، وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). وهي التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، أي: العقوبة، فالمعصية تجر معصية وراءها، وتكون الثانية عقوبة على الأولى، وكل معصية تجر وراءها معصية أكبر منها إلى أن يمرق هذا الإنسان من دين الله تعالى، فلا يبقى عنده أي شيء من دين الله. فهذا هو معنى قوله تعالى: (واتقوا فتنة)، وهو الذي أشار الله تعالى إليه بقوله في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، لماذا أتى بـ (أو)؟ لأن العذاب الأليم غير الفتنة، فإن العذاب الأليم يصيب الجسد، والفتنة تصيب القلب والروح والمعنى، والأولى المذكورة في الآية أخطر من الثانية، لأن عقوبة الجسد تنتهي في هذا الإنسان بأجله الذي كتبه الله تعالى عليه، ولربما يتجاوز الله عنه، لكن حينما يصاب بالكفر والانحراف عن الدين، فهذه فتنة لا تساويها فتنة أخرى. ولذلك أقول: إنني ألاحظ في عالمنا اليوم، وفي دنيا الناس اليوم: أن كثيراً منهم أصيب بهذا النوع من هذا العذاب، وبهذه الفتنة العمياء، فأصبحنا نشاهد كثيراً من الذين انحرفوا عن دين الله يصابون في عقيدتهم وفي دينهم حتى خرجوا عن الإسلام دون أن يجدوا رادعاً، بل منهم من أعلن عن كفره وردته، ومنهم من غطى كفره وردته بغطاء شفاف يشف عما تحته، وبعضهم يتكتم كما يتكتم المنافقون قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. إذاً: معنى قوله تعالى: (واتقوا)، أي: احذروا، (فتنة)، أي: عقوبة ليست كالعقوبات السابقة التي أصابت قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة، لكنها فتنة من نوع آخر تصيب القلب والروح، ويصعب على هذا الإنسان أن يحدد مقدار هذه الفتنة، وموقعها من القلب.

فتنة الانحراف ليست خاصة بالعصاة

فتنة الانحراف ليست خاصة بالعصاة هذه الفتنة ليست خاصة بالعصاة، فقد يعاقب الله المطيع بالفتنة، وهذا نشاهده في عالمنا اليوم، فلربما نجد ذلك الرجل الصالح الذي كان باستطاعته أن ينكر المنكر، وأن يقول للناس: اتقوا الله، ثم إذا به هو يصاب بنفسه، ولم تصب الفتنة الذي ظلم خاصة، بل أصابت مع الظالم غيره أيضاً، وهذه الفتنة هي أقسى أنواع العقوبات. ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، فمعنى ذلك: أن عقوبة الأجساد تعتبر عقوبة، لكن أشد من عقوبة الأجساد أن يفتن هذا الإنسان في دينه، فيلتبس عليه الأمر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ويختلط المنكر بمخه ولحمه وعظمه ودمه، فلا يستطيع أن يميز، وحينئذ هو يقترف ما يقترف من معصية الله، وهو ما أشار الله عز وجل إليه في قوله في مراحل اقتراف المعصية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:113]، وهذه المرحلة الأولى، (وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113]، حينما تطمئن إليه القلوب، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]. وإذا رضي الناس المنكر فإنهم يقترفون بعد ذلك ما هم مقترفون، لكن ما دام الناس يشعرون بأن هذا منكر، وأن اقترافه إثم؛ فهم في خير، ولكنهم يفقدون هذا الخير حينما تطول مدة هذا المنكر، فلا يستطيعون إنكاره في يوم من الأيام، لأنه أصبح أمراً مألوفاً، ويصلون إلى المرحلة الخطيرة من آخر مراحل الحياة الدنيا: وهي أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، كما أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا تعجبوا حينما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، يعني: هذه أعظم أنواع العقوبات التي تصيب الناس في دينهم.

تذكير الله لهذه الأمة بالنعمة ووجوب شكرها

تذكير الله لهذه الأمة بالنعمة ووجوب شكرها ثم يذكر الله عز وجل المسلمين الأولين ويذكرنا نحن ويذكر كل أمة مرت بها فترتان: فترة خوف وذعر، ثم أبدل الله خوفها أمناً وطمأنينة. وإذا كانت هذه الآية تتكلم عن أمة فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله تعالى يقول لأمة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بحالهم يوم كانوا في مكة، وكانوا مستضعفين في الأرض، فكانت لهم دولة بعد معركة بدر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26]، والمراد بالأرض أرض مكة، ومعنى: (تخافون أن يتخطفكم الناس) يعني: أن يصيبوكم ويأخذوكم بسرعة، فالخطف معناه: الأخذ بسرعة، ما الذي حصل؟ {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال:26]. هذه الآية تتحدث عن أمة، لكنها والله تتحدث عنا نحن أيضاً، فقد كنا مستضعفين في الأرض، كنا أمة فقيرة، كنا أمة لا وزن لها في تاريخ العالم، كنا أمة خائفة، كنا أمة لا نملك شيئاً من متاع الحياة الدنيا، فأمننا الله عز وجل، وأبدل خوفنا أمناً، وفجر لنا خيرات الأرض من وراء آلاف الأقدام، فأصبح فقيرنا ملكاً من ملوك الدنيا في ثروته، وأقول هذا لأني رأيت بعيني هاتين رئيس دولة هي أكبر دولة إسلامية، رأيت بيته أقل من بيت أي واحد من عامة الناس في بلادنا هذه، فقلت: سبحان الله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). لكن يا أخي! لا ننسى أن الله تعالى ذكر ثلاث فترات أخاف أنها كلها مرت بنا في حياتنا القصيرة، ثلاث فترات: فترة فقر ومسغبة عشناها منذ سنوات ليست بالبعيدة، وخوف وذعر، فأبدل الله خوفنا أمناً، وفقرنا غنى. فأصبحنا -كما تشاهدون في أيامنا الحاضرة- كأننا نعيش في قصور ملوك، وفي حياة ملوك! ثم بعد ذلك أرى أن هناك شيئاً بدأ يحدث في أيامنا الحاضرة، ما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك أن الله تعالى يمتحن الناس بالفقر والمصائب، والخوف والذعر في المرحلة الأولى. ثم إذا لم تؤدب الأولى الناس يبدل الله تعالى السيئة حسنة، فيبدل الخوف أمناً، والفقر رزقاً. فإذا لم تنفع الثانية فإن الله تعالى يسلب هذه النعمة دفعة واحدة من هؤلاء الناس، ويكون العذاب، نعوذ بالله من عذاب الله وأليم عقابه! اسمعوا إلى هذا المعنى في قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]، البأساء هي الحروب، والضراء: الأمراض والفقر {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، ما معنى بدلنا مكان السيئة الحسنة؟ أبدلنا الضراء صحة وعافية، وثراءً ونعمة ورخاءً، والبأساء بدلها الله تعالى أمناً وطمأنينة؛ لأن البأساء معناها الحروب والفتن، فهذه مرت بنا يا إخوة! بدل الله السيئة حسنة. قال: {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، زاد العدد، وزادت الأموال، وزادت الخيرات، إذا قيل لأحد الناس: اتق الله يا أخي! فهذه النعمة بيدك لها ضد! ماذا يقول كثير من الناس؟ يقول: ضدها عاشها أبي وجدي، اسمعوا ماذا يقول الله تعالى: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، ما هي النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]، يا إخواني! يجب أن نخاف من عذاب الله سبحانه وتعالى، وأن نعرف أن لكل شيء ضداً، وأن هذه النعمة التي بأيدينا لا بد أن نرعاها ونشكر الله سبحانه وتعالى، ونقول للناس: اتقوا الله، ونقول لأصحاب السلطة: اتقوا الله، ونقول لهم: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. وهنا يقول الله تعالى عن هذا الأمر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، يعني: مجيء هذه النعم من أجل أن تشكروا الله سبحانه وتعالى، لا من أجل أن يبطر هذا الإنسان ويكفر هذه النعمة، ويستعملها في معصية الله وفيما حرم الله، هذا ليس منهج المسلم، فمنهج المسلم أنه كلما زادت النعمة بيده قال: الحمد لله رب العالمين.

مصلحة عامة المسلمين مقدمة على المصلحة الخاصة

مصلحة عامة المسلمين مقدمة على المصلحة الخاصة ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. الخيانة قد تكون قليلة حسب رأي العين، لكنها في ميزان الله عز وجل وفي حكم الله عظيمة، لأن أي خيانة في الإسلام غير مقبولة، فإشارة بالعين وحركة بسيطة قد تضر بالأمة الإسلامية، وتعتبر خيانة. إذاً: فما رأيك يا أخي! في الذين يخططون للإطاحة بالأمة الإسلامية؟! ما رأيك بالذين يربكون الدولة حتى في هذه الفترة العصيبة، يريدون أن ترتبك الدولة وهي تحارب عدواً من الخارج، كما عمل المنافقون واليهود يوم الأحزاب بالرسول صلى الله عليه وسلم من الداخل؟ خيانة بسيطة حسب رأي العين اعتبرها الله تعالى خيانة.

سبب نزول آية: (لا تخونوا الله والرسول)

سبب نزول آية: (لا تخونوا الله والرسول) والآية لها سبب: لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه إلى بني قريظة يخبرهم بأنه سوف يقدم إلى ديارهم ويقاتلهم، كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سر لا يريد أن ينكشف هذا السر، وهو أنه يريد أن يقطع رءوس القوم لأنهم خانوا الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت يجب أن يعان فيه، فأشار أبو لبابة بيده إلى رقبته فقط وهو يكلم بني قريظة، كأنه يقول لبني قريظة: إنه سوف يقطع رقابكم، لكن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فأنزل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. ولما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة قال: يا رسول الله! أنا رجل ضعيف في هؤلاء القوم، وأخاف على أولادي، فالله تعالى يذكر أن الأولاد لا وزن لهم في ميزان الإسلام، فالإنسان يضحي بنفسه وولده وبأي شيء في سبيل دينه، ولذلك الله تعالى قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، وقد كان أبو لبابة من خيار الصحابة، لكنه فعل ذلك خطأ من أجل أن يثبت له قيمة عند بني قريظة، فالله تعالى اعتبرها خيانة، وإذا كان الأولاد يدفعون الإنسان إلى خيانة في دينه وأمته؛ فإن هذه هي المصيبة وهذا هو البلاء، ولذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ).

لا تجوز خيانة الدين لأجل المال والولد

لا تجوز خيانة الدين لأجل المال والولد فالإنسان إذا اؤتمن على شيء فعليه أن يؤدي هذه الأمانة حتى يسلمها لصاحبها، فإذا ائتمنته الدولة على أمر من أمور المسلمين فعليه أن يؤدي هذه الأمانة ما لم تكن هذه الأمانة تضر بمسلم من المسلمين، وتخالف أمراً من أوامر الله عز وجل، فإن الأصل هو أداء هذه الأمانة، وخيانة هذه الأمانة عظيمة عند الله عز وجل، ولو كانت حسب رأي العين أمراً صغيراً، وإذا كان الإنسان يخاف على نفسه أو ماله أو ولده فيخون هذه الخيانة فإنها خيانة لا تغتفر إلا أن يتوب هذا الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك الله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)، كما أشار أبو لبابة إلى أن له أولاداً في بني قريظة يريد أن يحافظ عليهم حينما أشار إلى رقبته، الله تعالى: هذه هي الفتنة وهذا هو البلاء، أن يكون للإنسان ولد، فيضيع دينه من أجل هذا الولد، كما يضيع كثير من الناس اليوم دين ولده بسوء التربية، وعدم إلزام هذا الولد وهذه الذرية بأوامر الله سبحانه وتعالى. (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى. (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): خير من المال والولد، أنت قد تدافع عن ولدك فتضر بالمسلمين، والله تعالى عنده لك خير من هذا الولد، أنت قد تضر بالمسلمين من أجل أن تحتفظ بمالك، أو أن تدافع عن مالك، أو أن تكسب مالاً في سبيل الإضرار بالأمة الإسلامية، فالله تعالى عنده خير من هذا المال الذي تدافع عنه، والذي من أجله تضحي بدينك، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

الكلام على آية: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)

الكلام على آية: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)

التقوى شرط في تمييز الحق من الباطل

التقوى شرط في تمييز الحق من الباطل قد يلتبس الأمر على بعض الناس فلا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، فيظن أن الأمر حق وهو باطل، أو أنه باطل وهو حق. على من يلتبس الأمر على المنحرف عن دين الله تعالى، أما التقي المؤمن فإنه يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل بسبب التقوى، وبسبب امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال:29]، أي: تلتزموا أمر الله، وتجتنبوا نهي الله، {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم علماً تفرقون به بين الحق والباطل، إذاً: إنما يلتبس على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى قد أعطاهم نوراً يستطيعون أن يفرقوا به بين الحق والباطل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: أمراً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك لا يضل الطريق إلا من خالف أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يلتبس الحق بالباطل إلا على غير المتقين، أما المتقون فإن الله تعالى يجعل لهم فرقاناً، والفرقان على هذا المعنى: هو ما يفرقون به بين الحق والباطل.

التقوى شرط لنزول النصر من الله

التقوى شرط لنزول النصر من الله معنى آخر لهذه الآية: قال بعض المفسرين: المراد بالفرقان النصر، فالنصر لا يكون إلا للمؤمنين، فمعنى (فرقاناً) أي: كيوم الفرقان الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، أي أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكم يوماً كيوم بدر، لكن بشرط أن تتقوا الله سبحانه وتعالى، فيمكن أن تنزل الملائكة لو أن المسلمين صدقوا مع الله كما نزلت يوم بدر، وقد يأتي الرعب الذي يقذفه الله تعالى في قلوب العدو، وقد يأتي النصر دون أن تنزل الملائكة، المهم أن تلتزم هذه الأمة بالمنهج الصحيح، والله سبحانه وتعالى يجعل لها فرقاناً، كما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرقاناً، ففرق بين الحق والباطل، وأطاح بالباطل ورفع راية الحق، فهو الذي يعطي فرقاناً في أي وقت من الأوقات لهذه الأمة الإسلامية. ولذلك نحن نقول: ليس بين الأمة الإسلامية وبين النصر إلا أن تتفقد عيوبها، وأن ترجع إلى ربها، وأن تعاهده سبحانه وتعالى على التوبة والإنابة، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.

انعدام التقوى سبب لانعدام الفرقان

انعدام التقوى سبب لانعدام الفرقان قوله: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) مفهومه: وإن لم تتقوا الله لا يجعل لكم فرقاناً، هذه هي القاعدة اللغوية في فعل الشرط وجواب الشرط؛ ولذلك فإن الأمة الإسلامية مطالبة -ولاسيما في ساعة الصفر- أن تتعرف إلى الله سبحانه وتعالى وأن تتوب إليه، والأولى أن تتعرف إلى الله قبل هذه الفترة، يقول صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، يعني: في وقت الشدة. لكن أقل ما يجب أن تفعله الأمة الإسلامية: أن تعود إلى الله عز وجل في ساعة الشدة، وذلك أضعف الإيمان، فإذا وقفت مع عدوها فعار عليها وعيب ومصيبة وبلاء أن تبقى على ما كان عندها من السيئات؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، ولو في ساعة البأس، {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].

وجوب العودة إلى الله في الشدائد

وجوب العودة إلى الله في الشدائد أيها الإخوة! لا بد من العودة إلى الله تعالى، أنا أدعو المسلمين كافة وأبدأ بنفسي إلى أن نتفقد أحوال أنفسنا، ونحن الآن نقف أمام حرب مع عدو حاقد، حاسد للإسلام، متربص منذ مدة طويلة ينتظر مثل هذه الفرصة، ووالله الذي لا إله غيره لن يخلصنا منه قوة من قوى الأرض إلا أن نعود إلى الله عز وجل تائبين، والله تعالى يقول: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ويقول في مكان آخر: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران:13]، ما معنى (آية)؟ أي: استفيدوا من ذلك الدرس، أما أن يمر بكم ذلكم الدرس دون أن تستفيدوا فإن هذه هي المصيبة، لكن النظر إلى الكثرة دون الكيفية؛ ودون أن ننظر إلى تعلق الناس بالله عز وجل واستجابتهم لأمر الله هو بداية الدمار والمصيبة للأمة الإسلامية. ودائماً أكرر وأقول لكم: خمسة آلاف من الملائكة مسومين في معركة بدر، جبريل واحد منهم، وهو الذي حمل في أحد أجنحته ديار قوم لوط وقلبها، ومع ذلك يذكر الله تعالى أنهم لا ينتصرون إلا بإرادته: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فإذا كانت الملائكة مع خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة خير الملائكة جبريل مع خيار الصحابة؛ لا ينتصرون إلا بإرادة الله، إذاً: لن تنتصر أمة إلا بإرادة الله عز وجل في أي عصر من العصور، مهما كانت قد أوتيت من وسائل التقنية الحديثة ومن العدد والعدد وغير ذلك، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. وإذا جاء النصر من عند الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وهنا يقول الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال:29]، أيضاً هناك زيادة: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29]، ثلاثة أشياء: فرقان؛ وهو النصر الذي يريده كل الناس قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]. ومغفرة الذنوب. وتكفير السيئات. يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): يتكرم عليكم بهذا الأمر.

الكلام على آية: (وإذ يمكر بك الذين كفروا)

الكلام على آية: (وإذ يمكر بك الذين كفروا)

اجتماع دار الندوة للمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم

اجتماع دار الندوة للمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم قصة دار الندوة هي سبب الهجرة، وهي أيضاً سبب المؤامرة ضد الإسلام، وهي أيضاً سبب قيام معركة بدر: حينما فكر النبي صلى الله عليه وسلم والتقى بالأنصار الذين جاءوا مسلمين، وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة واتفق معهم على أن يذهب معهم إلى المدينة، ويقيم دولة الإسلام هناك في المدينة، وأعطوا العهود والمواثيق، وصلت بعض الأخبار إلى قريش في مكة، وقالوا: لو ذهب محمد إلى المدينة سيقطع علينا طريق القوافل؛ لأن القوافل تمر من الشام إلى مكة عن طريق المدينة، فقالوا: إذاً نجتمع في هذه الليلة في دار الندوة من أجل أن ندرس الوضع الذي نستطيع أن نقضي فيه على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. فاجتمعوا ودخل الشيطان عليهم بصورة رجل متنكر، واستأذنهم وقال: أتأذنون لي بالدخول؟ قالوا: نعم، فبدءوا يتداولون الرأي، فقال بعضهم: أرى أن نكبل محمداً بالأغلال ونودعه السجن، فقال: إذاً يأتي بنو هاشم وبنو المطلب ويطلقون سراحه. ثم قالوا: ننفيه من الأرض ولا نتركه يقر له مكان، فقال: إذاً تلتف إليه القبائل. ثم قال أبو جهل: أنا عندي الرأي: نأتي بمجموعة من شباب قريش، ونعطي كل واحد منهم سيفاً، ويقتلونه قتلة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل، وندفع لبني هاشم وبني المطلب الدية، فقال الشيطان: هذا هو الرأي.

مكر الله بالكافرين وحفظ رسوله منهم

مكر الله بالكافرين وحفظ رسوله منهم اتفق الكفار على ذلك وقرروا أن يقضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا من يراقب داره عليه الصلاة والسلام إلى الصباح، لكن الله تعالى أخبره فخرج من الدار، وبقي علي بن أبي طالب نائماً في فراشه إلى الصباح. أشار الله عز وجل إلى هذه المؤامرة يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، ويذكر المسلمين، الذين ما زالوا يتفيئون ظلال هذا الدين، وتلك الهجرة إلى يوم القيامة يقول تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، بعضهم يرى القتل، وبعضهم يرى الإثبات الذي هو القيد، وبعضهم يرى الإخراج، لكن هذا المكر لا يضر إنساناً حفظه الله سبحانه وتعالى، ولذلك يا إخوان! يجب على المسلم أن يتعلق بالله عز وجل وحده، وإذا تعلق بالله عز وجل وحده فإن الله تعالى يكفيه شرور الناس أجمعين، لأن نواصي الخلق بيده، وقلوبهم في قبضته، ولأنه لا يصيب هذا الإنسان إلا ما كتب الله له، رفعت الأقلام وجفت الصحف. الخوف من البشر غير وارد، يجب أن يكون الخوف من رب البشر، الذي يملك الموت والحياة والرزق وغير ذلك، وهنا يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ} [الأنفال:30]، والمكر معناه: الخداع، {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، إذاً: مكر هؤلاء لا يمكن أن يضرك ما دام الله تعالى قد مكر لك، وما دام الله تبارك وتعالى قد حفظك من مكر هؤلاء، ولذلك هم مكروا وأرادوا قتله، ومكر الله تعالى بهم فأخرجه من بينهم، وذر على رءوسهم التراب عليه الصلاة والسلام، وهو يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]. ويخرج أمام أعينهم ويحفظه الله عز وجل، ويذهب مع أبي بكر إلى غار ثور، ويبقى ثلاثة أيام هناك، والقوم يصلون إلى باب الغار ثم يرجعون، دون أن ينظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، هكذا يحفظ الله عز وجل رسله وأولياءه! وهذا الحفظ باق وخالد إلى يوم القيامة، بشرط أن نأخذ بأسباب هذا الحفظ، وأن يكون اعتمادنا وتوكلنا على الله عز وجل، لا نتعلق بالبشر والمخلوقين مهما كانت قوتهم ضاربة في الأرض، فإن هذه القوى لا تغني من الله عز وجل شيئاً إذا أراد الله تعالى لها ألا تكون. أيها الإخوة! قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فإذا خاف الإنسان من غير الله عز وجل فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يجدد هذا الإيمان، وأن يعلق الخوف والرجاء بالله عز وجل. وقد أنزل الله تعالى هذه الآية حاكياً ما فعله القوم وما دبروه ضد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلكم السبب والشرارة الأولى لقيام الدولة الإسلامية، بحيث ينطلق هذا الموكب العظيم إلى المدينة ليقيم هناك دولة الإسلام، وليعلن الجهاد في سبيل الله، ثم يكون هناك الفرقان بين الحق والباطل. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.

الأسئلة

الأسئلة

خطأ العلمانية في اعتقاد أن الدين لا يصلح لهذا العصر

خطأ العلمانية في اعتقاد أن الدين لا يصلح لهذا العصر Q ما حكم الشرع فيمن يقول: إن الدين لا يصلح لهذا العصر وأنه لا علاقة للدين بالسياسة؟ A هذه نظرة علمانية إلحادية كافرة تقول إن الدين لا يصلح إلا في المسجد، فهم والعجيب أنهم ما تركوا الدين حتى في المسجد، يطاردون الدين حتى داخل المسجد، لم يسمحوا له أن يزاول مهمته؛ لأنهم عرفوا أن المسجد يؤدي دوراً كبيراً، والحقيقة أن هذه أولاً نظرية كافرة، لأن الله تعالى يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. ومتى بدأت السياسة؟ بدأت يوم جاء الدين، العالم كان يعيش في فوضى واضطراب، وكان الناس في هذا العالم بدواً لا يعرفون السياسة، ولا يعرفون نظام الحياة، حتى قامت دولة الإسلام فعرفتهم السياسة، إذاً: السياسة جزء من الدين، وفصل السياسة عن الدين أمر خطير، وهذا حصل في أوروبا حينما كانت الكنيسة تعذب المبتكرين والمفكرين، لكن لماذا انتقلت إلى بلاد الإسلام؟ انتقلت عن طريق العدوى، إما على أيدي أناس جهال، أو على أيدي أناس حاقدين على الإسلام يريدون أن يطيحوا بالدين {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8]، يريدون أن يطيحوا بالدين كما أطاح المثقفون النصارى بالديانة النصرانية التي كتب الله تعالى لها النهاية، أما دين الإسلام فإنه دين خالد، ولذلك نقول: إن هؤلاء مارقون عن الدين؛ لأنهم يعتقدون أن الدين لا يصلح للحياة، ويقولون: الدين يصلح في عصر الخيمة والبعير، لكن لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبة الفضائية، والوسائل العصرية الحديثة، ونحن نقول: الدين خالد إلى يوم القيامة، والسياسة وجميع أنظمة الحياة كلها خاضعة لهذا الدين, وأي دين يتجرد من هذه الأنظمة ومن هذه القواعد فإنه دين لا قيمة له ولا وجود له. ومنهج العلمانيين والملاحدة أنهم يرون الدين يجب أن يتجرد من هذه الحياة، ونحن نقول لهم: دين الإسلام لا تقوم الحياة إلا به، والدليل على ذلك أن دولة الإسلام التي رفرف علمها على أكثر المعمورة ما قامت إلا على الإسلام، ويوم تقلص الإسلام من نفوس كثير من الناس بدأت تلك الدولة تتقلص، حتى عادت تلك الدولة الواحدة إلى ما يقرب من مائة دولة في عالمنا الحاضر، وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن دينهم يضعفون في ميدان السياسة، ثم تضيع بلادهم حتى أصبح المسلمون اليوم يكادون أن يفقدوا كل ما بناه آباؤهم وأجدادهم من سلفنا الصالح رضي الله عنهم.

نصيحة في حث الناس على الجهاد في سبيل الله

نصيحة في حث الناس على الجهاد في سبيل الله Q نرجو منكم توجيه كلمة إلى الآباء والأمهات، ليعدوا أبناءهم للجهاد في سبيل الله، وتربيتهم التربية الجهادية، وجزاكم الله خيراً؟ A يقول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، ليس هناك ما يحث على الجهاد في سبيل الله أعظم من مثل هذه الآيات. جاء رجل أعرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أريد الجهاد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك أعرج ومعذور، قال: إن الله يقول: ((انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)) [التوبة:41]، وإني أرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة). الأمة الإسلامية لا تحيا إلا بالجهاد في سبيل الله قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، والأمة لا يكون لها مكان في هذا التاريخ وفي هذا العالم إلا بالجهاد في سبيل الله، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، والأمة إنما حلت بها النكبات في أيامنا الحاضرة بسبب تركهم الجهاد في سبيل الله، وهو أمر خطير، فمن الردة عن الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله، كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر -يعني: شغلتم بالحرث عن الجهاد- ورضيتم بالزرع؛ أصابكم الله بذل لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، وتأملوا -يا إخوان- معنى (تراجعوا دينكم) يعني: أن دينكم أصبح فيه خلل. ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية تطالب بالجهاد دائماً وأبداً، لاسيما في مثل هذه الظروف التي تسلط فيها طغاة الأرض والكافرون والمتجبرون على هذا الدين وعلى هذه الأمة الإسلامية، فلا بد من الجهاد في سبيل الله، وقد تبين الرشد من الغي في أيامنا الحاضرة، وأصبح الأمر واضحاً، فما على الآباء والأمهات والجميع إلا أن يحثوا هذا النشء على الجهاد في سبيل الله، وعلى التدرب والإعداد، فإن الله تعالى قد أمرنا بالإعداد وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} [الأنفال:60]، والضمير في (لهم) يعود إلى الكافرين المكشوفين {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال:60]، أصبحنا نعلم بعضهم الآن فقد بدءوا يتكشفون، إذاً: لا بد من الإعداد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. إذاً: لا بد أن يستعد المسلمون للجهاد في سبيل الله، وأن يتدربوا، والدولة الآن تبذل جهوداً من أجل أن يتدرب شباب هذه الأمة على الجهاد في سبيل الله، لعل الله أن يدفع بهم كيد الكافرين, والله تعالى يبين أن كيد الكافرين لا يندفع إلا بهذا الدين وبالجهاد في سبيل الله قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، لا بد من الجهاد في سبيل الله، ولا بد من الإعداد له، والآباء والأمهات وكل الناس مطالبون أن يحثوا الناس على الجهاد في سبيل الله كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:65]، وفي قراءة: (حرص المؤمنين)، وحرض أقوى؛ لأن حرض معناها: حثهم حثاً يصل إلى الهلاك، كأنك تهلك نفسك وأنت تحثهم على الجهاد في سبيل الله؛ لأن الحرض معناه الهلاك.

دور الشباب المسلم تجاه انتشار المعاصي في البلاد الإسلامية

دور الشباب المسلم تجاه انتشار المعاصي في البلاد الإسلامية Q كما تعلم أن مدينتا هذه جدة، تعج بالفتن والمعاصي الظاهرة عياناً أمام المسلمين، فنخاف أن يعمنا الله بالعذاب، نسأل الله العافية، فهل من كلمة تحثنا فيها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وماذا يفعل الشباب وغيرهم في مجال الدعوة إلى الله؟ A الله المستعان! أولاً بلاد المسلمين كلها تعج بالمعاصي العظيمة، لكن غريب أن تكون هذه المعاصي في بلاد الله المقدسة التي انطلق منها نور الإسلام إلى الأرض كلها! على كلٍ: أيها الإخوان! أنا مع الأخ السائل، لكن الجهاد في سبيل الله منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الجهاد معناه بذل الجهد في إيصال الخير إلى الناس ودفع الشر عنهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر ليس بالشيء السهل، وليس نفلاًً ولا تطوعاً، ولكنه فرض كفاية، وأراه الآن أصبح فرض عين؛ لأن الذين يكتفى بهم قلوا، وأحسب الدولة إن شاء الله تشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. على كلٍ: أيها الإخوة! لا بد أن تتضافر الجهود في هذا الأمر، ولا بد أن نتعاون مع الدولة على هذا الجانب، فليس الأمر مسئولية الدولة وحدها، ولكنه مسئولية الجميع، ولا بد من مناصحة المسئولين، ونقول لهم: اتقوا الله، ونبين لهم أشياء كثيرة من المنكرات؛ لأنهم ربما شغلوا بأشياء عن أشياء، فلا بد أن ننبهم، هذا بالنسبة لمناصحة أولي الأمر، الذين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: (ولأئمة الٍمسلمين)، فهذا من النصيحة. ثم أيضاً لا بد من مناصحة الناس، ولا بد من استعمال القوة، لكن هذه القوة يجب أن تكون منضبطة، ويجب أن تكون منظمة، وتحميها وتحرسها وتنظمها الدولة، والأمر لا يقوم بالكلمة فقط، فلا بد من قوة، كما أشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، لماذا ذكر الحديد هنا مع البينات والكتب السماوية والميزان والعدل؟ لأن الميزان والعدل والكتب السماوية والبينات قد يقف الشر في طريقها فيشوه سمعتها، ويلوث بيئتها؛ إذاً: لا بد من أن تكون هناك قوة تحمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله. إذاً لا بد من قوة للمسلمين لتنظم بلاد المسلمين، لكن يجب أن تكون هذه القوة منضبطة، ويجب أن تتبناها الدولة، ويجب على الشباب والمسئولين وكل من عنده غيرة على دين الله والعلماء في الدرجة الأولى أن يناصحوا المسئولين وأن يقولوا: نظمونا لننكر هذه المنكرات، ولنعلم الناس الخير من الشر، لا بد من هذا الأمر، وإلا فإن العقوبة تصيب الأمة، وأخشى أن ما يحدث الآن في الساحة عقوبة، لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، آيات كثيرة في هذا المعنى. يا إخوان! نبقى ونحن نشاهد المعاصي حتى يأتي طغاة الأرض يكتسحون بلاد المسلمين ويرمونها بالصواريخ ويعملون ما يعملون، لا بد أن ينكر المنكر، لأن ما حل إنما هو عقوبة من الله عز وجل نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا بعنايته، ونقول دائماً وأبداً: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]، نستغفر الله ونتوب إليه، لا بد من العودة، لا بد من التوبة، لا بد من محاربة المعاصي، لأن انتشار المعاصي هو الذي يسبب هذه العقوبات نسأل الله العافية والسلامة، كما نسأله أن يشد عضد الدولة ويقويها حتى تنكر هذه المنكرات، حتى لا يبقى مدخل لعدو من أعدائنا علينا.

الحث على التوكل على الله

الحث على التوكل على الله Q نطلب منك كلمة حول التوكل على الله، وذلك لأن الناس أصبحوا عندما يسمعون الصفارة أو الإنذار يخافون خوفاً شديداً. A أما بالنسبة لهذا الخوف فهو خوف فطري، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة:8]، الفرار من الموت أمر فطري، والخوف أمر فطري، والمسلم مطالب أن يبتعد عن مواقع الخطر حتى لا يصيبه، لكن بشرط أن يعرف بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس من التوكل أن يقف أمام الخطر وهو يرى الصفارة، لكن الخطر الذي نشاهده الآن هو ضعف اليقين بالله عز وجل في هذه الساعات الشديدة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، فإننا نرى كثيراً من الناس الآن قد ارتبك إيمانه، وتعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على قوى البشر، ونسي أن القوة لله عز وجل جميعاً، واطمأن حينما رأى أن أمماً كثيرة جاءت لتحرسه، ونسي أنه لا يكون شيء إلا بإرادة الله عز وجل. نقول: الأخذ بالأسباب عقل، لكن الاعتماد على الأسباب كفر، القاعدة هي الأخذ بالأسباب والاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى، والكثرة قد لا تغني من الله عز وجل شيئاً، والقلة قد تنتصر كما قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، والكثرة قد تفشل كما قال الله عز وجل عن خير جند في الأرض بقيادة خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]. إذاً: الفرار أو اللجوء إلى مأمن حينما يسمع الصفارة هذا أمر مطلوب، حتى لا يخاطر الإنسان بنفسه، لكن تعال يا أخي! إلى واقع الناس اليوم وهم يتعلقون بغير الله عز وجل، وهم يعيشون حياة مرتبكة، نراهم في هذه الفترة جهزوا كل وسائل المتاع والطعام، ووسائل الراحة داخل البيت، لكن يندر منهم من فكركيف يصلح هذا البيت حتى لا تأتي عقوبة الله عز وجل، هذا الشيء والأمر الذي يجب أن نراقبه وننتبه له في مثل هذه الأيام. أمر آخر: أن ينام هذا الإنسان مطمئناً حينما يرى جنود البشر تحرسه، وهو يعتمد عليها، فعليه أن يعتمد على الله عز وجل أولاً وآخراً، فالله تعالى هو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو المستعان وعليه التكلان.

نور على نور

نور على نور نور الإيمان هو النور الحقيقي، فإذا رزق الإنسان هذا النور فإنه يعيش في حياة سعيدة هنيئة، وإذا حرمه فإنه يعيش عيشة ضنكاً، ولن يعطى العبد هذا النور إلا إذا التزم بأوامر الله عز وجل، واجتنب نواهيه، ومن كان كذلك فإن الله عز وجل يجازيه الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فيجعل له نوراً يستضيء به في الدنيا، ويستضيء به في الآخرة وهو يمر على ظلمات الصراط. وأما الكافر فإنه إذا عمل حسنه يجازى بها في الدنيا في مطعمه ومشربه، ولكنه يعيش في ظلام دامس في قلبه وعقيدته وفي آخرته. فعلى الإنسان أن يبحث عن نور الإيمان، وأن يسأل ربه أن يرزقه إياه، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي لنوره من يشاء.

تلخيص ما تصمنه النصف الأول من سورة النور

تلخيص ما تصمنه النصف الأول من سورة النور إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! ما زال الحديث في سورة النور، ووقفنا في المقطع الأول من هذه السورة والذي ينتهي بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، وقد ذكرنا أن النصف الأول من هذه السورة ابتداءً من قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] إلى هذه الآية كله يتكلم عن أمر واحد وهو: كيف نحفظ أخلاقنا وأخلاق المسلمين من الفساد؟ وكيف نحارب الزنا والفواحش؟ وما هي السبل التي تضمن لنا محاربة الفاحشة التي تفسد الأمة، وتفسد المجتمع، وتسقطه من عين الله عز وجل، فكان في مقدمة هذه الآيات قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1]، فكانت تلفت النظر، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]. إذاً: ما في أول هذه الآيات وما في آخرها يدل على أهمية عظيمة لما تحتويه هذه الآيات العظيمة، لا سيما في مثل هذا العصر الذي فاض فيه المال، وكثر فيه الفساد، وانتشرت وسائل التقنية الحديثة التي استعمل كثير منها في معصية الله، وساعدت على وجود الفاحشة، وبالرغم من هذا كله فإن الله عز وجل يؤدب ويربي الأمة ألا يقربوا الفواحش، وألا يدنوا من مواطن الفساد والزنا الذي هو أعظم فاحشة بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى. لذلك يأمر الله تعالى في هذه الآيات بجلد الزاني. ولا يرتدع الناس في فاحشة الزنا إلا إذا كانت لها عقوبة، ومن هنا شرع حد القذف، وشرع الاستئذان، كما قال تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وفي هذا حماية البيوت من الدخول بدون استئذان. وهكذا لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل بشهوة، وعلى كل واحد منهما أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه؛ حتى لا تكون هذه الفاحشة. وكذلك قال عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، أي: زوجوا كل من لم يتزوج؛ لأن الزواج فيه حصانة، وفيه حماية للأمة الإسلامية من مثل هذه الفواحش؛ ولذلك المجتمع الذي يعرض عن الزواج وتعنس فيه البنات وتكبر أسنانهن دون أن يتزوجن، ويصبح فيه الشباب عزاباً يكون مجتمعاً ينتشر فيه الفساد، وتنتشر فيه الفاحشة. والمجتمع الذي يحارب الزواج أو الذي يحارب تعدد الزوجات بدافع المحافظة على المرأة وحماية حقوقها مجتمع يتعرض للفتن، ويتعرض للفواحش كلها، ولذلك ركز الله تعالى على هذه الأمور الخمسة في سورة النور في نصفها الأول؛ من أجل أن يؤدب الناس، وأن يعلمهم كيف يتخلصون من فاحشة الزنا التي تختلط فيها الأنساب، وتفسد فيها البيوت، وتسقط الأمة من عين الله سبحانه وتعالى. إذاً: لما ذكر تلك الأمور الخمسة التي تضمن عدم وقوع الفاحشة ختم الآيات التي تختص بهذا الموضع بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34] يشير بذلك إلى الآيات السابقة، والواو هنا واو القسم، واللام لام القسم، أي: أقسم الله عز وجل بأنه أنزل آيات بينات، أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل حينما أراد أن يعلم الناس كيف يكافحون الجريمة، وكيف يكافحون الفاحشة. واسمحوا لي أن أبين لكم أن الجريمة في مفهوم العصر لا تعني إلا ما يضر بالناس، أما ما يضر بالدين فإنها لا تسمى في مفهوم العصر جريمة، وإنما تسمى ذنباً، ولذلك تجدون مكافحة الجريمة تنفصل عن مكافحة المعصية لله عز وجل، أما الجريمة في مفهوم الشرع الإسلامي فمعناها: اقتراف كل ما حرم الله عز وجل، ولذلك سمى الله تعالى الكافرين مجرمين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، مع أنهم لا يضرون إلا بأنفسهم. ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس! أيها المسلمون! (آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) أي: آيات شرعية نزلت من عند الله واضحة الدلالة على مراد الله عز وجل من هذه الأمة، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المثل هو القول السائر، أي: وأنزل الله عز وجل أموراً كافية لردع البشرية وإيقافها عند حدودها، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، أي: هذه الآيات السابقة هي موعظة، لكن الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، والمتقون هم الذين يمتثلون أوامر الله سبحانه وتعالى ويجتنبون نواهيه، أما غير المتقين فهم الذين لا يبالون بالحلال والحرام والفواحش، وإنما يريدون أن يشبعوا رغباتهم مما حرم الله، إضافة إلى ما أباح الله، ولا يتوقفون عند حد من الحدود، فهؤلاء ليسوا بمتقين؛ لأنهم لا يخشون الله، ولا يراقبونه، ولا يمتثلون أوامر الله، ولا يجتنبون نواهيه، وهؤلاء لا يستفيدون من هذه الموعظة، ولا يستفيد منها إلا المتقون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المتقين الذين يتعظون بأوامر الله عز وجل ويمتثلونها، ويجتنبون نواهيه.

تفسير آية: (الله نور السماوات والأرض)

تفسير آية: (الله نور السماوات والأرض)

صلة قوله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) بالآيات التي قبلها والمقصود بالنور فيها

صلة قوله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) بالآيات التي قبلها والمقصود بالنور فيها ثم قال الله بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35]، ما صلة هذه الآية بالآيات السابقة؟ هذه الآية ستجدونها تتحدث عن نور الإيمان؛ لأن أكثر علماء المسلمين يقولون إن معنى قوله: (مَثَلُ نُورِهِ): نور الإيمان، وليس المراد به نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه وصفة من صفاته؛ لأن النور اسم من أسماء الله عز وجل وهو يتضمن صفة من صفاته. إذاً: نحن نتأكد هنا أن المراد بالنور ليس نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، فإن من أسماء الله عز وجل النور، ومن صفاته النور، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض)، وقوله: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات)، وقوله: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره). وهناك نور آخر مخلوق، وهو نور الإيمان الذي يضعه الله عز وجل في قلب المؤمن؛ ولذلك شبهة هنا، ولو كان المراد بالنور اسماً من أسماء الله ما كان يجوز تشبيهه؛ لأن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز أن تشبه بمخلوق من المخلوقين أبداً. إذاً: صلة هذه الآية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] بالآيات السابقة أن تلك الأوامر السابقة والنواهي التي مرت في في نصف السورة الأول هي نور الله عز وجل في قلب المؤمن، أي: إذا أراد الله عز وجل لإنسان السعادة وضع في قلبه هذا النور، فأصبحت تلك المحرمات التي سبق ذكرها من دخول البيوت، ومن النظر إلى الحرام، ومن الشهوة الحرام إلى غير ذلك بعيدة عنه؛ لأن هذه كلها إنما تكون في قلوب ضعف أو فقد فيها النور. لكن هذه القلوب التي نورها الله بنور الإيمان ترفض تلك الأمور كلها ولو كانت تناسب وتوافق شهوة الإنسان بطبيعته البشرية؛ فالإنسان بطبيعته البشرية يميل إلى الشهوة، لكن النور إذا دخل في القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة هذا النور يا رسول الله؟! قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، فهذه هي علامة النور. إذاً: هذه الآية ترتبط بما سبق من تلك الأوامر السابقة في النصف الأول من سورة النور التي لا يوفق لها إلا من ملأ الله عز وجل قلبه بنور الإيمان. فقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35]، أي: منورها، وفي قراءة سبعية: (الله نوَّر السماوات والأرض)، وهذا يؤيد أن المقصود به: النور الحسي لا النور المعنوي، أو النور الحسي والمعنوي، لكن المراد به: النور الذي ليس صفة من صفات الله، وليس اسماً من أسماء الله عز وجل. وقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هو الذي نورها، ووضع فيها الشمس والقمر والكواكب، ووضع فيها النور المعنوي أيضاً، والنور المعنوي هو نور الإيمان الذي أشعله الله تعالى في قلوب المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر القلوب: (قلب فيه مثل السراج يزهر)، أي: فيه نور كالسراج دائماً وأبداً. وفائدة هذا النور: أن الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئاً يكتشف بهذا النور أهذه طاعة أم معصية، وإذا أراد أن يفعل الطاعة بهذا النور يكتشف أهذه طاعة ترضي الله أم أنها مبتدعة في دين الله تعالى. إذاً: هذا هو فائدة النور، ولذلك هناك قلوب مظلمة، نسأل الله العافية والسلامة، والدليل على ظلام هذه القلوب: أنها تفعل ما تريد من معاصي الله، وتأكل ما تريد من أموال الناس، ولا تميز بين الحلال والحرام، حتى الربا لا تعرف أنه ربا، ولربما تعرف أنه ربا، لكن الله تعالى طمس على هذا القلب فأصبح القلب مظلماً. إذاً: النور هنا المراد به نور الإيمان، وبهذا عرفنا صلة هذه الآية بما سبق من الآيات، وأنه لا يوفق إلا من نور الله قلبه، أما من أظلم قلبه فإنه لا يبالي بأوامر الله سبحانه وتعالى، ويؤدي به ذلك إلى أن يقترف ما يشاء مما حرم الله، ويترك ما يشاء مما أوجب الله، كما قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] تستقر القلوب عليه {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]؛ لأن القلب قد أظلم، وكما سيأتينا -إن شاء الله- في صفات الكافرين أنه لما أظلمت قلوبهم نسو الله وغفلوا عن الدار الآخرة، ونسوا الموت، ولم يؤمنوا بالجنة ولا بالنار، ولم يؤمنوا بكل ما أخبر الله عز وجل عنه، وهذه هي صفات من أظلمت قلوبهم. أما من نور الله قلبه فإنه وإن فعل معصية من معاصي الله تعالى، إلا أنك تجد أن هذا النور يكشف له الأمور الخفية، أو الأمور التي لربما يقع فيها الإنسان في حين غفلة.

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) قال عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: صفة نوره الذي وضعه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} [النور:35]، وكما قلت: التشبيه لا يكون في أسماء الله تعالى ولا صفاته، وإنما يدل ذلك على أن النور هنا نور الإيمان، ونور الإيمان مخلوق لله عز وجل يجوز تشبيهه. وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: مثل نور الله عز وجل، وقيل: إن الضمير يعود إلى القلب، أي: مثل نور القلب، وإن كان لم يرد ذكر للقلب، لكن يدرك ذلك بالاستقراء من هذه الآية. وقوله: (كَمِشْكَاةٍ)، المشكاة أصلها الكوة الغير نافذة في الجدار، أي: فتحة في الجدار لكنها غير مفتوحة من الوراء؛ لأن الكوة إذا وضع فيها السراج تعكس الضوء إلى الأمام، بخلاف الكوة المفتوحة من الخلف فإنها تسمى نافذة، أما هذه الكوة فهي غير نافذة، فالنافذة تضيع نور السراج، لكن الكوة المقفلة من الخلف ليست نافذة ترد نور السراج إلى الأمام، ولذلك شبه الله نور الإيمان بنور سراج وضع في كوة. وقوله: (فِيهَا)، أي: في الكوة، (مِصْبَاحٌ)، أي: سراج، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ)، أي: زيادة على أن الكوة تدفعه إلى الأمام وضع على هذا السراج زجاجة؛ لأن الزجاجة بطبيعتها تصفي الضوء وتقوي النور، والزجاجة هي: جسم شفاف معروف. وقوله: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35]، يعني: زجاجة لماعة، والكوكب هو: النجم اللامع في السماء، ودري من الدرء، وهو: الدفع، أي: كأنه كوكب يدفع الأضواء إلى الأمام، أي: أن هذا السراج في الكوة وضعت عليه زجاجة، والزجاجة صافية، حتى أصبحت هذه الزجاجة كأنها كوكب دري، أي: لماع في الأفق.

المقصود بالشجرة المباركة

المقصود بالشجرة المباركة وقوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35]، أي: ضوء السراج فيه زيت الزيتون، وزيت الزيتون معروف أنه إذا وضع في السراج تكون الإضاءة أقوى، وأيضاً: هذه الزيتونة ليست كسائر الزيتون، بل هي زيتونة كما أخبر الله عز وجل: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، والشجر إما أن يكون غربياً وإما أن يكون شرقياً، ويندر أن يكون هناك شجرة ليست غربية ولا شرقية، والشجرة الشرقية هي: التي تصيبها الشمس عند الشروق، لكن عند الغروب يحجب عنها ضوء الشمس؛ لأن الشمس بطبيعتها إذا أصابت شجرة الزيتون تعطيها قوة أقوى من الشجرة العادية، فإذا كانت تصيبها الشمس في وقت الشروق، أو في وقت الغروب فقط يكون زيتها أقل لمعاناً، لكن عندما تكون لا شرقية ولا غربية فهي شرقية غربية، أي: إذا طلعت الشمس في وقت الشروق تصيب هذه الشجرة، وإذا غربت تصيب هذه الشجرة، وتصبح هذه الشجرة جيدة جداً، وهكذا سائر الأشجار عندما تتعرض للشمس في وقت الشروق والغروب. إذاً هي شرقية غربية، وعلى هذا يكون الزيت صافياً، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى هذا الزيت أنه لماع، فإذا وضع في السراج أصبح أشد لمعاناً، وقبل أن يوضع في السراج هو يلمع كأنه قد أوقدت فيه النار. وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)، الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون؛ ووصفها أنها مباركة؛ لأن كل ما فيها يستفاد منه، ولا يرمى شيء من شجرة الزيتونة أبداً، حتى الرماد يجلى به الذهب، وتجلى به الجواهر. وقوله: (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا) أي: زيت الزيتونة التي ليست غربية ولا شرقية، (يُضِيءُ) من شدة لمعانه، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) أي: فكيف إذا مسته النار؟! قال عز وجل: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، أي: نور السراج مع نور الكوة الغير نافذ في الجدار، مع نور الزجاجة، مع نور الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية، فهذه أنوار اجتمعت فأصبح كل واحد منها يقوي الآخر، ولذلك يقول الله تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، ومعنى ذلك أن هذا أقوى أنواع الأضواء التي عرفها الإنسان وقت نزول هذه الآية، وهكذا نور القلب إذا وضعه الله عز وجل فإنه يصبح كالسراج، ولذلك يميز المؤمن بين الحلال والحرام، وبين الضار والنافع، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29].

قوله: (يهدي الله لنوره من يشاء)

قوله: (يهدي الله لنوره من يشاء) وقوله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، هذا هو الدليل الثاني على أن المراد هنا بالنور هو نور الإيمان، وليس المقصود اسماً من أسماء الله عز وجل، يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ) أي: نور الإيمان، (مَنْ يَشَاءُ)، فليست الهداية تدرك بالآباء والأجداد والأمجاد، وليست بالذكاء، فكم من الأذكياء من مات على ملة غير ملة الإسلام! وكم من أبناء الصالحين من مات على غير دين وعلى غير ملة! فهذا نوح يقول لابنه: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، فيقول: {سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43]، فما هداه الله وهو ابن نوح أول المرسلين عليهم الصلاة والسلام. وإبراهيم يموت أبوه على ملة الكفر، فمعنى ذلك أن الهداية من الله عز وجل، وليست أمراً يكتسب بالذكاء، ولا يورث من الآباء والأجداد والأمجاد. وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، في هذه الآية أن الهداية بيد الله عز وجل، ولا وجه لأن يستدل بهذه الآية الجبرية، فالجبرية نعرف أنهم أصحاب مذهب فاسد؛ فهم يقولون: كيف أن الله عز وجل يقدر المعصية على الإنسان ويعذبه عليها؟ ونقول: إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لكن هنا يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، فالمشيئة لله عز وجل، لكن للإنسان مشيئة، ومشيئة الإنسان مرتبطة بمشيئة الله عز وجل، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة، إنما هي مربوطة بمشيئة الله عز وجل، ولذلك أثبت الله للإنسان مشيئة، وأثبت المشيئة الأصل لله عز وجل. وهنا قال عز وجل: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقال في آية أخرى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فنجمع بين هذه الآيات التي فيها إثبات المشيئة لله عز وجل وإثبات المشيئة للمخلوق أن للمخلوق مشيئة لكن المشيئة الغالبة والنافذة هي مشيئة الله عز وجل، وأن مشيئة الإنسان خاضعة لمشيئة ولإرادة الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا حجة للجبرية الذين يقولون: كيف يجبر الإنسان على أعماله ويعاقب عليها؟ فنقول: الله تعالى له الحكمة في ذلك؛ لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. يقول الله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، أي: أن هذه الآية مثل ضربه الله عز وجل للناس، فمن أراد أن يعرف الحق، وأن يبحث عن الإيمان وعن نور الإيمان، فهذا هو مثل ضربه الله تعالى، ونور الإيمان هو الذي يكشف للإنسان ما ينفعه وما يضره.

كيفية الحصول على نور الإيمان

كيفية الحصول على نور الإيمان وبعد ذلك قد يتساءل بعض الناس ويقول: إن هذا نور جيد، فكيف نحصل على هذا النور؟ وما دام نور الإيمان لا يؤخذ بالنسب، ولا يؤخذ بالوراثة، ولا يؤخذ بالقوة والشجاعة، ولا يدرك بالذكاء فأين نجد هذا الإيمان؟ ومن يستطيع أن يحصل على هذا الإيمان؟ وكل واحد منا حتى الضالون يتمنون لو هداهم الله عز وجل، وكل واحد منا يتمنى أن تكون له ذرية تهتدي بهذا الهدى، فما هو الطريق؟ وما دام يهدي الله لنوره من يشاء فكيف نحصل على هذا النور في هذا القلب؟ ذكر الله تعالى كيف نحصل عليه، ومن يريد هذا النور فهو موجود، ومكانه واضح، وهو المساجد، فإنها هي التي يولد فيها هذا النور، ويترعرع وينمو فيها هذا النور، ولذلك أجاب الله تعالى على هذا السؤال، وهذا يسميه علماء البلاغة: استفهاماً بيانياً، إذ ليس هنا استفهام، لكن الاستفهام يفرض نفسه، فقد يقول السائل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كمشكاة فيها مصباح والمصباح في زجاجة والزجاجة كأنها كوكب دري إلى غير ذلك؟ هذا الإيمان القوي العظيم الذي يضيء للقلب طريق الحلال من الحرام، والنافع من الضار، وطريق الجنة من طريق النار، أين يوجد؟ أجاب الله تعالى بأنه في المساجد، فابحثوا عنه في المساجد، ولا تبحثوا عنه في المسارح ولا أمام الأفلام، ولا في المواخير، ولا في دور القمار، ولا في دور السينما، ولا أمام المسلسلات والمحرمات، بل من أراد هذا الإيمان فليبحث عنه في المسجد؛ لأن المسجد هو التربة الصالحة النقية التي توضع فيها البذرة الصالحة، فتنبت الرجال الصالحين الذين تستفيد منهم الحياة. قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. فليس موطن الإيمان غامضاً ولا خفياً، بل هو واضح، فالمساجد هي موقع هذا الإيمان، فرب نفسك في المسجد تجد أن الإيمان يملأ قلبك، ورب أولادك في المساجد في حلق العلم وحلق القرآن ومجالس الذكر، في الصلوات الخمس، ابتداءً من سن السابعة، وزد في سن العاشرة، واحذر أن يأتي سن البلوغ وأولادك بعيدون عن المساجد، وسوف تجد هذا النور ينمو في قلوب هؤلاء الأطفال، وفي قلوب هؤلاء الشباب.

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع)

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع) وقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بالآية السابقة، فإن الإيمان ينشأ في بيوت أذن الله أن ترفع، فقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ) متعلق بقوله تعالى: (يُوقَد)، أي: يوقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع.

سبب النشأة الصالحة في بيوت المؤمنين

سبب النشأة الصالحة في بيوت المؤمنين والبيوت هنا هي المساجد، وقال من قال من علماء المسلمين: المراد بها بيوت المؤمنين. ففي بيوت المؤمنين أيضاً يتربى الرجال الصالحون، والطفل ينشأ فيها بذرة صالحة لسببين: السبب الأول: التربة الصالحة، وهي الزوجة. السبب الثاني: المكان الصالح، وهو بيت المؤمن، أو بيوت الله عز وجل، وهي المساجد. والأقرب أن يكون المراد بها المساجد؛ لأن المساجد هي التي تربي لنا الرجال، فكم ربى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمة الإسلامية. إنه مسجد صغير مبني من جذوع النخل، مسقف بالجريد، لكنه أخرج لنا أكبر دولة عرفها التاريخ، امتدت حدودها من الصين شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتربى هؤلاء الذين بنوا هذه الدولة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيوش كانت تتدرب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلم كان المسلمون ينهلون منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطفال كانوا يتربون في ذلك المسجد، والرجال كانوا يترعرعون في هذا المسجد. إذاً: هذه المساجد التي كان لها ما كان في صدر الإسلام هي التي سوف توجد الرجال الذين سوف يخدمون الحياة، ويعيدون للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وكرامتها في نفس هذه المساجد، ولذلك يقول الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، وقوله (أذن) معناها: أمر وأوجب ووصى، ولذلك استدل العلماء من قوله تعالى: (أذن) على وجوب بناء المساجد على المسلمين، فلو تركت المساجد ولم يساهم فيها المسلمون وتعطلت فإن جميع المسلمين يأثمون، وإذا قام بذلك من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر لمن ساهم في بناء بيوت الله، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يعني: أن بيتاً صغيراً في الدنيا يساوي بيتاً في الجنة التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها). إذاً بناء المساجد أمر مطلوب يلزم المسلمين أن يقوموا به، وخيرهم من يبني مسجداً أو من يساهم في بناء مسجد، سواء كان بمال أو بجهد أو بكلمة على الأقل، أو بأي مساهمة من المساهمات؛ فإن هذه هي بيوت الله عز وجل في الأرض، فمن ساهم فيها فله الأجر عند الله عز وجل، ولذلك أنا أنصح كل من منَّ الله عليه بشيء من المال ألا يؤخر هذا المال ليكون وصية بعد الموت، وأن يبادر في حياته ليرى عمله وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى ويخشى الفقر، ولا يمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قال: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان! وأنا أرى كثيراً من الناس عندهم أموال كثيرة والحمد لله، ويفكرون بالوصية بعد الموت، ولربما تكون هذه الوصية غير الوصية التي يستفيد منها المسلمون، كأضاحي وما أشبه ذلك، فأنا أنصح هؤلاء أن يقدموا لأنفسهم في هذه الحياة، فيبني أحدهم لنفسه مسجداً ليكون بيتاً له في الجنة، أو يساهم في بناء مسجد ولو بمبلغ قليل، والله عز وجل يضاعف لمن يشاء.

أنواع رفعة بيوت الله عز وجل

أنواع رفعة بيوت الله عز وجل والله تعالى هنا أذن أن ترفع، والرفعة تشمل أمرين: الأمر الأول: الرفعة الحسية، وهي بناء المساجد، وليس المقصود بالرفعة رفع سقوف المساجد، بل معنى رفعها بناؤها، بأن توجد رفيعة عالية، وليست عالية السقف، وإنما عالية البناء، أي: أنها وجدت وأنشئت، وأقيمت واحترمت وأكرمت. الأمر الثاني: الرفعة المعنوية، والمراد بها الطهارة والنظافة، فبيوت الله عز وجل أولى بالطهارة والنظافة. وأيضاً الرفعة المعنوية بتعظيمها والمحافظة على الصلوات الخمس فيها، والمبادرة بعد الأذان إليها، وعمارتها بتلاوة القرآن وبالذكر والتسبيح والتهليل وحلق العلم إلى غير ذلك، ولذلك كان أحب عباد الله عز وجل أسبقهم إلى المساجد؛ لأن المساجد بيوت الله. ولذلك فإننا نعجب حينما يكون هناك أمر يستدعي أن يفهم المسلمون دينهم في مسجد من مساجد الله، وفي بيت من بيوت الله ثم يتخلف كثير من المسلمين عن هذا الأمر! ويتخلفون عن حلق الذكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟! قال: حلق الذكر)، أي: مجالس العلم، فعلى المسلمين أن يتسابقوا إليها. وهنا يقول الله تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) والمراد بذكر اسمه سبحانه وتعالى: الصلوات الخمس، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، والذي لا يستطيع تلاوة القرآن عليه أن يشغل لسانه بذكر الله، ويكثر من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا كان يجيد شيئاً من القرآن فلا يغفل عنه، ولا ننسى أن سورة (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وهذه نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى. المهم أن يشغل هذا الإنسان لسانه بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينشغل بمعصية الله. ومن رفعة بيوت الله عز وجل ألا تتخذ وسيلة للبيع والشراء، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا إذا سمعنا من يبيع ويشتري في المساجد أن نقول: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأينا من ينشد فيها ضالة نقول: لا ردها الله عليك، ولا تنشد فيها أشعار، ولا يقال فيها إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يخاض فيها بشيء من أمور الحياة الدنيا، فكل ذلك يدخل في رفعة هذه المساجد، حتى قال بعض العلماء: النوم في المسجد يتنافى مع قول الله عز وجل: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، ولكن نستطيع أن نقول: لا بأس بالنوم في المسجد عند الحاجة كأن يكون معتكفاً، أو لابن السبيل، أو لمن لا أهل له ولا دار أو ما أشبه ذلك، فهذه المساجد لا مانع من النوم فيها، وذلك لا يتنافى مع رفعتها.

المقصود بالتسبيح في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال)

المقصود بالتسبيح في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) ثم قال تعالى: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [النور:36]، وفي قراءة سبعية: (يُسَبَحُ له فيها بالغدو والآصال)، والمراد بالتسبيح: الصلوات الخمس؛ فأكثر ما يستعمل التسبيح في الصلوات الخمس، ولا يمنع أن يدخل في ذلك بقية الأذكار: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لكن كلمة (تسبيح) الأصل فيها هي الصلوات الخمس، ولذلك الله تعالى قال: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، والغدو هي: صلاة الفجر، والآصال أربع صلوات، فوضعت صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى! فليس هناك صلاة في الغدو إلا صلاة الفجر؛ لأن الغدو ما بين نصف الليل إلى الزوال، وليس فيه إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، فالغدو معناه: أول النهار، ويدخل فيه آخر الليل. أما الآصال فتدخل فيه الصلوات الأربع: الظهر؛ لأنها في الأصيل بعد زوال الشمس، والعصر كذلك، والمغرب والعشاء، فكل هذه في الآصال. إذاً: جعل الله عز وجل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى؛ لأهمية صلاة الفجر. صلاة الفجر التي إن قصر الليل قال الناس: لا نستطيع أن نصلي الفجر؛ لأن الليل قصير، وإذا زاد الليل قالوا: الليل بارد يصعب علينا أن نصلي الفجر، وهكذا تضيع الحياة، والإنسان يتقلب في فراش النعمة وفي الرخاء، ويغفل عن القبر وما فيه من أهوال ومخاوف ومخاطر، ولربما لا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله السلامة والعافية! فيوشك أن يكون من الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وهذا يوجد عند كثير من المسلمين الذين لا يقومون لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله العافية والسلامة.

عظم قدر صلاة الفجر

عظم قدر صلاة الفجر إذاً صلاة الفجر أمرها عظيم؛ فقد جعلها الله عز وجل منفردة، وجعل الصلوات الأربع مجتمعة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين كانوا فيكم، فيسألهم الله عز وجل: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون). وفي الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فإذا صليت الفجر في جماعة فكأنك صليت الليل كله تهجداً، ولذلك يعتبر من صلى الفجر في جماعة في ذمة الله، ولا أحد يستطيع أن يعتدي عليه؛ لأنه في حماية الله وفي حفظه، ولذلك يروى أن بعض الجبابرة كان يقتل في المسلمين، وإذا مثل أمامه مسلم قال: هل صليت الفجر في جماعة؟ قال: نعم، قال: أخلي سبيلك؛ لأنك في ذمة الله! ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وصلاة العشاء: (هما أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)، أي: ولو زحفاً على الركب، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي يأتي حبواً، فصلاة الفجر لابد أن نربي عليها أطفالنا منذ سن الطفولة؛ لأنها أعظم الصلوات الخمس؛ ولذلك قال الله تعالى: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، فجعل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع في كفة أخرى.

دلالة قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال)

دلالة قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] كلمة (رجال) تعطينا معنيين: المعنى الأول: أن صلاة الجماعة ليست واجبة على النساء، وقد يعطي الله عز وجل للمرأة إذا حافظت على الصلاة في جماعة أجر ما يأخذه الرجل الذي يصلي في المسجد، فتحصل على سبع وعشرين درجة؛ لأنها غير مطالبة بصلاة الجماعة، وصلاتها في بيتها خير لها، لكن خير لها أن تحضر مجالس الذكر إذا كان هناك مجالس ذكر في المسجد. المعنى الثاني: أنهم في مستوى الرجولة؛ لأن كلمة (رجل) ليس معناها الذكورة فقط، معناها: ذكر مستكمل كل أمور معاني الرجولة، ولذلك إذا أردت أن تثني على ولدك تقول له: أنت رجل، تريد: أنت اكتملت في معنى الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة رجل في القرآن إلا وتحمل معنى العظمة، فالرجال العظماء، كما قال الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) أي: رجال عظماء، تغلبوا بعقولهم على شهواتهم. وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] أي: رجال عظماء، وكما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7]، وهكذا دائماً كلمة (رجل) لها معنىً عظيم، وهو معنى اكتمال الرجولة، أي: أنهم رجال حقيقة ليسوا ذكوراً فقط، كما يوجد أنصاف ذكور وأرباع ذكور، لأن معنى الذكورية موجودة، لكن معاني الرجولة الأخرى فقدت عند كثير منهم، وإذا أردت أن تنظر إلى نموذجاً من هؤلاء الرجال فانظر إلى أشباه النساء من هؤلاء الذكور الذين هم بصورة رجال من الشباب الذين ينافسون المرأة على موضاتها وعلى شكلها، وحتى في صوتها، وربما في لباسها، وربما في شعرها إلى غير ذلك! فكلمة (رجال) أي: استكملوا معاني الرجولة؛ فأصبحوا رجالاً حقيقة يستحقون كلمة رجل أكثر من غيرهم. إذاً: هنا نعرف كيف يتربى الرجال حتى لا نغلط ولا نخطئ، فربما ينشغل الإنسان بماله، أو بوظيفته، أو بشهوته، أو بأي أمر من الأمور عن أطفاله وأولاده، فيتربى هؤلاء الأطفال في المقاهي، وأمام الأفلام، وأمام المحرمات، ولربما مع قرناء السوء والفاسدين والفسقة، فيبحث ذلك الأب حينما يفكر وحينما يعود إليه صوابه عن ذلك الطفل فإذا هو قد أصبح في سن الرجال وهو منفلت عن تعاليم الإسلام، فيبدأ يقسره قسراً على تعاليم الإسلام، فيعجز؛ لأنه عصى قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، يعني: ربوهم في المساجد وهم في سن التمييز، منذ السن الأولى المبكرة التي يتربى فيها الرجال، فيبدأ يندب حظه، ويندب نفسه، ويستشير فلاناً الفلاني: ما رأيك في ولدي؟! فنقول: ولدك أنت الذي ضيعته حينما كان في السن المناسبة للتربية، ولربما إذا قيل له: يا أخي! اتق الله في أولادك، يقول: لا أستطيع أن أحكم القبضة عليهم، والسبب أن هناك أسساً مبكرة تطالب فيها أيها الإنسان! فلم تقم بها كما أمرك الله عز وجل وكما أمرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، فأنت فوت الفرصة، ولذا لا تلم إلا نفسك إذا خرج لك أولاد منفلتون عن طاعة الله عز وجل.

حال السلف رحمهم الله في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة

حال السلف رحمهم الله في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة قال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، رأى بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سلفَنا الصالح والمنادي يقول: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان الباعة في الأسواق قد رفع أحدهم الميزان بيده يزن البضاعة، فلما سمع: الله أكبر، رمى بالميزان على الأرض، وأغلق دكانه وهرع إلى المسجد، فقال: (في هؤلاء نزل قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37])، هؤلاء هم الرجال الذين يستحقون كلمة رجال، فلهم تجارة، ولهم بيع وشراء، ولهم متاجر، ولهم معارض، وعندهم أموال، ويستطيعون أن يشغلوها أربعاً وعشرين ساعة، لكن وقت العبادة لا يمكن أن يستعمل للبحث عن المال في الحياة الدنيا، وهكذا يكون الرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع. ولا تظنوا أيها الإخوة! أنهم رجال عاطلون؛ فإن الإسلام لا يعترف بالعاطل، وإنما يريد من هذا الإنسان أن تكون له مهنة، وأن تكون له وظيفة، وأن تكون له تجارة، وأن يعمر هذه الحياة، وأن يبحث عن المال الحلال من أجل أن يستفيد من هذا المال الحلال فيما يرضي الله عز وجل، ويستغني به عما حرم الله. إذاً: هذه التجارة موجودة، لكن التجارة في اليد ليست في القلب، أما القلب فإنه مليء بالتجارة التي لا تبور: البحث عن الجنة، وعن السعادة الخالدة، وعما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولكن هذا البيع وهذه التجارة لا تلهيهم عن ذكر الله. وأما ما الفرق بين البيع وبين التجارة؟ فيقولون: البيع هو الأخذ والعطاء مع سائر الناس، وأما التجارة فمعناها: استيراد. إذاً: هؤلاء مهما كانت مشاغلهم لا يمكن أن تصرفهم عن الله عز وجل وعن دينه، فلهم تجارة، ولهم دكاكين، ولهم محلات، وعندهم أسواق، وعندهم أموال مغرية وأرباح، لكن يعتبرون وقت الصلاة للصلاة، فأحدهم يجلس في دكانه يبيع ويشتري، فإذا سمع المنادي: حي على الصلاة حي على الفلاح يقفل دكانه، ولا داعي أن تقول له الحسبة أو الهيئة: أقفل دكانك؛ لأنه يسير بأمر الله سبحانه وتعالى.

الدافع للرجال الصالحين إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

الدافع للرجال الصالحين إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]؛ لأنهم يعتبرون إقام الصلاة والإتيان بها مستقيمة، وإيتاء الزكاة هي ربح هذه التجارة، وهي أفضل ما يزاوله الإنسان، وهي تجارة هذا المال، فلهم تجارة، لكن هذه التجارة لا تشغلهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم عن الزكاة التي هي حق معلوم فرضها الله عز وجل على هؤلاء الناس بقدر أموالهم. وأما ما هو الدافع لذلك؟ فقال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]، فيا إخوان! ذلك اليوم عظيم جداً؛ لأن الله تعالى سماه: {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، وسماه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، وقال عنه: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، وقال: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [الإنسان:17]، فلا تجد صفات أعظم من هذه الصفات في ذلك اليوم؛ حيث يتحول الطفل إلى شيخ كبير السن شعره أبيض من شدة المخاوف. هذا اليوم يقول الله عز وجل عنه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، إنه يوم واحد يساوي ألف سنة، لكن هذا اليوم العظيم يهونه الله عز وجل على المؤمن حتى يصبح كالصلاة المكتوبة، وتصوروا يا إخوان! المسلم يصل إلى مقره في الجنة في أقل من نصف نهار من أيام الدنيا، مع أن اليوم يساوي ألف سنة، لكنه في أقل من نصف نهار يصل إلى منزله في الجنة، والله عز وجل يقول: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، ليس في الآخرة قيلولة، وليس فيها حر ولا برد، وليس فيها ليل ولا نهار، لكن المراد: أنه بالنسبة لأيام الدنيا يكون ذلك في أقل من نصف نهار، يعني: قبل أن يأتي وقت القيلولة يكون ذلك الإنسان قد وصل إلى منزله في الجنة، ولذلك يقول الله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]، كيف تتقلب القلوب؟ من شدة الخوف يقفز القلب من مكانه حتى يسد الحنجرة، ويقفز البصر من مكانه حتى يكون في أعلى الرأس؛ لأن الإنسان حينما يخاف يحصل له هذا الأمر، فإذا خاف الإنسان رفع بصره إلى السماء، فكأن البصر قفز إلى أعلى الوجه، وإذا خاف يرجف هذا القلب رجفاً شديداً، ومن شدة الارتجاف يصعد هذا القلب حتى يسد الحنجرة، ولذلك يقول الله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]، فحتى القلب يقفز عن مكانه، فيكظم الحنجرة، فلا يستطيع الإنسان أن يتنفس، وهذا اليوم العظيم يهونه الله تعالى على أولياء الله وعلى الصالحين من عباد الله، ولذلك يقول الله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. إذاً: هؤلاء اللاهون اللاعبون العابثون الذين ليس لهم هم إلا الدنيا والشهوات والمتاع، وربما الطعن في دين الله، هؤلاء في غفلة عن ذلك اليوم، وأما الذي يتذكر ذلك اليوم فهم الرجال الذين تربوا في المساجد، فلم تشغلهم الدنيا عن ذكر الله عز وجل والدار الآخرة، في وقت يلهو فيه ويلعب كثير من الناس، ويغفلون عن الموت فلا ينتبهون إلا حين يجلس ملك الموت عند رأس أحدهم. وهل المسلم يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار أم محبة في الله، كما يقول الصوفية؟ فغلاة الصوفية يقولون: نحن لا نخاف من النار ولا نريد الجنة! فماذا تريدون؟ قالوا: نعبد الله محبة لله، كما قالت رابعة العدوية: (عبدتك لا خوفاً من نارك ولا حباً في جنتك، وإنما محبة فيك)، وهذا كلام فاسد ليس بصحيح؛ فنحن نعبد الله محبة فيه وخوفاً من عذابه وطمعاً في جنته، ولذلك أفضل الرجال هنا يعبدون الله لماذا؟ يقول الله: {يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. فليست عبادة الله كما يقول الصوفية: محبة لله فقط، وإنما تكون عبادة الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره، ولذلك لما مدح الله تعالى المرسلين وهم خيرة البشرية وصفوة الخلق قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، فإذا كان الأنبياء يدعون الله رغباً ورهباً فهل الصوفية فوق مستوى الأنبياء يدعون الله حباً له، وليس رغباً ولا رهباً؟! إذاً: هذه الآية ترد على من يقولون: عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك. ونحن نقول: عبدناك يا رب محبة لك وطمعاً في جنتك وخوفاً من عذابك، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يجب أن يسلكه المسلم في هذه الحياة؛ ولذلك مدح الله تعالى هؤلاء الرجال فقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].

جزاء الخائفين من الله عز وجل

جزاء الخائفين من الله عز وجل ثم وعدهم الله عز وجل بالجزاء الحسن فقال سبحانه وتعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، فهم خافوا في هذه الدنيا فاطمأنوا في الحياة الآخرة، كما قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم. فالذين يضحكون في هذه الدنيا ملء أفواههم، ولا يبالون بما يقترفون من سيئات وعظائم وذنوب، يفعل أحدهم الذنب وهو يضحك، نقول لهم: إن الذين خلع قلوبهم الخوف من الآخرة والرغبة الشديدة في الجنة، والخوف العظيم من النار، والخوف العظيم من الحساب، والخوف العظيم من مزلة الصراط، هذا الخوف في الدنيا الذي جعلهم يتجهون إلى الله عز وجل هو الذي يؤمنهم يوم القيامة، والله تعالى يقول: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، أي: يجزيهم بالحسنات، ويزيدهم سبحانه وتعالى بأن يعطيهم درجاتٍ ما عملوها في الحياة الدنيا، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى، ولذلك هناك زيادة على العمل، فإذا نشر الكتاب يوم القيامة للمؤمن وجد فيه أعمالاً لم يعملها، فيقول: يا رب! ما عملت هذه الحسنات، ولا عملت هذه الحسنات، فيقول له: كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، أي: أن هذه كانت هي السبب في الحصول على هذه الدرجات العلا التي يعطيها الله عز وجل للمؤمن والمؤمنة في الحياة الآخرة. وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] أي: يعاملهم بالحسنات، ويتجاوز عن السيئات ما داموا قد تابوا هنا، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] أي: يعطيهم زيادة؛ ولذلك صح في الحديث: أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة قال الله عز وجل: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تخلصنا من النار؟! فيقول: بلى، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، وهذا أعظم ما يأخذه الإنسان في الحياة الآخرة من الجزاء، ويعطيهم الله عز وجل زيادة، فيكشف سبحانه وتعالى الحجاب فينظرون إلى الله عز وجل كما ينظر الناس إلى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، وهذا أفضل نعيم يحصل عليه المؤمن والمؤمنة في الدار الآخرة، وهو النظر إلى وجه الله عز وجل، وهو معنى قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والزيادة على الجنة هي النظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا هو أعظم وأفضل وألذ أنواع النعيم التي يراها والتي يأخذها الإنسان في الحياة الآخرة. إذاً: هنا يقول الله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، أي: زيادة من عنده ليس من أعمالهم، وإنما هي حسنات ما عملوها؛ لأن الله تعالى كريم شكور حليم. وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38]، أي: يعطيه أكثر من حقه دون أن يحاسبه، وإذا حاسبه وفاه حسابه، وأعطاه الله عز وجل بمنه وكرمه أموراً لم يفعلها.

مثل أعمال الكافرين

مثل أعمال الكافرين يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] نعوذ بالله!

جزاء الكفار على أعمالهم في الدنيا

جزاء الكفار على أعمالهم في الدنيا انظر إلى الفرق بين المؤمن الكافر: المؤمن عمله وقلبه كسراج مضيء دائماً؛ يرى الخير والشر، فيترك الشر ويفعل الخير، لكن إذا نظرت إلى قلب الكافر وإلى عمل الكافر وجدت أعماله على نوعين: أعمال ظاهرها الخير وباطنها الفساد، وأعمال أخرى ظاهرها وباطنها الفساد، فمن الأعمال التي ظاهرها الخير ما يفعله الكفار بما يسمونه بالإنسانية: من بذل المعروف، ومساعدة المحتاج، وقضاء حوائج الناس، وبناء جسور، ومدارس، ومستشفيات، وربما يبنون مساجد، وربما يتصدقون على فقير بدافع يسمونه بالإنسانية، وهذه حسنات، لكن ليس لها قيمة عند الله تعالى في الحياة الآخرة، لكن لها قيمة عند الله عز وجل في الحياة الدنيا؛ لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة. ولهذا يعطي الله هذا الكافر صحة في جسده، ومالاً كثيراً، وأولاداً، وأموراً كثيرة يعجلها له في الحياة الدنيا؛ لأنه ليس عنده نية طيبة، وليس عنده إيمان وإخلاص لله عز وجل، فينال هذا الجزاء في الحياة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]، أي: بعمله، {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وهذا هو الذي جعل كثيراً من الناس يتعجبون: لماذا فلان الكافر في صحة في جسده؟ ولماذا عنده مال؟ ولماذا عنده أولاد وسيارات ومساكن جميلة؟ ولماذا المؤمنون يعيشون فقراء؟ ولماذا بلاد الكفر تنتشر فيها المصانع ووسائل التقنية الحديثة وبلاد المسلمين متأخرة؟! وكل هذه الأشياء يتساءل عنها الإنسان في كثير من الأحيان، وربما ينحرف -والعياذ بالله- إذا رأى الكفار أقبلت عليهم الحياة الدنيا، وقد زويت عن كثير من المؤمنين. والسبب في ذلك هو ما ذكره الله عز وجل في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وهذا الواقع هو الذي جعل كثيراً من الكفار والمعاندين لدين الله ينحرفون، ويتمادون في ضلالهم؛ لأنهم يظنون أن الله تعالى ما أعطاهم هذه الدنيا إلا لأنه يحبهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، ولو كان فاجراً كافراً فإنه يقول: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، أنا عزيز على الله، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] {كَلَّا} [الفجر:17]، أي: لا أكرم الأول ولا أهان الثاني؛ فهذه الدنيا ما لها قيمة عند الله عز وجل، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وإنما الذي حدث هو أن الله عز وجل يبتلي هؤلاء الناس، فيعجل جزاء الكافرين والعصاة والفسقة الذين لا يريدون الحياة الآخرة، يعجل لهم جزاءهم في الحياة الدنيا؛ ليدخرها للمؤمنين في الحياة الآخرة، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]. والسراب: أنك عندما تسير في وقت القيلولة في الصحراء تجد من بعد كأن أمامك ماءً، خصوصاً إذا عطش الإنسان، فإذا عطش الإنسان يرى كأن هناك ماءً على وجه الأرض، فيركض وراءه، وكلما دنا من هذا السراب ابتعد السراب؛ لأنه ليس ماءً، بل هو أمر خيالي ليس له حقيقة، وكلما دنا منه ابتعد عنه؛ حتى يهلك هذا الإنسان وهو يلحق هذا السراب.

الكفر والبدعة تمحق الحسنات والأعمال الصالحة

الكفر والبدعة تمحق الحسنات والأعمال الصالحة إذاً: هذا هو الكافر أو الفاسق الذي يقدم الحسنات، لكن بدون نية وبدون إرادة الحياة الآخرة، وبدون هدف رضا الله عز وجل، وربما يقدم حسنات في الظاهر، لكنها في الحقيقة ليست بحسنات، كما يفعل الصوفية والمبتدعة، نعوذ بالله من حالهم، فقد رأينا في بعض بلاد المسلمين من يسهر من العشاء إلى الفجر في عبادة، لكنها تذهب به إلى نار جهنم، فأحدهم يطوف حول قبر، ويتمسح به، ويتغنى في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا هو الدين، ويرقص ويغني، وهذا الدين يعيشه مع الأسف الشديد كثير من المسلمين اليوم، وهذا هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، وقال في آية أخرى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:18]، وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، وقال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]. والعجيب أنها عاملة وناصبة تتعب في طاعة الله، لكن تصلى ناراً حامية يوم القيامة؛ لأن أصحاب هذه الطريق لا يسيرون على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولو كانوا على بصيرة لنفعهم هذا العمل، أما هذا العمل إذا كان على غير المنهج الصحيح فإنه لا يقبل عند الله عز وجل، فلا يقبل عند الله من العمل إلا ما كان خالصاً لله وصواباً على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأي عمل ليس خالصاً لله، ولا يقوم على قاعدة الإيمان، وليس موافقاً للمنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كسراب بقيعة، فليعمل من شاء ما يشاء أن يعمل فلن يزيده من الله عز وجل إلا بعداً. فكم من دموع تراق عند القبور والأضرحة! نسأل الله العافية، ونشكر الله على نعمة الهداية، ونسأل الله أن يتغمد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بواسع رحمته، فقد سلمت هذه البلاد بسبب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، فوالله يا إخوان إن بلاد الحضارة لو جئت إليها لوجدت الدموع تسيل كأنها أنهار من عيون هؤلاء القوم من خشية الله، لكن على طريق غير صحيح، إما عند قبر ميت أو غيره، وتجد أحدهم قد ولى الكعبة ظهره، واتجه إلى صاحب القبر يسأله من دون الله عز وجل! وقوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} [النور:39]، القيعة هي: الأرض الواسعة، والسراب هو شيء يشبه الماء، ولكن لا يمكن أن يشرب أحد من هذا السراب ماءً؛ لأن السراب لا حقيقة له، فيهلك ويركض وراء هذا السراب ويموت وينتهي، فأعمالهم كمن يركض وراء السراب، أي: أنهم يركضون وراء أعمال لا حقيقة لها، ثم يهلكون دونها يوم القيامة، ثم يوقفون على شفير جهنم، فلا تنفعهم تلك الأعمال وإن كان ظاهرها الصلاح ما دامت غير صحيحة، أي: ما دامت غير خالصة لله عز وجل فلا تنفع، وهذه أعمال المنافقين، وأظن العلمانيين من هذا النوع؛ فالعلمانيون يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون، وربما يسابقون الناس إلى المساجد، لكن يقولون: دين الإسلام لا يصلح للحياة كنظام، فنقول: أعمالكم كسراب بقيعة؛ لأنكم كفرتم بالله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وما دام أنكم تتهمون دين الله أنه لا يصلح للحياة، والله تعالى يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].

أعمال الكفار كالشراب أو كالظلمة في اللجة

أعمال الكفار كالشراب أو كالظلمة في اللجة إذاً: أعمالكم أيها العلمانيون! كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، أي: إذا جاء الظمآن إلى السراب لا يجده شيئاً، ويجد العمل الذي عمله على غير صواب وعلى غير منهج صحيح لا شيء، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39]، أي: وجد الله عز وجل عند عمله، {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، أي: ما نقصه الله عز وجل، لكن حسابه سيء، وأعماله سيئة، {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، أي: لا يعجزه أمر من الأمور، فيحاسب الخلائق في لحظه واحدة، وهذا هو النوع الأول من الأعمال السيئة. النوع الثاني: قال عز وجل: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40]، والأعمال على نوعين: أعمال ظاهرها الصلاح تشبه السراب؛ لأن ظاهرها يختلف عن باطنها، والسراب له ظاهر وله باطن، فظاهره يشبه الماء، وباطنه لا حقيقة له، أما الأعمال الأخرى فهي فساد، ومعاص فوق معاص، وسيئات وراء سيئات، وكفر يجر وراءه آثاماً، ولذلك شبه الله تعالى أعمال الكافرين وهم يعملون السيئات تلو السيئات، والكفر بعد الكفر شبههم بإنسان غاص في قعر البحر، وكان البحر عميقاً، وكان هذا البحر العميق لجة، واللجة الماء الكثير، فكان فوقه موج، وفوق الموج موج آخر، والأمواج بطبيعتها تغطي ضوء الشمس، وتغطي النور؛ لأنها تضطرب بالماء، فتحصل حركة تخفي الضوء، وفوق الموج الثالث سحاب، فلو أن شخصاً غاص في البحر في مثل هذه الحال، وأراد أن ينظر إلى يديه فإنه لا يراها ولو رفع يده لينظر إليها من قعر البحر فإنه لا يراها من شدة الظلام. إذاً: أعمالهم كهذا الشكل، (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ)، أي: عميق كثير الماء، (يَغْشَاهُ)، أي: يغطي هذا الإنسان موج، (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ)، يعني: فوق الموج الأول موج آخر، (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)، أي: من فوق الموج الثالث سحاب، والسحاب بطبيعتها تحجب ضوء الشمس، {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، ولو أراد أن ينظر إلى يده فإنه لن يراها.

الهداية بيد الله عز وجل

الهداية بيد الله عز وجل قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، هذا هو السر في ذلك، فالذي لا يعطيه الله عز وجل نوراً كالنور الذي مر معنا في الآية السابقة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] وما دام الله تعالى حال بينه وبين هذا النور، فليس له نور. إذاً نقول: إن النور لا يكتسب بالآباء ولا بالأجداد ولا بالأمجاد، ولا بالنسب، ولا بالذكاء، ولا بالقوة والشجاعة، ولا بأي شيء آخر، ولكنه يأتي من عند الله عز وجل، فإذا منَّ الله على إنسان من الناس بأن منحه هذا النور اهتدى به وسار به في ظلمات هذه الحياة، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

لا تنافي بين الدراسة في المسجد والمدرسة

لا تنافي بين الدراسة في المسجد والمدرسة Q ذكرتم أن المساجد هي أماكن التربية الإسلامية الحقة: من حفظ للقرآن الكريم، وتدارس لآياته، وتدارس لأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن يزعم بعض الناس أن إلحاق أبنائهم في حلق المساجد يزيد من أعبائهم التعليمية، ولا يستطيعون التوفيق بين العلم الذي يؤخذ من المساجد والعلم الذي يدرس في المدارس، فيتركون المساجد لهذا السبب، نأمل من فضيلتكم إيضاح هذا الأمر، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً: المساجد هي قطب الحياة، ولا تقوم أمور الناس إلا بالمساجد، وهذا أمر مشاهد، ولذلك أبناء المساجد هم الذين تقر بهم العيون. أما كون المساجد تشغل الناس بحلق القرآن عن العلوم الأخرى فهذا غير صحيح، فالله تعالى يقول عن القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، فكل علوم الدنيا محشوة في القرآن، وعلى فرض غير ذلك فإن أعظم مادة يطالب بها الطالب في المدارس هي القرآن، لا سيما حينما يتدرب على القراءة الصحيحة من خلال قراءة القرآن وتلاوة القرآن. وحينما نقول ذلك لا نريد أن نضيع المدارس لتكون هناك حلق للقرآن، ولكن نريد أن نوفق بين هذا وهذا، فلا نؤيد أن يتفرغ الإنسان لحلق المساجد ليترك العلوم العصرية، والحصول على بعض المؤهلات، لكن نقول: حبذا لو كان التوفيق بين هذا وذاك، أو على الأقل شغل وقت الفراغ الذي يزيد عند هؤلاء الشباب، إضافة إلى أنه يكون هناك حلق بغير وقت الفراغ أيضاً، لكنها لا تقضي على العلوم العصرية. وعلى هذا نقول: إن الشباب عندهم فراغ، وعندهم وقت زائد عن الحاجة، وأرى أكثر الشباب لا يستغل الفرصة كلها والوقت كله في طلب العلم، ولا في الحصول على العلوم العصرية الأخرى التي يقول عنها الأخ السائل، فنقول: نطالبه في وقت الفراغ، فإن وقت الفراغ كثير عندنا، وأفضل ما يشغل فيه هذا الفراغ هو تعليم كتاب الله، وأكثر الطلبة البارزين كما علمنا من الواقع أنهم هم الذين يقضون زائد الوقت في حلق المساجد، وحلق القرآن.

إصلاح المجتمع لا يقتصر فيه على المحاضرات فقط

إصلاح المجتمع لا يقتصر فيه على المحاضرات فقط Q إذا كان إصلاح المجتمع يقتصر على مثل هذه المحاضرات التي نفرح بها كثيراً، أو الدروس، أو ربما بعض المنابر وليست كلها، فهل هذا يكفي؟ لا سيما وأنتم تعلمون أنه لا يحضر مثل هذه المجالس إلا عدد محدود من الطيبين، وليسوا كلهم يقومون بالواجب الذي أنزله الله عليهم من الدعوة إلى الله، بينما المؤثرات السلبية أكثر وأكثر، فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟! A هذا كلام صحيح، فإن من أهم مقومات تربية أبناء المسلمين هي البيئة الصالحة، فلو ذهبنا بهذا الشاب ووضعنا جل وقته في المسجد مع وجود بيئة منحرفة فيها لهو ولعب كما يوجد في أيامنا الحاضرة، أو بيوت لاهية لاعبة عابثة كما يوجد في كثير من الأحيان في واقع الأمة الإسلامية، لكان كما يقول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ولكن ثقوا أيها الإخوة! أن البناء ينتج أكثر من الهدم، ولو كان البناء أقل؛ لأن الفطرة الموجودة في هؤلاء الناس هي فطرة الله عز وجل، فطرة الإيمان، وربما يكفي وقت قليل للمحافظة على هذه الفطرة، لكن بشرط أن يحال بين هذه الفطرة وبين المؤثرات الخارجية، المهم يا إخوتي! ما لا يدرك كله لا يترك كله، فنحن لا نستطيع أن نسيطر على البيئة كلها وعلى المجتمع كله، وإن كنا قد نستطيع أن نسيطر على بيوتنا؛ لأن الله تعالى استرعانا على البيوت وعلى الذرية، لكن إذا عجزنا عن هذا وهذا فالمساجد تقوم بالدور الذي يكافح الأخطاء التي توجد في المجتمع، أو توجد في البيت في كثير من الأحيان، لكن يفضل أن يكون البيت نظيفاً.

سبب رخاء بلاد الكفار وحلول المصائب في بلاد المسلمين

سبب رخاء بلاد الكفار وحلول المصائب في بلاد المسلمين Q هناك من إذا ذكِّر بأن المصائب التي تحل بالأمة الإسلامية أنها عقوبة من الله عز وجل، وابتلاء وامتحان، يقول: بأن الكفار في أوروبا وغيرها من بلاد الشرق تنتشر فيها الفواحش بأنواعها، ومع ذلك نجد بأنها تعيش في أمان، ولم تحل بها عقوبة من الله، فكيف نرد على أولئك القوم، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً: هناك فرق بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الكافرة، فالمجتمعات الإسلامية التي رسم لها طريق من عند الله عز وجل والتزمت به، إذا انحرفت عنه تصاب بعقوبة الله عز وجل، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ويقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، ويقول: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، ويقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، وغير ذلك من الآيات، وكلها تدل على أن ما يحدث من الفساد في هذه الأرض ومن البلاء ومن المشاكل والمصائب، إنما هو بسبب ما كسبت أيدي الناس. أما ما أورده الأخ السائل في قوله: كيف يكون ذلك وبلاد الكفر تمطر ليلاً ونهاراً، وفيها غاية النعيم والمتاع والأجواء الطيبة، والمياة الجارية وهي على معصية الله؟ فالفرق واضح، فتلك أمة منهجها منحرف أصلاً، ولم تكن مستقيمة فانحرفت، والعقوبة تصيب من استقام فانحرف. والأمر الآخر: هو ما أشرت إليه في تفسير الآيات في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، فما في بلاد الكفر من رخاء العيش، ومن المتاع، ومن الأنهار، ومن الأمطار المتواصلة، ومن الخضرة وخصوبة الأرض، ومن الصحة والعافية والترف والنعيم، كل ذلك لأن لهم حسنات عند الله عز وجل، وهذه الحسنات لا تكتب لهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى لا يرحم في الآخرة كافراً، وإنما يكون الجزاء الحسن للمؤمنين. إذاً: الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولهم حسنات في الدنيا، والله تعالى غفر لمن سقى كلباً، فإذا فعلوا حسنات في هذه الحياة الدنيا كأن يجروا الترع والأنهار مثلاً، أو يبنوا الجسور والقناطر، أو يفتحوا المستشفيات والمدارس، أو يقدموا أي خدمة لخلق الله، فهذا عمل صالح، لكنه غير مقبول عند الله تعالى، فالله تعالى يعجل جزاءهم في الحياة الدنيا، ولذلك تأتيهم الحياة الدنيا أكثر مما تأتي المؤمنين، ولعل السر الواضح في ذلك هو ما قلت لكم. إذاً واقعهم هو معنى قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، أي: بعمله، (وَزِينَتَهَا) أي: لا يريد الآخرة، (نُوَفِّ) أي: نعطيهم الجزاء وافياً (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، يعني: يأخذون الحق كاملاً، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16]؛ لأنهم في الدنيا أخذوا نصيبهم، فليس لهم نصيب في الآخرة. إذاً: لا تعجب يا أخي! أن ترى بلاد الكفر بهذا الشكل كما أشار الأخ السائل؛ لأن سنة الله تعالى أن يعجل الجزاء للكافرين ويدخر الجزاء للمؤمنين، وربما يعجل الله عز وجل بعض الجزاء للمؤمنين، ويدخر لهم الجزاء في الآخرة، كما قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32]، أي: ويشاركهم فيها الكافرون، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].

النظر في الطاعة إلى من هو أعلى للحاق به لا إلى المجتمعات الفاسدة

النظر في الطاعة إلى من هو أعلى للحاق به لا إلى المجتمعات الفاسدة Q إذا تكلم بعض الغيورين على بعض الأمور التي يخشونها على هذه البلاد انبرى من انبرى لهم وقال: إن مجتمعنا بإعلامه ومستشفياته وبنوكه أفضل من غيره بكثير، أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك، وهل يضرب المثل للشر بالشر؟ A الحقيقة أن هذه مشكلة تتكرر كثيراً؛ فقوله: إن بلادنا بلاد الخير فيها كذا وكذا، وقوله: هل سافرت ورأيت كيف الفساد في الأرض؟ وكيف أن خانات الخمر مفتوحة علناً في رمضان؟ أما رأيت دور الفساد؟! فنقول: صحيح رأينا هذا، لكن هل ننظر إلى من هلك، أم ننظر إلى من نجا؟ نحن عندنا مقياس ثابت، فلا نريد إذا هبط العالم درجتين أن نهبط نحن درجة واحدة، بل نريد إذا هبط العالم درجتين أن نرتفع درجتين في هذه الدنيا، أما لو بدأنا نهبط وراء العالم، ويهبط العالم درجتين ونهبط درجة واحدة، وكلما هبط هبطنا أقل منه، فالهبوط ليس له نهاية. إذاً: صحيح أن بلاد الكفر أو حتى بعض بلاد المسلمين انتشر فيها الفساد أكثر مما يوجد في بعض البلاد الأخرى، لكن نحن عندنا مقياس ثابت، ومعيار صحيح لا يمكن أن ننطلق إلا منه، فنزن ما يحدث في أمور الناس، وفي واقع الناس بالمعيار الصحيح، ونرجع إلى النقطة الثابتة التي أمر الله عز وجل أن نثبت عليها، فما خالف هذا المعيار نعتبره منحرفاً ولو كان أقل انحرافاً من البلاد الأخرى. إذاً: هذه مقاييس مادية لا تصلح، وربما نركض وراء العالم ونكون خيراً منه قليلاً، أو خيراً منه كثيراً، ففي بلاد العالم نواد للعراة، فنقول: نحن أحسن منهم قليلاً، والآن زواج الذكر بالذكر أصبح رسمياً في بعض بلاد الكفر والعياذ بالله! ويعقد له رسمياً، ويعترف به القانون، والقوانين كلما هبط الإنسان هبطت القوانين معه، ولربما تهبط القوانين أكثر من هبوط الإنسان، فهل نسير وراء هذا الإنسان الهابط بهذا الشكل ونقول: نحن خير منه؟! فنقول: ننظر إلى سلفنا الصالح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، ومن ذلك المعيار نستطيع أن نعرف موقعنا في هذه الحياة.

خطر النظر المحرم

خطر النظر المحرم Q ما هو الجمع بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] الآية، وبين قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، فهل النظر خطوة من خطوات الشيطان أم ماذا، وفقكم الله؟ A خطوات الشيطان خطوات خطيرة جداً تدخل الناس النار، ومنها وسائل، وربما يأتي الشيطان إلى الإنسان فيقول: هذه أمور يسيرة، فهي نظرة استغفر الله منها، وهي سيئة صغيرة، وأنت ما فعلت كبيرة، ثم نجد أن هذه الخطوة تتلوها خطوة وخطوة إلى آخره، كما يقول الشاعر: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء إلى أن تكون الفاحشة، ولذلك يا إخوان! النظر من أخطر الأمور التي توقع في فاحشة الزنا والعياذ بالله! والدليل على ذلك أن الله تعالى وضع النظر بجوار الأمر بحفظ الفرج فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، وصلة النظر بالفرج أن النظرة كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه). إذاًَ: أيها الأخ! لا تستغرب أن تكون النظرات من خطوات الشيطان، ودخول البيوت من خطوات الشيطان، والحديث عن الفاحشة من خطوات الشيطان، وكل هذه خطوات بعضها أعلى من بعض، وكلها خطوات للشيطان، والخطوة قد تكون صغيرة، وقد تكون كبيرة، فمعنى خطوة أي: تقرب إلى الأمر المطلوب، فالنظرة تقرب إلى الأمر المطلوب مما حرم الله، فهي خطوة من خطوات الشيطان، ولذلك فإن هناك علاقة وثيقة بين النظر وبين قوله تعالى: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21].

حكم الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات

حكم الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات Q انتشر في الآونة الأخيرة لبس الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات، لا سيما أننا نجد هذا في بيوت الناس الذين يقتدى بهم، فما توجيهكم لذلك؛ لأن كثيراً منهم يقول: هذه لا زالت صغيرة، وهو يربيها على ذلك، وفقكم الله؟ A الصحيح أن الإسلام جاء لسد الذرائع، وجاء بالتربية منذ البداية، وسد أبواب الشر قبل أن يأتي الموعد المحدد لتوقع وقوع الشر، والطفلة الصغيرة قد تكون في سن لا يفكر فيها أحد من الناس، وربما يفكر فيها بعض الناس وإن كانت في سن صغيرة، لكن هب أنه لا يفكر فيها أحد فإن الشاعر يقول: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه فإذا عودها أبوها وعودتها أمها على الملابس القصيرة فلربما لا نعرف النقطة التي نستطيع أن نميز بها بين الصغر والكبر، فيوم أو يومان أو سنة أو سنتان لا تكون فاصلاً بين الصغر والكبر، فما هو الفاصل؟ الفاصل: أن يتربى الطفل على الحشمة وعلى الحياء منذ أيام طفولته، حتى إذا كبر يكون الحياء خلقاً من أخلاقه. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب المشروعة المؤدية إلى نصرة هذا الدين العظيم، وليعلم كل مسلم أن المستقبل لهذا الدين وإن خذله الناس، فقد تكفل الله بحفظ دينه، وإظهاره على سائر الأديان، وإدخاله كل بيت مدر ووبر.

أهمية اعتقاد أن المستقبل والظهور لهذا الدين

أهمية اعتقاد أن المستقبل والظهور لهذا الدين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فلماذا نتحدث عن المستقبل لهذا الدين ونحن نرى الواقع لهذا الدين؟ بل نحن نعيش فترة هذا الدين، فبالله هل في مثل هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ يرى أحد مثل تلك الجموع من الشباب -والحمد لله- قد امتلأت بهم المساجد ودروس العلم؟! إذاً هذا الواقع يغنينا عن الحديث أو عن أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين بل نقول: الواقع أن الأمة تعيش فترة من أحسن فترات حياتها والحمد لله رب العالمين. والعجيب أن هذه الفترة جاءت في وقت كانت التخمينات وكانت التقارير وكانت التحريات تزعم أن هذا الدين سوف يودع الحياة بعد فترة قليلة من الزمان، ولم يبق إلا رجال معدودون بالأصابع ثم ينتهي هذا الدين من هذه الحياة، هكذا يقول أعداء الإسلام، ولربما يصدقهم ضعاف الإيمان الذين لا يقرءون القرآن، أو يقرءونه بحيث لا يتجاوز حناجرهم، لكن الحقيقة أن المستقبل لهذا الدين، والواقع أن هذا الدين هو دين الحياة، وأن الله سبحانه وتعالى أظهره على الدين كله ولو كره المشركون. من هذا المنطلق نريد أن نقارن بين نصوص وأدلة تثبت أن الخيرية في هذه الأمة إلى يوم القيامة ومع واقع لربما يجعل بعض الناس يخاف على مستقبل هذا الدين، فنقول: إن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). لكن هذه الخيرية وعلو هذا الدين كله مربوط بجهود لابد من أن يقدمها المسلمون، وذلك لا يعني أنهم إن لم يقدموا هذه الجهود أن الدين سوف يخلو من هذه الحياة وسوف يودع هذه الحياة، لا. يقول الله عز وجل عن دوام الدين وحفظه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

شروط الاستخلاف والتمكين للمسلمين في الأرض

شروط الاستخلاف والتمكين للمسلمين في الأرض إن الخطر يكون على المسلمين إذا تخلو عن هذا الدين، فإن لله جنود السماوات والأرض، ولذلك نستطيع أن نقول: هناك استخلاف وهناك تمكين وهناك أمن وطمأنينة في هذه الحياة على هذا الدين، لكن بشرط أن يطبق المسلمون الشروط المذكورة في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. فهذه الآية اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن للاستخلاف في هذه الأرض ولتمكين هذا الدين أربعة شروط. الأمر الثاني: إذا توافرت هذه الشروط الأربعة تحقق هذا الوعد من عند الله عز وجل. الأمر الثالث: أن المسلمين لو غيروا ما اشترط عليهم بخصوص التمكين في هذه الأرض سوف يغير الله تعالى حالهم، بدليل قوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. ونبدأ بهذه الشروط الأربعة التي ذكرها الله عز وجل شروطاً لوجود هذا التمكين وتحقق مستقبل هذا الدين لهذه الأمة، علماً أن هذا الدين ممكن له في الأرض، وذلك لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله) لكن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تأخذ بأسباب التمكين والأمن والطمأنينة في هذه الأرض حتى يتحقق لها هذا الوعد. الشرط الأول: قوله تعالى: (آمَنُوا). الثاني: قوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). الثالث: قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي). الرابع: قوله تعالى: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا). وتجد هذه الشروط الأربعة متماسكة ومترابطة مع بعضها، بحيث لو تخلف أحدها عن الآخر لما تحقق الموعود.

الشرط الأول: الإيمان

الشرط الأول: الإيمان الإيمان معناه: التصديق الجازم بوجود الله. وما كانت هذه الكلمة لترد لولا أن هناك من يشكك في وجود الخالق سبحانه وتعالى، علماً أن هذا التشكيك يتنافى مع الفطرة، ولذلك يقول المؤرخون: لم يعرف العالم خلال التاريخ الطويل فترات أنكر فيها الخالق سبحانه وتعالى إلا في فترات مظلمة محدودة تلخص في مواقع ضيقة، كما في عهد الفرس، فهم شككوا في وجود الخالق، وكذلك الفلاسفة شككوا في وجود الخالق سبحانه وتعالى. ويروي لنا التاريخ في عهد أبي حنيفة رحمه الله: أنَّ ناساً طلبوا من شيخ أبي حنيفة أن يثبت لهم وجود الخالق سبحانه وتعالى. فتقدم لهم الإمام أبو حنيفة نيابة عن شيخه، وكان يومها لم يزل شاباً لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقال: أنا الذي أخبرهم بوجود الخالق بدليل عقلي. وحدد يوم للمناظرة وكان المكان خلف نهر دجلة في العراق، واجتمع كثير من الناس لحضور المناظرة والنقاش بين أبي حنيفة وبين هؤلاء، فتأخر أبو حنيفة قليلاً عن الموعد المحدد واجتمع الناس. فلما جاء أبو حنيفة متأخراً قليلاً قيل له: إنك تأخرت! قال أبو حنيفة: ما تأخرت، لكني وقفت على حافة النهر أبحث عن قارب يحملني إليكم فما وجدت إلا قارباً صغيراً يعوم في الماء بدون قائد، فأشرت إليه فجاء فحملني إليكم ثم رجع، فقالوا: انظروا إلى أبي حنيفة المجنون يقول: إن قارباً جاء إليه وحمله ورجع وليس له قائد. ثم قالوا له: يا أبا حنيفة! أأنت مجنون؟ قال: لا. فإذا كنتم تتصورون أن هذه الحياة بكل أفلاكها وعظمتها وسمائها وأرضها تدور وتتحرك بدون قيادة، ولا تتصورون أن قارباً صغيراً يستطيع أن يعبر نهر دجلة بدون قيادة فأنتم المجانين. فغلبهم بحجته رحمه الله تعالى. وقبل ذلك كانت مرحلة الفراعنة بما فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، كما حدث لفرعون موسى حينما قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فهي في الحقيقة مؤامرة كاذبة من أجل العلو في الأرض، وهذا هو المنهج الذي سلكته الشيوعية مدة تزيد على سبعين عاماً وهي تقول للناس: لا إله والحياة مادة. إلى أن سقطت بحمد الله وفضله، فعرف الناس أن كل هذه المبادئ تتساقط بين حين وآخر. إذاً الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة فطر الله الناس عليها، كما قال الله عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فهذه الفطرة نطق بها كل مخلوق من بني آدم قبل أن يخرجوا إلى هذه الحياة بشكلهم الطبيعي، يقول عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ولذلك هذا العهد ينساه طائفة من الناس أو يتناسونه، وهو ما عناه الله تعالى بقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، فالإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة، لكن هذه الفطرة ربما تتأثر بكثير من المؤثرات، وأظن أن الفطرة في وقتنا الحاضر -والحمد لله- قد بدأت تعود إلى طبيعتها وإلى مجاريها الطبيعية، وقد تأثرت هذه الفطرة منذ زمن ليس بالبعيد، ولكن كفى الله المؤمنين القتال، فالإيمان بالله عز وجل والإيمان بملائكته ورسله واليوم الآخر وغير ذلك من الأمور التي أخبر الله عز وجل عنها كلها تعتبر نوعاً من الإيمان الذي هو شرط من شروط كون المستقبل لهذا الدين، والإيمان بوحدانية الله عز وجل والإيمان بأسمائه وصفاته كل ذلك من شروط التمكين.

الشرط الثاني: العمل الصالح

الشرط الثاني: العمل الصالح قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55]. قوله: (مِنْكُمْ) يُشير إلى المسلمين؛ لأن الأديان الأخرى قبل الإسلام -وإن مكن لها مدة من الزمن- كانت تنتهي بانتهاء تلك الفترة، أما هذه الأمة فقال الله تعالى عنها: (مِنْكُمْ)؛ لأنها الأمة الخالدة التي يبقى دينها ما بقيت السماوات والأرض. والعمل الصالح هو الذي يتوافر فيه شرطان، فلا يقبل الله عز وجل عملاً ولا يكون صالحاً إلا إذا توافر فيه هذان الشرطان، ألا وهما: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. والإخلاص معناه: أن لا يصرف نوعاً من هذه العبادة لغير الله. وأما المتابعة فهي السير على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله دون زيادة ولا نقص، ودون شطط ولا ميل، هذا هو العمل الصالح، وهذان الشرطان أشار الله عز وجل إليهما بقوله في آخر سورة الكهف حينما قال الصحابة: يا رسول الله! الرجل منا يعمل العمل يبتغي به وجه الله ويحب أن يراه الناس! فأنزل الله عز وجل شروط هذا العمل الصالح: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: صواباً موافقاً للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله -وهذا هو الشرط الأول- {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] وهذا هو الشرط الثاني. ولذلك هذان الشرطان هما معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله). فالشهادتان اللتان نكررهما دائماً في الأذان وفي الإقامة وفي الصلاة وفي كل حال من أحوالنا معناهما الإخلاص والمتابعة؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): نفي كل ما يعبد من دون الله عز وجل، وأن تكون العبادة والدين لله عز وجل وحده، ومعنى (محمد رسول الله): أي: طاعته واتباعه وتصديقه وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. إذاً لو فهم المسلمون معنى (لا إله إلا الله) في أيامنا الحاضرة كما فهمها المشركون في العصر الأول في مكة لما قالها إلا من يعتقد بها اعتقاداً كاملاً، وكم من الناس اليوم من يقول: (لا إله إلا الله) وهو مع ذلك ينحني لغير الله ويخاف غير الله، ويسجد لضريح ويطوف على أعتاب ميت، ويخشع لغير الله ويذل نفسه لغير الله عز وجل، وهذا كثير جداً في أيامنا الحاضرة. وإذا تناسينا الآلهة الحية التي تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة -وهذه أظنها كثيرة- فلن نتناسى عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله في العالم اليوم كلها يحج لها الناس ويتقربون إليها بالقرابين ويطوفون حولها سبعة أشواط، ولربما لا تسمح الفرصة إلا بشوط واحد بسبب كثرة الزحام، وهذه الإحصائية قبل سنوات. هؤلاء هم المسلمون الذين يقال عنهم في الإحصائية: إنهم مليار عندهم عشرون ألف ضريح يطاف حولها ويتمسح بأعتابها، ويتمرغ في أتربتها، ويخشع ويراق لها من الدموع أكثر مما يريقه المؤمنون حول الكعبة المشرفة. وأكثر ما وصلت إليه الوثنية في يوم فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كانت لا تزيد على ثلاثمائة وستين وثناً وصنماً، أما الآن فعشرون ألف ضريح يُعبد من دون الله عز وجل!. إذاً أين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؟ ثم أضف إلى ذلك البشر الذين يشرعون القوانين ويأمرون وينهون، وتستجيب لهم الأمم من دون الله عز وجل، وينحني لهم البشر، ويتمسحون بأعتابهم لطلب المال أو الجاه أو المركز أو أي أمر من الأمور، أضف هذا العدد الهائل من هؤلاء البشر إلى عشرين ألف ضريح. إذاً نستطيع أن نقول: هناك عشرات الآلاف من الآلهة التي تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة والله المستعان! فلا تعجب حينما يتأخر الوعد، ولكن اعجب حينما يحقق الله عز وجل الموعود وكثير من المسلمين قد أخلف الوعد. وخلاصة القول أن العمل الصالح هو إقامة أركان الإسلام: الشهادتين، والصلوات، والزكاة، والحج، والصيام، مع القيام ببر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى المساكين، وحقوق الجوار، وحقوق المسلمين، كل هذه واجبات لابد من أن يرعاها المسلم من أجل أن يستجلب وعد الله عز وجل، ولو نظرنا نظرة أخرى إلى العالم الإسلامي لوجدناه قد ضيع كثيراً من هذه الواجبات العظيمة التي شرعها الله عز وجل، ولذلك كثير من المسلمين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين عطلوا الزكاة، وكثير من المسلمين ركبوا المحرمات، وركوب المحرمات يستلزم ترك الصالحات؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولذلك كم في بلاد المسلمين من بنوك الربا؟! وكم في بلاد المسلمين من وسائل الترفيه التي يقولون عنها: بريئة؟! وكم في بيوت المسلمين من الأجهزة الراقصة اللاهية اللاعبة؟! إلى غير ذلك من الأمور التي نسأل الله أن يعافينا ويعافي المسلمين من شرها ويحفظنا جميعاً بحفظه. إذاً قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: تركوا المنكرات وفعلوا الواجبات التي شرعها الله عز وجل. وهذا الشرط إذا تحقق وقوعه تحقق الوعد الذي وعد الله عز وجل به.

الشرط الثالث: العبودية الكاملة لله عز وجل

الشرط الثالث: العبودية الكاملة لله عز وجل من شروط هذا الوعد تحقيق العبودية، فما معنى العبودية؟ العبودية معناها في قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي) أي: يوحدونني. وحقيقة العبودية أن يشعر الإنسان بالرق لله عز وجل، وشعوره بالرق معناه التحرر من عبادة المخلوق؛ لأن الإنسان لابد من أن يخضع لدين، ولابد من أن تسيطر عليه عقيدة، ولابد له من رق وعبودية، فإما أن يكون ذلك لله، وإما أن يكون لشيء آخر، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه حينما قدم على رستم فقال له رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال: (إن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده). إذاً ليست هناك حرية أبداً، إما أن تكون العبودية لله وإما أن تكون لغير الله، ولذلك فقد أدرك المؤمنون أن هذه العبودية يجب أن تكون لله، وأن لا يكون منها شيء للمخلوق، فالإنسان حر طليق إلا أنه عبد لله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الحياة والموت بيد الله وأن الرزق بيد الله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وأن الأرض ملك لله يورثها من يشاء من عباده، وأن ما في هذه الأرض من الطيبات إنما هي للمؤمنين، يشاركهم فيها الكافرون في الحياة الدنيا ويختص بها المؤمنون في الحياة الآخرة، يقول عز وجل: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. إذاً هذه العبودية لله، وهذا التحرر لا يكون إلا من عبادة المخلوق، وإذا هرب الإنسان من عبادة الله عز وجل وحده فإنه لابد من أن يقع في عبادة المخلوق أياً كان هذا المخلوق. فليعلم أن عبادة البشر فيها الذلة والمهانة، وكذلك عبادة المال أذل وأشد مهانة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) كذلك إذا هرب الإنسان من عبادة الله صار عبداً للشيطان، ويعصي الله عز وجل في قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، وكذلك إذا هرب من عبادة الله عز وجل فسيكون عبداً للشهوة أو عبداً لأي كائن من كان غير الله عز وجل، وبمقدار ما يهرب من العبودية لله يقع في الرق والعبودية للمخلوقين، وإذا هرب من العبودية لغير الله يقع في العبودية لله عز وجل وحده. لقد كان سلفنا الصالح يعتزون بالعبودية لله، فهذا الفضيل بن عياض رحمة الله عليه عندما كان يعيش حياة منحرفة مدة من الزمن فأنقذه الله عز وجل ليكون عبداً له بدلاً من أن يكون عبداً للشهوات تحول الفضيل بن عياض ذلك اللص الذي كان يرهب الناس في الليل إلى العابد الذي يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً فكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يعتبر عبوديته لله شرفاً فيقول: كدت أطأ على الثريا وهي في كبد السماء ببطني قدمي؛ حينما قلت لي: يا عبدي. لأني لو لم أكن عبداً لك لكنت عبداً للشهوة. ولقد عاش الفضيل بن عياض الحياة الآسنة الفاسدة في عبادة الشهوات حتى أنقذه الله عز وجل، وذلك عندما كان يتسلق داراً ليسرقها فسمع قارئاً يقرأ في الدار: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقال: والله لقد آن، والله لقد آن. فصار مع كل جزء من هذه الآية ينزل درجة من السلم ويقول: والله لقد آن، والله لقد آن. ونحن نقول للمفسدين في الأرض ونقول للعصاة الذين لم يهتدوا بعد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. ولعلك تعرف من هو بشر الحافي في التاريخ بعد أن هداه الله، كان بشر رجلاً فاسقاً من أبناء الأشراف، وورث مالاً كثيراً، وكان شاباً مترفاً يعيش ليله مع نهاره في معصية الله عز وجل، تدار كئوس الخمور في داره حتى الهجيع الأخير من الليل، كما يحدث لكثير من الناس، نسأل الله العافية والسلامة، فالراقصات والمغنيات واللهو واللعب في داره إلى الصباح، وكان في حياة أشبه ما تكون بالغيبوبة لم يفهم معنى العبودية، فأراد الله له الهداية، فمر ذات يوم بداره إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه الرجل الصالح، فتمزق قلب إبراهيم بن أدهم حينما سمع اللهو واللعب وكئوس الخمر تدار في بيت رجل يقول: إنه من المسلمين. فقرع إبراهيم بن أدهم باب بشر، ففتحت له إحدى الراقصات فقال: هذا بيت من؟ قالت: بيت بشر. قال: بالله أخبريني أبشر حر أم عبد؟ فتأمل كيف تصل الموعظة إلى قلوب الناس الأشقياء إذا أراد الله عز وجل لهم السعادة والهداية، قالت: لا، بل هو حر. قال: قولي له: إن كان حراً فليفعل ما يشاء. وانصرف الرجل. فلما رجعت الراقصة سألها بشر: من كان عند الباب؟ قالت: رجل صفته كذا. قال: ماذا قال؟ قالت: سأل عنك أحر أنت أم عبد؟ قال: وماذا قلت له؟ قالت: قلت له: إنك حر. قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء. بدأ بشر يفكر في معنى العبودية والحرية، فالناس لا يتصورون الرق إلا للعبد المملوك الذي يباع ويشترى، ثم قال: أين ذهب الرجل؟ قالت: من هنا. فمشى حافياً لأول مرة في حياته يركض وراء إبراهيم بن أدهم فلحقه، فقال: قف يا رجل، ماذا تقول؟ قال: أبداً يا بشر، وإنما سألت عنك أحر أنت أم عبد؟ فقالوا: إنك حر. فقلت: إن كنت حراً فافعل ما تشاء. قال: ويحك يا رجل! ماذا تقول؟ قال: لا أقول أكثر من ذلك، يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فليست هذه صفة العبيد لله. فصار يضرب برجله الأرض ويقول: والله إني لعبد، والله إني لعبد. تصور أن هذه العبودية أنقذته من ذلك الرق، فرجع إلى بيته يكسر زجاجات الخمر ويسرح المغنيات ليكون بشراً الحافي الذي لا ترد كلمة بشر إلا ويتصور الناس منتهى الورع والتقى والاستقامة على دين الله. يروى أن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه كان جالساً في مجلس العلم فجاءته امرأة وقالت: أيها الإمام! نحن قوم نغزل ثم يمر السلطان بأضواء لامعة في الطريق فنغزل على هذا الضوء فيزيد غزلنا، فهل يجوز لنا هذا الضوء الذي يضيء في الفضاء؟ قال: نعم يجوز. فلما انصرفت سأل الإمام أحمد: من هذه المرأة؟ فقيل له: هي أخت بشر الحافي. فقال: ردوها عليّ. فلما ردوهما قال: لا يجوز لك ذلك الضوء. فسألوه: لماذا؟ قال: إن هناك من يسأل عن فضول المباحات، وإن هذه المرأة من بيت ورع ودين وتقى فهي أخت بشر الحافي. بشر ذلك الذي كان في يوم من الأيام لاهياً لاعباً عابثاً فأصبح الرجل الذي يضرب به المثل في الورع والتقوى. وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ورحمه الذي يثني عليه التاريخ ثناءً عاطراً؛ لأنه فهم معنى العبودية، وحين وقع في أسر الرومان في موقعة في زمن عمر كان الرجل الصائم العابد الراكع الساجد في جنح الليل المظلم وهو في معتقله في بلاد الروم، فذكرت بعض صفاته من عبادته وتقواه وصلاحه وعقله ورزانته لملك الروم، فقال قيصر الروم: مثل هذا لو دخل في ديني لكان مكسباً عظيماً. فدعا عبد الله بن حذافة، فجيء به وأوقف بين يديه وقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي. يريد أن يصرفه من عبودية الله إلى عبودية الملك والمركز الذي يسيل له لعاب كثير من الناس، ولربما يرتدون عن الإسلام لما هو أصغر من ذلك بكثير، فقال: والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني. إذاً العبودية للمركز والملك فشلت، فلم يتنازل عن شيء من دينه ليكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه؛ لأنه ملأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فما استطاع هذا القلب أن يستوعب مكاناً آخر غير الله عز وجل، فقال قيصر الروم: ردوه إلى معتقله ودلوني على طريق أكسب به هذا الفتى. فقالوا: إنه بعيد عن أهله منذ أشهر وإنه شاب قوي، ولو فتنته بالشهوة لأصبح عبداً لها. فقال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي. فجيء بأجمل فتاة في بلاد الروم وأغريت كل الإغراء إن هي فتنت عبد الله بن حذافة، فدخلت الفتاة وتجردت من كل ملابسها، وصارت تتابعه بجسدها المترف، وكلما دنت منه ابتعد عنها وأغمض عينيه، وأقبل على القرآن يتلوه ويستعيذ بالله من شرها، وصارت هذه الفتاة تتابعه جهة جهة حتى يئست منه، وعرفت أنه قد امتلأ قلبه بالعبودية لله عز وجل، فقالت: أخرجوني. فقابلها شياطين الإنس عند الباب وقالوا لها: ماذا حدث؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟. عبودية لله لم تترك مجالاً في هذا القلب ليتسع لشيء آخر. إنها الشهوة التي تفتن كثيراً من الناس ولا تعطي فرصة للتفكير ولا لاستعمال العقل، تخلص منها هذا الصحابي الجليل بسبب عبوديته ورقه لله عز وجل. تحير قيصر الروم في أمر هذا الشاب فقال: لابد من أن تدلوني على سبيل أفتن به هذا الرجل. فقيل له: كل الناس يخافون من الموت. لكن عبد الله بن حذافة لا يخاف من الموت ومن هم على شاكلته لا يخافون من الموت؛ لأنهم يعرفون أن الموت لا يأتي إلا بأجل معلوم، كما قال الله تعالى: {فَإِذ

الشرط الرابع: عدم الإشراك بالله

الشرط الرابع: عدم الإشراك بالله العنصر الرابع من عناصر التمكين قوله: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) فكما أن هناك عبودية فهناك توحيد بغير شرك أياً كان هذا الشرك. إذاً لا شرك لمخلوق حي ولا ميت، لا لضريح ولا لملك ولا لزعيم ولا لرئيس ولا لمشرع كما يقولون، ولا لصاحب قانون ولا لصاحب نظام مع الله عز وجل، ولو كانت كل وسائل الهلاك والعذاب بيد هذا المخلوق؛ لأنها لا تفعل شيئاً إلا بإرادة الله عز وجل {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، فهي مربوطة بإرادة الله عز وجل وبمشيئة الله عز وجل. إذاً الشرك بالله عز وجل أياً كان هذا الشرك لا يجوز، سواء أكان شرك الأحياء كالذين يشرعون القوانين والأنظمة ويتقبلها البشر، وينسون أن الله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. أم كان شرك الطاعة في معصية الخالق سبحانه وتعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أنزل الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، فقال عدي بن حاتم: (يا رسول الله! والله ما كنا نعبدهم. قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟ قال: بلى قال: فتلك إذاً عبادتهم). إذاً كلمة توحيد الله عز وجل تستلزم أن يقدم المسلم أوامر الله على أوامر المخلوقين، فإذا توافقت أوامر المخلوقين مع أوامر الله عز وجل فحينئذ نقبل أوامر المخلوقين ما دامت لا تتنافى مع أوامر الله عز وجل، وإذا تنافت أوامر المخلوقين مع أوامر الله عز وجل فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهب أنه جبار عنيد يبطش ويسجن ويقتل ويريق الدماء، كل ذلك لا يكون إلا بإرادة الله عز وجل، وهنا يظهر التوحيد الصحيح، ولذلك يقول الله تعالى: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) ولا تظن أنّ كلمة (شيئاً) حشو في القرآن، ليس في القرآن حشو، فكلمة (شيئاً) تعطينا معنىً جديداً في الشرك الذي فهمه الناس فهماً خاطئاً؛ لأن الناس يفهمون أن الشرك هو عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وأساف ونائلة من الأوثان التي عرفها الناس في التاريخ القديم، لكن كلمة (شيئاً) تفيد عموم الشرك من حب وبغض ودعاء واستعانة وغير ذلك من أمر الشرك؛ لأن جانب التوحيد وجانب الشرك دقيق وحساس يتأثر بأمور يسيرة. يقول علماء اللغة: النكرة إذا جاءت بعد النفي تفيد العموم أي: أيُّ شيء من هذه الأشياء. ولهذا دخل النار رجل في ذباب قربه لغير الله. إذاً جانب التوحيد حساس ودقيق. ولذلك أرى في أيامنا الحاضرة أن التوحيد في بعض الأحيان يضطرب، لاسيما حينما تكون هناك أوامر تصدر من المخلوقين ويتقبلها المخلوقون دون أن يعرضوها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهناك خوف وخشية من غير الله عز وجل، وتعظيم للمخلوق لا يرتبط بتعظيم الله عز وجل، إلى غير ذلك من الأمور. فكلمة (شيئاً) تعطينا هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا قليل من الناس. إذاً المراد: أي نوع من أنواع الشرك ممنوع.

الجزاء الدنيوي لمن نفذ الشروط الأربعة للتمكين

الجزاء الدنيوي لمن نفذ الشروط الأربعة للتمكين أما الجزاء فالله تعالى حصره في ثلاثة أمور كلها يحبها الناس، قال عز وجل: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] هذه ثلاثة أمور كلها يحبها الناس، دع عنك جزاء الآخرة، فهذا الجزاء في الدنيا، وهذه الأمور يفرح بها كل الناس حتى الكفرة والعصاة والملاحدة، فجميعهم يريدون هذه الأمور الثلاثة، وهي الاستخلاف في الأرض، والتمكين، والطمأنينة في هذه الحياة، لكنها لا تكون إلا للمؤمنين الذين ينفذون الشروط الأربعة المذكورة في الآية.

الجزاء الأول: الاستخلاف في الأرض

الجزاء الأول: الاستخلاف في الأرض أما الاستخلاف في الأرض فهو أن تكون السلطة بأيدي هذه الأمة بدلاً من أن تكون السلطة بأيدي الكافرين الذين يسومون المسلمين سوء العذاب، كما يوجد في كثير من البلاد الإسلامية اليوم، يتسلط الكفار على المؤمنين وطغاة البشر على الأتقياء فيسومونهم سوء العذاب، وليس هذا استخلافاً في الأرض، الاستخلاف في الأرض أن تكون الخلافة وأن يكون الأمر والسلطة بيد أهله الشرعيين، لا بيد الأدعياء الذين يأخذون السلطة بطريق القوة، ثم يسومون الناس سوء العذاب، ثم يحولون السجون إلى معتقلات، ويبتزون الأموال ويريقون الدماء ويتلاعبون بمصالح الأمم، هذه نقطة الضعف بالنسبة لهذه الأمة. وهذا الاستخلاف لم يكن للأمة الإسلامية في صدرها الأول كما كان الحال في الحياة المكية التي عاشها المسلمون، لقد كان الأذى يصب على رءوس المؤمنين صباً؛ لأن المسلمين في تلك الفترة في مكة كانوا مستضعفين في الأرض. فكان بلال رضي الله عنه يؤتى به في شدة الظهيرة وحرارة الشمس فيبطح على الأرض، وتوضع على جسده الحجارة الحارة من أجل أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أحد أحد). وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبوه وأهله كلهم يعذبون بصنوف العذاب، حتى مات ياسر تحت العذاب ثم تبعته زوجته سمية، وذلك عندما قتلها أبو جهل لعنه الله، ويمر بهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يملك لهم من الأمر شيئاً إلا أن يقول: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة). وكان صهيب الرومي رضي الله عنه ذا مالٍ في مكة، فلما كان في طريق هجرته تبعه المشركون وقالوا: والله -يا صهيب - لا ندعك تهاجر وقد جئتنا فقيراً لا مال لك ثم ها أنت الآن تهاجر. فقال لهم: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركوني؟ قالوا: نعم. فدلهم عليها ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصل إلى المدينة حتى يجد قرآناً يتلى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]. إن الحياة في مكة اشتدت على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل وصفاً دقيقاً لتلك الحياة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] ثم يأتي النصر: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، تلك الحياة التي صورها لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه حين يقول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، ويوضع المنشار في مفرق رأسه، ويقسم قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، ولقد سار المسلمون على المنهج الصحيح، ولم تمض إلا مدة وجيزة من الزمن حتى تم الاستخلاف في الأرض للمؤمنين، فكانت دولة الإسلام التي أرسى قواعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم لم تمض مدة من الزمن إلا وقد رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً. كان المسلم لا يجد وهو يسير في أكثر من نصف الكرة الأرضية دائرة جوازات ولا جمارك ولا أحوالاً مدنية ولا من يقول له: من أنت. ولو قيل له: من أنت لقال: أنا المؤمن الذي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. هذه الدولة التي انقسمت الآن إلى عشرات الدول أو الدويلات التي تعيش مستضعفة تحت مطارق الكافرين، تلك الدولة التي يقول عنها المؤرخون: كان هارون الرشيد ذات يوم جالساً في بغداد، فمرت سحابة من فوق رأسه فصار يخاطب السحابة ويقول لها: يا سحابة! أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك ولو بعد حين. لقد كانت الدولة الإسلامية تسابق الشمس على مطالعها. إن العز والاستخلاف تجده في قصة قتيبة بن مسلم حينما كان في بلاد ما وراء النهر يفتح وينشر الإسلام، فيسأل قادته ذات يوم قائلاً: يا قومي! أي بلاد تقع أمامنا؟ قالوا: بلاد الصين. قال: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بأقدامي هذه تراب الصين -ويشير إلى أقدامه- وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وأفرض الجزية عليهم. ووصلت الأخبار والتجسسات إلى ملك الصين تخبره بقسم قتيبة، فهل تظن أن ملك الصين سوف يرسل له إخطاراً تهديداً؟ لا، هو قتيبة بن مسلم الذي جاء ينشر الإسلام، فيرسل إليه ملك الصين صحافاً من ذهب مملؤة بالتربة من أرض الصين، ويقول: هذه التربة ليطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه الجزية سوف تصله كل عام. أما عقبة بن نافع رحمة الله عليه فكان يسير في بلاد شمال أفريقيا، يقول المؤرخون: مر في طريقه في تونس وكلفه الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن يبني مدينة تكون مركزاً للمسلمين وهي ما تسمى في الوقت الحاضر في تونس (مدينة القيروان) فقرر أن يبني المدينة لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فجاءه أهل البلاد وقالوا: أيها القائد! هذه أرض موحشة مسبعة يرجع كل الفاتحين دونها، ابحث عن مكان مناسب. قال: والله لا أبنيها إلا في هذا المكان. يقولون: فوقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه على حافة الغابة وقال: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام. يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان. ثم يسير عقبة بن نافع ليصل إلى المحيط الأطلسي فيغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته على فرسي هذه إليه. هذه عزة المؤمنين التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. ويفقدها كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لم يأخذوا بكثير من أسبابها، فتتمزق الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة لا تخفى علينا أخبارها، ويسام المسلمون سوء العذاب، وتضيع الأندلس، وتضيع فلسطين، وتضيع لبنان، وتضيع مواطن كثيرة. إذاً الاستخلاف في الأرض مرهون باتباع أمر الله عز وجل، لكني واثق -بإذن الله عز وجل- أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة هي التي سوف تعيد هذا الاستخلاف في الأرض مرة أخرى، قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

الجزاء الثاني: التمكين للدين الذي ارتضاه الله لهم

الجزاء الثاني: التمكين للدين الذي ارتضاه الله لهم يقول الله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، فالله تعالى قد ارتضى لهذا العالم ديناً واحداً هو دين الإسلام، ونسخ به كل الأديان، ولن يقبل الله عز وجل ديناً سواه، ومن قدم على الله يوم القيامة بدين غير دين الإسلام فإن الله لا يقبله منه، أما التمكين لهذا الدين فإنه سنة من سنن الله عز وجل وعد الله عز وجل بذلك المؤمنين، يقول سبحانه {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]، لكنه سبحانه كلفنا بالجهاد في سبيله ليكون الدين كله لله، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. وما دام هناك دين لغير الله فإن الأمة الإسلامية ليست بخير حتى يكون الدين كله لله، ولا يجوز أن يوضع السلاح على الأرض وهناك من يعبد في هذا الكون من دون الله عز وجل، ولا يجوز أن يوضع السلاح -أيضاً- حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، والفتنة هنا معناها الكفر والردة والخروج عن الإسلام والشرك، أما المنحرفون في أيامنا هذه فيسمون الفتنة ويطلقونها على الاضطرابات، ونحن نرفض هذه الاضطرابات ولو كانت لهدف.

الجزاء الثالث: الطمأنينة والأمن للمؤمنين

الجزاء الثالث: الطمأنينة والأمن للمؤمنين يقول الله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] كان الرجل لا يطمئن أن يصلي حول الكعبة في العهد المكي كله، ثم حقق الله هذا الوعد للمسلمين، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً فتصبح مكة دار إسلام، وحينئذ أمن القوم، وما زال الإسلام يسعى لتحقيق هذا الأمن حتى حقق الله هذا الأمن للأمة الإسلامية بكل معانيه، سواء في ذلك الأمن الخارجي حينما أعلن المسلمون الجهاد في سبيل الله، فصارت تنهد الحصون للأمة الإسلامية ولجنود الله قبل أن يصلوا، أو الأمن الداخلي الذي حققه الله عز وجل للأمة الإسلامية بما شرعه سبحانه وتعالى من حدود ومن أوامر ومن نواه، فكانت الحدود أمناً للناس يأمنون بها على أنفسهم ودمائهم، كما قال الله عز وجل في القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: حياة سعيدة آمنة. وقال عز وجل: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وكان قطع يد السارق أمناً للأموال، وكان رجم الزاني أمناً على الأعراض، وكان قتل المرتد أمناً على المعتقدات والدين، وكان جلد القاذف أمناً على الأعراض والسمعة، وكان جلد شارب الخمر أمناً على العقول وسائر التصرفات، وكان قتال المحاربين كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] أمناً على الأمن كله، ولذلك فإن المسلم بعد أن أمنه الله عز وجل بهذه الحدود صار آمناً مطمئناً في هذه الأرض.

عوامل الخوف على هذا الدين

عوامل الخوف على هذا الدين بقي الآن صفوة الموضوع، وهو: هل المستقبل لهذا الدين أو لغير هذا الدين؟ نقول: المستقبل لهذا الدين، لكن هناك أشياء تخيف بعض المسلمين على هذا الدين، وهم الذين ينسون وعد الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ويغفلون عن قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28]. نقول لهؤلاء الناس الذين يخافون على هذا الدين: اطمئنوا على الدين وخافوا على أنفسكم؛ لأن هناك عوامل تدلنا على أن المستقبل حقيقة لهذا الدين، وإننا ننتظر من خلال هذا الواقع الذي نعيشه اليوم حياة أفضل يتجه بها العالم كله إلى دين الله.

العامل الأول: الإعراض عن شرع الله

العامل الأول: الإعراض عن شرع الله إن الإعراض عن شرع الله عز وجل موجود، فالآن لا تجد دولة تحكم بشرع الله إلا دولتنا التي نسأل الله أن يهديها ويوفقها ويحفظها بالإسلام وإقامة حدوده، وأن يجنبها دعاة الباطل، وأن يوفقها لمحاربة المحرمات التي بدأت تشوش على المسلمين اليوم. فهل يمكن أن يظهر هذا الدين في وقت لا نجد فيه إلا دولة واحدة في العالم تحكم بشرع الله؟ نقول: الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وأبناء هذه الصحوة -وهم اليوم حتى في أمريكا وفي روسيا والحمد لله- الآن يؤذنون بخير وبصبح قد أقبل، وبأنهم سوف يعيدون للأمة الإسلامية شرع الله وحكم الله في الأرض.

العامل الثاني: التسلط والطغيان في الأرض

العامل الثاني: التسلط والطغيان في الأرض هناك تسلط في أيامنا الحاضرة وطغيان في الأرض شديد يسوم المسلمين سوء العذاب، ولربما يزيد هذا التسلط فيخيف ضعاف الإيمان فيرجعون من منتصف الطريق، ويكونون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]، أو من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، هذا التسلط خطير جداً، لكن ثق بأن هذا التسلط جاء في فترة والإيمان عميق في نفوس الناس والحمد لله، وأظن أن هؤلاء المؤمنين الذين يتعرضون لهذا التسلط لا يقلون إيماناً عن إيمان سحرة فرعون الذين قال لهم فرعون: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فقال السحرة: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. إذاً هذا التسلط وإن كان خطيراً وإن كان مخيفاً لكن لنا أمل قوي في الله عز وجل ثم في شباب الصحوة الإسلامية الذين عرفوا الله عز وجل حق المعرفة في كل العالم الإسلامي، بل حتى في بلاد الكفر.

العامل الثالث: ضعف دعاة الحق

العامل الثالث: ضعف دعاة الحق إن ضعف دعاة الحق تعتبر من أكبر العوامل الخطيرة، لاسيما إذا كان هناك نشاط لدعاة الباطل، ولاسيما إذا كان دعاة الباطل من أبناء جلدتنا -نعوذ بالله- ومن يتكلمون بألسنتنا، فمن كان اسمه أحمد، أو محمد، أو عبد الله، أو عبد الرحمن فإن هؤلاء يطعنون في الإسلام أكثر مما طعن فيه أبو جهل وأبو لهب، هذه حقيقة خطيرة في وقت ضعف فيه دعاة الحق، أو أُضعفوا وأوقفوا أو كادوا يوقفوا، لكن لنا أمل في الله عز وجل أن تعود المياه إلى مجاريها.

العامل الرابع: وجود المغريات وكثرتها

العامل الرابع: وجود المغريات وكثرتها من العوامل وجود مغريات في هذا العصر، منها السفر إلى الخارج فهو ميسر، ومنها الأفلام، فهي أفلام تصل إلى قعر بيوت المسلمين، ولربما يعدوننا بالبث المباشر، ويخوفوننا بالذين من دون الله، إلى غير ذلك من هذه الأمور. وهذه حقيقة مخيفة، لكن المؤمن إذا عرف الله عز وجل لا يتأثر بكل هذه الأمور؛ لأن المؤمن ينطلق من منطلق قوي وهو إيمانه بالله عز وجل.

بوادر وعوامل الخير المؤكدة على أن المستقبل لهذا الدين

بوادر وعوامل الخير المؤكدة على أن المستقبل لهذا الدين هناك بوادر وعوامل الخير التي نشاهدها تؤكد لنا أن المستقبل لهذا الدين وأن هذا العالم سوف يعود كله بإذن الله إلى هذا الدين، ولن يبقى في هذه الأرض دين غير دين الإسلام، ولن يبقى في هذه الأرض من يدين بغير دين الإسلام.

وجود الصحوة

وجود الصحوة هناك بوادر وأدلة واضحة أهمها هذه الصحوة الإسلامية المباركة، الشباب الذين لا تجد فيهم إلا عدداً قليلاً من كبار السن. وقبل فترة من الزمن ما كنا نجد في المساجد إلا كبار السن والعجزة، فما الذي حدث؟ الذي حدث أن نور الله عز وجل ودينه بدأ يظهر على الدين كله. فمن أهم العوامل والبوادر الدالة على الخير وجود هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ووجود هذا النوع من الشباب، حتى وجدنا الشباب أحسن من الآباء في أيامنا الحاضرة، حتى أبناء الفسقة تدينوا -والحمد لله- وأقبلوا على دين الله، حتى الأبناء الصغار أقرب إلى الدين من الكبار، مما يدل على أن هذه الصحوة الإسلامية مباركة، ولها جذور عميقة في هذه الحياة. إذاً هذه تعتبر من أهم البوادر والمظاهر والعوامل الحقيقية التي تثبت لنا أن المستقبل لهذا الدين.

سقوط الأفكار المنحرفة

سقوط الأفكار المنحرفة إن الأفكار المنحرفة كل يوم يسقط منها مذهب والحمد لله، فقبل سنوات سقطت القومية العربية التي أرهبت الناس، وخاف بعض الناس من شدة المغالاة فيها أن تكون ديناً وعقيدة، فسقطت حينما عرف أن الذين قاموا بها هم أعداء الأمة العربية، وبعد فترة من الزمن جاءت الشيوعية فأرهبت الناس وخاف الناس أن تكتسح العالم فسقطت والحمد لله، فكان آخر مسمار من مسامير نعشها الحركة الأفغانية والجهاد في سبيل الله، وفي هذه الأيام سقط حزب البعث الذي كان يرهب كثيراً من الناس. فالمهم أن الأفكار التي تتساقط إنما تتساقط تحت أقدام الإسلام والمسلمين، فتعتبر هذه من أعظم البوادر وأهمها في كون المستقبل لهذا الدين.

سقوط الديانات المنحرفة

سقوط الديانات المنحرفة إن الأفكار والمذاهب والديانات المزعومة كلها بدأت تتساقط، فالكنائس الآن تباع في أوروبا وأمريكا ويشتريها شباب المسلمين ويحولونها إلى مساجد، وسألت بنفسي في إحدى ولايات أمريكا صاحب كنيسة فقلت له: لماذا تبيع هذه الكنيسة؟ هذه دينك وعبادتك! قال: ليست ديناً، هذا دين فاسد، فأنا لا يمكن أن أحجز خمسة ملايين دولار ليأتي فرادى من الشيوخ وكبار السن في يوم الأحد فقط. إذاً سيكون المستقبل لهذا الدين.

دخول الناس في هذا الدين بسبب القدوة

دخول الناس في هذا الدين بسبب القدوة وهناك دليل آخر على ذلك، وهو أن أولئك النصارى بدءوا الآن يبحثون عن عقيدة، لكن هل ترى أن المسلمين سوف يستغلون هذه الفرصة، ففي كل يوم يعلن فلان أنه اعتنق الإسلام وفلان وفلان وفلان؟ وأنا متأكد من أننا لو دعونا إلى الإسلام دعوة صحيحة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، بل متأكد من أننا لو أعطينا صورة حسنة عن الإسلام لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لكن تصور رجلاً كافراً يرى أبناء المسلمين هناك في حانات الخمور في بلاده ومواقع الدعارة، وهو يعلم أن الإسلام يحرم الخمر والزنا، ثم يرى هذا التناقض وهذه الازدواجية في حياة المسلمين! إنه سيرفض هذا الدين. فمعنى ذلك أن أبناء المسلمين الذين يعيشون عيشة منحرفة في بلاد الكفر هم أكبر عقبة في طريق الإسلام. ولذلك أقول: القدوة هي أفضل طريق للإسلام، ولو لم يذهب إلى تلك البلاد دعاة. فأكبر تجمع إسلامي في جنوب شرق آسيا يقدر في أيامنا الحاضرة بأكثر من مائتي مليون مسلم في تايلند والفلبين وأندونيسيا وماليزيا وسنغافورة إلى غير ذلك، لم يذهب جيش إسلامي للجهاد هناك في تلك البلاد، ولا ذهب داعية في صدر الإسلام أبداً، وإنما دخل أولئك في الإسلام بواسطة القدوة، وذلك عندما ذهب جماعة من تجار حضرموت إلى تلك البلدان فصاروا يبيعون ويشترون ويتعاملون مع الناس معاملة إسلامية صحيحة، فأعجبت أهل تلك البلاد فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى إن الفلبين التي يقدر سكانها في أيامنا الحاضرة بستين مليوناً كانت كلها في يوم من الأيام دولة إسلامية بأكملها، وارتد كثير من المسلمين عن الإسلام بسبب ضعف المسلمين في الدعوة إلى الله عز وجل، إذاً القدوة تعتبر من أكبر العوامل. وعلى كل فالمستقبل -بإذن الله تعالى- لهذا الدين، وعلينا أن نتفائل، وعلينا أن نحسن الظن بالله عز وجل، لكن علينا أن نتحرك لهذا الدين؛ لأن هذا الدين ما قام في عصره الأول إلا على جماجم الرجال وأشلائهم، ففي فتح بلاد الشام فقط قدم المسلمون خمسة وعشرين ألفاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين، ثم تصير بلاد الشام بأيدي الكفرة الفجرة، فهذا تفريط من المسلمين.

الأسئلة

الأسئلة

العوائق التي تواجه الداخلين في دين الإسلام

العوائق التي تواجه الداخلين في دين الإسلام Q الفريق الأمريكي لكرة السلة الذي جاء للعب في هذه البلاد قد من الله جل وعلا على خمسة منهم بالإسلام فأسلموا، وكان إسلامهم خلال ثلاثة أيام، وقد دخل في الإسلام مدرب إحدى فرق المملكة أمام فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز فنرجوا الدعاء لهؤلاء جميعاً بالثبات؟ A نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت هؤلاء على الدين، فأمامهم فتن، وأهم هذه الفتن رؤية هؤلاء الصور في بلاد الإسلام ليست هي الصور الحقيقية للإسلام، ولكننا نقول: هذه هي القدوة، فهؤلاء لما رأوا وتأثروا بجماعة من إخواننا المسلمين كان ذلك سبباً في دخولهم في دين الله عز وجل، لكننا نخاف عليهم من الفتنة، ونرجو الله لهم الثبات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق قادة الأمة الإسلامية إلى أن يجعلوا البلاد الإسلامية قدوة حسنة لمن أراد أن يدخل في دين الله، فاللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! إنا نسألك -يا حي يا قيوم- أن تربط على قلوبهم، اللهم! إنا نسألك أن تتوفاهم على ملة الإسلام، وأن تهدي ضال المسلمين، وأن تدخل الناس كلهم في دينك أفواجاً.

الطريقة المثلى لإيقاف أصحاب الأفكار المنحرفة

الطريقة المثلى لإيقاف أصحاب الأفكار المنحرفة Q هناك مقالة للحداثية المشهورة الدكتورة ثريا العريض في جريدة الرياض، وفي ثنايا مقالها التافه تقول: هل يأتي اليوم الذي نستطيع أن ننزل المطر كيفما نشاء؟ فإلى متى وهذه الضالة تكتب وتنشر أفكارها المنحرفة من خلال هذه الجريدة التي هي وكر للحداثيين؟ A والله لقد حار أمرنا في هؤلاء الحداثيين، وهذا الموضوع أقل من مواضيع مرت بنا كانت أخطر من هذه المقالة، ولقد سمعنا كلمات قبل هذه أزعجتنا كثيراً، ولذلك نقول: هذه وأمثالها لا يمكن أن يقفوا عند الحدود إلا إذا كانت هناك سلطة تحاسبهم عما يقولون، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق السلطة لمعاقبة مثل هؤلاء، أما الكلام فإنه لا يرد بالكلام، وهذه ربما تدخل في أمور الردة، وإذا دخلت في أمور الردة فالله تعالى قد وضع حداً للردة كما وضع حداً لجرائم أخرى.

الطرق المثلى في استغلال الوقت للمرأة بما ينفعها في دينها

الطرق المثلى في استغلال الوقت للمرأة بما ينفعها في دينها Q نحن -معشر النساء- نعيش أوقاتاً كثيرة في المنزل، ولسنا مثل الرجال، فهم يذهبون إلى دروس العلم ومجالس العلماء والذكر وزيارة المقابر، فهل من برنامج مقترح لنا -معشر النساء- لكي نستغل أوقاتنا بما يعود علينا بالخير في الدنيا والآخرة، ويزيد إيماننا وحبنا لله ولرسوله وللطاعات عموماً؟ A أظن أن الأخت السائلة قد تحققت أمنيتها ورغبتها في هذا الواقع والحمد لله، فالآن وسائل التقنية الحديثة تستطيع أن تنقل أي كلمة خير من مكان إلى مكان آخر بسهولة، فهذه أشرطة الكاسيت والتسجيلات قد خدمت هذه الفكرة، فعليك -يا أختي- أن تستغلي كثيراً من الوقت في هذا الأمر، والأشرطة متوافرة والحمد لله، كما أني أطالبك بأن تحضري حلق العلم والمحاضرات والندوات، وما كنا ننادي بذلك قبل فترة حينما كانت المرأة في خدرها وداخل بيتها، أما وقد خرجت المرأة إلى المدرسة وإلى السوق فنحن ندعوها إلى أن تأتي إلى المسجد لتحضر دروس العلم ومجالس العلم بأدب وحشمة، وأيضاً أقول: احرصي -يا أختي- على اقتناء الأشرطة واشغلي الوقت بهذه الأشرطة؛ فإنها خير لك ولأسرتك.

سبب خوف حكام المسلمين من التمسك بالإسلام

سبب خوف حكام المسلمين من التمسك بالإسلام Q لماذا يخاف الحكام في وقتنا من التمسك بالإسلام، ألا يثقون بوعد الله بالنصر والتمكين، وقد أثبت التاريخ أن الحق منصور؟! A إنهم يخافون من الإسلام؛ لأن المستشارين والخبراء يقولون لهم: إن الإسلام خطير، إنه لو تحرك لأطاح بأمم ولذلك فإن كثيراً منهم يخاف من هذا الأمر، ونحن نقول لهؤلاء الذين يقولون هذه المقالة ويتوقعون هذا التوقع: إن الإسلام قوة عارمة، وإنه لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه وفي زحفه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] فالطريق الوحيدة التي تكفل لهؤلاء أن يعيشوا بأمن وسلام هي أن يضعوا أيديهم بأيدي الدعاة وبأيدي المصلحين، وهنا يطمئنون على ملكهم ويطمئنون على حياتهم.

سبب خوف الحكام والسلاطين من الدعاة والعلماء وبيان بطلان هذا السبب

سبب خوف الحكام والسلاطين من الدعاة والعلماء وبيان بطلان هذا السبب Q نلحظ في وسائل الإعلام هجوماً مركزاً على الدعاة والحركات الإسلامية في البلاد العربية وغيرها، واتهامها بالعمل للاستيلاء على السلطة، فهل هذا ينم عن نية الأنظمة إلى انتهاج الأسلوب الماضي في قمع هذه الحركات؟ وما حقيقة الأمر؟ A هذه الفكرة ليست جديدة بل هي قديمة جداً، فهذا فرعون حينما دعاه موسى إلى الله عز وجل قال لقومه: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء:35] فهو خاف على الأرض، مع أنه يعلم أن موسى ليس له مطمع في الأرض، وإنما يريد قلوب القوم ليهديها إلى الله عز وجل، وهكذا كل دعاة الحق إذا تقدموا إلى أهل الباطل يخاف أهل الباطل من دعاة الحق؛ لأنهم يخافون على ملكهم، ونحن نقول: إن دعاة الحق لا يفكرون في شيء من ذلك، وهذا الملك الذي تتقاتل عليه الأمم لا يساوي عندهم شيئاً؛ لأنه من عرض هذه الحياة الدنيا، إنما يريدون السعادة لهؤلاء البشر، يريدون أن يموت الناس كلهم على ملة الإسلام، ويريدون أن يدخل حتى الكفار الجنة حينما يدخلون في هذا الدين، وإذا كان من هؤلاء الحكام من يفكر أو يخاف على ملكه أو على سلطانه من الدعاة فعليه أن يصحح مفهومه، فدعاة الإسلام هم أبعد الناس عن الطمع في هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم أتباع الأنبياء الذين يقول كل واحد منهم لقومه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23].

حقيقة اتجاه الناس إلى ربهم عند سقوط الأفكار والمذاهب المنحرفة

حقيقة اتجاه الناس إلى ربهم عند سقوط الأفكار والمذاهب المنحرفة Q كثيراً ما نقرأ في وسائل الإعلام أنه في ظل فشل الأحزاب القومية والعلمانية في تحقيق الرفاهية للشعوب العربية وغيرها بدأت هذه الشعوب باللجوء إلى الجانب الروحي والغيبيات هروباً من الواقع، فهل من توضيح لهذا الكلام والغرض منه؟ A الإغراق في الجانب الروحي والغيبيات هذا يشبه كلام الصوفية، وعلى كل فالعالم يتصارعه ويتجاذبه موجتان: موجة يمين وموجة شمال، موجة تصوف وانحراف، وموجة مادية خالصة بحتة، والله تعالى يقول عنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فالأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، ليست بالتي تقدس الروح وتهمل الجسد كما يفعل الصوفية، وليست بالتي تقدس الجسد وتهمل الروح كما تنويه وتريده الشيوعية، ولذلك فإن فشل هذه المذاهب المادية تلجئ الناس لا إلى الروحانية بمعناها الذي أشرت إليه، ولكن إلى الروحانية بمعناها الحقيقي، ففشل هذه المذاهب وفشل هذه الأفكار وسقوطها في أيامنا الحاضرة -والحمد لله- كل ذلك كان أكبر عامل من عوامل هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولربما كانت صحوة إسلامية مباركة عن فهم وتدبر، ولذلك فإني أقول: بمقدار ما تسقط هذه المذاهب وتلك الأفكار يتجه الناس إلى دين الله عز وجل الصحيح، وهذا هو ما حدث في هذه الأيام عندما سقطت الأفكار المنحرفة فاتجه الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى.

حكم وجود من لا ينتسب إلى الإسلام في جزيرة العرب

حكم وجود من لا ينتسب إلى الإسلام في جزيرة العرب Q في هذا العصر كثر المشركون في جزيرة العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، فما هي الوسائل المعينة على إخراج المشركين من هذه الجزيرة، لاسيما أن وجودهم يشكل خطراً على المسلمين، ومن هذا الخطرِ المنشور والذي وزع في مدينة الخبر، وهو يدعو إلى تنصير المسلمين، ومن ذلك أيضاً الجامعة الأمريكية التي فتحت لها فرعاً في الرياض لتقوم بالتدريس فيه، ولا شك أن وجود مثل هذه الجامعة في عاصمة الإسلام يشكل خطراً على عقائد المسلمين وعلى أخلاقهم، ونحن نعلم ما سيدور في مثل هذه الجامعة، فهل من كلمة حول هذا الموضوع؟ A الحقيقة أن هذا كلام شائك، لكن لابد من الدخول فيه، فلرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان) ويقول عليه الصلاة والسلام: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) إلى غير ذلك من الأدلة، والله تعالى أمر بالبراءة من الكافرين حيث قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، لذلك فإنا نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع، وكلنا أمل في الله تعالى ثم في هذه الحكومة المسلمة أن تطهر هذه الجزيرة، بحيث لا نرى فيها وثنياً ولا يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولا ملة غير ملة الإسلام، سواء أان ذلك على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي، فإننا نرى الآن -مع الأسف- أن كثيراً من أصحاب المؤسسات يستوردون النصارى والوثنيين والبوذيين إلى بلاد المسلمين ليكثروا سوادهم، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله لربما يطعن في الإسلام ويخرج عن دين الإسلام؛ فقد يقول: إن هؤلاء أوفى وأحسن عملاً من المسلمين. بل زاد الطين بلة وزاد المشكلة أن كثيراً من بيوت المسلمين فيها نساء وثنيات خادمات، وهذه مصيبة وبلية، كنا نهرب من أن تكون مسلمة؛ لأنه اختلاط لا يجوز شرعاً، فكيف إذا كانت وثنية أو يهودية أو نصرانية، أو كان سائقاً وهذا أخطر وأشد وأعنف. ولنا أمل في الله عز وجل أن لا تكون هناك جامعة أمريكية في الرياض، ولنا أمل في الله ثم في المسئولين -أيضاً- أن لا يبقى في جزيرة العرب ولا في أرض الحرمين ولا في بلاد المقدسة إلا مؤمن موحد، وهذا هو ما نرجوه من الله عز وجل، ولنا أمل في هذه الحكومة التي قامت على دعوة سلفية صالحة، ولا يمكن أن تبقى إلا على هذا المنهج الذي قامت عليه، نسأل الله لها الثبات والهداية والاستقامة، والله المستعان.

وجه كون المستقبل لهذا الدين مع وجود الفساد في الأرض

وجه كون المستقبل لهذا الدين مع وجود الفساد في الأرض Q إذا قيل: إنه لا حاجة لنا إلى أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين، ولا نحتاج إلى أدلة على ذلك ونحن نرى الوجوه الطيبة من الشباب في المجالس الطيبة، فكيف ذلك ونحن عندما نخرج إلى الأسواق والمحلات والشوارع نرى شيئاً معاكساً لما نراه في المساجد؟ A الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة، يقول سبحانه وتعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، فمنذ الساعة الأولى التي هبط فيها آدم وحواء من الجنة هبط الشيطان معهما فكان الصراع. إذاً لا تعجب -يا أخي- وأنت ترى الخير والشر يتصارعان في هذه الحياة، بل إن الله عز وجل قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]. فالفساد موجود في الأرض في كل عصر، لكن الشيء الذي يفقده الناس في كثير من الأحيان هو: هل هناك من ينهى عن الفساد في الأرض؟ فإذا وجد من ينهى عن الفساد في الأرض فوجود الفساد في الأرض أمر سهل، فمن أخطر الأشياء في حياة البشر أن لا يكون هناك من ينهى عن الفساد في الأرض، وكذلك من أخطر الأشياء على حياة البشر أن تكمم أفواه العلماء والدعاة إلى الله عز وجل، وأن يوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخطر من ذلك كله أن تطمئن قلوب المسلمين إلى معصية الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، فوجود الفساد في الأسواق مع وجود خير في المسلمين يدل دلالة واضحة -إن شاء الله- على أن هذا الفساد سوف يودع الحياة عما قريب.

قدرات رابطة العالم الإسلامي في تغيير المنكرات بأنواعها

قدرات رابطة العالم الإسلامي في تغيير المنكرات بأنواعها Q ذكر أن هناك عشرين ألف ضريح يُعبد من دون الله، فأين دور رابطة العالم الإسلامي من هذا الأمر العقدي الخطير؟ أليس من الممكن أن يُعقد مؤتمر إسلامي ويُتخذ قرار له صفة الحكم الإلزامي لحكومات العالم الإسلامي بإزالة كل ما يعبد من دون الله؟ A نعم. لكن من يستطيع أن ينفذ ذلك؟ فرابطة العالم الإسلامي لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور، ولم تقم بدور أقل من ذلك حتى تقوم بهذا الدور الكبير؛ لأنها لا تسيطر على بلاد المسلمين، وإمكاناتها محدودة، وهناك معاص دون هذه الأشياء وأصغر من هذه الأشياء ومع ذلك لم تستطع رابطة العالم الإسلامي أن تقضي عليها، فكيف تستطيع أن تقضي على أضرحة يحج إليها آلاف بل ملايين البشر من خلق الله عز وجل، الأمر ليس من السهولة بمكان، الأمر لا يحتاج إلى رابطة العالم الإسلامي، وإنما يحتاج إلى أن يعرف الناس دينهم، ثم يسيرون في هذه الأرض ينشرون دين التوحيد، لاسيما من بلادنا التي قامت على دعوة سلفية نسأل الله أن يجزي مؤسسها خير الجزاء.

كيفية الحد من فتنة المرأة في وسائل الإعلام وغيرها

كيفية الحد من فتنة المرأة في وسائل الإعلام وغيرها Q لقد بدأ التلفاز السعودي بإخراج النساء السعوديات أثناء المقابلات والتمثيل، فهل لدى العلماء علم بهذا؟ وما موقفهم منه؟ A لا أدري عن كونهم هل لديهم علم، أما الموضوع فهو كما يقول الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد وسواء في ذلك النساء السعوديات أو غير السعوديات، كل ذلك فتنة، لكن النساء السعوديات يشكلن فتنة على المرأة كما يشكلن فتنة على الرجل، وعلى كل فأنا وأنت لربما لا نستطيع أن نسيطر على الموقف، لكن مَنْ مِنَ الرجال الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه البيوت يفكر في أن تخرج زوجته أو أخته أو ابنته لتقوم بهذا الدور؟ ودع عنك هذا كله فلماذا تضع هذه الأجهزة في بيتك مع أنك لم تجبر عليها؟ فأنت تضعها بنفسك ثم تقول: لماذا كذا وكذا؟! صحيح أن الإصلاح أمر مطلوب، لكن -على الأقل- قف على باب بيتك واحفظه من هذه الفتن، نسأل الله لنا ولك العافية.

حكم تدريس المقررات المخالفة لتعاليم وأحكام الإسلام

حكم تدريس المقررات المخالفة لتعاليم وأحكام الإسلام Q إنني مدرس مطالب بتدريس بعض المناهج التي يوجد فيها ما هو مخالف لفطرة الإسلام، مثل ما يوجد في بعض المقررات من أن المادة لا تفنى ولا تبيد ونحو هذا، فهل يجوز لي تدريس مثل هذه المقررات؟ وإذا كان لا يجوز فما هو الموقف الذين يمكن أن أتخذه لكوني مدرساً؟ A أولاً: لا يجوز لك أن تدرس هذه المقررات، ولو كانت منهجاً مقرراً على الطلبة؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الخالق أمر لا يجوز. ثانياً: هل فكرت في يوم من الأيام أن تبلغ المسئولين عن التعليم عن هذه الأخطاء الجوهرية المتعلقة بالعقيدة؛ فكيف تدرس نظرية تقرر أن المادة لا تفنى والله تعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]؟! إذاً معنى ذلك أنك مطالب بأن تنكر هذا المنكر فتبلغ المسئولين لتخرج من العهدة، وإذا لم يرعوِ المسئولون ويتراجعوا عن هذا الأمر فأنت مطالب بأن تبين خطأ هذه الفكرة، ولو خالفت المنهج الذي كلفت بتدريسه؛ لأن طاعة الله عز وجل قبل طاعة المخلوق، وأنت مطالب -أيضاً- بأن تبصر أولئك الشباب وتدلهم على الفطرة بدل أن تفسد فطرتهم.

أخبار حركة الجهاد في أرتيريا

أخبار حركة الجهاد في أرتيريا Q بما أنكم من المهتمين بأحوال إخواننا في خارج البلاد، خاصة في أرتيريا، فما هي آخر أخبار إخواننا في أرتيريا، خاصة بعد سقوط حكومة أديس أبابا وقيام الجبهة الشعبية ببعض التصريحات التي لا ترضي أهل الحق؟ A الحقيقة أن حركة الجهاد تكافح الجبهة الشعبية؛ لأن الجبهة الشعبية أخطر على الإسلام من حكومة أديس أبابا، وعلى هذا فإن الخطر يبدأ الآن ولا ينتهي، ونبشر ونطمئن بأن حركة الجهاد في أرتيريا تقوم على أيدي علماء من أهل السنة والجماعة ينطلقون من منطلق السلف الصالح رضي الله عنهم، نسأل الله لهم الثبات والسداد والتوفيق على ذلك، ثم -أيضاً- نقول: آخر مراحل حركة الجهاد هناك -وإن كانت أموراً سرية، وبعد تلك الحادثة لم تصبح سرية- آخر مراحلها أن الجهاد -والحمد لله- قائم هناك على أشده، ويحتاج إلى دعمنا، فهناك من أرتيريا في السودان مليون مهاجر يموتون جوعاً، فضلاً عن أن يحملوا السلاح للجهاد في سبيل الله، وينسب هذا الكلام إلي، ففي كل ساعة يموت في كل معسكر عدد معين، فنحن مطالبون بأن ننفق على هؤلاء، وأن نمد لهم يد العون، كما أننا -أيضاً- مطالبون بأن نساعد إخواننا المجاهدين في حركة الجهاد في سبيل الله لتحرير أرتيريا من الكفر بكل أنواعه، والله تعالى قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس حيث قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11].

علاقة وجود مجلس شورى في السعودية بالمستقبل للإسلام

علاقة وجود مجلس شورى في السعودية بالمستقبل للإسلام Q هل ترى أنه من المؤشرات المفرحة للمستقبل الإسلامي انتقال فكرة مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية إلى واقع عملي؟ A مجلس الشورى أمره أمر آخر، وهذا يرجع للدولة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقها لما فيه الخير والسداد، وإن كان الأصل في الإسلام أن الحكم يقوم على الشورى، قال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى:38] بشرط أن تكون هذه الشورى لأهل الحل والعقد، ولأهل الفكر وللذين يريدون الخير لهذه الأمة، أما وجود مجلس الشورى في مثل هذه البلاد فأعتقد أن أعضاء هذا المجلس سيكونون من خيار هذه الأمة، وسوف يساهم -إن شاء الله- مساهمة فعالة في توجيه الناس إلى ربهم.

دور العلماء والدعاة في لم شمل الأمة الإسلامية

دور العلماء والدعاة في لم شمل الأمة الإسلامية Q في هذا الزمان تفكك العلماء وتباعدت الصلة بينهم، حتى إن أهل الباطل يحصل بينهم اجتماعات وتعاون على الفساد، بينما العلماء وطلاب العلم كل في واد، فأرجو توجيه نصيحة للشباب والعلماء من أجل التعاون لنصرة هذا الدين؟ A أما العلماء فلا حاجة إلى أن نوجه لهم النصيحة؛ لأنهم يوجهون الناس، ويعلمون يقيناً أن الأمة إذا تفرقت فسوف يؤدي ذلك إلى فساد عريض، يقول عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. وأما الشباب فنقول: التفوا حول العلماء؛ فإن العلماء لا يريدون للدولة ولا لكم إلا خيراً، فكونوا عضدهم وساعدهم، واستقيموا على دين الله، وانهلوا من هذا العلم، واستغلوا الفرصة، فأي صحوة إسلامية لا تقوم على العلم الصحيح فإنها لا يستفاد منها، فاحرصوا على حلق العلم ومجالس الذكر؛ فإن بها تتجه هذه الصحوة الإسلامية إلى الله عز وجل اتجاهاً طيباً مباركاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت الأقدام، وأن يوفق القادة والمسئولين إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل ولاة هذا البلد بصفة خاصة وولاة أمر المسلمين بصفة عامة من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآيات الكونية وتحكيم شرع الله

الآيات الكونية وتحكيم شرع الله تدل آيات الله عز وجل الكونية من أرض وسماء، وجبال ووديان، وبحار وأنهار، ونجوم وكواكب على عظمة الله سبحانه، وأنه الخالق والفاطر لها، والمسير والمدبر لأمورها، أفلا يدل ذلك على استحقاقه سبحانه للعبادة والتذلل والخضوع من خلقه؟! ألا يدعو ذلك إلى التحاكم إلى دينه وشرعه؟! ألا ينادي ذلك بحكمته وإتقانه؟

الآيات الكونية وما فيها من تعظيم الله سبحانه

الآيات الكونية وما فيها من تعظيم الله سبحانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:41 - 54]. أيها الأخ الكريم! هذه حلقة جديدة من سورة النور، والنصف الأول منها يتحدث عن موضوع واحد، وهو: كيف نحارب الرذيلة والفساد في الأرض؟ وكيف نكافح الزنا حتى لا يكون؟ وما هي الطرق الكفيلة بذلك؟ تنتهي تلك الاحتياطات ببيان منشأ الرجال وأين ينشأ الرجال، فالرجال لا ينشئون إلا في المسجد، ولا يتربون إلا في المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وهؤلاء الذين يتربون في المسجد كما عرفنا. في قلوبهم نور، وهذا النور هو أعظم نور عرفه الإنسان {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35]. ثم انتهى الأمر بعد ذلك إلى بيان الخطر الذي يصيب الإنسان حينما يبتعد عن المسجد وعن الله وعن دين الله، فيعيش إما في أحلام، فتكون: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] أو يعيش في ظلمة نعوذ بالله، فليست له أعمال ترجى، بل هي سيئات إثر سيئات، وكفر ومعاصٍ وإلحاد وعناد {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. انتهى المقطع الأول من هذه السورة إلى هذا الحد، وجاء الحديث عن الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الأفق، وفي الأنفس، وفي هذا العالم، في السماوات وفي الأرض من أجل أن يهتدي هذا الإنسان، وكأن هذه الآيات الكونية وضعت بجوار الآيات الشرعية التي سبقت لتكون سبباً لهداية هذا الإنسان، فالإنسان الذي في قلبه نور ينشأ هذا النور في المسجد، والذي يفقد هذا النور يعيش في سراب، وفي أحلام يقظة، أو يعيش في بحر لجي فيه ظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها. لكن الله عز وجل قد وضع في هذا الأفق أدلة ترشد إليه في السماوات والأرض وفي الأنفس، ولذلك الله تعالى بين أن هذه الآيات الموجودة في السماوات يتذكر من خلالها أولوا الألباب، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21] فإذا لم يجد الإنسان آيات في الأرض تكفيه لتعرفه بربه سبحانه وتعالى فسوف يجد هذه الآيات في السماء، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وإذا لم ينظر في هذا ولا ذاك فلينظر في نفسه، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. فلو نظر هذا المخلوق المعاند لله عز وجل فيما وضع الله تعالى في هذا الكون من آيات ومخلوقات من جبال معلقة بين السماء والأرض وهو السحاب وينزل منها الماء ومن مخلوقات متحركة على وجه الأرض، دواب، إنسان، حيوان، زواحف، حشرات، كل هذه أدلة ترشد الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، وقد يغفل هذا الإنسان عن هذه الآيات، فتكون النتيجة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:39 - 40]. لكن لو نظر هذا الكافر قبل أن يكون كافراً في هذه الآيات الكونية والأفقية والنفسية ليرى منها قدرة الخالق سبحانه وتعالى؛ ما كان هذا الإنسان ليكفر بالله عز وجل، وما كان لينكر الخالق سبحانه وتعالى وهو يرى آياته في هذا الوجود، وما كان ليزعم له شريكاً وهو يرى دقة الصنعة في هذا الوجود، وتلك الدقة التي خلقها الله عز وجل في كل مخلوق تدل على أنه الواحد، ولذلك الله تعالى يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء:22] أي: في السماوات والأرض، {آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] لأن اختلاف الصانع يؤدي إلى اختلاف الصناعة، بل في دون هذا الكون من الأمور التي يشترك فيها أكثر من واحد في صنعها تظهر فيها علامات الخطأ والخلل، وضعف الصنعة، أما هذه المخلوقات التي خلقها الله عز وجل فهي دليل على الوحدانية.

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) يبين الآيات الكونية بعد بيان الآيات الشرعية من أجل أن يعرف الإنسان فيها قدرة الخالق، فيعيش في رحاب الإيمان، فيقول الله تعالى عن الآيات الأولى من هذه الآيات الكونية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] هذه آية من آيات الله عز وجل، آية كونية، ألم تعلم -أيها الإنسان المكذب بربه سبحانه وتعالى- أن الله تسبح له كل المخلوقات، فإن لم تسبح له أنت فاعلم أن كل المخلوقات تسبح لله، حتى الحجارة والجمادات، وحتى الطير في الهواء، وحتى السمك في الماء، كلها تسبح لعظمة الله عز وجل، إذاً لو كفرت -أيها الإنسان- بربك فأنت جزء بسيط من مخلوقات الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. إذاً معنى ذلك -أيها الإنسان- أنك إن كفرت بالله فإنه غني عنك، له خزائن السماوات والأرض، له جنود السماوات والأرض، ولذلك الله تعالى يقول في سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} [الحج:18] إذاً بقي جزء آخر من الناس لا يسبحون لله، فما يضر هذا الكون أن يكون هناك من لا يسبح لله من بني آدم، أو من الجن والإنس ما دامت هذه المخلوقات كلها تسبح لله عز وجل. فالمصيبة في كثير من الناس، أما سائر المخلوقات فإنها تسبح لله عز وجل كلها، وهذا هو معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [النور:41] أي: ألم تعلم أيها الإنسان المكذب {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] والذين في السماوات هم الملائكة، تصور يا أخي كثرة الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل)، السماء العظيمة التي تعتبر الأرض ذرة صغيرة من ذرات هذا الكون والذي تحيط به سبع سماوات، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد لله عز وجل. إذاً معنى ذلك أن الإنسان أصغر المخلوقات، وهذا الكوكب الصغير الذي يعيش الإنسان فيه جزء بسيط من الكون، إذاً لله عز وجل جنود السماوات والأرض. ثمانية ملائكة في كل يوم وليلة موكلون بالإنسان، أربعة كتبة، وأربعة حفظة، والأربعة الكتبة: اثنان في الليل، واثنان في النهار، والحفظة: اثنان في الليل واثنان في النهار، المجموع ثمانية لكل واحد من الناس، إذاً: كم عدد الملائكة؟ لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى يقول عن الكتبة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ويقول عن الكتبة أيضاً: {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12]، ويقول عن الحفظة الذين يحفظونه من أمر الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ويقول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر) صلاة الصبح التي ينام عنها كثير من الناس. إذاً الأمر عظيم، وجند الله لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى هنا يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]، والطير ليست في السماء ولا في الأرض، ولكنها في السماء اللغوية، والسماء اللغوية: هي كل ما علا مما هو بين السماء والأرض. فقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي: وهي باسطة أجنحتها تسبح لله عز وجل، لكن بطريقة نحن لا نعرفها، تسمع الصوت ولا تدري ماذا يقول هذا الطير، ولكن الله عز وجل يعلم تسبيحها، ويرى حركاتها وسكناتها، فهذه من قدرة الله عز وجل، والطير تسبح وهي باسطة أجنحتها في الفضاء، وقد تقبض أجنحتها في الفضاء ولا تسقط على الأرض {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [الملك:19]. (كلٌ) أي: كل واحد من هذه المخلوقات (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فالصلاة للعقلاء، والتسبيح لغير العقلاء، الصلاة للملائكة والجن والإنس، أما ما سوى ذلك من المخلوقات فلها تسبيح لكن بطريقه نحن لا ندركها، لا يدركها إلا الله عز وجل. (كل قد علم) فاعل علم يحتمل أن المراد به هو الله عز وجل، أي أن الله عز وجل علم صلاة وتسبيح هذه المخلوقات، ولو كان في جنح الليل المظلم، ولو كان في جوف البحر فإن الله تعالى يعلم صلاته وتسبيحه، ويحتمل أن الضمير في (علم) يعود إلى (كل)، أي: لهذه المخلوقات. كل واحد منها علم صلاة نفسه وتسبيحها. (والله عليم بما يفعلون)، وهذا يؤيد المعنى الأول، أي: ما تفعله هذه المخلوقات من خير أو شر لا يخفى على الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير)

قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير) بعد ذلك الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42]، وهذه آية من آيات الله، وقدرة من قدراته سبحانه وتعالى، أن الله له ملك السماوات والأرض، ليس معنى ذلك أن هناك شيئاً مملوكاً لمخلوق لا يرجع ملكه إلى الله عز وجل. العلمانيون يقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) الله له المسجد، أما سائر الحياة فهي للإنسان يتصرف فيها كيف يشاء، أنظمة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحكم غير ذلك هذه ليست لله، فالله يعبد في المسجد، فمن أراد أن يعبد الله فليذهب إلى المسجد، وهذه خلاصة مذهب هؤلاء الفجرة الكفرة، والحقيقة أن الله تعالى يقول: {لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41]، فليس هناك شيء لغير الله، وليس هناك شيء لقيصر، فكل شيء لله؛ لأن الله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض، وعلى هذا نعرف أن حكم الله عز وجل نافذ على كل المخلوقات في السماوات والأرض، ونافذ أمره في كل أمر من أمور هؤلاء الخلق، سواء أكان في أمور العبادات أم في أمور الحياة الدنيا. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي: المرجع. وهذا أيضاً دليل على قدرة الله، فمن يستطيع أن يجمع هذه الخلائق يوم القيامة؟ من يستطيع أن يجمع هذه الأجزاء التي امتصها التراب فأصبحت تراباً وعادت تراباً؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يستطيع أن يجمع ذلك، ولذلك الله تعالى رد في آخر سورة (يس) على الملحد الذي جاء ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفت عظماً بالياً في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا يوم القيامة قال: (نعم يميتك ثم يبعثك ويحشرك إلى النار) فأنزل الله أدلة على أن الله تعالى يجمع هذه الأجزاء وإن كانت عظاماً بالية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:77 - 80] شجر أخضر تضعه في النار فيلتهب ناراً، من حول الرطوبة إلى حرارة والبرودة إلى حرارة؟ الذي يبعث الأجسام يوم القيامة هو الذي يعيد إليها الرطوبة والحرارة مرة أخرى.

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه)

قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه) ثم بعد ذلك الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) وهذه آية كونية من آيات الله، فمن يستطيع أن يعلق هذا السحاب بين السماء والأرض؟ فهي آيات عظيمة. وقوله: (يزجي) أي: يرسل ويبعث سحاباً ينطلق من البحار والهواء، ومما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويتجمع في السماء كالجبال، يزجيه ويجمعه، ثم يسوقه سبحانه وتعالى إلى مواقعه التي يريد أن ينزل فيها المطر، وهذا السحاب العظيم محمل بالمياه الثقيلة، ويسير بين السماء والأرض بقدرة الله عز وجل، كما أمسك الطير في السماء أمسك السحاب أيضاً بين السماء والأرض، ولذلك هذه آية كونية أخرى تشبه الآية الكونية السابقة. ألم تعلم أيها الإنسان؟ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا)؟ و (سحاباً) جمع سحابة، وهي القطعة من الغيم، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يجمع بعضه على بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) فيرتص ويتراكم بعضه فوق بعض، حتى تكون السحابة العظيمة السوداء في السماء آلاف الأمتار بقدرة الله سبحانه وتعالى وهي محملة بالمياه ومعلقة بين السماء والأرض، إذاً من يستطيع ذلك؟ لا يستطيعه إلا الله عز وجل. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) المطر يضعه الله تعالى في فتوق هذا السحاب، فيبدأ الماء ينزل، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل الماء لا ينزله إلا الله عز وجل. وقد كتبت كاتبة تقول: متى ننزل المطر بإرادتنا؟ وهل يستطيع الإنسان أن ينزل المطر بإرادته؟! الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على هذا الكون والسحاب، لا ينزل ذلك إلا بإرادة الله عز وجل، إذاً الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) ينزل بإرادته لا بإرادة مخلوق من المخلوقين (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ) أي: المطر يتفتق هذا السحاب فينزل (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)، أي: من فتحات هذا السحاب بقدرة الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينزل، لا بقدرة المخلوق، فقد تمر السحابة العظيمة المحملة بالمياه الثقيلة ولا ينزل في هذا المكان، وينزل في مكان آخر حسب إرادة الله، وبمقدار ما يوجهه الله سبحانه وتعالى. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) قد ينزل برداً بدلاً عن الماء، وقد يهلك بدلاً من أن يكون سبيل رحمة، وهذه الجبال الموجودة بين السماء والأرض كناية عن السحاب العظيم المثقل بالماء، فكأنها أصبحت كالجبال، خلافاً لما يقوله بعض المفسرين بأن هناك جبالاً من برد في السماء متجمدة تنزل إذا أراد الله. والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا من باب التشبيه، فهناك سحاب ثقيل عظيم كأنه الجبال، وأنت تشاهد هذا السحاب إذا ركبت الطائرة وقد علت من فوق السحاب، فترى سحاباً كالجبال. إذاً قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ) أي: من سحاب كالجبال -والله أعلم- من شدة ارتفاعه في السماء، ولما يحمله من مياه ثقيلة، ولتجمعه وتراكمه، فقد ينزل منه برد يتجمد بين السماء والأرض، فيكون هذا الماء برداً، وربما يكون ضاراً، والإنسان لا يعرف مصلحته أفي هذا السحاب أم في غيره. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا) أي: في السماء (مِنْ بَرَدٍ) مياه متجمدة، (فَيُصِيبُ بِهِ) أي: بالمطر أو بالبرد (مَنْ يَشَاءُ) أي: من أراد الله تعالى إنزاله عليه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) فهي قدرة إلهية وليست قدرة بشرية، فلو كان هذا الإنسان بيده قدرة ما كانت تمر فوقه سحابة إلا ويمتص ما فيها من ماء؛ لأن هذا الماء هو سبب حياة البشر، وسبب حياة الأرض، وسبب زينة الأرض، لكن الله عز وجل هو الذي يوجه هذا الأمر بقدرته وإرادته، لا بإرادة هذا الإنسان، ولذلك الله تعالى يقول: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) بقدرة إلهية، وهذا المطر عظيم، وهذا السحاب عظيم له برق لامع، يكاد من شدة برقه أن (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) لشدة لمعانه، (يَكَادُ سَنَا) أي: ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) من شدة لمعانه.

قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)

قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) هناك آية أخرى يراها الإنسان في كل يوم وليلة، ويراها الإنسان في كل سنة عدة مرات، ولربما يراها في الصباح والمساء، يزيد الليل ويزيد النهار، ويكون الليل أطول من النهار أو النهار أطول من الليل حسب فصول السنة، في كل يوم يحصل هذا التغير، وليلة باردة وليلة حارة، ويوم بارد ويوم حار، تقلب بإرادة الله عز وجل، فمن يستطيع أن يفعل هذا الفعل؟ لا يستطيع ذلك إلا الله، ولذلك من آيات الله عز وجل الكونية أنه يقلب الليل والنهار، فيزيد الليل لينقص النهار، ويزيد النهار لينقص الليل، ويجعل الوقت بارداً أو حاراً أو متوسط البرودة والحرارة، إذاً هذه من آيات الله عز وجل. ولو نظرت إلى الساعة في هذا اليوم وقارنتها بالساعة في مثل هذا اليوم لسنوات مضت منذ آلاف السنين فلن تجد أن هذا الكون يختلف، أو أن هذا الزمن يختلف لحظة واحدة، فمن نظم هذا الكون بهذا المقدار وبهذه الدقة التي لا يستطيعها إلا الله عز وجل؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولذلك تقليب الليل والنهار بزيادة ونقص، وطول وقصر، وبرودة وحرارة لا يستطيعه إلا الله عز وجل، فهذه الدقة في الصنعة آية من آيات الله، فالله تعالى يقول: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بالزيادة والنقص وغير ذلك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: في تقليب الليل والنهار (لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي: آية ودليل قاطع يعتبر منه الإنسان، لكن لا يتعظ بذلك إلا أولوا الأبصار، أما الماديون فيقولون: المادة هي التي تصنع هذا الشيء. والدهريون والملاحدة يقولون: هذا الفضاء يسبح بطبيعته، ونظم نفسه. فهل يستطيع أن ينظم نفسه بنفسه؟ ومن يستطيع أن ينظم هذا الكون بدقة؟ فهذا النظام الذي وضعه هو الله عز وجل وصفه في هذه الحياة، خلاف ما يعتقده الملاحدة الذين يظنون، بل لا أظنهم يظنون، بل أنا متأكد أنهم يؤمنون بقرارة أنفسهم؛ لأن الإيمان فطرة، ولكنهم يريدون أن يخالفوا هذا الإيمان لمصالحهم، كما قال فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] والله تعالى يقول عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]. إذاً معنى ذلك أن هذا النظام الرتيب الذي وضعه الله عز وجل في هذا الكون أعظم دليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدرته ووحدانيته، ولذلك الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] لكن لا يستفيد من هذه الأدلة ومن هذه الدروس إلا أولوا الأبصار وأصحاب العقول.

قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)

قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء) هناك دليل آخر نشاهده نحن في أنفسنا، وفيما يعيش معنا من مخلوقات الله من الزواحف والحيوانات والطيور والحشرات وغير ذلك، في هذه المخلوقات وهي تتفاوت في شكلها وفي طريق سيرها ومشيها، فما هي الآية؟ يقول الله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الدابة: هي ما يدب على وجه الأرض. وهل المقصود بذلك ما يدب على وجه الأرض أم المراد به كل ما يدب من الملائكة التي تدب على سطح السماء، والجن الذين يدبون على وجه الأرض ونحن لا نراهم، والطيور التي تعيش بين السماء والأرض، إذ كلها تسمى دابة؟ إن الدابة مأخوذ من الدبيب، والدبيب معناه: السير البسيط الخفيف، لكنه يطلق على مجرد سير، إذاً الله عز وجل خلق كل دابة من ماء، ما هو هذا الماء؟ يحتمل أن المراد بالماء ماء الذكر الذي يختلط بماء الأنثى، ويرد على هذا بعض الأمور، فهناك من لم يخلق من هذا الأمر، فآدم خلق من تراب ولم يخلق من هذا الجنس، والجن خلقوا من النار، والملائكة خلقوا من النور، وهناك ما يتولد من التعفن كالبكتيريا وغيرها، إذاً يحتمل أن المراد بالماء هنا أصل الماء؛ لأن أول ما خلق الله عز وجل في هذا الكون الماء، فكان أول المخلوقات، حتى لو قلنا بالرأي الأول نقول: المراد (بالماء) الماء المعروف، وليس المراد ماء الذكر والأنثى، وهل كل شيء خلق من ماء؟ نعم حتى النار خلقت من الماء، لأنها لا تشتعل إلا بالشجر الذي خلق من الماء، وحتى الحشرات المتعفنة تتعفن من مادة لا بد أن فيها أصل الرطوبة، إذاً الله أعلم بالمراد، هل الماء أصل المخلوقات، الذي خلقه الله عز وجل قبل أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأوجد من هذا الماء كل هذه المخلوقات حتى الأرض وجدت من هذا الماء؟ الله أعلم بذلك. (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالزواحف والحيات التي ليس لها أرجل ولا أيد، تزحف زحفاً على الأرض (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) و (من) هنا لا تأتي إلا للعاقل، لكن جيء بها هنا لأن العاقل هو أفضل هذه المخلوقات. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور وما أشبه ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالحيوانات وغيرها. إذاً فأكثر المخلوقات على ثلاثة أنواع: منها من يمشي على بطنه كالزواحف، ومنها من يمشي على رجلين كالطيور والإنسان، ومنها من يمشي على أربع كسائر البهائم، لكن وجد على وجه الأرض من يسير على أكثر من أربع بأقدام كثيرة، فهذه نقول: تأتي بطريق التبع؛ لأنها قلة، أما أكثر المخلوقات التي تحدث الله عز وجل عنها -وهي ترى دائماً- فهي من يمشي على بطنه أو من يمشي على رجلين أو من يمشي على أربع، وما سوى ذلك فهو داخل في القلة والندرة. (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يعني: هذه قدرة الله سبحانه وتعالى وليست قدرة المخلوق، فليس للمخلوق يد في صنعها. (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن جعل هذه المخلوقات متفاوتة، فصار منها ما يزحف زحفاً على الأرض بدون أرجل، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يمشي على أكثر من ذلك، إذاً هي قدرة الله عز وجل.

قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات)

قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات) يختم الله عز وجل بهذه الآية تلك الآيات الكونية، وهذه الآية دائماً تتكرر؛ لأنها بدئت بها السورة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1]. ثم ختم بها الجزء والمقطع الأول من السورة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34]. ثم جاءت الآيات الكونية فختمت بمثل ما ختمت به الآيات السابقة: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:46] أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل، ولكن ما على هذا الإنسان إلا أن يتعظ بها ويستفيد منها. (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الهداية بيد الله، فهذه أدلة كونية واضحة، لكن ما يهتدي بها إلا من شاء الله تعالى أن يهتدي، فدائماً الهداية مربوطة بمشيئة الله، ولا دليل للجبرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؛ لأن الله تعالى قد أعطى هذا الإنسان مشيئة، فالمذاهب المعروفة ثلاثة: فمذهب الجبرية يقول: إن الله تعالى قد أجبر الإنسان على أعماله، فكيف يعاقبه على ذلك؟! وتهرب قوم بسبب هذا المذهب الخبيث وهم القدرية فقالوا: الله تعالى لم يقدر مقادير الخلائق ولا أعمال العباد، فالعبد هو الذي يخلق أفعاله. ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين هذين المذهبين، فليس بمذهب الجبرية الذي يقول: إن الإنسان مجبر وليست له إرادة، وليس بمذهب القدرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؟ فيقولون: الله تعالى ما قدر أفعال العباد. أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو الوسط، فإن الله تعالى قدر أفعال العباد، لكن لهذا الإنسان إرادة، وإرادته مربوطة بإرادة الله تعالى وبمشيئة الله سبحانه وتعالى. إذاً ليس في هذه الآية دليل للجبرية؛ لأن الإنسان له إرادة، فالله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] فله مشيئة، إلا أنها مربوطة بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله

الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله هنا يجيء مقطع جديد يوجب تحكيم شرع الله، وهل يصلح البشرية غير شرع الله؟ وهل تستقيم أمور الناس بشريعة غير شريعة الله؟ لا. أبداً، فالإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، ولا يمكن أن تستقر أحواله، والعالم لا يمكن أن يخضع لنظام غير شرع الله عز وجل، ولذلك نسمع الآن أخبار هذا العالم الذي قد أمسك بالزناد في كل بلاد العالم، لا يهدأ له بال، فوضى، واضطرابات، ومشاكل، ومصائب، وسلب ونهب، وقتل وجرائم، ولصوصية واغتصاب، وفساد وزنا، وسرقة، ما الذي حدث؟! الذي حدث أن هذا العالم أعرض عن شرع الله، والله تعالى يقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن شرع الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). إذاً لا بد أن تحكم الأئمة بشرع الله، وإذا حكمت الأئمة بشرع الله هدأت الأمور، واستقرت الأحوال، ولذلك بمقدار ما يطبق الناس من شرع الله يكون لهم نصيب من الأمن والاستقرار والهدوء، وبمقدار ما يعرضون عن شرع الله يكون الأمر من الفوضى والاضطرابات والمشاكل. نصيحة نوجهها لكل حاكم يحكم هذا العالم الإسلامي -بل العالم كله- أن يحكم بشرع الله عز وجل، وحينئذٍ يكون الأمن والاستقرار، والرخاء والطمأنينة، والهدوء والطاعة من الشعوب للقادة، بل لا يجوز لهذه الشعوب أن تخضع للقادة وهي تحكم بغير شرع الله، فالله تعالى أخبر بأن هؤلاء الذين يحكمون بغير شرع الله طواغيت، وأن الشعوب التي تستجيب لمن يحكم بغير شرع الله أيضاً هي طاغوت، فأي واحد من أفراد الشعب يعتبر طاغوتاً إذا تحاكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60]، الذي يحكم بغير شرع الله {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]. تضل الشعوب ضلالاً بعيداً إذا تحاكمت إلى غير شرع الله عز وجل، أما الطاغوت الذي يحكم بغير شرع الله تعالى فإنه هو الكافر المرتد، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وهنا ستجد قصة تحدث عنها القرآن تبين لماذا يعرض الإنسان عن شرع الله؟ إما أن يكون في قلبه مرض نفاق، أو يكون مرتاباً شاكاً بهذا الدين، أو يكون شاكاً بعدالة الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فلا يمكن أن يكون من يحكم بغير شرع الله إلا واحداً من هؤلاء الثلاثة، فمن يحكم بغير الشرع نقول له: أنت إما أن تكون مريض القلب منافقاً ما دام أنك تعرض عن شرع الله، وإما أن تكون مرتاباً شاكاً في هذا الدين أنه جاء من عند الله، وأن القرآن نزل من عند الله، وهذا هو الكفر الصريح، وإما أن تتهم الله تعالى بالحيف؛ لأن هذا حكم الله، فالله الذي حكم بين هؤلاء الناس، إذاً يحيف، أي: يميل مع بعضهم دون بعض فأنت إذاً ملحد مجرم في حق الله سبحانه وتعالى. والقصة لها سبب نزول، وهو أنه ذات يوم اختصم رجل يهودي مع رجل منافق، والمنافقون أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، المنافقون الذين يندسون في المجتمعات الإسلامية ويترهبنون مع المسلمين، ويتظاهرون بالدين، ويطعنون في الدين من الخلف أو من الأمام سراً أو علناً هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ما في الدنيا أخطر على الإسلام وعلى الدين من المنافقين، ولذلك ليس عجيباً أن يضعهم الله تعالى في الدرك الأسفل من النار، فاليهود والنصارى في النار، لكن هؤلاء في الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] أي: النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله. فهذا الرجل الذي يتظاهر بأنه رجل مسلم وأنه يحكم شرع الله ويتباكى على الإسلام، وإذا تحدث فكما قال الله عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] فإنه يؤكد ويقول: أنا صادق فيما أقول، ويشهد الله أني صادق فيما أقول. لكن قلبه فاسد وضد الإسلام {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]. فوجود هذا على وجه الأرض يسبب غضب الله، والذي يحدث من خلال غضبه أنه يهلك الحرث والنسل، إذاً المنافقون أخطر على الإسلام من غيرهم، ولو وجدناهم يتباكون على الإسلام ويتحدثون عنه ويقولون الخطب الرنانة التي يظهرون فيها أنهم مع الإسلام، وأنهم جنوده، لكن إذا كانوا يخفون في الباطن غير ذلك فإنها سريرة سوف يكشفها الله تعالى عما قريب؛ لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى. إذاً هؤلاء هم أخطر من يجب أن يخاف منه. فالمنافق اختصم مع يهودي، واختلفا في بئر أو أرض، فقال اليهودي: نحتكم إلى محمد. وهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكن يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم سوف يحكم له في هذه، فقال المنافق: نحتكم إلى كعب بن الأشرف. يهودي مجرم. اليهودي يحتكم إلى الإسلام والمنافق يريد أن يحتكم إلى كعب بن الأشرف الرجل اليهودي المشهور! فأنزل الله عز وجل هذه الآيات تبين كيف يعرض الناس عن شرع الله، لماذا؟ لأنهم يرون أن الحق عليهم، وأن الإسلام سوف يرد الحق إلى صاحبه وأهله، فالإسلام عادل، ولا يمكن أن يميل مع رجل ولو كان يتظاهر بالإسلام وليس مسلماً صحيحاً، أو هب أنه مسلم صحيح ضد رجل يهودي، فقد قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:105 - 107]. وهذه الآيات نزلت في شأن أناس كانوا يزعمون أنهم مسلمون، فسرقوا سرقة وألصقوا التهمة بغيرهم، لكن الإسلام لا يحيف مع أتباعه ضد أعدائه، الإسلام نظام حكم شامل لا يصلح الحياة إلا هو، فقام الذين يزعمون أنهم مسلمون بإلصاق التهمة بغيرهم، وجاء جماعة من قومهم يشهدون معهم، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم ضد المتهم، فهل تظن أن الله تعالى سوف يتركهم؟ لا، بل قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} [النساء:105 - 106] فقد أخطأت. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:109]. الإسلام لا يفرق بين هذا وهذا، الإسلام لا يفرق بين ملك وسوقة، الإسلام لا يعطي حاكماً أكثر مما يعطي محكوماً من شرع الله عز وجل، الناس في حكم الله سواسية. ويختصم علي بن أبي طالب ورجل يهودي ذات يوم، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. ورجل يهودي من فقراء اليهود، يفقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه في صفين، فيبحث عنه فيذكر له أنه عند يهودي، فيقول لليهودي: هذا درعي. فيقول اليهودي: بل هو درعي. فيحتكم الرجلان: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين الذي يحكم العالم الإسلامي كله مع رجل من فقراء اليهود دينه فاسد، ويجلسان أمام القاضي شريح، ويجلس القاضي شريح الاثنين جميعاً على كراسي الحكم؛ لأن الإسلام ليس فيه ملك ولا سوقة، فيقول شريح: ماذا عندك يا أبا الحسن؟ فيغضب علي حين قال له: أبا الحسن! لا يريد أن يعطيه لقباً أكثر من اليهودي، غضب حين أعطاه هذا اللقب دون أن يعطي اليهودي لقباً مثله. فيقول: ماذا عندك؟ فيقول: عندي هذا الدرع أخذه اليهودي. فيلتفت إلى اليهودي فيقول: الدرع لك يا يهودي أم لـ علي؟ فيقول: بل هو لي. فيلتفت إلى علي فيقول: أعندك بينة؟ فيقول: والله ما عندي بينة. فيقول: الدرع لليهودي. تصوروا العدل الذي قامت عليه دولة إسلامية امتدت من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً مدة طويلة من الزمن، إلى أن فسد هذا العدل وحصل فيه ما حصل، فيحكم بالدرع لليهودي ضد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ويقوم اليهودي والدرع معه، فيرجع اليهودي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فوجدته قد سقط منك. لماذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ لأنه رأى العدل في حكم الإسلام فلو حكم المسلمون اليوم بالعدل حقيقة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، فأندونيسيا سكانها مائة وخسمة وسبعون مليوناً، فيها الآن مائة وستون مليون مسلم، ما وصلهم داعية واحد في أول الإسلام، ولا وصلتهم جيوش إسلامية، وإنما وجدوا كيف يتعامل الإسلام مع الناس فدخلوا في الإسلام. إذاً قصة ا

قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم)

قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم) هذا حكم الله هو الذي لا يصلح البشرية إلا هو، ولذلك أولئك يعرضون عن حكم الله {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] لا يريدون شرع الله؛ لأنهم أصحاب شهوات، وأصحاب فساد، لأنهم لصوص الأرض لا يريدون أن تقطع يد السارق فيصل القطع إليهم في يوم من الأيام، لأنهم يهوون الزنا والفواحش، ولا يريدون أن يرجم الزاني أو يجلد؛ لأن الزنا ديدنهم وصفتهم، فلما فسدوا ظنوا سوءاً بحكم الله عز وجل. (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ومتى يرجعون إلى شرع الله؟ إذا كان الحق لهم، ولذلك اليهودي رضي بشرع الله؛ لأنه يعرف أن الحق له في شرع الله، والمنافق رفض حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد حكم كعب بن الأشرف؛ لأنه يعرف أن عند كعب بن الأشرف حكماً غير حكم الله، أي: لن يعطي صاحب الحق حقه، هذا هو السر في إعراضهم عن شرع الله. لكن تصور -يا أخي- لو كانوا يعرفون أن الحق لهم! فلو عرفوا أن الحق لهم لرجعوا إليه مذعنين، والآن يسود العالم دندنة تقول: لابد من التزام حقوق الإنسان، ولا تقتلوا الإنسان، لا تقتلوا القاتل، ولا تقطعوا يد السارق، إنها جريمة فاحشة وحكم شنيع. ولو واحداً منهم أراد أن يحكم -ولا يستطيع أن يحكم إلا على الجماجم والأشلاء والدماء- لأباد هذا العالم كله ليحكم، وهو الذي يقول بالأمس: القتل وحشية وإراقة الدماء وحشية فلو أراد أن يحكم ورأى أنه لا يحكم إلا بأن يقتل ولو ثلاثين ألفاً من مدينة واحدة من أجل أن يثبت ملكه ليحولها -كما يقال- إلى مزارع للبقدونس لنفذ ذلك الحكم، لكن قتل مجرم واحد يرى أنه وحشية وجريمة.

قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)

قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) ما سبق ذكره هو الواقع، فأكبر دولة تتبنى الآن حقوق الإنسان وترى أن قتل الإنسان وحشية هي أمريكا كما نعرف، وأمريكا قتلت في ساعة واحدة ثمانين ألفاً في قنبلة ذرية ألقتها في اليابان، قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إنسان يريد أن يحكم وأن يثبت عرشه الذي يهتز من تحته يمكن أن يجعل أودية من الدماء تسيل، كما كان هتلر يقول: سأسلم الأرض لله فارغة كما خلقها فارغة. هذه كانت من مقالاته، يقول: لا أسلم الأرض لله إلا وهي فارغة من بني آدم. لأنه يريد أن يحكم، وهذه طبيعة البشر، لكن قتل واحد مجرم يرون أنه جريمة وفاحشة وشنيعة. ومع الأسف فهناك دولة إسلامية عربية كان من قوانينها: (تجنب الحدود البشعة) بهذا اللفظ، وهذا هو القانون السائد الآن، فقتل الإنسان عندهم جريمة، وإذا كان قد أجرم في نظرهم فقتله في نظرهم جريمة، لكن إذا أرادوا أن يحكموا أرضاً من أرض الله بقوة الحديد والنار والطغيان فيمكن أن تسيل الأرض دماءً ولا يبالون، ويمكن أن يقتلوا آلاف البشر ولا يبالون، في سبيل أن تثبت هذه العروش التي تهتز من تحتهم. فذلك هو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] يعني: الذين يرفضون حكم الله إذا كان لمصلحتهم ورأوا أن الحق لهم وأنه يخدم مصالحهم يأتون إلى حكم الله مذعنين. فالذين يرون أن قطع يد السارق وحشية، وقتل القاتل وحشية يأتون إلى القتل مذعنين حينما يريدون أن يثبتوا ملكهم في هذه الأرض، وهذه قاعدة مطردة لا تتخلف دائماً وأبداً، ولذلك الله تعالى يقول: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ} [النور:49] أي: في قتل هذا الإنسان أو في حكم الله {يَأْتُوا إِلَيْهِ} [النور:49] يعني: إلى حكم الله (مذعنين) أي: منقادين لمصالحهم الخاصة، ما هو السر في ذلك؟ السر أحد ثلاثة أشياء: قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمْ ارْتَابُوا) عندهم شك في الله وفي حكم الله، كل هذا لا شك أنه موجود فيهم (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وهو موجود، فهم -أيضاً- يخافون أن يحيف الله عليهم؛ لأنهم ما يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وإن آمنوا بالله فإيمانهم ضعيف، فهم يظنون في أنفسهم أن الله يحيف عليهم حينما يأخذ الحق من هذا لهذا، وحينما يُقتل هذا، وحينما يأمر بقطع يد هذا، أو حينما يأمر بسجن هذا، يعتبرونه حيفاً من الله عز وجل، فهذه أحد أمور ثلاثة، وكلها موجودة فيهم. و A ( بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالذي حدث أنهم ظالمون لأنفسهم وللشعوب وللأمم، ولذلك أعرضوا عن شرع الله عز وجل بسبب ظلمهم. إذاً ما هو موقف المؤمن أمام شرع الله وإذا دعي إلى شرع الله؟ يقول: سمعت وأطعت، يجب على كل أحد من المسلمين إذا قيل له: تذهب إلى شرع الله، إلى المحكمة، إلى القاضي الشرعي أن يقول: سمعنا وأطعنا. فهذا هو موقف المؤمن في مثل هذه الحالة.

قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين)

قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين) (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) (قول) هنا خبر كان، واسمها مصدر مؤول متأخر. فالمسلم إذا دعي إلى شرع الله يجب أن يستجيب، ولا يجوز له أن يتأخر أو أن يبحث عن شرع غير شرع الله، وإذا دعي إلى قوانين البشر وآراء الرجال أو أن يحكم فيه بغير شرع الله فعليه أن يرفض، وتعتبر استجابته لغير شرع الله خطراً عظيماً عليه، وتعتبر استجابته لله أمراً مطلوباً. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) يقولونه بألسنتهم وأفعالهم، يعني: يستجيبون لشرع الله. (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين يقولون: سمعنا وأطعنا مستجيبين لشرع الله.

قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله)

قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله) (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا هو جزاء الذين يتحاكمون إلى شرع الله ويحكمون بشرع الله، ويرفضون كل شرع ونظام غير شرع الله ويخالف شرع الله. (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ) الخشية: هي شدة الخوف وأعظمه. هذه الخشية هي التي يجب أن يمتلئ بها قلب المؤمن (ويتقه) أي: يتق الله عز وجل (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) أي: هؤلاء هم الذين يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة. بل -والله- يفوزون بسعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، فالعالم الذي يستجيب لشرع الله ويتحاكم إلى شرع الله هو الذي يسوده الأمن والهدوء والطمأنينة، وانظر إلى بلادنا -والحمد لله- فبمقدار ما تطبق من شرع الله يكون لها الأمن والطمأنينة، ويتخطف العالم من حولنا، ونسأل الله الثبات على شرع الله، وأن نموت على شرع الله وعلى ملة الإسلام. وهذا بالنسبة لفوز الدنيا، أما فوز الآخرة فإنه الجنة التي أعدها الله عز وجل لمن تحاكم وحكم بشرع الله. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا)

قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا) يقول الله تعالى عن المنافقين: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] دائماً المنافقون عندهم كلام ولا يوجد فعل حقيقة، ما عندهم اعتقاد صادق وإنما قول فقط؛ لأن إيمانهم قول لا يعدو اللسان، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} [النور:47] كل من لم يحكّم شرع الله ويخضع لدين الله ولو كان يهز المنبر بمواعظه نقول له: أنت قائل ولست بفاعل (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) والأحداث هي التي تكشف هؤلاء المنافقين. (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد هذا القول (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ما هم صادقون في الإيمان، لو كان الإيمان موجوداً حقيقة لظهر على الجوارح، ولظهر على التصرفات، ولظهر على الحياة، لو كان هؤلاء مؤمنون حقاً ما كانت الحياة بهذا الشكل. إذاً إيمانهم مزعوم، وقلوبهم فاسدة، هذا الإيمان قول وليس بحقيقة، يقول الله تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ليسوا مؤمنين حقاً، ما هو الدليل؟ الدليل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] فكما أعرض ذلك المنافق يعرض المنافقون دائماً عن شرع الله، والآن تسود العالم ضجة كبرى تقول: شرع الله لا يصلح للحياة، يصلح في عصر الخيمة والبعير والأمور البسيطة، لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبات الفضائية إلى غير ذلك! يقولون: تطورت العقلية الإنسانية. فهذا هو رأي العلمانيين الفجرة، أنه لا يصلح هذا الدين للحياة، يصلح للمسجد صيام رمضان وحج ونحو ذلك، ولذلك الله تعالى يبين أن هؤلاء المنافقين لا ينكشفون إلا عند الأمور الحساسة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، ولذلك يقولون: قطع يد السارق وحشية، أنقطع يد سارق لنترك رجلاً عالة في المجتمع بدون يد؟! أنرجم الزاني من أجل شهوة بسيطة في دقائق نقضي على حياته؟! أنقتل القاتل ونضيف إلى مقتول مقتولاً آخر ليصبحا اثنين؟! نكتفي بالمقتول الأول ويكفي هكذا عقولهم تقول لهم، ونسوا أن الزاني يفسد المجتمع، وأن السارق يهدد الأمن، وأن القاتل يهدد الناس في دمائهم، وأننا لو تركنا القاتل يقتل دون أن نأخذ منه القصاص لتركنا فتنة في الأرض، ولربما تكون حرباً مدمرة بين قبيلتين بسبب دمٍ واحد، أو نترك ذلك القاتل يقتل من شاء متى شاء؟!

الوعد الحق

الوعد الحق لقد وعد الله تعالى ووعده حق، وقوله صدق، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وعد عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض، والتمكين لهذا الدين، وإبدال الخوف أمناً، وذلك إذا أقاموا دينه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فإن تخلفوا عن ذلك فليس لهم عند الله من ميثاق ولا عهد ولا وعد.

شروط التمكين في الأرض

شروط التمكين في الأرض الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا في سلسلة آيات سورة النور نتحدث عن بعض أسرار هذه السورة العظيمة التي أعطاها الله عز وجل عناية وميزة فقال في مطلعها عز من قائل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]. وحديثنا عن قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:55 - 57]. أيها الأخ الكريم! نحن نعرف يقيناً بأن الله عز وجل خالق هذه البرية وهذا العالم، وهو الذي يعلم أسراره ويعلم ما يصلح شئونه وما يفسده، ولذلك فإن خبره عز وجل صدق كما أن حكمه عدل، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ثم جرت سنة الله عز وجل في هذه الحياة أن يضع لها نواميس وأنظمة، ويدور بقاء هذه البشرية ونهايتها حول أسباب البقاء وأسباب النهاية. يقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34] وكما أن للأفراد آجالاً فإن للأمم آجالاً أيضاً، فالله عز وجل قد يبسط الدنيا لأمة وييسر لها وسائل البقاء والتطور والتقدم، ولكن الله عز وجل يطالبها بمقدار ما يعطيها من وسائل البسط والبقاء أن تستقيم على شرع الله، وأن تلتزم منهجه، ويضع للاستخلاف والبقاء أسباباً ونواميس، فإذا أخذت الأمة بهذه الأسباب فإن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولكنها حينما تأخذ بهذه الأسباب ثم تتخلف عنها في يوم من الأيام فإن الله عز وجل لا يغيروا ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ولذلك سوف تجد في آية الاستخلاف والتمكين والأمن والطمأنينة {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وهذا وعيد، والوصف بالفسق لا يعني ذلك أن الأمر يقف عند فسق ثم ينتهي الأمر، فإن لله محارم ولله عز وجل غيرة، فإذا تجرأت هذه الأمة على محارم الله فإن الله عز وجل لها بالمرصاد. أيها الأخ الكريم! يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55]، فنجد أن هذه الآية اشترطت أربعة شروط، ثم وعد الله عز وجل هذه الأمة إذا وفت بهذه الشروط أن تتحقق لها ثلاثة أمور مهمة تسعى إليها كل الأمم، فجميع الأمم التي تخوض الحروب العالمية الدامية بما في ذلك الحربان العالميتان اللتان أفنتا عشرات الملايين من البشر، واللتان دمرتا جزءاً كبيراً من الكرة الأرضية الهدف من وراءها البحث عن الاستخلاف في الأرض، والبحث عن تمكين دين أياً كان هذا الدين، أو معتقد أياً كان هذا المعتقد، والبحث عن الأمن والطمأنينة، ولكن الذي خاض كيد الحربين العالميتين لم يستطع أن يحقق الأمن والطمأنينة لنفسه فضلاً أن يحققهما للعالم، وإن كان قد حصل على شيء من المكاسب لكنه لم يستطع بعد ذلك أن تبقى حضارته آمنة مطمئنة؛ لأن الشروط غير متوافرة، فالشروط أربعة، وهي قوله تعالى: (آمنوا منكم) وكأن الخطاب موجه بصفة خاصة للأمة الإسلامية؛ لأن الضمير يعود إلى الأمة الإسلامية، وقوله: (وعملوا الصالحات) وقوله: (يعبدونني) وقوله: (لا يشركون بي شيئاً) فهذه أربعة شروط لا بد أن يعيها هؤلاء الناس حتى يلتزموا بها التزاماً كاملاً، وحتى يقيموها في حياتهم اليومية دائماً وأبداً، لا يغفلوا عنها ساعة من الزمن، وحينئذ سوف يتحقق ذلك الوعد، وقد تحقق ذلك الوعد يوم طبقت الأمة الإسلامية هذه الشروط الأربعة في عصرها الذهبي في عهد سلفنا السلف ورعيلنا الأول.

الإيمان

الإيمان الإيمان معناه: التصديق الجازم، التصديق بوجود الله عز وجل أولاً، فلا يصل إلى قلب أحد شك في وجود الله عز وجل، وكيف يصل إلى قلب أحد من الناس الشك وهو الذي يرى آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس؟! قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] هذه الآيات التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون ينظر إليها الإنسان ليلاً ونهاراً، ينظر إليها في كل لحظة، يرفع بصره إلى السماء فيرى هذه الكواكب العظيمة وهي تجري إلى أجل مسمى، وينظر إلى الشمس والقمر وهما يجريان إلى أجل مسمى، ثم ينظر إلى الأرض فيرى قدرة الخالق سبحانه وتعالى، ثم ينظر إلى نفسه {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فيخرج من ذلك بنتيجة وهي وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته في هذا الكون؛ لأن هذه الوحدانية تبرز في قدرة الصانع سبحانه وتعالى وفي انتظام هذا الكون الرتيب، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ولذلك فإن الإيمان فطرة، وكل ما في هذا الكون يحرس هذه الفطرة، والانحراف خروج عن الفطرة، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: ثم انحرفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] وهذه الفطرة هي صبغة الله عز وجل التي يقول عنها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] هذه الفطرة -فطرة الإيمان بوجود الخالق سبحانه وتعالى وقدرته ووحدانيته- فطرة خلقت مع الإنسان، فقد قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] بماذا؟! قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، وفي معنى هذا الآية الكريمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قد استخرج ذرية آدم من ظهره يوم خلقه كالذر، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأخذ سبحانه وتعالى قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي. وأخذ قبضة أخرى فقال: هذه إلى الجنة). إذاً هي فطرة فطر عليها هذا الإنسان، ولكن هذه الفطرة -أي: فطرة الإيمان- تتعرض في كثير من الأحيان لأمور خارجية تؤثر فيها، ولعل من أبرز هذه الأمور الخارجية دعاة الضلال الذين نذروا أنفسهم لحرف أبناء الفطرة عن الفطرة، ولكن هذه الفطرة ما زالت موجودة، وأي فطرة يوجد فيها إنكار هذه الفطرة فإنما هو لأسباب ودوافع، فإذا كان فرعون يقول للملأ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ويخرج على هذه الفطرة فإن نواياه السيئة تنكشف في قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ويزيد هذا الانكشاف وضوحاً حينما أدركه الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] وعلى هذه تأكدنا من أن الفطرة ما زالت موجودة، وأن هدف فرعون إنما يريد من خلال ذلك أن يستعبد هذا العالم، وهكذا كل من يريد أن يستعبد هذا العالم لا بد أن يخرج على هذه الفطرة؛ لأن هذه الفطرة لا تمكن لطاغية من الطغاة أو لجبار من الجبارين أن يسود هذا العالم إلا بمقدار ما يحول بين هؤلاء الناس وهذه الفطرة، ولذلك تجد أن الشيوعية التي كادت أن تكتسح جزءاً كبيراً من العالم مدة من الزمن كان هدفها الاستيلاء على العالم، واستعباد بني البشر، ولا يمكن لأمة أن تستعبد البشر إلا حينما تحول بينه وبين هذه الفطرة، حتى إذا يئسوا من هذا الهدف أظهرت الشيوعية إفلاسها. فالمهم هو الشرط الأول، وهو الإيمان، وهذا الإيمان له مفهومان: المفهوم الأول: مجرد التصديق، وهذا لا يكفي لحياة الرجل المؤمن، فإن مجرد التصديق تعتريه كثير من الأحداث والأخطار التي تهزه هزاً، ولربما يتجرد هذا الإنسان من إيمانه بسبب هزة بسيطة أو هزة عنيفة، ولذلك الله تعالى ذكر من هذا الإيمان أنواعاً: فقال عن نوع منه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:8 - 9]. وذكر نوعاً آخر من هذا الإيمان الصادق في بادئ الأمر، لكنه غير ثابت ولا مستقر؛ لأنه لم يصل إلى سويداء القلوب؛ ولأن الأحداث لم تفتنه بعد، ولأنه لم يصب بهزة من الهزات، ولكنه سرعان ما يصاب بهزة يتأثر بها هذا الإيمان؛ لأنه لم يكن عن تفكير وبحث وروية، وإنما كان عن تقليد أو إرث من الآباء والأجداد أو إرث من البيئة، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا النوع من الإيمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] هذا الإيمان الذي يريد صاحبه أن يأخذ ما سهل ولان ويترك ما شق وصعب، ففي أيام الرخاء يقول: إنه مؤمن. لكن حينما تغرقه الشدائد ينهار كما ينهار بيت العنكبوت، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]. وهناك إيمان كالجبال، وهناك إيمان أقوى من الجبال لا يتزحزح عن موقعه ولا يتأثر بما يحيط به. فالإيمان الحقيقي الصادق شرط للاستخلاف، لا نريد أن يكون كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: (إن كان الحق معي فأنا أكسب الموقف، وإن كان الحق مع غيري فأنا لم أخسر شيئاً) ولكننا نريد إيماناً كإيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي ألقي في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟! فيقول في ساعة الصفر: (أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم)، كإيمان إبراهيم الذي يقول لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فيقول الابن الصالح المؤمن: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102 - 103] وانتهى الأمر وجاء الفرج من عند الله عز وجل. نريد إيماناً كإيمان موسى عليه الصلاة والسلام الذي يقول له بنو إسرائيل وقد استقبل البحر: يا موسى! العدو من ورائنا والبحر من أمامنا، أين المفر؟! فيقول بكل رباطة جأش: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] هذا الإيمان الذي لا يرهبه تهديد طاغية ولا ظلم طاغوت، إيمان كإيمان السحرة الذين كانوا يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فإذا بهم يرون أن عزة فرعون لا تحميهم من عذاب الله عز وجل، ويرون أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام ليس سحراً، ولكنها آية كبرى جاء بها من عند الله، وحينئذ يخرون لله عز وجل ساجدين، ولم يفعلوا من دينهم إلا سجدة واحدة، ثم يأتي دور تهديد الطغيان في الأرض الذي يشعر بالنشوة، فيقول لهؤلاء المؤمنين الذي رأوا الآيات بأمهات أعينهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] فماذا قال السحرة؟ قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] فأنت لك الجسد لكنك لا تستطيع أن تصل إلى الروح! ويمكن أن تعذب في الحياة الدنيا لكنك لا تستطيع أن تعذب في الحياة الآخرة، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] و (ما) هنا من ألفاظ العموم، أي: كل ما تريد أن تفعله افعله في هذه الأجسام. {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:73 - 75] هذا الكلام يقوله سحرة جاء بهم فرعون من أقصى المدائن، وجمعهم من شتى أقطار مصر من أجل أن يقفوا أمام آية من آيات الله، وكانوا يظنون في بادئ الأمر أن فرعون صادق، وأن موسى كاذب، لكنهم حينما رأوا الآيات بأمهات أعينهم قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] لكن هذا الإيمان أين يولد؟ وأين يوجد؟ في التفكير في عظمة الله عز وجل، ولذلك تجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يستسلم للإلقاء في نار الدنيا هروباً من نار الآخرة وهو على ثقة بأن الله عز وجل سوف يدافع عنه هو ذلك الذي يبحث عن الله، وما كان يشك في الله، وإنما كان يريد أن يعلم الناس من الذي يستحق أن يعبد، أهو الكوكب؟ لا يصلح الكوكب؛ لأنه لا يحب الآفلين، ولأن الكوكب أفل، أهو القمر؟ إن القمر لا يصلح. أ

العمل الصالح

العمل الصالح الشرط الثاني: العمل الصالح، ولا يمكن لإيمان أن يقوم بدوره وأن يؤدي مهمته إلا إذا اقترن بعمل صالح، وإذا كان الإيمان هو الشجرة فإن العمل الصالح هو ثمرة تلك الشجرة، ولذلك فإن العمل الصالح لا بد منه مع الإيمان في حياة هذا الإنسان، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يحقق هذا الإيمان القلبي بعمل صالح يظهر على الجوارح، ويكذب من يزعم أن التقوى في صدره ويشير إلى قلبه العفن وليس فيه من الإيمان حبة خردل، وجوارحه قد تجردت من الأعمال الصالحة، ولذلك فإن الأعمال الصالحة هي مصداق ذلك العمل، فالإيمان اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل بالجوارح، ولذلك فإن عمل الصالحات شرط من شروط الاستخلاف في الأرض أياً كانت هذه الصالحات، سواءٌ أكانت أداء الواجبات من الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والإحسان إلى الفقراء إلى غير ذلك، أم كانت في ترك المنكرات وما حرم الله عز وجل من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ذلك داخل في عمل الصالحات، فإذاً لابد من عمل الصالحات، وهو شرط آخر.

العبودية الخالصة لله عز وجل

العبودية الخالصة لله عز وجل الشرط الثالث: (يعبدونني)، والعبودية لله معناها الخضوع التام لله سبحانه وتعالى، ومعناها الإعراض عن غير الله عز وجل والإقبال عليه سبحانه وتعالى وحده، ومعناها الإعراض عن أي شرع وأي نظام يتنافى مع شرع الله، والإقبال على شرع الله عز وجل وحده وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة من أمور الناس، هي العبودية التي عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه حينما أرسل إلى بلاد الفرس فقال له رستم: ما جاء بكم أيها العرب؟ فقال له: (إن الله عز وجل قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده). إذاً العبودية شرط من شروط التمكين، ولكن هذه العبودية إما أن تكون لله عز وجل وإما أن تكون لغير الله، فتكون لله سبحانه وتعالى إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة، وإذا أعرض عن عبوديته لله عز وجل فلا بد من أن يكون عبداً لشيء آخر. فإما أن يكون عبداً للشيطان يتبعه ويتبع خطواته، وقد حذره الله عز وجل حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. أو يكون عبداً للدرهم والدينار، ومعنى كونه عبداً للدرهم والدينار أن يقدم جمع المال على حب الله عز وجل والدار الآخرة، فيكسب المال من الحلال والحرام، يشترى ضميره ودينه بثمن بخس، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77] إذا عرضت عليه زينة الحياة الدنيا وسعادة الحياة الآخرة اختار زينة الحياة الدنيا على سعادة الحياة الآخرة، إذا عرضت عليه الرشوة، وإذا عرض عليه المنصب تجده عبداً لهذا الأمر وينسى عبوديته لله عز وجل، وقد يكون عبداً للمركز والوظيفة، وقد يكون عبداً للهوى، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقد يكون عبداً لغير ذلك، لكنه يتحرر من كل هذه العبوديات حينما يتعلق بالعبودية لله عز وجل، وبمقدار ما يتجرد من عبودية الله يسقط في عبودية البشر، وبمقدار ما يتعلق بعبوديته لله عز وجل يبتعد عن عبودية البشر أياً كان هذا البشر، هذه العبودية التي تزيد الإنسان شرفاً وعزة وكرامة يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه فيقول عن العبودية لله: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا إذاً هذه العبودية يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه بأنها علو، وبأنها مكانة عالية، حتى يقول: لقد كدت أن أطأ الثريا بأقدامي حينما أكون عبداً لك يا رب، وحينما أدخل في نبوة وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأكون من أمة الإجابة. هذه العبودية قد يفقدها بعض الناس فيشعر بالذلة والمهانة، ويشعر بالضعف والهوان حتى يدخل في هذه العبودية، يروي لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الصالح الذي كان فاسقاً لا يعرف معنى العبودية من الحرية، ومكث على هذا مدة طويلة من الزمن، حتى هداه الله فعرف معنى العبودية، فيروي المؤرخون أن بشراً المسمى بـ بشر الحافي كان شاباً فاسقاً طائشاً ذا فساد عريض في الأرض، وكان من أبناء الذين امتحنهم الله عز وجل بالمال الوفير والنسب العريق، فقضى مدة طويلة من شبابه في فسق ولهو، لم يترك جانباً -كما يروي عن نفسه- من جوانب الفسق إلا وقد أخذ منه بنصيب، فأراد الله عز وجل له الهداية، فمر ذات ليلة بداره الرجل الصالح المشهور إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه، فتمزق قلب هذا الرجل الصالح حينما رأى الرقص والغناء واللهو والموسيقى وكئوس الخمور تدار في بيت بشر، فوقف عند الباب وطرقه، ففتحت له إحدى الراقصات القينات فقال: بالله أخبريني هذا بيت من؟ قالت: هذا بيت بشر. قال: أخبريني بالله أحر هو أم عبد؟ قالت: هو حر. قال: قولي له إن كان حراً فليفعل ما يشاء. ثم انصرف، فانتبه بشر فسأل المرأة: من عند الباب؟ قالت: رجل. وذكرت صفته، قال: ماذا قال؟ قالت: سألني حر أنت أم عبد؟ فقال: ماذا قلت له؟ فقالت: قلت له: أنك حر. قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء. وانصرف، فمشى حافياً لأول مرة وهو من أبناء الأشراف، ولحق بـ إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما، فقال: قف يا رجل. ماذا تقول؟! قال: يا بشر! سألت: أحر أنت أم عبد؟ فأخبروني أنك حر، فإن كنت -يا بشر - حراً فافعل ما تشاء. قال: يا رجل! ويحك ماذا تقول -بدأ الرجل ينتبه ويعرف معنى الحرية والعبودية-؟ قال: لم أزد على ذلك أبداً، قال: ويحك ماذا تقول؟ قال: يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فهذه ليست صفة العبيد. قال: والله إني لعبد، والله إني لعبد، والله إني لعبد. ويضرب برجله الأرض، ويعود بشر ليكسر زجاجات الخمر، ويخرج الراقصات والغانيات، ويعاهد الله عز وجل على التوبة وتحقيق معنى العبودية، ليصبح في يوم من الأيام مضرب المثل في الورع والزهد والتقوى، حتى إن ذكر بشر الحافي تغلب بعد ذلك على ذكر إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما أجمعين، هذه هي العبودية والرق لله عز وجل، وتلك الحرية التي ينادى بها اليوم هي التفلت من القيود التي وضعها الله عز وجل لهؤلاء البشر حتى يكونوا عباداً لله سبحانه وتعالى. فالعبودية هي التي تكسب الإنسان شرفاً، وتزيده الدرجات العلى في الدنيا والآخرة، ورفض الشهوات والإقبال على الله عز وجل، وعدم الميل إلى زينة الحياة الدنيا ميلاً يضيع على الإنسان سعادة الحياة الآخرة الخالدة.

ترك الشرك بالله

ترك الشرك بالله الشرط الرابع: قال تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. والشرك بالله عز وجل معناه صرف نوع من العبادة لغير الله. أي: أن تصرف نوعاً من أنواع العبادة أياً كان هذا النوع رجاءً أو خوفاً، أو طاعةً أو استعانة، أو استغاثة أو دعاء أو ما أشبه ذلك فتعطيه مخلوقاً من المخلوقين لا يقدر على فعل شيء من ذلك، أو تصرف نوعاً من الخوف بحيث يصبح خوف البشر أكثر في قلبك من خوف الله عز وجل، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] وهذا النوع من الشرك ما زال موجوداً وكثيراً في قلوب كثير من الناس، ولربما يصل إلى الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في نار جهنم، ولذلك الله تعالى لم يقل: لا يشركون بي. وإنما قال: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] وكلمة (شيء) -كما يقول علماء اللغة- نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء من هذه الأشياء أياً كان هذا الشرك، وقد دخل النار رجل في ذباب، قيل له: قرِّب. قال: وما أقرب؟ قيل: قرِّب ولو ذباباً. فقرب ذباباً فدخل النار، فلا تعجب حينئذ من كلمة (شيئاً). ولذلك فإن الشرك قد يخدع هذا الإنسان فلا يحيط به إلا من نور الله عز وجل بصيرته، والشرك أكبر طريق يخلد الناس في نار جهنم -نعوذ بالله-، فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، سواء أكان شرك الأحياء أم شرك الأموات. ولربما يقول قائل: إن الشرك انتهى يوم فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فتساقطت الأصنام تحت أقدامه صلى الله عليه وسلم. ولكننا نقول: رغم أن الأوثان قد كسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة يوم الفتح فإن الإحصائيات تقول: إن في العالم الإسلامي عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله. وأكبر نسبة وصلت إليها الأوثان في آخر أيام الشرك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وستون وثلاثمائة صنم تعبد من دون الله، وفي أيامنا -كما تقول الإحصائيات- عشرون ألف ضريح تعبد من دون الله، وهذه الإحصائية مضى عليها سنوات، فتأكد بأنها زادت زيادة واضحة، وإن من يخرج من حدود بلاد الحرمين التي حماها الله عز وجل وحرسها بدعوة سلفية مباركة يرى الشرك الأكبر على أشده في جل العالم الإسلامي، ينحني البشر لغير الله، ويركعون ويسجدون لقبور وأضرحة، ويطوفون حولها، يذرفون من الدموع أكثر مما يذرفه المؤمنون حول الكعبة المشرفة، وطواف ليلاً ونهاراً، وذبح ونذر لغير الله عز وجل، ولكن ربما يقول قائل: إن هذه المعتقدات ربما تفنى في عصر العلم. لكنها ما زالت باقية، ولربما كان هناك مصالح تفرض على كثير من طغاة البشر أن يحتفظوا بهذه الأوثان التي تعبد من دون الله؛ لأنها تخدر الشعوب، ولأنها تجمد العقول، ولأنها لا توجد عباداً يطالبون بالإسلام الحق، ولذلك فإنها تجد رواجاً وتشجيعاً في كثير من العالم الإسلامي. ولكن تعال -يا أخي- إلى شرك الأحياء، كم يعبد من الأحياء من دون الله عز وجل؟! كم من المقننين والمشرعين وأصحاب الأهواء وصانعي الأنظمة من يعبد من دون الله عز وجل في أيامنا الحاضرة! ولذلك يندر أن تجد في العالم الإسلامي بقعة تطبق شرع الله، وإنما تطبق قوانين البشر وآراء الرجال، ولذلك فإن هذا نوع من الشرك، ولما قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] قال عدي: يا رسول الله! والله ما كنا نعبدهم. قال: ()، ولذلك فإن أي أمة تحكم قوانين البشر وآراء الرجال، وتحني رأسها وتخضع لهذه الأنظمة من دون شرع الله عز وجل فهي أمة لها نصيب من الشرك، ولذلك الله تعالى اعتبر هذه الأمة تزعم الإيمان زعماً، وليس عندها إيمان حقيقي ما دامت تخضع لغير شرع الله عز وجل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61] يريدون هذه القوانين. أما صانعوا هذه القوانين والذين يفرضونها على المجتمعات الإسلامية ويقسرون المجتمعات الإسلامية عليها قسراً فهم أصحاب الردة الواضحة، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ولذلك لا تعجب حينما ترى الذين يتهمون شرع الله بالتخلف والوحشية والرجعية والشدة والقسوة، لا تعجب حينما تراهم يعرضون عن شرع الله، وحينما يرون عروشهم تهتز من تحتهم فيقتلون الآلاف بل عشرات الآلاف من البشر، ولربما يقتلون الملايين كما فعلت الشيوعية في أفغانستان، لا تعجب حينما ينتقدون القصاص أو قتل النفس التي يزعمون أن قتلها قوداً وحشية ويغتاظون من إقامة حدود الله سبحانه وتعالى بشرعية القصاص الذي فيه حياة الأمم، لا تعجب حينما تراهم يقتلون آلاف البشر من أجل مصالحهم، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50] وهذا هو الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي إلا ما شاء الله. إذاً الشرك ليس معناه فقط الركوع والسجود لصنم من الأصنام، وإن كان هذا قد ملأ سمع الدنيا وبصرها، لكن شرك الأحياء، والخوف من غير الله عز وجل، والخضوع لغير الله سبحان وتعالى، والرجوع من منتصف الطريق خوفاً من البشر يعتبر نوعاً من الشرك الذي هو من أخطر أنواع الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولذلك الله تعالى يقول عن الشرط الرابع: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

جزاء من توافرت فيهم شروط التمكين

جزاء من توافرت فيهم شروط التمكين الجزاء لأولئك العاملين ثلاثة أمور، كل واحد منها يرتبط بما قبله: استخلاف في الأرض، ويترتب على الاستخلاف في الأرض تمكين هذا الدين، ويترتب على تمكين الدين من نفوس البشر الطمأنينة والأمن في هذه الحياة. ثلاثة أمور كل واحد منها يترتب على الآخر.

الاستخلاف في الأرض

الاستخلاف في الأرض إذا صدقت الأمة جاء الاستخلاف في الأرض، وما معنى الاستخلاف؟ معناه: أن تكون الخلافة بيد الصالحين، وأن تكون قيادة الأمة الإسلامية بأيدي خيارها الذين يحكمون بين الناس بالعدل، والذين لا يحكمون إلا شرع الله سبحانه وتعالى في كل أمورهم صغيرها وكبيرها، والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ينقادون لشرع الله سبحانه وتعالى في أي حال من الأحوال، وعلى أي أحد من الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فالذين يصدقون مع الله يعطيهم الله عز وجل الاستخلاف في الأرض والسلطة، وحينما يأخذون هذا الاستخلاف لا يعتبرونه منطلق ظلم وطغيان أو تكبر، وإنما يعتبرونه منة من الله عز وجل وعبئاً ثقيلاً تحملوه، ويسألون الله عز وجل العون على تحمل هذه المسئولية، فهي أمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] يعتبرونها أمانة وعبئاً ثقيلاً. وأبو بكر رضي الله عنه يعلم هؤلاء القادة وحكام العالم الإسلامي ما مدى مسئولية السلطة فيقول: (ألا إني وليت عليكم ولست خيراً من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) هذا هو الاستخلاف في الأرض، ليس الخليفة خيراً من واحد من رعيته عند الله عز وجل، وإنما الفضل والميزان بالتقوى، لكنه حمل ثقيل، فـ أبو بكر يقول: (ولكني أثقلكم حملاً) ويقول بعد ذلك: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). ويوضح ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر يخضع لأمر الله ويقول للمسلمين أمامه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) ولا يغضب حينما قال له رجل: يا أمير المؤمنين -ويشهر سيفه في المسجد-! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا هذه. فيقول: (الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بسيفه لو انحرف) هذا هو الرجوع إلى الحق، وهذا هو الاستخلاف في الأرض، يحكم بين الناس بالعدل، ولذلك فمن أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة إمام عادل في نفسه وحكمه، وبين الرعية، وبينه وبين الرعية سواء، ولذلك فالاستخلاف في الأرض هو للصالحين من خلق الله، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. وإذا رأيت الاستخلاف في الأرض بيد غير أصحابه الشرعيين فاعلم أن هناك عدم وفاء بشرط من الشروط السابقة، وهذا هو ما يقع في أكثر العالم الإسلامي، أنه وسد الأمر إلى غير أهله كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (وسد) أي: أصبح أمر المسلمين كالوسادة يعتمد عليه الإنسان ويتمتع به كما يعتمد المتوسد على وسادته، حينما يعتمد عليها ويتمتع بها، وبدلاً من أن يكون مسئولية وعبئاً ثقيلاً كما يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) يصبح وسادة لينة رقيقة يعتمد عليها صاحب الأمر، وهذا هو ما يحدث في أكثر بلدان العالم الإسلامي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). إن الأمر إذا كان بأيدي غير صالحي البشر من خلق الله عز وجل، وكان بأيدي أناس لا يحكمون بشرع الله، ولا يعدلون في الرعية، ولا يخافون في هذه الأمة الله عز وجل يصبح الأمر خطيرا، وحينئذ فقد الاستخلاف في الأرض إذا كان بهذا الشكل في تلك المنطقة التي أصبح الأمر فيها بأيدي غير أصحابه الشرعيين. فالاستخلاف في الأرض معناه الحكم بحكم الله عز وجل، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، فإذا تم الاستخلاف في الأرض، وسارت الأمور على طبيعتها، وأصبح أمر المسلمين بأيدي أهله الشرعيين الحاكمين بشرع الله فحينئذ يتمكن الدين، بل ويطالب الذين استخلفهم الله عز وجل في الأرض أن يتخذوا من هذا الاستخلاف منطلقاً للحفاظ على هذا الدين، ولذلك قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] من الأمم الذين ساروا على شرع الله.

التمكين للدين في الأرض

التمكين للدين في الأرض قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] تمكين الدين، بحيث يشعر المسلم بالعزة التي شعر بها سلفنا الصالح، حينما كان عقبة بن نافع رضي الله عنه يقف على القيروان -وهي غابة موحشة في تونس الحالية- ليبني مدينة القيروان في تلك الغابة التي كلفه الخليفة أن يبني فيها قاعدة للمسلمين في شمال أفريقيا، فيقول له أهل البلد: يرحمك الله أيها القائد، هذه غابة موحشة كل الفاتحين يرجعون دونها. فيقف عقبة رضي الله عنه عند جانب من الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد جئنا هنا لننشر الإسلام. يقول شاهد عيان: لقد كنا نرى الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع. إنه يتمكن الدين في الأرض حينما يستخلف المؤمنون ويكون الأمر بأيدي أصحابه الشرعيين، فيبني مدينة القيروان، ويواصل البطل سيره إلى جهة الغرب ليقف على شاطئ المحيط الأطلسي، ويغرز عقبة قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: (والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليه على فرسي هذا) فهل يستطيع فرس عقبة بن نافع أن يخوض المحيط الأطلسي إلى بلاد أمريكا وهي لم تكتشف بعد؟! لا يستطيع، ولكنها عزة المسلم التي تشبهها عزة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه الذي فتح بلاد ما وراء النهر، فيجلس ذات يوم مع القادة وكبار الجند في بلاد ما وراء النهر ويقول: يا قوم! أي بلد أمامي الآن؟! يقولون: هي بلاد الصين. يقول: والله الذي لا إله غيره لن أرجع إلى بلادي حتى أطأ بأقدامي أرض الصين وأضع الوسم على الصينيين وأفرض الجزية. ويجلس قتيبة، وتنفذ هذه الكلمات التي صدرت من قلب صادق عبر التجسس الذي يخبر ملك الصين بأن قتيبة حلف أن يطأ بأقدامه أرض الصين، فيخاف ملك الصين من قتيبة وجنده وبينه وبينهم آلاف الأميال، وليس لدى قتيبة من وسائل التدخل إلا الخيل والبغال والإبل، فيقول ملك الصين: هذه صحاف من ذهب مملوءة من تربة بلادي يطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم قتيبة بن مسلم وسم العرب كما يقول، ولا يصل إلى بلادي، وهذه الجزية سوف تصله في كل عام. فهذه العزة هي عزة المؤمن، فحينما استخلفهم الله عز وجل في الأرض ومكنهم في الأرض تمكن الدين، وكانوا هم أنصار الدين، ولذلك فإن الاستخلاف إذا صاحبه انحرف عن الدين فإن الله عز وجل يقول بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وقد تعمر دولة، وقد تتسع رقعتها وتتباعد حدودها لكن نهايتها مربوطة بعدم الوفاء بهذا الشرط الذي اشترطه الله عز وجل، وجعله شرطاً لهذا الوعد الحق. إذاً ما هي ضريبة الاستخلاف في الأرض؟! تجد هذه الضريبة في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. أما الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وهم ممكنون في الأرض فليس لهم نصيب من التمكين، وإن وجد التمكين مدة من الزمن فسوف تكون هذه بداية النهاية، ولذلك نشاهد في تاريخ الأمم عبر التاريخ الطويل أن أي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويستخلفها وتصبح لها هيبة أنها تمتحن من عند الله عز وجل، فإن وفت بهذه الشروط وأدت ضريبة التمكين في الأرض فأقامت الصلاة، وآتت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وشجعت الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وشجعت الذين يدعون إلى الله عز وجل على بصيرة، ووضعت يدها على أيديهم، وأصبحت تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وتسير في فلكهم فهي أمة سوف تطول مدتها بمقدار ما تحافظ على هذا العهد وتفي به تجاه الله عز وجل، ولكنها حينما تكون الثانية -نسأل الله العافية والسلامة- فستجدها حضارة تنهار يوماً بعد يوم، أو لربما تؤخذ فجأة وبغتة كما شاهدنا في تاريخنا القريب وفي عصرنا الحديث أمماً وجدت ثم انتهت، فأصبحت خبراً بعد عين، فماذا فعل الله عز وجل بالأندلس؟ وماذا فعل الله عز وجل بفلسطين؟ وماذا كان للبنان؟ هذه كلها دروس تصيبهم قارعة أو تحل قريباً من دارهم، والحمد لله أنها ما أصابتنا وإن حلت قريباً من دارنا، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لنا فيها عظة وعبرة. إذاً الاستخلاف في الأرض يطلب معه تمكين الدين، وتمكين الدين يكون من قبل الله عز وجل، لكن لا بد من أن تكون هناك جهود تبذل، ولا بد من أن تكون هناك تضحيات، ولا بد من أن تشجع الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد من أن يقمع الفساد في الأرض، لا بد من أن تطهر البيئة لتكون بيئة طاهرة طيبة لتربية أبناء المسلمين، لا بد من أن يشجع جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمة، وحينئذ يتحقق قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] يعني: الأمر اتركوه لله، فالله تعالى هو الذي يحفظ الأمة، وهو الذي يقضي عليها حينما ينتهي أجلها بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] فكيف استخلف الذين من قبلنا؟! يقول الله تعالى عن قصة استخلاف الذين من قبلنا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالإمامة لم يصل إليها من قبلنا إلا بالصبر واليقين، ولا تصل إليها هذه الأمة إلا بالصبر واليقين، ولا يستقر الاستخلاف في الأرض ولا يتمكن الدين في هذه الأرض إلا إذا صبر الناس وأيقنوا بوعد الله عز وجل وساروا على المنهج الصحيح.

استبدال الأمن بالخوف

استبدال الأمن بالخوف إن بعد استقرار الدين يكون الأمن، ولذلك الله تعالى لما قال: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فقد تكون الأمة خائفة، وقد تكون الأمة تسير على منهج صحيح وعلى دين قويم ولكنها ما زالت خائفة امتحاناً وابتلاءً من الله عز وجل، ولذلك يقول المفسرون في سبب نزول هذه الآية: جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إلى متى ونحن نحمل الحديد -أي: السلاح- لا يستطيع أحد أن يقضي حاجته إلا وهو يحمل السلاح! وكما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: (جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم قاعداً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل فيمن كان قبلكم فيحفر له في الأرض، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) هذا الوعد تحقق، فسار الراكب لا من صنعاء إلى حضرموت فحسب، وإنما سار الراكب من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال البرانس شمالاً لا تستوقفه دائرة جوازات تقول له: من أنت؟ وإذا قيل له: من أنت؟ يقول: أنا مسلم. ولا تستوقفه مراكز تبحث عن شخصيته؛ لأن شخصيته أنه المسلم الذي لا يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ليست هناك حواجز ولا حدود صنعها البشر كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن كما قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] سار الراكب عبر هذا الخط الطويل لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه؛ لأنه تحققت الشروط التي التزم بها المسلمين أمام الله عز وجل، إيمان، وعمل صالح، وعبودية لله عز وجل، وتوحيد لله سبحانه وتعالى، فلم يصرف نوع من هذه العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فتحقق الوعد، واستقرت الأمور، وقامت الخلافة في الأرض، وتمكن الدين في نفوس الناس، فأصبح أحدهم يسابق الشمس على مطالعها ينشر الإسلام، ولذلك ثبت في حجة الوداع أن من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً من المسلمين، فأين قبور هؤلاء الذين يزيدون على مائة ألف من المسلمين؟ لم نجد في الجزيرة العربية إلا قبوراً معدودة بالأصابع، تلك قبورهم في أنحاء العالم ينشرون الإسلام، أخرجهم الله عز وجل لإنقاذ هذا العالم من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل، وانتشروا في الأرض يبشرون بدين الله، وينشرون دين الله عز وجل في الأرض، كان أحدهم يتمنى الشهادة أكثر مما يتمنى متاع الحياة الدنيا الناس في أيامنا الحاضرة، وكان أحدهم يرمي تمرات كانت في قرن معه وهو يأكل منها في غزوة بدر ويقول: (والله إنها لحياة طويلة لو عشت حتى آكل هذه التمرات). من هنا استقرت الأمور، ومكن الله عز وجل هذا الدين في قلوب أولئك القوم، ثم مكن الله عز وجل لهذا الدين في هذه الأرض فشمل أكثر المعمورة، وبالرغم مما يلاقيه العالم الإسلامي اليوم من طغيان وإبادة نجد أن العالم الإسلامي -والحمد لله- ما زال بخير، وفي مقدار ما يوجد من تبشير وتنصير وتهويد هذه الأرض نجد -والحمد لله- أن الإسلام يسابق الشمس على مطالعها، في منطقة واحدة لم يصل إليها داعية من الرعيل الأول ولا جيش من جيوش المسلمين يعيش الآن أكثر من مائتي مليون مسلم في جزر الملايو، وفي البلاد التي استهدفت الآن ما زال الإسلام فيها عزيزاً والحمد لله. أقول: إن الإسلام ما زال -والحمد لله- في خير، وبمقدار ما يتعرض الكفر لهذا الدين فإن هذا الدين لا يزيد إلا نمواً في الأرض وظهوراً؛ لأن الله تعالى يقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]. دولة استعمرها الكافرون أكثر من مائة وثلاثين سنة تطالب بالإسلام بطريقة جماعية وبالإجماع، وترفض أي نظام يخالف الإسلام، والحروب الصليبية انتهت بعد سنين طويلة فخرجت والأمة الإسلامية أقوى منها من ذي قبل، حتى لقد قال المؤرخون: إن قرية في الشام اسمها (معرة النعمان) أباد منها الصليبيون مائة ألف مسلم، وبالرغم من ذلك ما ارتد واحد من المسلمين عن دينه. وهكذا فإننا نجد أن الأمة الإسلامية بمقدار ما تصيبها الأحداث لا تتأثر. والتتار أفسدوا خلال الديار مدة من الزمن، ثم نجد أن الأمة الإسلامية لم تتأثر بالغزو التتري. وأفغانستان أكبر درس وأقرب دليل إلى حياة كل واحد منا، تلك القلة من البشر من خلق الله المؤمنين قاوموا تلك الدولة المتغطرسة، ويعتبر وجودهم في معارك بسيطة سبباً من أسباب سقوط الشيوعية. إذاً هذا الدين إذا مكن الله عز وجل له في الأرض لا أحد يستطيع أن يحاربه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] ويقول عن الباطل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] فهذه شروط الاستخلاف في الأرض والتمكين وشروط الأمن والطمأنينة، ومن بحث عن الأمن في غير هذه المواقف عليه أن يصحح رؤيته، وأن يراجع حسابه، فالأمن لا يكون إلا للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].

عاقبة من كفر بنعمة الله سبحانه

عاقبة من كفر بنعمة الله سبحانه في الآية الكريمة تأتي النهاية، حتى لا يطمع أحد من الناس في عمل آبائه وأجداده وأمجاده ويقول: أبي بنى الدولة وأنا أتصرف فيها كيف أشاء. فالله تعالى يقول: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] أي: من كفر هذه النعمة وأخل بهذه الشروط فالويل له، والوعيد عليه. ولذلك فكم من أمة من الأمم قامت على منهج صحيح فمكن الله عز وجل لها في الأرض، وأعطى قادتها الخلافة والسلطة، ومكن لها في الأمن فأصبحت مضرب المثل في الأمن والاستقرار والطمأنينة، فإذا بها تؤخذ على غرة أو تؤخذ بالتدريج، فلذلك الله سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:47] والمراد بالتخوف التنقص، أي: ينقصهم شيئاً فشيئاً حتى يسلب منهم هذه النعمة. وكم من الأمة من أخذ بغتة! {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44] والله تعالى يقول بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55] أي: بعد توافر هذه الشروط، وبعد وفائه بهذه الأمور فغير ما بنفسه فإن الله تعالى له بالمرصاد. والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. إننا ننصح أي أمة مكن الله لها في الأرض واستخلف قادتها في هذه الأرض وأعطاهم الأمن والطمأنينة والاستقرار في هذه الأرض ننصحهم أن يحافظوا على هذه المبادئ، وعلى هذه الأسس، فهناك فرق بعيد بين دولة تقوم على انقلابات عسكرية، وعلى فسق وضياع وإراقة دماء، وبين دولة تقوم على دعوة صالحة صحيحة قيمة، هناك فرق بعيد بين الدولتين، فإن الثانية لا تبقى ولا يكون لها الدوام والاستمرار والاستقرار إلا بمقدار ما تحافظ عليه من أمر الله عز وجل، ولا يجوز للثانية أن تنخدع بالأولى التي لا تقوم إلا على الدماء والفوضى والحروب والثورات الداخلية، أما التي تقوم على منهج صحيح، وعلى دولة صحيحة فإنها تطالب أن تحافظ على هذا المنهج، فإنه هو أصلها وقاعدتها ولا تقوم إلا به. أسأل الله سبحانه وتعالى في ختام هذا الحديث أن يوفق قادة هذا البلد الذين استخلفهم الله عز وجل في هذه الأرض الطيبة، والذين مكن لهم في الأرض، والذين أعطاهم الله عز وجل من الأمن ما لم يعطه الأمم التي تصنع وسائل الدمار ووسائل الاكتشاف، حتى أصبح الرجل في بلادنا يسير بكل أمواله عبر الصحاري الواسعة -صحراء الجزيرة العربية شرقاً وغرباً- لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. أسأل الله تعالى الذي منّ عليهم بهذا الأمن والاستقرار أن يوفقهم للاستقامة على دين الله، وأن يجعلهم من الذين قال فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الاستقامة، فإن الأثر يقول: (كيفما تكونوا يول عليكم) بل إن الله عز وجل يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا جميعاً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

لا يتحقق الاستخلاف إلا ببذل جميع الأسباب

لا يتحقق الاستخلاف إلا ببذل جميع الأسباب Q ما توجيهكم لمن يقول: إن التمكين في الأرض لا بد أن يكون نتيجة لأمور يأتي بها المؤمنون، وهي: الإيمان، والعمل به، والدعوة إليه، والأذى في سبيل الله، والصبر على الأذى، لاسيما أن الأذى يحصل للدعاة كما حصل للأنبياء؟ A هذا هو الشيء الذي تحدثنا عنه، فالتمكين في الأرض لا يكون إلا بشروطه، ولعل من أبرز هذه الشروط الصبر والتحمل، فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] أئمة قيادة الحياة {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فإن الصبر في هذا السبيل أمر مطلوب لا تقوم الأمور إلا به، ولا تستقر الأحوال إلا بالصبر والتحمل، ولذلك فإن المرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين أظهر الله تعالى دعوتهم وأظهر دينهم، وأظهر دولهم أيضاً قام جهدهم على الصبر والتحمل، وقد وضع الله تعالى في طريق ذلك كثيراً من العقبات من أجل أن يعرف الناس أن طريق الجنة ليس بالشيء السهل، وإنما هو محفوف بالمكاره والمخاطر، ولذلك تجد في طريق الجنة قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فمن أراد هذه السعادة في الدنيا والسعادة الخالدة في الآخرة فعليه أن يأخذ بهذه الأسباب، والشاعر يقول: ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر إذاً لابد في طريق التمكين في الأرض من أمور، لا بد في طريق الأمن والاستقرار من أمور خطيرة، ولا بد أن يكون أيضاً في طريق الاستخلاف والحصول على السلطة ووصول السلطة بأيدي المؤمنين من أمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها دائماً وأبداً في أيدي المؤمنين الصالحين.

بيان معنى خوف الشرك ومحبة الشرك

بيان معنى خوف الشرك ومحبة الشرك Q أحب أن توضح الكيفية التي يقع فيها الإنسان في شرك الخوف والحب؟ A إذا كانت هذه المحبة لهذا المخلوق تساوي محبة الله أو تزيد فهذا هو الشرك الأكبر، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فهؤلاء هم المشركون، ثم يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] يحبون الله أكثر من حب هؤلاء لمعبودهم. وشرك الخوف من اعتقد أن فلاناً من الناس يستطيع أن ينفع أو يضر من دون الله، فهذا هو الشرك الأكبر، أما أن أخاف من فلان كما أخاف من الأسد، أو أخاف من هذا الطاغية أو من هذا الجبار، أو أخاف من هذا الظالم فهذا خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكن هذا الخوف لا يجوز أن يغير شيئاً من أمور دين هذا الإنسان بحيث يتنازل عن دينه مقابل هذا الخوف، وإنما يجب عليه أن يكون خوف الله وخشية الله عز وجل هي المسيطرة على قلبه، وأن يكون خوف هذا الإنسان الفطري لا يصل إلى درجة الخوف من الله عز وجل، ولو وجد عنده شيء من الخوف فإنه يعتبر أنه لا يصيبه هذا الإنسان الذي يخيفه إلا بإرادة الله عز وجل وقضائه وقدره، أما لو قال: إني أخاف من فلان كخوفي من الله أو أشد. أو يرى أن فلاناً المخيف المرهب الطاغوت الجبار العنيد يستطيع أن يفعل به شيئاً من دون الله فهذا هو الخوف الذي يخرج من الملة.

كيفية نصر الله لمن نصره

كيفية نصر الله لمن نصره Q يقول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] كيف يكون نصر الله سبحانه وتعالى؟ A نصر الله عز وجل بإظهار الذين ينصرونه بالتمكين لهم في الأرض، وبالدفاع عنهم، وبظهور دينهم حتى ولو لقوا في سبيل دعوتهم ونصرتهم لدين الله عز وجل الأذى الشديد، لكن العاقبة لهم، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] فقد يظهر في بادئ الأمر أن الكفة راجحة في أيدي أعدائهم كما يوجد في كثير من الأحيان، وقد يبتلي الله عز وجل هؤلاء الذين ينصرون دينه، فيظهر أن الأمر لحساب غيرهم، وقد تطول مدة الفتنة، وهذه حكمة الله عز وجل، حتى يمتحن هؤلاء الناس ويمحصهم، ولربما يتخذ منهم شهداء، أي: أناس يستشهدون في هذا السبيل، كل ذلك يحصل في طريق نصرة دين الله، فإن وعد الله لا يتخلف، فسينصرهم الله، ولربما ينصرهم الله في ظهور مذهبهم ومنهجهم ومبدئهم الذي دافعوا عنه، ويعتبر نصراً ولو قتل الإنسان الذي دافع عن دين الله؛ لأنه ليس معنى النصر السلامة، وإنما النصر الحصول على الهدف الذي يسعى إليه هذا الإنسان، ولربما يكون من أهدافه الشهادة مع النصر لدين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يقدمون أنفسهم قرباناً لدين الله سبحانه وتعالى. إذاً لا يتصور أحد من الناس أن النصر معناه فقط السلامة من العدو، أو السلامة من المعتدي، وإنما يحصل القتل والسجن والأذى في ذات الله عز وجل، لكن يظهر هذا المبدأ الذي دافع عنه هذا الإنسان، ويكون ذلك من أرقى أنواع الصبر، ولذلك الله تعالى يقول عن المرسلين: {كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] ومع ذلك نصرهم الله عز وجل، ولربما تأخر النصر كثيراً، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] والله تعالى ذكر الابتلاء في طريق النصر وفي طريق الجنة، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، وهذا استفهام إنكاري من الله عز وجل.

معوقات الوعد الحق

معوقات الوعد الحق Q ما هي معوقات الوعد الحق، وما هي طلائع ذلك الوعد؟ A معوقات الوعد الحق أن يتأخر النصر، ويتأخر هذا الوعد امتحاناً وابتلاء من الله عز وجل، ولربما لا يتأخر، لكن النفوس لا تفي بشروط هذا الوعد، أو لربما يطول عليها المدى ويطول عليها الأمد فتقسو القلوب وترجع من منتصف الطريق، وهذا أخطر ما يصيب الإنسان، كما ذكره الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10] ويسير في هذا الطريق يريد أن يحقق هذه الشروط ليحصل على هذا الوعد {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في دين الله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] يقول: أنا هربت من عذاب الآخرة، فكيف أقع الآن في عذاب الدنيا؟! إذاً أتحمل عذاب الآخرة لأنه ليس أمامي الآن، وأهرب من عذاب الدنيا. تقول النفس الضعيفة للإنسان في بعض الأحيان هذا الأمر، فيرجع من منتصف الطريق، وهذا هو قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: أذى الناس في الدنيا {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في الآخرة. وهذا من أكبر المعوقات التي تحول بين الأمة وبين تحقيقها بالوعد من عند الله سبحانه وتعالى.

كيفية الأخذ بسفينة الأمة خشية الغرق

كيفية الأخذ بسفينة الأمة خشية الغرق Q إن السفينة توشك على الغرق بسبب السفهاء الذين هم في أسفلها، فهل يبقى العقلاء الذين في أعلاها ينظرون إلى هذه السفينة وهي تغرق، أم ما هو الواجب على كل إنسان يعرف ولو آية من كتاب الله سبحانه وتعالى؟ A توشك السفينة أن تغرق، ولكن -والحمد لله- ما زال في هذا العالم خير وفي هذه الأمة وفي بلدنا بصفة خاصة خير كثير، وما دام هذا الخير موجوداً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذه السفينة، وكم يدفع الله عز وجل من الأذى والبلاء والمصائب والبلايا بسبب الصالحين، شيوخ ركع، وأطفال رضع، وعباد وأتقياء وشباب -والحمد لله- سلكوا الطريق عن بصيرة واقتناع، لذلك نقول: اطمئن يا أخي؛ فإن السفينة لن تغرق -بإذن الله- ما دام هؤلاء الصالحون موجودين، وأرى كثيراً من السفهاء وهم يخرقون السفينة، لكني أرى أكثر منهم -والحمد لله- الآن قد انتبهوا، فهم الذين سوف يحافظون على هذه السفينة بإذن الله سبحانه وتعالى. وعلى كلٍ فالسفينة على خطر لولا أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأمة وعداً على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولكنه لم يعط سبحانه وتعالى رسوله وعداً بالنسبة لأمته أن لا يجعل بأسهم بينهم كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وهذا هو أخوف ما نخافه الآن، أن يتساهل المسئولون عن هذا الأمر، وأن تحترق قلوب هؤلاء الشباب الذين يرون المنكرات، ولربما يحصل أن أكثرهم يندفع، ونرجو أن لا يكون هناك اندفاع فيؤدي ذلك إلى وجود أفكار وحزبيات وجماعات تكفير وهجرة كما يوجد في البلاد المجاورة، ونسأل الله أن يحفظ بلادنا هذه من كل مكروه، وأرجو من الإخوة الشباب أن يضبطوا أنفسهم، وأن يتقوا الله عز وجل في أمن هذا البلد وطمأنينته، وأن يناصحوا المسئولين، وأن يراسلوهم بين فترة وأخرى، وأن يقولوا لهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] هذا كلام لا بد من أن يقال، ويجب على القادة أن يقبلوا هذه النصيحة، ولا يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206] وإنما عليهم أن يرعووا ويرجعوا إلى الحق، ولكن علينا أن نقدم هذه النصيحة بحكمة وبسر، وبأمانة وإخلاص، وبمحبة للقادة ومحبة الخير لهذه الأمة، أما أولئك فعليهم أن يتقبلوا وأن يحبوا الناصحين، وأن يعتبروا من يقول لهم: اتقوا الله أنه هو المحب لهم والمخلص، بخلاف من يقول لهم: أنتم أكمل الناس.

الصراع دائم بين الحق والباطل

الصراع دائم بين الحق والباطل Q إن الإسلام في بلد الحرمين الشريفين الذي يعتبر أقوى معقل من معاقل الإسلام يواجه هذه الأيام حرباً شرسة، ولكنها خفية في معظم أحوالها، ولعل من أهم هذه الأمور ما يدور بين الفينة والأخرى من تحرير المرأة من الفضيلة والإيمان، وهو أهم الأشياء التي يركز عليها أعداء الله من بني جلدتنا وغيرهم، فماذا قدمنا لهذا الأمر في مواجهة المجرمين؟ A أولاً: تأكد -يا أخي- أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وسيبقى أهل الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. فالصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة، وباقٍ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولربما يزيد في فترات ضعف المسلمين أو سكوت الدعاة أو إسكاتهم -نسأل الله العافية والسلامة-، ولربما يزيد في منطقة دون منطقة، وهذا ما يحدث في بلادنا التي هي من المعاقل التي تطبق شرع الله، فليس فيها كنيسة ولا معبد لليهود ولا للنصارى، نسأل الله أن تبقى على ذلك، وهي البلاد التي لم تدنسها أقدام الاستعمار في يوم من الأيام، وهي البلاد التي يستقبلها المسلمون كل يوم خمس مرات في صلاتهم، وهي البلاد التي يحجون إليها ويعتمرون، فهي قمة هذا العالم، فلا تستغرب حينما توجه إليها الضربات واللكمات العنيفة أكثر من غيرها، لأنهم أولاً انتهوا من البلاد الأخرى. ثانياً: هذه البلاد إيقاعها في حبائل الشيطان يعتبر إيقاعاً للعالم كله؛ لأنها هي قبلة المسلمين، يأتي الحجاج والمعتمرون والزوار لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذون دينهم من بيئة هذه البلاد، ويأتي المتعاقدون والطلبة والدارسون والمدرسون ليأخذوا معتقداتهم من هذا البلد، يأتون هادمين فيرجعون موحدين، هذا هو الذي يحدث. إذاً ما هو الطريق؟ الطريق هو أن يقضى على هذا المعقل في نظر أعداء الإسلام، ولكن ما هو السبيل؟ السبيل أنهم يأتون عبر مخططات مرة، وعن طريق المرأة مرة أخرى، فهم لا يقولون: نريد أن نهدم الإسلام في هذه البلاد. لا يستطيعون ذلك، لكن يأتون مرة عن طريق المرأة، ومرة عن طريق التخلف والرجعية، ومرة عن طريق التقدم والرقي إلى غير ذلك، ولربما يجدون آذاناً صاغية في كثير من الأحيان بالنسبة للنساء حينما يقال: التخلف والرجعية. أو في نظر بعض أصحاب المسئوليات الذين يخافون من عقدة التخلف فيقولون: لماذا نعيش في التخلف؟ نحن نريد نفعل كذا وكذا حتى لا يقال: إننا متخلفون. إن هذا هو ما يحدث في أكثر أوضاعنا، نركب الطائرة في خطوطنا فكنا نظن أننا سوف نجد حياة كحياة الصحابة في الطائرة، فإذا المضيفات في طائراتنا يلبسن لباساً لا يوجد في كل البلاد الإسلامية، حتى البلاد العلمانية التي يحكمها العلمانيون خطوطها الجوية خير من الخطوط الجوية السعودية في اللباس، وعندما نركب الطائرة إن كنا نريد ثياب إحرام إذا نسينا لا نجد، وإذا بهم يبيعون دخاناً وأطياباً! بينما الذي يأتي إلى هذه البلاد لا يريد الدخان فهو آت من بلاد فساد وإنما يريد أن يلبس ملابس الإحرام، يريد أن يذكر الله، يريد أن يرى الخير من أول ما يضع أقدامه على هذه الطائرة التي تحمل علم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتقدم على بلد يحكم شرع الله، وبلد المقدسات. والمصيبة أن بعض المسئولين يخافون من عقدة التخلف، فيقولون: نتسامح في مثل هذه المسائل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي المسئولين، ومهما يكن ففي بلادنا خير لا يوجد في بلد آخر -والحمد لله- سواء أكان على مستوى المسئولين أو على مستوى الشعوب، لكن نريد أن تكون الأمور أفضل من ذلك بكثير، والله المستعان.

الرد على الذين يرون أن الإسلام لا يصلح للحياة

الرد على الذين يرون أن الإسلام لا يصلح للحياة Q كثيراً ما نسمع من التيار العلماني من يقول: أنتم تطالبون بالتطبيق الشامل للإسلام ونحن قد نتفق معكم في صلاحية كثير من ذلك للتطبيق، لكن العائق العظيم هو عدم وجود من لديه القدرة على التطبيق الصحيح، فكيف يرد على هؤلاء المنافقين الذين يبرزون بين الفينة والأخرى؟ A نقول لهؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يطبقوا شرع الله في بعض الأمور ويتركوا بعضها الآخر: يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]، والله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فإذا كانوا يعتقدون أن دين الإسلام منهج عبادة، وأنه ليس منهج حياة متكاملة فنقول: الإسلام الذي عاش فيه العالم أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأصلح تلك الأمة هو الذي يصلح هذه الأمة، فنحن نعتبر أن هذا الكتاب ما فرط في شيء، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. وهؤلاء العلمانيون الذين يعيشون معنا ويقولون: إن الإسلام لا يصلح كنظام للحياة، وإنما يصلح منهج عبادة. ولربما نجدهم في بعض الأحيان يظهرون مظهر العُبَّاد في أمور العبادة نقول لهم: كذبتم، فإن الإسلام منهج حياة متكاملة، بل أنتم لا تريدون أن يكون للإسلام منهج عبادة، فأنتم تحاربون الإسلام حتى لا يكون أيضاً منهج عبادة، ولذلك هم يريدون أن لا يكون الدين كله لله، ونحن نطلب أن يكون الدين كله لله، بدون أن يكون هناك استثناء (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) كما يقولون هم.

أهمية معرفة الله عند اشتداد الفتن

أهمية معرفة الله عند اشتداد الفتن Q كيف تتحقق العبودية لله، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمعاصي، فأصبح الإنسان لا يخلص منها في بيته، ولا في سوقه، ولا في معمله، ولا في أي شيء من شئون حياته؟ A هنا يُعرف الله عز وجل، يعرف المؤمنون ربهم عندما يتحزب أعداء الإسلام ضد الإسلام، وعندما ينتشر الفساد في الأرض تكون العودة إلى دين الله عز وجل الحق، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا الموقف: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] فبمقدار ما ترى هؤلاء الناس يتخلفون عن دين الله يزيد يقينك بالله عز وجل، وتزيد ثقتك بهذا الدين، ويزيد تمسكك، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يثبت على هذا الطريق مهما تغير الناس.

المسلم والقيام بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المسلم والقيام بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر انتحال شخصية أخرى، وإذا كان غير ذلك فهل من كلمة توجيهية للشباب حتى يدعوا بالأسلوب الحسن؟ A الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شخصية كل واحد من المسلمين حسب موقعه في هذه الحياة، وعلى قدر استطاعته، فإن (مَن) من ألفاظ العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولربما تكون هناك هيئة رسمية وحسبة مسئولة عن جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن هذه الجماعة تتحمل مسئولية بطريقة رسمية وبطريقة شخصية، أما أنت أيها الأخ المسلم فإنك تتحملها وتتحمل هذه المسئولية بطريقة أمر من أوامر الله عز وجل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] والله تعالى يقول: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فإذا كنت تريد أن تكون من المفلحين فما عليك إلا أن تكون من هذه الأمة، سواء أكنت تعمل على المستوى الرسمي أو على المستوى الخاص، من منطلق واجبك الذي فرضه الله عز وجل عليك.

أهمية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى

أهمية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى Q يوجد في بعض البلاد قرى وهجر ليس لها حظ كبير من الدعوة ولا الدعاة، حيث إنها تعيش في جهل وعدم معرفة بأحكام الدين، وليس للدعوة فيها وجود أبداً، فنرجوا توجيه طلاب العلم بالدعوة والتوجيه إلى هذه القرى والهجر، وهي في المنطقة الشرقية، والشمالية، والغربية، والجنوبية من المملكة العربية السعودية، ومحتاجة للدعوة أشد من احتياجها إلى الشراب والغذاء، لاسيما في الإجازة، فنرجو حث الأحبة على هذا الأمر؟ A أفضل طريق إلى الجنة هو طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ولذلك فإني أدعو إخوتي طلبة العلم وأقول: اتقوا الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع الأمانة في عنق كل واحد من المسلمين، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] وختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليتحملها كل واحد من أمته، ولقد علمت أن في المناطق الجنوبية أموراً تشبه أمور الجاهلية بسبب عدم وجود طلبة علم، ولربما كان هناك طلبة علم هربوا من هذه القرى، فأنا أدعو الإخوة إلى أن ينفروا إلى الدعوة إلى الله عز وجل خفافاً وثقالاً، وأن لا يتركوا جانباً من جوانب الدعوة إلا ويسلكوه، وقد يسرت الطرق والحمد لله، والأمر ميسر، ودولتنا -إن شاء الله- تشجع جانب الدعوة، والأمر أصبح أمراً إلزامياً؛ لأن هؤلاء الذين ربما يموتون على غير الفطرة وعلى غير الدين الصحيح، أو عندهم شيء من التغيير والتبديل أو من الإثم سوف يوقفوننا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ويقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير. قد وضع الله عز وجل الأمانة والمسئولية في عنق كل واحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن ننظم أنفسنا للدعوة في تلك المناطق، وأن نرتب جماعات يذهبون إلى دعوة تلك الأمم في القرى الشرقية، والغربية، والجنوبية، والشمالية، وفي القرى الوسطى أيضاً. أسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يجعلنا من عباده وأولياءه المقربين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كيف نربي المرأة المسلمة

كيف نربي المرأة المسلمة لقد كرم الإسلام المرأة أيما تكريم، وأعطاها منزلتها اللائقة بها، وحقوقها الواجبة لها، في وقت ظلمتها فيه الجاهليات القديمة، والديانات الوثنية، فسلبوها حقوقها؛ بل ولم يعتبروها إنسانة مكرمة مشرفة، ثم جاء أدعياء الحرية والانفتاح في هذا العصر ليخرجوا المرأة من دينها وحيائها وعفتها وطهارتها إلى التبرج والسفور، والاختلاط والفجور وما إلى ذلك من أنواع الفساد، فجلبوا كل ما من شأنه أن يفسدها: من مجلات خليعة، وصور وأفلام عارية ونحوها؛ لتصبح المرأة كالدمية في أيديهم يفعلون بها ما يريدون وفي ظل هذه الأحوال الكالحة لابد أن تربى المرأة المسلمة تربية إسلامية صحيحة؛ حتى تجنب نفسها وأسرتها ومجتمعها من كل خطر وبلاء يريده أعداء الإسلام بنا.

الصراع بين الحق والباطل

الصراع بين الحق والباطل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد: فقد جرت سنة الله في هذه الحياة أن يكون الصراع محتدماً بين الحق والباطل، وهذا الصراع هو الحكمة من خلق هذه البرية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119]، ومنذ تلك الساعة التي أهبط فيها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، وإلى يومنا هذا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع محتدم أبداً بين الحق والباطل، وبين دعاة الحق ودعاة الضلال، ولذلك فإني أقول: إن ما يحدث في الساحة الإنسانية اليوم، إنما هو إجراء لحكمة الله عز وجل في خلق الجنة والنار: (ولكل واحدة منهما ملؤها)، كما جاء في الحديث. وهذا الصراع يأخذ عدة مسالك، وعدة مجريات، والأمم التي قسمها الله عز وجل إلى فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، هي التي تتصارع أمام الحق وأمام الباطل، وأعداء الإسلام الذين يكرهون الإسلام ملء قلوبهم، وذلك الحقد الدفين الذي امتلأت به قلوب أعداء الإسلام ضد هذا الدين الحنيف، تظهر هذه العداوة من خلال هذا الصراع، ولذلك نقول: إن الله عز وجل أخبر بأن العداء قديم فقال: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وباقٍ، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، أو حتى تقوم الساعة).

تنوع مخططات الأعداء في محاربة الإسلام

تنوع مخططات الأعداء في محاربة الإسلام أيها الأخ المسلم! أعداء الإسلام منذ فجر الإسلام وهم يخططون لهذا الدين، وللإطاحة بهذا الدين، ويسلكون شتى الوسائل وكل السبل التي يعتقدون أنها كفيلة في الحط من هذا الدين، أو النيل من الأمة الإسلامية، وقد كان الصراع مدة طويلة من الزمن وجهاً لوجه في معارك كثيرة دامية، في عصر النبوة، وعصر الخلفاء الراشدين وما بعد ذلك، وإلى عهد قريب، ولما رأى العدو أنه لا يستطيع أن يتغلب على دين حكم الله عز وجل بإظهاره على الدين كله؛ لجئوا إلى ما يسمونه: بالحرب الباردة، أو بحرب الأفكار، وجعلوا لها عدة وسائل، ورسموا من أجلها عدة مخططات، وهدفهم في ذلك إبعاد الأمة الإسلامية عن دينها ومنهجها الأصيل بالتشكيك في المعتقدات، وببذل الوسائل في عرقلة الأخلاق والفضائل؛ لأنهم يدركون أن هذا الإسلام إنما يسير حينما تكون هناك بيئة صالحة نظيفة طاهرة، وحينما تكون هناك امرأة صالحة وبذور طيبة وتربة حميدة، من أجل ذلك بذلوا كل الجهود في سبيل الحط والنيل من هذا الإسلام، ولكن الله غالب على أمره، ومظهر دينه، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].

استخدام الأعداء للمرأة كوسيلة لدمار المجتمع

استخدام الأعداء للمرأة كوسيلة لدمار المجتمع هذه المخططات متنوعة، ولربما تتنوع وتتلون أساليبها حسب العصور ومن خلال الميول، وعلى هذا فقد لجأ أعداء الإسلام في آخر المطاف إلى استعمال المرأة كوسيلة من وسائل دمار المجتمع، والإطاحة بالأمة الإسلامية، من خلال تجارب كثيرة ووصايا متوارثة، يرثها الآخرون من الأولين، ولذلك فإن من أعظم المخططات التي رتبت في هذا العصر للحط من الأمة الإسلامية والنيل منها: استخدام المرأة كوسيلة لدمار المجتمع، حتى قال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من المرأة، فعليكم بالمرأة! فاتجهت التقنية الحديثة، والأفكار المسمومة، والأيدي العابثة، والعقول المنحرفة، من الداخل ومن الخارج، من أعدائنا البارزين والمقنعين؛ بل ومن أبناء جلدتنا، انبرت أيديهم القذرة من أجل أن تتخذ من المرأة وسيلة للإطاحة بالأمة الإسلامية، وبشباب الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة حينما تقع فيما حرم الله من الزنا والشهوة الحرام؛ حينها تسهل قيادتها إلى حيث تكون نهايتها ودمارها وانحطاطها، ولذلك فإنكم تجدون أعظم ما يخططه أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة أنهم اتخذوا من المرأة وسيلة عفنة، في حين يزعمون أنهم أنصارها، وأنهم المدافعون عنها، وهم الذين يسعون لإثبات حريتها وحقوقها، لكنهم اتخذوا منها لعبة يتسلى بها العابثون، ويفسدون بها الأخلاق والفضائل، ويهدمون بها المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، والمجتمع الإسلامي بصفة خاصة، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. أيها الإخوة! لقد خطط الأعداء لهذه الأمة تخطيطاً رهيباً في الظلام، وطبخ الأمر من أجل أن تنحرف هذه الأمة الإسلامية عن أزكى وأفضل أخلاقها وسلوكها، ولكن ثقتنا بالله عز وجل، وثقتنا بالأمة الإسلامية، وهي تنظر بنور الله عز وجل، وثقتنا في الصحوة الإسلامية، التي أحيطت بهذا الغزو الفكري والشهواني، ثقتنا بذلك كله فوق ما يحدث، وفوق ما يتصوره أعداء الإسلام.

تكريم الإسلام للمرأة وإهانة غيره لها

تكريم الإسلام للمرأة وإهانة غيره لها أيها الإخوة! في عصر من يزعمون أنهم أنصار المرأة، والمطالبون بحقوقها وحريتها، نرى أن المرأة قد سقطت في المجتمع، ويصح أن نقول: إنها سقطت سقوطاً أعظم من سقوطها في الجاهلية الأولى وفي الجاهلية الثانية؛ بل وفيما قبل ذلك في العصور السابقة، التي ما كان للمرأة فيها قيمة ولا أثر؛ بل كانت تعد من سقط المتاع، فقد كانت تورث، فإذا مات زوجها فإن أقرب أولاده من غيرها يبادر ليضع عليها رداءه ليكون أحق بها، إن شاء باعها، وإن شاء وطأها، وإن شاء تزوجها، وإن شاء فعل بها ما أراد، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، بل وأثبت لها الميراث، وما كانت ترث قبل ذلك: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]. وإذا كانت المرأة يشك الرومان واليونانيون وأصحاب الملل قبل الإسلام في إنسانيتها، وفي بشريتها، وهل هي مخلوق محترم، أو من سقط المتاع؟ وهل لها روح أو لا روح لها؟ فإن في جاهلية اليوم بالرغم من تلك الهالة، وذلك الإطراء الشديد الذي يتحدثون فيه عن حقوق المرأة وحريتها؛ نجد أنهم حطوا من شأنها أكثر من ذلك لقد أصبحت دمية يتسلى بها العابثون تزين بها المعارض، وتعرض عليها الأزياء، وتجمع بها الأموال؛ بل وتكون دعاية حتى لشركات الطيران بين السماء والأرض، حينما يختارون أجمل فتاة من أجل اصطياد الناس، أو من أجل الدعايات الكاذبة لأهدافهم ولمطالبهم. إن المرأة قد وصلت في عصرنا الحاضر إلى أن صار مهرها في بعض الدول المتطورة المتقدمة -كما يزعمون- لا يساوي جنيهاً واحداً إسترلينياً، بالرغم من أننا نجد المرأة المسلمة المحجبة المحترمة، تبذل في سبيلها أغلى الأثمان وأكثر القيم، ولذلك فإننا نقول: أي حضارة تزعم أنها تحترم المرأة في أيامنا الحاضرة، وفي قانونها وفي نظامها أن المتفق عليه في كل بلاد العالم التي لا تحكم بشرع الله أن المرأة بعد الثامنة عشرة من عمرها تخرج من البيت، ولا يلتزم أبوها بالنفقة عليها، وعليها أن تبحث عن الرزق ولو عن طريق الحرام، ولو أن تتنازل عن شرفها وكرامتها من أجل أن تحصل على لقمة العيش؟! أما المرأة في ظل الإسلام فإن الله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، ويقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، ويلزم الأب أن يقوم بكل حاجات ابنته كسائر أبنائه، حتى يسلمها لزوجها، الذي يلتزم بكل نفقاتها الصغيرة والكبيرة، دون نقص ولا شطط. ومن هنا نقول: إن المرأة التي تعيش معنا اليوم في هذا العالم لا يمكن أن تتنفس الصعداء ولا أن تجد الحرية ولا أن تجد حقها إلا في ظل هذا الدين، ولذلك فقد انخدعت كثير من النساء اللواتي صدقن ما يقال عن الإسلام وضد الإسلام، فزهدت كثيرات منهن في الإسلام، وتمسكت الأكثر منهن بهذا الدين، واعتبرته هو مصدر سعادتها وعزتها وكرامتها. أيها الإخوة! وبالرغم من هذا الغزو الفكري والشهواني، وبالرغم من هذه المخططات الرهيبة التي صدقها بعض الببغاوات في بلاد الإسلام، وصاروا يرددونها، ويقولون: المرأة مظلومة المرأة في مجتمعنا مهضومة حق مجتمعنا معطل نصفه مجتمعنا لا يتنفس إلا برئة واحدة مجتمعنا تعيش فيه المرأة في الحضيض كما يقولون مجتمعنا يشكل حياة تشبه الحياة في القرون الوسطى!! هؤلاء في الحقيقة هم على نوعين: نوع مخدوع بما يقوله أعداء الإسلام؛ لكنه لم يقرأ عن الإسلام قليلاً ولا كثيراً، ولا عن الحضارات التي سبقت الإسلام وكيف كانت تتعامل مع المرأة، ونوع آخر حاقد على الإسلام، وإن كان من أبناء جلدتنا، وإن كان ممن يتكلمون بألسنتنا، وهذا النوع الحاقد على الإسلام هو الذي يريد أن يكون طبلاً يدق به أعداء الإسلام، وأن يكون بوقاً ينفخون فيه، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، قاتلهم الله أنى يؤفكون! ولذلك نقول: المرأة في بلاد الإسلام امرأة لها كل حقوقها وحريتها التي أعطاها الله عز وجل إياها، ومنحها إياها، وخلصها بها وبهذا الدين من براثن الجاهلية، ومن مخططات الأعداء، وما عليها إلا أن تسلك طريق الإسلام، وستجد في آخر المشوار؛ بل في أوله وأوسطه سعادتها وعزتها وكرامتها.

توجيه الرجل والمرأة إلى التمسك بكتاب الله تعالى

توجيه الرجل والمرأة إلى التمسك بكتاب الله تعالى أيها الأخ المسلم! باعتبارك ولياً ومسئولاً عن بيتك، وباعتبارك راعياً ومسئولاً بين يدي الله عز وجل عن هذه الرعاية، وأنت أيتها الأخت المسلمة! باعتبارك مسئولة بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن نفسك وعن مجتمعك، وعما تحت يدك من الأهل والذرية، نقترح عليكما جميعاً؛ بل نلزمكما جميعاً أن تقرءوا كتاب الله عز وجل، وكيف استطاع أن يضع الأسس الكريمة، وأن يرتب التراتيب المتينة التي تكفل سعادة المرأة من أجل أن تصون عرضها وكرامتها، وتحتفظ بعزتها وبدينها وبشرفها. وأنت يا أختي المسلمة! بين عاملين يتجاذبان فيك: عامل الخير الذي تجدينه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعامل الشر السالب الذي يريد لك الشقاوة، ويريد لك التعاسة، ويريد لك أن تضلي السبيل، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، ثم يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. إذاً: هنا عاملان: عامل الشهوات ومخططات الأعداء الذين يريدون أن نضل السبيل، ويريدون أن ننحرف عن الجادة، ويريدون أن يصطادوا المرأة في الماء العكر، ويريدون أن يوفروا لأنفسهم المشوار الطويل وهم يبحثون عن الفاحشة والجريمة أرجاء العالم، في بلاد الكفر والفسق والانحلال، يريدون أن يوفروا لأنفسهم هذا المشوار الطويل من أجل أن يجدوا المرأة ميسرة في أقرب فرصة وفي أقرب مكان، أما الله عز وجل فهو يريد أن يتوب عليكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، وسنن الذين من قبلنا هي المحافظة على هذه المرأة، وتربيتها وإعدادها وإكرامها من خلال هذا الدين.

سبع صفات لابد أن تلتزمها المرأة المسلمة

سبع صفات لابد أن تلتزمها المرأة المسلمة أما كيف نربي المرأة المسلمة لنحميها من الفتن؟ فإننا نجد في كتاب الله عز وجل صفات راقية، جاءت من أجل أن تكون قواعد متينة وأسساً ثابتة تسير عليها المرأة المسلمة؛ ليسلم عرضها وشرفها، وتسلم كرامتها، وليسلم أيضاً مجتمعها، ولتكون تربة صالحة طيبة طاهرة تبذر فيها بذور الذرية الصالحة، وهذه الصفات هي موجهة في الأصل إلى أفضل نساء العالمين، إلى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها في الحقيقة تطالب بها كل امرأة مسلمة تريد أن تجعل قدوتها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها صفات لو التزمت بها المرأة لكانت امرأة مثالية من نساء أهل الجنة، ولكانت امرأة يقال لها غداً: اختاري أفضل أبواب الجنة وادخلي من أيها شئت، سبع صفات اختارها الله عز وجل لخير نساء العالمين، ولنساء الناس كافة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]، هذه الصفات السبع تجدونها في سورة الأحزاب، وهي التي من خلالها تستطيع المرأة أن تعد نفسها إعداداً للجنة، وقبل ذلك لسعادة الدنيا، وفوق ذلك لتسلم من مخططات رهيبة تدبر في الظلام، وتحاك على أيدي العابثين من الداخل والخارج، هذه الصفات يقول الله عز وجل عنها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم يقول بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]، سبع صفات لابد لكل امرأة مسلمة أن تقرأها بكرة وعشياً، وأن تتفهم معناها، وأن تطبقها على نفسها، وأن تتفقد سيرتها وسلوكها دائماً وأبداً، حتى لا تفقد واحدة من هذه الصفات السبع؛ حتى تكون من نساء الجنة.

صفات صنف من نساء النار

صفات صنف من نساء النار بجوار هذه الصفات السبع صفات أخرى هي لأهل النار، ولنساء النار، نعوذ بالله من النار! يقول عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا سنة)، أي إنسان يضحي بزوجته وبأخته وبابنته وبأمه وبقريبته وموليته أياً كانت، ليجعلها حطباً لجهنم، حتى لا تشم رائحة الجنة، بالرغم من أن رائحة الجنة تدرك من مسافة بعيدة؟ أما صفات المرأة التي تسلك هذا المسلك فهي: كساء مع عراء، وكيف يكون الكساء مع العراء؟ تكون هناك كسوة لكنها لا تستر كل البدن تكون هناك كسوة مادية مع عراء معنوي تكون هناك كسوة لكن الحياء مفقود، وإذا فقد الحياء لم تلق هذه المرأة إلا مقيتة بعيدة عن الله عز وجل، مائلة منحرفة عن الصراط المستقيم، مميلة تحرف المجتمع، وتحرف من في قلبه مرض، ولربما تحرف حتى من ليس في قلبه مرض؛ لأن الفتنة التي توزعها المرأة على المجتمع حينما تتبرج، أو حينما تخرج شيئاً من مفاتنها في مجتمع رتبت له كل التراتيب ليكون مجتمعاً منحرفاً، وغذي بالأفلام والمسلسلات، والصور العارية وأشباه العارية، وأفلام الفيديو والسينما، وغير ذلك من المخططات الرهيبة، إنه مجتمع تساهم فيه المرأة مساهمة فعالة حينما لا تلتزم بأوامر الله عز وجل، وحينئذ يكون فساد عريض؛ لاسيما في مجتمع اختلت فيه الأنظمة الاقتصادية، والأنظمة الاجتماعية، وارتفعت فيه المهور، ولم يوجد هناك نظام يضبط سن التعليم من سن العمل، من سن الزواج، وغير ذلك من الأمور الأخرى. نساء مائلات مميلات، يميل المجتمع ويميل الناس مع هذه المرأة المائلة، وحينئذ تكون هذه المرأة التي زرعت هذا الفساد في المجتمع لا تستحق دخول الجنة؛ بل لا تفكر في دخول الجنة؛ بل لا تشم رائحة الجنة أبداً، فضلاً عن أن تدخل الجنة، بالرغم من أن رائحة الجنة تدرك من مسافة بعيدة، أي: مشوار يحتاج إلى سنوات.

صفات النساء الصالحات

صفات النساء الصالحات نعود إلى النساء الفضليات، إلى الصفات الحسنة، بعد عرض صفات أهل النار من النساء اللواتي هن كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة؛ نعود لك يا أختي! لتعرفي كيف يجب أن تكون المرأة المسلمة. ولكن يا أخي! كيف تربي زوجتك وأهلك ومن استرعاك الله عز وجل عليه؟ بعد أن تفهم قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هل تطيق هذه النار التي تذيب الحجارة؟ إنك لا تطيق ذلك؛ لكنك تستطيع بإذن الله وبفضل الله وبتوفيق الله أن تخلص نفسك حينما تبحث عن أفضل الصفات، عن الصفات المثلى؛ لتربي أهلك وذويك، لاسيما النساء اللواتي يخطط لهن بالعشي والإبكار من أجل الانحراف، ومن أجل الضياع.

تقوى الله تعالى

تقوى الله تعالى قال تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، وهذه أولى صفات المرأة، وإن كانت هذه الصفة مطلوبة في الرجل والمرأة على حد سواء، لكنها في المرأة أولى؛ لأن تقوى المرأة يعني عفتها وطهارتها، وعفتها وطهارتها وخشيتها لله عز وجل تعني تطهير المجتمع من الفساد، وتطهير المجتمع من الفساد يعني أن تبقى للأمة أخلاقها، وأن يبقى لها دينها، وأن تبقى لها محافظتها، وحينئذ يكون هذا المجتمع طيباً طاهراً نظيفاً، وتكون هذه البيئة صالحة للتربية. إن تقوى المرأة أهم في المجتمع من تقوى الرجل، بالرغم من وجوب التقوى على الذكر والأنثى؛ لكن فساداً واحداً في مجتمع لامرأة واحدة يحدث خللاً في مجتمع كامل هل تقرءون أيها الإخوة سورة النور؟ لا نجد في القرآن ولا في السنة آية ولا حديثاً تقدم فيه المرأة على الرجل إلا في موضع واحد، في كل آيات الكتاب وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر الذي قدمت فيه المرأة هو الزنا فقط، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، لماذا قدمت المرأة هنا على الرجل؟ يقول المفسرون: لأسباب كثيرة: أولاً: أن عرض المرأة حساس أشد من عرض الرجل، فالحديث عن المرأة بفاحشة أو بتهمة يعني أنها لا تتزوج أبداً، ويعني أن ذلك يحط من شأن الأسرة كلها، ويقلل من أهميتها، ويسقطها من عين المجتمع، إضافة إلى أن المرأة -نسأل الله العافية- لو فسدت في مجتمع كبير لاستطاعت أن تفسد أمماً، لو أن واحدة من النساء تبرجت وخرجت في أكبر مدينة، وجابت خلال شوارعها وأسواقها، لاستطاعت أن تفتن نصف هذا المجتمع على الأقل، إن لم يتداركه الله عز وجل بلطفه، بخلاف انحراف رجل واحد أو فساد رجل واحد؛ فإنه لا يستطيع أن يفسد كما تفسده المرأة، ولذلك فإن الله عز وجل هنا قدم المرأة على الرجل في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولم يقدم الرجل هنا، وقدم الرجل في الزواج في قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، وقدم الرجل في السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي يتقدم فيها الرجل دائماً على المرأة إلا في مثل هذه الحال.

معنى تقوى المرأة لربها سبحانه وتعالى

معنى تقوى المرأة لربها سبحانه وتعالى إذاً: تقوى المرأة لله عز وجل أمر مهم جداً، والتقوى حقيقتها: امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، التقوى: هي العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثوابه، وترك معصية الله على نور من الله عز وجل خشية عقابه، تقوى الله للرجل والمرأة جميعاً أن يحاسب كل واحد منهما نفسه فيما يفعل ويذر، وفي كل تصرفاته، لاسيما في تعامل الزوجين بعضهما مع بعض، فإن هذا أمر حساس، فقد جعل الله عز وجل على المرأة واجباً عظيماً، حتى قال عليه الصلاة والسلام للمرأة تجاه الرجل: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ويكفي أن هذا الزوج يتولى أمرها وتربيتها وإعدادها، ويعفها ويطهرها، وينجب لها بإذن الله عز وجل أبناء صالحين، يكونون قرة عين لها في الدنيا والآخرة. وعلى هذا فإن المرأة مطالبة بالتقوى أكثر من الرجل، وتقواها يعني أن تحفظ فرجها، وأن تصون عرضها، وأن تحفظ زينتها؛ فلا تبرزها إلا لمن أذن الله عز وجل لها في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية. تقوى المرأة لله عز وجل معناه: أن تكون دائماً خشية الله عز وجل أمام عينيها، وهي تفعل وتذر، وتترك وتعمل، في كل أمر من أمورها تكون دائماً متقية لله عز وجل، تتصور ساعة القدوم على الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، تتصور الفتن التي تحدث من جراء تبرجها، تتصور ساعة الموت والاحتضار والقدوم على الله عز وجل، تتصور القبر وظلمته، تتصور الحساب وشدته، تتصور صحائف الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وتحصيها، ولذلك فإن نظرة واحدة ينظر إليها بغير طريق شرعي مباح تسجل عليها سيئة، لا سيما وأن هذه النظرة ربما تكون لها آثار على المجتمع سيئة.

عدم الخضوع بالقول

عدم الخضوع بالقول ثم يذكر الله عز وجل الصفة الثانية فيقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، والخضوع معناه: اللين والرقة، والقول معناه: الحديث، أي: لا يجوز للمرأة إذا اضطرت إلى أن تكلم رجلاً ليس من محارمها أن تكلم هذا الرجل برقة ولين؛ سواء كان من خلال الباب، أو الهاتف، أو كلام المواجهة مع البائعين، وأمام الدكاكين عند الضرورة، إذا اضطرت إلى أن تخرج لتقضي حاجة من حاجاتها، بأي حال من الأحوال، يجب أن يكون كلامها طبيعياً غير متكلف، ليست فيه رقة ولا لين؛ حتى لا يطمع من في قلبه مرض، أي: نفاق، أو شك، أو شهوة حرام، أو ربما يكون إنساناً بريئاً طاهراً فتؤثر فيه كلمة رقيقة يسمعها من امرأة ربما تكون نزيهة، ثم إذا بها تقع موقعها من قلبه، فإذا بها تؤثر عليه، وتفسد عليه دينه وأخلاقه وتقاه لله عز وجل. إذاً: على المرأة إذا تكلمت أن تقول قولاً معروفاً، كما أخبر الله عز وجل؛ فليس بالكلام الخشن، وليس بالكلام الرقيق الذي يؤدي إلى الطمع فيها، فكم من كلمة رقيقة مقصودة أو غير مقصودة أثرت في أخلاق أمة، وأفسدت فرداً أو مجتمعاً! ولذلك فإن المرأة عليها أن تتقي الله حينما تضطر إلى الحديث مع أحد ليس من محارمها، أن يكون كلامها طبيعياً، وألا يكون رقيقاً، وألا يكون مطمعاً فيها، مرغباً من في قلبه مرض، ومحدثاً شهوة في قلبه تتعلق بهذه المرأة.

القرار في البيت

القرار في البيت الصفة الثالثة: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، يقول المفسرون: إن (قرن) مأخوذ إما من الوقار أو من القرار، وسواء كان من الوقار أو من القرار فكلاهما أمر مطلوب، فالوقار معناه: الاحترام، أي: كن موقرات محترمات، ولذلك فإن بقاء المرأة في البيت هو الوقار وهو الاحترام لها، وهو السلامة لها والسلامة للمجتمع. عز الفتاة بقاؤها في البيت لا في المعمل والمرء يعمل في الحقو ل وحرصه في المنزل أي: زوجته، وعلى هذا فإنا نقول: إن المرأة تكون موقرة محترمة بعيدة عن الشهوات المحرمة، بعيدة عن النظرات الفاتنة، بعيدة عما حرم الله عز وجل حينما تبقى في بيتها، هذا هو وقارها، وهذه عزتها وكرامتها. وربما يكون من القرار، وهذا أقرب إلى المقام، والمراد بالقرار: البقاء، ومعنى (قر) أي: ثبت، أي: اثبتن في بيوتكن، والمرأة التي لا تبقى في بيتها وتخرج متى شاءت لسبب ولغير سبب، لحاجة ولغير حاجة، لضرورة ولغير ضرورة، امرأة معرضة للفتنة, وهي أيضاً معرضة الناس للفتنة، فإن تجمل المرأة وذهابها متى شاءت وحيث شاءت، دون أن تتقيد بأمر اضطراري يضطرها إلى الخروج، أو على الأقل حاجة تحوجها إلى الخروج، إنها امرأة عليها خطر هي بنفسها، والمجتمع الذي تتزاحم فيه النساء في الأسواق، والذي تتسابق فيه النساء إلى الأسواق دون ضرورة مجتمع على خطر. إن ذلك يعتبر من أخطر الفتن التي حلت في العالم، حينما كرهت المرأة البقاء في البيت، واعتبرته تخلفاً ورجعية كما يقول أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة، فيجعلونها تخرج متى شاءت، وترجع متى شاءت، وتذهب إلى دور السينما، وإلى شواطئ البحار، كما يحدث حتى في أكثر البلاد الإسلامية، دون قيد ولا شرط؛ هذا هو الذي أحدث فتنة في الأرض وفساداً عريضاً.

جواز خروج المرأة للضرورة وبشروط معلومة

جواز خروج المرأة للضرورة وبشروط معلومة أما المرأة المسلمة فإن الله تعالى يقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، والقرار في البيت: هو سبب عزتها وكرامتها وسلامتها، وسلامة المجتمع، وهذا الأمر لا يعني ألا تخرج المرأة؛ بل إذا خرجت فعليها أن تخرج بأدب، وبقدر الحاجة، فإن الإسلام يعامل المرأة كما يعامل الرجل -إلا في أحوال مخصوصة-، فيبيح لها أن تخرج لحاجاتها، لكن بشروط وآداب، وأهم هذه الشروط: أن تكون هناك حاجة ملحة، وأن تكون متسترة غير متبرجة، وغير متطيبة، ويا حبذا لو ذهب بها وليها إلى المدرسة وإلى مكان العمل عند الحاجة والضرورة. وعلى كل فإن هذه الآية لا تعني أن تحرم المرأة من الأخذ والإعطاء، والبيع والشراء قدر الحاجة، والتعليم والعمل، ولكن ذلك كله يجب أن يخضع لشروط وقواعد وأمور لابد منها؛ لحفظها وحفظ المجتمع من فتنتها، ومن شر مخططات الأعداء، فلها أن تتعلم، لكن يجب أن يكون بحدود، يجب أن تكون هناك مناهج مرسومة وفق متطلبات بلد ما، بمقدار محافظة هذا البلد على دينه وأخلاقه، وبمقدار حاجة هذا المجتمع إلى تخصصات هذه المرأة، بحيث تكون لها برامج محددة ومعينة ومقدرة وفق حاجتها وحاجة المجتمع. والإسلام لا يمنع من عمل المرأة، لكن بشروط، وأهم هذه الشروط: أن تكون بعيدة عن الرجال، وألا يخلو بها رجل ليس من محارمها، وألا تكون هناك فتنة في خروجها، وأن يكون هذا العمل لا تقوم به إلا المرأة، أما أن يختلط الأمر على الناس، ليعمل الرجل بجوار المرأة، والمرأة بجوار الرجل، وأن تعمل المرأة في وقت نجد فيه الشباب معطلاً، وهي التي تقوم بدور الشباب، وبعمل الشباب؛ فإن ذلك كله يعتبر خللاً في نظام المجتمع، وخطأ تقترفه الأمة في حق المرأة وحق الرجل. كثير من المجتمعات البشرية يتعطل فيها الرجال وتشتغل فيها النساء، وتشتغل النساء بأعمال الرجال، ولربما يشتغل الرجال بأعمال النساء، ولربما يشاهد ذلك في بعض أعمال المستشفيات التي لم تنظم وفق منهج تشريعي صحيح، فنجد مثلاً أن المرأة يولدها رجال، لينظر إلى أقصى عورتها! في وقت نرى أن التمريض تقوم به النساء حتى في جانب الرجال، بالرغم من وجود معاهد للتمريض للرجال وللنساء! فما هو السر في ذلك؟ لا ندري! بالرغم أن كليات الطب تخرج من النساء أكثر مما تخرجه كليات الطب للشباب، لكني أرى ذلك خللاً أو سوء تفكير، ونعوذ بالله أن نضطر إلى أن نقول: إن ذلك يدل على سوء الطوية.

بقاء المرأة في بيتها لتربية أولادها وحمايتهم

بقاء المرأة في بيتها لتربية أولادها وحمايتهم أيها الإخوة! إن بقاء المرأة في بيتها هو عزتها وكرامتها، وليس معنى ذلك أنه إهانة لها، بل ذلك يعني أن الرجل مكلف ومطالب بأن يحضر كل حاجات المرأة إلى بيتها، وأن يقوم بكل متطلبات حياتها، فهو الذي يلزمه أن يذهب إلى البقال لكي يحضر الأطعمة، وهو ملزم بأن يبحث عن الرزق الحلال؛ لتبقى هي في مهمة أكبر، في إعداد البيت، وتربية الأطفال، وحمايتهم من الفتن، وتعريفهم بالله عز وجل، وتربيتهم تربية سليمة، وهذا هو ما تفقده كثير من المجتمعات التي شغلت المرأة بدون قيد ولا شرط، فذُهب بالأطفال إلى المحاضن، وربوا تربية بعيدة عن الإسلام؛ بل بعيدة عن العاطفة، حتى لا يشعر هذا الطفل بعاطفته تجاه أبيه وأمه، فهو لا يرى أباه وأمه إلا في وقت نادر جداً، مما أدى إلى عقوق من جانب، وأدى إلى انفصام في الشخصية الإنسانية من جانب آخر، كما أدى إلى أن يكون هناك مجرمون في المجتمعات الإنسانية؛ لأنهم يفقدون العاطفة والحنان. وعلى هذا نقول أيها الإخوة! إن الإسلام الذي يطالب المرأة بالبقاء في البيت لا يعني أن يعطل هذه الطاقة، وإنما يعني أن تقوم بدور أكبر من البحث عن الرزق، أما الرجل فهو الذي يطالب بالبحث عن الرزق، فالرجال كما قال الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، حتى قال علماء الإسلام: إن الزوج يطالب بالنفقة على زوجته، ولو كانت هي غنية وهو فقيراً، حتى لو عجز عن النفقة عليها، وفي مثل هذا الحال لها أن تطلب الطلاق، بناء على عجزه عن النفقة عليها أي حق تطلبه المرأة بعد ذلك؟ وأي هدف تسعى إليه؟ لم يبق بعد ذلك إلا أن تخرج إلى ما فيه هدم أخلاقها، وضرر المجتمع، ودمار الأمم. إن المجتمعات التي خرجت فيها المرأة فلا تعود إلى بيتها إلا في الهجيع الأخير من الليل، هي المجتمعات التي خطط لها منذ أمد بعيد، ودمرت تدميراً حتى لم يبق لديها رصيد من الفضيلة، أما الإسلام فإنه يعطي كل ذي حق حقه، ويلزم الرجل بالبحث عن الرزق، وبالسعي والضرب في أرجاء هذه الأرض؛ حتى يؤمن لهذه المرأة كل وسائل الراحة والمتاع، وعليها أن تبقى في البيت امتثالاً لأمر الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وإذا احتاجت للخروج للعلم أو للتعليم، أو لعمل آخر منضبط وفق قواعد الشرع التي جاءت من عند الله عز وجل؛ فإن الإسلام لا يعارض في هذا الأمر، لكن خير لها أن تبقى في بيتها حتى لا تضيع هذه الذرية. أما المجتمعات التي خالفت هذا الأمر فجاءت المربيات، ونقلت الأطفال إلى المحاضن، ثم إلى رياض الأطفال، ثم إلى غير ذلك، حتى لربما أن هذه الأم لا ترى طفلها بعد ساعة الولادة إلا بعد مدة طويلة من الزمن، ومن هنا تفقد العاطفة بين الأبوة والأمومة والطفولة، وحينئذ لا تسأل عما يصل إليه ذلك المجتمع، ويكفينا دليلاً على ذلك ذلك الانفصال النكد بين أفراد المجتمعات الإنسانية التي فقدت هذه العاطفة وهذا الحنان، حتى لا نرى أن هناك علاقة وثيقة بين الأب وأبنائه، وبين الأبناء وأبيهم وأمهم. إن من أهم مصالح هذا القرار للمرأة في البيت أن يسلم المجتمع من النظرات الحرام التي توزعها المرأة في المجتمع حينما لا تتقيد بأوامر الله عز وجل.

عدم التبرج والسفور

عدم التبرج والسفور قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، التبرج: مأخوذ من البرج، والبرج معناه: الشيء المرتفع الذي يرى من بعيد، ويقال للسفينة الكبيرة: بارجة؛ لأنها ترى من بعيد، كما يقال للبرج برجاً؛ لأنه يرى لارتفاعه من بعيد، والمرأة المتبرجة: هي التي تكشف شيئاً من جمالها ليراها الناس كما يرى البرج من بعيد، وكما ترى البارجة من بعيد. وهذا الجمال الذي جعله الله عز وجل زينة لها ليكون سبيلاً لربط العلاقة بينها وبين زوجها، لا يجوز أن يكشف إلا حيث أباح الله عز وجل بقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية. والتبرج يشمل عدة أمور نشاهدها في عالمنا اليوم منها: إظهار جمال الجسد، كما تفعل كثير من النساء الساقطات، حينما تخرج شعرها ونحرها وساقيها، ولربما شيئاً من فخذيها وذراعيها، حتى لقد تطور الأمر إلى أن وجدت هناك نساء شبه عاريات ترى في بعض بلاد المسلمين! فكان سبباً للفتنة. وإذا قيل لتلك المجتمعات: إن هذا سبب دمار الأمة، قالوا: إن الوحشة بين الذكر والأنثى تزول حينما تتبرج المرأة وتكشف زينتها؛ لأنها تصبح أمراً مألوفاً! قاتلهم الله أنى يؤفكون! ونرد عليهم من خلال واقعهم ونقول: إن مجتمعاتكم التي كشفت عن جمال المرأة وعن جسدها، حتى وصلت إلى الحضيض، وسقطت أنظمتكم بمقدار سقوط أخلاقكم، وكلما هبط الإنسان درجة هبط القانون درجتين ليسدل ستاراً على ذلك الواقع المرير هل استطعتم من خلال هذا الهبوط، ومن خلال هذا التبرج، ومن خلال هذا الاختلاط، ومن خلال تلك العفونة وذلك الانحطاط هل استطعتم أن تقضوا على الفاحشة كما تزعمون؟! إنكم تقولون: إن الشهوة بين الرجل والمرأة نستطيع أن نقضي عليها من خلال هذا التبرج ومن خلال الاختلاط إلى غير ذلك، ونقول: إن الفواحش والجرائم والسطو والزنا والإجرام ينتشر في بلادكم بمقدار ما تنحرفون عن منهج الله عز وجل وعن دين الله، وبمقدار ما تسقط فيه المرأة وتتبرج. وعلى هذا فإن الله عز وجل يريد المرأة المسلمة ألا تتبرج: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، سواء في ذلك التبرج الذي هو إخراج الزينة، أو التبرج الذي هو إخراج تقاسيم الجسد في الملابس الضيقة من البنطال وغيره، أو التبرج الذي هو لبس الملابس الشفافة، أو الرقيقة، أو الجميلة الفاتنة، أو التعطر والتطيب، كل ذلك داخل في التبرج الذي حرمه الله عز وجل. يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وهذا يدل على أن هناك جاهليتين، وفعلاً هناك جاهليتان: جاءت الجاهلية الأولى فتفسخت فيها المرأة، حتى كان من بقاياها أن طافت حول البيت عارية، تضع يديها على سوءتها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله تفسخت المرأة، وانتشر الفساد؛ فكان سبباً في سقوط الأمة في الجاهلية الأولى. ثم جاءت الجاهلية الثانية تحمل رد فعل لما فعلته الجاهلية الأولى، فبالغوا في حماية المرأة مبالغة شديدة، حتى أدى إلى أن أحدهم -والعياذ بالله- {َإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:58 - 59]، يقول الله عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، فربما يصبر على هذه المرأة، ويشعر بالخيبة والضياع حينما تولد له امرأة، فإما أن يمسكها على هوان، وإما أن يدفنها وهي حية، وهو الوأد الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، ثم جاء الإسلام فلا هو بالجاهلية الأولى التي تتبرج فيها المرأة، ولا هو بالجاهلية الثانية التي يبالغ فيها بحماية المرأة حتى يؤدي إلى وأدها، وإلى الشعور بالذلة والمهانة والسوء حينما يبشر أحدهم بالأنثى، أي: بالبنت تولد له، فالله عز وجل يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، أي: لا تتبرجن كتبرج الجاهلية الأولى.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة يقول الله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} [الأحزاب:33]، وإقامة الصلاة تعني: تطهير المجتمع من الفساد، والرجل والمرأة جميعاً مطالبان بإقامة الصلاة، والصلاة طهارة للمجتمع، كما قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وكما شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جاري بباب أحدنا يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى من درنه شيء. إن المجتمعات المصلية التي تؤدي الصلاة كما أمر الله عز وجل هي المجتمعات المحافظة على عزتها وكرامتها، وعلى طهارتها ونقائها، والمجتمعات الفاسدة التي ليست فيها الصلاة، وليس من تكاليفها الصلاة أو لا تقيم الصلاة، مجتمعات منحطة، مجتمعات فاسدة، تنتشر فيها الفواحش الظاهرة والباطنة. إن الصلاة طهارة للمجتمع، وكذلك الزكاة؛ سواء في ذلك زكاة المال، أو الزكاة بمعنى الطهارة.

طاعة الله ورسوله

طاعة الله ورسوله قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33]، وهذا هو العامل السادس من العوامل التي تطهر المجتمع: طاعة الله وطاعة رسوله، ومعنى طاعة الله وطاعة رسوله: امتثال أمر الله، ولو أدى ذلك إلى معصية الهوى والشهوة، ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما يدسه أعداء الإسلام في المجتمعات الإنسانية، الله تعالى يريد لهذا المجتمع أن يكون طاهراً نقياً، وأعداء الإسلام يريدون أن يكون مجتمعاً ساقطاً منحرفاً قد ظل الطريق، ولذلك فإن المرأة مطالبة بأن تطيع الله ورسوله في كل أمر من أوامر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تقدم على ذلك شهوة، ولا موضة، ولا رغبة من رغباتها، ولا مخططاً من مخططات أعدائها، ولا انحرافاً من الانحرافات التي يبثها أعداء الإسلام في المجتمع، وحينما تقدم طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على طاعة أعدائها؛ تكون لها السعادة في الدنيا والآخرة.

الدعوة إلى الله تعالى

الدعوة إلى الله تعالى ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، معنى (اذكرن) أي: تذكرن، فتذكري أيتها الأخت المسلمة وأنت تعيشين في بيت مسلم، في عصبة زوج مسلم، أو في كفالة أب مسلم، أو في حفظ وصيانة أخ مسلم، وفي مجتمع مسلم - تذكري هذه النعمة، واعتبريها من أكبر نعم الله عز وجل عليك، وانظري يميناً وشمالاً إلى النساء الساقطات الكافرات نساء جهنم؛ فاشكري نعمة الله عز وجل. كما أن هذه الآية أيضاً تطالب المرأة بتبليغ دعوة الإسلام؛ لأن معنى (اذكرن) أي: بلغن أيضاً، فإن المرأة المسلمة كالرجل المسلم؛ بل ربما تكون أحوج إلى أن تتحمل هذه المسئولية في أيامنا الحاضرة من الرجل، في وقت وجهت مخططات رهيبة إلى النساء وإلى الفتيات المسلمات، هذا الموقف يتطلب من الأخت المسلمة، ومن الشابة المؤمنة، ومن الزوجة الصالحة، ومن الأم التقية أن تؤدي هذه الأمانة، أي: أمانة التبليغ، وأمانة الدعوة إلى الله عز وجل؛ حتى تنتشل هذه النساء المسكينات، اللواتي ربما نجحت فيهن مخططات أعداء الإسلام. إن تبليغ دعوة الإسلام، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن محاربة المخططات الرهيبة التي يقوم بها أعداء الإسلام في أيامنا الحاضرة مسئولية الجميع، الذكر والأنثى على حد سواء، وهي مسئولية المرأة أيضاً في الدرجة الأولى؛ فإن النساء تتأثر بالنساء، وإن المرأة تسمع من المرأة، وتختلط بها، وتدرك أخطاءها وعثراتها، ولذلك فإنا ندعو الأخت المسلمة لاسيما في عصر الصحوة الإسلامية المباركة والحمد لله، لاسيما في عصر صار نصيب المرأة من الصحوة الإسلامية، ومن الاتجاه إلى دين الله عز وجل أكثر بكثير والحمد لله من نصيب الشباب، وصدقوني أيها الإخوة! من خلال أسئلة تأتي عن طريق الهاتف تتكرر في الساعة عشرات المرات من أخوات يسألن عن أمور الورع، وعن قيام الليل، وعن صوم النوافل، وعن الأمور التي ربما ما كان الناس يفكرون بها في يوم من الأيام، مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الصحوة -ولله الحمد- لدى فتياتنا وأخواتنا أكثر بكثير مما هو لدى شبابنا الذي اتجه إلى ربه والحمد لله في هذه الأيام. وهذه الفرصة تتطلب عملاً جاداً من الرجل والمرأة، ومن المرأة بصفة خاصة إلى النشاط في الدعوة إلى الله عز وجل، إلى توزيع الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والتخويف بالله عز وجل، والتذكير به، وبيان مخططات الأعداء، وبيان ما يحيكه أعداء الإسلام ضد هذا الدين بصفة عامة، وضد المرأة بصفة خاصة. إن قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34]، أمر للمرأة بصفة خاصة أن تبلغ دعوة الإسلام، وأن تغتنم الفرصة، وألا تفوتها داخل المدرسة وداخل السوق حينما ترى امرأة متبرجة، وداخل المنزل، وفي كل حال من حالاتها، لا تغفل عن هذا الأمر؛ فإنها مسئولية عظيمة، عجزت عنها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، نقول للأخت المسلمة: افهمي معنى قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].

الأخطار العظيمة المحدقة بالمجتمعات الإسلامية

الأخطار العظيمة المحدقة بالمجتمعات الإسلامية إن هناك أخطاراً عظيمة حلت في المجتمعات الإنسانية؛ بل وفي المجتمعات الإسلامية، إن عصر التقنيات الحديثة الذي نعتبره من جانب نعمة من نعم الله عز وجل، هو في الحقيقة قد فتح أبواباً كثيرة من أبواب الشرور والمصائب، فكان من هذه الوسائل الحديثة ما حمل هذا السم، ونقله إلى قعر بيوت المسلمين؛ فجاءت الصحف المصنعة والوافدة بأفكار مسمومة، وقصص غرامية، وصور فاتنة، ابتداء من صورة الغلاف إلى آخر صفحة من صفحاتها، وغزت الأمة الإسلامية، ودخلت إلى قعر بيوت المسلمين، وإني لأعجب كل العجب حينما أرى أن طائفة من الآباء وأولياء الأمور لهذه النساء هم الذين يشترون هذه الصحف المتفسخة الفاتنة؛ ليهدوها هدية إلى نسائهم داخل وقعر بيوتهم!! وهذه من المصائب والبلايا التي حلت بالأمة الإسلامية؛ لأن المرأة أصبحت تقرأ وتتطلع إلى أن تقرأ إلى كل شيء في هذا المجتمع، أضف إلى ذلك ما مني بها عالمنا الحاضر في دنيا الناس اليوم من الأفلام التي وصلت إلى قعر بيوت المسلمين بوسائل متعددة؛ سواء في ذلك التي تأتي بطريق رسمي، أو بطريق غير رسمي، من الفيديو وغيره. وعلى هذا نقول: الأمر خطير، فإننا نرى أن جزءاً من وقت فتياتنا العفيفات الطاهرات يصرف في مشاهدة هذه الأفلام بواسطة التلفاز أو الفيديو أو أفلام السينما أو ما أشبه ذلك صور شبه عارية، وقصص غرامية، وخيانات زوجية، وأمور عظام لا يستطيع أن يتحملها عقلاء الرجال فضلاً عن عامتهم، فضلاً عن المرأة التي تتعامل في المجتمع مع عواطفها أكثر من عقلها. أمور أخرى وأهمها: الانفتاح الشديد المفاجئ لبيئة مثل بيئتنا هنا بيئة محافظة والحمد لله، انفتاح شديد وسريع مفاجئ، فما هي إلا سويعات وإذا بهذه المرأة تصل إلى أقصى بلاد العالم، لاسيما فيما يسمونه: (شهر العسل)، الذي تفاجأ فيه المرأة المحصنة العفيفة الطاهرة التي تعيش داخل أسوار أمينة، ثم إذا بها تنتقل إلى بيئة بعيدة كل البعد عن أخلاقها وما اعتادته، ثم إذا بها تتأثر بسرعة، لتعود إلى بلادها وهي تشعر بأن ذلك العالم هو العالم المنفتح. وعلى هذا نقول: إن هناك أخطاراً عظيمة غزت العالم الإسلامي، وهناك وسائل تقنية حديثه نقلت الغث والسمين، والضار والنافع -إن كان هناك شيء نافع- إلى قعر بيوت المسلمين، وأصبح الرجل داخل بيته يشعر باللوعة والأسى، ويعض أصابع الندم، ويضرب يداً بيد، لا يدري ماذا يفعل أمام هذه الفتنة التي لم تدع بيت شعر ولا مدر إلا دخلته! ثم بعد ذلك ربما يكون هو متسبباً، وهو الذي جاء بهذه الفتن حتى أدخلها داخل البيت. كل ذلك وغيره من الكتب المسمومة، والأفكار المنحرفة، والدعايات المضللة، ودعاة الباطل على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأصبحوا يشتغلون من خلال هذه الوسائل الحديثة، فأصبح الأمر خطيراً، وربما يعجز المصلح في هذه الظروف أن يصلح ما دامت هذه البيئة فيها شيء من هذا اللوث وهذا الانحراف، فما هو العلاج؟

العلاج من الوقوع في تلك الأخطار

العلاج من الوقوع في تلك الأخطار العلاج أن تتضافر كل الجهود، وأن يتقي الله عز وجل كل المسئولين، سواء كان على المسئوليات الكبرى، أو على المسئوليات الصغرى، أم على مسئولية صاحب البيت، وصاحب الأمانة الذي استرعاه الله عز وجل على أغلى شيء في هذه الحياة وهي الأهل والذرية، ليتقوا الله عز وجل جميعاً، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] نعم آن، ثم يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17]، فهناك أمل؛ فكما تحيا الأرض بعد موتها قد تحيا القلوب الميتة، التي طال عليها الأمد فقست. ألم يأن للمسئولين عن الإعلام في بلاد المسلمين أن يتقوا الله عز وجل، وألا ينشروا إلا ما فيه خير، أو ما لا ضرر فيه؟! ألم يأن لأولياء البيوت وللآباء، ولمن استرعاهم الله عز وجل على هذه الأمانة، وسوف يسألهم الله عن عز وجل عن هذه الأمانة، أن يتقوا الله عز وجل في هذه البيوت البريئة، وأن يتقوا الله في هذه الفطرة النظيفة الطاهرة النقية، حتى لا يكدروها بما حرم الله عز وجل، فلا يجلب لهذه البيوت الوسائل الفاتنة المرئية أو المسموعة أو المقروءة؟! يتقون الله عز وجل في هذه الأمانة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). فما هو موقفك بين يدي الله عز وجل يا أخي المسلم! إذا أوقفك الولد يحاسبك ويقول: يا رب! إن أبي هذا خانني، أو أوقفتك البنت التي لم تؤد حق الله عز وجل في تربيتها وتطهيرها وإنقاء أخلاقها وتقول: يا رب! زد أبي هذا عذاباً ضعفاً في النار، إنه خانني؛ لأنك لم تربها التربية الصحيحة، ولم تطلعها على المنهج الصحيح الذي يجب أن تكون عليه النساء الفضليات، بل ربما تكون أنت السبب في إحضار بعض الوسائل التي كان لها أثر فعال، ومصيبة وفتنة في أخلاقها ودينها وسلوكها؟! من خلال ذلك نستطيع أن نربي المرأة المسلمة التي هي أمانة في أعناقنا منذ طفولتها، وبعد أن تشب عن الطفولة، وحينما تكون شابة؛ حتى نسلم هذه الأمانة لزوجها ليتحمل بقية المسئولية وبقية المشوار. أما ما عليه هؤلاء الناس في كثير من الأحيان فإنه أمر خطير جداً، فقد أصحبت هذه الأوبئة، وهذه الأفلام والمسلسلات، وهذه الصور الفاتنة تفتك بالشباب والشابات، تشحذ الهمم، وتثير الغرائز، فإذا بها تكون في المجتمع فتنة عمياء صماء، يضاف إلى ذلك ما مني به المجتمع الإسلامي بصفة خاصة من غلاء في المهور، ومن عزوف عن الزواج، ومن خلل في الأنظمة الاجتماعية، كل هذه لها الأثر مع ما سبق مما خططه أعداء الإسلام لينشروا الفساد والرذيلة. ونختم حديثنا بقول الله عز وجل موجهاً للمرأة المسلمة بل ولوليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، ثم يوجه الله عز وجل بعد ذلك الخطاب للذين يريدون أن ينشروا الفساد في المجتمعات الإسلامية فيقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60 - 62]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسال الله عز وجل أن يثبت الأقدام على ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقرن في بيوتكن

وقرن في بيوتكن لقد خاطب الله عز وجل في القرآن الرجال والنساء بخطاب عام على السواء، ثم إنه سبحانه خص النساء بالخطاب في بعض الآيات لأهمية الموضوع الذي يتناولهن، ومن هذه المواضيع المهمة ما تناولته آيات الأحزاب من الأمر بطاعة الزوج، والصبر على قلة ذات يده، وترك التبرج والسفور، وعدم مخالطة الرجال أو مصانعتهم بالكلام المثير لغرائز النفوس وشهواتها، والالتزام باللباس الشرعي الساتر كما أمر الله تعالى.

تفسير آيتي التخيير من سورة الأحزاب

تفسير آيتي التخيير من سورة الأحزاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:28 - 34]. أما بعد: أيها الإخوة! درسنا هذه الليلة إن شاء الله في صفات المرأة في سورة الأحزاب، وهذه السورة ركزت على تربية المرأة، وكانت الآيات التي سنشرحها تربيةً لأفضل نموذج لنساء العالمين، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه التربية ليست خاصة بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأوامر التي سمعتموها ليست خاصة بهن، لكنها لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، فهي للمرأة الفاضلة، وبمقدار ما تزيد المرأة فضلاً يكون نصيبها من هذه الأخلاق أكثر وأفضل، ولذلك تجدون في آخر الآيات كما سيأتينا إن شاء الله في آخر السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:59 - 62].

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) تبدأ الآيات بصفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: الصفات التي يجب أن تتحلى بها المرأة المسلمة عموماً، لكنها يجب أن تبدأ من أفضل النساء وتنتهي بأي امرأة مسلمة، وسبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29] أن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفقن ذات يوم على أن يطلبن النفقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لو شاء لسارت معه جبال الدنيا ذهباً وفضة- قد قدر الله عز وجل عليه عيشه فلم يوسع له؛ لأن له الحياة الآخرة، فكن في ضيق من العيش، وضنك من النفقة، فاتفقن ذات يوم على أن يقدمن احتجاجاً، يطلبن فيه زيادة في النفقة. فدخل أبو بكر وقد ظهرت علامات الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أبو بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتسم، فقال: (يا رسول الله! لو رأيت زوجتي طلبت مني نفقة فقمت فوجأت عنقها؛ فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن هؤلاء حولي يطلبن النفقة، فقال: يا رسول الله! إن شئت أقوم فأجأ عنق عائشة -أي: بنته- قال: لا)، ثم بعد ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات، يخيرهن بين زينة الحياة الدنيا وبين المتاع الخالد في الحياة الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28]، المتاع اللذيذ، القصور الفارهة، هذا ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عند غير الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وسع الله عليهم في الرزق، أما إذا كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فعليكن أن تصبرن على شظف العيش في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن كلهن: بل نختار الله ورسوله، فبعد ذلك نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عليهن كما سيأتينا في آيات لاحقة إن شاء الله. إذاً: هذا هو سبب نزول هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29]. وعلى هذا فإن المرأة المسلمة إذا اختارت الرجل الصالح فلم يوسع الله عز وجل له متاع الحياة الدنيا أو لم يعطه من الشرف ما أعطى سائر الناس، أو غيره من أمور أخرى تهواها المرأة، فعليها أن تصبر وتتحمل؛ لأن هذه هي سنة الله عز وجل في هذه الحياة، ولربما يفتح الله عز وجل لهذا الإنسان الحياة الدنيا، ويعطيه أيضاً الحياة الآخرة، لكن المرأة الصالحة عليها دائماً وأبداً أن تختار السعادة الخالدة، وأن تختار الرجل الصالح، فنساء الرسول صلى الله عليه وسلم اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هناك شظف شديد من العيش.

مراحل علاج الرجل للمرأة قبل الطلاق

مراحل علاج الرجل للمرأة قبل الطلاق (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) المال، (وَزِينَتَهَا) القصور والمتاع والطعام اللذيذ، (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا) والتمتيع هو مالٌ يدفع عوضاً عن الفراق، وهذا كان واجباً، ثم صار سنة عند فراق المرأة أن يدفع لها الزوج شيئاً من المال تطييباً لخاطرها عند الفراق، وإذا كان هناك مهر مؤخر فعليه أن يدفعه في مثل هذه الحال، وإذا لم يكن هناك مهر مؤخر فمن السنة والأفضل أن يمسح دموع هذه الزوجة المطلقة التي فاتها هذا الزوج الذي عاشت معه مدة من الزمن، ويسمى التمتيع، ثم يكون بعد ذلك الطلاق. والطلاق: هو المراد بالسراح الجميل، ولا يجوز أن يكون ألعوبة بأيدي العابثين، ولذلك سماه الله تعالى سراحاً جميلاً، وهناك سراح غير جميل، وهو أن يتخذ ذلك الإنسان هذه المرأة ألعوبة يطلقها اليوم، فإذا أوشكت عدتها على النهاية راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها إذا أوشكت على النهاية، ثم طلقها، فبدلاً من أن تصبح العدة ثلاثة أشهر فتصبح تسعة أشهر، وهذا إيذاء للمرأة وليس بالسراح الجميل. ولذلك فإن الطلاق الصحيح هو طلاق السنة: أن يعزم على الطلاق بعد أن يكون لا مناص هناك من الطلاق؛ لأن الطلاق هدم للأسر، فلا يقدم عليه الإنسان إلا في حالات ضرورية ملحة تلزم هذا الإنسان بالطلاق، أما أن يتسرع هذا الإنسان ويتخذ المرأة ألعوبة، فيتزوج اليوم ويطلق غداً لتصبح هذه المرأة غير مستقرة الحياة لا تبني لها عشاً ولا بيتاً فإن هذا لا يقره الإسلام، فلا يتزوج إلا وعنده رغبة في الحياة الطويلة معها، ثم عند الضرورة هناك علاج في القرآن في سورة النساء يذكر كيف يعالج الإسلام قضية الطلاق، وهو أنه إن كرهها فعليه أن ينظر إلى كثير من صفاتها الأخرى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر)، قد تكون غير جميلة لكنها امرأة صالحة، قد تكون غير جميلة لكنها تنجب له أولاداً صالحين، وهكذا. فالمسلم ينظر إلى المرأة من عدة جهات لا من جهة واحدة، ولذلك الذين يتسرعون في أمر الطلاق يخطئون في حق المرأة وفي حقوق أنفسهم، وفي حق الأولاد إن كان هناك أولاد، وفي حق المجتمع؛ لأن المجتمعات التي تكثر فيها المطلقات يكثر فيها الفساد، وهذا شيء مشاهد، لاسيما في عصر يكثر فيه النساء ويقل فيه الرجال، فلا تكاد المرأة المطلقة تتزوج. ثم بعد ذلك إذا توترت العلاقات بين الزوج والزوجة فقد قال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، ثلاثة أنواع من أنواع التربية: وعظ وتخويف بالله، ثم هجر في المضجع، فإذا نام يجعلها على جهة القفا، فإذا لم ينفع فيها ضربها ضرباً غير مبرح، وهو نوع من التربية، وهذا الضرب وإن كان ضرباً تكرهه المرأة إلا أنه غير مبرح، وهو أيضاً لمصلحة المرأة؛ لأن هذا خير لها من الطلاق. ثم بعد ذلك إذا أعيت هذه العلاجات كلها قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، فيتدخل العقلاء بعدئذ ويأتي حكمٌ من قبل الزوج وحكمٌ من قبل الزوجة، ويدرسان الوضع، فإذا وجدا أي طريق للإصلاح فعليهما أن يسعيا به، أما إذا لم يكن هناك طريق للإصلاح فلهما الحق في الفراق؛ لأن الله تعالى يقول بعد ذلك: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، هذا هو الطلاق في الإسلام، وليس هو الطلاق في نظر الجاهلية.

الرد على من ينتقد جعل الطلاق بيد الرجل

الرد على من ينتقد جعل الطلاق بيد الرجل ينتقد أعداء الإسلام الطلاق في الإسلام، ويقولون: الإسلام يتلاعب بالمرأة، وللرجل أن يطلق متى شاء، بل هناك دول إسلامية مع الأسف تطالب الآن أن يكون الطلاق بيد المرأة لا بيد الرجل؛ وهذا أخطر شيء في حياة الأمة، لأنه لو كان الطلاق بيد المرأة لوقع في ليلة الزفاف؛ لأن المرأة بطبيعتها وعواطفها وسرعة تصرفها لا تستطيع أن تمسك غضبها، وأن تمتلك عصمة الزواج في أي غضبة، فربما تندفع في أي لحظة فتطلق هذا الزوج، لكن حكمة الله عز وجل غالبة حيث جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة؛ لأسباب كثيرة، وأهمها: العقل الذي يمتاز به الرجل وضبط النفس، وعدم الاندفاع مع العواطف. ثانياً: الرجل هو الذي يدفع المال، فلو كانت المرأة تطلق متى شاءت لأصبح الرجل هو الذي يكون ألعوبة، اليوم يتزوج فلانة ويدفع لها كل ماله، ثم تطلقه غداً، وهكذا. إذاً: سنة الله عز وجل هي الحكمة والمصلحة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49]. إذاً: الذين يتلاعبون في حقوق المرأة ليس الإسلام مسئولاً عن تصرفاتهم، وذلك حينما تصبح العدة تسعة أشهر بدل ثلاثة أشهر، لأنه يطلق فيراجع في آخر المدة، ثم يطلقها بعد أيام، ثم يراجعها وهكذا، وربما تبقى معلقة مدى الحياة، وهذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بيان طلاق السنة وتحريم طلاق البدعة

بيان طلاق السنة وتحريم طلاق البدعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق، أنه إذا عزم ولم يكن هناك مناص ولا طريق للإصلاح فإن عليه أن ينظر في أيام طهرها، فإذا كانت طاهراً غير حائض، ثم كان هذا الطهر لم يجامعها فيه فإنه يطلق طلاق السنة وهي طلقة واحدة، ثم يتركها حتى تنتهي هذه العدة فإذا انتهت هذه العدة، فهذا هو الطلاق الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49]، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وهذا هو طلاق السنة، أما الطلاق في أيام الحيض فهو بدعة ومحرم، ولذلك بعض العلماء لا يوقعه، يقول: ليس هذا بطلاق، ولا يقع. كذلك الطلاق ثلاثاً نعوذ بالله، شخص يعطيه الله عز وجل ثلاث فرص في الطلاق، لعله أن يستعيد المرأة، ولعله يفكر فيها مرة أخرى، لكنه يغضب ولو عند طعامه إذا تأخر أو عند أي مشكلة بسيطة فيقول لزوجه: أنت طالق ثلاثاً، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الطلاق أيضاً لا يقع؛ لأنه محرم وكل محرم لا يقع؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وعلى كل فإن المرأة ليست ألعوبة، ولعل هذا اللعب الذي يفعله كثير من الجهال أو طائفة الجهال، هو الذي جرأ أعداء الإسلام اليوم على أن يقولوا عن الإسلام ما يقولون، أما الإسلام فإنه براء مما يقوله هؤلاء الكاذبون المفترون.

أجر المرأة إذا صبرت على شظف العيش وحقها في طلب الفراق

أجر المرأة إذا صبرت على شظف العيش وحقها في طلب الفراق قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:29]، أي: البقاء في عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في عصمة رجل صالح، مع شظف العيش وقلة المال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]، وجواب الشرط محذوف: أي: وإن كنتن تردن الله ورسوله فإن ذلك خير لكن (فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً) وهذا دليل على أن الأجر عظيم إذا تحملت المرأة شظف العيش مع زوجها، لاسيما إذا كان الزوج معسراً، مع أن الإسلام أعطى المرأة حق طلب الفراق إذا أعسر الزوج، وهذا من تكريم الله عز وجل للمرأة، فإذا أعسر الزوج -ولو كانت المرأة غنية، لكنها لا تريد أن تنفق على نفسها من مالها- فلها أن تطلب الطلاق، والعلماء يقولون: يفرق بينهما، فأي تكريم للمرأة أعظم من هذا التكريم؟! قاتل الله أعداء الإسلام الذين يتهمون المرأة بالإهانة. لو كانت هي موسرة والزوج معسراً وعندها مال كثير جداً فإنها لا تلزم بالنفقة على نفسها، فلها أن تطلب الفراق إذا عجز الزوج عن النفقة، لكن خير لها أن تبقى في عصمة رجل صالح ولو كان معسراً ما دامت تجد أن هذا الرجل فيه صلاح وتقى، وذلك خير لها من أن تتحمل رجلاً فاسقاً ولو كان صاحب مركز، ولو كان أثرى الناس، ولو كان يملك كل أموال الحياة الدنيا، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب:29]، فالصبر على شظف العيش مع الزوج الصالح هو ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وابتغاء الدار الآخرة، والمراد بالدار الآخرة هنا الجنة. {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29]، وهذا أعظم درجة الإحسان، أن تتحمل المرأة شظف العيش عند الرجل الصالح، ما دام هذا الصالح يوجهها إلى ما يرضي الله عز وجل.

إخبار الله بمضاعفة الثواب أو العقاب لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم

إخبار الله بمضاعفة الثواب أو العقاب لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]. لو أن واحدة -وحاشا لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه فاحشة- فعلت الفاحشة وهي في فراش رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم -يعني: زوجة له- فإنها تأخذ العذاب ضعفين، حتى قال بعض المفسرين: (ضعفين) أي يضاعف لها عدة مرات؛ لأن الضعف يساوي مرتين. فالعقوبة في خيانة بيت النبوة عظيمة جداً، وكذلك بيوت الرجال الصالحين الأتقياء، وليس معنى ذلك أن خيانة البيوت الساقطة أمر مباح، لكن خيانة البيوت النظيفة الطاهرة الطيبة أمر أخطر وأشد عند الله عز وجل، وهذا دليل على تكريم المرأة أيضاً؛ لأن المرأة حينما تفسد بيتاً صالحاً يزيد إثمها، وتزيد عقوبتها، وحينما تصلح في بيت صالح تؤتى أجرها مرتين، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]. إذاً: احترام فراش الزوج أمر مطلوب من كل امرأة، وإذا كان الفراش أطهر وأنقى فإن المرأة تطالب باحترام هذا الفراش أكثر من أي فراش آخر، فإذا خانت الأمانة في بيت رجل صالح كان جرمها أكبر وأشد، وإذا أدت الأمانة وحفظت نفسها في بيت رجل صالح أو في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تؤتى أجرها مرتين. يقول الله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب:31]، والرزق الكريم هنا هو الجنة، وهذا دليل أيضاً على أن المرأة يجب أن تخشى الله عز وجل، وألا توطئ فراش زوجها من يكرهه بأي حال من الأحوال، أي: تدخله بيته.

صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات الأحزاب

صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات الأحزاب ثم يذكر الله عز وجل عن الصفات التي يجب أن تتصف بها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة صفات لكل زوجات المسلمين. وأريد أن نصيخ بآذاننا إلى هذه الصفات لنلقي من خلال هذه الصفات نظرة أخرى على المجتمع، وهل المجتمع الذي نعيشه الآن يطبق هذه الصفات، أو لا يطبق هذه الصفات؟ وبعد أن نقارن بين ما أراده الله عز وجل للمرأة المسلمة أياً كانت هذه المرأة المسلمة وبين الواقع علينا أن نعود إلى الله عز وجل تائبين، وإن كان هناك شيء في أهلينا يختلف عن المنهج الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى فإننا نصححه. يقول الله تعالى عن صفات المؤمنات وهي تبدأ بصفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، وتنتهي في أي امرأة مسلمة: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]. يعني: أنتن تختلفن عن نساء العالمين جميعاً؛ لأنكن تعشن في بيت النبوة، ولأنكن زوجات خير البرية صلى الله عليه وسلم، فلستن كأحد من النساء. ثم ذكر الله عز وجل الصفات التي يجب أن تتحلى بها زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى، وتتحلى بها كل امرأة مسلمة في الدرجة الثانية، وهي: أولاً: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ) وهذه الصفة الأولى. ثانياً: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). ثالثاً: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا). رابعاً: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ). خامساً: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى). سادساً: (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ). سابعاً: (وَآتِينَ الزَّكَاةَ). ثامناً: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). تاسعاً: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. فهذه تسع صفات لا بد لكل امرأة تريد سعادة الدنيا والآخرة أن تتسم بهذه الصفات التسع، وأي امرأة تخرج من هذا الإطار ومن هذا المنهج ومن هذه الصفات فهي معرضة للنار؛ لأن هذه صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللائي يقول الله عز وجل عنهن: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26]، ونحن مطالبون بأن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. إذاً: ما يطالب به زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى تطالب به كل امرأة مسلمة، وما يطالب به الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية أهله يطالب به كل واحد من المسلمين؛ لأن هذا المنهج تشريع لكل الأمة، وليس هناك صفة خاصة.

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوى

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوى فالصفة الأولى: هي التقوى: قال: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ) والتقوى صفة جميلة محبوبة في كل خلق الله، لكنها في المرأة أجمل وأحسن؛ لأسباب وأهم هذه الأسباب: أن بعد المرأة عن التقوى خطر عظيم، وليس خطراً على المرأة وحدها فحسب، بل هو خطر على المجتمع؛ لأن أعداء الإسلام في كل عصر وخاصة في هذه الفترة المعاصرة يحرصون كل الحرص على أن تخرج المرأة عن جانب التقوى ليفسد المجتمع؛ لأنهم جربوا كل الأمور ففشلت، ورأوا أن أقرب طريق لحرف الأمة الإسلامية إنما هو المرأة، وهذا عن تجارب مروا بها مع المسلمين: أولاً: جربوا المسلمين بالمواجهة المسلحة، فأصبحوا يواجهون جبالاً، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، وأصبحت الأمة الإسلامية لا تغلب، ولو غلبت في معركة من المعارك فإنها تلم شملها في أسرع وقت ممكن، ثم بعد ذلك تعود لها قوتها في الحال، كانت غزوة الأحزاب، ثم كانت حروب أخرى، ثم كانت الحروب الصليبية، ثم كان الغزو التتري، ثم كان ثم كان حروب كثيرة، بعضها تنتصر فيها الأمة الإسلامية، وبعضها ربما تنهزم فيها في الظاهر، لكنها تستعيد مكانتها في أقرب وقت ممكن. إذاً: فشلت هذه المؤامرة، حتى جاءت الشيوعية تحمى بقوة الحديد والنار، وانتهت الشيوعية وما ارتد مسلم واحد من سبعين مليون مسلم في بلاد الشيوعية عن الإسلام ودخل في منهج الشيوعية أبداً. ثم سقطت الشيوعية وأنهت دورها في هذه الحياة، وجاءت أفكار أخرى قومية وناصرية وعلمانية وهي الآن قد بدأت تهتز، وكلها تساقطت. إذاً: ما هو الطريق لحرف الأمة الإسلامية؟ الطريق هو المرأة، وهذه الفكرة الجديدة التي هي فكرة المرأة ليست جديدة، لكنها تتكرر في كل عصر وفي كل فترة، وفي أيامنا الحاضرة بعدما فشل غزو الأفكار جاء غزو الشهوات، وغزو الشهوات خطير، والدليل على خطورة غزو الشهوات ما يجده الإنسان بطبيعته الفطرية البشرية من ميل إلى المرأة قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، لكن هذه الفطرة تتأثر بالعقيدة، ولذلك فإن أعداء الإسلام لا يريدون أن تنحرف الأخلاق فقط، وإنما يريدون أن تنحرف العقيدة، لكنهم يريدون من خلال انحراف الأخلاق أن تنحرف العقيدة تبعاً، فهم يريدون أن تسقط هذه الأمة من عين الله حينما تقع فيما حرم الله، ثم بعد ذلك تسقط في مهاوي الضلال والردى بالنسبة للمعتقدات الفاسدة، ولذلك ركزوا على المرأة في أيامنا الحاضرة، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في آخر الآيات. أما التقوى هنا فهي أمر مهم دائماً وأبداً لا سيما بالنسبة للمرأة، ولذلك تجدون المرأة في مجالها الخاص تتقدم على الرجل، وما تقدمت على الرجل في القرآن ولا في السنة إلا في موضع واحد؛ لأن هذا هو الذي يهم أعداء الإسلام، وهو أن تقع في الفاحشة نعوذ بالله، ولذلك لو تتبعت آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديث من جاء بعده من سلفنا الصالح ما وجدت المرأة تتقدم إلا في آية واحدة وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولعل المسلمين ينتبهون للسر في ذلك، وهو ما تملكه المرأة من وسائل الإغراء. إذاً: هذا هو أهم سر في هذا الأمر، لذلك التقوى -التي هي امتثال أوامر الله عز وجل، واجتناب نواهي الله عز وجل، ولو كان في ذلك معصية النفس والهوى والشهوات- هي أفضل طريق لحماية المرأة في الدرجة الأولى، ولحماية المجتمع في الدرجة الثانية. ولذلك يجب أن تتسم المرة بالتقوى التي هي خشية الله؛ لأن عندها دوافع وعواطف ومغريات، وأمامها إعلاماً فاسداً منحرفاً جاء مرتباً له في كل بلاد الإسلام من أجل أن تنحرف عن الجادة المستقيمة، ولذلك فإننا نقول: يجب على المرأة ألا تنظر إلى هذه المخططات؛ لأن لديها منهجاً عظيماً هو هذا القرآن العظيم: (إِنِ اتَقَيْتُنَّ) فإذا لم تتق الله عز وجل فلا خير فيها.

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الخضوع بالقول

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الخضوع بالقول ومن مظاهر التقوى: (فلا تخضعن بالقول): ترقيق الصوت أمام رجل ليس من محارمها أمر محرم، لاسيما إذا كان الترقيق يغري، وهو فعلاً يغري؛ لأن المرأة حينما تبتسم في وجه غير محارمها، أو ترقق الصوت، أو تأتي بكلمات لا تتناسب مع الفضيلة ومع مكانة المرأة يطمع فيها من كان في قلبه مرض، بل ربما تكون امرأة عفيفة طاهرة نقية، لكن هذه الكلمة الرقيقة التي ألقتها دون حساب، ربما تطمع فيها من في قلبه مرض، ولذلك فإنه يلزم المرأة ألا تخضع بالقول حتى في قراءة القرآن. تسألنا بعض الأخوات دائماً تقول: لدينا مدرس للقرآن، هل يجوز أن نجمل أصواتنا أمام مدرس القرآن في المدارس؟ والله أنا أعتقد أن ذلك لا يجوز؛ لأن الله تعالى ذم الخضوع بالقول الذي هو ترقيق الصوت أياً كان ولو في تلاوة القرآن. إذاً: نقول: ترقيق الصوت أمام غير المحارم بأي حال من الأحوال لا يجوز، حتى قراءة القرآن يجب أن يكون بالصوت الطبيعي الذي ليست فيه كلفة، بل لربما نقول لها: تتصنع خشونة الصوت إذا كان صوتها بطبيعته رقيقاً، ولا شك أن الصوت مرض خطير، بل إن الإنسان بطبيعته لربما ينسجم مع صوت المرأة ولو كان عنده ما عنده من الإيمان. إذاً نقول للمرأة: خير لك ألا تثيري الغريزة عند الرجال، ولا يجوز لك أن تفعلي شيئاً من ذلك.

من صفات زوجات رسول الله قول المعروف

من صفات زوجات رسول الله قول المعروف قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] ما هو القول المعروف؟ هو الذي جرت به العادة، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: أن المرأة مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يطالب الرجل سواءً بسواء، قال تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وعلى هذا نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الجميع، الرجل والمرأة على حد سواء، فكلهم يطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كانت المرأة تطالب به وهي حبيسة البيت فالرجل من باب أولى، لكن المرأة أيضاً فيما يخصها هي مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي في مدرستها إن كانت مدرسة أو كانت طالبة أو كانت موظفة، وفي مجتمعها إن كانت تجتمع بأخواتها المسلمات تنكر هذا المنكر كما ينكره الرجل.

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار في البيت

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار في البيت قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]. هناك قراءتان سبعيتان: وقَرْنَ، وقِرْنَ، أما قِرْنَ بالكسر، فهي تؤخذ إما من القرار أو من الوقار؟ أي: أن المرأة تطالب بالوقار، فالتحشم للمرأة والبقاء في البيت أمر يثبت لها الوقار، والمرأة إذا خرجت من البيت ضاع وقارها، وضاعت قيمتها، وضاع وزنها في المجتمع، خصوصاً إذا كان هذا الخروج من غير حاجة. وإذا كان من القرار فمعناه: اقررن أي: ابقين، والقرار معناه البقاء، وهذا هو معنى قراءة الفتح (وقَرن في بيوتكن) من القرار.

ضوابط خروج المرأة من البيت

ضوابط خروج المرأة من البيت وعلى هذا لا نقول: إنها يحرم عليها الخروج خارج البيت، ولكن أوامر الله عز وجل تأمرها بالبقاء في البيت ولا تخرج إلا لحاجة ملحة، ولا يعني ذلك أن المرأة لا تتعلم، ولا تذهب إلى المدرسة، ولا تذهب لحاجتها الضرورية، ولا تذهب إلى المستشفى والمصحات، ولا تذهب لزيارة أقاربها، ولكن هذا الخروج له شروط مهمة جداً يجب أن ترعاها المرأة، وإذا لم ترعها المرأة فإن خروجها يعتبر محرماً: يجب أن تخرج محتشمة، وخير لها أن تخرج مع محرمها في سيارته أو في رفقته، وتخرج غير متطيبة ولا متجملة ولا متزينة، ولا تخرج إلا عند الحاجة، أما ما يفعله كثير من نساء المسلمين اليوم نسأل الله لنا ولهن الاستقامة، فإن هذا خطر عظيم حيث أصبح البقاء في البيت عيباً لدى كثير من النساء، حيث إنهن لا يردن أن يكن حبيسات البيوت، مع أنه يعتبر في نظر الإسلام تشريفاً، ولذلك نجد أن الإسلام الذي يأمر المرأة بالقرار والبقاء في البيت هو الإسلام الذي يوجب على الزوج أن يوفر لها كل حاجاتها، حتى لو عجز عن النفقة عليها والبحث عن المال والرزق فالأمر إليها، لها أن تطلب الطلاق لتبحث لها عن زوج آخر، ويجبر هذا الزوج على الطلاق ما دام قد عجز عن النفقة. إذاً: هل هناك ضرورة ملحة تلزم هذه المرأة بالخروج كهذا الخروج الذي نشاهده اليوم في دنيانا؟ الأمر خطير أيها الإخوة! فقد خرجت المرأة وانفلتت في المجتمعات الكافرة أيما انفلات، فأصبح الرجل لا يفكر أن يحصل على زوجته داخل البيت إلا من شاء الله، وأصبح العقلاء من أولئك القوم يضربون يداً بيد، ويقولون: لقد فرطنا في هذه المرأة فقد اختلطت بالرجال، واختلطت بالشباب على مدرج الجامعات وفي المدارس إلى غير ذلك، حتى أدى هذا الأمر إلى ضياع وفساد في المجتمعات الإنسانية، حتى لقد بلغت الإحصائيات في بلاد الغرب للأولاد غير الشرعيين (75%) من المواليد كل سنة، يعني: ثلاثة الأرباع من الأولاد الذين يولدون بطريقة غير شرعية. فمعنى ذلك أن خروج المرأة أوجد هذا الفساد العريض.

انتشار فساد النساء في بلاد الإسلام

انتشار فساد النساء في بلاد الإسلام اترك بلاد الكفر وتعال إلى بلاد الإسلام، لقد بلغ الأمر ذروته، وكاد أن يصل إلى ذلك الحد الذي وصلت إليه بلاد الكفر، وذلك في البلاد الإسلامية التي سبقتنا إلى إخراج المرأة عن بيتها بدون حاجة ولا ضرورة، فقد أصبح الفساد في قمته. أما بلادنا هذه فقد حماها الله عز وجل بنظام شرعي، وبتحكيم شرع الله، لكني أرى كثيراًً من القوم الذين يسوءهم أن تكون هذه المرأة المسلمة وفق المنهج الذي جاء من عند الله عز وجل، يشعرون بالقلق والضيق، ولذلك فإنهم دائماً وأبداً يبحثون عن الطريق التي يخرجون فيها المرأة، لاسيما وأن المرأة أصبحت حياتها غير منضبطة في بلادنا، فالتعليم أصبح ليس له حدود ولا ضوابط في بلاد الإسلام، ممكن أن تبحث عن هذا التعليم في أي حالة من حالاتها ولو كبر سنها ولا تنتهي بمرحلة معينة، بل ولا تنتهي بسن معين، بل وتفكر بالعمل المستمر الدائم، ولو أدى ذلك إلى أن تهمل الحياة الزوجية التي حدد الله عز وجل لها وقتاً، وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، إلى غير ذلك. وما تسمعونه من أخبار تفلت النساء في كل بلاد المسلمين إنما سببه ووراءه قوم يحملون خطراً عظيماً على هذه المرأة، حتى سمعنا أن الجامعات التي تختص بالبنين فيها الآلاف من البنات، وحتى سمعنا أن هناك دوائر رسمية مهمة أصبحت المرأة تنافس فيها الرجل. بيدي خطاب من شركة (سمارك) يقول: الآن تكاد النساء أن تغلب الرجال في هذه الشركة، حتى التدريب يختلط فيه البنين والبنات، وحتى إن هناك وظائف لا تصلح إلا للرجال أصبحت تمارسها النساء، وبيدي قصاصة جريدة من رجل مجرم في صحيفة تسمى (الفجر الجديد)، وإن لم تكن من المصنعة في بلادنا لكنها من الوافدة التي فقدت الرقابة، هذا الكاتب يشكر لحكومة الكويت وأنا لا أشبهها إلا ببني إسرائيل، فإنهم حينما خلصهم الله عز وجل من البحر وجدوا قوماً يعبدون الأوثان: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]. يقول هذا الكاتب: إن حكومة الكويت أحسنت حينما منعت النساء المبرقعات من قيادة السيارة، ولا يقصد أنها أمرتهن بالحجاب، وإنما يقول: لا بد من إزالة هذا الغطاء نهائياً؛ لأنه من يدري من تحت هذا البرقع لعله يكون جاسوساً. قاتلهم الله أنى يؤفكون! الجواسيس يرفعون رءوسهم مكشوفة الوجه لا يحتاجون إلى أن يتستروا، المسلمون والنساء الصالحات هم الذين يحتاجون إلى التستر في مثل هذه الأيام، وعلى هذا نقول: إنها مصيبة وفتنة. وهذه الصحيفة كأنها تتهمنا بأن تخلفنا لأننا لم نسمح لنسائنا على شواطئ البحار بـ (المايوه): فيقول هذا الكاتب: إسرائيل نساؤهم تخرج بالمايوه ولكنها تدافع عن وطنها، أما نحن فقد انشغلنا بلباس المرأة وحلق اللحية والشارب إلخ كلامه. وأصبح يسخر من الدين، والله يا إخوان هذا الإعلام لو وجد في أي بلد من بلاد العالم في أيام عز الإسلام لما كان يسمح له أن يتسرب إلى بلاد المسلمين، ففيه سخرية من اللحية! وسخرية من الدين! فهؤلاء هم الذين ورطوا المرأة فأخرجوها من إطارها، ولعلكم لم تنسوا الفتن التي مرت في بلادنا هنا في أيام المحنة؛ لأن أعداء الإسلام المتربصين يكرهون الدولة، ومن كراهيتهم للدولة كما عرفتم لما انشغلت الدولة بحرب العراق ماذا فعل أولئك؟ جاءوا بكل المشاكل وحشوها في بلادنا هنا؛ من أجل أن يربكوا الدولة ويشغلوها، ولذلك هم يكرهون بقاء المرأة لا من أجل سعادة المرأة، وإنما يكرهون بقاءها في البيت من أجل أن تفسد المرأة، ومن أجل يفسد المجتمع، فماذا أعددنا لذلك أيها الإخوة؟ هؤلاء القوم الذين يكرهون الإسلام ويحقدون على هذه الدولة التي تحكم شرع الله عز وجل كما أحسبها، ومن أجل ذلك فإنهم يشكلون هذه البلابل في بلاد المسلمين وهذا أمر يتطلب منا الجد، وإذا قام خطيب يقول للناس: اتقوا الله، أصبح موضع شك لدى كثير من المسئولين كما تشاهدونه في كثير من الأحيان. على كلٍ: فإن سعادة المرأة أن تبقى في البيت، وليس معنى ذلك أنها تبقى في الحريم كما يقول أعداء الإسلام، نقول: في البيت؛ لأن لديها دوراً مهماً، هذا الدور لا يقوم به الرجل، ولا يقوم به كل أحد، حتى المربية التي جئنا بها من بلاد الكفر، أو من بلاد الإسلام، وحتى الخادمة وحتى لا يمكن أن تقوم بهذا الدور، ولا يقوم به إلا الأم التي عندها من العاطفة والحنان ما ليس عند أحد آخر. ولذلك الشيوعية لما انتشرت كانت تخرج المرأة عن البيت، وتأخذ الطفل منذ ولادته إلى المحضن، ثم تأخذه إلى روضة الأطفال، ثم بعد ذلك لا يلتقي هذا الطفل بأمه إلا بعد أن يكبر كثيراً، وبعد أن يقسو قلبه فلا يشعر نحوها بالعاطفة، ومن هنا كانت الهوة البعيدة بين الابن وأمه وأهله وعشيرته، من أجل أن يكون الأطفال للدولة، كما قدمتهم في حرب أفغانستان بما يسمى بالكومندوز الذين وجهتهم كأبناء للدولة يقاتلون بهم الأفغان ويعدونهم للحروب. على كلٍ: كفى الله المؤمنين القتال، وسقطت الشيوعية وما عندها من مخططات، وتبين أن بقاء المرأة في البيت هو طريق السعادة.

التزام نساء النبي بالقرار في البيوت

التزام نساء النبي بالقرار في البيوت يقول الله تعالى لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، حتى إن بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لها ذات يوم: لماذا لا تحجين؟ قالت: لقد حججت ما أوجب الله علي، والله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ). أي أنه لا حاجة لتكرار الحج مادامت قد أدت فرضها؛ لأن الله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ). إذاً: ما رأيك في رجال يذهبون في أيام الصيف، بل في كل الإجازات بنسائهم وأطفالهم وبنيهم وبناتهم إلى بلاد الكفر وبلاد الغرب والبلاد المسلمة المنحلة إذا كانت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفضن تكرار الحج استجابة لقول الله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)؟ وما مصير هؤلاء الذين يذهبون بالنساء المسلمات المحجبات الطاهرات، بل لربما يتزوج ذلك البعيد شابة صالحة تقية قد بذلت جهود كبيرة في سبيل تربيتها، فما خرجت من إطار بيتها إلا في حدود محدودة، ثم يتزوجها ذلك الشقي الذي أساء أبوها اختياره زوجاً لها، فلا تصبح ليلة الزفاف إلا في دولة أوروبية باسم شهر العسل أو ما أشبه ذلك. هذه من المصائب والبلايا أيها الإخوة، فالله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، من القرار أو من الوقار. إذاً: بقاء المرأة كما قال الشاعر: عز الفتاة بقاؤها في البيت لا في المعمل والزوج يعمل في الحقو ل وعرسه في المنزل هذا هو النظام المتبع حتى عند العرب قبل الإسلام وبعده، وإذا وجد شيء يخالف ذلك فإن على الأمة الإسلامية أن تعالج هذه المشكلة؛ لأن خروج هذه المرأة من البيت بدون حاجة ولا ضرورة أمر خطير جداً كما جاء في الحديث: (المرأة فتنة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، أي: ركب عليها حتى يفتن بها الناس.

من آثار عدم التقيد بالشرع في خروج النساء

من آثار عدم التقيد بالشرع في خروج النساء أيها الإخوة! لعلكم تشاهدون من آثار عدم التقيد بأوامر الله عز وجل ما يحدث في الساحة، سمعنا عن جامعة الرياض وسمعنا وسمعنا عن أشياء كثيرة، ما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك هو معصية أوامر الله عز وجل، والله يا إخوان لقد وصل إلي كتاب من بنت تدرس في جامعة الرياض، تقول لي: يا إخوتي! اتقوا الله، والله إن هناك فتيات ما دخلت الجامعة مدة سنة كاملة وفصل كامل، مع أنها تأتي إلى الجامعة كل يوم يدخلها وليها من بوابة لتخرج من بوابة أخرى ولا يدري ذلك المسكين، لأنه اندفع وراء مطالب هذه البنت، فصار يذهب بها في الصباح وصارت تنفلت يميناً وشمالاً ويظن أنها في الجامعة، فإذا كان في آخر النهار ذهب يبحث عنها ليأتي بها، وكأنها قد أكلمت دراستها. هذا أمر خطير يا إخوتي! لا بد من مراقبة هذا الأمر، ليست الخسارة مادية، إنها خسارة معنوية عظيمة جداً. إذاً: يجب أن تبقى هذه المرأة داخل البيت بأي حال من الأحوال إلا في حال الضرورة، يذهب بها وليها ويتأكد من بقائها في الجامعة أو في المدرسة، ويجب أن يكون لهذا التعليم حدود، لئلا تطغى مدة هذا التعليم على مدة الزواج. ونتمنى لو فرضت الدولة نظاماً ألا تقبل امرأة في الجامعة إلا بعد أن تثبت زواجها، إلا في حالات خاصة إذا لم يتقدم لها أحد، ولعل ذلك يكون سبباً في إقدامهن على الزواج، أما الآن فكثير من الشباب يتقدم لفتاة، ولكنها تريد أن تكمل الجامعة، ثم إذا أكملت الجامعة تريد أن تعمل، ثم ثم ثم بعد ذلك حتى تنتهي مدتها المحدودة التي تنتهي بعد مدة وجيزة.

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التبرج

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التبرج قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]: تصوروا -يا إخوان- تبرج الجاهلية الأولى، حتى الجاهلية الثانية هي خير من الجاهلية الثالثة، وإن من يسير في بلاد الإسلام يرى أن في الجاهلية الثانية ما هو خير بالنسبة لحماية المرأة من الجاهلية الثالثة التي نعيشها اليوم، نعم في الجاهلية الأولى تفسخت المرأة حتى قال بعض المفسرين: إن المرأة وصلت في الجاهلية الأولى إلى أن تكشف عن كل جسدها فيتمتع زوجها بما تحت السرة ويتمتع أصدقاؤه بما فوق السرة، وهذا يوجد الآن في الجاهلية الثالثة في بلاد الكفر وفي البلاد التي انحلت عن القيم نهائياً. وقد طافت المرأة في الجاهلية الأولى عارية حول البيت، وكانت تضع يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فلما جاءت الجاهلية الثانية التي هي قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خاف الرجال من هذه النساء، فكان كل من ولدت له امرأته بنتاً يخاف أن تفسد كما فسدت المرأة في الجاهلية فكانوا كما قال الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، يسود وجهه إذا قيل له: ولدت لك بنت، فإن كان عاقلاً تحملها على مضض، وإن كان جاهلاً أخذها في غيبة الناس وحفر لها حفرة ودفنها وهي حية، كما قال الله عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، هذا حدث بهم لأن الجاهلية الأولى فسدت فيها المرأة فساداً ذريعاً، لكن رغم هذا الجرم العظيم الذي أنكره الله عز وجل فقال: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، بالرغم من هذا الجرم العظيم الذي وصل إلى قول أحدهم: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم هذا البيت ما قيل في الجاهلية الثالثة، وإنما قيل في الجاهلية الثانية، قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا تذكر اسم المرأة في مجلس، فإني أخاف عليها أن ينطق بها رجل ليس من محارمها. لكن تعال إلى الجاهلية الثالثة التي انسلخت من الإسلام والعياذ بالله، ماذا حدث؟ حدث كل شيء، وجاءت قوانين وأنظمة تحمي الفاحشة، كلٌ أخذ بنصيب من هذا الفساد، وكانت هناك تمهيدات كالتمهيدات التي توجد في بلادنا اليوم، إعلام يأتي بصحف ومجلات وأفلام ومحرمات، ليعلم المرأة كيف تنحل، فلا تمضي عليها مدة من الزمن إلا وتنحل، حتى وصل الآن إلى وجود نواد للعراة في بلاد الكفر، وحتى وصل الاعتراف بزواج الذكر بالذكر في بعض البلاد. ولما كان هذا الميول المنحرف تتطلبه أفئدة منحرفة جاءت القوانين تنحرف مع هذا الميول، ولذلك كلما هبط الإنسان درجة هبطت القوانين درجتين اثنتين؛ حتى إذا هبط الدرجة الثالثة تكون القوانين تخدم هذه الفكرة الهابطة، فالعراة اليوم على شواطئ البحار، وأظنه موجوداً حتى في بعض شواطئنا نعوذ بالله! لباس لا يكون إلا في فراش النوم، بل لربما يكون أخلع من فراش النوم. إذاً: هذا الأمر خطير لا بد أن تكون له حلول وإلا فإن نقمة الله عز وجل أقرب إلى أحدنا من شراك نعله؛ لأن الله تعالى يغار على محارمه، ومنها هذا التبرج الشديد الذي ليس كتبرج الجاهلية الثانية وإنما كتبرج الجاهلية الأولى، ولذلك الله تعالى يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، من أجل أن يعلمنا أن هناك جاهليتين: جاهلية تبرجت فيها المرأة، وجاهلية أصبحت كرد فعل للجاهلية الأولى. إن جاهلية اليوم أعظم من جاهلية الأمس؛ فما هو موقف الأمة الإسلامية من هذا الأمر؟ أتريد أن تقلد فيها المرأة المسلمة المرأة الكافرة في كل حال من الأحوال؟! والتبرج مأخوذ من البرج، والبرج معناه: الشيء المرتفع، أو من البارجة، والبارجة هي السفينة الكبيرة ترى من بعيد، والتبرج معناه: إظهار الزينة لغير المحارم، والله تعالى قد بين من هم المحارم قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]. الشيء الذي نريد أن نقوله: هل هذا التبرج الذي أصاب الأمة الإسلامية فضلاً عن الأمة الكافرة، وصل إلى درجة الجاهلية الأولى؟! فقد وصل إلى كثير من ذلك في كثير من الأحيان! والله إنك لتسير في كثير من بلاد الإسلام حتى لا تكاد تفرق بين امرأة مسلمة وامرأة كافرة إلا إذا سألتها عن اسمها، وحتى إن هذا الفساد الذي مهد له في بلاد الإسلام مدة طويلة من الزمن قد وصل إلى هذا المستوى، ثياب ضيقة ثياب رقيقة ثياب شفافة إخراج الشعر إخراج الرأس إخراج النحر إخراج الرقبة إخراج الساقين إلخ، ما بقي شيء من هذه المرأة إلا السوءتان في كثير من بلاد الإسلام. إذاً: هذا التبرج أمر محرم وخطير، ويؤدي بالأمة الإسلامية إلى الهاوية، فعلى الأمة الإسلامية أن ترعى هذا الأمر.

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتبليغ الدين

من صفات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتبليغ الدين قال تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب:33]: وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أمر يحفظ الإنسان مما حرم الله عز وجل، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة طاعة لله عز وجل تكون لها آثار طيبة، والمجتمعات التي تعطل الصلاة لا تستغرب أن تقع في أي منكر من المنكرات التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الصلاة كما أخبر الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر. ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]: قال بعض المفسرين (اذكرن) أي: بلغن، فكرر الله عز وجل التبليغ مرتين من أجل أن تتحمل هذه المرأة المسئولية كما يتحملها الرجل لاسيما مع النساء، خاصة أن كثيراً من النساء لربما تفسق أو تسقط أخلاقها أو تفكر فيما حرم الله، فيجب أن تكون المرأة المسلمة عامل إصلاح في مجتمعها، فإذا رأت امرأة غير متحجبة تقول لها: اتقي الله يا أختي! حرام عليك لا تفتني الرجال، وإذا رأت امرأة متطيبة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الطيب نوع من الزنا، الذي هو شم الرائحة وهكذا.

الأمر لزوجات النبي ونساء المسلمين بالتستر

الأمر لزوجات النبي ونساء المسلمين بالتستر ثم بعد ذلك تنطلق بنا هذه الآيات إلى آخر السورة بعد أن تحدثت عن كثير من صفات النساء فيقول الله بعد ذلك مكملاً هذا الموضوع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59]: لما ذكر الله عز وجل الصفات التي يجب أن تتحلى بها زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، والصفات التي يجب أن تتحلى بها كل امرأة تقتدي بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على المرأة التي لا تتقيد بذلك، فقال في الحديث الصحيح: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها). يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: والجلباب هو الثوب الغليظ، يعني: لا يكفي أن تستر بدنها بثوب كأي ثوب، فلا بد أن يكون فوق هذا الثوب ثوب آخر، وهو جلباب غليظ كالعباءة وما أشبه ذلك من الأمور التي تغطي تقاسيم الجسد، حتى لا يكون الثوب الأسفل ضيقاً ليصف تقاسيم الجسد، إذاً: لا بد أن يكون هناك جلباب، وهو الثوب الغليظ، وهو أكبر من الخمار، تغطي به المرأة كل جسدها ولا بد أن تدنيه على وجهها حتى لا يعرفها أحد. ولعل في هذه الآية إشارة إلى واقع كان يعيشه المسلمون في العصر الأول، فكانت الجواري فيهن شيء من الانحلال في ذلك الوقت، فالمرأة المسلمة الصالحة التقية الحرة يجب أن تتميز عن الجارية الرقيقة حتى لا يعرفها أحد فيؤذيها، وليس معنى ذلك أن الجارية تجوز أذيتها، ولكن معنى ذلك أن أذية المرأة الصالحة أشد عند الله عز وجل من أذية الجارية، فأمر الله عز وجل النساء المسلمات عموماً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأمر نساءه ويأمر نساء المسلمين كافة بأن: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59]. ومن هنا نقول: إن قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ) يدل على أن الحجاب والتستر حينما شرعه الله عز وجل ما جاء إلا لمصلحة المرأة؛ لأنها بدون الحجاب سوف تؤذى، وهذا شيء مشاهد، فلو أن امرأة متبرجة انطلقت في أسواق المسلمين لآذاها كل أحد في قلبه مرض، ولتبعها خلق كثير يبحثون عن الفاحشة في هذه المرأة، لكن الله عز وجل أمرها بأن ترتدي الجلباب فوق ملابسها حتى لا يطمع فيها، وهذا الجلباب زيادة على التستر حتى لا يطمع فيها إنسان في قلبه مرض. (ذَلِكَ أَدْنَى) أي: أقرب، (أَنْ يُعْرَفْنَ): أن يعرفن أنهن نساء عفيفات طاهرات حرائر، (فَلاَ يُؤْذَيْنَ) كما تؤذى النساء الفاجرات المنحرفات. إذاً: قوله تعالى: (فَلاَ يُؤْذَيْنَ) دليل على تكريم الله عز وجل للمرأة، وأن هذا الحجاب ما جاء لإهانة المرأة كما يردده أعداء الإسلام، وكما يردده الببغاوات من المنسوبين للإسلام من أبناء جلدتنا، فهو ما جاء إلا لتكريم المرأة واحترامها، قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيَّنَ). إذاً: هي إذا لم ترتد هذا الجلباب فإنها سوف تؤذى، وإذا أوذيت فسوف تكون عرضة للسقوط في المجتمع، ثم السقوط من عين الله عز وجل. إذاً: الجلباب لمصلحتها ولمصلحة المجتمع.

تهديد الله للمنافقين المتطاولين في أعراض المسلمين

تهديد الله للمنافقين المتطاولين في أعراض المسلمين

أنواع أعداء الفضيلة

أنواع أعداء الفضيلة ثم يقول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60]: ثلاثة أنواع: منافقون، وفي قلوبهم مرض، ومرجفون في المدينة، كلهم موجودون عندنا الآن أيها الإخوة: منافقون يظهرون التباكي على الإسلام وعلى المرأة، يبطنون غير ما يظهرون، يقولون: لا بد أن نحفظ المرأة، لا بد أن نحافظ على حقوق المرأة، حرية المرأة، وهم في الحقيقة منافقون؛ لأنهم يبطنون الفسق، بل لربما يبطنون الكفر داخل قلوبهم، فهم يكرهون المرأة، ويكرهون الدين الإسلامي، ويكرهون الحجاب، ويكرهون أن تصلح هذه الأمة، فهم منافقون سواء كان نفاقاً اعتقادياً أو نفاقاً عملياً، يعني: سواء كان هذا نفاقاً يخرجهم من الملة حينما يبطنون الكفر، أو نفاقاً عملياً حينما يكذبون في تعاملهم مع المرأة، وتباكيهم على المرأة حينما يطالبون بحقوقها وحريتها. (والذين في قلوبهم مرض) يأتون في الدرجة الثانية، ربما لا يوجد عندهم نفاق اعتقادي، لكنه يوجد عندهم نفاق عملي. (في قلوبهم مرض): شك، أي أنها لم تنضج الأمور في قلوبهم، ولم يكتمل الإسلام في رؤيتهم، ولربما يصل هذا المرض إلى النفاق أيضاً فيكونون من الدرجة السابقة، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: (في قلوبهم مرض) توضيحاً لقوله تعالى: (المنافقون). أما المرجفون في المدينة: فأظن أن أخبارهم لا تخفى عليكم في أيامنا الحاضرة، هؤلاء الذين ينتظرون الفرصة التي تضعف فيها الأمة الإسلامية حسب ظواهر الأمور، فيستغلون هذه الفرصة من أجل أن يتخذوا منها سبيلاً إلى إذلال الأمة الإسلامية. إن هذه الأحداث الأخيرة قد كشفت لنا المرجفين في المدينة، وعلمنا كيف يتعاملون معنا ومع الجهات المسئولة ومع الناس، فإذا وجدوا أي مدخل لهم إلى هذا الدين، وإلى هذه الحياة التي من الله عز وجل بها على هذه المرأة، نجد أنهم يستغلون هذه الفرصة من أجل أن يفسدوا أخلاق هذه المرأة، ولذلك فإن المرجفين في المدينة كثير، وكانوا بالأمس يأتون من الخارج، لكنهم أصبحوا في أيامنا الحاضرة يغزون الأمة الإسلامية من الداخل، ويطعنونها من الباطن، حيث إنهم من أبناء الجلدة، وممن يتكلمون بالألسنة أي: باللغة العربية، وهم أيضاً لا يقولون إنهم أعداء للمرأة أو يقولون إنهم أعداء للإسلام، بل ربما ينادون بما ينادون فيه باسم الإسلام، ولكنهم ينكشفون؛ لأن الإسلام واضح والحمد لله، وليس خفياً، هو كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

حكم الله على المنافقين أعداء الفضيلة

حكم الله على المنافقين أعداء الفضيلة أيها الإخوة! هؤلاء المنافقون إن لم ينتهوا ما هو مصيرهم؟ قال تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:60]، هؤلاء المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة إن لم ينتهوا عما يفعلون من الدس في الإسلام، ومن الطعن في المرأة من جانب خفي، ومن أذية الأمة الإسلامية، ومن السعي لإفساد المجتمع بعد إفساد المرأة، إن لم ينتهوا ليكونن الإغراء عليهم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً فلمن من يكون الإغراء؟ للأمة الإسلامية من روضة الأنبياء الذين ورثوا هؤلاء فيغريهم الله عز وجل حتى يدافعوا عن دين الله، وحتى يدافعوا عن حياض الشرف والفضيلة. ندعو علماء المسلمين إلى أن ينتبهوا لهذا الخطر، فإن في ساحتنا اليوم وفي عالمنا وفي دنيا الناس مرجفين كثيرين، وفيها قوماً في قلوبهم مرض، وفيها منافقين، وهؤلاء لا يدفعون إلا لعلماء المسلمين الربانيين الذين يشعرون بهذه المسئولية، نرجو من هؤلاء أن ينتبهوا لخطر هؤلاء حتى لا يستفحل، فإنهم إن تركوا يعبثون، فإنهم سوف يغرقون هذه السفينة التي لا بد أن يدافع عنها العقلاء، والله تعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، ويقول تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]، فهل دفع هؤلاء العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، وأتباع العلماء من طلبة العلم والصالحين والأتقياء؛ هل دفعوا هؤلاء الذين يريدون أن يخرقوا هذه السفينة، والذين يريدون أن يفسدوا في الأرض؟ أنا أدعو كل ذي عقل وإيمان، وكل ذي علم -أياً كان هذا العلم- أن يدخل الساحة اليوم، لا ليدافع عن دين الله عز وجل، ولا عن كرامة هذا الدين، فإن الدين محفوظ بحفظ الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولكن يدخل ليدافع عن محارمه؛ لأن ما أصاب محارم غيرك لا بد أن يصل إلى محارمك؛ لأن هذا المجتمع كله سفينة واحدة تطفو على محيط متلاطم الأمواج، فإن تركنا هذه السفينة يعبث بها هؤلاء العابثون ويخرقوها ولو بحسن نية، فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، ولذلك حكم الله تعالى على هؤلاء قال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب:61]، في أي مكان وجدوا في أي زمن وجدوا هم ملعونون. ونحن هنا نطمئن على دين الله؛ لأن الله تعالى حكم عليهم باللعنة أي: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وأيضاً بالفشل في مخططاتهم، فإنهم لا يستطيعون أن ينالوا من دين الله تعالى عز وجل شيئاً، وإنما هو أذى، لكنهم ربما يتسلطون على هذه المرأة المسكينة في أيام غفلتها وهي تصدق هؤلاء العابثين فتخرج عن إطارها الذي رسمه الله عز وجل، أما هم فكما قال الله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61]، طردوا من رحمة الله، وهم سيقتلون، ولا يمكن أن يعدوا قدرهم؛ لأن الله تعالى رب هذا الدين، وللدين رب يحميه.

سنة دائمة في إزالة أهل النفاق والإرجاف

سنة دائمة في إزالة أهل النفاق والإرجاف ثم يذكر الله تعالى أن هذا الذي يحدث ليس خاصاً بفترة معينة وهي فترة نزول القرآن، لكنها فترة دائمة، وكلما وجد المفسدون في الأرض لا بد أن يوجد المصلحون في الأرض، وإذا لم يوجد المصلحون في الأرض فإن الله عز وجل سوف يدافع عن هذا الدين، ولذلك يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:38]، أي: ملعون كل من أراد أن يتعرض لهذا الدين من هذا الجانب أو من أي جانب آخر، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. إذاً: سنة الله غالبة وسائرة وماضية في هذه الحياة، وبمقدار ما يقدم هؤلاء الأوباش -المرجفون في المدينة والذين في قلوبهم مرض- من أذىً لهذه الأمة الإسلامية في محارمها التي هي أغلى ما تملك، فهم ملعونون، وهم مقتولون تقتيلاً: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62]، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

خطر خروج الخادمات إلى السوق متبرجات

خطر خروج الخادمات إلى السوق متبرجات Q إن من المسلمين من لا يكفيه أن يجلب الخادمة النصرانية ويجعلها بين أبنائه وبناته، وإنما لا يتقي الله حتى في أولاد المسلمين، فيسمح لها بالذهاب إلى السوق لوحدها يوم الجمعة أو يوم الخميس، كاشفة بكل عهر، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء، فو الله إن المسلم لا يخرج إلى السوق في كثير من الأحيان خشية من الوقوع في الحرام الذي قد عم وطم في هذه الأسواق؟ A الحقيقة أن الحرام يجر بعضه بعضاً قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، ولذلك الرجل الذي لا يبالي في أن يدخل في بيته امرأة نصرانية تربي أولاده سواء كانت مربية أو خادمة فإنهم يتأثرون بمخالطتها، وربما يفسدون معها وتفسدهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]. وهب أنها مسلمة فإنها مادامت ليست ذات محرم، وما دامت امرأة، ربما أنها بعيدة عن الإسلام، ولا تحمل الإسلام إلا هوية، فالأمر قصير جداً، لما وقع المسلمون داخل بيوتهم في هذا البلاء لم يعد غريباً أن يوزعوا الفساد على الناس؛ لأن الإنسان إذا فسد ذوقه، وفسدت فطرته، وانحرفت أخلاقه أو كاد لا بد أن يوزع هذا الفساد على الناس. فالذي يحدث هو أن هؤلاء لما أصيبوا بهذه المصيبة الكبيرة، وجاءوا بنساء ليس لهن محارم داخل البيوت، وخلا بها الرجل أو خلا بها ولده أو ما أشبه ذلك، تعدى هذا الفساد فخرج خارج البيت، ولذلك فإننا نقول: فتنة ومصيبة وبلية لا تقل عن الفتنة داخل البيت، لكن أظنها أيضاً حتى داخل البيت خطيرة؛ لأن هناك داخل البيت خلوة، وهناك نوماً، وهناك ليلاً طويلاً، وهناك ظلاماً، وهناك خروجاً، وهناك بقاء رجال بدون محارم مع هذه المرأة، فالأمر خطير سواء كان من هذا الجانب أو من جانب آخر، أي: حتى ولو كانت امرأة مسلمة ما دامت ليس معها زوج أو محرم يحميها ويحافظ عليها.

حكم خلوة السائق بامرأة أو مجموعة من النساء

حكم خلوة السائق بامرأة أو مجموعة من النساء Q ما رأيك فيمن تركب في سيارات الأجرة، بل وتستأجرها طيلة الدراسة، يذهب بها ذلك السائق إلى المدرسة ويعود بها، ومحرمها يذهب إلى وظيفته؟ A هذه المسألة لا تخلو من ثلاث حالات: إما أن تذهب معه سفراً فهذا محرم في كل حال من الأحوال؛ لأنه (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم) ولا تظنوا أن السفر هو المشاوير الطويلة، السفر عند بعض العلماء ولو خرجت خارج المدينة يعتبر سفراً في نظر هؤلاء، فهذا لا شك أنه سفر بدون محرم. أما إذا كان داخل البلد وهي منفردة، فلا خلاف بين العلماء في التحريم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (إياكم والدخول على النساء)، وهذا شيء يتصور بالعقل، امرأة شابة عندها دوافع وشهوة كغيرها من النساء، ومع هذا ربما يكون السائق شاباً، أو هب أنه متزوج وهي معها رجل ربما يكون أجمل من زوجها، وتهواه أكثر من زوجها، والمسألة خطيرة مهما يكن، ولذلك الرسول قال: (رجل وامرأة) أياً كان هذا السائق، وأياً كانت هذه المرأة، أي: وحتى لو كانت امرأة عجوزاً، فمادامت المسألة خلوة فالتحريم موجود. بقينا في موضوع المجموعة داخل البلد: فهذا هو موضوع الخلاف، هذا الموضوع هو الذي لا نستطيع أن نقول: إنه محرم، حينما يكون داخل البلد وهي مجموعة نساء لا ينفرد بواحدة منهن، لكن الأمر أيضاً فيه شيء من الخطورة؛ لأنه ربما تنزل هذه البنات وتبقى واحدة مع هذا السائق فتأتي الخلوة فيكون خطراً. على كلٍ: التعليم والتعلم والعمل ليس فرض عين على البنات والنساء، حتى نقول: هذا أصبح أمراً ضرورياً، إن استطعت أن تذهب بابنتك أو بزوجتك إلى المدرسة، وإلا فالأمر ليس أمراً إجبارياً حتى تضطر إلى أن تذهب بها مع السائق، فالأمر خطير، وكذلك الذهاب للسوق، وكذلك العمل، فالأمر إذا استطعت يا أخي أن تذهب بها بنفسك فافعل، وإذا عجزت فلا يجوز لك، وكيف تقر عينك وكيف يلذ لك النوم في فراشك وابنتك مع سائق؟ كيف تذهب إلى وظيفتك وابنتك مع سائق يذهب بها ويأتي بها؟ هذه محارمك يا أخي، وهذا شرفك وعزتك وكرامتك، أظنك لو وقعت بنتك في محرم من المحرمات التي تخشاها لأصبحت تضرب يداً بيد وأنت لا تملك الخلاص، أنت الآن تملك الخلاص وعليك أن تتقي الله عز وجل.

كيفية حماية المرأة من الهجمة الشرسة ضدها

كيفية حماية المرأة من الهجمة الشرسة ضدها Q إن المرأة المسلمة تتعرض في هذه الأيام، بل وقبل هذه الأيام لحملة شرسة من أعداء الإسلام، لم تتعرض لمثل هذه من قبل، سواء من حيث البث المباشر أو من طريق الصحافة المستأجرة أو المجلات التي تنوعت أشكالها وتعددت أسماؤها كمجلات وغيرها حتى يحار المتتبع لها من كثرتها، وبروز أسماء جديدة بين فترة وأخرى توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، أفلا من وسيلة وعملية يمكن بها محاربة هذا السيل العارم من الفساد؟ A أولاً: لا تتعرض لها المرأة المسلمة، وإنما تتعرض لها المرأة المسلمة الضعيفة الإيمان، أما المرأة المسلمة القوية فعندها حصانة، لن تتعرض لهذه الفتن أبداً، فعندها حصانة وهي ألا ترفع رأساً بهذه الأمور كلها؛ لأن الله عز وجل قد حفظها بحفظه، وكلأها بعين رعايته، لكن المجتمع في الحقيقة كله يتعرض لهذه الفتنة. وطريقة الخلاص هو أن نحصن بيوتنا نحن الرجال، ونحفظ أهلينا ومحارمنا من هذه الأشياء التي ذكرها الأخ السائل كلها، فلا نحتاج إلى بث مباشر، ولا نسمح لأهلينا باقتناء الآلات التي تجلب لنا البث المباشر؛ لأن الدولة لم تجبرنا على ذلك، وإن كان الأمر أصبح قريباً من الإجبار حينما أصبح موضة عصرية. وكذلك بالنسبة للمجلات والصور، وما أشار إليه الأخ السائل، فنحن في الحقيقة لسنا مجبرين على هذا الأمر؛ لكن الأمر يتطلب حزماً من الرجل المؤمن، الذي يخشى الله عز وجل في هذه الأمانة، ثم يتطلب بعد ذلك حزماً آخر، وإيماناً بالله عز وجل من تلك المرأة المسلمة، التي تخشى الله عز وجل حتى لا تقع في هذه الأمور المحرمة. المهم أيها الإخوة! البث المباشر وما قبله وما بعده وغيره، كل ذلك لا يفتن به إلا من في قلبه مرض، أما الرجل المؤمن الصحيح فإنه يقف على باب بيته، يحول بين داره وبين هذه المحرمات كلها، وحينئذ لا يمسه سوء من هذه الأشياء كلها.

بيان معنى الإرجاف

بيان معنى الإرجاف Q بعض الشباب العابثين الذين يستدرجون النساء عن طريق الهاتف، هل هم من المرجفين في المدينة؛ لأنهم يستغلون ضعف المرأة ويستجرونها خطوة خطوة حتى يوقعوها في الفاحشة؟ A الحقيقة أن الإرجاف معناه إشاعة الفاحشة أياً كان نوع هذه الفاحشة، فإذا سمعوا خبراً أشاعوه، وإذا رأوا أي وسيلة من وسائل الفتنة أشاعوها حتى تنتشر في المجتمع، وكذلك الأخبار يروجونها من أجل أن يفسدوا المجتمع، وعلى هذا نقول: إن الذين يتعاطون التلاعب في أجهزة الهاتف، والذين يتصلون بالبيوت التي لا صلة لهم بها ولا حق لهم في هذه البيوت، هم أيضاً نوع من هؤلاء المرجفين في المدينة. وعلى هذا نقول: إن الرجل المؤمن يستطيع أن يحصن بيته فيعلمهم كيف يتعاملون مع الهاتف، وكيف يتعاملون مع أجهزة التسجيل، وكيف يتعاملون مع كل شيء، وإذا استطاع أن يرسم الخطة السليمة لهذا البيت فإنه لا يبالي بعد ذلك بما يحدث في هذا البيت. المهم أن تربى هذه المرأة تربية صالحة ابتداء من اختيار المرأة الصالحة.

من إحصان المرأة الزواج المبكر

من إحصان المرأة الزواج المبكر Q أليس من إحصان هذه المرأة أن يختار لها زوج صالح، وتزوج ولو كانت في السادسة عشرة من عمرها؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، والشباب يدخل فيه الذكور والإناث، والبلوغ هو سن الزواج، وعائشة رضي الله عنها تزوجها وبنى بها وهي بنت تسع سنين. إذاً: معنى ذلك أن الذين يغالون في أمر سن المرأة اليوم، ولا يريدون أن يزوجوها إلا في سن معينة هم يخطئون في هذا المجتمع، كما يخطئ الذين لا يزوجونها إلا بعد أن تكمل سن التعليم، لاسيما وأن سن المرأة محدود أكثر من الرجل. كذلك أيضاً ندعو الشباب الذين يبلغون سن البلوغ إلى أن يتزوجوا، فإن هذا كله داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، وإني أنصح كل امرأة أن تعتبرها فرصة من الفرص، حين أن يتقدم لها رجل صالح يتحمل مسئولية هذه الفتاة، وحتى يخرج الأب من المسئولية.

حكم عرض الملابس الداخلية للنساء

حكم عرض الملابس الداخلية للنساء Q مما لا شك فيه أن ما يحدث من بعض أصحاب المحلات من عرض الملابس الداخلية للنساء أمام الرجال أن في ذلك فتنة عظيمة، فما هي نصيحتكم لأصحاب هذه المحلات الذين يحتج أكثرهم بأن البضاعة لا تمشي إلا إذا وضعت بهذا الشكل؟ A الصحيح أن عرضه أمام الرجال وعرضه أيضاً أمام النساء فتنة، الملابس التي تكون داخل جسد المرأة، والتي تلبسها المرأة على جسدها داخل ثيابها، نشرها أمام الرجال والنساء فتنة، ولذلك نقول: عند الحاجة يخرجها الرجل، وأيضاً: عند بيعها لا يدخل ذلك في زيادة كلام أو مفاهمة في مقاس أو ما أشبه ذلك؛ لأن ذلك كله يعتبر نوعاً من الإثارة سواء كان للرجل أو المرأة. إذاً: بيعها يعتبر من باب الضرورة والحاجة الملحة، وعلى الرجل ألا يبرزها أمام الرجال، ولا أمام النساء، ولكن عند الطلب يبرزها ويكون البيع بأدب في مثل هذه الأمور، لأنني أسمع أناساً يستغلون فرصة بيع الملابس الداخلية، بحيث يستطيع أن يعرف حجم جسدها الداخلي من خلال هذه الملابس الداخلية.

حكم ارتداء المرأة للنقاب

حكم ارتداء المرأة للنقاب Q لقد كثرت ظاهرة النقاب، وإنني أجد بعض الحضور يترك أهله يرتدون هذا النقاب، فلا تكاد تقف عند إشارة في سيارتك إلا وتشاهد المتنقبات سواء مع السائقين أو محارمهن، وحجتهم في ذلك بعض الفتاوى التي سمعوها، وقد يكونون لم يفقهوها واحتجوا بها، فما رأيكم يا فضيلة الشيخ، علماً أنها تظهر أكثر من نصف الوجه؟ A النقاب يخرج أجمل ما في المرأة وهي العيون، وأنتم تعرفون أن الشعراء القدامى كانوا يتغنون بعيني المرأة، فالعينان هما أجمل ما في المرأة، ولربما تكون المرأة دميمة، لكنها جميلة العينين، ولذلك فإن إخراج العينين مع تغطية بقية الوجه لا يقل خطراً عن السفور إن لم يكن أكثر خطراً من السفور في بعض الأحيان، وعلى هذا فإن الله عز وجل أمر بإخفاء الزينة عموماً، فقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31]، إذاً: العينان أعظم أنواع الزينة، فلا يجوز إبداؤهما لغير من أباح الله الإبداء لهم.

نصيحة للائي يكرهن التعدد من أزواجهن

نصيحة للائي يكرهن التعدد من أزواجهن Q هل من كلمة للنساء اللاتي يكرهن أن يتزوج الزوج بزوجة ثانية، علماً أن المجتمع فيه كثير من العوانس والمطلقات، بل إن بعض النساء تقول: إذا أردت الزواج فطلقني، وبعضهن من الملتزمات، بل وبعضهن قد تتلفظ بألفاظ قد تخرجها من الإسلام، حينما تقول: أن تزني أحب ألي من أن تتزوج مرة أخرى؟ A إن هذا الموضوع طويل، ويحتاج إلى درس طويل، ويكفي أن الله عز وجل هو الذي أباح التعدد قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، ومن كره أمراً من أوامر الله فعليه خطر من الردة عن الإسلام، ولذلك بعض الناس الآن ينكرون التعدد نعوذ بالله، فهؤلاء مرتدون بلا خلاف بين علماء المسلمين. أما المرأة فبطبيعتها الفطرية لا تلام، لأنها ترغب بأن تستقل برجل منفرد دون أن تشاركها امرأة أخرى، هذه فطرة لا تلام المرأة عليها في الأصل، لكنها عليها أن تنظر إلى وضع المجتمع، وأن الله سبحانه وتعالى أباح التعدد لمصلحة وحكمة. ثم لا تكون هي أنانية بحيث تشعر بحاجتها ورغبتها ومصلحتها، ولا تفكر في حاجة النساء الأخريات، الله تعالى الذي أباح التعدد إلى أربع نساء هو الذي خلق البشر ويعلم عددهم، ويعلم ما سيحدث في المستقبل، لو نظرنا عدد النساء بالنسبة لعدد الرجال، لوجدنا أن عدد النساء في كثير من بلاد العالم يساوي أضعاف عدد الرجال، والرجال يتعرضون لفتن وحروب ومصائب، كما أن النساء تتعرض لأمراض تعطلهن عن الاستفادة منهن، وعن التمتع، والتمتع مقصود بين الرجل والمرأة. وعلى هذا فإننا نقول: على المرأة المسلمة إذا فكر زوجها بالزواج أن تحتسب الأجر من الله تعالى، وألا تمانع في هذا الأمر لأسباب أهمها أن هذا الزوج ما أقدم على هذا الأمر إلا من حاجة، ولربما تمنعه فينظر نظرات محرمة، وربما يفعل فعلات محرمة، ولربما يؤدي إلى طلاقها هي حينما لا ترتاح لتزوجه عليها؛ فيؤدي إلى هدم الأسرة وضياع الأولاد، وخير لها أن تعيش مع ربع زوج، أو ثلث زوج أو نصف زوج، من أن تعيش بدون زوج. ولذلك فإن من حكمة الله عز وجل أنه ذكر التعدد قبل أن يذكر الإفراد، حتى إن بعض العلماء يرى أن التعدد سنة وليس برخصة؛ لأن الله تعالى ذكره قبل الإفراد، فقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، ثم لم يذكر الله عز وجل الإفراد إلا في حال الخوف، والقاعدة الشرعية تقول: (كل شيء ينهى عنه في حال الخوف فضده أولى في حال الأمن) أي: عدم الخوف، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اختار التعدد، بل كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام اختار الله عز وجل لهم التعدد، بل إن الله سبحانه وتعالى أباح شيئاً من الميل من الزوج لإحدى زوجاته مقابل التعدد، فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]. إذاً: بعض الميل مباح، مع أن الميل بطبيعته محرم مع الزوجات، لكن لما كانت المصلحة تفرض التعدد، والميل يفرض نفسه في بعض الأحيان؛ أباح الله تعالى شيئاً من الميل. على كلٍ: من أنكر التعدد فهو كافر مرتد، ومن كره التعدد فهو على خطر، والمرأة معذورة أن تكره التعدد بفطرتها، لكن عليها أن تتقي الله عز وجل ولتحبه باعتباره تشريعاً من تشريعات الله سبحانه وتعالى.

حكم لبس المرأة الملابس الضيقة عند النساء

حكم لبس المرأة الملابس الضيقة عند النساء Q هل يجوز للمرأة أن تلبس الملابس الضيقة أمام أخواتها من النساء، وإن كانت هذه الملابس الضيقة تبين معالم جسمها؟ A الله تعالى أباح أن تنظر المرأة إلى المرأة بشرط أن تكون الناظرة مسلمة، فقال تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31]، ويقول المفسرون: المراد بها المرأة المسلمة، فالشيء الذي يجوز للمحارم أن ينظروا إليه يجوز للمرأة الأخرى أن تنظر إليه من المرأة إذا كانت مسلمة، أما المرأة الكافرة فإنها لا يجوز أن تنظر إلى شيء من جمال المرأة المسلمة؛ لأن الله تعالى قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31]. وبهذه المناسبة ننصح المسئولين من وزارة الصحة في الدرجة الأولى، الذين جاءوا لنا بسيل كاسح من الممرضات الكافرات، والطبيبات الكافرات أن يتقوا الله تعالى، فإن هؤلاء الطبيبات ينظرن إلى أقصى عورات المسلمات وهن كافرات، نقول لمن في وزارة الصحة الذين لا يبالون بأن يأتوا بالكافرة أو المسلمة: اتقوا الله! بل لا أظن أن أحداً منهم يفكر أن يأتي بامرأة مسلمة، اللهم إلا إن جاءت بطريق التبع، وأخطر من ذلك ننصح الذين يأتون بالأطباء يعالجون النساء خصوصاً إذا كانوا كفاراً، وقد رأينا رجالاً كفاراً أطباء ينظرون إلى أقصى عورات المسلمات. إذاً: الأمر خطير جداً يا إخوتي، إذا كانت المرأة الكافرة لا يجوز لها أن تنظر إلى زينة المرأة المسلمة فكيف أن تنظر إلى عورتها؟! فكيف ينظر إليها رجل وقد يكون هذا الرجل كافراً؟! إذاً نقول: نظر المرأة إلى ما يخرج غالباً من المرأة أمر مباح إذا كانت مسلمة، وأما إذا كانت كافرة فإن حكمها أنها لا تنظر من المرأة المسلمة إلا ما يخرج غالباً كالوجه وما أشبه ذلك، أما زينتها الداخلية فلا يجوز أن تنظر إليها امرأة كافرة. والحمد لله رب العالمين!

صفات المؤمنين

صفات المؤمنين لعباد الرحمن صفات ذكرها الله عز وجل في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وما ذلك إلا لنعمل بها، فهم الذين أصلحوا ما بينهم وبين الله عز وجل، وأصلحوا ما بينهم وبين الخلق، فامتثلوا أوامر الله، واجتنبوا محارمه، وتحلوا بمكارم الأخلاق، وجميل الخصال ومحاسن الفعال، واجتنبوا ضد ذلك من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور، ولهذا مدحهم الله عز وجل، ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة.

بين يدي آيات من سورة الفرقان

بين يدي آيات من سورة الفرقان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب عليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الآيات التي في آخر سورة الفرقان تتحدث عن صفات عباد الرحمن، وسورة الفرقان من أولها إلى هذا المقطع تتحدث عن الكافرين ومواقفهم ضد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:37 - 39]. ثم ذكر الله عز وجل كثيراً من جرائمهم ثم قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. ثم ذكر الله عز وجل أدلة قدرته وأدلة وحدانيته التي أصبح واقع هذه البشرية يخالفها، وكان المتوقع أن هذه البشرية تعرف ربها سبحانه وتعالى، لكن أغلبها بخلاف ذلك، فذكر كثيراً من أدلة وحدانيته سبحانه وتعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:46 - 47]، إلى أن قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]. إذاً: الآيات التي سبقت هذه الآيات تتحدث عن الكافرين وعن مواقفهم من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وعن نهايتهم التي جعلها الله عز وجل نهاية كل مجرم وطاغوت، ثم إن الله عز وجل بين الأدلة الواضحة التي وضعها في الآفاق وفي الأنفس وفي السماء وفي الأرض لتكون أدلة واضحة تهدي هؤلاء البشر إلى الله عز وجل، فذكر الآيات التي آخرها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. وبالرغم من الكفر والعناد العظيمين اللذين خيما على الأرض طيلة هذه الحياة الطويلة فإن لله عز وجل عباداً عرفوه حق المعرفة، أي: أن هذه الآيات التي في آخر السورة يختلف أصحابها اختلافاً كثيراً عن القوم الذين ذكر الله عز وجل أخبارهم في أول سورة الفرقان، فهناك أقوام عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، فعرفوا الله، فأصبحوا عباداً لله لا عبيداً فقط؛ لأن هناك فرقاً بين (عبيد) و (عباد)، فلفظ العباد غالباً يطلق على المطيعين لله عز وجل، أما لفظ (عبيد) فهو من العبودية، فتطلق على كل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل استعبده الله سبحانه وتعالى، فالناس كلهم عبيد لله رضي منهم من رضي بهذه العبودية وكره منهم من كره. ومن هنا ندرك الفرق بين (عبيد) و (عباد): فلفظ (عباد) يُطلق غالباً على الملتزمين بأمر الله عز وجل، أما كلمة (عبيد) فإنها تطلق على عامة الخلق، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الخلق يوم القيامة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فالكل عبيد الله ساجدون لله رضوا أم أبوا، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1]، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، حتى الكافر المعاند العاصي لله عز وجل ولرسله عليهم الصلاة والسلام هو ما زال عبداً لله سبحانه وتعالى مستعبداً لله، فالخلق كلهم عبيد، ولكن هناك خلاصة العبيد وهم العباد، أي: الذين عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، وأدركوا قدرته، وأدركوا وجوده، وأدركوا وحدانيته، فما عبدوا غير الله عز وجل، فأصبحوا عباداً لا عبيداً، وهذا هو الفرق بين (عبيد) و (عباد).

عباد الرحمن وأوصافهم

عباد الرحمن وأوصافهم أما عباد الرحمن قد ذكر الله تعالى صفاتهم العظيمة وأثنى الله عز وجل عليهم، فهم الذين نظروا إلى هذه الحياة الدنيا نظرة ازدراء واحتقار، وجعلوا ملء قلوبهم الحياة الآخرة وخشية الله سبحانه وتعالى، ورفضوا زينة الحياة الدنيا الحرام مكتفين بالزينة الحلال وبما أباح الله عز وجل لهم، فيقول الله تعالى عن عباده: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64] إلى قوله تعالى في جزائهم: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، فـ (عباد): مبتدأ، وخبر المبتدأ (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا). إذاً هذه هي صفات العباد، وعلى كل واحد من المسلمين أن يصيخ بأذنه، وأن يصغي بقلبه ليعرف صفات عباد الرحمن، لعلَّ الله عز وجل أن يوفقه إليها أو إلى الكثير منها، فيكون عبداً لله عز وجل يستحق العبودية بمعناها الصحيح التي تُعتبر شرفاً وكرامة؛ لأن العبودية لابد منها، ولكن إما أن تكون لله وإما أن تكون للمخلوق، فإذا كانت العبادة لله عز وجل حررت الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تحرر هذا الإنسان وحاول التجرد والتملص من العبودية لله سبحانه وتعالى يقع في عبادة المخلوقين، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه مندوب سعد بن أبي وقاص إلى الفرس حينما قال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله عز وجل قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده. ولذلك تجد في القرآن عبيداً لغير الله كثيرين، عبيداً للمال، وعبيداً للهوى، وعبيداً للشهوة، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وعبيداً للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] فهناك عبيد للمال، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهناك عبيد للشهوات، وعبيد للمراكز، وعبيد للخلق أيضاً، فالإنسان إذا تجرد من عبادة الله عز وجل والعبودية لله يقع في العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تعمق في العبودية لله عز وجل تخلص من العبودية للمخلوقين، ولذلك تعتبر العبودية لله عز وجل هي الشرف، كما قال الفضيل بن عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يقول: لما قلت لي: (يا عبد) جعلني هذا اللقب اعتز حتى تطاولت كثيراً، وارتفعت حتى كدت أطأ الثريا بأقدامي؛ لأني دخلت تحت العبودية لله عز وجل. وعلى هذا نقول: من شاء أن يكون عبداً لله فليتحرر من العبودية للمخلوق كائناً من كان، ومن شاء أن يقع تحت وطأة العبودية لخلق الله فإنه هو الذي يتحرر عن العبودية لله عز وجل وحده.

التواضع والخضوع لله عز وجل

التواضع والخضوع لله عز وجل عباد الرحمن أولى صفاتهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]. والآية (يمشون على الأرض هوناً) لها عدة معانٍ، وكل هذه المعاني تجتمع في معنىً واحد وهو الخضوع لله عز وجل، فالمتكبرون هم الذين يزعمون أنهم يطاولون الجبال أو يخرقون الأرض بأقدامهم، وإذا ساروا ساروا وهم يضربون الأرض ضرباً من شدة الخيلاء الذي أصابهم، وما مشوا على الأرض هوناً وإنما مشوا متكبرين متغطرسين مترفعين على الله عز وجل وعلى خلق الله، وهم الذين يسعون بالفساد في الأرض، ويريدون أن يبذروا بذور الفساد في الناس، ويريدون أن ينشروا في المجتمع الجريمة، وضياع الأخلاق الكريمة، والمذاهب والأفكار المنحرفة التي تتنافى مع دين الله عز وجل ومع المبادئ القويمة التي جاء بها دين الإسلام، وهم الذين يسيرون إلى معصية الله من معصية إلى معصية ومن فاحشة إلى فاحشة، ولا يسيرون على الأرض هوناً، ولا يمشون على الأرض هوناً، وإنما يسيرون مفسدين في الأرض معاجزين لله عز وجل، ولذلك فإن من صفات عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هوناً. وهناك فرق بين المشي والسعي، ولذلك نلاحظ أن كلمة (المشي) تأتي للسير لطلب الرزق الحلال، أما السعي فإنه يأتي لطلب الحسنات، ولذلك لا تجد في القرآن ولا في السنة الأمر بالسرعة للحياة الدنيا، وإنما تجد هذا المعنى بألفاظ متكررة متعددة لطلب الحياة الآخرة، فمثلاً: لما ذكر الله عز وجل البحث عن الرزق قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لكن حينما ذكر الله عز وجل السعي للحياة الآخرة لا تجده بلفظ المشي وإنما بلفظ السرعة أو السعي أو الاستباق أو المسابقة، كما قال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، إلى غير ذلك من الأدلة. إذاً نقول: القاعدة أن الإنسان في طلب الحياة الدنيا عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض بتؤدة وتأنٍ ويقين بالله عز وجل وثقة برزقه، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من رزق الحياة الدنيا، وليس معنى ذلك أن الإنسان عليه أن ينام ليأتيه الرزق في قعر بيته، ولكن عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض يبتغي رزق الله عز وجل الحلال؛ لأنه حينما يسعى سعياً وحينما يركض ركضاً للحياة الدنيا لن يصيب منها إلا ما كتب الله عز وجل له، إضافة إلى أنه ربما يقع فيما حرم الله من المعاملات المحرمة من الربا ومن الأمور العظيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ولذلك الله عز وجل تكفل برزق كل كائن حي في هذه الحياة، حتى الحشرة وهي في جوف صخرة لابد من أن يصلها نصيبها من رزق الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، فكم من حشرة صغيرة في صخرة في جوف البحر أو في قعر جبل لا ينقطع رزقها عنها أبداً! لأن الله تعالى تكفل بذلك! إذاً الإنسان ذو العقل الذي كرمه الله عز وجل به هو أولى أن يدرك رزقه، فالله تعالى قد كرمه على كثير ممن خلق تفضيلاً، ولذلك الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]. فالمشي المراد به السير بتواضع لا بخيلاء، المشي بتؤدة، المشي لطلب الرزق الحلال، وعدم مسابقة الزمن للبحث عن المال الحرام، وإنما البحث عن الرزق الحلال في مظانه، وترك الكسب الحرام، فلا تكبر ولا خيلاء، ولا سعي في معصية الله عز وجل، وهنا يكون الإنسان قد تقيد بأمر الله عز وجل. وقوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] ليس معناه الذلة كما يتصوره بعض الناس؛ فالمسلم مطالب بأن لا يكون ذليلاً، وأن لا يحني رأسه لغير الله عز وجل، أن لا يطأطأ ظهره لغير الله سبحانه وتعالى، فلا يركع ولا يسجد لغير الله عز وجل، فالهون معناه ليس من الهوان، وإنما هو من التأني، وليس معناه -أيضاً- التماوت في المشية كما نشاهده على طائفة من المتدينين اليوم، فإننا قد ابتلينا في زمننا الحاضر بقوم تدينوا على غير بصيرة، فتجدهم يعيشون حياة الذلة، وإذا مشى أحدهم تجده يمشي بذلة وباستكانة، وكأن هذا من التواضع، وهذا ليس من الدين في شيء؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينصب من مكان مرتفع، وليس معنى ذلك أنه يذهب هيبة نفسه حينما يمشي ركضاً، وإنما عليه أن يكون وسطاً بين الذلة التي فهمها بعض الناس أنها تواضع ومسكنة لله عز وجل وهي ليست من الدين في شيء وسط بين ذلك ورفع الرأس لغير الله عز وجل والتطاول على خلق الله سبحانه وتعالى. إذاً قوله تعالى: (عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) أي: بتؤدة وتأنٍ لا يصل إلى درجة الذلة والهوان. فهذا هو معنى قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63].

الإعراض عن السفهاء والجهلة

الإعراض عن السفهاء والجهلة من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. والجاهل هو الذي لا يتصور عواقب الأمور ولا يفكر. وقوله: (قالوا سلاماً) يحتمل أمرين: يحتمل أنهم يسلمون على هذا الجاهل، ولنا ملحوظة على هذا المعنى؛ فإن السلام على غير المسلم لا يجوز، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وذلك أيضاً لا يعني أن نؤذي غير المسلمين في بلاد الإسلام، ولكن ذلك يعني أن لا نرفع رءوسهم -أيضاً- في بلاد الإسلام، حتى لا يترفعوا على إخواننا المسلمين، فبدء اليهودي والنصراني والكافر أياً كان بالسلام لا يجوز، ولكن حينما يسلم ونتأكد من أنه يسلم السلام الحقيقي نرد عليه، وإذا كان عندنا شك في ذلك فنقول: (وعليكم) كما كان اليهود يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة: السام عليكم، والسام معناه الموت والهلاك. وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: يسلمون إذا كان الجاهل مسلماً. أما إذا كان غير مسلم فلا يجوز، هذا المعنى. ويمكن أن نحمل هذه الآية على معنىً آخر، وهو أنهم يقولون: (سلاماً)، أي: يقولون قولاً سلاماً. أي: لا يردون على الجاهل بجهله، فإذا شتمه إنسان يدعو له، وإذا أساء إليه إنسان يحسن إليه، وإذا رأى منه جفاءً يريه من نفسه ألفةً ومحبة إذا كان مسلماً؛ لأن الله تعالى ذكر صفات المسلم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وعلى هذا نقول: معنى (سلاماً) أي: قالوا قولاً سلاماً. والقاعدة التي جاء بها الإسلام للقضاء على الأحقاد والأضغان في المجتمع هي رد السيئة بالحسنة، فإذا أساء إنسان إلى إنسان فعلى من أسيء إليه أن يقدم حسنة بدل هذه الإساءة، وهذه الحسنة التي يقدمها ذلك الإنسان الذي أسيئ إليه تعتبر علاجاً للأدواء الاجتماعية التي عجز علماء الاجتماع عن علاجها، فإنه حينما يشتمك وتدعو له وحينما يؤذيك جارك بأذى فتقدم له الإحسان سوف يخجل، وحينما تسمع كلمة نابية سيئة من إنسان مسلم وتقدم له كلمة حسنة تقابل فيها هذه الكلمة السيئة سوف تجد ذلك الإنسان الذي أساء إليك يندم على ما قدم من إساءة، ويحاول أن يتقرب إليك، وهذا العلاج هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فالعدو لك إذا أحسنت إليه وقابلت العداوة بالصداقة وقابلت الأذى بالإحسان تتغير صفاته، وحينئذٍ يقدم لك الإحسان، فيصبح كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، لكن تحمل هذا الأمر والإحسان إلى من أساء لا يطيقه إلا إنسان قوي الشكيمة صبور يريد أن يحبس نفسه على طاعة الله من أجل أن يكسب رضا الله تعالى، ثم بعد ذلك يكسب رضا الناس، ولذلك الله تعالى يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وأنا متأكد من أن الجيران الذين تفسد علاقات بعضهم مع بعض والأصدقاء الذين تفسد علاقاتهم فيما بينهم -بل والأقارب والعشيرة الذين تفسد ذات بينهم- أكثرها بسبب أن أحدهم إذا أساء إلى إنسان منهم قدم إساءة أكبر أو مماثلة من أجل أن ينتقم، وحينئذٍ تستمر هذه العداوة. فحينما يشتمك فتشتمه، ويسيء إليك فتقدم إليه إساءة أكبر، ويمكر بك فتمكر به حينئذ تستمر هذه النار تلتهم فتهلك الحرث والنسل، وتفسد العلاقات بين الناس لاسيما بين الأقارب، وهذا هو ما يحدث كثيراً في أيامنا الحاضرة. وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا الأمر، وهو أننا نجد أن الله عز وجل في سورة الشورى مدح الذين ينتقمون إذا أسيء إليهم فقال سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]، وبعدها قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فكيف نستطيع أن نجمع بين هاتين الآيتين؟ هل إذا أساء إليك إنسان تحسن إليه فتأخذ بقول الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، أو تأخذ بالجزء الآخر من الآيات وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]؟ يشكل هذا الأمر على كثير من الناس، ولكن نستطيع أن نقول: إن الأمر لا يخلو من إحدى حالتين: فإذا كانت الإساءة غير مقصودة من مسلم، وكانت هناك هفوة وكانت هناك زلة فكانت هناك كلمة إساءة إليك فعليك أن تتقبلها بصدر رحب، وأن تعفو عمن أساء إليك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا هو الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]. أما إذا جاءت الإساءة للحط من شأن مسلم من المسلمين، أو كانت إساءة إلى الأمة الإسلامية، فكانت مقصودة متعمدة من أجل الحط من إنسان مسلم وتحقيره وأذيته، لاسيما إذا جاءت من أعداء الإسلام، أو كان الهدف من ورائها الحط من الأمة الإسلامية ففي مثل هذه الحال لا يجوز العفو؛ لأن العفو يعني الذلة والمهانة من الأمة الإسلامية أو من المسلم حينما يستسلم لعدوه، ولذلك الله تعالى مدح الذين ينتقمون إذا أصابهم البغي، وكلمة (البغي) تعطينا المعنى الفارق بين العمد وغير العمد، بين من أراد أن يذل مسلماً أو يذل الأمة الإسلامية ومن هفا وأخطأ، فعلينا أن نتحمل هفوته وخطأه، فالله تعالى قال في باب المدح: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]، فالانتصار للأمة الإسلامية ولدين الله عز وجل أمر مطلوب، أما الانتصار للنفس فإن العفو أفضل منه.

قيام الليل

قيام الليل ويقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، ومعنى (يبيتون): يقضون الليل. والسجود معناه وضع الوجه -وهو أعظم الأجزاء في الإنسان- على الأرض ذلة وخضوعاً لله عز وجل، ولذلك السجود يعتبر أفضل العبادات، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه ربيعة بن كعب رضي الله عنه، قال: (كنت كل ليلة آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه)، والوضوء -بفتح الواو- الماء الذي يتوضأ به، (فجئته بوضوئه ذات ليلة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا ربيعة! فقال ربيعة: قلت: يا رسول الله. أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك يا ربيعة؟! قال: قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فالسجود هو أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله عز وجل، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الدعاء في السجود فقال: (وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن -أي: حري- أن يستجاب لكم). إذاً هؤلاء المؤمنون عباد الرحمن يقضون الليل ساجدين وقائمين لله عز وجل إذا أوى الناس إلى فرشهم وتمتعوا بالفرش الرقيقة وتمتعوا بالحسناوات من النساء ولذ النوم، وقد كان أحدهم يمسح بيده الفراش ويقول: والله إنك فراش لين رقيق، ولكن فراش الجنة ألين منك. فيقوم راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل، ودموعه تسيل على لحيته إلى الأرض من خشية الله عز وجل. والعجيب أنه في هذه اللحظات التي تجد فيها ذلك الإنسان -لاسيما في جوف الليل الآخر حينما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) - تجد ذلك الإنسان فيها راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل تجد أقواماً ما زالوا مكبين على المعصية وعلى البعد عن الله عز وجل، حتى في جوف الليل الآخر الذي ينزل فيه ربنا إلى سماء الدنيا!! إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الله عز وجل وعباد الشهوات وعباد المعاصي والهوى والشيطان. وهؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ليس معناه أنهم يصلون الليل كله، فقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام جزء من الليل وقال: (أفضل الصلاة صلاة داود)؛ لأنه كان ينام ثم يصلي ثم ينام؛ ينام نصف الليل، ثم يصلي ثلثه، ثم يرقد سدسه، فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة هي صلاة داود عليه الصلاة والسلام. ومعنى (يبيتون) أي: يقضون أكثر الليل. وهؤلاء هم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، ومعنى (تتجافى) أي: تتنحى. فكان أحدهم إذا وضع جنبه على الفراش كأن الفراش يرفض هذا الجنب؛ لئلا ينام، ليقوم يقضي شيئاً من الليل ركوعاً وسجوداً وقياماً لله عز وجل. فما هو الفرق بين هؤلاء وبين أقوام يقضون الليل كله أو حتى الهجيع الأخير من الليل أمام الأفلام والمسلسلات والأغاني والمحرمات، وربما ما هو أكبر من ذلك، ثم إذا بأحدهم ينام ملء عينيه ولا يستيقظ إلا ضحىً، قد نام حتى عن صلاة الفجر، وهذا هو ما نخشاه على هذه الأمة في هذا الزمن الذي أرغد الله عز وجل عليها العيش فيه، وأتم عليها النعمة، ولذلك نجد فرقاً بعيداً في حالنا اليوم وحالنا منذ سنوات، فقد كنا منذ زمن لا يجد أحدنا لقمة العيش إلا وهو يكد النهار كله، لكن ما كان أحدنا يتخلف عن صلاة الفجر أبداً، بل كان منا الراكع والساجد في الثلث الأخير من الليل، فلما أتم الله علينا نعمته، وأرغد لنا في العيش، وفجر لنا الخيرات من وراء آلاف الأقدام، وأصبحنا ملوك الدنيا في بلادنا وداخل بيوتنا، وأصبح العيش رغداً، إذا بنا لا نجد في صلاة الفجر إلا النزر القليل من عباد الله عز وجل، فهذه مصيبة، وهذه بلية، وكم هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً من بين الذين يصلون الفجر مع المسلمين؟ وما علم هؤلاء عظمة صلاة الفجر وأهميتها، نسو أن الله تعالى أثنى على صلاة الفجر في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، وما قال: (وقرآنِ الفجر) بكسر (قرآن)، والقاعدة النحوية أن يقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقرآنِ الفجر. لأن الواو عاطفة، لكن يقول العلماء: إن الله عز وجل قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي أنه مقطوع عما قبله، أي: وأمدح قرآن الفجر. أي: صلاة الفجر، لماذا؟ قال: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، ومعنى (مشهوداً) ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)، فقد جعل الله عز وجل لكل واحد ملكين في الليل وملكين في النهار يكتبون الحسنات والسيئات، ويجتمع الأربعة الملائكة في صلاة العصر وفي صلاة الفجر هبوطاً وصعوداً، فيصعد الذين كانوا فينا فيسألهم الله عز وجل: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وفارقناهم وهم يصلون)، ولذلك نقول: إن صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس، فالله تعالى مدحها وسماها قرآناً فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)؛ لأنها تطول فيها القراءة، فالقراءة في صلاة الفجر أطول من أي قراءة في صلاة أخرى، فمدح الله عز وجل صلاة الفجر، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تجتمع في صلاة الصبح وصلاة العصر. إذاً: عار على مسلم أن يسهر أول الليل على معصية الله لينام في آخر الليل عن فريضة الله عز وجل، لينام في وقت ينزل الله عز وجل فيه نزولاً يليق بجلاله وكبريائه وعظمته إلى السماء الدنيا ويقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟ والناس نيام، ثم إذا بهذا النوم يمتد إلى أن تطلع الشمس، أو بعد طلوع الشمس، فتضيع صلاة الفجر التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].

الدعاء بالسلامة والنجاة من عذاب جهنم

الدعاء بالسلامة والنجاة من عذاب جهنم فقارن -يا أخي- بين هؤلاء وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً في الليل، فأحدهم يقوم فيقرأ السورة الطويلة، ويتململ بين يدي الله عز وجل ويحني ظهره لله عز وجل، والدموع تتساقط على الأرض من خشية الله، ويسجد ويضع أشرف أعضائه على الأرض خشية وذلة لله عز وجل، والعجيب أن هؤلاء بالرغم من خوفهم من الله عز وجل وعبادتهم الطويلة لله عز وجل يهجرون المنام؛ لأنهم يخافون من الآخرة، فاسمع إلى قول الله عز وجل عنهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:64 - 65] أي أنهم يخافون من النار. فما هو موقف الذين يبيتون أمام الأفلام والمحرمات وأمام الفواحش والزنا والخمور والمصائب العظيمة والمخدرات؟! فهؤلاء يبيتون لربهم سجداً وقياماً ويقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) وأولئك البعيدون يبيتون على ما حرم الله، ولا يقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وكان المنطق أن يقول هذه المقالة الذين يبيتون عصاة لله عز وجل، لكن الحقيقة أن الذي يقولها هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ لأن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين عرفوا الله سبحانه وتعالى من خلال قيام الليل، ومن خلال الخلوات في ظلمة الليل، فإذا أسدل الليل جنحه وأرخى أستاره قاموا خاشعين لله عز وجل، فعرفوا الله سبحانه وتعالى، وخافوا من عذابه، فإذا أنهوا عبادتهم قالوا: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) أما أولئك فكما قال الله عز وجل عنهم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فهم في غفلة وأحدهم نائم يغط في نوم عميق لا يستيقظ إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ليقبض هذه الروح، وحينما يأتي ملك الموت ليقبض هذه الروح من ذلك الجسد يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. إذاً الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين يقولون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وهم الذين يخافون من جهنم، ويعتبرون جهنم أقسى عقوبة؛ لأنها غرامة لا تفارق الإنسان، كما لا يفارق الغريم غريمه، وإنما يطالبه حتى يأخذ حقه منه، فالنار تتابع هؤلاء حتى تأخذ حق الله عز وجل منهم. وفي سورة المؤمنون ذكر الله عز وجل صفات عظيمة راقية للمؤمنين، ولما ذكرها قال عنهم عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، تقول عائشة رضي الله عنها: (قلت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أهم الذين يزنون ويسرقون ويفعلون الفواحش ويخافون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل ذلك منهم). إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الرحمن وعباد الشهوات، فعباد الرحمن بالرغم من طاعتهم لله عز وجل وبالرغم من هجرهم ألذ متع الحياة الذي هو النوم والمتاع الذي يكون على الفراش هم خائفون. فيا أخي! أولى لي أنا وأنت حين فرطنا في كثير من أوامر الله عز وجل أن نخاف، وأن نكثر من قولنا: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)، وأولى بذلك البعيد الذي أمضى حياته كلها في معصية الله عز وجل بعيداً عن طاعته يركب كل ما عن له وطاب ولذ من معاصي الله عز وجل ولا يقف عند حد من حدود الله، أولى به أن يقول: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً)، وذلك بعد أن يقدم الطاعة المطلقة لله عز وجل، والتوبة والإنابة قبل أن يحضر الأجل. قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66] أي: ساء من استقر بها، وساء من أقام بها، فهي مصيبة عظيمة لا تصيب إلا أعداء الله عز وجل، وهي أسوأ ما يعذب الله عز وجل به عباده، فقد ساءت مستقراً وساءت مقاماً.

التوسط في الإنفاق

التوسط في الإنفاق ثم يقول الله عز وجل عن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. الإسراف: هو تعدي الحدود في النفقة. لاسيما إذا كان ذلك في معصية الله عز وجل، والقوام: الإنفاق في طاعة الله عز وجل. ولو أنفق الإنسان كل ماله فالإسراف أن ينفق ولو درهماً أو نصف درهم في معصية الله عز وجل، والقوام: أن ينفق ما ينفقه في طاعة الله سبحانه وتعالى. إذاً عندنا نفقة في معصية الله عز وجل -سواءٌ أكانت قليلة أم كثيرة- فهي تدخل في باب الإسراف، وفاعلها من الذين لا يحبهم الله عز وجل، وعندنا أمر آخر وهو النفقة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، فهي طاعة لله عز وجل، ولا تدخل في باب الإسراف أبداً ولو أنفق الإنسان كل ماله، ولذلك جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بماله كله ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير، وكعب بن مالك رضي الله عنه حينما أنزل الله توبته في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] جاء فقال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي شكراً لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، يقول العلماء في هذين الخبرين الصحيحين: أما الأول فإن أبا بكر رضي الله عنه يعرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلد والصبر، فهو يتحمل شظف العيش، ويستطيع أن يتحمل كل شيء في ذات الله عز وجل، فقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم كل ماله، أما بالنسبة لـ كعب بن مالك فقد عرف منه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يتحمل شظف العيش، فأمره أن يحتفظ بشيء من ماله، ويكفي أن يقدم جزءاً من ماله لله عز وجل شكراً لله سبحانه وتعالى. أما الدرهم -ولو كان حقيراً تنفقه في معصية الله فإنه محرم، أما الإنفاق في المباحات فإذا وصل إلى درجة المبالغة فيدخل في قول الله تعالى: (يُسْرِفُوا)، أي أن الإسراف هو المبالغة ولو كان في بعض الأمور المباحة؛ لأن الله تعالى قد ذم قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]، فهذه صفة الكافرين يجب على المسلم أن يبتعد عنها حتى لا تكون صفة من صفاته. إذاً: القوام -وهو قوام الحياة- يكون وسطاً بين الإسراف وبين التقتير، فالإسراف هو المبالغة في البذل، والتقتير هو البخل في البذل، فكما حرم الله عز وجل وذم الإسراف والزيادة في البذل ولو كان ذلك في المباحات فقد ذم الله عز وجل التقتير، والتقتير يشمل أموراً، منها: منع ما أوجب الله عز وجل من النفقات والزكاة والصدقات الواجبة إلى غير ذلك، ومن التقتير: البخل على النفس وعلى الأهل، بحيث يصبح ذلك الإنسان لا يؤدي ما أوجب الله عز وجل عليه تجاه نفسه وتجاه أهله وذويه الذين أمرهم الله عز وجل بالإنفاق عليهم، قال عز وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، إذاً التقتير محرم وممنوع، كما أن الإسراف أيضاً محرم وممنوع، فلا يجوز للإنسان أن يبخل بما أوجب الله عليه، أما إذا وصل الأمر إلى البخل بالأمور الواجبة العظيمة كالبخل بالزكاة -نعوذ بالله- أو البخل في النفقات الواجبة؛ فإن هذا من أعظم المحرمات عند الله عز وجل، لاسيما إذا كان في الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً -أو عناقاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). إذاً معنى ذلك أن التقتير إذا وصل إلى البخل بما أوجب الله عز وجل فهنا يكون الوعيد الشديد، نسأل الله العافية والسلامة. فالله تعالى قد توعد الذين يبخلون بالزكاة بأنه يُحمى على هذا المال في نار جهنم، ثم يكوى به الجنب والجبين والظهر، وكلما برد أعيد فأحمى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة -وهو يوم القيامة- حتى يقضى بين العباد، ثم يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. فعلى المسلم أن يحسب كل ماله على رأس كل سنة مالية بالنسبة له؛ ليدفع ربع عشر هذا المال بعد أن يحصيه إحصاءً كاملاً، وبعد أن يخصم منه ما عليه من ديون، ثم بعد ذلك عليه أن يؤدي ربع عشر هذا المال، وهذا الذي يقدمه هو الذي يقربه إلى الله عز وجل يوم القيامة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع).

اجتناب الشرك بالله جل جلاله

اجتناب الشرك بالله جل جلاله ثم قال تعالى في صفات عباد الرحمن {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:68]. أي نوع من أنواع الآلهة يُدعى من دون الله فهذا هو الشرك الأكبر، وهذه الآلهة كما نعرفها أنواع، ويظن بعض الناس أن الآلهة التي تُعبد من دون الله هي الأصنام، كالأصنام التي وضعها المشركون في الجاهلية، ونسوا أن عبادة الأصنام تتنوع في كل عصر وفترة، ففي أيامنا الحاضرة جاءت عبادة الأضرحة، وما يُسمى بالأولياء والصالحين، حتى بلغت عدد الأضرحة التي تُعبد في أيامنا الحاضرة ما يزيد على عشرين ألف ضريح! وكلها تعبد من دون الله تعالى، ويحج لها الناس من جميع بلاد العالم، ويتقربون إليها بالقرابين، ويذبحون حولها الذبائح، ويطوفون حولها، ويركعون ويسجدون ويخشعون ويتضرعون لها من دون الله عز وجل، وهذا نوع مما يعبد من دون الله. وهناك آلهة أحياء تعبد من دون الله، وهذه لا تقل مصيبتها عن الآلهة السابقة، فكم من البشر من وضع نفسه إلهاً يشرع للناس، ويأتي بقوانين وأنظمة ليست من شرع الله عز وجل بشيء، ثم يقسر هؤلاء الناس أو يدعوهم إلى إتباعها من دون شرع الله عز وجل، وهذا أيضاً أمر خطير، فالله سبحانه وتعالى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، ولما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (والله -يا رسول الله- ما كنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟ قال: نعم، قال: فتلك إذاً عبادتهم)، فطاعة أولي الأمر في معصية الله عز وجل وطاعة أصحاب القوانين والأنظمة التي تتنافى مع شرع الله عز وجل تعتبر نوعاً من العبادة، وأصحاب هذه الأنظمة وتلك القوانين التي يشرعونها في المجتمعات ويطلبون من أصحاب المجتمعات أن يتبعوها من دون شرع الله أو يقسروا الناس عليها قسراً هم طواغيت، بل هم رءوس الطواغيت؛ لأن الله تعالى سماهم كذلك، بل إن الذين يتبعون هذه الأنظمة ويسلكون مسلكها من دون شرع الله وينقادون لها أيضاً هم عصاة مرتدون عن الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، فالمسألة خطيرة. إذاً عبادة الله هي توحيده بالطاعة، فلا يحني هذا الإنسان رأسه لغير الله عز وجل، ولا يخضع لأي أمر لا يتفق مع أوامر الله سبحانه وتعالى، ولا يطوف بقبر ميت أو يتمسح بأعتاب حي من دون الله عز وجل، وعليه أن يثق بالله عز وجل، فبيده الخير، وهو الذي يرزق ويحيي ويميت، وبيده الآجال، قال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وحينما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة يعرف الله عز وجل حق المعرفة، وحينئذ يكون قد تخلص من عبادة غير الله سبحانه وتعالى.

اجتناب قتل النفس بغير حق

اجتناب قتل النفس بغير حق ثم قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، والنفس التي حرم الله هي النفس المؤمنة المطيعة لله عز وجل التي لم تستوجب حداً يوجب القتل، كالردة عن الإسلام، أو كزنا المحصن، أو مفارقة الجماعة، وما أشبه ذلك، فإذا كانت هذه النفس بريئة طاهرة تقية فلا يجوز لأحد أن يتعدى عليها بقتل، ومن تعدى عليها بقتل فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. فقتل النفس أمر عظيم عند الله عز وجل.

الابتعاد عن الزنا ووسائله

الابتعاد عن الزنا ووسائله ثم قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]: والزنا هو الوطء في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما فتح طريق الحلال أمام هذا الإنسان فأعطاه أربع نسوة يتمتع بهن ويتمتعن به ووسع الله عز وجل له في هذا الأمر جعل عقوبة الزنا شديدة في الدنيا والآخرة، فالله تعالى يقول عن عقوبة الدنيا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة} [النور:2]، وفي الآية المنسوخة تلاوة ذكر في عقوبة المحصن الرجم، أما بالنسبة لعقوبة الآخرة فقال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، فباب التوبة مفتوح، ولكن هذه الذنوب العظيمة التي أعظمها الشرك بالله وقتل النفس والزنا على المسلم أن يبتعد عنها، وأن يبادر بالتوبة إذا اُبتلي بشيء من ذلك. وقد نزلت هذه الآية في قوم من المشركين عبدوا غير الله عز وجل، وأكثروا من القتل والزنا، فجاءوا تائبين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، ففتح الله عز وجل باب التوبة أمام هذا الإنسان حتى لا يقنط من روح الله سبحانه وتعالى، وهذه الجرائم العظيمة نستطيع أن نقول: إنها بدأت تنتشر في أيامنا الحاضرة في المجتمعات البشرية، وهذا الزنا -نسأل الله العافية والسلامة- من أخطر الأمور التي تفسد المجتمعات؛ حيث تختلط به الأنساب، ولا يعرف الرجل أبناءه، والأبناء لا يعرفون أباهم، فتفسد البيوت، كما أنه يؤدي إلى الطلاق ويؤدي إلى الريب، ويؤدي إلى المصائب، وبه تنتشر الأمراض في المجتمع، فكم نسمع عن الأمراض الحديثة التي جاءت مع هذه الفواحش -نسأل الله العافية والسلامة- ومع الزنا من الإيدز والهربس والسيلان والزهري وغير ذلك من الأمراض التي ما كان الإنسان يعرفها إلا بعد أن انتشرت هذه الجريمة، نسأل الله العافية والسلامة. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة -أي: فاحشة الزنا- في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وبالرغم مما يقدمه الطب الحديث من وقاية وعلاج وعقاقير وغير ذلك فما زالت هذه الأمراض تنتشر في المجتمعات، سواء ما كان نتيجة حتمية لهذه الفاحشة العظيمة أو ما كان عقوبة من الله عز وجل من الأمراض الأخرى التي ما كان الإنسان يعرفها، وتُسمى بأمراض الحضارة، وهي في الحقيقة ليست أمراض الحضارة، وإنما هي أمراض الفواحش والمحرمات. فالزنا أمر خطير، ولا شك أن كلمة (زنا) منذ أن يسمعها الإنسان تصك أذنه فلا يفكر الإنسان فيها إلا من بعيد إذا لم يكن قد اُبتلي بهذه الفاحشة، نسأل الله العافية والسلامة، لكني أرى أن كثيراً من الذين تشمئز قلوبهم من هذه الكلمة فضلاً عن وجودها فيما بينهم -نسأل الله لنا ولهم الثبات- لا يبالون بوسائلها، وصحيح أن الزنا قد بذلت له في أيامنا الحاضرة كل الوسائل، ولم تبق وسيلة مقفلة أمام المجتمعات الإنسانية تدعو إلى الزنا إلا وقد انفتحت على مصراعين اثنين على مستوىً واحد، ولذلك لا يمكن أن تسأل عن وسيلة من هذه الوسائل إلا وتجدها قد انتشرت في المجتمع، إلا من حفظ الله عز وجل، فمثلاً: النظر الحرام فُتح له باب التبرج، وهذا التبرج الفظيع انتشر في أسواق المسلمين وفي كل حالاتهم، بل انتشر العراء والاختلاط الشديد، فنساء يأتين من وراء آلاف الأميال خادمات ومربيات وهن في سن الفتيات وذوات جمال، ويعشن داخل البيوت سنين طويلة بين العزاب وبين الرجل وزوجته، وربما تخرج زوجته ساعات أو تسافر أياماً ليبقى مع هذه الخادمة أو هذه المربية! وهكذا سائقون جيء بهم إلى قعر بيوت المسلمين، فأحدهم يحمل مفتاح البيت بجيبه، ويدخل متى شاء، ويخرج متى شاء، ويحمل الزوجة، ويحمل البنات إلى المدرسة وإلى الأسواق، وكأنه هو رب البيت! وهكذا تُوجد أفلام ومحرمات تتكرر في كل ليلة وفي كل ساعة على مشهد من الأطفال والنساء والآباء والأبناء. إنها أمور خطيرة والله لا تتحملها حتى النفوس التقية فكيف بالنفوس المريضة؟! وكيف بالذين في قلوبهم مرض؟! لقد كنا نظن أن في جاهلية اليوم خيراً فإذا بنا نرى في جاهلية الأمس التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا ركب على ظهر الفلك دعا الله مخلصاً له الدين، وإذا كان على ظهر الماء يخاف حينما تهب ريح شديدة أن تنقلب السفينة فيغرق، فيدعو الله ويوحد الله، أما اليوم فتشاهد أن من وراء عشرات آلاف الأقدام بين السماء والأرض في الطيران من يستمر ساعات طوال وهو مع النساء والتبرج والعراء والأفلام والمصائب ولا يخاف ولا يتأثر، وهذا مما يندى له جبين المسلم. فالقلوب تشمئز حين تسمع كلمة (زنا)، لكن مَنْ مِنَ الناس قد استطاع أن يحصن نفسه أو مجتمعه؟ لا يوجد إلا من شاء الله، فالمجتمعات الإنسانية بصفة عامة والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة -حتى المجتمعات المحافظة- انتشر فيها هذا التبرج وهذه المحرمات والصور والأفلام! ولو عملنا إحصائية عن عدد ما في بيوت المسلمين اليوم من أفلام لما استطعنا إلا أن نخرج نسبة ضئيلة جداً تخلو من هذه الأشياء، أما البقية فقد غصت بهذه الأفلام، سواء ما يأتي عن طريق التلفاز أو الفيديو أو السينما أو الصور الثابتة والمجلات الفاتنة. إذاً المصيبة كبيرة، وبالرغم من أن الناس يشمئزون من كلمة (الزنا) إلا أن القليل منهم هو الذي يتخذ الحيطة لنفسه ولأهله من هذا الأمر، ولذلك لا تستغرب حينما أقرن بين الزنا وبين هذه الأمور؛ فإن الله تعالى قرن بينها في سورة النور، فلما ذكر الله عز وجل الزنا ذكر الأمور التي تؤدي إلى الزنا فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، إلى غير ذلك من الاحتياطات. إذاًَ: هذه الاحتياطات يُطالب بها الناس اليوم ودائماً وأبداً حتى يقضوا على فاحشة الزنا، فما هي النتيجة حينما انفتح الباب على مصراعيه في بلاد المسلمين؟ هل تتصور أن نسبة كبيرة من شباب المسلمين يقضون أي إجازة ولو كانت قليلة في بلاد الغرب؟! بل سمعت أن بعضهم يقضي إجازة الأسبوع في بلاد الغرب أو في بلاد الفسق والمعاصي! هذا هو الذي يحدث، فما الذي دفع بهؤلاء إلى ذلك؟ حتى لقد رأينا كثيراً من شباب الأمة الإسلامية المحافظة ومن أبناء الصالحين من يستغلون الفرص، وكأن أحدهم يعيش كطير في قفص يريد أن يبحث عن فرصة ليفر من هذا المجتمع المحافظ؛ لأنه رأى ما يثير الشهوة ويحرك الغرائز في مجتمعه وداخل بيته، فهو لذلك يبحث عن الجريمة. إذاً من هو الذي يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة؟ يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة كل من ساهم في تحريك هذه الغريزة فحركها تحريكاً منحرفاً، كالإعلام الذي يوصل هذه الأشياء إلى بيوت المسلمين، فيوصل الصحف والمجلات والأفلام والمسلسلات والأغاني وصور النساء، والآباء الذين يأتون بهذه الأشياء، وكل من ساهم في هذا الأمر لابد أن يتحمل نصيباً من المسئولية بين يدي الله عز وجل. ووالله! إن من يسافر إلى بلاد منفلتة لا تنضبط بأخلاق ولا بدين ولا بقيم ويرى أبناء المسلمين وأبناء المحافظين يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي النكبة، وهذه هي المصيبة. فعلينا أن نحافظ على هذه الناشئة، وأن نطهر بيوتنا مما حرم الله عز وجل، فما يوجد في بيوت المسلمين وفي بلاد المسلمين من هذه الأشياء هو أكبر دافع لوجود هذه الفاحشة في بلاد المسلمين وخارج بلاد المسلمين. فالله تعالى يقول: {وَلا يَزْنُونَ}، ثم لما ذكر الله عز وجل هذه الصفات الثلاث وهي أخطر الصفات -الشرك بالله وقتل النفس والزنا- قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان:68 - 69]، فـ (أثاماً) أي: عقاباً، وكيف يضاعف له العذاب يوم القيامة؟ A يزاد ويكرر فيعطى من العقوبة أكثر مما يعطاه إنسان آخر، {وَيَخْلُدْ فِيهِ} [الفرقان:69] أي: في العذاب {مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:69 - 70]، ومن نعمة الله عز وجل أن باب التوبة ما زال مفتوحاً، وسيبقى باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها، وحتى تبلغ الروح الحلقوم، ولكن -يا أخي- هل تدري متى تبلغ الروح الحلقوم؟! أو متى تطلع الشمس من مغربها؟! أنا وأنت لا ندري، والعلم بيد الله عز وجل، فما على أي واحد منا إلا أن يبادر بالتوبة. ثم قال عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، وهذا دليل على أن التوبة إنما كررت هنا لأنها يجب أن تكون توبة صادقة، أما التوبة التي يتوب فيها الإنسان اليوم ليلعب بها غداً ولينقضها ويتوب بعد غد فهذه ليست توبة صادقة، فالتوبة الصادقة هي التي تستوفي الشروط المعروفة: الإقلاع عن الذنب، والندم، والعزم على أن لا يعود، ورد المظالم إذا كانت هناك مظالم بينه وبين خلق الله عز وجل.

الابتعاد عن شهادة الزور وأماكن المعاصي

الابتعاد عن شهادة الزور وأماكن المعاصي ثم قال تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]. والزور هو: كل محرم، مأخوذ من التزوير أو من الازورار، والازورار معناه الانحراف، والتزوير معناه: التزيين. لأن أصحاب القول الحرام يزينون كلامهم ليكون مقبولاً في المجتمع، كما تشاهد في واقعنا اليوم، فعباد الرحمن لا يشهدون الزور، وهذه الآية تحتمل معنيين، ولربما كان المعنيان مرادين، فتشمل شهادة الزور، وتشمل حضور المجالس التي فيها ما حرم الله عز وجل. أما شهادة الزور فإنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدل على ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (ألا أنبئكم بأكبر ما أكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، أي: لما ظهر من علامات الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشهادة الزور معناها الذي تعرفه، وهو أن يأتي إنسان ليشهد على إنسان بأن هذا المال لفلان. وليس لفلان أو بأن هذا المال ليس لفلان وهو لفلان. فهذه هي شهادة الزور عياذاً بالله، وهي ظلم عظيم تؤدي إلى أن تنتقل الأموال إلى غير أهلها بسبب هذه الشهادة الحرام الكاذبة، فشهود الزور هم الذين يذهبون إلى المحاكم وأمام القضاء وفي غير هذه الأمور ولا يدلون بالشهادة على حقيقتها، بل يقلبونها ضد صاحبها، نسأل الله العافية والسلامة، وهؤلاء يقترفون أكبر الكبائر، فعليهم أن يبادروا بالتوبة، فالله تعالى يقول: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]. وكذلك لا يشهدون المجالس التي فيها الكلام المحرم، فكم من مجالس المسلمين اليوم يوجد فيها من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، بل والطعن في الدين -نعوذ بالله-، والضحك والسخرية بأبناء المسلمين وبالصالحين يوجد فيها من ذلك الشيء الكثير! وهذا يكثر، وتجد كثيراً من هذه المجالس تُعمر بهذه الأمور، ويسخرون من المؤمنين ويضحكون، وهذا من أعظم الزور، وكم يوجد من المجالس التي تُعمر بالموسيقى واللهو والغناء! ولذلك جاء أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مر ذات يوم بقوم يغنون، فلما استمع الغناء أسرع وهرب، فذُكر خبره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ابن أم عبد كريم)، وفي هذا إشارة إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، فالزور هو كل كلام محرم، فإذا رأيت -يا أخي- من يتكلم كلاماً محرماً ومن يخوض في آيات الله فعليك أن تعظه وتذكره وتخوفه بالله عز وجل، فإن التزم وإلا فعليك أن تبتعد عنه كثيراً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] يشمل الأمرين جميعاً، فاحذر أي كلام محرم وأي شهادة محرمة ليست على حقيقتها، ولا تشهد إلا على مثل الشمس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد أو دع)، أما الذين يشهدون الزور وينقلون الأموال من إنسان إلى إنسان بشهاداتهم فهؤلاء قد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. وأعظم من هؤلاء -والعياذ بالله- الذين يأخذون أموال الناس بالأيمان الكاذبة، فيحلف أحدهم على الحرام بأن هذا له وليس له، أو أن هذا لفلان وليس لفلان، وهذه هي اليمين الغموس التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ونعوذ بالله من ذلك، فالذي يحلف على ما ليس له ويقول: والله إن هذا لي. أو: والله إن عندك لي كذا. أو: والله إنه ليس عندي لك شيء، وهو عنده ويعلم ذلك فهذه هي اليمين الغموس، وسُميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، وسُميت اليمين الصبر لأن صاحبها إذا أراد أن يحلف تجده يتردد ولو كان ضعيف الإيمان، بل لو فقد الإيمان وكان يريد أن يحلف فإنك تجده يتنازع الإيمان والمطامع أمام نفسه، فيقدم على هذه اليمين الكاذبة من أجل أن يأكل فيها أموال الناس، والعياذ بالله. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: إذا رأوا كلاماً حراماً غيبة أو نميمة أو كذباً أو مجالس سفهاء يضحكون ويسخرون من دين الله ومن المؤمنين فإنهم يهربون من هذه المجالس، ولا يجلسون فيها، لكن بعد أن يدافعوا عن أعراض إخوانهم المسلمين، فإن استطاعوا وإلا فعليهم أن يهربوا من هذه المجالس؛ حتى لا تنزل عليهم عقوبة الله عز وجل مع هؤلاء.

الدعاء بصلاح الأزواج والذرية

الدعاء بصلاح الأزواج والذرية ثم يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]. قرة العين معناها: سكونها. والعين بطبيعتها دائماً تتحرك وتلتفت يميناً وشمالاً تبحث عن الأفضل، لكن حينما تحصل العين على مطلوبها من زوجة صالحة أو من ولد صالح تقر هذه العين، أي: لا تلتفت إلى نساء الناس، ولا إلى أولاد الناس، فلا تكثر هذه العين الحركة، فهم يريدون أن يكون لهم أهل صالحون وأولاد صالحون وتقر عيونهم بهؤلاء الصالحين، ولهذا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]. لكن -يا أخي- هل تتصور أنهم يقولون هذه الكلمة دون أن يقدموا لها أسباباً؟ وهل أحدهم تجده يترك ولده يفسق ويفسد وتذهب أخلاقه ويخالط قرناء السوء، ويترك زوجته تذهب متى شاءت وترجع متى شاءت في محافل الزواج وفي الأسواق وغيرها ويقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]؟! لا. بل لابد أن يقدم الأسباب، وإذا قدم الأسباب فعليه أن يعتمد على الله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فبعد أن يقدم الأسباب يقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].

الدعاء بالإمامة في التقوى

الدعاء بالإمامة في التقوى ثم أيضاً بعد ذلك يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فانظر -يا أخي- إلى الطموح، إنه طموح عظيم، فهم لا يريدون فقط أن يكونوا متقين، بل ولا يريدون أن يكونوا تبعاً للمتقين، وإنما يريدون أن يكون الناس يتبعونهم في تقوى الله عز وجل، وهذا هو الطموح الذي يجب أن يتنافس فيه الناس، فالناس عليهم أن يتنافسوا في مثل هذه الأمور، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهم يريدون أن يكونوا هم قادة الفكر ودعاة الحق في هذا العالم، ويُقتدى بهم في تقواهم وطاعتهم لله عز وجل، أما أن يكونوا تبعاً فهذا طيب، لكن خير لهم أن يكونوا يُقتدى بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وهذا هو المعنى الصحيح، والله أعلم. والمعنى الآخر في قوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: واجعلنا نقتدي بالمتقين، لكن المعنى الأول أقوى وأقرب إلى الصواب وإلى لفظ الآية، وليس معنى ذلك أنهم يريدون السلطة والكبرياء في الأرض، فهناك فرق بين من يريد أن يكون إماماً في تقوى الله عز وجل وبين من يريد أن يكون صاحب سلطة، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبحث الإنسان عن السلطة، اللهم إلا إذا كانت لمصلحة هذا الدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها). ولذلك المسلم يجب عليه أن يكون طموحاً لأن يكون قدوة في الخير، أما أن ينافس الناس على المناصب الدنيوية العالية فهذه ليست صفة المؤمن، اللهم إلا إذا كان الأمر كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وذلك إذا رأى فساداً في المجتمع، ورأى أنه باستطاعته أن يصلح في أوضاع هذا المجتمع، فيمكن أن يكون طموحاً إلى مثل هذا المركز، لا من أجل أن يتخذه وسيلة لأن يتخذ أمر المسلمين كالوسادة ليحقق مآربه، إلى غير أهله، ولا ليريد أن يطغى من خلال هذا المنصب أو يفرض قوة فوق قوة الله عز وجل كما يعتقد، وإنما يريد فقط أن يصلح في هذا المجتمع، ففي مثل هذه الحال يطلب المنصب، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

جزاء عباد الرحمن

جزاء عباد الرحمن جزاء أهل الصفات السابقة كلها يقول الله تعالى عنه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أتدري ما هي الغرفة؟ الغرفة هي أعلى درجات الجنة، والجنة درجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) يعني: يرتفع بعضها على بعض في الجنة. فهؤلاء يخبر الله عز وجل أنهم ما داموا في هذا المستوى من العبودية للرحمن سبحانه وتعالى فإن جزاءهم في الآخرة الغرفة، وهي أعلى درجات الجنة. وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75] أي أن هذه الأعمال كلها تحتاج إلى صبر، فمن يستطيع أن يقوم الليل في شدة البرد؟ ومن يستطيع أن يصوم النهار في الصيف إذا اشتد الحر؟ ومن يستطيع أن يحبس نفسه أمام هذه الشهوات؟ لكن الذين صبروا هم الذين يستطيعون ذلك. ولذلك الله تعالى يعطيهم الغرفة في الآخرة بسبب صبرهم وتحملهم طاعة الله عز وجل، وصبرهم عن معصية الله سبحانه وتعالى، وصبرهم على أقدار الله المؤلمة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عقبات في طريق المسلم

عقبات في طريق المسلم المسلم في هذه الدنيا مبتلىً، وأمامه في سيره إلى الله تعالى عقبة كئود، وابتلاءات كبيرة، وهذه سنة الله في هذه الحياة الدنيا؛ ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، ويمحص ما في القلوب. فعلى المسلم أن يعتصم بربه، وأن يتمسك بدينه، وأن يستلهم من الله العون والتوفيق، ثم ينطلق غير مكترث بهذه العقبات، ويتحلى بالصبر فإن الصبر مفتاح الفرج.

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، بيده القلوب {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته. أما بعد: فإن من يتتبع تاريخ البشرية يجد أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم وجود البشر على وجه الأرض، فهو صراع لا ينتهي أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولد مع الإنسان في أول خلقه، كما قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وهذا هو الصراع بين الإيمان والإلحاد، وبين الإسلام والكفر، وتبقى معه فرقة ناجية حتى تأتي آخر لحظة من لحظات الحياة الدنيا وهي تكافح المنكرات، وتقدم النفس والمال في سبيل الله عز وجل، لا تتوانى أبداً ولو أظلم الجو أو اكفهر، فلابد من أن تبقى هذه الفرقة تصارع الباطل، ولربما تكون في بعض الأحيان الغلبة للباطل، لكنها ليست غلبة، وإنما هي زبد، وإنما هي الفتنة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] يعني: أتتحملون هذه الفتنة؟ وهي الفتنة التي تُعِّرف بالرجال، وتميز المؤمن الصابر من غير الصابر، وطريق الجنة تعترض على كثير من العقبات، كما قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] أي: الأمم السابقة، فلستم أنتم أول من ابتلي في طريق الجنة، {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]. فقوله: (زلزلوا) يعني: كأن الأرض تهتز، وكأن كل الأرض أصيبت بالزلزال من تحت أقدامهم، مع أن الأرض ما تزلزلت، وإنما هو الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين على أيدي أعدائهم الكافرين والمنافقين والمفسدين في الأرض، فأصبح أمراً شديداً حتى كأن الأرض أصحبت تهتز من تحت أقدامهم، وزلزلت إلى أي حد؟ {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]. تصور الرسول الذي يوحي الله عز وجل إليه مباشرة، والذي يأخذ من عند الله الوحي غضا طرياً، والذي تنزل عليه الكتب السماوية يقول: (متى نصر الله)؟ وتصورا كلمة (متى)، فإن أصلها في اللغة اسم استفهام، لكن هنا تحمل معنىً آخر غير الاستفهام، وهو الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله إلى أن يصل الشك إلى بعض ضعاف الإيمان الذين يعيشون مع المرسلين. وفي مثل هذه الظروف يأتي نصر الله، وتأتي قبله البشرى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

وجود الأذى والمشقة والابتلاء في طريق الجنة

وجود الأذى والمشقة والابتلاء في طريق الجنة في طريق الجنة زلزلة، وبأساء، وضراء، وأمور مخيفة، وإزعاج، وأذىً للمؤمنين، وتقييد لحرية الدعاة وغير ذلك، إلى أن يصل الأمر إلى شيء من اليأس في نفوس بعض المؤمنين، وشيء من الاستبطاء في نفوس الصادقين من المؤمنين والأنبياء فيقولوا: (متى نصر الله)؟ وفي مثل هذه اللحظات يأتي نصر الله، ولكن بشرط أن لا يرجع المسلمون من منتصف الطريق، وهذا هو أخوف ما نخاف على المسلمين، لا سيما الذين ولدوا في حياة آمنة مطمئنة، ولا يعرفون في طريق الجنة هذه العقبات، ثم يفاجئون بهذه العقبات، ثم يصابون بشيء من الفتن، ثم يرجع بعضهم من منتصف الطريق، ويقول: أنا هربت من العذاب، فكيف أقع في العذاب؟ وهذه فكرة ناس من ضعاف الإيمان، ولذلك يقولون هذا. ولذلك الله تعالى ذكر عن هؤلاء القوم أن منهم من يقول: (آمنا بالله) بلسانه، ثم يبتليه الله عز وجل بشيء من هذه العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله عز وجل والجنة والدار الآخرة، ثم لا يتحمل؛ لأن إيمانه ضعيف، ثم بعد ذلك يرجع من منتصف الطريق، وهؤلاء هم الذين يقول الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] يعني: أصابته فتنة من فتن الحياة الدنيا {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) أي: كأن يقول: أنا هربت من عذاب ووقعت في عذاب محقق أمامي أرآه بعيني وأعيشه ويؤذيني، فهل أتحمله من أجل خوف وهروب من عذاب منتظر ما رأيته حتى الآن؟ يقول بنفسه كذا؛ لأن الإيمان ضعيف، فيرجع وينكص على عقبيه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) أي: في دين الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ). لكن إذا جاء النصر وجاء المال وجاءت النعمة والخيرات مع هذا الدين يأخذ هذا الدين؛ لأنه ليس فيه مشقة، فإذا ما أصابه الفضل من الله عز وجل أخذ بهذا الدين، ولذا قال: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} [العنكبوت:10] يعني: أصبح المسلمون في عزة {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: في هذه الغنيمة {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فالذي يكابد هذه الشدائد والذي يريد أن يأخذ من هذا الإسلام ما لان عليه أن يعلم أن الله تعالى أعلم بما في صدور العالمين. هذه هي الفتنة التي نسمع أخبارها في القرآن، وهذا هو الابتلاء الذي يقص الله تعالى علينا أخباره، وأن هناك من الناس من لا يتحمل هذه الشدائد لأنه يعبد الله على حرف، أي: على طرف بين الإيمان والكفر، بمعنى أنه لم يتمكن الإيمان من قلبه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، والعياذ بالله! ولذلك لا تعجب في أيام الفتن من أن ترى من الناس من يضطرب إيمانه، ومن يهتز يقينه بالله عز وجل وخشيته من الله عز وجل، فيرجع دون أن يكمل المشوار إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة؛ لأنه كان يعبد الله على حرف، وعلى طرف بين الجاهلية والإسلام، فهذا لا يمكن أن يثبت على دينه إلا حينما يكون هناك خير وتكون سعادة ويكون رخاء وتكون غنائم ويكون المسلمون في راحة، وهذا هو الذي يتطلبه كثير من المسلمين في أيامنا الحاضرة، يريدون إسلاماً ليست فيه فتنة، وليس فيه ابتلاء، وليست فيه محن، فأحدهم يصوم ويصلي ويؤدي الزكاة إن كان عنده مال إلى آخر ذلك، لكن الجهاد ثقيل على النفوس، سواء أكان جهاداً بالحجة التي ربما تضع بعض العراقيل في طريق المسلم في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، أم بالمال الذي هو غالٍ عليه ونفيس، أم بالنفس التي يراق فيه الدم وتسلب فيه الروح.

طريق الجنة محفوف بالمكاره

طريق الجنة محفوف بالمكاره ومن هنا نعرف أن الدين الإسلامي ليس ديناً ليس فيه عقبات، ونعرف أن الجنة التي هي سلعة الله عز وجل غالية، وأنها لا تدرك إلا بمشقة طويلة وتعب وعناء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، إلا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة). ولذلك الله تعالى أثبت لنا في القرآن بيعة، هذه البيعة توافرت فيها كل أركان البيع الأربعة المعروفة عند الفقهاء، وهي: بائع، ومشتر، وثمن، وسلعة، ولكن الثمن لما كان كبيراً كانت السلعة غالية على هذا الإنسان، فالثمن هو الجنة، والسلعة هي النفس والمال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] يقدمون النفس والمال من أجل الله عز وجل وأجل دينه {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] هذا هو الثمن {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]. إذاً البائع هو المسلم المؤمن، والمشتري هو الله عز وجل، ومن العجيب أن الله يشتري هذه السلعة وهي ملك له سبحانه وتعالى، فالنفس والمال ملك لله عز وجل، لكن من أجل أن يرفع من قيمة هذا الإنسان. ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ومن معه من المسلمين: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة. فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل). فخرج المسلمون عن بكرة أبيهم للجهاد في سبيل الله، حتى لامهم الله عز وجل وقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. إذاً طريق الجنة طريق مفروش بالتعب والمشقة لا بالورود والرياحين، وطريق النار هو الذي حف بالشهوات، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لما خلق الجنة قال لجبرائيل عليه الصلاة والسلام: (اذهب إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها) فذهب جبريل فرأى هذا النعيم المقيم الخالد، والأنهار الجارية، والأشجار الباسقة، والذي لا يخطر على قلب بشر من الناس، فرجع إلى الله عز وجل، وقال: (وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها)، فأمر الله عز وجل بالجنة فحفت بالمكاره: جهاد في سبيل الله، وصلاة الفجر في وقت النوم والراحة واللذة، وترك ما حرم الله من الشهوات، والنفوس تميل بطبيعتها إلى ما حرم الله وإلى هذه الشهوات وغير ذلك من الأمور، فلما رآها جبريل جاء إلى الله عز وجل وقال: (وعزتك وجلالك خشيت أن لا يدخلها أحد)، فخلق الله تعالى النار، ولما خلق النار قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: (اذهب وانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها)، فلما جاءها جبرائيل عليه الصلاة والسلام وجدها يأكل بعضها بعضاً، فرجع وقال: (وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها)، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات، أي: الشهوات المحرمة التي تجذب هذا الإنسان جذاباً مغناطيسياً إليها، والتي تميل إليها نفوس ضعيفة بفطرتها وبشهوتها، فلما رآها جبريل قال: (وعزتك وجلالك! خشيت أن لا ينجو منها أحد) أي: لما في طريقها من الشهوات. ومن هنا نقول: لا تعجب حينما ترى هذه العقبات في طريق الجنة، فإن الجنة لا يدخلها إلا من يستحق الجنة، والذي يقتحم هذه العقبات -وهي صعبة شديدة على النفوس- هو الذي يستحق هذه الجنة.

أجر من يثبت أيام الفتن في آخر الزمن

أجر من يثبت أيام الفتن في آخر الزمن في أي عصر وفي أي فترة لابد من أن تكون هناك عقبات في طريق الجنة، لكننا في أيامنا الحاضرة -وربما نكون في العصر الأخير وفي الفترة الأخيرة من فترات الحياة الدنيا- نرى عقبات عظمت في طريق الجنة، وليس ذلك غريباً؛ لأن المسلم في هذا العصر الذي يتمسك بدينه ويقتحم هذه العقبات له أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتصور -يا أخي- واحداً له أجر خمسين من مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الصحابة الذين قدموا أنفسهم وأموالهم وكل ما يملكون في سبيل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (للعامل منهم أجر خمسين)، وهم الذين يأتون في آخر الزمان لا يجدون على الحق أعواناً، وربما تقف الدنيا كلها في وجوه هؤلاء، وربما يكذبهم أقرب الناس منهم، وربما تتحرك العواطف والمشاعر في نفوس أهلهم ثم يتغلبون على هذه العواطف، فلهم أجر خمسين، قالوا: (يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: أجر خمسين منكم). فلابد من أن يكون في طريق هذا الأجر -كأجر خمسين من أصحاب رسول الله- عقبات وأمور خطيرة، ولا يستطيع أن يقتحم هذه العقبات إلا المؤمن الصادق، قال عز وجل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:11 - 14] وهذا من العقبة أيضاً.

عقبات في طريق المسلم

عقبات في طريق المسلم

وجود المنافقين

وجود المنافقين نعود إلى حديثنا ونقول: في طريق الجنة عقبات، وفي طريق الجنة وحوش، وفي طريق الجنة سجون، وفي طريق الجنة إراقة دماء، وفي طريق الجنة أذىً، وفي طريق الجنة مصائب ومشاكل، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يريد أن يحرم هؤلاء الجنة، ولكن كما قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]. ولكن هذه العقبات بمقدار ما تزيد في فترة من فترات التاريخ يقتحمها المسلمون ويزيد إيمانهم ويقينهم بالله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول لنا في القرآن: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] أي: الأحزاب التي تجمعت من جميع بلاد الكفر لتحيط بالمدينة. وهي كالأحزاب الموجودة عندنا الآن، فكان هناك أحزاب من الداخل في المدينة، وكان المشركون والوثنيون ونصارى العرب يطوقون المدينة من الخارج، وكان المنافقون واليهود يهزون الأمور من الداخل، كما يوجد في أيامنا الحاضرة سواء بسواء، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، وما قالوا: سوف ننسحب من المعركة، فأعداء بالداخل وأعداء بالخارج كيف نستطيع لهم جميعاً؟ وهل سنتغلب على عدو يأتينا من الخارج وعدو من الداخل لا ندري أيهما نقدم وأيهما نحارب؟ بل الذي حصل أن المؤمنين لما رأوا هذه الواقعة قالوا: هذا ما كنا ننتظره، كنا ننتظر هذا اليوم، وجاء هذا اليوم، ولذلك فلا خيار لنا في هذا اليوم، قال عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، ما الذي حدث؟ {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] أي: إيماناً بوعد الله عز وجل، وتسليماً لقضاء الله عز وجل وقدره. ثم بعد ذلك انقسموا إلى قسمين: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] يعني: منهم من قتل في هذه المعركة ومنهم من ينتظر دوره في الشهادة في سبيل الله؛ لأن تواجد الأحزاب في الداخل والخارج -كما يوجد في أيامنا الحاضرة- هو الذي حرك همة المؤمنين إلى أن يقولوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] ثم أيضاً هو الذي حرك المؤمنين لأن يستميتوا في الجهاد في سبيل الله. واليوم يعيد التاريخ نفسه، ويأتي يوم يشبه يوم الأحزاب إن لم يكن أشد، فهناك عدو من الخارج يطوق الجزيرة العربية، وهناك أعداء من الداخل يريدون أن يهزوا المسلمين داخل الجزيرة العربية ويستغلوا الفرص، وهذا هو منهجهم وديدنهم، فإذا رأوا العدو الخارجي تحرك فإنهم يتحركون، كما كان يتحرك المنافقون واليهود داخل المدينة يوم غزوة الأحزاب من أجل أن يهزوا المسلمين، حتى يتغلب العدو الخارجي، وهذا هو منهجهم. ولذلك لا تعجب حينما ترى البلاد التي يطوقها العدو من الخارج يتحرك فيها الجرذان والمفسدون في الأرض من الداخل؛ لأن الله تعالى يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19]، فالذين في الداخل أولياء الذين في الخارج، والكفر ملة واحدة، والردة عن الإسلام منهج واحد، وليس هناك طريق للجنة إلا طريق واحدة، ومن بحث عن طريق أخرى فإنه لن يجد ذلك، كما قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. إذاً هناك عقبات، وهذه العقبات تزيد في مثل أيامنا الحاضرة وربما نتعرض لذكر شيء منها حسب ما يتسع له المقام، ونسأل الله التوفيق.

غفلة دعاة الإصلاح

غفلة دعاة الإصلاح من العقبات التي تعترض سبيل المؤمنين غفلة دعاة الإصلاح، وحينما نقول: (غفلة)، لا نجرد جميع المسلمين؛ فهناك خير والحمد لله، لكن هناك من تأخر، إما أنه انشغل بمتاع الحياة الدنيا، أو لأنه خاف، أو لسبب من الأسباب، ودائماً لا تتحرك الجرذان إلا حينما يهدأ الجو، فالفئران التي تقرض في المتاع وتفسد في البيوت إذا كان هذا البيت خالياً تتحرك هذه الفئران وتقرض وتفسد في أسلاك الكهرباء وفي الأمتعة حتى تحطم هذا البيت إن استطاعت، ولكن حينما تكون هناك حركة من الداخل وأصوات تزعج هذه الفئران تعود هذه الفئران إلى أوكارها، والخفاش الذي يخرج إلا في الظلام إذا طلع عليه الفجر يختفي في وكره، ولذلك نقول: إن دعاة الحق صار يختفي كثير منهم في أيامنا الحاضرة، حتى أصبح الحمل ثقيلاً على طائفة من الناس، فنطالب هؤلاء بأن يشتغلوا بالدعوة إلى الله عز وجل وأن يبينوا لهؤلاء الناس الطريق المثلى التي تهديهم إلى الله عز وجل وأن يكشفوا المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام.

تحرك دعاة الباطل

تحرك دعاة الباطل وهناك أمر آخر، وهو بطبيعته ردة فعل للسابق، فإذا سكت دعاة الحق تحرك دعاة الباطل، وربما يستحوذون على كل وسائل الأعلام في بلد ما ينام فيها العقلاء والمصلحون، فيتحدثون ملء أفواههم، ويملئون الدنيا صراخاً وعويلاً، ويملئون الساحة ويشغلون ما يسمى بالفراغ بدعوة باطلة يقصدون من ورائها إضعاف الحق وإرهاق المؤمنين، أو الفصل بين دولة إسلامية وبين المؤمنين فيها، أو بين دولة إسلامية وبين العلماء والمصلحين فيها، وهذا معروف في تاريخ البشرية من أوله إلى آخره، فحينا يتخلى العلماء والمصلحون عن الدولة لابد من أن تنهار، وهذه سنة الله تعالى في هذه الحياة؛ لأن العلماء هم مصابيح الظلام، وإذا كانوا كذلك لا تفسد الشعوب، وربما يخيم الظلام على بلد ما لا يتحرك فيها العلماء، ثم ينشط بعد ذلك دعاة الباطل، ثم يكون الأمر خطيراً. فدعاة الضلال ينشطون على المنابر -وأقصد بالمنابر الوسائل الإعلامية في العالم الإسلامي- حينما نام العلماء ولم يستيقظ منهم إلا العدد القليل، حتى أصبح الحمل ثقيلاً والعبء شاقاً على هذا العدد القليل، فصار أولئك يستضعفونهم ويسبونهم من منطلق القوة أو من منطلق القيادة أو من منطلق المسئولية. وهذا الذي يحدث خطير جداً، لكن أخطر من هذا أن يكون هؤلاء الدعاة يشغلون من الداخل بفعل كفعل المنافقين يوم طوق الأحزاب المدينة، وأخطر من ذلك كله أن يكونوا من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وأخطر من ذلك كله أن يدبجوا ويزخرفوا أقوالهم بآيات من كتاب الله وأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الخطر الذي يخفي الرؤية الصحيحة حتى لا يكاد كثير من المسلمين أن يتبين الحق من الباطل ولذلك نقول: إن تواجد هؤلاء -وهم من أبناء جلدتنا لا شك- بطريقة كأنهم فيها مخلصون للدولة وللأمة وللدين، ولربما يستشهدون بآيات من كتاب الله ذلك هو الخطر، ويصبح الأمر ملتبساً والواقع مختلطاً حابله بنابله، ولا يتميز ذلك إلا حينما يتميز الحق من الباطل. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من مثل هذه الفترة، وأخبر أنها آخر فترة من فترات تاريخ البشرية، وأنه إذا وجد هذا النوع من البشر الذين هم من أبناء المسلمين ويحسبون على الإسلام ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي فذلك يعتبر بداية النهاية، وهذا أشد أنواع الخطر في حياة أي أمة من الأمم، كما في حديث حذيفة المعروف، ففي آخره قال حذيفة: (فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). فهذه مصيبة أنهم من أبناء جلدتنا، ففي الجاهلية كان أبو لهب وأبو جهل والأسماء المكشوفة هم الذين يحاربون الإسلام، وكان الخطر أقل منه اليوم، لكن اليوم أصبح أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وعز الدين وما أشبه ذلك هم الذين يحاربون الإسلام في أيامنا الحاضرة، وفي بلاد الإسلام، ويدبجون أقوالهم بكلمات رنانة إسلامية، كما قال الله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112] من أجل أن يغروا الناس. ومن هنا يبرز الخطر، وهذه نعتبرها من أكبر العقبات، أن يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولهم منابر مهمة جداً، وربما يكون لهم قيم وأوزان عند الناس، وربما تكون لهم سوابق خدمة قد أدهشت كثيراً من الناس وشعاعها ما زال يبهر عيون كثير من الناس، فلا يظنون بهم إلا خيراً. إذاً المصيبة تأتي من هذه الناحية، ولذلك نقول: إن دعاة الباطل ونشاط دعاة الباطل وتواجدهم في بلاد المسلمين وكونهم من أبناء المسلمين يعتبر من أعظم أنواع الأخطار، فلننتبه لهذا الخطر، ولنعلم أن هؤلاء الدعاة لا يتحركون إلا حينما يسكت دعاة الحق، وأن دعاة الحق بمقدار ما يسكتون عن هذا الحق يتحرك دعاة الباطل، وبهذا يتحملون هذه المسئولية أمام الله عز وجل حينما يقف الجميع بين يدي الله سبحانه وتعالى.

ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هذه العقبات ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد من بلاد المسلمين فسدت فيها البيئة وتلوثت، وأصبح يشق على واحد من الناس أن يربي ولده في بيئة تعطل أو ضعف أو أُلغي فيها -كما يوجد في بعض بلاد المسلمين- جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتتلوث هذه البيئة، وأي إنسان يحاول أن يربي أولاده في مثل هذه البيئة أو يربي من يربيهم من أبناء المسلمين في مثل هذه البيئة يصعب عليه؛ لأن البيئة أصبحت ملوثة، وفيها كثير من المعاصي والآثام، ولذلك نقول: إن هذا يعتبر من العقبات التي تعترض سبيل المسلم بصفة عامة وسبيل الداعية والمصلح بصفة خاصة؛ لأنه تفسد هذه البيئة التي تعطل فيها جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر مما يصلح هذا المصلح. ولذلك الله عز وجل بين في القرآن أن خيرية هذه الأمة تبقى بمقدار ما يبقى لها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ليس لأنهم أبناء سام بن نوح، كما يعتز الجاهليون بأنهم من أبناء سام بن نوح، ولا لأنهم يعيشون في بلاد العرب أو بلاد القبلة أو بلاد الحرمين، ولا لأنهم من أمجاد وآباء لهم أنساب ضاربة في أعماق التاريخ، فهذه كلها لا وزن لها عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولكن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. ومن هنا نقول تكون الخيرية إذا قام جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد ما، ولذلك الله تعالى قال: (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). حتى لا يظن المسلم أنه أخرج لنفسه ليخلص نفسه من النار، وإنما أخرج لغيره -أيضاً- حتى يخلص الناس من نار الله عز وجل، وهذه الخيرية تكون في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك الذين يريدون أن يعود الظلام إلى الأرض تجدهم يضعون العراقيل الكثيرة في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا عضو يُضرب، وهذا محل من محلات هيئة الأمر بالمعروف يُكسر، وهذا رجل يُتهم إلى آخره، حتى يلصقوا هذه التهم بهؤلاء فيزهد الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تتلوث هذه البيئة، وإذا تلوثت البيئة بعد ذلك يبيضون ويفرخون في المجتمع الإسلامي، فلا بارك الله فيهم. فلابد من أن نقيم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن خير أمة أخرجت للناس إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وإلا فسوف نكون شر أمة أخرجت للناس؛ لأن الرسالة التي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، ومعنى ذلك أن الخير يتعطل في الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة حينما يتوانى أهل هذا الجيل وأهل هذا العصر عن حمل هذه الرسالة إلى من بعدهم، قال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تظن أن معناه الدعوة فقط، فهناك فرق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالدعوة كلمة لينة، كأن نقول للإنسان: اتق الله. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوة تملكها الدولة، وتُملِّكها لمن يكون كفئاً لذلك. فالمهم أنه لابد من أن يقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواءٌ أكان من قبل الدولة أم من قبل المسلمين، ولذلك الله تعالى لما ذكر الموعظة والكتب السماوية والعدل في الأرض ذكر الحديد بعد ذلك مباشرة فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فذكر الحديد بجوار الكتب السماوية؛ لأن الحق بطبيعته قد يضيع بين الناس، ولأنه ليس كل الناس يتعظون بالموعظة. إذاً لابد من أن تكون للمسلمين قوة، وهذه القوة تحمي جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن العقبات التي تعترض سبيل الداعية اليوم وسبيل المسلم تلوث البيئة، وفساد المجتمع، وانتشار المعاصي بسبب تعطيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فساد الإعلام العربي

فساد الإعلام العربي ومن هذه العقبات فساد الإعلام في بلاد المسلمين، والله المستعان! فماذا نقول عن الإعلام الذي بخدمته التقنية الحديثة ما ترك بيت شعر ولا مدر إلا ووصل إليه بصحفه ومجلاته وتلفازه وإذاعته وأشرطته إلى غير ذلك؟ فإذا كان يوجه ضد هذا الدين فإن الداعية والمصلح يقف في حيرة، وإن كان مطالباً أن لا يقف، وقد يقف مندهشاً ماذا يفعل، ويقول كلمة وتأتي هذه الوسائل بكلمات كثيرة، ويقول حقاً فيقع كلامه موقعه في نفوس كثير من الناس، فإذا بهذا الإعلام كالمساحات يتابعه، فلا يستقر خير في قلوب الناس وفي عقول الناس إلا وتأتي هذه المساحات تمسحه بسرعة؛ لأن الهبوط أسرع من الصعود بطبيعته، ولأن الإفساد أسرع من الإصلاح. فالإعلام لا نستطيع أن نقول عنه أكثر مما قاله كثير من إخواننا، فمن كان يتصور أن بيوت المسلمين بهذه السرعة الهائلة التي لا تتجاوز عشرين سنة تتحول من أعلى القمة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ لقد كنا إذا وقفنا عند بيوت الصالحين والعلماء وأهل الخير لا نسمع إلا دوياً كدوي النحل في كتاب الله عز وجل، ولا تسمع في جوف الليل إلا نحيباً في صدور الصالحين الخاشعين بين يدي الله، لكن قف الآن عند أبواب كثير من الناس حتى العلماء وحتى الصالحين -إلا من شاء الله- فلن تسمع إلا اللهو والموسيقى والمسرحيات والمصائب والبلاء الذي ما ترك أمراً، بل إنه يقع بين السماء والأرض، ونعجب كثيراً حينما نركب طائرة ما ثم نرى الأفلام التي تزعج المسلم، ونقول: سبحان الله! المشركون الأولون الذين كانوا يعبدون الأصنام يخافون الله أكثر من هؤلاء الناس، فأولئك كانوا إذا ركبوا في الفلك وهم على سطح الماء دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء في الهواء على متن الطائرة وعلى بعد عشرات آلاف الأمتار من الأرض وتنشر فيهم الأفلام والمحرمات. إنه أمر عجيب يحار فيه المسلم، ولكن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم! إنا نشهدك أن هذا منكر فلا تؤاخذنا بهؤلاء، ونخاف -والله! - أن تتحطم الطائرات بين السماء والأرض لولا أن الله عز وجل يمسكها برحمته وكرمه، قال عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45]. فالإعلام لابد من أن يصلح من قبل الدولة، وإذا لم يصلح من قبل دولة إسلامية فلابد من أن تصلحه الشعوب، وأقصد بإصلاح الشعوب أن تبذل الجهد في سبيل مناصحة هؤلاء المسئولين، وإذا عجزوا فعليهم أن يحيطوا بيوتهم بسياج منيعة حتى لا تصل إليها هذه الأفلام، فإنهم يشوهون تاريخ الإسلام في كثير من الأحيان. فمثلاً: يأتون برجل صالح من سلفنا الصالح وبجواره زوجته سافرة، وكأنه يقول لك: هذا هو الإسلام. فهذه المرأة سافرة أمام هذا الرجل الصالح من سلفنا، وهذا هو الاختلاط. إنها مصيبة وبلاء، فلابد من أن نصحح هذا المفهوم، وأنا أخشى أن تنشأ ناشئة في البيوت تظن أن هذا هو الإسلام وأن هذه هي حياة سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين سبقونا بالإيمان.

عدم الإنفاق في سبيل الله

عدم الإنفاق في سبيل الله وهناك أمر آخر أيضاً يعتبر من أكبر العقبات، وهو بخل كثير من الناس بأموالهم وجهدهم، فتعطل الجهاد في سبيل الله والدعوة، وخزنت أموال كثير من الناس كأرقام لا يستفيد منها إلا الكافرون في البنوك الدولية التي وضعت في كل بلد من بلاد المسلمين لها فرعاً لتمتص هذه الأرباح، وأصبح العدو هو الذي يستفيد، ولربما يقتلون المسلمين بأموال المسلمين، كما يفعل الهندوس الآن في الهند، وكما يفعل في الفلبين في مناطق كثيرة، لربما يكون هذا بأموال المسلمين. لكن المصيبة الكبرى أن الإسلام أصبح لا يستفيد إلا نادراً من هذه الأموال، بينما نجد أنه في يوم واحد دعت الكنسية إلى البذل، فجمع في يوم واحد مليار دولار، وقد يتساءل شخص: لماذا خصصوا ملياراً؟ ولماذا ما قالوا: نريد أكثر من مليار أو نريد أقل منه؟ A لأن عدد المسلمين مليار، فقالوا: نريد كل دولار ينصر ويكفر واحداً من المسلمين. فهذا هدفهم، وجُمع مليار دولار في يوم واحد. ولنعلم أن كثيراً من المسلمين يرتدون عن الإسلام بسبب الفقر والمجاعة، فإذا كان الواحد منهم سيموت جوعاً ويأتيه رجل كافر يريد أن يقدم له الغذاء ويقدم له اللباس فإنه سيستجيب له، وقد يأخذه طفلاً فيربيه، وإن كانت الفطرة التي فطر الله الناس عليها موجودة في الأصل، لكن لربما يؤثرون أو يشوشون على هذه الفطرة. وهناك مراكز إسلامية تفتقر إلى أموال المسلمين، وهناك من يصلي في العراء لا يجد مسجداً، وهناك من المسلمين من لا يجد لقمة العيش، فبخل المسلمين بالمال ثم بخلهم بعد ذلك بالجهد كان عقبة في طريق هذا الدين، وفي طريق المسلم وسيره إلى ربه سبحانه وتعالى. ولذلك حينما نذهب إلى مناطق يضعف فيها المسلمون ويحتاجون إلى توجيه وتربية لا نجد إلا أبناء النصارى هم الذين يتكاثرون في تلك البلاد وفي تلك المواقع، ووالله لقد رأيت شابات وشباناً في سن العشرين أو ما يقرب من ذلك في مجاهل أفريقيا في مناطق يصعب على واحد من المسلمين أن يصل إليها، رأيتهم يربون أبناء المسلمين الفقراء، فقلت: كيف جاء هؤلاء من تلك البلاد المترفة المنعمة الباردة الجميلة الخضراء إلى هذه الصحاري وإلى هذه الغابات الموحشة؟! ثم قلت أيضاً: أين المسلمون؟! لماذا لا يربون هؤلاء الأبناء حتى لا ينشأ هؤلاء نشأة كافرة؟! فالمهم أنها بلية، وهذه تعتبر أيضاً عقبة من العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في سيره إلى ربه سبحانه وتعالى، ولو أن علماء المسلمين وطلبة العلم ساحوا في أرض الله عز وجل ينشرون هذا الدين الذي سوف يسألهم الله عز وجل قبل أن يسأل المرسلين عنه كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، لو أنهم ساحوا في هذه الأرض ينشرون دين الله عز وجل لما كان هذا التكفير والتنصير الذي أصبح يقض على العقلاء مضاجعهم، ثم يخاف على هذه الأمة أن تترك دينها لولا أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين. ثم هذه الأموال لماذا لا تصل إلى أولئك المسلمين إلا نادراً؟! أليس المال مال الله؟ والله تعالى يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فهذا أمر لابد أن ينتبه له المسلمون، ولابد أن تصل كثير من أموال المسلمين إلى هناك لترد الحق إلى نصابه.

الإزدواجية التي يعيشها الناس اليوم

الإزدواجية التي يعيشها الناس اليوم وهناك أيضاً أمر من الأمور التي أصبحت تشوش على المسلم وتعيقه في طريقه إلى الله عز وجل، وهو الازدواجية التي يعيشها الناس اليوم، فهناك ازدواجية لا ندري أهي كفر أم إسلام أم ضعف في الدين، إنها ازدواجية أصبحنا نسميها علمانية في حياة طائفة من البشر، ولكن في الحقيقة أسميها جاهلية. وفي حياة بعض المسلمين الصالحين الذين لم يفهموا هذا الإسلام فهماً كاملاً أصبحنا أيضاً نشاهد في حياتهم هذه الازدواجية، بل أصبحنا نشاهد هذه الازدواجية في وسائل الأعلام التي تنشر داخل البيوت، حيث يأتي القرآن، ثم تأتي بعده أغنية، ويأتي بعده موسيقى، ويأتي بعده حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحصل اختلاط بين الخير والشر، وهذه الازدواجية تقع كثيراً، سواءٌ أكانت في الإعلام أم في حياة الناس الذين ربما نراهم مصلين ثم نراهم بعد ذلك يطعنون في الإسلام من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وهذه الازدواجية أيضاً لها آثار سيئة في نفوس الناشئة، فلربما تنشأ ناشئة من هذا الجيل لا تعرف الفرق بين الحلال والحرام، وبين النافع والضار، وبين الإسلام والجاهلية.

الخوف من الموت

الخوف من الموت ومن هذه الأمور التي هي عقبة في طريق المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى الخوف من الموت، وهذا الخوف هو فطرة بشرية، لكن هذه الفطرة البشرية عدلت في الكتب السماوية، فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]، فكلمة (تفرون) دليل على أن هناك فراراً من الموت، وهو فطرة بشرية، لكن لا ننسى أن هذه الفطرة البشرية عدلت في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الله عز وجل إذا خلق الإنسان في بطن أمه يرسل إليه الملك بعد مائة وعشرين يوماً، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. إذاً معنى ذلك أنه أجل محدد من عند الله عز وجل، فهل يتغلب الخوف من الموت على العمل من أجل دين الله عز وجل، هذا هو الذي يوجد في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، ففلان من الناس يخاف أن يتقدم أجله قبل أن يأتي الموعد؛ لأن يقينه بالله عز وجل قد ضعف، ولأن إيمانه بقول الله عز وجل: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] فيه شيء من اللين والضعف، فإذا به يهرب من الموت كما يزعم، ولو أدى ذلك إلى أن يترك الساحة التي يجب أن يعمل فيها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون. وهذا الخوف من الموت هو الذي أدى بكثير من الناس إلى أن يرجع من منتصف الطريق، فلماذا الخوف من الموت؟ لأن اليقين بالله عز وجل ضعيف، ولذلك فإن الخوف من الموت هو الذي علم الناس الجبن، وهو الذي عطل جانب الجهاد في سبيل الله، وهو الذي أخرس ألسنة كثير من الناس أن يقولوا كلمة الحق، فلا يقولوا للظالم: أنت ظالم فاتق الله. وهو الذي جعل كثيراً من الناس يضعف يقينه بربه سبحانه وتعالى، فيحابي في دين الله، ونسي أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه رجل جاء إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، فهذا أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه. إذاً لا تترك كلمة الحق خوفاً من الموت، فإن الإنسان الذي يخاف من الموت هل لا يصدق وعد الله عز وجل حينما قال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، وقال: {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]؟ فلابد من أن يعرف الإنسان أن له أجلاً عند الله عز وجل، وأن هؤلاء الناس الذين يخاف من سطوتهم حينما يقول كلمة الحق لا يملكون لأنفسهم -فضلاً أن يملكوا لغيرهم- نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأن كل شيء بيد الله عز وجل، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف , وأن الناس لو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوا أحداً بشيء لم يكتبه الله له لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف. هذه هي عقيدة المسلم التي يجب أن يولد عليها ويعيش عليها ويحيا ويشب ويشيب ويلقى الله عز وجل وهو يعتقد هذه العقيدة، ولكنه لو غير في نفسه هذه العقيدة فإنه سوف يصبح جباناً أمام أعداء الله عز وجل، ولذلك نقول: هذه العقبة تعتبر من أكبر العقبات.

حب الرئاسة والمركز

حب الرئاسة والمركز وهناك عقبة أخرى تشاركها، وهي حب الرئاسة والمركز، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، فكما أنه يحب المال هو أيضاً يحب الشرف بطبيعته وفطرته البشرية، ولذلك نقول: إذا كان حبه لهذا المركز يجعله يتنازل عن أساس من أسس دينه فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة. ونقول عن هذا المسلم: له أن يبحث عن المركز في هذه الحياة، لكن ليس له أن يقدم هذا المركز على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد يفتن هذا الإنسان في يوم من الأيام، فإما هذا المركز وتنازل عن كذا وكذا وإما أن تحفظ دينك، فلربما تضعف نفسه فيختار المادة والمركز وحب الشرف والمنصب.

الشهوة والجنس

الشهوة والجنس وهناك أمر آخر أيضاً، وهو الشهوة والجنس، فربما تتعرض لهذا الإنسان لتصرفه عن دينه وتفسد عليه دينه، فإما أن يكون ذلك الرجل قوياً متين الإيمان فيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي. وإما أن يضعف أمام هذه الشهوة. وأمام هذه الشهوات الثلاث تحضرني قصة لرجل عظيم الشخصية، هذا الرجل عرضت عليه هذه الشهوات الثلاث في وقت هو أحوج ما يكون إليها، لكنه رفضها خشية من الله عز وجل وبحثاً عن سعادة أفضل وحياة أطول وأبقى. يروي لنا المؤرخون عن إحدى الغزوات في بلاد الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدداً من المسلمين وقع في أسر الرومان، وكان من بينهم الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فوقع في الأسر، ووصلت الأخبار إلى قيصر الروم أن في سجن الرومان رجلاً شهماً عجيباً في خلقه ورجولته وشجاعته وحميته. ففكر قيصر الروم في أن يسلب منه دينه بثمن بخس، فقال: علي به. فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، ووقف أمام ملك الروم وهو مكبل بالأغلال، والفرق بعيد بين واقعه وبين ما يعرض عليه، فقال له قيصر الروم: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي. فانظروا إلى هذه الفتنة. إنها فتنة المركز، فيصير ثاني اثنين في ملك بلاد الروم، فتنة يسيل لها لعاب أكثر الناس بطبيعتهم وفطرتهم البشرية، ولا يحمي النفس من هذا الموقف إلا الإيمان، فقال: والله لو كانت الدنيا لي بأسرها ما تركت شيئاً من ديني. فهذه فتنة وعقبة اجتازها عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وما كان أحد يظن -إلا المؤمنون- أن عبد الله بن حذافة سوف يرفض ملك بلاد الروم وهو رجل مكبل بالأغلال مسكين جيء به من بعد سجن طويل ليتحول دفعة واحدة إلى أن يكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه، لكن الإيمان أقوى من ذلك، فانتظار الجنة والسعادة الآخرة فوق هذا المستوى كله. فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في عقوبته. فأعيد رضي الله عنه إلى السجن، وزادوا في عقوبته. ثم فكر أخرى فوصل إلى محاولة إسقاطه عن طريق الجنس، الذي يعرض على الناس اليوم بشكل مرعب ومخيف، وحينما يعرض الجنس لا يراد به فقط مجرد زنا -نعوذ بالله- أو مجرد انحراف خلقي، بل المقصود انحراف العقيدة؛ لأن الإنسان إذا سقط فيما حرم الله اضطربت عقيدته، وبعد عن الله عز وجل؛ ولذلك فإن من مخططات الكفار أن يَدَّعوا حقوق المرأة وحرية المرأة، وهم يهدفون من وراء ذلك أن يسقط الناس فيما حرم الله من الزنا، ثم يسقطون من عين الله، ثم تنهار دولتهم وينهار ملكهم وينهار سلطانهم في هذه الأرض. فقال قيصر الروم: ائتوا لي بأجمل فتاة في بلادي. فاختاروا أجمل فتاة، وقالوا: هذه أجمل فتاة في بلادك. فقام وأغراها قاتله الله، وقال لها: إذا فتنت هذا الشاب فسوف أعطيك ما تريدين. وهذه كلها مؤامرات ضد رجل مسلم، لكنه مسلم عظيم الإسلام، فجيء بهذه الفتاة أمام هذا الشاب الذي قضى أشهراً طويلة بعيداً عن أهله، وكانوا يظنون أنه في الحال سوف يقع في الفاحشة، ثم بعد ذلك تسهل قيادته إلى ملك الروم، فتعرت هذه الفتاة ودخلت على عبد الله بن حذافة وهو منكب يقرأ القرآن، فلما رآها عرف أنها فتنة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي الفتنة. ولكن قال: معاذ الله! إنه مؤمن يريد سعادة في غير هذا المتاع، فهو يعرف أن هذا متاع ينتهي به إلى عذاب الله عز وجل، فأكب بوجهه على رجليه، وانصرف عنها إلى جهة أخرى، فصارت تتابعه، وكلما اتجه إلى جهة اتجهت معه إلى نفس الجهة، ثم ينصرف عنها هنا وهناك، حتى أيست منه، ورأت أن هذا الرجل ليس من النوع الذي من السهل فتنته، فقالت: أخرجوني. فلما أخرجوها قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟ والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر. وبهذا فشلت المؤامرة الثانية. إنه مسلم صعب المنال، لا يمكن تطويعه بسهولة أبداً؛ لأنه مسلم جاء من بلده يبحث عن الجنة، ويبحث عن الشهادة في سبيل الله، رجل باع حياة الدنيا بحياة الآخرة، ولا يمكن أن يتغلب عليه شيء ولو كان أقوى من قوة الحديد والنار، ثم فكر قيصر في حيلة أخرى فهدده بالموت، فقال: ائتوني بقدر يقول المؤرخون: فجيء بقدر عظيمة وملئت زيتاً، وأشعلت تحتها النار ساعات من الزمن حتى صار الزيت يغلي، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله بن حذافة. فجيء بـ عبد الله وبرجلين من المسلمين رضي الله عنهم وعن المسلمين السابقين جميعاً، وأمر قيصر الروم بالأسيرين فألقيا في الزيت فخرجا عظاماً، وكان قيصر الروم يراقب عبد الله، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، فظن المجرم أن عبد الله بن حذافة سوف يرجع عن طريقه، فقال: يا عبد الله! خفت الموت؟ فقال: والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وإنما بكيت لأن لي نفساً واحدة تموت في سبيل الله، ولوددت لو أن لي بكل شعرة في جسمي نفساً تدخل هذا القدر وتموت في سبيل الله. فقال: يا عبد الله! أريد منك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك. فقال: بل وأسرى المسلمين جميعاً. فقال: نعم. وانطلق عبد الله إلى المدينة بمن معه من المسلمين، فلما قص على عمر رضي الله عنه قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله. وبدأ عمر فقبل رأسه. إنه رجل مؤمن تربى على مائدة الإسلام، فأصبح أقوى من قوة الحديد والنار، فماذا يفعل بهذا الرجل وهو الذي يريد الجنة ويريد الشهادة في سبيل الله؟ وماذا يريد هؤلاء؟ إنهم لا يستطيعون التغلب على هؤلاء المؤمنين، فهم أقوى من قوة الحديد والنار، وإذا أردنا دليلاً على ذلك فالسر في أرض أفغانستان، فأفغانستان ابتليت منذ سنين بعدو ملحد مجرم جاء ليفتن الناس عن دينهم، وجاء بكل قوى البشر، وبكل قوى الحديد والنار التي وصلت إليها التقنيات الحديثة، والمبيدات والأشياء التي منعت دولياً استعملت في أفغانستان، ومع ذلك رجع العدو خاسئاً؛ لأن قوة المسلمين أقوى من قوة الحديد والنار مهما كانت قوة الحديد والنار مرعبة ومخيفة.

أهمية تحمل المشاق والعقبات في السير إلى الله عز وجل

أهمية تحمل المشاق والعقبات في السير إلى الله عز وجل هذه العقبات ربما تعترض هي أو غيرها طريق واحد منا، فإما أن يكون هذا المؤمن صلب الإيمان يتصور دائما وأبداً ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل والجنة والنار والحساب والآخرة فتهون هذه الفتن كلها في طريقه. وإما أن يكون ضعيفاً هزيل الإيمان، لا يقف إيمانه على قدميه، فيرجع من منتصف الطريق، فيخسر الدنيا والآخرة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى. فمن ظن أن طريق الجنة طريق سهلة معبدة فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يقرأ القرآن بتفكير وتؤدة، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، ونحو ذلك من الآيات. ويقول خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار في مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وكانت هذه جرعة قوية أعطت المسلمين قوة. ولقد أتي بـ خبيب رضي الله عنه فرفع ليصلب، فقيل له: أتحب أن محمد مكانك وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال. ويؤتى بـ بلال الحبشي رضي الله عنه ويبطح على حجارة مكة الحارة، وتزال ثيابه، وتوضع عليه الحجارة الحارة، ويعرضون عليه الكفر فيقول: أحد أحد. ويؤتى بـ عمار بن ياسر وأمه وأبيه تحت العذاب، ويمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). ونحن الآن ربما ندرك شيئاً من هذه الفتن، وهؤلاء الذين أصبحوا يحاربون المسلمين في دينهم من العلمانيين والمنحرفين هؤلاء هم نوع من الفتنة، فهل سنتحمل هذه الفتنة أو نضعف أمام هؤلاء؟ نسأل الله العافية والسلامة، فنحن لا نتمنى لقاء العدو، ولكن بعد أن رأينا العدو الآن له صولة وجولة فعلينا أن نستعين بالله، وأن نصبر، قال عز وجل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].

الأسئلة

الأسئلة

حكم وجود الكفار في جزيرة العرب، وحكم مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم

حكم وجود الكفار في جزيرة العرب، وحكم مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم Q أقيمت بعض الأعياد التي هي مخالفة لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعياد النصارى واليهود، وقد أحيت القوات الأمريكية والبريطانية أعياد الميلاد في جو يغضب الله تعالى، حيث المسكرات والزنا والحفلات الغنائية، فنرجوا كشف النقاب عن حكم بقاء هؤلاء في البلاد؟ A هذا السؤال محرج، لكن لابد منه، وأرجو الله أن يعيننا على تحمل هذه المسئولية. فأقول: إن جزيرة العرب أرض مقدسة طاهرة، يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) ويقول: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وهذه أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كنا نتصور أن جزيرة العرب يجتمع فيها أكثر من دين، لكن حصلت ظروف قاسية وأمور لا يعلمها إلا الله عز وجل، فكان لها أثر في تواجد ملل، حتى أصبحت جميع ملل العالم تجتمع في جزيرة العرب، حتى البوذيين وحتى اليهود وعباد الصليب، نسأل الله العافية والسلامة. وعلى كل فهؤلاء الكافرون ليس غريباً أن يقيموا أعيادهم؛ لأن هذه ملتهم، ولكن الغريب أن يقيموها في جزيرة العرب، وأغرب من هذا أن يشاركهم بعض المسلمين، كما سمعنا أن في بعض المستشفيات وبعض المراكز التي يختلط فيها المسلمون بغير المسلمين يجتمع بعض المسلمين مع هؤلاء الكافرين في أعيادهم، وهذا هو أخطر شيء في ذوبان الشخصية الإسلامية مع الشخصية الكافرة. ولذلك نقول: ليس غريباً أن يسكر هؤلاء أو يزنوا؛ لأن الكفر فوق ذلك، وليس بعد الكفر ذنب، لكن نقول: لماذا يكون ذلك في بلاد المسلمين؟! وأنا سمعت أن الدولة أصدرت أوامر أنه لا يسمح لهؤلاء أن يقيموها في بلادنا أبداً، لكن نطالب المسئولين بحماية هذه القرارات، فهل هناك من يحمي هذه القرارات، أم أنها حبر على ورق؟ لا ندري. ولكن ربما يوجد في الهيئات من يقوم بمثل هذا الدور، ونسأل الله أن يعينهم، وإن كانت الهيئات قد فقدت كثيراً من تأثيرها في أيامنا الحاضرة. أما بالنسبة لمشاركة المسلمين لهؤلاء الكافرين في أعيادهم فهذا خطر، وأخاف أن يكون ردة عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، ولما فكر الرسول صلى الله عليه وسلم مرة من المرات أن يلين مع الكافرين ليناً بسيطاً من أجل الدعوة ومصلحة الدعوة قال الله تعالى له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، يعني: ضاعفنا لك العذاب في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة لو ملت شيئاً قليلاً. وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يميل قليلاً من أجل مصلحة الدعوة، ولو فعل شيئاً من ذلك يذيقه الله تعالى ضعف الحياة وضعف الممات، فكيف بمصير واحد من المسلمين يريد أن يميل مع هؤلاء الكافرين لا لمصلحة الدعوة، وإنما لمصلحة الشهوة والحرام، ومع ذلك يميل ميلاً عظيماً كما يوجد في أيامنا الحاضرة؟! فأنا أحذر المسلمين من أن يشاركوا هؤلاء الكافرين في أعيادهم أو في مناسباتهم، وقد أفتى كثير من العلماء البارزين في أيامنا الحاضرة بأن مشاركتهم خطر على دين هذا الإنسان. وأنا أحذر كل الناس، وأخص بالذكر الذين يعملون في المستشفيات؛ لأن المستشفيات -مع الأسف- أصبح الآن فيها مئات الكافرات والكافرين من الممرضات والأطباء، فأنا أخاف على هؤلاء أن يذوبوا معهم، وأن يمتزجوا معهم في مثل هذه المناسبات. فأقول لهم: اتقوا الله؛ لأنه يصاب دينكم بخلل، والله تعالى يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، ويقول: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، ويقول: {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14]. إن هذه أمور عظيمة تتعلق بالعقيدة، ولا تدخل في باب المعاصي، فالولاء والبراء من أصول العقيدة التي يؤدي تركها والمخالفة فيها إلى النار، وتؤدي إلى الخلود في النار في بعض الأحيان. إذاً نحن نعتبر موالاة هؤلاء الكافرين ليست من باب المعاصي التي هي تحت مشيئة الله وإرادته، وإنما هي من باب العقيدة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وباب الولاء والبراء يدخل في عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، نسأل الله العافية والسلامة. ونسأل الله أن يعين الدولة ويهديها ويوفقها حتى لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين الإسلام مرفوع الرأس، ولو سافرنا إلى بلادهم ما استطعنا أن نؤدي جزءاً بسيطاً مما يؤدونه، حتى الأذان يمنع في بلاد الكافرين، ونحن الآن في بلاد المسلمين نجدهم يعيشون مرفوعي الرءوس.

وجوب إقامة حدود الله عز وجل في الأرض

وجوب إقامة حدود الله عز وجل في الأرض Q تمضي علينا فترات زمنية طويلة لا يعلن فيها عن إقامة أي حد من حدود الله، فما نحن فيه من فتنة وضيق أليس بسبب المحادة لله ورسوله، نرجو توضيح ذلك؟ A لقد سمعت هذا الكلام أكثر من مرة، ولعله لم تكن هناك مخالفات، لكن لا أظن أن المخالفات تتوقف في أي وقت من الأوقات؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]، فالعدو موجود ومستمر، لكن الشيء الذي نسأل عنه: أين حد الردة؟ ولماذا لم نسمع عنه؟ فمنذ سنين طويلة ما أقيم حد الردة في هذه الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)، فكم من الناس من بدل دينه؟! وكم من الناس من قال كلمات كفرية كبيرة؟! فلماذا لا يقام حكم الردة في الأرض؟ والحدود كلها يجب أن تقام على حد سواء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولحد يقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين خريفاً)، فالذين يهاجمون الإسلام ويطعنون في الدين، ويقول بعضهم: أنا لا أقول: إن تعدد الزوجات سنة، بل أقول: إنه فتنة. ونحو ذلك، فمثل هذا يريد أن يطعن في دين الله عز وجل، وينكر آيات من كتاب الله، فلماذا لا يسمى مرتداً في نظر المسلمين؟ ومن هو المرتد؟ المرتد هو الذي يبدل دينه، ونحن نرى الذين ربما يعترفون على أنفسهم أنهم لا يصلون، وكثيراً ما نفقد كثيراً من المسلمين في المسجد، ولا نراهم يصلون، وربما يعتذر بعضهم، فهؤلاء الذين يطعنون في دين الله مرتدون، وحكم الردة لا بد من أن يقام في الأرض، والمسلمون عليهم أن يطالبوا إقامة حد الردة كما يطالبون بحد شارب الخمر والقاذف والزاني إلى غير ذلك. فحد الردة لم نسمع عنه في هذه الأرض منذ زمن طويل، وأما تعطيل بقية الحدود فلا علم لي به، لكن أطالب بإقامة حد الردة؛ والمرتدون الآن ربما كشفوا النقاب عن أنفسهم، فنحن نطالب المسئولين أن يقيموا حد الردة على مثل هؤلاء، وأن يسألوهم: هل هم مسلمون أو مرتدون؟ فإذا كانوا مرتدين فإن الله عز وجل قد أمر بقتل الذين يطعنون في هذا الدين، وسماهم الله عز وجل أئمة الكفر، وما قال: هم كافرون فقط. بل قال: هم أئمة الكفر، وذلك في قوله عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان لهم). فالردة موجودة في كثير من بلاد المسلمين، والذين يطعنون في دين الإسلام كثيرون ومنكشفون في هذه الأيام، فنحن نطالب بكل هذه الحدود بما في ذلك حد الردة، وهذه الدولة هي الوحيدة في الأرض التي تقيم هذه الحدود، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقها أن تكمل هذا المشوار وترينا ما تفعل بهؤلاء المرتدين كما تفعل بشارب الخمر وغيره، والله المستعان.

أهل الحل والعقد هم أهل الشورى

أهل الحل والعقد هم أهل الشورى Q صدر في الآونة الأخيرة إنشاء مجلس الشورى، فلا ندري ماذا سيحدث في هذا المجلس من هذه الناحية، ومن ناحية أخرى: هل هناك مقاعد للعلماء المسلمين والغيورين على دينهم، أم ستكون كل المقاعد للعلمانيين والمنافقين؟ A الشورى أصل من أصول هذا الدين، كما قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ولكن لا نصل إلى ما يسمونه في العصر الحديثة بالديمقراطية؛ فإنها هي الفوضى الضاربة في الأرض الآن، وهي ما يسمونه (حكم الشعب للشعب)، وهذه الشورى يجب أن تكون للعقلاء في كل أمة، والعاقل في نظرنا وفي نظر الإسلام هو الرجل المؤمن العالم الذي ينطلق من منطلق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان هناك مجلس للشورى فلا أظن أنه لا يكون لأهل الحل والعقد من العلماء والصالحين، ولكن لو كان لغير هؤلاء فإن المصيبة والبلية تكمن وراء ذلك، ولكن -إن شاء الله- لنا أمل في هذه الدولة أن لا يكون في مجلس الشورى هذا إلا أصحاب الحل والعقد من العلماء والصالحين والذين لهم سابقة إصلاح في هذه الأمة، والذين شهد لهم القرآن وشهدت لهم السنة وشهد لهم التاريخ أنهم هم الذين يقودون سفينة حياة الناس إلى ساحل النجاة. أما لو كانت الشورى -نرجوا الله العافية والسلامة- وكان الذين سيتولون قيادة مجلس الشورى من غير هؤلاء الصالحين فالأمر خطير جداً، وأرجو أن لا يكون هؤلاء الذين بدءوا يبرزون الآن في أيامنا الحاضرة يؤهلون أنفسهم ليكونوا أعضاء لمجلس الشورى، فهم يلمعون أنفسهم الآن، ولا تمر صحيفة ولا أي وسيلة من الوسائل إلا ولهم مقال، فأخشى أن يكون مثل هؤلاء يؤهلون أنفسهم، ويريدون أن يلقوا الأضواء على أنفسهم ليكونوا أعضاء. فنحن نرفض هؤلاء، ونرفض كل مجرم ونرفض كل إنسان ليس من أصحاب العقل والدين أن يكون في مجلس الشورى، ونثق بالله عز وجل، ثم بحكومتنا التي فكرت في تأسيس مجلس الشورى أنها لا تضع فيه -إن شاء الله- إلا هذا النوع من الصالحين، ولن تضع فيه أحداً من هؤلاء الفسقة؛ لأن هؤلاء سوف يجرون سفينة الحياة إلى أن تتحطم، نسأل الله العافية والسلامة.

حكم قتال الكافرين

حكم قتال الكافرين Q هل يعد القتال مع القوات الأمريكية جهاداً في سبيل الله، حيث إن المشكلة تجمع بين الكافر والمسلم في مظلة واحدة، نرجو توضيح ذلك الأمر؟ A إذا كان الأمر أمر دفاع فالمسلم عليه أن يدافع عن بلد الإسلام، وعن دينه وعقيدته ومقدساته مع من كان، لكن يا حبذا لو كان هذا الجيش صافي العقيدة، مؤمناً بالله عز وجل، ولكن: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فنقول لأي واحد من المسلمين: عليك أن تدافع عن هذا الدين وعن هذا الوطن الذي هو وطن الإسلام، وتدافع عن هذه المقدسات ضد من كان من هؤلاء الناس، ولا تتوقف، ولا تقل: سأتوقف لأن فلاناً كافر أو لأن هناك قيادة بأيدي غير المسلمين. فإن توقفك سوف يفتح ثغرة إلى أن تضيع بلاد المسلمين، نسأل الله العافية والسلامة. وهذا شيء مشاهد في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما هاجر إلى المدينة عقد صلحاً وحلفاً مع اليهود، مع أن اليهود أعداء ألداء للإسلام، وأنا لا أقول هذا الكلام مبرراً الموقف الذي حصل، وإنما أريد أن أعلم الناس كيف يدافعون عن هذه البلاد، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع اليهود أن يدافع اليهود والمسلمون في آنٍ واحد عن أي اعتداء على المدينة، حتى قويت شوكة المسلمين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود، وأصبح الأمر كله بيد الله تعالى ثم بأيدي المسلمين. فأقول: لو هجم عدو على هذه البلاد فيلزم المسلمين جميعاً أن ينفروا خفافاً وثقالاً ليجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ليحموا هذا البلد الطاهر وهذه المقدسات، ولا يهمهم أن يكون هناك من الكافرين أو من شذاذ العالم من يشاركهم في هذه المهمة.

واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q متى يسمح بالتطوع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ونرجو المطالبة بذلك من قبل العلماء والمشايخ؟ A التطوع مسموح به منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فلا تنظر إلى أي عراقيل تقف في طريقه، قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، فهل تريد أوامر أعظم من هذه الأوامر؟! ليس هناك أوامر أعظم من هذه الأوامر، وهل تريد البشر أن يقولوا: مروا أو لا تأمروا؟! هذه أشياء لا تتوقف من أجلها، فمعك أوامر من الله عز وجل، فامض في هذا السبيل بناءً على أوامر الله عز وجل. لكن لابد من أن يكون لهذا الأمر تنظيم، وأنا أوافق على وضع التنظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أقصد بالتنظيم أن ننتظر حتى يقال لنا: مروا أو توقفوا. وإنما أقصد بالتنظيم أن لا يدخل في هذا الميدان إلا الذين يضبطون توازنهم والذين عندهم غيرة وعندهم علم يستطيعون من خلاله أن يعرفوا بأن هذا منكر وأن هذا معروف، وأن إنكار هذا المنكر لا يجر إلى منكر أكبر من ذلك، فهناك علم، وهناك حكمة، وأنا -أيضاً- لا أقصد بالحكمة اللين، وإنما أقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها. فإذا توافرت هذه الشروط فلا تنتظر -يا أخي- من البشر أن يقولوا لك: مر أو لا تأمر. أو: انه ولا تنه. وإنما عليك أن تأخذ أمر الله عز وجل (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، فاللام هنا لام الأمر، وهي التي تحول الفعل المضارع إلى الأمر، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، كل هذه أوامر لابد من أن تُنفذ وأن تطبق في حياة البشر.

أهمية مواجهة المنحرفين في وسائل الإعلام

أهمية مواجهة المنحرفين في وسائل الإعلام Q التلفزيون والإذاعة والصحافة جرت علينا ويلات، وظهرت فيها أصابع المكر والرذيلة، فلماذا تترك الحرية فيها للعلمانيين وكتاباتهم فيها، أما المسلمون الصالحون فلم نسمع لهم كلمة؟ A أما عن كلمة (لماذا) فالجواب بأمور: الأمر الأول: أن كثيراً من المسلمين تأخر عن العمل في هذا الميدان، ومنهم من كره العمل فيه، وحق له أن يكره بعدما تبين الرشد من الغي، ولكن أقول: لو استطعت -يا أخي- أن تقدم فكرة أو كلمة صالحة لعل الله سبحانه وتعالى أن يشل بها حركة المفسدين فإنك مطالب بذلك. الأمر الثاني: أن هؤلاء العلمانيين سبقونا إلى هذه الأمور، فسيطروا على جزء منها أو على كثير منها، فأصبح الأمر ليس بأيدينا، ولو كان لنا الخيار ما كنا نسمح لهؤلاء أو نقبل بأن يعيثوا في هذه الأرض فساداً، ولكن نقول لهؤلاء الناس: احذروا هذه الوسائل بمقدار ما تشاهدون فيها من فتن وبلاء ومصائب، وردوا عليها، وإذا كان هؤلاء العلمانيون يسيطرون على كثير من وسائل الأعلام فعندنا منبر أعلى من هذه كلها، وهو منبر المسجد الجامع، فالحمد لله إذ المسلمون بخير الآن، ولا يتخلف عن صلاة الجمعة منهم إلا النزر القليل من الذين لا نصيب لهم في هذا الدين. فعلينا أن نستغل هذه المنابر من أجل أن نبطل مفعول هذه الدعايات المضللة التي ترد في وسائل الأعلام، ومن أجل أن نقول كلمة الحق. لكن لا تظن أني أدعو إلى تفجير الأمور تفجيراً، وإنما أدعو إلى الحكمة، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها. وأقول: عندنا كلمة الحق، ولا يمكن أن نسكت أبداً، فإذا حرمنا من الصحافة أو حرمنا من الإذاعة أو من التلفاز فإننا نكون على الأقل قد استفدنا فائدة وهي أننا نزهنا كلام الله أن نضعه بجوار الأغاني والمسرحيات، وعندنا المنبر الذي يجب أن نقول من خلاله كلمة الحق، وأن نقول للناس: هذا حق وهذا باطل. وعندنا مراسلة المسئولين وكبار المسئولين في الدولة أو زيارتهم إن أمكن، ونقول لهم: اتقوا الله. ونقول لهم بلسان المقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]، فإن قبلوا هذه الكلمة فهم في خير، وإن ردوا هذه الكلمة وقالوا: السجون السجون -كما يحدث في بعض الأحيان- فنقول: إن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206]. ولكن -يا أخي- إذا كنت تخاف من السجون ولا تخاف من الأذى في ذات الله فاعلم أن خير خلق الله عاشوا مدة من الزمن في السجون، فيوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وموسى يقول له عدو الله: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، ونحن لا نتمنى لقاء العدو، ولا نرغب في الإهانة، لكن نرحب بها إذا كانت في ذات الله، وإذا لم يكن لنا سبيل إلا هذه العقبة التي تقف بيننا وبين كلمة الحق فنحن نرحب بها ولا نخاف منها أبداً، ونعتبرها خلوة مع الله عز وجل، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.

حكم إقراض الكفار

حكم إقراض الكفار Q سمعنا عن قرض قدم إلى أحدى الدول التي تحارب الإسلام وهي روسيا، بل هي في حرب الآن مع المسلمين، وهذا القرض يزيد عما قُدم للجهاد طوال السنوات الماضية، أليس هذا مما يحز في النفس، فما رأيكم في ذلك؟ A والله إن هذا يحز في النفس، وعجيب أن يُقدم القرض لدولة تحارب الإسلام في أفغانستان والشعب يقدم المساعدات للشعب الأفغاني الذي يجاهد في سبيل الله بأفغانستان! فهذا يُعتبر عدم تنسيق في الأمر، لكن ربما -إن شاء الله- يكون هذا القرض لإسكات فتنة أو لمصلحة أخرى، ولا أستطيع أن أذكر سبب هذا القرض؛ لأني أجهل هذا الأمر. فالمهم أنه لا يجوز أن يستفيد الكافرون من أموال المسلمين، فالمسلمون يذبحون في بلاد الهند بأموال المسلمين، سواء أكانت قروضاً أم كانت أجور عمال ممن نأتي بهم من البوذيين والسيخ والكفرة ونعطيهم الأموال، ونقول: هؤلاء خير من المسلمين. ثم يذبحون بها المسلمين في بلاد الهند وغيرها. فلابد من أن ينفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل، وإذا أنفق في غير ما يرضي الله فالأمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قوماً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة)، فإذا أنفقت مالك -يا أخي- فعليك أن تنظر كيف تنفق هذا المال، سواء أكان على مستوى الدولة أم على مستوى الأفراد، قال صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيما أفناه، وعن شبابه: فيما أبلاه، وعن ماله: من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟). فلعل الدولة -إن شاء الله- لها هدف طيب، لكن نقول: إن أعداء الإسلام يحاربوننا بأموالنا، فاتقوا الله ولا توصلوا إليهم هذه الأموال، واحذروا من سخط الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يغار على دينه، أسأل الله تعالى أن يوفق القادة إلى أن ينتبهوا لهذا الأمر، لكن هم في الحقيقة ما أخذوا لنا رأياً في هذا، ولربما تكون لهم وجهة نظر، ووجهة النظر هذه لا ندري أهي مصيبة أم مخطئة، وربما تكون وجهة النظر في مثل هذه الأيام أن العالم كله قد تكهرب، فهم يريدون أن يهدءوا فتنة، فنحن لا ندري ما الهدف من وراء ذلك.

الموقف من البث التلفزيوني الكافر

الموقف من البث التلفزيوني الكافر Q طالعتنا بعض الصحف بخبر، وهو وصول البث التلفزيوني الأمريكي وغيره إلى دول الخليج، فماذا عمل العلماء تجاه هذا الخطر الداهم على المسلمين؟ A العلماء ما أظن أنه أخذ لهم رأي، بل أنا متأكد، ولا طلب من هيئة كبار العلماء ولا من هيئة الاستفتاء ولا من عامة العلماء أن يفتوا في جواز هذا أو عدم جوازه، وربما يقول المسئولون: إن هذا الشيء إجباري لا نستطيع أن نسيطر عليه؛ لأنه من خلال الأقمار الصناعية. ولكن نقول: تستطيعون أن تشوشوا عليه كما يُشوش على أي إذاعة تريد أن تمسنا بسوء، فما يمس أخلاقنا أهم مما يمسنا في أي شيء آخر. فنقول: لابد أن يوضع سياج وأجهزة تحول بيننا وبين هذه الأشياء المحرمة، لكني لا أدري هل سيحدث أكثر مما يوجد الآن، فما دام أنَّه الآن يوجد رقص وأغانٍ ومسرحيات في التلفاز الموجود في دول الخليج فأنا لا أتوقع أنه سوف يوجد شيء جديد أو أكثر مما يوجد، اللهم إلا شيء نادر، فلعل المسئولين -إن شاء الله- يضعوا بيننا وبينها السياج المنيع، لكن الحل الذي تملكه أنت وأملكه أنا ويملكه كل مسلم أننا لسنا مجبرين على هذه الوسائل الموجودة داخل البيوت، فلماذا -يا أخي- يوجد التلفاز في بيتك؟! أنت لست مجبراً، بل أنت حينما تفعل ذلك تخاطر بأسرتك بمجموعها أمام هذه الفتن. فهل تدخلها في بيتك وتقول: لماذا يأتي هذا الشيء بهذا الشكل؟ أنت تملك بيتك وتسيطر على بيتك، ولا أحد يجبرك على التصرف داخل بيتك، فإذا لم تستطع أن تطوق المنطقة كلها فطوق بيتك بحماية منيعة، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً.

ذكر بعض أحوال المسلمين في أفريقيا

ذكر بعض أحوال المسلمين في أفريقيا يقول السائل: عرف عنكم -وفقكم الله- الدعوة إلى الله في أفريقيا، فنريد أن نقف على شيء من أحوال المسلمين هناك؟ A لا أريد أن أتشاءم، فالأحوال سيئة هناك، فهناك الفقر والمجاعة والفتن والتنصير، ففي دولة إسلامية يوجد أكثر من ألف مركز للتنصير، وفي دولة إسلامية أخرى ليست في أفريقيا تنصر فيها في السنوات الأخيرة اثنا عشر مليون مسلم بسبب الفقر والمجاعة والدعايات المضللة، وهناك دولة من الدول الإسلامية فيها أكثر من ثمانين مطاراً للتنصير وأكثر من مائة طائرة للتنصير، فماذا قدم المسلمون لهداية المسلمين؟! لم يقدموا إلا الشيء القليل، ونحن لا نجردهم من ذلك. أما بالنسبة لأفريقيا فهي بلاد فيها أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان تهددهم المجاعة، وأكثرهم من المسلمين، والتنصير استغل هذه الفرصة فجاء بالأطعمة وبالخيام وبالخيرات، والمسلمون نيام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذا الدين، بل إن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، لكني أخاف على المسلمين ولا أخاف على الدين؛ فإن هذا الدين محفوظ، فأخاف على هؤلاء المسلمين أن يبخلوا بهذا المال وبالجهد وبالدعوة، ولكن يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

أهمية تولي الصالحين للإعلام

أهمية تولي الصالحين للإعلام Q إذا كان كثير من القائمين على الأعلام -وأخص الصحافة- لا ينشرون مقالات الدعوة والمقالات الإرشادية، فما رأيكم لو قام العلماء والدعاة بإنشاء صحيفة أو مجلة إسلامية قوية تظهر الحق وتقف بالمرصاد لدعوة الباطل؟ A هذا شيء طيب، لكن أفضل من ذلك لو أن الصحافة كلها صارت بأيدي أناس صالحين وبأيد أمينة، وتصير -على الأقل- تفتح مجال الصراع بين الحق والباطل، وتنشر كلمة الحق كما تُنشَر كلمة الباطل، وأذكر أنه في مرة من المرات كتب أستاذ في الجامعة في إحدى صحفنا البارزة هنا، وقال: النصارى إخواننا، ومن جهلنا أن نكفر النصارى إلى آخر ذلك الكلام الذي لا يقوله أجهل خلق الله، فحاولت أن أرد على هذا الكاتب، ولا أقول: (الأخ) لأني أشك في إيمانه ما دام أنه يقول هذا الكلام؛ لأن هذه ردة، فهو بهذا أنكر القرآن الذي يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وأنكر القرآن الذي يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]، وهو يقول: هم إخواننا؛ لأنهم أصحاب كتاب سماوي. فقال لي رئيس التحرير: أنا لا أستطيع أن أنال من أستاذ في الجامعة. فقلت: سبحان الله! تستطيع أن تنال من دين الله عز وجل، وتشكك الناس في دين النصارى الذي هو كفر بالله عز وجل، ولا تستطيع أن تنال من أستاذ في الجامعة! فمثل هذا قد سقطت قيمته؛ لأنه أصبح يجهل، وهذا من الأمثلة ومن الدروس التي تمر بنا. وعلى كل يجب أن نزاحم هؤلاء إن استطعنا، وإذا لم نستطع فعلينا أن نستغل المنبر؛ لأن المنبر نملكه، وهو وسيلة إعلامية -والحمد لله- من أفضل الوسائل، لكن أقول أيضاً: باتزان وبانضباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف كيف يتكلم، فكان يقول: (ما بال أقوام؟) والناس يفهمون حينما يتحدث عن صفات الرجال، ويعرفون أولئك الرجال، لكن حينما لا يكون هناك بد من أن نرد على شخص من الأشخاص الذين اشتهرت أسماؤهم في الأرض فلابد من أن نقول كلمة الحق، وأن نذكر هذا الإنسان باسمه عند الضرورة.

أهمية الوقوف أمام المنافقين الموجودين في الصف

أهمية الوقوف أمام المنافقين الموجودين في الصف Q هناك بعض المسئولين لهم تحركات مشبوهة، فلماذا لا يُشهر بهم حتى يعرفوا لدى الناس والمجتمع؟ A هذا صحيح، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ما بال رجال؟)، ويجب أن نقول: ما بال رجال؟ لكن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، فلما انكشف المنافقون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يقوم فلان، ويقوم فلان- ويسميهم بأسمائهم- من المجلس؛ لأن الله تعالى قد وصفهم، واتضح له الأمر. فحينما لا يكون بد من التصريح باسم رجل اشتهر بالإفساد في الأرض، الذي يقول: العلماء نرجوا بركتهم ودعاءهم ولا نستفيد منهم! فهؤلاء العلمانيون حقيقة هم لا يرجون حتى بركتهم، وأظنهم لا يرجون بركة أبداً، ولا يفكرون في هذه البركة. فأقول: إذا انكشف الأمر ووصل إلى هذا الحد فلابد من أن تكون للمسلمين قوة، ولابد من أن يكون للمؤمنين كيان، فنناشد الدولة بالله -وهي دولة إسلامية تنطلق من منطلق إسلامي- ونقول: هناك زحف من الشباب الذي أصبحنا أمامه كوابح، وهم يأتوننا بكرة وعشية، ويقولون: أعطونا فتوى نفعل ونفعل. ونقول لهم: اتقوا الله وحافظوا على الأمن، فالملك عبد العزيز رحمه الله ظل خمسين سنة يرسي القواعد الأمنية، فلا تفسدوا علينا أمننا في لحظات، واضبطوا توازنكم. فنقول: إذا لم توقفوا مثل هؤلاء الذين ينالون من دين الله جهاراً نهاراً فلن نستطيع أن نوقف هذه القوة التي أصبحنا الآن كوابح أمامها حتى لا تفسد الحرث والنسل. فنقول للمسئولين: اتقوا الله، أنتم في عافية، فبأي شيء تعتذرون بين يدي الله عز وجل لو وقفتم بين يديه وسألكم: لماذا أعطيتم فلاناً الأهلية ووليتموه السلطة؟ أتوالون أعداء الله؟ فاتقوا الله سبحانه وتعالى، واعلموا أنكم حينما تولون فلاناً وفلاناً في مناصب الدولة وفي الأمور المهمة وهو يحارب الله عز وجل فإنكم ساعدتموه في حرب الله عز وجل حينما تولونه منصباً، أو حينما تعطونه أهلية، أو حينا تفتحون له صفحات الصحف والمجلات، نقول ذلك لهؤلاء المسئولين، وأظنهم -إن شاء الله- لن يتأخروا؛ لأنهم يبحثون عن الحق، وسوف يغيرون إن شاء الله، أما إذا لم يغيروا فالأمر كما قيل: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فربما تنطلق المجموعات من الشباب الثائر الغاضب لدين الله عز وجل، فيحدث خلل في هذا الأمن الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظه لنا، فالعالم كله يعيش في خلل واضطراب إلا بلادنا والحمد لله، فقد حماها الله سبحانه وتعالى بتطبيق شرع الله، فأصبحت تعيش آمنة مطمئنة، وجعل الله لها حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولها. وأنا أقول للمسئولين: اتقوا الله وأوقفوا هؤلاء المفسدين في الأرض عند حدودهم، وإلا فأخاف أن يحدث أمر لا نملكه نحن ولا أنتم، والشاعر يقول: أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام وإن لم يحمها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام فأنا أخشى أن تنطلق هذه المسيرة كما انطلقت في بلاد مجاورة، فلا يستطيع أحد أن يضبطها؛ لأنها تغضب لله عز وجل، والإنسان إذا غضب لله عز وجل لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه أبداً في أي من الأحوال. فنقول: إن لم تسكتوا أولئك فأخاف أن لا نستطيع نحن أن نضبط الأمور، فالشباب من ورائنا يطلبون منا الفتوى ليشيعوا الفوضى في الأرض، وأنتم لا تستطيعون ضبطهم؛ لأنهم أناس تحركوا لدين الله عز وجل، وكل إنسان نستطيع أن نجبره أو نوقفه عند حده إلا إنساناً غضب لدين الله، فأخشى أن لا نستطيع إيقافه عند حده، أقول هذا وأنا واثق كل الثقة بأن الدولة تبحث عن الحق إن شاء الله، ففيها خير كثير.

موقف العلماء من تولي المنافقين مناصب في الدولة

موقف العلماء من تولي المنافقين مناصب في الدولة Q لماذا يسكت العلماء والدعاة عندما يُولى أصحاب الاتجاهات الخبيثة مناصب في الدولة؟ A العلماء ما سكتوا، بل هم ينكرون بمقدار ما يستطيعون، والحمد لله، فالمنابر الآن تهز الأرض، والعلماء بمقدار ما يعطون من الضوء الأخضر يقولون، لكن حينما يسرج النور الأحمر فأكثر الناس يخاف منه؛ لأنه علامة الخطر، ونحن نقول للأخ السائل: أعطنا الضوء الأخضر ونستطيع أن نقول كلمة الحق أكثر من ذلك، وحكامنا -والحمد لله- هم أول من يقبل كلمة الحق، فهم فتحوا أبوابهم، ونحن نزورهم بين فترة وأخرى ونذكر لهم الحلول، ونذكر لهم تاريخ البشرية، وماذا حدث في تاريخ البشرية من الخلل بسبب وجود مفسدين في الأرض، وسوف نذكر لهم هذه الأشياء، وهم -إن شاء الله- لا يتركون هذا الأمر يستمر أكثر مما هو عليه الآن. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

طريق الجنة

طريق الجنة الجنة هي سلعة الله الغالية، وقد جعلها الله تعالى هدفاً يتسابق إليه المتسابقون، ويسارع إليه المسارعون، وجعل لها طرقاً وسبلاً من سار عليها وصل إليها بإذن الله تعالى، وهناك عقبات كثيرة على تلك السبل قد تحول دون دخول الجنة، فيجب على المؤمن أن يسلك الطرق الموصلة إلى الجنة، وأن يتجنب تلك العقبات، وأن يتسلح بالعلم النافع والعمل الصالح.

وجوب المسارعة إلى الجنة

وجوب المسارعة إلى الجنة الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! الموضوع: في طريق الجنة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين هذه الجنة، التي طالما تاقت لها نفوس المؤمنين، وقدموا في سبيل الحصول عليها والبحث عن طريقها كل ما يملكون، وفوق ما يستطيعون، نسأل الله ذلك. الموضوع يدور حول قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136]. جاءت هذه الآيات التي ترغب بالجنة وبطريقها بعد آيات تحذر من النار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:130 - 133]. هذا هو الطريق الموصل إلى الجنة، والله تعالى هنا يقول: (وَسَارِعُوا)، ولذلك فإنه يلاحظ على كل الأفعال الخيرية التي يؤمر المسلم بأن يجد في السير إليها، أن يكون ذلك إما بطريق المسارعة دائماً أو بطريق المسابقة، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] دائماً وأبداً بالنسبة لسعي الحياة الآخرة. وبالنسبة للسير في البحث عن الرزق في الحياة الدنيا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]. ومن هنا فإن المسلم مطالب بأن يستبق الخيرات، وأن يبذل الجهد في سبيل الحصول على هذه السعادة وعلى هذه الدار.

الجنة كانت هي السكن الأول للإنسان

الجنة كانت هي السكن الأول للإنسان هذه الجنة هي التي كانت مسكن الإنسان في يوم من الأيام، ما كان هناك تكليف، ولا كانت هناك واجبات، قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] ولكن اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون لهذا الإنسان عدو، وأن يكون الصراع بين هذا الإنسان وبين عدوه حتى يكون للجنة ثمن، وحتى لا يدخل الجنة إلا من يستحقها، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38]. والفطرة التي فطر الله الإنسان عليها سليمة لا شك فيها، فهي فطرة التوحيد والعقيدة والإيمان، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) وهذه الفطرة وذلك العهد هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذه هي الفطرة التي عليها خلق الإنسان وفطر. لكن حينما تسلطت شياطين الإنس والجن على هذا الإنسان كان هناك فريق في الجنة وفريق في السعير، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] أي: على ملة واحدة، أي: فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ومن هنا افترقت الناس إلى قسمين، وبدأ الصراع بين الحق والباطل منذ تلك اللحظة، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة).

ثمن الجنة وصفات أهلها

ثمن الجنة وصفات أهلها ومن هنا نعرف أن للجنة ثمناً، وهذا الثمن هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، فأول شرط من شروط هذه الجنة وأول ثمن من أثمانها هو تقوى الله عز وجل، والمراد بتقوى الله: امتثال أوامره واجتناب نواهيه، العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثوابه، والحذر من سخط الله على نور من الله خشية عقابه. وهذه التقوى لا يوفق الله عز وجل إليها إلا من يستحقها ومن هم أهل للجنة، ومن أجلها بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ولذلك فإن كل الأنبياء يدعون الأمم: {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وعلى هذا فإن هذه هي القيمة الأولى والثمن الأول للجنة.

الإنفاق في السراء والضراء

الإنفاق في السراء والضراء قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134]، والمراد بالسراء أي: في حال السعة والطمأنينة، والضراء، أي: في حال الضيق والشدة والعجز، وإنفاقهم في حال السراء شكراً لله عز وجل، وإنفاقهم لأموالهم في حال الضراء صبراً وعلامة قوية من علامات الإيمان، ولذلك فإن المؤمن هو الذي يبذل ماله، ويعرف أن هذا المال ليس له وإنما هو ملك الله، وأنه مستخلف في هذا المال، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وأن الله تعالى هو الذي يورث هذا المال في آخر الأمر: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40]؛ ولذلك فإن المسلم يستخلفه الله عز وجل في هذا المال ليمتحن بذله وصبره وسخاءه أو بخله.

كظم الغيظ والعفو عن الناس

كظم الغيظ والعفو عن الناس يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133 - 134] والكظم معناه: الحبس، والغيظ معناه: أشد أنواع الغضب، وحينما يغضب هذا الإنسان لا لله عز وجل فعليه أن يكتم هذا الغيظ وهذا الغضب، ولكن حينما يكون هذا الغضب لله عز وجل ومن أجل دينه فلا يجوز أن يقف هذا الغضب عند حد العاطفة، وإنما ينتهي حتى تقام حدود الله عز وجل؛ ولذلك ما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل، ولا أظهر شدة إلا حينما يتعدى على حدود الله عز وجل، والمسلم مطالب أن يكظم الغيظ؛ بل مطالب أن يكون غيظه وغضبه لله عز وجل ومن أجل دين الله، وإذا كان يغضب لأمر من أمور الدنيا فإن عليه أن يغضب لله عز وجل أكثر من ذلك. قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران:134]، والعفو صفة من صفات المؤمنين لاسيما في ساعة القدرة، وضعف المعفو عنه، فإن العفو أمر مطلوب؛ ولذلك حث الله تعالى على العفو والإحسان فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. ومن هنا تعالج مشاكل الناس بعضهم مع بعض، فالعفو عند المقدرة، والتجاوز والصفح عن الإساءة أكبر سبب وأكبر وسيلة يستطيع من خلالها المسلم أن يملك قلوب الناس، قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ولكن هذا العفو عند المقدرة لا يستطيعه إلا الصابرون، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: العفو عند المقدرة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. وهذا العفو على نوعين: فقد حث الله عز وجل على العفو في القرآن، وحذر من العفو في مكان آخر، بل في موقعين متجاورين قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وقال قبلها: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]. فنستطيع من خلال هاتين الآيتين المتجاورتين أن نجمع بينهما إذا كان حق للإنسان فالعفو أفضل، بشرط ألا يراد بهذه الإساءة استذلال أحد من المسلمين، أما إذا أريد بالإساءة إذلال مسلم من المسلمين، أو كان هذا الحق ليس للإنسان وإنما هو لله عز وجل، وكان غضباً لدين الله، فالله تعالى أمر بالانتقام فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]. قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وهو إتقان العمل، ومراقبة الله عز وجل في الغيب والشهادة.

المبادرة بالتوبة والاستغفار من الذنوب والمعاصي

المبادرة بالتوبة والاستغفار من الذنوب والمعاصي ثم بين آخر عنصر من عناصر طريق الجنة فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، والفاحشة: هي ما عظمت من الذنوب، وظلم النفس معناه: مطلق المعاصي. وعلى هذا: فإن المسلم عليه أن يكون بعيداً عن هذه الأمور التي تحول بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، لكن لما فطر الإنسان بطبيعته وجبلته على الميل إلى ملاذ الحياة الدنيا، ولربما تكون مما حرم الله؛ فقد أمر الله عز وجل بسرعة المبادرة بالتوبة والإنابة، وبين الله في مكان آخر أن هذا الإنسان لو ملأ الأرض ذنوباً وبلغت ذنوبه عنان السماء، ثم تاب وأناب إلى ربه؛ فإن الله تعالى يقبل التوبة عنه، ويعفو عن سيئاته، يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]. والإنسان بطبيعته وفطرته البشرية قد يميل إلى أمور قد تكون محرمة، وقد يغفل الإيمان ساعة من الزمن فيقع في شيء مما حرم الله، فهذه فطرة البشرية لا يسلم منها إلا من عصمه الله عز وجل، وعلاجها سرعة التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهنا يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) و (إذا) للمفاجأة والسرعة، (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: ما دون الفاحشة، (ذَكَرُوا اللَّهَ) أي: ذكروا ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وساعة الحساب، وذكروا ظلمة القبر، ويوم يقفون أمام الميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات، إذا هموا بظلم مخلوق من المخلوقين أو بظلم النفس أو التعدي على أمر مما حرمه الله أو ما أشبه ذلك؛ فإنهم يبادرون بالتوبة والإنابة، وقد وعد الله عز وجل مثل هؤلاء أن يبدل لهم السيئات إلى حسنات، فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، ويقول جمهور المفسرين: كل سيئة يقترفها هذا الإنسان تتحول إلى حسنة في سجل أعماله، وليس معنى ذلك التشجيع على فعل السيئات ثم تركها، ولكن معنى ذلك: سرعة المبادرة بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهو ما أشار الله تعالى إليه في آخر سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. وعلى هذا: فإن المسلم عليه إذا فعل سيئة أن يغلب جانب الخوف، وإذا فعل طاعة أن يغلب جانب الرجاء، وعليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في آن واحد، كما ذكر ابن غزوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (ولقد ذكر لنا أن الحجر يرمى من شفير جهنم ما يبلغ لها قعراً، والله لتملأن! والله لتملأن! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر -أي: عرض الجزيرة العربية- وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) أي: من كثرة الداخلين. هنا يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، وفي ساعة الاحتضار يغلب الإنسان جانب الرجاء بالله تعالى فلا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى. المهم أيها الإخوة! هذه الآية تجعل من صفات المؤمنين أهل الجنة أنهم يبادرون بالتوبة، فلا يفرطون ولا تغرهم الحياة الدنيا، ولا يغرهم الشباب والقوة والفتوة، ولا تغرهم الصحة والعافية، بل هم دائماً على خوف واستعداد للموت قبل نزوله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حدد أجلين للتوبة: الأجل الأول: هو الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، أول ما تبلغ الروح الحلقوم، وهذا أجل بعيد بالأصل ولكنه قريب؛ لأن الإنسان لا يدري متى يقع الأجل. الأجل الآخر: طلوع الشمس من مغربها بالنسبة لعامة الناس، وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ويقول الله عز وجل عن الأول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] فأبشروا أيها الإخوة! فإن معنى (جهالة) أي: في غفلة، وليس معناها في جهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ على أي سيئة من سيئاته، ثم حدد الأجل وقال: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، وأبشروا أيضاً أيها الإخوة؛ فإن القريب ليس معناه: في الحال، ولكن معناه: ما قبل الموت، بدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]. المهم أيها الإخوة! أن يكون هذا الإنسان دائماً وهو يقترف الذنب -إذا قدر له أن يقترف ذنباً في غفلة عن دينه- أن يقترف هذا الذنب وهو خائف، أما أن يفعل هذا الذنب وهو يضحك، فإن المثل يقول: (من فعل الذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي). ولذلك فإن المؤمن إذا فعل ذنباً ولو كان صغيراً أصبح على رأسه كجبل، والآخر البعيد -نعوذ بالله من حاله- إذا فعل الذنب رآه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا) أي: تساهله من بهذا الذنب، والتساهل بالذنب يعتبر ذنباً. وهذه الذنوب تختلف بحجمها وفي أصلها وفي أهلها، فهناك ذنوب بين العباد مع الله عز وجل لا تصل إلى درجة الشرك، لا يعبأ الله عز وجل بها يوم القيامة، وهناك ذنوب الشرك -نعوذ بالله- لا يغفر الله عز وجل منها شيئاً يوم القيامة، وهناك غير هذين الاثنين، وهي المظالم والتعدي على حرمات الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وحريتهم، وهذا هو الديوان الذي لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهذا هو الذي يقتص له يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وصاحبه هو المفلس الذي يأتي يوم القيامة مفلساً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام فيأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). فهذه هي حياة الإنسان، وهذا هو طريق الجنة، فعلى المسلم أن يبادر في سلوك طريق الجنة.

وسائل دخول الجنة

وسائل دخول الجنة أيها الإخوة! هناك أمور هي التي توصل الإنسان إلى الجنة، وهناك أمور تعتبر سبيلاً من سبل الوصول إلى الجنة ووسيلة من وسائل دخول الجنة، وأهم هذه الوسائل بل الأصل هو رحمة الله عز وجل، وقد حكم الله عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء، كما أن كلمة (رحمة) تطلق على الجنة قال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، وتطلق على كرمه سبحانه وتعالى بحيث يشمل أقواماً برحمته، لكن هذه الرحمة التي لا يدخل الجنة أحد إلا بها لها أسباب، وأقول: لا يدخل الجنة أحد إلا بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).

من وسائل دخول الجنة العمل الصالح

من وسائل دخول الجنة العمل الصالح لذلك فإن الوسيلة التي نلجأ إليها ونتذرع بها لدخول الجنة هي رحمة الله عز وجل، وهي التي وسعت كل شيء، ولكن لها أسباب، ولذلك يقول الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156] وهم أيضاً: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وهذه الرحمة أسبابها ووسائلها الأعمال الصالحات التي يقدمها هذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يتعرض لرحمة الله عز وجل بالأعمال الصالحات، في التوحيد بالعقيدة السليمة بالحب لهذا الدين بالولاء لهذا الدين بالدفاع عن هذا الدين بالاستماتة دفاعاً عن دين الله عز وجل وعن عقيدته، هذه هي رحمة الله، وهذه أهم الأسباب التي يحصل بها الإنسان على رحمة الله سبحانه وتعالى.

الموت على ملة الإسلام

الموت على ملة الإسلام أيضاً من أهم هذه الوسائل: الموت على الملة، قد يحيا الإنسان حياة طويلة على طاعة الله، لكن الله تعالى قد كتب له سوء الخاتمة نسأل الله العافية والسلامة، والله تعالى يقول: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، ووصية نبي الله يعقوب لبنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فالعبرة هي بما يموت عليه الإنسان، لا بما يحيا عليه، فقد يعيش حياة طويلة في أعمال صالحة، ظاهرها أنها تورده الجنة، لكن الله تعالى قد ختم له بالشقاوة نسأل الله العافية والسلامة! كما جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة). ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي يدخل أقوام كثر الجنة بسببه- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فتقول له عائشة: أو تخاف على نفسك يا رسول الله؟! قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن؟!). إذاً: نكثر من هذه الكلمة لعل الله أن يختم لنا بالصالحات، ولا نغتر بالعمل ولو كان كثيراً، فإن العمل الكثير إذا لم يتقبله الله عز وجل يكون {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، ويكون {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] نسأل الله العافية والسلامة. ولذلك فإن المسلم مطالب أن يبحث عن حسن الخاتمة أكثر من بحثه عن العمل الصالح.

قوة اليقين بالله والخشية له سبحانه

قوة اليقين بالله والخشية له سبحانه أيضاً من هذه الوسائل التي يتقرب بها الإنسان إلى الجنة: قوة اليقين بالله عز وجل، والخشية لله، فلا يصرف شيئاً من دينه لغير الله عز وجل: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175]، والخوف والخشية جانبان عظيمان من جوانب التوحيد لا تكون إلا لله عز وجل، والخشية: هي الخوف مع الإجلال، ولذلك فإن من وقع في نفسه خوف البشر من دون الله عز وجل فقد اختل في قلبه جانب التوحيد، وأصبح على خطر من أن يحبط العمل، وأن يكون من المشركين، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فالخشية والخوف يجب أن يكونا لله عز وجل.

من وسائل دخول الجنة الجهاد في سبيل الله

من وسائل دخول الجنة الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله يوصل إلى الدرجات العلى في الجنة

الجهاد في سبيل الله يوصل إلى الدرجات العلى في الجنة هناك طرق للجنة، وهناك طرق توصل الإنسان إلى الدرجات العلى في الجنة، وأفضل سبيل يوصل إلى أعلى درجة في الجنة: هو الجهاد في سبيل الله، الجهاد الذي عقده المسلم يوم أن كان مؤمناً بالله عز وجل كصفقة رابحة بينه وبين الله عز وجل، وحينما نتكلم عن الجهاد لا نكتفي بالجهاد الذي هو حمل السلاح في وجوه الكافرين، ولكنه أياً كان هذا الجهاد؛ ابتداء من جهاد النفس، إلى الجهاد بكلمة الحق إذا كانت عند سلطان جائر، وهذا يعتبر أفضل الشهداء عند الله عز وجل، رجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه فأراق دمه أو فقتله، وهذا أفضل الشهداء عند الله عز وجل، فهو يوم القيامة مع حمزة الذي هو أفضل الشهداء رضي الله عنه. كذلك الجهاد أيضاً بالدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك أخبر الله تعالى بأن الدعوة هي الجهاد الكبير، فقال عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52] أي: القرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، فهو أعظم أنواع الجهاد، وهو الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه هي التي قال الله عز وجل عنها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]، فالدعوة إلى الله هي أحسن قول، والجهاد بالدعوة إلى الله وكلمة الحق وإعلانها في الناس والصبر على الأذى فيها تعتبر أفضل وأعظم أنواع الجهاد: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] فهو جهاد كبير أكبر من الجهاد المعروف إذا دعت الضرورة إلى هذا النوع من الجهاد، فهو أكبر من الجهاد بالسلاح وإراقة الدماء؛ لا سيما حينما يضعف الناس عن هذا الجانب من جوانب الجهاد، فإن الله تعالى قد سماه جهاداً كبيراً. ثم يأتي الجهاد بالنفس والمال والدم والروح، ومن خلال هذا الجهاد تتحقق البيعة التي أبرمها المؤمن مع ربه سبحانه وتعالى يوم كان مؤمناً بطريقة تلقائية مباشرة دون أن تحتاج إلى كتابة عقد، فإن هذا العقد مبرم منذ أن اعتنق هذا المؤمن هذا الإيمان، وهذا العقد مصدق في كل الكتب السماوية في التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا العقد قد استوفى كل أركان المعاملات المعروفة عند الفقهاء: بائع ومشترٍ، وثمن وسلعة، وهو ما أشار الله عز وجل إليه في سورة التوبة فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]. ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، قال: يا رسول الله! ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل) أي: لا نقبل أحداً ينقض هذه البيعة، ونحن لا نطلب نقض هذه البيعة، ما دام الثمن هو الجنة، وما دام الموت كتاباً مؤجلاً على هذا الإنسان لا يتقدم الإنسان ساعة ولا لحظة ولا يتأخر، فخير له أن تكون هذه الميتة في سبيل الله؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سأل الله عز وجل الشهادة بحق بلغه الله عز وجل منازل الشهداء وإن مات على فراشه). هذه البيعة يا إخوان! بيعة عظيمة جداً، نقرؤها في القرآن، ولربما نغفل عن تجديدها مع الله عز وجل، ومن خلال هذه الغفلة يضعف الإنسان أمام الإنسان، ويضعف الإنسان أمام المخاوف والدماء التي تراق، أما حينما نقرؤها بعقل وتفكير فهذه بيعة فيها بائع وهو المؤمن، وفيها المشتري وهو الله عز وجل، مع أنه يملك روح هذا الإنسان وماله، لكن من كرمه أن اشترى هذين الأمرين بثمن وهو الجنة، وسلعة وهي النفس والمال، وثمن وهو الجنة، وهذه أركان البيع الأربعة المعروفة عند الفقهاء، ثم صدقت هذه المعاملة وهذه البيعة في التوراة والإنجيل والقرآن. لما نزلت هذه الآية خرج المسلمون عن بكرة أبيهم للجهاد في سبيل الله، حتى نزلت آية أخرى تلوم المسلمين كيف يخرجون للجهاد ويتركون المدينة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، إذاً: تبقى فرقة في حراسة المدينة، ولطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخرج طائفة للجهاد، وإذا رجعت هذه الفرقة تبقى هذه وتخرج تلك. ما الذي دفع المسلمين إلى الخروج جميعاً إلى الجهاد في سبيل الله؟ هو البحث عن هذه الجنة، وتحقيق هذه البيعة إلى أن لامهم الله عز وجل، والدليل على ما سبق أنه أفضل طريق يوصل إلى أعلى درجات الجنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله). درجات الجنة المائة التي كل واحدة كما بين السماء والأرض، هذه المسافة الطويلة، هذه للمجاهدين؛ لتفاوت درجات المجاهدين، ولتفاوت أهدافهم ونياتهم، ونوع البلاء الذي قدموه في سبيل الله عز وجل.

الصبر والثبات عند الفتن يوصل المسلم إلى أعلى درجات الجنة

الصبر والثبات عند الفتن يوصل المسلم إلى أعلى درجات الجنة العنصر الثاني الذي يكفل للمسلم أعلى درجات الجنة: فهو الصبر على الأذى، والابتلاء في دين الله عز وجل، وهذه درجة عالية وهي درجة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد أوذوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك صبروا، ثم كانوا في أعلى درجات الجنة. ويلحق بهؤلاء الأنبياء في الدرجة الثانية المصلحون، الذين قدموا أنفسهم لهذا الدين، وصبروا على هذا الأذى، وتفانوا في الدفاع عن دين الله عز وجل، وقدموا على الله عز وجل غير مغيرين ولا مبدلين، ولا مستكينين لغير الله عز وجل. الدرجة الثالثة العليا: الذين يثبت إيمانهم عند الفتن، وهذه المرحلة لا يطيقها إلا القلة من الناس؛ لأن هناك من الناس {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] إذا رأى أن الناس معه، وأن الخير معه، وأنه لا يؤذى في ذات الله؛ فإنه يثبت على هذا الطريق؛ لأنها أصبحت طريقاً سهلة ممهدة، لكن حينما يصيبه الأذى في دينه يرجع على عقبيه، وينكص ويعود من منتصف الطريق، {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]. هذه الفتن جعلها الله عز وجل في طريق الجنة لتمحص المؤمنين، ولتيمز الصادقين من غير الصادقين؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، إذا أصابه أذى في دينه قال: لقد هربت من الأذى فكيف أقع في الأذى؟! لقد هربت من عقوبة الآخرة والآن أقع في عقوبة الدنيا! إذاً: أتحمل العقوبة المتوقعة وأسلم من عقوبة حاضرة، هكذا يتفلسف ويظن أن العقوبتين متساويتان! والحقيقة أن هناك الفرق الكبير الشاسع بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة. قال تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10]، هؤلاء الذين يرجعون من منتصف الطريق هم الذين لا يصلحون الحياة، لا سيما الحياة الحاضرة؛ بل إن الحياة كلها جعل الله عز وجل هؤلاء الناس بعضهم لبعض فتنة فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] أي: أتتحملون هذه الفتنة؟ ومن أجل ذلك فإن الذين يثبتون على هذا الطريق، ولا يتراجعون حينما تصيبهم فتنة هم الذين يستحقون الدرجات العلى في الجنة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:179]، وهذه الآية نزلت في آخر سورة آل عمران من أجل أن تبين أن ما حدث في غزوة أحد -التي تكلمت عليها سورة آل عمران- من أذى أصاب المسلمين، فقتل منهم سبعون، وجرح خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، أن هذا له فائدة، حتى المصائب لها فائدة، ما هي الفائدة؟ قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179]. إذاً: معنى ذلك: أن الأحداث والمصائب والفتن التي تحل بأمة من الأمم لمصلحة هذه الأمة، من أجل أن يخرج ذلك الداعية ممحصاً، ومن أجل أن يخرج ذلك المؤمن قوي الشكيمة، شديد العزيمة، مؤمناً حقاً، يستطيع أن يتحمل أعباء الحياة وتكاليفها، لكن حينما تكون الحياة كلها رخاء وسهولة، ورقة وليناً ودعة، فباستطاعة كل الناس أن يقولوا: إنهم مؤمنون، ولذلك يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، و (حسب) هنا استفهام إنكاري، أي: من ظن أنه إذا قال: آمنت ولا يفتن فعليه أن يراجع حسابه، فالاستفهام إنكاري معناه: أنه ليس من المعقول وليس حقيقة أن يترك الناس على كلمة (مؤمن) دون أن يفتنوا، والفتنة معناها في اللغة: وضع الذهب في النار حتى تظهر الجودة من الرداءة, وحينما يوضع الذهب في النار يتميز الذهب من الأخلاط الرديئة ويبقى الذهب، وتزول هذه الأخلاط الرديئة، هذه هي الفتنة في اللغة العربية، والفتنة في مفهوم الشرع الإسلامي: هي ما يصيب الإنسان من آفات وأحداث من أجل أن يتميز المؤمن الصادق من غير الصادق.

عقبات في طريق الجنة

عقبات في طريق الجنة أيها الإخوة! إن في طريق الجنة عقبات، وليست الجنة قد فرش طريقها بالورود والرياحين، ليس طريقاً ممهداً مسفلتاً؛ لكنه طريق وعر، وهذه الطريق الوعرة ليس الهدف من ورائها أن يصرف المؤمنون عن الجنة، ولكن من هدفها ألا يدخل الجنة إلا من يستحق الجنة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). وعلى هذا نفهم معنى قول الله تعالى في صفة العقبات الشديدة التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله وإلى الجنة من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، ثم يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. إذاً: نصر الله لا يأتي حتى يقول الناس: متى نصر الله؟! أي: إن نصر الله يتأخر حتى يظن طائفة من الناس بالله عز وجل سوءاً، ونصر الله يتأخر حتى ترتج الأرض بالمؤمنين وتتزلزل، (أم أحسبتم أن تدخلوا الجنة)؟! استفهام إنكاري هنا، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ)، والمراد بالبأساء: الحروب المهلكة، والضراء: الفقر والمسغبة والأذى، والفتن في طريق الجنة، (وزلزلوا) أصبحت الأرض كأنها تتحرك من تحت أقدامهم؛ من شدة الخوف والذعر الذي أصاب المؤمنين، فهذه الزلزلة وصلت إلى درجة أن يقول الرسول -وهو الرسول الذي أرسل من عند الله-: متى نصر الله؟! تصوروا يا إخوان! شدة الفتنة في طريق الجنة! الرسول يقول: متى نصر الله؟! وكلمة (متى) هنا ليس معناها الاستفهام، وإن كانت (متى) في الأصل هي للاستفهام، ولكن معناها هنا: الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله. والمؤمنون الذين يعيشون مع المرسلين عليهم الصلاة والسلام من شدة الخوف الذي أصابهم، والشدة التي أصابتهم في طريق الجنة يقولون: متى نصر الله؟ إذا كان هذا بالنسبة للمرسلين وأتباعهم، فما هو موقف عامة الناس في طريقهم إلى الجنة وهم يفتنون في دينهم ويبتلون في طريق الجنة؟! إذاً: الطريق وعرة يا إخوان! قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16] أي: ما يلجئون إلى غير المؤمنين، وليس معناه أن تلجأ للمؤمنين من دون الله، أي: يعتمدون على الله عز وجل، ويستعينون بالله ثم بالمؤمنين لا بالكافرين، إلى غير ذلك من العقبات التي تعترض طريق المسلم إلى ربه عز وجل وهي الدار الآخرة. يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ما نلقاه من المشركين في مكة، فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دين الله، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه). ففي طريق الجنة عقبات في طريق الجنة قتل مرسلون في طريق الجنة أخرج المرسلون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، أخرجوا وقال لهم الكفرة من أتباعهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14]. إذاً: هذه هي العاقبة للمتقين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. في طريق الجنة قطعت أيدي أقوام وأرجلهم من خلاف، وصلبوا في جذوع النخل، وكانوا قبل لحظات يحلفون بعزة فرعون ويقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، ما ولدوا في الإسلام وفي الملة كما يولد الناس المؤمنون اليوم، ولكنهم ولدوا على الكفر وعاشوا في الكفر والسحر، لكن عندما دخل الإيمان في قلوبهم في لحظة واحدة من الزمن ويهددون وينفذ فيهم هذا التهديد: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] رأوا الجنة بأعينهم، ماذا قال أولئك؟ {(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] ما قالوا: بعزة فرعون كما كانوا يقولون قبل لحظات، قالوا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، استهانة بالحياة الدنيا، لكن الحياة الآخرة لا أحد يستطيع أن يفعل بها شيئاً، فهي بيد الله عز وجل، وحتى الحياة الدنيا بيد الله؛ لأنه لا يقضي ما هو قاض إلا بالأجل الذي حدده الله عز وجل، ولذلك استطاع الإيمان أن يتغلب على ما في قلوبهم من الكفر والسحر في لحظة واحدة، فكيف بأبناء الملة والفطرة الذين ولدوا على الفطرة، وفي بيوت الفطرة والملة، واختلطت هذه الفطرة وهذا الخير بدمائهم وعظامهم ولحومهم؟! إذاً هم أولى أن يكون ذلك موقفهم. في طريق الجنة خدت الأخاديد وأشعلت فيها النيران، وقيل: كل من آمن بالله لا بد أن يقتحم هذه النار أو يراجع حسابه في الإيمان بالله عز وجل، فيقتحمون هذه النار في الأخاديد، قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، وهم جالسون على حافة النار يضحكون على المؤمنين، ولحومهم تحترق بهذه النار وعظامهم، لكنه حلم الله عز وجل، والامتحان والفتنة التي وضعها الله عز وجل في طريق الجنة، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، والله تعالى بيده القدرة. في طريق الجنة يقتحم إبراهيم عليه الصلاة والسلام النار التي يقول المفسرون عنها: إنها نار كانت تحرق الطير في جو السماء، ويستسلم لأمر الله عز وجل، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. وفي طريق الجنة يصلب خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة، ويقول له القوم الكافرون: هل تريد أن يكون محمد في مكانك؟ فيقول: والله ما أود أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال. في طريق الجنة قتل كثير من المؤمنين وصعدوا أعواد المشانق، وقالوا لأعدائهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] إذاً: طريق طريق، وعرة ونستطيع أن نقول: إن هناك عقبات نستطيع أن نلخصها في أمور عشرة:

فساد العقيدة

فساد العقيدة الأمر الأول: من العقبات التي تعترض سبيل هذا الإنسان في طريقه إلى الله عز وجل: فساد العقيدة، وعشق المبادئ التي قد زينت لهؤلاء الناس، فوجد من يرتد عن الإسلام، ويكفر بدينه، ويستجيب لدواعي الكافرين ولدعاياتهم وضلالاتهم، فيخسر الدنيا والآخرة.

ضعف اليقين بالله عز وجل

ضعف اليقين بالله عز وجل ومنها أيضاً: ضعف اليقين بالله عز وجل، وعدم تصور عظمة الموقف، ويكون ذلك حينما يكون هذا الإيمان تقليدياً وراثياً، وهذا هو أخوف ما نخاف على المؤمن الذي يأخذ دينه وعقيدته بالوراثة أو من البيئة يجد أباه يصلي فيصلي دون أن يتصور حقيقة هذا الدين يجد أمه تصوم فيصوم، أخذ الدين عن طريق الوراثة فربما يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل المشوار إلى ربه سبحانه وتعالى. لكن تصوروا يا إخوان! إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يلقى في النار فيصبر، ويؤمر بذبح ولده فيحتسب، ويؤمر بترك ولده بوادي غير ذي زرع فيستجيب لأمر الله عز وجل؛ لأن إبراهيم عرف الله عز وجل من خلال آياته في هذا الكون، فهذه الآيات الآفاقية والكونية هي التي تهدي هذا الإنسان إلى إيمان أفضل، ولذلك يقول الله تعالى عن قصة إبراهيم وهو يبحث عن إله يعبده, وما كان يشك في الله، ولكنه كان يريد أن يعلم القوم، فهي حجة الله وحجة إبراهيم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83] إبراهيم ينظر إلى الكوكب فيقول: هذا ربي، ثم يغيب الكوكب فيقول: لا أحب الآفلين، ثم ينظر إلى القمر فيقول: هذا ربي، ثم يقول: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]، ثم ينظر إلى الشمس فيقول: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79]. من هنا يبرز الإيمان القوي، أما ضعف اليقين بالله عز وجل والإيمان الذي يقول صاحبه: إن كان ما جاء به المرسلون حقاً فلا ضير أن أكون قد اتبعتهم، وإن كان غير حق فأنا ما أتعبت نفسي! هذا الإيمان لا يدخل الإنسان الجنة، ولكنه اليقين الذي يتخطى به المسلم تلك العقبات، ويقتحم العقبة الكئود بحيث يصل إلى دار السلام آمناً مطمئناً.

حب السيطرة والطغيان

حب السيطرة والطغيان الأمر الرابع من هذه العقبات: حب السيطرة والطغيان، قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، لا يريدون علواً فليس عندهم علو بل يرفضون العلو، ولا يريدون أن يكون هناك علو إلا لله عز وجل، ولا يريدون الفساد في الأرض، فهم لا يقترفون الفساد، وهم يحاربون الفساد بقدر ما أوتوا من قوة، فهؤلاء هم الذين لهم الدار الآخرة التي هي الجنة، فإن من أكبر الأمور التي تصرف هؤلاء الناس عن دين الله عز وجل هي حب السيطرة والطغيان في الأرض، وهذه هي التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، فهؤلاء الذين ينافسون الله عز وجل في سلطانه بالكبرياء الذي هو رداؤه، والعظمة التي هي إزاره يقول تعالى في الحديث القدسي: (من نازعني شيئاً من ذلك عذبته).

الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها

الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها الأمر الرابع: الرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، هم أناس في غفلة عن الحياة الآخرة، أناس أشربت قلوبهم بحب الحياة الدنيا، وزينتها ومتاعها، ومن خلال هذا الإشراب وهذه الغفلة نسوا الله عز وجل؛ فأنساهم أنفسهم، ثم هم لا يفكرون ساعة من الزمن في أن يعودوا إلى الله عز وجل، ولذلك فإن الله تعالى قد يأخذهم على غرة، ثم يخسرون الدنيا والآخرة.

سوء الخاتمة

سوء الخاتمة الأمر الخامس: سوء الخاتمة، وهو أن يختم لهذا الإنسان بخاتمة الشقاوة، نسأل الله العافية والسلامة! وسوء الخاتمة سبيل يعاقب الله عز وجل به من يشاء من عباده، ولذلك فإن المسلم مطالب أن يبحث عن حسن الخاتمة، وحسن الخاتمة يكون بالصالحات والمداومة عليها، والمبادرة إلى التوبة والإنابة.

صحبة الأشرار

صحبة الأشرار من الأمور التي تعوق الإنسان دون الجنة: صحبة الأشرار، فقد يتخذ المسلم بطانة من دون المؤمنين، يتخذ بطانة كافرة تكون سبباً في شقائه وحرمانه وإبعاده عن الله عز وجل، وصحبة الأشرار ربما يكون سببها الإعراض عن دين الله، وعن شرع الله، وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:36] أي: عن القرآن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36]، باسم صديق أو صاحب أو جليس أو مستشار أو سكرتير أو ما أشبه ذلك، هذا الشيطان يتسلط على ذلك الإنسان، فيحوله إلى شيطان آخر، وهذا الشيطان إذا تسلط على هذا الإنسان لا يتركه حتى يوقعه في قعر النار، ولذلك الله تعالى أمرنا بمجالسة الصالحين فقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة:13]، {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ويتسلط قرين السوء على هذا الإنسان الذي كتب الله عليه الشقاوة بسبب إعراض الثاني عن كتاب الله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، ثم لا يدعه هذا الشيطان -سواء كان من شياطين الإنس وهم أخطر على الإنسان، أو من شياطين الجن وهم يأتون في المرتبة الثانية- حتى يرميه في قعر جهنم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، والله تعالى يقول: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. هذا القرين -نعوذ بالله- الذي ربما يسيء كثير من الناس -وبصفة خاصة بعض ولاة الأمر- في اختيار الجليس أو البطانة أو السكرتير، أو الذي يتولى الأمر أياً كان هذا الأمر، أو المربي؛ فيصرفه عن دين الله عز وجل، ويرميه في قعر جهنم، هذا إنما هو بسبب إعراض المتولي عن شرع الله عز وجل، وعن دين الله، ومن عقوبة الله تعالى أن يقيض له هذا الشيطان فلا يتركه حتى يرميه مع نفسه في نار جهنم، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هناك من يعيش من الناس في صحبة الأشرار، ثم يقيض الله عز وجل رحمة من رحماته لهذا الإنسان فينقذه من هذا الفاسد ومن هذا الجليس ومن هذا السكرتير؛ لأن الله تعالى أراد له خيراً، فإذا جاء يوم القيامة ودخل ذلك التقي الجنة الذي أنقذه الله عز وجل من صحبة هذا الشرير فيسأل الملائكة: أين فلان من الناس، والله لقد كاد في يوم من الأيام أن يضلني وأن يدخلني النار؟! فيقال له: هل تريد أن تنظر إليه؟ إنه في النار. فيقول: نعم. فتفتح له فرجة إلى النار فيرى صاحبه يتقلب في نار جهنم، فيطل عليه من شرفات الجنة بعد أن أنقذه الله من شره فيقول: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56 - 57]، ثم يفرح بهذا النعيم فيقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61]. هذه هي الحياة السعيدة التي يجب أن نبحث عنها، وأن ننقذ من وقع في شيء من هذه الورطات على أيدي هؤلاء الشريرين، أو جلساء السوء، ننقذهم من النار بقدر ما نستطيع، ولذلك فإن صحبة الأشرار تعتبر عقبة العقبات الكئود التي تعترض سبيل هذا الإنسان إلى الجنة. ذات يوم من الأيام صنع أبي بن خلف -لعنه الله- طعاماً دعا فيه كبار أهل مكة، إذاً لا بد أن يدعو محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! مائدة سيحضرها صناديد قريش وأنت في مقدمتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي! والله لا أحضر طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقام الرجل بدافع الكرم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته مع كبار القوم، فاستغرب القوم: كيف حضر محمد طعامك يا أبي؟! قال: شهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله. تصوروا يا إخوان موقف الجلساء الفاسدين! قالوا: والله يا أبي! لا نكلمك حتى تذهب وتبصق في وجه محمد، وتعلن ردتك عن الإسلام؛ فذهب الشقي البعيد فبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله بصاقه إلى وجهه فأصبح علامة في وجهه حتى مات، وأعلن ردته عن الإسلام، وندم الرسول صلى الله عليه وسلم أن خسر رجلاً من كبار أهل مكة، ونزلت الآيات في سورة الفرقان تعزي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وتنهاه أن يغضب مثل هذا الغضب لردة واحد من خلق الله، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29] بعد إذ هداه الله أضله هؤلاء القوم، يقول الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، ويعزي الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، ثم يبين الله عز وجل أن الهداية بيده وليست بيد الخلق: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]. إذاً: أيها الإخوة! جلساء السوء هم الذين يفسدون على الناس دينهم، وقصة أبي طالب لا تخفى عليكم، حينما كاد أن يدخل الجنة لولا جلساء السوء الذين حالوا بينه وبين الجنة، فقد حضر رسول الله صلى الله عليه عمه أبا طالب في ساعة الاحتضار، وكان أبو طالب ذا يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنكر، فهو الذي رباه، وهو الذي دافع عنه، بالرغم من أنه يكفر بدينه، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد له هذه اليد في ساعة الاحتضار، ودخل عليه وقال: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فالتفت الشقي إلى جلسائه، وكأنه يريد أن يأخذ رأيهم. قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! قال: هو على ملة عبد المطلب -نعوذ بالله- فخرجت روحه وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وأنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114])، هكذا أيها الإخوة يضر الجلساء بالجليس.

طول الأمل واستطالة العمر

طول الأمل واستطالة العمر الأمر السابع: طول الأمد واستطالة العمر، فقد يطول الأمد بواحد من الناس وهو على طريق مستقيمة، ثم يمل -نسأل الله العافية والسلامة- ثم ينحرف؛ لأنه سئم هذه الطريق، ولأن هذه العبادة أصبحت تتكرر عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، صيام شهر في كل سنة، عبادات لا يطيقها إلا المؤمنون، ولربما يطالب بالجهاد الذي سيقدم فيه نفسه وماله؛ فيطول عليه الأمد؛ فيكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16]، ولذلك فإن المسلم عليه ألا يستطيل العمر، وألا يستبطئ الموت، وعليه أن يبادر بالصالحات.

نشاط دعاة الباطل وضعف دعاة الحق

نشاط دعاة الباطل وضعف دعاة الحق الأمر الثامن: نشاط دعاة الباطل وضعف دعاة الحق، واسمحوا لي أن أقول: إن هذه من أكبر العقبات التي تعترض سبيل المؤمنين إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، ولا ينشط دعاة الباطل إلا حينما ينام دعاة الحق، ولا ينام دعاة الحق إلا حينما يخافون على أرزاقهم أو على حياتهم من غير الله عز وجل، ولذلك فإن دعاة الباطل هم كالخفافيش التي لا تنتشر إلا حينما يخيم الظلام، وهم كالفئران التي لا تنطلق في الأرض إلا حينما يسكن الجو وتفقد الحركة، ولكن حينما تكون هناك حركة -أي: دعوة- فإن هذه الفئران ترجع إلى مواقعها خاسئة ذليلة. إذا نشط دعاة الباطل، وسكت دعاة الحق أو أسكتوا؛ أصبح الأمر خطيراً تفسد الحياة، ويلتبس الأمر على الناس، ويختلط الحابل بالنابل، ثم تنزل عقوبة الله عز وجل على هؤلاء البشر وهم يخوضون كما تخوض البهائم في هذه الحياة. ولذلك فإن المرسلين عليهم الصلاة والسلام ختمت رسالاتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وانتهت الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحمل الأمانة كل عالم من علماء المسلمين ولو علم آية واحدة من كتاب الله عز وجل، وأصبح العبء يتحمله كل واحد من المؤمنين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، لستم كالأمم السابقة أخرجت لأنفسها، ولكنكم أخرجتم للناس. إذاً: الدعوة إلى الله عز وجل أمر مطلوب لا بد أن تنتشر في هذه الأرض، وإذا سكتت أو أسكتت فإن دعاة الباطل سوف يتحركون، وإذا تحرك دعاة الباطل حينئذ يهلك الحرث والنسل، وتفسد الحياة، وتسوء الأمور، وتنزل عقوبة الله عز وجل، ولا يتخلص بعد ذلك من هذه العقوبة إلا الذين ينهون عن السوء. إن الدعوة إلى الله عز وجل هي السبيل المثلى؛ بل هي السبيل الوحيد للوصول إلى الجنة ولإيصال الناس إلى الجنة، تصوروا يا إخوان! الدعوة إلى الله تدخل حتى الكافرين الجنة، كيف تدخل الكافرين الجنة؟ لأنها تسعى لهداية هؤلاء الناس، فيدخل حتى الكفار إضافة إلى المسلمين الجنة إذا التزموا بالمبدأ الذي دعا إليه المصلحون، والله تعالى يقول: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]، ولم يقل: لا نضيع أجر الصالحين، ففرق بين الصالح وبين المصلح، ولذلك أخبر الله تعالى بأنهم هم الذين يمسكون بالكتاب: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]. أيها الإخوة! دعاة الحق لا بد أن ينشطوا في كل عصر، ولا يجوز إسكات دعاة الحق، وإذا أسكت دعاة الحق فإن هذه الحياة لا تخلو من حركة، ولا تخلو من عمل، فسوف يتحرك دعاة الباطل، وهم الذين يكرهون الدولة، ويكرهون الإسلام، ويكرهون حكم الله، ويكرهون شرع الله، وأول أمنية وأكبر أمنية لهم أن ينتشر الفساد في الأرض، وأن يكون الدين لغير الله عز وجل. إذاًَ: أخطر طريق تعترض طريق المؤمنين أن توقف الدعوات، أو أن تناقش وتحاسب، أو ألا يفسح لها المجال في الأرض، هذا دين الله يا إخوان! والله لا بد أن يسير في الأرض ولو كره الناس كلهم أجمعون، لا بد أن يسير في الأرض، ولكن ننصح كل إنسان يريد الخير والسعادة؛ سواء كان على مستوى المسئولية أو على مستوى الأفراد، أن ينضم إلى هذا الصف، وإلى هذه المجموعة، ولذلك فإن هذا الدين لا يضيره أن يقف العالم كله في وجهه، ولكن يلزم كل من أراد السلامة والسعادة النفسية في الدنيا والآخرة أن يسير في هذا الخط وفي هذا الصف. أيها الإخوة! إذا نشط دعاة الباطل -وأخطر دعاة الباطل حينما يكونون من أبناء جلدتنا- فعلى الأمن والطمأنينة السلام، ودعاة الباطل إذا كانوا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فالخطورة أشد وأعنف.

فساد البيئة بالمعاصي والآثام

فساد البيئة بالمعاصي والآثام كذلك من العقبات: فساد البيئة، ونقصد بفساد البيئة: تلوثها بالمعاصي سواء كان فساداً في الإعلان، أو فساداً في الاقتصاد، أو فساداً في التربية، أو أي نوع من هذه الأنواع، وهذه تعتبر من أكبر العقبات التي توجه الناس وجهة منحرفة، لا سيما في وقت يغيب فيه دعاة الحق، أو لا يسمح لهم بكلمة الحق، فالبيئة الإسلامية يجب أن تكون طاهرة نقية، ومن هنا يكون جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمراً مطلوباً لا بد منه.

حب المركز وسوء الظن بالله

حب المركز وسوء الظن بالله الأمر الأخير من هذه الأمور: حب المركز وسوء الظن بالله عز وجل بأن الأجل بيد غير الله أو أن الرزق بيد غير الله عز وجل، وهذه من أكبر البلايا التي ربما تصرف الإنسان عن ربه إلى المخلوقين، مع أن الله تعالى أخبر بأن هناك كتاباً مؤجلاً فقال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، ولا يستطيع أحد أن يزيد في عمر الإنسان أو ينقص منه لحظة؛ لأنه مقدر من عند الله عز وجل، وحتى لو أصيب من قبل المخلوقين فهذا أجله الذي كتبه الله عز وجل عليه، ففيم يكون الخوف؟! أما الرزق فإن الله تعالى قد التزم لكل واحد من المخلوقين برزق أياً كان هذا المخلوق، حتى لو كان حشرة في جوف صخرة في قعر البحر، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، وحب المركز والمحافظة عليه قد يؤدي بهذا الإنسان إلى أن يتراجع عن دينه، أو أن يغفل عن ربه سبحانه وتعالى؛ حرصاً على هذا الأمر؛ لذلك فإني أختم حديثي هذا بقصة رجل من التابعين رضي الله عنه، عرضت عليه هذه المغريات لتصرفه عن الجنة وعن الله عز وجل فرفضها جميعاً، وقال بلسان الحال والمقال: أنا مسلم أبغي الحياة وسيلة للغاية الكبرى وللميعاد هذا الرجل الذي يحدثنا عنه التاريخ هو عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، نختصر قصته في كلمات يسيرة: عبد الله بن حذافة كان من القادة الذين اشتركوا في قتال الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان رجلاً شجاعاً ذكياً، توجد فيه كل صفات الرجولة، وقع في أسر الرومان، فجيء إلى قيصر الروم وقيل له: أيها الملك! إن في سجنك رجلاً لو كسبته لكان مكسباً عظيماً. فقال: جيئوني به، فلما مثل أمام قيصر قال له: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي! الآن يتنصر الكثير من المسلمين بأسباب تافهة، اثنا عشر مليوناً تنصروا في إندونيسيا وحدها في مدة ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، والدعايات التنصيرية الآن تسير في الأرض، ولربما يخدمها من أبناء جلدتنا. لو تنصرت -انظروا يا إخوان كيف الإغراء- شاطرتك ملكي! يعني: تكون شريكاً لي في حكم بلاد الروم. فقال: اخسأ يا عدو الله! والله لو كانت لي الدنيا كلها بأسرها ما تركت شيئاً من ديني. إذاً: هذه مؤامرة، مؤامرة المركز عرضت على هذا الرجل المؤمن، فرفض هذا المركز لأنه سيكون على حساب دينه، بخلاف الذين يتنازلون عن كل دينهم مقابل مركز أصغر من ذلك بكثير. فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في الثقل عليه، ثم استشار الخبراء والجلساء ماذا يفعل بـ عبد الله بن حذافة؟ فقالوا: الشهوة، فإنه شاب حدث قوي الجسم، له شهور عن أهله، لو عرضت عليه الجنس الذي يعرض الآن على كثير من الناس في وسائل الإعلام وفي الأفلام، حتى في الطيران بين السماء والأرض يعرض الآن. قالوا: الجنس لو عرضته على هذا الرجل فربما تكسبه. قال: جيئوني بأجمل فتاة في بلادنا. فجيء بها فأغريت بكل المغريات لو استطاعت أن تفتن هذا الرجل المؤمن. يقول المؤرخون: فتجردت عن كل ملابسها، ودخلت على عبد الله وهو يتلو القرآن، وهو مكبل بالأغلال، فوقعت في أحضانه، فقال: معاذ الله! إنه ربي، فهرب منها وصارت تلاحقه، وكلما اتجه إلى جهة ببصره لحقته، فانحرف ببصره عنها، ولم تستطع أن تنال منه نظرة واحدة؛ لأن الرجل قد امتلأ قلبه بخشية الله عز وجل، قالت: أخرجوني، فقابلها الصحفيون عند الباب: ماذا فعلت؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! فتحير قيصر الروم الآن، يريد أن يستعيد ماء وجهه مع هذا الرجل الغلام الذي استطاع أن يسقطه أمام قومه، فقالوا له: الموت، وكل الناس يخافون من الموت، فجيء بقدر عظيم وأشعلت تحته النار حتى تحول هذا القدر إلى قطعة من نار فقال: جيئوني بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الذين كان يأنس بهم كثيراً، فجيء بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الصالحين معه، فأوقف الاثنان على حافة القدر، فأمر قيصر أن يؤخذ الرجل -أي: صديق عبد الله بن حذافة - ويرمى في القدر، فرمي في القدر فطار دخانه، وكان يراقب عيني عبد الله؛ فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه وهو ينظر إلى صديقه المؤمن وقد احترق لحمه وعظامه، فظن أنه كسبه، فقال: يا عبد الله! خفت من الموت؟! أنت ستكون بعده، قال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلادك إلا أبحث عن الشهادة فكانت أمنيتي، ولكن دمعتي التي رأيتها حينما سبقني صاحبي هذا إلى الجنة وإلى الدار الآخرة، والله لقد كنت أسابقه إلى الجنة وكنت أتمنى أن أسبقه إلى الله عز وجل، فكان إذا صلى ركعتين في الليل صليت أربع ركعات في جوف الليل المظلم، وكان إذا صام يوماً في الهاجرة صمت يومين، وكنت أتمنى أن أسبقه، فالآن بكيت حينما رأيتني بكيت لأن صاحبي سبقني إلى الجنة. فتحير الرجل وعرف أنه لا يستطيع أن ينال من هذا الرجل منالاً إلى آخر القصة. أيها الإخوة! حينما نتحدث عن الوعورة في طريق الجنة لا نقنط الناس من رحمة الله عز وجل، ولكن نريد أن يفهم الناس أن في طريق الجنة عقبات، وأنه لا يقتحم هذه العقبة إلا ذو عقل عظيم، وذو رأي سديد، إلا من وفقه الله عز وجل لسعادة الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لي ولكم طريق الجنة والسعادة، وأن يهدي قادة هذه الأمة وفي مقدمتهم ولاة أمر هذه البلاد، أن يكونوا عوناً للناس إلى طريق الجنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سبعة يظلهم الله في ظله

سبعة يظلهم الله في ظله لقد وعد الله تعالى أن يظل في ظله أناساً قاموا بأعمال جليلة، وهذه الأعمال لا يتحمل مشقتها، ويجاهد نفسه عليها إلا من كان عالي الهمة، عميق الإيمان، وإنه لينبغي للمرء المسلم أن يعلمها، وأن يسعى في تحقيقها؛ لعله يكون من أهل ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.

الإمام العادل من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة

الإمام العادل من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ولم يخش في الله لومة لائم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد جاء في الأخبار أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وفي ذلك الموقف تدنو الشمس من الناس قدر ميل، فيشتد الحر في أرض المحشر، ويأخذهم العرق حتى يلجم بعض الناس إلجاماً على قدر أعمالهم، وفي ذلك الحر الشديد والموقف الرهيب يستظل أقوامٌ في ظل عرش الرحمن، وما هي إلا سويعات ثم يصيرون إلى منازلهم في الجنة قبل منتصف النهار من أيام الدنيا، كما قال الله عز وجل عن هؤلاء: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24]. في ذلك الموقف يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وقد صح في الحديث عن رسول الله عليه السلام أن من بين هؤلاء الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة سبعة قال عليه السلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا وذرياتنا وجميع المسلمين من هؤلاء الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة. وسنتكلم في هذه الرسالة الموجزة عن كل واحد من هؤلاء السبعة. نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

من هو الإمام العادل

من هو الإمام العادل العدل في مفهوم اللغة العربية هو: الإنصاف وعدم الميل والشطط، والتعامل مع الناس على حد سواء، دون أن تكون هناك فوارق أو محسوبيات، ودون أن تكون هناك أمورٌ لا يقرها الشرع ولا العقل. فالإمام العادل هو الذي يحكم بين الناس بحكم الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى لداود عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، هذا هو العدل! ولذلك أرسل الله المرسلين بالكتب السماوية من أجل أن يعدلوا بين البشر، بحيث لا يكون للمحسوبيات ولا للآباء ولا للأمجاد ولا للمراكز أي أثر في إقامة العدل بين عامة الناس، فالناس سواسية كأسنان المشط. إذاً: الإمام العادل هو الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فإن حكم بأحكام الطواغيت، وآراء الرجال، وأعرض عن شرع الله؛ فهو الكافر المرتد الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وهو الظالم لنفسه وللأمة الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وهو الفاسق الخارج عن طاعة الله، وليست له طاعةٌ على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. والأمة التي تتحاكم إلى هذا الجائر الحاكم بغير ما أنزل الله أمةٌ ضالة منحرفة عن النهج القويم والصراط المستقيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، ولم يقل: برأيك؛ لأنه حتى النبي عليه السلام ليس له أن يحكم برأيه، فضلاً عن أن يأتي رجل كافر أو حتى مسلم ليضع قانوناً للبشرية غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن البشرية لا يجوز لها أن تخضع لنظام غير نظام الله أو لشرع غير شرعه. الإمام العادل: هو الذي يقول الله عز وجل فيه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41]، أي: أعطيناهم سلطة، ونفوذاً، وتصرفاً، وأمراً ونهياً {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. هذا هو الإمام العادل يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الأمة ويؤتي الزكاة المفروضة، ويفرضها على الأمة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما لو وقف هذا الإمام ضد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس بعادل، ولم يؤدِ الأمانة والمسئولية التي أناطها الله عز وجل بعنقه، وسيسأل عن هذه الأمانة يوم القيامة: أحفظ أم ضيع؟ الإمام العادل: هو الذي لا يقدم نفسه على غيره، ولا يرى لنفسه حقاً على غيره، بل ويترفع عن حظوظ نفسه مقابل إقامة العدل في مجتمعه، ولا يتميز إلا بما ميزه الله عز وجل، أما هو فإنه يساوي بين حاشيته وبين نفسه وبين غيره.

العدل أساس قيام الدول

العدل أساس قيام الدول حينما نتتبع سير سلفنا الصالح، نرى أنهم لا يحكمون الناس إلا بالعدل؛ ولأجل ذلك ولدت دولة الإسلام في المدينة، وبعد مدة وجيزة بسطت نفوذها على أكثر الكرة الأرضية، حتى كان أحد خلفائها يرفع رأسه إلى السماء ليقول لسحابةٍ مرت وهو في بغداد: (أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين). وفي ظل هذه الدولة الإسلامية العادلة كان الراكب يسير من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً في دولة واحدة، وتحت رايةٍ واحدة، ليست هناك حدودٌ ولا حواجز تستوقفه لتقول له: من أنت؟ ولو قيل له: من أنت؟ لقال: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! في ظل العدل قامت هذه الدولة في مدةٍ وجيزة، لا تبلغ نصف قرنٍ من الزمان. وفي ظل الجور الذي يعيشه العالم اليوم تمزقت الدولة الإسلامية، فأصبحت عشرات الدول. فالعدل هو الذي يقيم الأمم كما أن الجور هو سبب دمار الشعوب والأمم، وشتان بين العادل والجائر؛ قال عليه السلام: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأما القاسطون -وهم الجائرون- فيقول الله عز وجل عنهم: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15].

العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لنا في سلفنا الصالح قدوةً في العدل والإنصاف، ابتداءً من رسول البرية عليه السلام، الذي ما كان يعرفه الأعرابي حين يقدم عليه إلى المدينة، فكان يدخل المسجد ويقول: أيكم محمد رسول الله؟! فلم يكن عليه السلام ليتميز حتى في مجلسه، أو في هيئته، أو في أي أمرٍ من الأمور. كان عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر يرص الصفوف للقاء العدو، وكان يمسح بيده الكريمة بطون القوم؛ ليتأكد من استقامة الصف، فيمر على أعرابي يدعى سواد بن غزية، فيمسح على بطنه، فيقول: (يا رسول الله أوجعتني!)، أتظنون أنه قال: خذوه إلى السجن؟! لا بل كشف الرسول عليه السلام عن بطنه وقال: (خذ حقك مني)، فيأتي هذا الصحابي ويقبل بطن رسول الله عليه السلام، فيسأل عن السر في ذلك، فيقول: (والله إنها لساعة أرجو أن تكون آخر عمري من الدنيا، وأريد أن يكون آخر عهدي بالدنيا تقبيل رسول الله عليه السلام، أو تقبيلي لبطن رسول الله عليه السلام). وذات يوم اختصم بلال وأبو ذر رضي الله عنهما في أمرٍ من الأمور، فقال أبو ذر لـ بلال: (اذهب يا ابن السوداء!، فغضب بلال وذهب إلى الرسول عليه السلام فأخبره، فغضب رسول الله عليه السلام وقال: أعيرته بأمه؟ ليس لابن سوداء على ابن بيضاء فضل إلا بالتقوى)، فمعيار التفاضل فيما بين الخلق هو التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فما كان من أبي ذر رضي الله عنه -وهو الرجل العربي الأصيل- إلا أن وضع خده على الأرض ليطأه بلال! هكذا يقر الإسلام قواعد العدل في الأمة، وحينئذ فليس في منظور الإسلام شريف ولا وضيع: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وكذلك المرأة المخزومية التي كانت تأخذ المتاع وتجحده، وأراد النبي عليه السلام أن يقطع يدها، فأراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها عند رسول الله؛ لئلا تلحق العار ببني مخزوم، وهم من أشراف قريش، فقال الرسول عليه السلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

العدالة عند أبي بكر وعمر

العدالة عند أبي بكر وعمر أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فهو الذي يستهل خلافته بقوله: (أما بعد فإني وليت عليكم ولست بخيركم)، وقد كان الخلفاء الراشدون يعتبرون ولاية أمر المسلمين تكليفاً لا تشريفاً، لا كما يعتبره كثيرٌ من ولاة المسلمين اليوم. ويقول أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: (القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)، هكذا يعلم ولاة أمر المسلمين كيف يتعاملون مع الله ومع الناس. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد أراد ذات يوم أن يقنن المهور لعل ذلك يكون حلاً للأزمة فقال ذات يومٍ وهو على المنبر: إن المهور باهظة فيجب أن تكون كذا وكذا فتقوم امرأة وتقول له: أخطأت يا عمر! إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً} [النساء:20]، فقال: أخطأ عمر وأصابت المرأة. ويقول ذات يوم: إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني، فيقوم سلمان الفارسي ويهز سيفه وسط المسجد ويقول: يا عمر! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول: الحمد لله الذي جعل في قوم عمر من يقومه بسيفه لو اعوج. لم يقل: خذوه إلى السجن، أو إلى التحقيق؛ لأنه يريد أن يحكم هذه الأمة بالعدل، ولذلك فليس غريباً أن ينام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويتوسد رداءه -وهو خليفة المسلمين- ليقول له شاهد عيان: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر. وفي ذات يوم أسلم رجل من نصارى العرب في بلاد الشام يدعى جبلة بن الأيهم، وكان رجلاً مرموقاً في قومه، ففرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أسلم هذا الرجل القيادي العظيم، وأسلم معه خلقٌ كثير، وطلب جبلة بن الأيهم من عمر بن الخطاب أن يأذن له ليعتمر، مع أنه لم يكن الطريق إلى العمرة مقفلاً، لكنه يريد أن يكون له موكبٌ خاص، فأذن له عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب جبلة إلى مكة، وهو حديث عهدٍ بجاهلية، وبينما هو يطوف ويجر رداءه في المطاف، كان وراءه رجل من فقراء المسلمين من فزارة، فوطئ على رداء جبلة بن الأيهم دون أن يشعر، فسقط الرداء، فالتفت جبلة فلطم الفزاري حتى انهدم حاجبه، فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! هذا ما فعل بي جبلة بن الأيهم. وكان في موكبٍ عظيم يطوفون حول الكعبة، فقال عمر: ائتوني بـ جبلة إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون على حساب الميل والجور، وإنما: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فجيء بـ جبلة ذليلاً أمام عمر، فقال له: يا جبلة! أأنت الذي هدمت حاجبه؟ قال: نعم. إنه وطئ ردائي. فقال الفزاري: والله ما علمت به يا أمير المؤمنين! فقال عمر: كتاب الله القصاص يا جبلة! يكسر حاجبك، فقال: كيف يا أمير المؤمنين؟! هو سوقة وأنا رجل من عظماء العرب، قال: ليس في ديننا سوقةٌ وعظيم، الكل في حكم الله سواء، فقال: إذاً أتنصر يا أمير المؤمنين! قال: لو تنصرت لقتلتك حد الردة. قال: أعطني مهلة ثلاثة أيام، فأعطاه مهلة ثلاثة أيام، فهرب الرجل في ليلةٍ مظلمة ومن معه إلى ملك الروم وارتدوا عن الإسلام. فلم يندم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ارتدوا عن الإسلام مقابل أن يقر قواعد العدل والإنصاف في الأمة الإسلامية. وحينما اختلف ابن لـ عمرو بن العاص مع رجل من أقباط مصر، حينما سابقه فسبقه القبطي فضربه ابن عمرو بن العاص، فأرسل عمر إلى عمرو يقول له: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!)، وأمر أن يُوقف ابن الأمير ليضربه الرجل القبطي وإن كان على غير ملة الإسلام.

العدل مع غير المسلمين

العدل مع غير المسلمين أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فقد فَقَد درعه ذات يومٍ في معركة صفين، فذكر له أن الدرع عند يهودي، فأخذ اليهودي إلى القاضي شريح، وقال للقاضي: هذا اليهودي أخذ درعي، فقال شريح لليهودي: أأخذت درعه؟ فقال: لا. فيلتفت إلى أمير المؤمنين علي -وهو الخليفة- ويقول: ألك بينة يا أبا الحسن؟ فيقول: والله ما عندي بينة! فقال: إذاً الدرع لليهودي! فلما ولى اليهودي رجع مؤمناً؛ لأن هذه الأخلاق تدعو إلى الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فسقط منك فأخذته. انظر يا أخي ماذا فعل العدل!! رد الدرع والحق إلى صاحبه، ودخل رجل يهوديٌ في الإسلام وحسن إسلامه، وانتهت القضية بالعدل، الذي لا يُحكم الناس إلا به. إن ديننا الإسلامي دين عدل حتى مع غير المسلمين، فلابد أن ينصفَ الكافرُ من المسلم إذا كان المسلم ظالماً، فهذا طعمة بن أبيرق كان رجلاً يدعي الإسلام، وفي ذات يوم سرق سرقة وأراد أن يلصقها برجل يهودي، وارتفع الأمر إلى الرسول عليه السلام، وجاء ناس من قوم طعمة يشهدون أن السارق هو اليهودي، حتى كاد النبي عليه السلام أن يعاقب اليهودي، لولا أن الله تعالى أنزل قرآناً يبرئه، ويأمر الرسول بالعدل والتحري، ويحذر المسلمين من أن يشهدوا ولو مع رجل مسلم ضد رجل كافر. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:105 - 107]، ولو كان مسلماً وذاك يهودي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:107 - 109]، ثم أخبر الله عز وجل أن الإنسان إذا عمل سوءاً فعليه أن يستغفر الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:110 - 112]، ولو كان يهودياً، ثم يقول الله تعالى لرسوله الله عليه السلام: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [النساء:113]. إذاً: هذا هو العدل الذي قامت عليه دولة الإسلام، ولو فتشنا عن أسباب سقوط الأمم؛ لوجدنا أن السبب الرئيس هو عدم العدل بين الرعية، فإن الأمم لا تقوم إلا على العدل ولا تستقر إلا بالعدل، ولذلك فإن العدل هو أفضل طريق إلى الجنة، ولرضا الله عز وجل، ولاستقرار الأمور وهدوئها.

فضل العدالة في إقامة الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله

فضل العدالة في إقامة الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله إن الإمام العادل هو الذي يقود سفينة الحياة إلى طريق أفضل، هو الذي يخلصها من الأمواج المتضاربة، والأزمات المدلهمة إن العدل هو الذي يفرض على من يتولى أمراً من أمور المسلمين أن لا يولي على أمورهم إلا كفؤاً. والعدل هو الذي يفرض على الإمام الذي يحكم بشرع الله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فلابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الأمة التي لا ترسخ فيها قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يفسح فيها الطريق للدعوة إلى الله عز وجل؛ أمةٌ في خطر؛ لأنها تكون قد فقدت أكبر وأعظم مقوم من مقومات البقاء والوجود في هذه الأرض، ويخشى عليها من عقاب الله عز وجل. إنه قد تأتي فترةٌ من الفترات، في زمن من الأزمنة، في مكان من الأمكنة ينشط دعاة الباطل، ويتكلمون ملء أفواههم، ويسكت دعاة الحق عن الدعوة إليه، وحينئذٍ يضطر دعاة الحق إلى أن يطالبوا بالعدل؛ فضلاً عن أن يطالبوا بأن تكون الكلمة للمصلحين لا للفسقة والمجرمين، هذا هو الذي يحدث في كثيرٍ من الأحيان في أيامنا الحاضرة في جل العالم الإسلامي. ولذلك فليس من العدل أن يتحرك دعاة الباطل ويسكت دعاة الحق؛ لأنه إذا تحرك دعاة الباطل وسكت دعاة الحق فإن المصيبة لن تكون في الجور وعدم العدل فقط، ولكنها مصيبة الفساد العريض الذي سيصيب الأمة، ولذلك نقول لمن ولي أمراً من أمور المسلمين: اتق الله! واترك المجال للدعوة إلى الله عز وجل، فإن دعاة الباطل وإن ابتسموا في وجوه الناس، أو في وجوه ولاة الأمر، فهم الذين يحملون الحقد الدفين على هذه الأمة، وعلى أي حكومةٍ شرعية تقوم على منهج الكتاب والسنة، أما دعاة الحق فهم الذين يشعرون دائماً بالعهد والميثاق الذي أبرموه بينهم وبين الله عز وجل من جانب، وبينهم وبين السلطة الشرعية من جانب آخر، وهم الذين يحرصون كل الحرص أن تكون على ما يرضي الله عز وجل، وأن تكون الأمور على ما يرضي الحاكم بشرع الله عز وجل. إن مفهوم الإمام العادل ليس مقصوراً على من تولى الإمامة الكبرى فحسب، وإن كان هذا أول ما يتبادر إلى الذهن، لكن كل من ولي أمر المسلمين فإنه سيسأل بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن هذه المسئولية، وعن هذه الأمانة التي تحملها، وهي الأمانة التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. إن الإمام العادل الذي يحكم الناس بشرع الله، ويطبق فيهم أوامر الله عز وجل، ويفسح الطريق للدعوة إلى الله من أجل أن تسير الأمور إلى الأفضل، هو أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة. أما الإمام الجائر الذي يسير بالأمة في طرق منحرفة معوجة، ويرى أن الحق له دائماً وليس هناك حق عليه الذي يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ولا يفكر أنه سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ذلك الحساب الذي ينشر له فيه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال له في ذلك الموقف: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14]؛ فإنه على خطر عظيم، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل قبل فوات الأوان.

بطانة السوء وانحراف الحكام

بطانة السوء وانحراف الحكام إنه قد يقع ممن ولاه الله عز وجل شيئاً من أمور المسلمين انحراف وزيغ وميل وجور، وحينما نبحث عن الأسباب التي أدت به إلى هذا الانحراف؛ مع أنه يحكم بشرع الله، وهو مستخلف من قبل الله عز وجل في الأرض: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، حينما نبحث عن الأسباب نجد أن هناك أسباباً كثيرة لعل من أهمها: بطانة السوء التي تحيط بالرجل فتضيق عليه الخناق، وتزين له ما حرم الله عز وجل، وقد ربما تغريه بالمؤمنين؛ لأن هذه البطانة منحرفة، فتريد أن ينحرف معها هذا المسئول؛ ومن هنا تختل قواعد الأمن والعدل في هذه الحياة، وحينما تختل قواعد العدل تفسد الحياة كلها. وإنما تسلطت هذه البطانة على هذا الحاكم؛ لأنه أعرض عن دين الله وعن كتاب الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وليس الشياطين شياطين الجن فقط، بل إن شياطين الإنس أكثر وأشد، وقد يفسدون في حياة البشر أكثر مما يفسده شياطين الجن. إن شيطان الجن يهرب منك إن استعذت بالله منه، لكن هذا الشيطان -شيطان الإنس- يدنو منك ويقترب مع أنك تستعيذ بالله منه {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، لا يفارقه أبداً حتى في حال نومه، فهو دائماً معه يقول له: افعل كذا لا تفعل كذا حتى يفسد عليه دينه، وفي يوم القيامة يوم القدوم على الله عز وجل، يندم ذلك الذي انجرَّ وراء هذا الشيطان من شياطين البشر، ولكن ولات ساعة مندم {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]. لكن هذا لا ينفعه في ذلك اليوم، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، فهو وشيطانه الذي كان سبباً في ضلاله في عذاب أليم. إنه من فضل الله على هذا الإمام العادل أنه يكون في مقدمة السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة، فحري بمن ولي أمراً من أمور المسلمين أن يكون عادلاً؛ حتى ينال هذه المكرمة العظيمة، وإنه لمن الخسارة بمكان أن يفرط في هذا الأمر العظيم، فيخسر خسارة لا ينفع معها مال ولا بنون ولا سلطان ولاجاه.

الشاب الذي ينشأ في عبادة الله يظله الله في ظله يوم القيامة

الشاب الذي ينشأ في عبادة الله يظله الله في ظله يوم القيامة الثاني من هؤلاء السبعة: قال رسول الله عليه السلام: (وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل).

الاستبشار بشباب الصحوة

الاستبشار بشباب الصحوة كيف نشأ في عبادة الله؟ لقد تربى هذا الشاب في بيئة صالحة، رعته أبوة وأمومة تعطف عليه، وليست العاطفة هي السهر لمرضه، والبحث عن علاجه وعن قوته فحسب؛ لكنها العاطفة التي ترتبط بروحه، وتربيه تربية صالحة في بيئة طاهرة، ينشأ فيها هذا الشاب ليست ملوثةً بالأغاني، واللهو، واللعب، والعبث، والمحرمات إنه الشاب الذي ليست له صبوة، كما قال الرسول عليه السلام: (إن الله عز وجل يعجب من شابٍ ليست له صبوة!). إننا حينما ننظر إلى شباب الصحوة اليوم نتذكر هذا العنصر من عناصر هذا الحديث الصحيح. لقد مرت الأمة بظروف حرجة حتى كان يقول القائل: سينتهي الإسلام حينما يموت فلان وفلان من الناس، فإذا بها تخيب كل توقعاتهم، وتفسد كل حساباتهم، ويخر عليهم السقف من فوقهم، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، في فترة كانوا يظنون أن الإسلام وأن الخير سوف يودع هذه الأمة بعد فترة وجيزة، فإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. إن كثيراً من شباب الصحوة الإسلامية لم ينشأ حتى في بيت محافظ، ففي بيوتهم كثيرٌ من المحرمات، ولربما يكون سلوك الأب غير سلوك الابن لقد كان منذُ مدةٍ ليست بالقريبة يشتكي الآباء من الأبناء، وفي أيامنا الحاضرة نجد أن الأبناء هم الذين يشتكون من الآباء؛ إن هؤلاء الشباب الذين ولدوا على الفطرة هم الآن يعودون إلى الفطرة والحمد لله. إن هذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله لم يتربَّ في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام الغانيات والراقصات، ولا أمام المسرحيات والمسلسلات هذه الوسائل المفسدة التي قد غزت جميع بيوت المسلمين؛ فلم تدع بيت شعر ولا مدر -إلا ما شاء الله- إلا ودخلته. هؤلاء الشباب الذين تربوا على طاعة الله عز وجل، قد أغمضوا أعينهم عن كل هذه الوسائل، وإن كانت تغزوهم في عقر دارهم، وتتابعهم آناء الليل وآناء النهار، ولكن بالرغم من هذا يأبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يظهر هذا النور على الدين كله، وأن يظهر هذا الخير في فترةٍ كانت الحسابات تقول غير ذلك.

نماذج من السلف للشباب الصالح

نماذج من السلف للشباب الصالح هناك نماذج مشرقة من سلفنا الصالح رضي الله عنهم، تبين كيف كان شبابهم، وما هي همومهم وطموحهم نعرضها سريعاً: فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه، يقود جيشاً إلى بلاد الشام وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان في مقدمة هذا الجيش أكابر المهاجرين والأنصار. لقد كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه شاباً في مستهل حياته، اشتكته زوجته إلى رسول الله عليه السلام وقالت: (يا رسول الله! إن عبد الله لم يطأ لنا فراشاً!! لأنه كان يقوم الليل ويصوم النهار، فنهاه النبي عليه السلام، وقال له: إن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً). إلى هؤلاء الشباب الذين يسابقون الفتيات اليوم على الموضات، والذين نستطيع أن نقول: إنهم أنصاف أو أرباع أو أشباه رجال، وأنهم أقرب إلى النساء في كثيرٍ من الأحيان منهم إلى الرجال! نقول لهم: إن محمد بن القاسم قاد جيشاً ليفتح لنا شبه القارة الهندية وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة! لقد كان الشباب في عهد النبي عليه السلام، يقف أحدهم على رءوس أقدامه؛ ليراهم النبي عليه السلام كبار الأجسام حتى لا يعفيهم من القتال في سبيل الله!! كم هو الفرق بين أولئك الشباب وبين شبابنا اليوم؟! إن الفرق كبير والبون شاسع، ولكن لنا أمل في شباب الصحوة الإسلامية المباركة، أن يعز الله بهم الإسلام والمسلمين. وفي غزوة بدر يأتي الشابان الصغيران، اللذان لم يبلغا الحلم بعد، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء، فيطلبان أبا جهل، ويبحثان عنه أشد البحث يا ترى لماذا هذا كله؟! من أجل أن يقتلا فرعون هذه الأمة؛ لأنه كان يسب رسول الله عليه السلام فوجداه بعد بحث طويل، وعناء كبير، فتسابقا على قتله، حتى قتلاه وأراحا هذه الأمة منه. أين شبابنا الذين أصبح هم أحدهم كيف يشبع شهوة بطنه وفرجه من أولئك الشباب؟! إن الشاب الذي ينشأ في عبادة الله عز وجل -إضافةً إلى كونه عضواً فاعلاً ونافعاً في مجتمعه- هو في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.

تعلق القلب بالمساجد من أسباب دخول المرء فيمن يظلهم الله يوم القيامة

تعلق القلب بالمساجد من أسباب دخول المرء فيمن يظلهم الله يوم القيامة ثالث هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).

العلاقة بين الرجولة وتعلق القلب بالمسجد

العلاقة بين الرجولة وتعلق القلب بالمسجد كيف يكون القلب معلقاً بالمساجد؟ إن هذا الرجل قد أحب المسجد وألفه حتى اختلط حب المسجد بدمه ولحمه وعظمه، فصار المسجد أحب إليه حتى من بيته، وصار إخوانه الذين يرتادون المساجد أحب إليه من أصدقائه، وأقرب إليه من أهله وذويه. إن القلوب إذا تعلقت بالمساجد ازدادت إيماناً وهدىً وتقوى، وهناك في المساجد يتربى الرجال، لا في المسارح وأمام الأفلام والملهيات فالمساجد مصانع الرجال، ومن المساجد تنطلق وتنهض الأجيال، وإن المؤمنين لا تتعلق قلوبهم إلا بالمساجد، ولذلك يقول الله تعالى عن المساجد: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، ليسوا ذكوراً فحسب، ولكنهم رجال؛ لأن كلمة (رجل) تحمل معنيين: الأول: ذكر، والثاني: رجل مكتمل الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة (رجال) في القرآن ولا في السنة إلا وتعني رجالاً عظاماً، قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [الأنبياء:7]، وهكذا كلما تتبعنا كلمة (رجال) وجدناها تحمل هذا المعنى، أي: أنهم اكتملت الرجولة عندهم. ولذلك فإن أصحاب المساجد هم الرجال حقيقة، قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، وقد جاءت هذه الآية بعد آية تتحدث عن نور الإيمان الذي يكون في القلب، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35]، أي: مثل الإيمان الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، وليس المعنى: أن النور اسم من أسماء الله؛ لأنه لو كان اسماً من أسماء الله لما جاز تشبيهه بغيره، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، ثم يقول الله بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]. قال المفسرون: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بقوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ)، وكأن سائلاً سأل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كالمشكاة، وهي الكوة غير النافذة، وفي هذه الكوة سراج، وهذا السراج عليه زجاجة، والكوة تعكس الضوء إلى الأمام، والزجاجة تزيد هذا الضوء، وهذا السراج يوقد من شجرة الزيتون التي تصيبها الشمس في وقت الشروق ووقت الغروب؟ هذا ضوء عجيب! فيقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]. فإذا أردت -يا أخي- أن تبحث عن هذه القلوب النيرة المضيئة فلن تجدها في المسارح، ولا أمام الأفلام، ولا أمام اللهو والموسيقى، والمسرحيات والمسلسلات التي ابتلي بها كثير من المسلمين اليوم، وانتشرت في بيوت المسلمين انتشار النار في الهشيم، وحلت محل ذكر الله وتلاوة كتابه المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذه القلوب لم تترب في تلك الأماكن، وإنما تربت في المساجد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، أي: أن هذا الإيمان ولد وتربى ونشأ في هذه البيوت، ومن هنا يذكر الرسول عليه السلام من هؤلاء السبعة: (ورجل قلبه معلقٌ بالمساجد).

استنهاض الهمم للتعلق بالمساجد

استنهاض الهمم للتعلق بالمساجد والتعلق هنا ليس حقيقة فإن قلوب الناس لا تعلق بالمساجد، وإنما هو كناية عن ارتباط هذا القلب بالمسجد، حتى أصبح المسجد هو مقره الرئيس، فهو عندما يخرج إلى بيته، أو إلى سوقه، أو إلى شغله، أو إلى أمرٍ من أموره، يخرج ويترك قلبه في المسجد، فإذا صلَّى الظهر عد الدقائق واللحظات حتى يأتي وقت العصر، فإذا صلَّى العصر فهو كذلك حتى يحين وقت المغرب وهكذا؛ فهو يرقب الساعة وقلبه معلقٌ بالمسجد، وجل همه وفكره هو الصلاة في المسجد، بل إن جميع شئون حياته، وكل تصرفاته، وبيعه وشرائه، وجميع أحواله يجعلها بعد الصلاة، أي أن الصلاة تتقدم على كل حياته؛ لأن قلبه معلق بالمسجد. كم هو الفرق بين هؤلاء الرجال، وبين رجال قلوبهم معلقة بزينة الحياة الدنيا ومتاعها؟! حتى إن أحدهم إذا دخل إلى المسجد تجده يصلي وهو يخطط كيف يكسب في هذه التجارة، وكيف يتعامل، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يبني ويهدم؟! وأشد من ذلك قوم قلوبهم معلقةٌ بالمحرمات، ينتظرون العطل والإجازات؛ ليفروا من المجتمع المحافظ كما يفر الطير من القفص، إلى بلاد الكفر والفسوق والعصيان؛ ليشبع رغباته وشهواته، وليفسد على نفسه وعلى أمته دينها وأخلاقها. لقد كان الرسول عليه السلام لا يقدم على الصلاة شغلاً، بل حتى في ساعة المعركة أمره الله عز وجل أن يقيم الصلاة جماعة، والرءوس تتطاير، والدماء تراق، والأنفس تزهق، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]. هذا هو منهج المسلم، عليه أن يجعل الصلاة أهم أعماله، لا أن يضعها على هامش الحياة كما هو حال كثير من الناس، بل حتى في المعركة، وقد حمي الوطيس، لابد أن تقام الصلاة جماعة، ولو أدى ذلك إلى تغيير شيء من حركات الصلاة وهيئاتها، فيسجد صف ويبقى صف يحرس المسلمين في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يسجد الصف الثاني ويبقى الصف الأول يحرس المسلمين وهو يصلي. كم هو الفرق بين هذا الأمر وبين الواقع الذي يعيشه كثير من الناس؟! إذا طال عليهم الليل تخلفوا عن صلاة الفجر؛ لأن البرد شديد، وإذا قصر الليل تركوا صلاة الفجر؛ لأن الليل قصير، وما هذا إلا لأن الإيمان ضعيف في نفوس كثير من هؤلاء الناس، حتى أصبح إيمانهم لا يرشدهم إلى المسجد، فضلاً عن أن يدفعهم إلى الجهاد، وإلى إراقة الدماء في سبيل الله. إن الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ولا يؤذيهم العرق، ولا يزعجهم الحساب: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103].

المتحابان في الله يظلهم الله في ظله يوم القيامة

المتحابان في الله يظلهم الله في ظله يوم القيامة رابع هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). إن هذين الرجلين ليست بينهما صلة نسب ولا قرابة، ولا مال، ولا شركة، ولا مصالح، وإنما هي محبة في الله سبحانه وتعالى من أجل دين الله، من أجل هذا الحق الذي جاء به محمد عليه السلام من عند الله تعالى، كانت هذه المحبة والعلاقة بين رجلين أو بين امرأتين؛ لأن ذكر الرجل هنا ليس خاصاً بالرجال، بل إن النساء يدخلن في مثل هذا الحكم. إن المحبة في الله هي أوثق عرى الإيمان، والمتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة. وإن شرط المحبة أن تكون خالصة لله، قال عليه السلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، إن هذه الصفات إذا وجدت عند العبد المؤمن فإنه سيجد حلاوة الإيمان، والتي منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. إن هناك علاقات كثيرة قائمة على معصية الله، وقائمة على أمور الدنيا، وعلى الفساد في الأرض، وعلى المباحات في كثير من الأحيان، لكنها لا تدوم أبداً. ولذلك أخبر الله تبارك وتعالى بأن كل العلاقات التي هي قائمة بين البشر في الحياة الدنيا على غير طاعة الله وتقواه -أنها منتهية؛ بل تتحول يوم القيامة إلى عداوة محضة، قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقد تتحول العلاقات التي تبنى على غير طاعة الله إلى خصومة ونزاع في الحياة الدنيا، وهذا يحدث كثيراً؛ لأنها لم تقم على أساس صحيح، وإن لم تفسد هذه العلاقات في الحياة الدنيا فسوف تفسد في الحياة الآخرة، بل إن المتحابين على غير طاعة الله يلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68]، وقال تعالى عن الكفار إذا ألقوا في النار: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، هكذا هم في الآخرة، لكنه في الدنيا كان يفديه بالروح وبالدم، وربما أظهر له الولاء الكامل وهو كاذب.

اختيار الجليس الصالح

اختيار الجليس الصالح إنه لابد على المؤمن أن ينظر من يصاحب (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي). احذر مصاحبة الأشقياء، فإن مصاحبتك لهم كالجلوس عند نافخ الكير، فلابد أن ينالك منه شيء من الأذى إما أن يحرق ثيابك، أو -على الأقل- تجد منه رائحةً خبيثة، وعليك بمرافقة الصالحين، وابحث لأولادك عن صحبة صالحة، فإن الجليس الصالح كبائع المسك، إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تجد منه -على الأقل- رائحة طيبة. وأكثر من ضل عن الطريق إنما كان بسبب قرناء السوء، وجلساء الباطل، والبطانة الفاسدة التي تزين لهم السوء، وتبعدهم عن طاعة الله عز وجل، وقد يوقعون بين المؤمنين، ويؤججون بينهم العداوة. يروى أن أحد خلفاء بني أمية كان جالساً في مجلسه وفي كبريائه، فمر عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وكان رجلاً صالحاً، وقد كان عند الخليفة جليس صالح وجليس فاسق، فقال الجليس الفاسق للخليفة: يا أمير المؤمنين! هل تعرف هذا؟ قال: لا. قال هذا الذي يقول: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فقال: ائتوني به، وأراد أن يفتك به. فقال له الجليس الصالح: يا أمير المؤمنين! وهو الذي يقول أيضاً: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا فقال: أطلقوه! إذاً: هذا هو الفرق بين الجليسين، ولذلك فإن على المرء المسلم أن لا يتخذ جليساً سيئاً، ولا يخالطه، بل ولا يجعله له سكرتيراً، ولا مدير مكتب، ولا بطانة؛ لأنه سوف يسخر أمامه بالمؤمنين، ويضحك منهم، ويتتبع هفواتهم، بل عليه أن يبحث عن الرجال الصالحين، الذين يدلونه على الخير، فإذا فعل خيراً شجعوه، وإذا نسي خيراً ذكروه، وإذا غفل نبهوه هكذا تكون البطانة الصالحة، وهكذا يكون الجلساء الصالحون. إن المتحابين بجلال الله تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، وهم بعد ذلك على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء، وهم الذين يعيشون حياةً سعيدة في هذه الحياة الدنيا حياة مشتملة على طاعة الله ومرضاته، خالية من معصية الله وما يغضبه.

الولاء والبراء من جنس المحبة

الولاء والبراء من جنس المحبة إن المسلم مطالبٌ أن يكون ولاؤه للمؤمنين، وهذه هي المحبة في الله، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. أما الذين يوالون الفسقة، وربما يوالون الكفرة، فإنهم على أمر خطير: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. إذاً: الولاء لغير الله، ولغير أولياء الله، ولغير الصالحين؛ معصية عظيمة، وجريمة منكرة، سوف يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.

صدقة السر سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله في ظله

صدقة السر سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله في ظله خامس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل تصدق بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). لقد مدح الله سبحانه وتعالى صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل من صدقة السر؛ وذلك إذا كان هناك حاجة إلى إعلان الصدقة، كالرجل الذي جاء بصرة وقدمها إلى النبي عليه السلام، فجعل الناس يقتدون بهذا الرجل ويقدمون صدقاتهم. لكن الأصل أن الصدقة تكون سراً؛ لأن الصدقة إنما سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه إذا أخرجها سراً فإن هذا دليل على أنه لا يريد ثناءً من الناس؛ فإن هذا الثناء قد يجر إلى الرياء والسمعة. وقال عليه السلام مادحاً صدقة السر: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)، وهذا الرجل قد تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وذلك كناية عن شدة إخفائه عند إخراج الصدقة. إذاً: أفضل أنواع الصدقة هي صدقة السر. لذلك على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك صدقة السر، ولو بشيء يسير، فقد كان بعض السلف يتصدق كل يوم، فإذا لم يجد أحياناً تصدق ببصلة يقدمها إلى فقير. إن أصحاب صدقة السر هم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.

الخوف من الله سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله

الخوف من الله سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله سادس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله). من يستطيع أن يفعل مثل هذا الموقف؟! شاب شهوته متأججة مشتعلة، والفتن والمغريات كثيرة أفلام، ومسلسلات، ونساء، واختلاط، وعشق وغرام، وموسيقى وأغان تملأ الأسواق والبيوت أمور كثيرة تؤجج الشهوة وتشعلها، وقد تكون المهور غالية فلا يستطيع أن يتزوج، ثم تعرض له شهوة من شهوات الحياة الدنيا، وليس هناك أحد يطلع عليه إلا الله عز وجل قد أسدل الأستار، وأخفى أمره في ظلام الليل، ثم تدعوه امرأة ذات منصب -أي: مكانة عالية- وجمال، وتقول له: تعال للفاحشة! فهل سيترك هذا الشاب تلك الفاحشة بعد تلك المغريات، وبعد تلك الأمور التي شحذت شهوته وأشعلتها في قلبه؟! نعم إنه يستطيع أن يتركها إن كان من الأتقياء الصالحين؛ لأنه يعرف أن هذه الشهوة سوف تحرمه شهوةً خالدة ونعيماً لا يزول، فيقول كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. هكذا يجب أن تكون الخشية لله عز وجل، وإن هذه الخشية التي تنتهي بدمعة حارة تنزل على الخد، وقد غاب هذا الإنسان عن أعين الناس، لا يمكن أن تلين لأجل مخلوق من المخلوقين. إن هذه الخشية هي التي نريد أن نتحلى بها جميعاً؛ بل إننا أشد حاجة إليها من حاجتنا إلى الطعام والشراب والهواء في أيامنا الحاضرة؛ لأن الفتن قد كثرت وانتشرت، واعترضت طريق المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وأصبح كثير من الناس يخوَّف بغير الله عز وجل: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، لقد خاف كثير من الناس من غير الله عز وجل في هذا السبيل، فحصل خلل لا في جانب العمل والسلوك فحسب، بل في جانب العقيدة والتوحيد. إن الخشية من دون الله عز وجل ليست معصية فحسب، ولكنها نوع من الشرك لماذا تكون الخشية لغير الله عز وجل؟ أليست قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! أليس الرزق والحياة والموت والنشور كله بيد الله عز وجل؟! أليس البشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟ أليست الأرزاق مقسومة ومقدرة من لدن حكيم خبير؟ أليست الأعمار مقدرة في كتابٍ مؤجل لا يستأخر عنه الإنسان ساعة ولا يستقدم؟ إذاً: فلم الخشية من غير الله عز وجل؟

من الذين يظلهم الله رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه

من الذين يظلهم الله رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه سابع هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). لقد ذكر الله تعالى في مكان لا يطلع عليه أحد، ولا يراه إلا الله عز وجل، فعظم الله تعالى في قلبه، وتصور كبرياءه وجبروته، وأنه مالك الملك لا إله إلا هو خالق السماء ورافعها، وباسط الأرض وداحيها، الذي بيده مقادير الأمور، يعلم كل صغيرة وكبيرة تذكر هذا كله فدمعت عيناه خشية من الله، وخوفاً منه سبحانه، وتعظيماً له، وإقراراً بجبروته وملكوته. لقد قلَّب فكره في ماضي أيامه، فمرت أمام عينيه صفحة سوداء من ذنوبه وآثامه، ومعاصيه وجرائمه؛ تذكر هذا كله وتذكر أن له رباً يغفر السيئات، ويتجاوز عن المعاصي والمهلكات، ويدعو عبده ليستغفر من الذنوب والزلات فنزلت على خده دمعة حارة صادقة من قلب خاشع قانت، معترف بذنوبه وآثامه، نادم على تفريطه وإجرامه دمعة يرجو بها من الله أن يغفر له ما مضى، وأن يتجاز له عما سلف. إن هذا الرجل قد بكى من خشية الله وهو في خلوة لا يراه فيها أحد، وقلبه خالٍ من التعلق بالدنيا، وهذا يدل على صدق إخلاصه لله رب العالمين، وتجرده عن الرياء والسمعة، أو مدح الناس وثنائهم، بل إنه يرجو الثواب من الله وكفى، فلما كانت هذه حاله لم يعد يهمه نظر الناس إليه ما دام أن رب الناس ينظر إليه. إن هذا الرجل لما كان كذلك استحق أن يكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. وقد ورد في البكاء من خشية الله أحاديث عن النبي عليه السلام، منها حديث أبي ريحانه رفعه: (صرفت النار عن عين بكت من خشية الله). وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله). رواه الترمذي والحاكم وصححه. لقد دمعت عين هذا الرجل خشية لله عز وجل، وخوفاً منه سبحانه، وإن هذا السلوك لمن صفات عباد الله المتقين وأوليائه الصالحين، الذين يراقبونه في جميع تحركاتهم وتصرفاتهم، ويعلمون أنه سبحانه مطلع عليهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يغيب عنه شيء وإن كان مثقال ذرة أتى بها وحاسب عليها. إنه لما استقر هذا الأمر في قلب هذا العبد المؤمن، وعرف أن الله تعالى مطلع عليه دمعت عيناه خشية من ربه ومولاه. إن الخشية يجب أن تكون لله عز وجل وحده، ومن هنا سوف تنزل هذه الدمعة الصادقة، التي لو كانت كرأس الذباب -كما أخبر الرسول عليه السلام- فإنها سوف يكون لها وزنٌ في ميزان العبد يوم القيامة أكثر من كل أعماله التي يقدم بها على ربه سبحانه وتعالى. وفي الأخير نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إقامة صلاة الجماعة

إقامة صلاة الجماعة لقد أثنى الله تعالى على الذين يعمرون مساجد الله وشهد لهم بالإيمان وعمارتها تكون بالعمارة الحسية وهي بناؤها، وبالعمارة المعنوية وهي عمارتها بالذكر والطاعة والعبادة، ومن ذلك إقامة الصلاة فيها مع المسلمين؛ فإنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فيجب على المسلم أن يحافظ عليها في جماعة إلا من عذر.

مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن

مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة في الله! اتقوا الله تعالى، يقول سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:35 - 38]. أيها الإخوان! هكذا يضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنوره الذي يقذفه في قلب المؤمن بمشكاة فيها مصباح، هذا المصباح في زجاجة، هذه الزجاجة كأنها كوكب دري إنه نور الإيمان، إنه نور العقيدة الذي يقذفه الله في قلب من قلوب عباده المؤمنين، وكأن سائلاً سأل: أين توجد هذه القلوب؟ وأين ينمو هذا النور؟ فقال سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. إنها المساجد، إنها بيوت الله عز وجل، وهي أحب البقاع إليه سبحانه، وأحب عباده إليه أكثرهم زيارة إلى بيوته.

دور المساجد في الإسلام

دور المساجد في الإسلام هذه المساجد هي التي يقول سبحانه وتعالى عنها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، فأمر وأوجب وشرع أنه لابد أن ترفع وتقام، ولابد أن تبنى حسياً وتطهر وتنظف من أجل أن تقام فيها أفضل فريضة، ومن أجل أن يؤدي فيها المسلمون أعظم شعيرة، ولذلك فقد وضع صلى الله عليه وسلم الحجر الأساسي لهذه المساجد يوم أسس أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم، ذلكم المسجد هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم في أول لحظة شرف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، ثم بنى مسجده -المسجد النبوي- ليكون مركزاً لإشعاع الحضارة في الدنيا كلها. وهكذا كانت المساجد تؤدي هذا الدور منذ تلك الفترة، وستبقى هذه مهمتها إلى يوم القيامة، فقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً للخير كله، وكانت الجيوش تدرب فيه، وفيه كان المسلمون يتلقون العلم في مجالس العلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم على يدي السلف الصالح من بعده، وكانت المساجد قطب رحى الحياة، وقد أدرك المسلمون أهميتها، فانطلقوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم أجمع؛ يبشرونهم بهذا الدين، وينشرون تعاليمه، وبقيت المساجد تؤدي هذه المهمة إلى أن فصل عدونا بين ديننا وبين حياتنا، فأصبحت المساجد في نظر طائفة من الناس لا تؤدي هذه المهمة، وأصبحت زاوية من زوايا الحياة المهجورة في كثير من بلاد الإسلام، بل في أعمها؛ إذ لا يأوي إليها في كثير من الأحيان إلا الشيوخ والعجزة، أما طائفة كبيرة من الشباب، وأما أصحاب المراكز، وأما أصحاب المادة فكثير منهم مشغول عنها، ومن هنا هبطت رسالة المسجد في رأي طائفة من الناس، وأصبح كثير من شبابنا لا يعرفون الطريق الموصلة إليه، فلا يعرفونه أبداً، وربما يعرفون الطريق في يوم الجمعة، ولربما يؤدون الصلاة في المسجد في رمضان، وإن كان طائفة منهم لم يعرف المسجد ولم يدخله إلا حينما يقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة. ومن هنا فقد المسلمون رسالة المسجد، وفقدت حلق العلم ومجالس الذكر فيه؛ بل أصبحت المساجد تشكو في بلادنا هذه أنها لا تفتح إلا حينما يحين موعد الصلاة، وكأنها تشبه كنائس النصارى أو معابد اليهود! وهذه الرسالة لابد أن يعود المسلمون إليها؛ لينطلق المسلمون انطلاقتهم الثانية من المسجد. فالمسجد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدرسة، هذه المدرسة هي التي يمكن أن ينطلق منها المسلمون بعد أن يتربوا في أحضانها منذ سن السابعة وحتى سن العاشرة، وإلى أن يكونوا رجالاً يدركون الواجب المقدس في أعناقهم.

الأمر ببناء المساجد

الأمر ببناء المساجد معشر المسلمين! أمر الإسلام ببناء المساجد وتشييدها وتنظيفها وتطهيرها، فقال سبحانه وتعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، أي: أن تبنى وتشاد. وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على بنائها فقال عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة). وروى البيهقي بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتبع المرء من عمله وحسناته بعد موته: علم علمه ونشره، أو بيت لابن السبيل بناه، أو مسجد بناه، أو نهر أجراه، أو مصحف ورثه، أو ولد صالح تركه، أو صدقة أجراها في حياته تتبعه بعد موته)، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. فحينما نبني هذه المساجد ابتغاء مرضاة الله وننفق أموالنا رجاء ما عنده؛ فإننا نكون قد أعددنا لأنفسنا بيوتاً في الجنة. وإن أخوف ما أخافه على هؤلاء الأثرياء الذين من الله عليهم بالمال ألا يبذلوا شيئاً لخدمة هذه المساجد وبنائها، حتى إذا شعروا بالموت قد دنا بدءوا يوزعون المال هنا وهناك، وربما يوزعونه في طرق الخير حينما يكونون على فراش الموت، ونسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا). معشر المسلمين! لابد أن ننفق هذا المال في وجوه الخير، فقد من الله علينا بأموال كثيرة، وبلادنا تشهد توسعاً عريضاً، والعالم الإسلامي مفتقر لإقامة المساجد والمراكز الإسلامية في أنحاء العالم، ويفقد هذا المال الذي من الله به علينا. وإني أدعوكم -بعد أن أدعو نفسي- لإنفاق شيء منه في هذا الأمر؛ فذلك خير من أن نقف أموالنا بعد الموت كلها في طرق الخير، فعلينا أن نقدمها ونحن نأمل الغنى ونخشى الفقر. وهذه العمارة لابد أن يقدمها المسلمون؛ لأن الله أمر بذلك فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، وإذن الله بمعنى الوجوب والفرض، فلابد من ذلك، والمسلمون الذين يملكون هذه الأموال يأثمون حينما تكون هناك قطعة في الأرض يستطيعون أن يقيموا فيها مسجداً ولا يقيمونه. معشر المسلمين! لو أهملنا هذه المساجد ولم نعطها ما تستحق من عناية، فإن أعداء الإسلام يعملون على قدم وساق في سبيل حرف أبناء هذه الأمة، ولكن هذه المساجد تعتبر مركز إشعاع وخير للعالم كله؛ حيث ينطلق منها المسلمون إلى أمانيهم، لذا فإن علينا أن نحقق هذا الأمر، وأن نبذل هذا المال، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، ثم يبين سبحانه وتعالى أن هذا المال سيعود إليه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب العمارة المعنوية لبيوت الله عز وجل

وجوب العمارة المعنوية لبيوت الله عز وجل الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إذا كانت العمارة الحسية للمساجد يطالب بها طائفة من المسلمين وهم الذين يملكون المال ومن الله عليهم بنعمته، فإن عمارتها المعنوية يطالب بها كل مسلم قادر على الذهاب إليها، ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن هذا النوع من العمارة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. إنهم يحسبون ليوم القيامة حسابه، فإذا عنت لهم راحة تذكروا يوم القيامة، وإذا أراد الشيطان أن يغويهم ليصرفهم عن الصلاة فإنهم يتذكرون يوم القيامة، يتذكرون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فتقفز القلوب عن أماكنها إلى الحناجر، وتقفز الأبصار إلى أعلى الرءوس من شدة الذعر والخوف، وهؤلاء جزاؤهم: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].

جزاء الذين يعمرون مساجد الله

جزاء الذين يعمرون مساجد الله أما أولئك الذين يعمرون المساجد بالطاعة والعبادة، والتسبيح والتهليل، وإقامة حلق الذكر وتلاوة كتاب الله وتدبره، وإقامة الصلاة مع الجماعة فإن أجرهم عظيم، كما روت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة نادى منادٍ بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فيقومون يومئذ، وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلق). إنها فرصة يجب أن يستغلها المؤمن في حياته، ومن هنا على المسلم أن يؤدي الصلاة جماعة في المسجد؛ لأنها واجبة من واجبات الدين، ولأن الله أمر أن ترفع، وأن يسبح له فيها بالغدو والآصال. ثم مدح الله عز وجل الذين يعمرن المساجد بأنهم رجال، رجال لا كالرجال؛ لأن هممهم عالية، فهم وإن كانت لهم دكاكين وتجارة، وأموال وبيعات؛ لكنها لم تلههم لحظة من لحظات الزمن عن ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

وجوب صلاة الجماعة والوعيد لمن تخلف عنها

وجوب صلاة الجماعة والوعيد لمن تخلف عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى به إلى المسجد في أيام مرضه الشديد، فكان يغمى عليه في طريقه إلى الصف عدة مرات، لا يمنعه ذلك من أن يقيمها مع المسلمين جماعة. أما صحابته رضي الله عنهم فلقد كان الواحد منهم يندم أشد الندم لو فاتته تكبيرة الإحرام، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يزور بستانه، ثم تفوته صلاة العصر، ثم يتصدق ببستانه كله؛ حيث كان سبباً في فوات صلاة العصر! أما عبد الله بن عمر فإنه كان يبكي إذا فاتته تكبيرة الإحرام، ويعتبرها مصيبة، ويقدم بين يدي توبته رقبة يعتقها في سبيل الله. ولذلك فقد وصفهم الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. وقد أمرهم الله سبحانه أن يقيموا الصلاة جماعة حتى في ساعة المعركة، فلم يعذرهم، ولو غيروا شيئاً من معالم الصلاة، فقال لهم: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توعد الذين يتخلفون عن الصلاة معه في المسجد بأن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر بحطب فيحتطب، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون المسجد فأحرق عليهم بيوتهم). وقد أتاه رجل كفيف البصر شاسع الدار فقال: (يا رسول الله! أتأذن لي أن أصلي في بيتي؟ فأذن له، حتى إذا ولى ناداه فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب؛ فإني لا أجد لك من عذر). فليعلم هؤلاء المتخلفون هذا الخطأ الكبير الذي يقترفونه حينما يتخلفون عن الصلاة في المساجد، حتى لقد أصبح لا يحضر المسجد من الناس إلا النزر القليل. فانتبهوا لهذا الأمر يا معشر المسلمين! وحاسبوا أنفسكم، واعلموا أن الصلاة بدون جماعة تفريط وتضييع لكثير من الأجر، فإن الصلاة في البيت لا تساوي إلا درجة واحدة، أما الصلاة في المسجد فيقول عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تضاعف على صلاة الفرد بسبع وعشرين أو بخمس وعشرين درجة)، بل قال طائفة من العلماء: إن الصلاة جماعة شرط من شروط الصلاة، وإن الصلاة في المسجد شرط من شروط الصلاة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وهو من يسمع النداء. معشر المسلمين! إن هذا هو واجبكم، وإن هذه المساجد هي بيوت الله، فأدوا الصلاة فيها جماعة مع المسلمين، والله تعالى يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. واحذروا التخلف؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية، فإياكم والشعاب! وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد). ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط). أيها الإخوة المؤمنون! إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الرجل الذي يتعلق قلبه في المسجد يظله الله عز وجل يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. فاحترموا هذه المساجد، واعمروها بذكر الله، وتلاوة كتابه، وتدبر معانيه، وتفهموه، واعلموا دورها في هذه الحياة، وشيدوها وابنوها، وابذلوا أموالكم في سبيل بنائها؛ فإن ذلك عمل خالد تجدونه يوم تقفون بين يدي الله عز وجل؛ لأنه سبحانه يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة. يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الإسلام من المفسدين والمخربين. اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، اللهم وفقهم للأخذ بأسباب النصر، اللهم وأيدهم على عدوهم، ولا تكلهم إلينا ولا إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك. اللهم وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم اللهم وأسقط عليهم كسفاً من السماء، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الكافرين. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. والحمد لله رب العالمين.

خطر النصرانية

خطر النصرانية لاشك أن المسلم بفطرته يحب الله ورسوله ودين الإسلام، وهذا الحب يقتضي بغض ومعاداة كل من خالف هذا الدين وعاداه من اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر، فإن الكفر ملة واحدة، والكفار بعضهم أولياء بعض، ولا يجوز للمسلم أن يتجاهل خطرهم، أو أن يتغافل عن كيدهم، وخاصة النصارى الذين كثر شرهم وكيدهم في بلاد الإسلام، فلا يجوز إدخالهم إلى جزيرة العرب، ولا التعامل معهم بأي شكل من أشكال التعامل، ومن ينكر ذلك بحجة أنهم ليسوا كفاراً، أو نحو ذلك؛ فقد ضل ضلالاً بعيداً.

وجوب معاداة الكافرين والبراءة منهم

وجوب معاداة الكافرين والبراءة منهم الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق العصيان وجعلنا من الراشدين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. اللهم صلَّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأخوة في الله! اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي أهمّها: أن هدانا للإسلام وأضلّ عنه خلقاً كثيراً. أيها الإخوة! لقد حدد الإسلام الرابطة بين المسلمين وأعدائهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. أيها الإخوة! إن أوثق عرى الإيمان وأهمها: الحب في الله، والبغض في الله. والحب في الله يقتضي محبة أوليائه، والعطف عليهم وإيثارهم، ولقد مدح الله المؤمنين في قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال سبحانه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. وإن من أبرز قواعد الإيمان وأسسه: بغض أعداء الله وحربهم، وحمل العداء الدائم لهم. إن مبدأ المؤمنين هو قول الله تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. ومن هذا المنطلق فلقد جاء الإسلام يحثّ المؤمنين على حمل العداء لأعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، والذين يحملون لهم الحقد الدفين، ومهما أظهروا من العطف فإن قلوبهم تأبى ذلك: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8]. معشر المسلمين! ومن هذا المنطلق أمر الله عز وجل المؤمنين أن يعادوا الكافرين، وألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء؛ فالكفر كله بأشكاله وملله ونحله ملّة واحدة، يتحد في الكفر وفي حرب الإسلام، وهو صف على المسلمين، وكل هذه الطرق في نار جهنم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. ولما نزلت هذه الآية قال طائفة من المنافقين: نريد أن نؤلف اليهود معنا؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة، فأنزل الله قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].

عداء اليهود والنصارى للمسلمين

عداء اليهود والنصارى للمسلمين لقد أدرك العالم كله اليوم عداء اليهود، واليهود تستحق كل هذا العداء، بل فوق ذلك، ولكن المسلمين اليوم يجهلون عدواً آخر لا تقل عداوته عن اليهود، وهم النصارى الذين قرن الله بينهم وبين اليهود، وبينّ أنهم أولياء لهم في قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، والنصارى لهم مواقف تشبه مواقف اليهود أو تزيد، ولقد كان النصارى يقفون في وجه الإسلام كلما سنحت لهم الفرصة. لقد بقي النصارى في الحروب الصليبية ما يزيد على مائة وسبعين عاماً ينهلون من دماء المسلمين، ويسومونهم سوء العذاب، ونصارى العرب والنصارى الوافدون هم الذين فتحوا لهم الباب عن طريق لبنان؛ فساموا المسلمين سوء العذاب، وبالرغم من ذلك كله فإن الله تعالى يحذرنا من موالاة الكافرين بجميع أشكالهم، فيقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]. {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22]. معشر المسلمين! يبين الله لنا أن هذه الفئات الكافرة كلها تسعى لهدم الإسلام وتقويض بنيانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. ثم يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:2 - 3]. وهكذا تبين لنا الآيات عداء اليهود والنصارى جميعاً في آن واحد، فهم يتجمعون حيث يتفرق المسلمون، ولقد كانت أول معركة تجمعت فيها كل قوى الكفر والضلال ضد الإسلام: يوم الأحزاب، يوم وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يحيط به أعداؤه من كل جانب، ثم تكتلوا يوم جاءوا باسم الحروب الصليبية، وهاهم في كل فترة يتكتلون لحرب الإسلام، ويعذبون المسلمين، لتعيش الأقليات الإسلامية تحت مطارق الكافرين.

ضلال من يقول بعدم كفر النصارى

ضلال من يقول بعدم كفر النصارى بالرغم من هذا العداء كله، وبالرغم من هذا الحقد الدفين كله؛ يجهل طائفة من الناس ما يقوم به النصارى اليوم من دور في حرب الإسلام، فتقوم طوائف في الأرض تدعو إلى التقارب مع النصارى، أو مع الفئات الكافرة ضد الشيوعية، وما علم أولئك أن الكفر كله ملة واحدة، وأنه وإن تفرق في الظاهر لكنه يتحد في ضرب الإسلام، وهذه دعوة ضالة لا تقبلها النفوس المؤمنة، وسأحدثكم حديثاً تحفظونه فاحفظوه: إذا كانت هذه دعوة غير مقبولة، ففي صحفنا وفي صحيفة تنشر في بلادنا يكتب فيها فاسق من أبناء جلدتنا؛ بل ممن يحملون شهادة عملاقة، بل ممن يقومون بدور التدريس في إحدى جامعاتنا، ويربون شبابنا، ليقول لنا بالحرف الواحد: إن المسيحيين ليسوا كفرة! وإن تكفير المسيحيين جاء من جهل هذه الأمة! فإن المسيحيين قد ذكرهم الله في القرآن، ودينهم دين سماوي!! هكذا يقول من يحمل شهادة الدكتوراه، ولا أدري أهي شهادة الدكتوراه في الجهل أم في هدم الإسلام!! النصارى يقول الله عز وجل عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وأكد كفرهم بلام القَسَم، وبـ (قد) التي تفيد التحقيق. وقال في موضع آخر {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]. وقد قرنهم الله مع اليهود في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:30 - 32]. وبالرغم من هذا النداء، وبالرغم من هذا الخبر، تقوم صحيفة من صحفنا على يد هذا الكاتب لتشكك المسلمين في تكفير النصارى! وإذا كان في العالم الإسلامي من يدعو إلى التقارب مع النصارى؛ فإن في بلادنا هذه الأرض المقدسة من يشكك المسلمين في تكفير النصارى! أي كفر يبقى إذا لم يكن النصارى كفرة؟! أولئك الأعداء الحاقدون على الإسلام، الذين لا تكاد تحين لهم فرصة من الفرص إلا ويصبّوا جام غضبهم على العالم الإسلامي. معشر المسلمين! ولقد كنا نظن أن الإعلام هنا يسعى فقط لهدم الأخلاق، فإذا هو يشكك المسلمين في أصول دينهم، وفي أمر جاء بنص القرآن الكريم، وأجمعت عليه الأمة، ونحن نقول لهؤلاء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من التعامل مع النصارى وإدخالهم جزيرة العرب

التحذير من التعامل مع النصارى وإدخالهم جزيرة العرب الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعرفوا خطورة الكفرة على الإسلام، واحذروا أن تتخذوا منهم بطانة من دون المؤمنين؛ فإنهم: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8]. إنهم يحرصون كل الحرص أن يعيشوا في بلاد الإسلام، ليتجمعوا حينما تسنح لهم الفرصة، وعلى هذا فإن أخطر ما بليت به بلادنا في أيامنا المعاصرة أن يعيش أولئك النصارى بين المسلمين، بالرغم من أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يجتمع في جزيرة العرب دينان، وعلى هذا فإني أدعو الدولة التي جاء كثير من المسئولين فيها بكثير من النصارى حتى كادوا اليوم أن يشكلوا أكثرية جاءوا أطباء، وجاءوا ممرضين، ولربما جيء بهم مدرسين، وجيء بهم حتى للحرف التافهة مثل تنظيف الأسواق، والله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نحذر هؤلاء الكفرة، ثم هذه الأموال التي نغدقها على هؤلاء النصارى حينما نستخدمهم في هذه الأعمال، ربما تعود إلى هناك لتعود إلينا مرة أخرى ضربة قاسية، ولعلنا قد نسينا ما حدث في الأندلس يوم تجمع النصارى فأخرجوا المسلمين من بلادهم. معشر المسلمين! أدعو أصحاب المؤسسات أن يتقوا الله، وألا يستوفدوا النصارى إلى هذه البلدة الطاهرة، التي لم تدنسها أقدام الاستعمار، والتي ما زال الكثير منها على صبغة الإسلام الصحيحة. هذه الأموال يجب أن تذهب إلى المستضعفين من المسلمين، الذين يعيشون تحت مطارق الكافرين، ولعلك حينما تناقش أصحاب المؤسسات وتقول لهم: لماذا لا تأتون بالمسلمين؟! فيتهمون الإسلام والمسلمين بالضعف والخيانة، ويزعمون أن هؤلاء النصارى يقومون بدور أكبر من الدور الذي يقوم به المسلمون! وإذا كانت هذه خطورة، فأخطر من ذلك أن صار النصارى اليوم يعيشون في قعر بيوت المسلمين، في سبيل الخدمة، وتربية الأطفال، أو قيادة السيارات، يسلم المسلمون لهم أغلى ما يملكون، وينظرون إلى أقصى أسرارهم ويتمعنونها! إن الله سبحانه وتعالى نهانا أن نركن إلى الكافرين فقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].

كفر النصارى والرد على من ينكر ذلك

كفر النصارى والرد على من ينكر ذلك إن اليهود والنصارى فئة واحدة، وهناك من المسلمين من يتذرع ببعض النصوص التي لم يفهم حقيقتها ومعناها، حيث يقولون: إن الله تعالى يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]. ونحن نقول لهم: اقرءوا آخر الآيات، فإن الله بين أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى قد اعتنقوا دين الإسلام، فإن الله يقول في الآية التي بعدها: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، فقد نزلت في النجاشي الذي اعتنق الإسلام، وحتى لو كانت هذه الآية عامة فإنها لا تدل على أن النصارى إخوان وأصدقاء وأحباء للمسلمين، ولكنها تعني أن نسبة كفرهم أقل بقليل من نسبة كفر اليهود، أما الكفر فإنهم يشتركون فيه؛ لأن الله يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. ويستدل هؤلاء أيضاً بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وهذه الآية تحمل مبدأ البراءة من الكافرين بنصها، فكلٌ له دين، وكلٌ يحاسب يوم القيامة عما يعمل. ويستدلون بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]. ونحن نقول: إن ذلك حق ثابت، فنحسن إليهم لو كانوا فقراء يعيشون مسالمين للمسلمين، وإذا تحاكموا مع المسلمين فعلينا أن نعدل بينهم وبين المسلمين، أما أن نتخذهم بطانة أما أن نسلّم لهم مقاليد الأمور، ونعطيهم فرص العمل أما أن نسلّم لهم فلذات أكبادنا لتقوم هذه المربيات بإعداد أولادنا وتنشئتهم تنشئة كافرة أما أن نسلّم لهم محارمنا ليقوموا بدور قيادة السيارات في غفلة منا! فهذا هو الخطر، وهذه هي المصيبة، وهذا هو الذي يخالف أمر الله، ويعرض المسلمين عامة إلى خطر كبير. والقول بأن النصارى ليسوا كَفَرة هو الكفر الصريح. ألا وصلّوا وسلّموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عّنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كثرة النصارى في بلاد الإسلام، وفي جزيرة العرب التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تطّهر منهم، اللهم لا حول لا لنا ولا قوة إلا بك، ولا نملك أكثر من ذلك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

فضل الصيام

فضل الصيام جعل الله عز وجل الصيام ركناً من أركان دينه، ورتب عليه الثمرات الجليلة، والحكم العظيمة، فمنها ما عرفناه، ومنها ما غيّب عنا، فهو يعوّد الإنسان على الصبر، ويكسبه التقوى، وهو طريق من الطرق الموصلة إلى الجنة، وللصيام فوائد جليلة ينبغي على المسلم أن يحسّن صيامه، وأن يخلصه مما يكدر صفوه؛ حتى ينال تلك الفوائد والثمرات.

الصيام والصبر

الصيام والصبر الحمد لله، الحمد لله الذي جعل شهر رمضان شاهداً لنا أو علينا، لما نقدمه فيه من عمل صالح أو غيره، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة في الله! اتقوا الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185]. معشر المسلمين! إن الأمم الحية الواعية منذ القدم وهي تختبر قوتها وإمكانياتها، تختبر قوتها أمام شهواتها ونفوسها، قبل أن تخوض معترك الحياة. وإذا كانت الأمم القديمة قبل الإسلام تفرض الصيام على جيوشها، بل وعلى شعوبها لتعودهم الصبر، فإن الإسلام جاء بالصيام ليكون عبادة، وليكون امتحاناً واختباراً للنفس البشرية، وحينئذٍ فلا يصح لهذا الإنسان أن يخوض معترك الحياة قبل أن يختبر نفسه بنفسه، وقبل أن يمنعها من شهواتها، وحينئذ يخرج بدليل واضح إذا كان قد تغلب على نفسه، وعلى شهواته، فإنه رجل الحياة الذي يستطيع أن يتغلب على مشاكلها، ويخوض غمارها، ولكنه حينما يغلب أمام شهواته وحينما ينهزم أمام نفسه فإنه عاجز عن أن يخوض هذه الحياة، ويتغلب على صعابها، من أجل ذلك شرع الله عز وجل الصيام، وجعله ركناً من أركان الإسلام.

الحكمة من الصيام

الحكمة من الصيام إن التقوى مطلب عظيم لابد أن يتحلى به المسلم طول حياته، والصيام يعود الناس على التقوى والطاعة لله عز وجل، ولذلك يقول سبحانه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. ثم أيضاً لابد لهذا الإنسان أن يكون أميناً على شهواته؛ ليكون بعد ذلك أميناً على قيادة الحياة كلها، وعلى عمارتها، ولكنه حينما يكون خائناً لربه، خائناً لنفسه، حينما يخلو بشهوته في وقت لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، حينما يخون هذه الأمانة، فإنه خائن للحياة كلها، ولا يصلح أن يتولى أمراً من أمورها صغيراً كان أو كبيراً، لذلك كان من أكبر أهداف الصوم: تعليم الإنسان الأمانة على الحق، فحينما يخلو بشهوته، وحينما ينفرد في قعر بيته، قد أسدل الأستار بينه وبين الناس في لحظة لا يطلع عليه فيها إلا الله عز وجل، ثم يدع هذه الشهوة من أجل الله عز وجل وحده، فإنه حينئذ هو الرجل الأمين الذي يصلح للحياة، ولذلك جاء في الحديث القدسي فيما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، يقول عليه الصلاة والسلام: (فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى لكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وحده، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألونه الجنة، وتعوذون به من النار). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، فلا يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار، فلا يفتح منها باب، وصفدت مردة الشياطين). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلا يدخل منه أحد غيرهم). معشر المسلمين! هذه هي حقيقة الصيام، وهذا هو الصوم الحق، فليس الهدف منه إيلام النفوس وإيذاءها، إنما الهدف ترويضها وتربيتها على طاعة الله عز وجل, فليس من الصدف أن يفرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وتكون أول معركة للجهاد في سبيل الله يرتفع فيها علم الإسلام في السنة الثانية من الهجرة؛ إذ لم تمض إلا أيام قلائل تعد بالأصابع بعدما فرض الصيام إلا وكانت معركة بدر الكبرى؛ حيث تغلب الناس على شهواتهم، وأصبحوا أقدر على عدوهم من عدوهم عليهم.

أصناف الناس في رمضان

أصناف الناس في رمضان معشر المسلمين! أما الناس في أيامنا الحاضرة فإنهم يختلفون في إدراك حقيقة رمضان والصيام، وينقسمون إلى صنوف شتى: فمنهم من لم يرفع برمضان رأساً، ولم يقم له وزناً، فهو مكب على لهوه وشهواته ومعصيته، مفطر في رمضان حسبما تحيط به من ظروف، سواء أعلن فطره أم أخفاه عن أعين الناس، وهؤلاء لا يفسرون رمضان إلا إيذاءً للنفس وحرماناً لها من شهواتها، فأولئك هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يكفره صيام الدهر كله وإن صامه). وهناك نوع آخر مكب على المعصية، يركب المحرمات، ويترك الواجبات، ولا يبالي بذلك أبداً، حتى إذا قرب موعد شهر رمضان سلك مسلك الصالحين، فلا توبة ولا إنابة، ولكنها عادة ألفها، فعرف حينئذ الطريق الموصلة إلى المسجد، ولربما صام رمضان، وترك كثيراً من المحرمات، حتى إذا ودع شهر رمضان ودع العبادة كلها، وإن أخوف ما أخاف أن يكون هذا النوع الذي بدأت تغص به المساجد اليوم من هذا الصنف، وأعيذكم بالله من شر ذلك! فهؤلاء لم يزيدهم رمضان من الله إلا بعداً، إلا إذا استقبلوه بتوبة نصوح، وعاهدوا الله على العمل المتواصل، وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:17 - 19]. فهؤلاء يرون الحق فترة من الزمن، ثم يخفضون أعينهم عن الحق، فيزيد ظلامهم ظلاماً. وهناك نوع ثالث ركب المحرمات، وترك كثيراً من الواجبات، فاشتد شوقاً إلى موسم تزداد فيه التوبة، وتضاعف فيه الحسنات؛ لعله يستعتب بين يدي الله عز وجل، حتى إذا أقبل عليه شهر رمضان أبرم عقداً وثيقاً بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعض أصابع الندم وقرع سناً على ما سلف من أمره، ثم يسلك مسلك الصالحين، ويسير مسيرتهم؛ حتى يلقى الله عز وجل. وهؤلاء هم الذين يقول الله لهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:53 - 56]. وهناك نوع رابع قد أبرم العهد مع الله، وصار ذا عبادة، فهو على العهد والميثاق، لم يتخلف لحظة من لحظات الزمن عن طاعة ربه، ولم يفعل شيئاً من المحرمات، حتى إذا أهل عليه هلال شهر رمضان طارت نفسه شوقاً إلى منزل من مواطن العبادة تضاعف فيه الحسنة، وتحط فيه السيئة، فهو لا يترك العبادة، ولا يفعل شيئاً من الحرام طول عمره، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] يعني: في ساعة الموت، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقال عز وجل فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64].

رمضان فرصة للتوبة والإنابة

رمضان فرصة للتوبة والإنابة معشر المسلمين! إن في رمضان فرصة للتوبة والإنابة، ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام صعد المنبر فقال: (آمين ثلاث مرات، ثم نزل، فقيل له في ذلك، فقال: إن جبريل أتاني فقال: يا محمد! من أدرك رمضان من أمتك فلم يغفر له فمات فأبعده الله فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين). والحسنة في رمضان مضاعفة، كما في الحديث القدسي: (إذا تقرب العبد فيه بنافلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه).

استغلال شهر رمضان في الطاعة والعبادة

استغلال شهر رمضان في الطاعة والعبادة أيها الإخوة المؤمنون! إن المحروم هو الذي تمر به مثل هذه الفرص الثمينة ثم يفوتها، وتنصرف أيام رمضان دون أن يستعتب أو يتوب أو يرجع، فما يدريك يا أخي! لعل هذا الشهر آخر فرصة من فرص حياتك، وربما لا تدرك رمضان آخر! أما علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمة يقلبها كيف يشاء؟ أما علمت أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وأن النار مثل ذلك؟ فاتقوا الله يا معشر المسلمين! وأكرموا هذا الشهر بالعبادة، وأقيموا أيامه بالصيام، وأقيموا لياليه بالعبادة والتهجد، وعليكم بصلاة التراويح؛ فإنها سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلنا، واعلموا أن الله ينزل حينما يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وذلك كل ليلة). قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حقيقة الصيام

حقيقة الصيام الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن للصيام حقيقة وصورة، أما الصورة فتلك الأفعال التي يفعلها الناس؛ حيث يدعون الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأما حقيقته: فهي ترك الحرام كله؛ ابتغاء مرضاة الله، وخوفاً من ساعة الوقوف بين يديه. أيها الإخوان! إن أهون الصيام ترك الطعام والشراب، وإن أشده ترك المحرمات، فالتزموا بالصيام على الوجه المطلوب، وافهموا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وحينئذٍ فإن على الصائم أن يحفظ جميع جوارحه من الحرام، فيحفظ البصر؛ فلا ينظر إلى ما حرم الله عليه، ويحفظ اللسان؛ فلا ينطق إلا بما أباح الله له، ويسخر هذا اللسان في تلاوة كتاب الله؛ ففي هذا الشأن أنزل ليكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. أما سلفنا الصالح رحمة الله عليهم فكانوا يتركون كل شيء حينما يدخل رمضان، ويقبلون على تلاوة كتاب الله حفظاً وتفهماً وتدبراً، ويتركون مجالس الفقه والعلم. أما نحن فإننا نطالب المسلمين اليوم أن يهجروا المحرمات، وإذا كان الإعلام الذي قد انخرط في بلادنا لم يتورع عن الحرام حتى في ليالي رمضان، فإني أحذركم معشر المسلمين! أن تتابعوا هذه البرامج فتفسدوا عباداتكم، وتمسحوا حسناتكم، وإذا لم تدعوا هذه المعصية طول العمر وأنتم مطالبون بذلك، فإنكم مطالبون بأن تتركوها ولو في هذه الأيام الفاضلة التي تضاعف فيها السيئة كما تضاعف فيها الحسنة. معشر المسلمين! أدوا زكاة أموالكم، وجودوا بالنفقة، واحذروا الإسراف في الأكل والشرب، وأحسنوا إلى الفقراء، فلقد كان من مقاصد رمضان أن يذيقكم طعم الجوع؛ لتعرفوا قدر نعمة الله عليكم طول العمر، ثم تحسنوا إلى الفقراء. هذا وإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأزواجه، وأصحابه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك، اللهم لا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العليا أن تجمع شمل المسلمين على طاعتك، وأن تؤلف بين قلوبهم، وتصلح ذات بينهم، وأن تجعل قيادتهم وأمرهم في عبادك الصالحين. اللهم أيد المسلمين المجاهدين بنصر منك، اللهم لا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلينا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم؛ إنك على كل شيء قدير. اللهم انصر المسلمين في أفغانستان على الشيوعية، وأيد المجاهدين في سوريا على حزب البعث، وأيد المسلمين في الأرض كلها على اليهود والنصارى والمتمردين. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. والحمد لله رب العالمين.

الزكاة

الزكاة الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولا يتم إسلام المرء ولا يكتمل إلا بها، فمن جحد وجوبها أو أنكرها فقد كفر، وهي أجل العبادات المالية، وهي قرينة الصلاة في أكثر من ثمانين موضعاً في القرآن الكريم، وقد قاتل الصديق الأكبر رضي الله عنه أهل الردة من أجلها، وهي سبب البركة، ودوام الخير، والزيادة في الرزق، ودفع البلاء.

وجوب الزكاة وفرضيتها

وجوب الزكاة وفرضيتها الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وكل شيء عنده بمقدار، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي الناس بالفقر كما يبتليهم بالمال، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:267 - 268]. أيها الإخوان! بني الإسلام على خمس، ومن أبرز أسسه وأهم دعائمه: الزكاة، التي هي رأس العبادات المالية، والتي تكرها مقرون بالشرك في قول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]. فالزكاة ركن من أركان الإسلام، من تركها جحوداً لها فقد كفر، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. وقد شرح الله صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقتال مانعي الزكاة وقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً -أو عقالاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). ومن هنا أجمع المسلمون عامة والصحابة خاصة على قتال كل من منع الزكاة جاحداً لوجوبها، أما من منعها بخلاً وتهاوناً فقد ركب إثماً عظيماً، وعرض نفسه لسخط الله عز وجل. ولقد توعد الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة:34]، والمراد بالكنز هنا: منع الحقوق الواجبة من زكاة وغيرها، توعدهم الله عز وجل بنار جهنم يوم القيامة، فقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. وفي هذا المعنى يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى مصيره إما إلى الجنة أو إلى النار). ويقول عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه- فيطوّقه، فيقول: أنا كنزك أنا مالك، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]).

فوائد أداء الزكاة

فوائد أداء الزكاة معشر المسلمين! إن الزكاة تطهر المال وتنميه وتزيده، ويمحقه منع الصدقة منه؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هلك مال في بر أو بحر إلا بسبب منع الصدقة)، وفي حديث آخر: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع). إنها تنمي المال وتطهره، كما أنها تطهر صاحب المال من الشحّ تطهر قلبه، وتطهر جسمه من الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. إنها تطهر المجتمعات من الفساد؛ ذلك أن المجتمع الذي لا يتوازن فيه الاقتصاد حسب ما يريده الله عز وجل ليعيش الفقراء آمنين من الفقر بسبب ما فرض الله لهم من أموال الأغنياء، حينما لا يكون ذلك سينتشر النهب والسلب والسرقة والفوضى، وهناك تباع الأعراض، ويتسلط الفقراء على الأغنياء، ويرفع الله عز وجل يده عن الأغنياء.

التحذير من منع الزكاة

التحذير من منع الزكاة معشر المسلمين! ما حلت الشيوعية في بلد من البلاد إلا بسبب فسادها الاقتصادي، حينما يكون هناك بذخ وإسراف لدى طبقة من الناس، ويعيش بجوارهم فقراء لا يجدون قوت يوم وليلة. وما ينقم أهل هذا البلد لو بخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً في أموالهم، ما ينقمون إلا أن كانوا فقراء، فقدر الله لنا ثروات الأرض من تحت آلاف الأمتار، ولقد كنا عالة فأغنانا الله عز وجل، وكنا أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، وكنا خائفين فأمَّنَنا وطمأنَنَا، ويتخطف الناس من حولنا، ولو بخلنا بالزكاة فإنه يوشك أن يولي الله علينا حكاماً ظلمة، يسلبون أموالنا بدون حق، ويسوموننا سوء العذاب، وهذا الواقع المرير موجود، حيث تعيش مئات الملايين من البشر من المسلمين تحت مطارق الكافرين، مثل الحكم الشيوعي الذي كان رد فعل لما يقترفه المسلمون أولئك في يوم من الأيام من الإثم والمعصية والبخل بحق الله. معشر المسلمين! إن أخوف ما نخافه أن يكون لدى طائفة منّا أموال ضخمة ولا يؤدون زكاتها، ويوجد في هذه الأيام من لديهم أموال كادت الأرقام أن تعجز عن إحصائها، وكادت البنوك أن تعجز عن حفظها، ثم يحسب هؤلاء زكاة أموالهم فيجدونها تبلغ عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، ثم تزل بهم القدم فيبخلون بهذا المال حينما يستكثرونها بالزكاة. ولقد حدثنا القرآن الكريم عن رجل كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى بعض المفسرين أنه ثعلبة بن أبي حاطب، كان رجلاً فقيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال له عليه الصلاة والسلام: يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير لك من كثير لا تطيقه. ثم جاء مرة أخرى وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟! فوالذي نفسي بيده لو أردت أن تسير معي جبال الدنيا ذهباً لسارت. ثم جاء المرة الثالثة وقال: يا رسول الله! والله لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه -أبرم العهد مع الله- فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم ارزق ثعلبة مالاً. فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، ثم ذهب بعيداً، وتخلف عن بعض صلوات الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم زادت، فتخلف عن الجماعة مطلقاً، ثم زادت، فذهب بعيداً عن المدينة فترك الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن خبر ثعلبة، حتى إذا أخبر بخبره قال: يا ويح ثعلبة! ثم أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رجلين على الصدقة، حتى إذا عرضا كتاب رسول الله عليه، وقرأه وعرف المقدار الضخم الذي يلزمه حينما تضخم ماله، قال: والله ما هذه إلا جزية، والله ما هي إلا أخت الجزية! ثم رفض أن يدفع الزكاة، حتى أنزل الله فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:75 - 78]. فما كاد ثعلبة يقرأ هذه الآيات حينما سمعها من الركبان حتى جاء يحثو التراب على وجهه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرض ما يريد من المال، فرفض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الله سبحانه قد حكم عليه بالنفاق إلى يوم القيامة: (إلى يوم يلقونه). وكم في كتاب الله من الدروس، وكم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ! فليحذر هؤلاء الذين منّ الله عليهم بالمال امتحاناً وفتنة واختباراً، ليحذر هؤلاء أن يبخلوا بحق الله عز وجل الذي جعله حقاً واجباً معلوماً للسائل والمحروم، حتى إذا حانت ساعة الموت قرعوا سنّ الندم، وعضوا الأصابع، ولات ساعة مندم! يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب إخراج الزكاة لمن يستحقها

وجوب إخراج الزكاة لمن يستحقها الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم وارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأن أمرها خطير، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله). معشر المسلمين! ويل للذين يبخلون بما أوجب الله عليهم من الصدقة؛ فإن الله عز وجل استخلفهم في هذا المال ليختبرهم، وأمرهم بالإنفاق مما جعلهم مستخلفين فيه فقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]. ثم هذا المال سيصير لله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]. وحينئذ يجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يحافظ على هذا الواجب الذي فرض الله، وأن يحسب ماله وما عليه في رأس كل عام، وفي يوم يحدده ليخرج زكاة هذه الأموال من نقد أو عروض تجارة، ويصرف هذه الزكاة للذين يستحقونها، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60]. أيها الإخوان! لا يجوز أن ندفع الزكاة مجاملة أو محاباة أو صيانة لأموالنا؛ بل يجب أن ندفعها كما أمر الله عز وجل، فهو الذي تولى حفظها بنفسه وتوزيعها. معشر المسلمين! إن هناك ظروفاً تتطلب من المسلم أن يبادر بإخراج زكاته طيبة بها نفسه، هناك عزاب لا يجدون مئونة الزواج، فيجب أن نبذل من أموالنا ما نزوجهم به من أجل أن نحصن أموالنا، ونحصن المجتمع من شر العزوبة، وعَلَم الجهاد اليوم قائم في سبيل الله في أرجاء الأرض، والمجاهدون يفقدون المال، وهناك الأُسر التي أرملتها الحروب على أيدي أولئك الظلمة، كل هؤلاء يجب أن نبذل أموالنا لهم، ولو خرجنا عن هذه الحدود الإقليمية فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما المؤمنون إخوة). إن علينا أن نؤدي هذا الحق المقدس، ومن هنا ندرك الفرق الواضح بين نظام الإسلام في الصدقات والزكوات، وبين الأحكام الجائرة التي تسود أكثر العالم الإسلامي اليوم، فإن الزكاة في الإسلام يؤديها الناس ركن من أركان دينهم، طيبة بها أنفسهم، يبتغون الأجر والمثوبة من الله، أما تلك الضرائب فإنها لا تؤخذ إلا تحت قسوة القوانين الجائرة، والزكاة في الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، أما تلك فإنها تؤخذ من الأغنياء والمتوسطين والفقراء، ولا ترد على الفقراء ولكنها تنفق لتثبيت عروش تعتز بأهلها بسبب ما كسبت أيديهم. انتبهوا لهذا الأمر، واحذروا البخل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. أيها الإخوان! حاسبوا أنفسكم قبل أن نقف يوم القيامة بين يدي أسرع الحاسبين، ليحاسبنا على هذه الأموال صغيرها وكبيرها، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في جنات النعيم. اللهم إنا نتوجّه إليك في هذه الساعة المباركة من هذا اليوم المبارك، من هذا الشهر المبارك أن تهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن ترد المسلمين إليك رداً جميلاً، وأن ترزقهم حكاماً صالحين يقودونهم إلى طريق الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الإسلام من المفسدين والمخربين، اللهم طهر المجتمعات الإسلامية من الشح والبخل، والفساد والضلال، والمعصية والشرك، والشك والنفاق. اللهم وأيد المسلمين المجاهدين في سبيلك، اللهم خذ بأيديهم إلى ما فيه سعادة الأمة بأجمعها، اللهم لا تكلهم إلينا فنعجز عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم وعليك بأعدائهم، اللهم وعليك بأعدائهم من جميع الكفرة والملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وأسقط عليهم كِسْفاً من السماء، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، واجعل فيهم آية وعظة للمتعظين والمعتبرين. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الحج

الحج إن الله سبحانه وتعالى قد أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، وارتضى لنا الإسلام ديناً، وجعل لهذا الدين أركاناً يقوم عليها، من ترك ركناً منها فقد هدم دينه، وعصى ربه جل وعلا، ومن هذه الأركان حج البيت الحرام الذي جعله الله للناس قياماً، فيجتمع فيه المسلمون من كل فج عميق، ويلبون دعوة ربهم فتتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده؛ بل ويباهي بهم ملائكته، وأكثر ما يعتق الله من النار في يوم عرفة، فطوبى لمن وفقه الله، فحج حجاً مبروراً يرجع بعده طاهراً من الذنوب كيوم ولدته أمه.

فضل فريضة الحج وما فيها من المنافع

فضل فريضة الحج وما فيها من المنافع الحمد لله الذي دعا عباده المؤمنين إلى حج بيته الحرام؛ ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يقول الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:26 - 29]. أيها الإخوان! إن الله سبحانه وتعالى جاء بدين الإسلام من أجل أن يقرر قواعد لا بد منها، ولعل من أبرز هذه القواعد وأهمها: قضية التوحيد لله عز وجل، والإخلاص له في العبادة، وإقامة قواعد دينه على هذا الأساس، وتحطيم كل ما يعبد من دون الله من حي أو ميت، من أجل ذلك بوّأ الله سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مكان البيت، ثم أمره بأن يطهر البيت من الأصنام والأوثان، ثم أمره بأن ينادي بالحج من أجل أن يحضر المسلمون من كل صوب وحدب؛ ليشهدوا هذه المنافع؛ وذلك من أجل إقامة مآرب التوحيد. ولقد استجاب نبينا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لهذا النداء، فبنى البيت كما أمره الله، ثم صعد على جبل أبي قبيس، وقال: أيها الناس! إن الله بنى لكم بيتاً فحجوا، فسمعه كل مخلوق كان أو لم يكن على وجه الأرض، حتى من كانوا في أصلاب آبائهم، فنادى الجميع بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك. ومنذ ذلك الحين والعالم يحج هذا البيت الذي وضعه الله عز وجل ليكون أول بيت وضع للناس في الأرض. أما المنافع التي أرشدنا الله عز وجل إليها فهي كثيرة، والدليل على كثرتها: التنكير، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، وحينئذٍ فإنها منافع عظيمة، يجب أن يبحث عنها المسلمون في كل فقرة من فقرات الحج، وفي كل زاوية من زوايا الأرض المقدسة. هذه المنافع تبرز منذ تلك اللحظة التي يغادر فيها المرء أهله وعشيرته معتمداً على الله عز وجل، قد ولى وجهه شطر بيت الله الحرام، قد ودع الأهل والعشيرة، وانقطع من كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي سر التجرد مما يملك، بحيث ينزع كل ما يملك عن بدنه، حتى ثيابه الرقيقة؛ ليرتدي ثياباً خشنة تشبه الأكفان، وكأنه يريد أن يتذكر ساعة الموت والفراق، يوم يلف بهذه اللفائف، وحينئذ يحضر ذلكم الاجتماع الكبير الذي يحكي لنا موقف يوم القيامة، يوم يجمع الله عز وجل الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، يحضرون من كل فج عميق ليبحثوا عن هذه المنافع.

تحقيق التلبية للتوحيد

تحقيق التلبية للتوحيد أيها الإخوان! أما حينما يردد المسلمون هذه التلبية، فإنهم يحققون التوحيد بمعناه الكامل، فهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، أي: نجيب دعوتك مرة بعد مرة، لبيك لا شريك لك لبيك، قد ألغوا كل ما يعبد من دون الله عز وجل، أو كل ما يخاف منه البشر من حي أو ميت، وحينئذٍ يتحقق التوحيد الكامل الذي ينشد دين الإسلام وجوده في هذه الأرض، بحيث لا يعبد إلا الله، ولا يخاف غيره، ولا يستعان بأحد سواه.

مواقف في الحج تؤخذ منها العظة والعبرة

مواقف في الحج تؤخذ منها العظة والعبرة معشر المسلمين! وهناك في تلك المواقف في بطحاء مكة، وحول جبل النور وغار حراء وغار ثور، يتذكر الإنسان المسلم تلك المعالم التي وقفها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم أعلن دعوة الإسلام وحيداً، قد جفاه الأهل والعشيرة، وحينئذٍ يتذكر الجهاد في سبيل الله، وتلك الحجارة تنطق بكفاح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها قطرات من دمه الشريف يوم آذاه وضربه قومه، وأخرجوه بغير حق إلا أن يقول ربي الله. معشر المسلمين! وفي الحج نتعلم الخضوع الكامل لله عز وجل، يوم ندور حول هذا البيت خاضعين أذلاء، تأخذنا السكينة والخشوع لله عز وجل، ثم نمد أيدينا لنستلم الحجر الأسود، ونحن في الحقيقة نمدها لنبرم عهداً وتوبة بيننا وبين الله عز وجل، في ذلكم الموقف الرهيب الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم وبكى، ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي بجواره، فيقول له: (يا عمر! هاهنا تسكب العبرات). وإذا كان العالم يعيش اليوم في ذعر وخوف وقلق؛ لأنه تجرد عن العقيدة الصحيحة؛ فإنه يذهب هناك ليذوق طعم الأمن؛ لأن الله يقول عن ذلكم البيت: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]. ذلكم المكان الذي يعلمنا كيف نجاهد في الله عز وجل حق جهاده، وحينما ننطلق بين منى وعرفات والمزدلفة إذا بنا نتعلم الطاعة المطلقة لله عز وجل؛ فإن الحجاج هناك لا يكادون ينزلون منزلاً إلا ويفارقونه بعد مدة وجيزة، دون أن يعرفوا الدوافع من أجل هذا النزول أو ذاك الرحيل، ولكنها طاعة لله واتباع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطاعة المطلقة التي لا تفكر في الحكمة ولا في الهدف، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. هناك في ذلك الصعيد يلتقي المسلمون بإخوتهم من جميع بقاع العالم؛ ليحلوا مشاكلهم؛ وليرى بعضهم بعضاً عن كثب. هناك تعالج مشاكل المسلمين، وليس ذلك بدعاً في تاريخ الحج، فإن أول لبنة لدولة الإسلام في المدينة قد وضعت في أيام الحج بجوار جمرة العقبة. أيها الإخوة المؤمنون! وإذا كانت هذه القوميات المعاصرة تتصارع اليوم على القضاء على الإسلام؛ فإن في الحج لنا خلاصاً، وإن في الحج لنا منعة، إن هذه القوميات لا تستطيع أن تلتهم المسلمين، ولا أن تحطم هذا الدين؛ لأن هذه الشرائع تتكرر من حين لآخر؛ من أجل أن تؤلف بين المسلمين وتربط بعضهم ببعض. هناك الصلوات الخمس التي يكسوها اجتماع أكبر منها يوم الجمعة؛ ليكون هناك اجتماع ثالث أكبر وأوسع في أيام العيدين، ولكن هذه الاجتماعات المصغرة لا بد أن تتحد كلها وبأجمعها في اجتماع يلم كل هذه الاجتماعات، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل الحج، وكانت شريعة الحج آخر شرائع الإسلام.

وجوب فريضة الحج

وجوب فريضة الحج الحج ركن من أركان الإسلام، حكم الله عز وجل بكفر من تركه فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان له جدة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً). ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فأنظر إلى من كان له جدة فلم يحج فأضرب عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين). ويقول علي رضي الله عنه: من كان له زاد وراحلة يبلغانه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. معشر المسلمين! تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والنحاس والذهب، وقد (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: إيمان بالله ورسوله. قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: حج مبرور، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).

شروط الحج المبرور

شروط الحج المبرور الحج المبرور: هو ما توافرت فيه شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون النفقة حلالاً طاهرة، أما النفقة الحرام التي تكسب من الربا أو المعاملات الربوية التي وضع عليها غطاء شفاف، أو الذي يكسب بالغش والخداع، أو بالغصب أو بالنهب، أو باللصوصية؛ فإنه لا يقبل؛ لأن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحاج إذا وضع رجله في الغرز -أي ركب دابته- فقال: لبيك اللهم لبيك، وكانت نفقته حراماً، نادى منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، وزادك حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور. وإذا كانت النفقة حلالاً فقال: لبيك اللهم لبيك، نادى منادٍ: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور). الشرط الثاني: أن يكون هذا الحج خالصاً لله، أما إذا كان للمفاخرة والمباهاة، أو أرقام يحصيها الإنسان لنفسه كم حجة حجها؟ فإن ذلك لن يزيده من الله إلا بعداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). الشرط الثالث: أن يكون صواباً، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حجته التي حجها فكانت نموذجاً للحجاج إلى يوم القيامة، (خذوا عني مناسككم)، فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].

تحذير الحجاج من الأعمال الشركية عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم

تحذير الحجاج من الأعمال الشركية عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم معشر الحجاج! هناك طائفة يؤدون هذه الفريضة ولكنهم يبطلونها بالشرك، فحينما ينهون أعمال الحج يعرجون على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عمل طيب، ولكنهم يشركون بالله عز وجل غيره؛ فيتجهون إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه من دون الله! والله عز وجل يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. لذلك لا يجوز أن يسأل في هذه الأرض أحد غير الله عز وجل؛ فهو الذي يستطيع أن يكشف الضر، ويجلب الخير. أما غيره من رسول مقرب أو أي إنسان فإنه لا يملك لنفسه بعد موته ضراً ولا نفعاً، فأخلصوا لله، واحذروا البدع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). واحذروا الشرك؛ فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فضل عشر ذي الحجة وبعض أحكامها

فضل عشر ذي الحجة وبعض أحكامها الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واقدروا للأشهر الحرم قدرها، واقدروا لعشر ذي الحجة قدرها؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، قال طائفة من المفسرين: هذه الليال العشر هي عشر ذي الحجة. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشرة -يعني عشرة ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء). إنه فضل عظيم يرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سن صيام هذه الأيام العشرة، وأمر بالاجتهاد بالأعمال الصالحة فيها، ومن أهم هذه الأعمال: إحياء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفل عنها الكثير من الناس، فكان الرسول والصحابة معه إذا دخلت أول ليلة من عشر ذي الحجة يرفعون أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. يرددون هذه الكلمات، وفي غمرة هذه الحضارة التي نعيشها اليوم غفل كثير من الناس عن هذا التكبير، فكانت سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكاد اليوم أن تنسى، وإن من أحياها فإن له أجراً عظيماً؛ لأنه دل الناس على هدى النبي صلى الله عليه وسلم. إن علينا أن نحيي هذه السنة، وأن نرفع أصواتنا بها في الأسواق، وفي مجامع الناس، وفي المساجد، في كل ساعة من الساعات نكرر هذا التكبير بقدر ما أوتينا من وسع. أيها الإخوان! ولقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من أراد أن يضحي فإنه لا يجوز له أن يمس شعره أو بشرته منذ أول ليلة من ليالي هذه العشر إلى أن يذبح أضحيته. إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه، اللهم وعنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم إنا نتوجه إليك في هذه الأيام المباركة، ونسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وتوحيدك أن تؤيد المسلمين بنصر منك. اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم أيد المجاهدين في كل شبر من أرضك الواسعة، اللهم وعليك بأعدائهم الذين يحاربون هذا الدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، واجعل لنا فيهم آية وعظة وعبرة. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، واجعل ولايتنا وجميع أمورنا وأمور عبادك المسلمين في عبادك الصالحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون. اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كل معصية لا نستطيع أن نغيرها، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الثبات على الأعمال

الثبات على الأعمال الناس أقسام وطرائق، فمنهم من يعمل للدنيا فقط، ومنهم من يعمل للآخرة فقط، ومنهم من يعمل للآخرة ولكنه لا يترك العمل للدنيا، ومنهم من يتخذ الدين ليتوصل به إلى متاع دنيوي زائل والله تعالى قد ذكر هذه الأنواع للناس في كتابه، وبعد ذكره لها أمر الناس أن يدخلوا في الإسلام كافة، وأن يأخذوا به من جميع جوانبه، لا أن يأخذوا منه ما يوافق أهواءهم، ويدعون ما يخالف ذلك، فإن هذه صفة من صفات المنافقين، والمارقين من الدين.

أقسام الناس في تحصيل العمل الدنيوي والأخروي

أقسام الناس في تحصيل العمل الدنيوي والأخروي إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:200 - 208]. جاءت هذه الآيات لتقسم الناس إلى أقسام أربعة:

من يريد الحياة الدنيا فقط

من يريد الحياة الدنيا فقط القسم الأول: نوع يسعى إلى الحياة الدنيا جهده، فهو لا يريد إلا الحياة الدنيا، يعمر بها مجالسه، ويسعى فيها طول عمره في غفلة عن الحياة الآخرة، وإذا قدم عملاً من الأعمال التي يرجى بها وجه الله عز وجل فإنه يحبط هذه النية التي بها يكسب الأجر، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لا يريد إلا الحياة الدنيا، ولا يريد الحياة الآخرة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعطيه من الدنيا التي يسعى إليها نصيباً كما يريد الله لا كما يريد هو، يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]، وقال سبحانه: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. وقد قال المفسرون في معنى الآية الأخيرة: إن العبد ليعمل العمل يشبه عمل المؤمنين كأنه يقربه إلى الآخرة، ولكنه لا يريد بعمله هذا إلا الدنيا يقدم المال للفقراء باسم الإنسانية، ويبذل جهده في خدمة الوطن باسم الوطنية، لكنه يفقد النية الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فيعطيه جزاء ذلك في الدنيا من صحة وقوة في السمع وفي البصر ومن مال وولد، فيعجل له جزاءه وافياً كاملاً غير منقوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً حقاً من حقوقه. وهذا النوع أيضاً إذا رفعوا أكف الضراعة إلى الله لا يسألونه إلا الدنيا؛ لأنها ملكت قلوبهم، وسيطرت على أفئدتهم، فهم يقولون دائماً: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].

من يعمل للآخرة ولا يترك الدنيا

من يعمل للآخرة ولا يترك الدنيا أما القسم الثاني: فهو نوع وضع الدنيا في كفه ووضع الحياة الآخرة في قلبه، يسعى إلى الدنيا ليعمرها باعتبارها سبيلاً إلى الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الآخرة هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها الناس أجمعون، وإذا رفعوا أكف الضراعة إلى الله يسألونه سعادة الدنيا والآخرة فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ثم يقول الله لهؤلاء: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202]. حينما نحث الناس على السعي إلى الحياة الآخرة لا يعني ذلك أن تعطل الحياة الدنيا، ولكن يجب أن يعمل المؤمن للدنيا ويسعى إلى الآخرة، فيمشي إلى الدنيا مشياً: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، ويسعى إلى الآخرة سعياً حثيثاً: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]. ومن هنا ندرك أن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فإذا كانت الشيوعية الملحدة تقدس البدن والمادة وتلغي الروح، والصوفية تقدس الروح وتلغي البدن، فإن دين الله الخالص يحترم الروح والبدن جميعاً، ويعطي كلاً منهما حقه.

من تخالف أقوالهم أفعالهم

من تخالف أقوالهم أفعالهم أما القسم الثالث: فهم أناس يعجبك قولهم في الحياة الدنيا، فألسنتهم أحلى من العسل، ولكن قلوبهم قلوب الذئاب، فهم يحقدون على هذا الدين، رغم أنهم يصوغون الخطب الرنانة ويعتلون المنابر يخدعون الأمم بخطبهم، ولكنهم أخطر شيء على دين الله عز وجل وعلى الناس {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]، حيث يجر على أمته من المشاكل والمصائب ومن عقوبات الله عز وجل وسخطه، ما لا يعيش معه حرث ولا نسل، ثم إنهم يتصفون بالكبرياء والأنفة والعصبية الجاهلية، فإذا قيل لأحدهم: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، لماذا يقال له اتق الله وهو فوق هذا المستوى، وفوق هذه الأمم التي تعيش حوله؟! إن هذا لا يذيبه إلا حر نار جهنم، يقول عز وجل عنه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. وإن كان قد فقد النفاق الذي كان أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن في دنيا العالم اليوم من أنواع النفاق ما لا يحصيه إلا الله، ولعل من أبرز أنواع النفاق هذه الهويات التي أصبح يحملها ما يزيد على ألف مليون، ثم حينما نفتش في واقع هؤلاء المسلمين فإن الكثير لا نجد فيهم من يطبق الإسلام إلا النزر القليل. من هؤلاء المنافقين من يتقلدون المناصب، ويمتطون الإسلام مطية إلى أغراضهم، حتى إذا انتهى بهم المطاف إلى السيطرة على السلطة وإذا بهم يعلنون الحقد الدفين على هذه الأمة. وهناك من يدعي الإسلام، وهو في الحقيقة إنما يأخذ من الإسلام ما يتناسب مع مطالبه، أما حينما يتنافى الإسلام مع أهدافه أو يصطدم مع مخططاته فإنه يضرب بهذا الدين -دين الله- عرض الحائط غير مبال به، فحسبه جهنم ولبئس المهاد. هناك من يتغنى بالإسلام، ويملأ الدنيا صراخاً وعويلاً: الإسلام الإسلام الدين الدين وهو أبعد الناس عن دين الله عز وجل، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.

من باع نفسه لله عز وجل

من باع نفسه لله عز وجل هناك نوع رابع جعل حياته كلها لله عز وجل، وهو صفوة هذه الأقسام الأربعة، فهو نوع باع نفسه لله عز وجل وقبض الثمن الذي لابد منه وهو الجنة، وسلم المثمن وهو نفسه، فهو ينتظر الجزاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]. لا يحني رأسه لغير الله، ولا يسأل إلا الله، لا يعرف في هذا الكون من يستحق أن يعبد أو يخشى إلا الله، قد رفض الدنيا كلها في سبيل شراء عقيدته والاحتفاظ بها. كان صهيب الرومي رضي الله عنه يريد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، وكان رجلاً ثرياً، فيلحقه أهل مكة فيقولون له: يا صهيب! والله لا تغادرنا وقد جئت رجلاً فقيراً، ثم أنت اليوم ترتحل من أثرى الناس، فيقول: يا قوم! إن كنتم تريدون مالي فإن مكانه في كذا وكذا في مكة، وإن كنتم تريدون أن تصرفوني عن اللحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم فإني والله من أرمى العرب، ووالله لا أترك سهماً في كنانتي حتى أصيب به واحداً منكم أو تتركوني وتخلوا بيني وبين نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: دلنا على مالك، فيدلهم على جميع ماله، ويخرج بنفسه لاحقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل المدينة حتى تتلى هذه الآية في حقه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].

أمر الله تعالى لعباده بالدخول في الإسلام كافة

أمر الله تعالى لعباده بالدخول في الإسلام كافة وبعد أن ختم الله هذه الأقسام الأربعة أمر الناس عامة بجميع مللهم وأشكالهم وأنواعهم أن يدخلوا في دين الله جملة واحدة، بحيث لا يتخلف أحد عن هذا الدين؛ لأن الله لا يقبل منهجاً سواه، ولا عقيدة غيره، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. أي: لا تتركوا منه صغيرة ولا كبيرة؛ حيث إن دين الله ملة واحدة، وإن أي مذهب من هذه المذاهب يذهب بهؤلاء الناس عن الدين الصحيح فإنه مرفوض وغير مقبول. أما الذين يريدون أن يأخذوا من هذا الدين بطرف ليتركوا طرفاً آخر، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أنصاف ولا أثلاث ولا أرباع المسلمين، فهذا الدين إنما يؤخذ كاملاً أو يترك كاملاً، وحينما يأخذونه كاملاً يكونون مسلمين حقاً، أما حينما يرفضون الإسلام فأولئك هم الكافرون حقاً. الإسلام منهج حياة متكامل، وليس عبادة فحسب، ولكنه عبادة ومنهج حكم ومنهج حياة اقتصاد وسياسة واجتماع، وأي واحد يريد أن ينحي الإسلام عن هذه النواحي فإن الله سبحانه وتعال له بالمرصاد يأخذه أخذ عزيز مقتدر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأخذ ببعض الدين وترك بعضه الآخر

الأخذ ببعض الدين وترك بعضه الآخر الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، وخذوا بهذا الدين كاملاً، واحذروا تلك العبادة المؤقتة التي يتجه إليها الناس فترة من الفترات لينصرفوا بعد فترة أخرى، إن الإسلام كتلة واحدة يجب على المسلمين أن يأخذوا به جميعاً؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. أما هؤلاء الذين يتكيفون ويغيرون ويبدلون في دين الله فيأخذون ما يروق لهم، فيحجون لأن الحج فيه لقاء، ولكنهم لا يدفعون زكاة المال لأن فيها غرامة كما يظنون، أو يصلون لأن الصلاة لا تكلفهم جهداً، ولكنهم لا يصومون لأن الصيام يحرمهم شهواتهم، أو يصومون ويحجون، ولكنهم لا يحافظون على الصلاة لأنها تتكرر عليهم في اليوم خمس مرات، هذا ليس هو منهج المسلم، إن المسلم مطالب بأن يأخذ بهذا الدين كاملاً غير منقوص؛ لأنه عبارة عن أركان أوجبها الله على كل واحد من المسلمين. معشر المسلمين! كثير من الحجاج لا يحافظون على الصلوات الخمس في المساجد، وهي فرض عين على كل واحد من المسلمين، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. احذروا معصية الله، وحافظوا على هذا العهد الذي أبرمتموه بينكم وبين الله عز وجل، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، فاحذروا البدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم اكتب النصر لعبادك المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم على عدوهم ولا تخذلهم، اللهم وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، اللهم وأتبع الظالمين بالظالمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بأعدائك الذين يعذبون المسلمين في سوريا، اللهم أتبعهم بالظالمين، اللهم طهر الأرض من الفجرة والكفرة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم طهر أرض المسلمين من هؤلاء أجمعين، وأتبع بعضهم ببعض، وارفع راية الإسلام برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإسلام، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، اللهم خلص إخواننا في سوريا وخلص إخواننا في مصر الذين يعيشون في غياهب السجون، واجعل ولايتنا وأمر المسلمين عامة في عبادك الصالحين الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

غزوة بدر

غزوة بدر كانت معركة بدر الكبرى في اليوم السابع عشر من رمضان، وكانت معركة حاسمة غيرت مجرى التاريخ، وقد سمى الله تعالى ذلك اليوم بيوم الفرقان؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وقد جعل الله تعالى فيها من العبر والدروس ما يجب على المسلمين أن يستفيدوا منها في واقع حياتهم، ولا يجعلوها ذكرى عابرة للاحتفال، والإكثار في المجالس من القيل والقال، بل علينا أن نستفيد منها في الأعمال والفعال.

سبب معركة بدر ووقتها وبدايتها

سبب معركة بدر ووقتها وبدايتها إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قوته لا تقهر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وسيروا على النهج القويم تدركوا النصر. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:123 - 128]. معشر المسلمين! إن شهر رمضان ميدان للجهاد في سبيل الله، وليس للنوم واللهو واللعب كما يتصوره طائفة من البشر، إنه ميدان للجهاد المقدس الذي رفع شأن المسلمين وأقام دولة الإسلام الشامخة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ففي مثل هذه الأيام بل في مثل يوم غد وقف الإسلام والكفر وجهاً لوجه، فكان النصر فيه للمسلمين الذين عاهدوا الله عز وجل على الجهاد في سبيله، والذين بذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم في سبيل الله. لقد وقف الإسلام والكفر، فانتصر الإسلام نصراً خارقاً، وحينئذ بالرغم من قلة العدد وكثرة العدو فلقد تعطلت كل نواميس الحياة، واختلت المقاييس المادية حينما وقف الإيمان بحق في وجه الكفر، لقد كانت موقعة بدر في مثل هذه الأيام، وانطلق موكب صغير في حجمه، عظيم في قدره، يريد أن يأخذ عيراً لقريش؛ ليسترد شيئاً من أمواله التي خلفها هناك في مكة على غير استعداد ولا إرادة قتال، وحينئذ أصبح لا مناص من القتال حينما أقبلت قريش بخيلها وخيلائها: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبدء المعركة

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبدء المعركة وحينئذ وقف عليه الصلاة والسلام يستشير قومه أصحاب العدد القليل في القتال، فيحبذ المؤمنون القتال، ويقوم زعيم المهاجرين المقداد بن الأسود رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! والله لقد آمنا بك وصدقناك، فلو خضت بنا برك الغماد لخضناها معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن: اذهب فقاتل فإنا معك مقاتلون. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة أخرى: (أشيروا علي معشر القوم -وكأنه يريد أن يأخذ رأي الأنصار- فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! لعلك تعنينا، والله لقد آمنا بك وصدقناك، وعلمنا أن ما جئت به هو الحق، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك -يشير إلى البحر الأحمر- ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وإنا لنرجو أن يريك الله منا ما تقر به عينك). فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى ليلة سبعة عشر من رمضان -أي مثل هذه الليلة- ما بين ساجد وراكع لله عز وجل، يمد أكف الضراعة ويستدر رحمة الله عز وجل، ويقول لربه: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد في الأرض). وهكذا يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة توسله بين يدي الله، حتى إذا كان الصباح وبدأت المعركة، كانت قد أعطت لوناً جديداً من الجهاد لم يعرفه تاريخ الإنسان منذ القدم، لقد وقف هذا العدد القليل أمام ذلكم الحشد المسلح، ثم ينتصر المسلمون في المعركة! ولقد وصفها لنا أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يقول: والله إننا لنرى الرأس يطير، ونرى اليد تقطع، ولا نرى من الذي يفعل ذلك! لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:12 - 13].

انتصار المسلمين في المعركة

انتصار المسلمين في المعركة انتهت المعركة، وانتصر الإسلام، وكان نصراً حاسماً، وقامت هناك دولة الإسلام آمنة مطمئنة، عزيزة الجانب، وحينئذ كانت آية، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13].

أخذ العبر والدروس من معركة بدر

أخذ العبر والدروس من معركة بدر إن هذه الآية تتجدد بعد كل فترة، فإذا ضعف المسلمون وتأخروا عن دينهم برزت تلك الآية، ولعل هذه الآية تبرز اليوم كثيراً ونحن نسمع مئات الملايين من المسلمين؛ بل نسمع عشرات الملايين من العرب يغلبون أمام عدد قليل؛ لأنهم تركوا الجهاد في سبيل الله بحق؛ لأنهم عصوا الله في أيام الأمن والرخاء، فيرفع الله سبحانه وتعالى يده عنهم أيام الشدة، إنها آية عظيمة، هذه الآية حينما نرى المسلمين اليوم يعيشون معذبين تحت مطارق الكافرين، بالرغم من تلكم الإحصائيات الضخمة أمام أعدائهم، وما عرف المسلمون الهزيمة في تاريخهم الطويل، اللهم إلا إذا تأخروا عن دينهم وركبوا المعاصي والآثام، أو تهاونوا بالواجبات. إن المسلمين اليوم يستحقون النصر لو كان لهم قائد أعلى مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يقضي ليلة المعركة ما بين ساجد وراكع لله، بعد أن يطهر مجتمعه من الفساد والانحراف والمعصية إنهم يستحقون نزول الملائكة اليوم لو كان فيهم قادة أمثال سعد بن معاذ والمقداد بن الأسود، لا يبالون بأن يركبوا الماء بدون سفينة في سبيل الله إنهم يستحقون هذا النصر لو كان فيهم جنود مثل عمير بن الحباب رضي الله عنه، الذي ما كاد يسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقاتلهم اليوم مؤمن صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا وجبت له الجنة)، وكان يحمل تمرات في قرنه فيقذفها على الأرض ويقول: والله إنها لحياة طويلة إن أكلت هذه التمرات قبل أن ألقى الله عز وجل! أما اليوم وقد ركب الناس هذه المعاصي والآثام، وتدربت كثير من جيوش المسلمين في بلاد الكفر وركبوا هناك كثيراً من المعاصي، وتدرب الناس عامة أو أكثرهم على موائد التلفاز والفيديو، وعلى الأفلام الخليعة التي غيرت مجرى حياتهم؛ فرفع الله عز وجل النصر عنهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حكم إحياء ليلة سبعة عشر من رمضان

حكم إحياء ليلة سبعة عشر من رمضان الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إن معارك الإسلام ومواقفه المشرفة لا يجوز أن تتحول إلى ذكريات بعد أن كانت حقائق رفعت شأن الإسلام والمسلمين، وإذا كان هناك طائفة ممن يشعرون بالهزيمة اليوم في أيامهم أمام هذه الجيوش التي رفع الله عز وجل يده عنها، يريدون أن نكتفي من موقعة بدر بذكريات نقيمها ليلة سبعة عشر من رمضان! إن هذه بدعة لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فما أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة أبداً في غير تلك المعركة، وما فعل ذلك أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذه الذكرى يجب ألا تمر مر الكرام في أذهان المسلمين، يجب أن يفتشوا في أنفسهم، وينظروا في واقعهم المرير وهم يعيشون مستضعفين تحت مطارق الكافرين، وحينئذ عليهم أن يعاهدوا الله عز وجل على التوبة، وعلى العمل الصالح: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. ونحن في هذه الذكرى وهي تمر بنا في هذه الأيام، ونحن نرى العالم الإسلامي كله محاطاً بأعدائه، محاطاً بالشيوعية وأعوانهم من كل جانب، وباليهودية من جوانب أخرى، هذه الذكرى يجب ألا تمر عابرة، ويجب على كل مسلم أن يفتش عن نفسه، وأن يسعى في إصلاح مجتمعه؛ لتعود لهذا المجتمع عزته وكرامته وقتئذ؛ فإن نصر الله قريب، وإن الله يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. حينما نكون من جند الله، وحينما نبرم العهد مع الله عز وجل؛ فإن نصر الله قريب، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.

فضل العشر الأواخر من رمضان

فضل العشر الأواخر من رمضان معشر المسلمين! إننا نستقبل أياماً فاضلة، أيام العشر الأواخر من رمضان، التي فيها ليلة القدر التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، ويقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]. فانتبهوا لهذا الأمر، وعاهدوا الله على العمل، وجددوا التوبة مع الله، واجتهدوا في مثل هذه الأيام الفاضلة، وأكثروا من الركوع والسجود والتضرع بين يدي الله، فإننا نعيش فتنة عمياء، ومصيبة لم يمر مثلها في تاريخ الإنسان الطويل، فأكثروا من السجود والركوع والتضرع بين يدي الله عز وجل، واسألوه مخلصين له الدين أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعيد للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وكرامتها. عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نتوجه إليك في هذه الساعة الشريفة من هذا اليوم المبارك ونحن نستقبل ليلة بدر ويومها أن تعيد للأمة الإسلامية عزها ومجدها، اللهم أيد المجاهدين في سبيلك، اللهم قوّ جانبهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحب وترضى، اللهم قوّ إخواننا المجاهدين في أفغانستان، وفي إرتيريا، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي كل مكان من الأرض يعذب الكافرون فيه المؤمنين. اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

خواطر شهر محرم

خواطر شهر محرم الأيام تمر، والسنون تنقضي، وإذا مر عام فلا بد من الذكرى والاعتبار، فإن رأس مال الإنسان هو عمره، فإذا حافظ عليه، واستغله في طاعة ربه جل وعلا فقد أفلح وأنجح، وإذا فرط فيه واستخدمه في معصية الله عز وجل فقد خاب وخسر، ولهذا يجب على كل إنسان أن يحاسب نفسه، وأن يستغل وقته في طاعة ربه، وأن يحذر كل الحذر من الذنوب والمعاصي والآثام.

أنواع القلوب

أنواع القلوب الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! إن القلوب ثلاثة: قلوب منيرة، وهي قلوب المؤمنين، وهي التي تتربى في المساجد، ولا تتربى في المسارح، ولا تتربى في دور الدعارة، وإنما تتربى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وعلى خلاف ذلك قلوب أخبر الله عز وجل عنها أن أعمالها كسراب بقيعة؛ لأن أعمالها ظاهرها الخير، وباطنها السوء. القلوب الثالثة: قلوب مظلمة، نعوذ بالله منها! ظاهرها وباطنها كله ظلام، كما قال عز وجل: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]. والناس في هذه الحياة الدنيا إما أن يتربوا في المساجد؛ فتكون قلوبهم {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35]، أو يتربوا في خلاف المساجد؛ فتكون قلوبهم مظلمة، أو أن أعمالهم ظاهرها الخير وباطنها السوء، ولعل المجال يفسح لنا في وقت لاحق إن شاء الله حتى يكون حديثنا عن هؤلاء الأجناس الثلاثة.

أهمية محاسبة الإنسان لنفسه

أهمية محاسبة الإنسان لنفسه إن الحديث عن شهر الله المحرم حديث ذو شجون؛ لأنه حديث عن فرصة تحقق فرصة أخرى، هذه الفرصة تفتح فيها صفحة جديدة من صفحات التاريخ في حياة الإنسانية جمعاء، وستنتهي هذه الصفحة لتفتح بعدها صفحات وصفحات إن طال بنا الزمان. أيها الإخوان! أما نحن وذكرياتنا في شهر الله المحرم فيجب أن تكون لنا مواقف، هذه المواقف يجب ألا نغفل عنها. إخوتي في الله! إن الرجل التاجر الذي يعمل ليلاً ونهاراً طيلة العام في بيعه وشرائه، يأخذ من فلان ويبيع على فلان ويشتري من فلان، ويعطي ويستعطي لابد وأن تكون له ساعة يقف فيها أمام دفاتر تجارته؛ لينظر ما له وما عليه، وماذا كسب وماذا خسر؟ وماذا عليه أن يعمل؟ وكيف يجب أن يتصرف ليزيد في أرباحه وتجارته؟ وهذا أمر بدهي، ندركه في حياتنا التجارية، وإذا كان المسافر يسير في طريق طويلة فإنه لابد أن يقف أمام لوحات الطريق، ولابد أن يقف أمام معارج الطرق وأمام المنعطفات؛ لينظر كم قطع من الطريق؟ وماذا بقي له في هذا الطريق؟ وكم ميلاً قطعه؟ وكم ميلاً بقي؟ ثم يعود مرة أخرى لينظر في زاده ماذا بقي؟ وكيف يجب أن يتزود؟ هذه فطرة بشرية ندركها جميعاً ونحن اليوم نعيش أمام مفرق من مفارق الطرق، وأمام لوحة من لوحات الطريق؛ لأنا نسير جميعاً إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة. ونحن أيضاً في تجارة مع الله عز وجل، لكنها تجارة تنجينا من عذاب أليم تجارة هي أعظم تجارة. إذاً: أولاً: جدير بنا وأحق بنا أن نقف اليوم كما يقف التاجر أمام دفاتر تجارته، وكما يقف المسافر أمام لوحات الطريق، وأمام مفارق الطريق ومنعطفاته؛ لننظر كيف الطريق؟ وهل نحن في صحة من مسيرتنا أو يجب أن نغير الطريق مرة أخرى لنصل إلى الهدف الذي ننشده إن شاء الله؟ هكذا نحن أيها الإخوة المؤمنون نتصور أنفسنا ونحن نضع أقدامنا في شهر الله المحرم، وهو أول شهر في العام؛ ولذلك سمي الشهر المحرم؛ لأنه أحد الأشهر الأربعة الحرم التي يقول الله عز وجل عنها: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، بل هو أعظم الأشهر الحرم؛ لأنه وضع بداية لتاريخ الإنسانية جمعاء، وذلك حينما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين في عصره بأي شيء يبدأ السنة: أيبدؤها بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بهجرته أم بوفاته أم بماذا يبدؤها؟ فرأى المسلمون أن يبدأها من الهجرة، وأن يكون شهر الله المحرم هو أول السنة؛ لأنه يعود فيه الحجاج إلى مواطنهم، ولأنه تستأنف فيه أنشطة كثيرة. إخوتي في الله! ومن هذا المنطلق يجب أن نقف نفكر ونستعرض صفحات العمل، ونستعرض سجلات العمل التي أودعناها في العام المنصرم، ونصحح المسيرة إن كنا قد أخطأنا، أو نثبت على المسيرة إن كنا قد أحسنا. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المناسبة فقال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتبهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتبهوا إلى نهايتكم؛ إن العبد المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، ألا فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن شبيبته لهرمه، ومن دنياه لآخرته). ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مثل هذه المناسبة: (أيها الناس! إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غاب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تعملوا صالحاً فاعملوا).

مواقف يجب أن يقف الإنسان عندها

مواقف يجب أن يقف الإنسان عندها هكذا أيها الإخوان! يجب أن نتصور مثل هذه المواقف، ولذلك فإن الله عز وجل برحمته بهذا الإنسان وضع مراحل له في طريقه إلى الله عز وجل، ووضع أموراً يجب أن تستوقف المرء المسلم العاقل؛ لينظر في مسيرته، هذه المعالم نجدها تتكرر ونجدها تتعدد. ومن أبرزها ومن أهمها: مرور الأيام والسنين، ومن أهمها أيضاً: بلوغ أربعين سنة، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذه المرحلة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:15 - 16]. ومن هذه المعالم أيضاً: بلوغ الستين، ولعلها تكون نهاية المعالم وآخر الإنذارات التي يجب أن ينتبه لها المسلم، فلا يضيع الفرصة بعد ذلك، ولذلك ورد في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعذر الله إلى رجل أخر أجله حتى بلغ الستين)، ومعنى (أعذر) أي: لم يترك له عذراً بعد ذلك، فإذا أراد أن يستعتب ويعتذر إذا نزل به الموت فإن الاستعتاب والاعتذار لا يقبل بعد ذلك؛ لأنها آخر مرحلة من مراحل الاستعتاب والاعتذار. ثم هذا الشيب وتغير لون الشعر أيضاً معلم من هذه المعالم، وإنذار من تلك الإنذارات التي تعترض مسيرة المرء المسلم في حياته، ولذلك يقول الله تعالى للناس الذين فرطوا في العمر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، قال طائفة من العلماء: إن المراد بالنذير هنا هو الشيب وابيضاض الشعر. أيها الإخوة المؤمنون! هذه الإنذارات لا تمر بالرجل العاقل إلا وتستوقفه ويستوقفها، ولا تمر بالرجل الجاهل إلا مر الكرام، فلا يدري ماذا مضى وماذا بقي؛ لأنه في غمرته غافل؛ كما قال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]، فلهو القلوب هو الذي أضل كثيراً من الناس؛ فإن كانت القلوب متعلقة بالله فإنه يرجى لهذه القلوب خير؛ لكن إذا لها القلب فإن المصيبة لا تساويها مصيبة.

وجوب استغلال العمر في طاعة الله عز وجل

وجوب استغلال العمر في طاعة الله عز وجل إخوتي في الله! يجب أن نقف ونفكر: ماذا فعلنا؟ وماذا تركنا؟ وماذا يجب أن نفعل؟ وماذا يجب أن نترك؟ وإلا فإننا قد غفلت ولهت قلوبنا. أيها الإخوان! علينا أن نستعرض صفحات ما مضى من السنة الماضية، وماذا تركنا من الواجبات؟ فكثير من الواجبات تركه الناس، وكم فرطنا في كثير من الأوامر! وكم مرت بنا ليالٍ طوال وأيام لا تحصى ونحن في هذه الغفلة! والليل والنهار كما ورد في الأثر: (والليل والنهار خزانتان فانظروا ماذا تودعون فيهما)، بل يقول الله عز وجل قبل ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] ومعنى (خلفة): أي: يخلف بعضها بعضاً. فإذا مضت عليك فرصة لا تتعبد فيها لله عز وجل بالنوافل فأمامك النهار؛ لأن الله تعالى لما ذكر قيام الليل قال: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] وإذا مضى عليك النهار ولم تستفد منه فإن أمامك الليل الذي هو مطية الصالحين الذين يسيرون فيه إلى الله عز وجل، والذين يقول الله عز وجل عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، وقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. كنا نقول هذا لأنفسنا منذ زمن، وكنا نخاطب الناس بمثل هذا المنطق، لكننا أصبحنا اليوم نتنازل مع الواقع المرير، فنقول للناس: صلوا صلاة الفجر مع المسلمين، بدلاً من أن نقول لهم: إن الله قال عن المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وأصبحنا نتمنى من المسلمين أن يصلوا صلاة الفجر! وصلاة الفجر لها ميزان عظيم عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول عنها: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: (ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله). إذاً: يجب أن ينتبه المسلم! فكم ضيعنا أيها الإخوة المؤمنون من الصلوات! وكم ضيع المسلمون من هذا الجانب! فهناك سواد عظيم لا يقيمون للصلاة وزناً، يجب أن يقفوا أمام سجلاتهم من العام الماضي لينظروا فيها؛ فهل ترك الصلاة أمر سهل أو أمر عظيم؟ إنه والله من أعظم الكبائر! بل إنه الردة عن الإسلام؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، ولعله قد ارتبطت إضاعة الصلاة باتباع الشهوات لأن من عصى الله عز وجل قيض له شيطاناً فهو له قرين، فأصبحت هذه الشهوات ألذ شيء له في حياته، ولذا قال عز وجل عنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60]، فباب التوبة مفتوح، وباب التوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبالنسبة لعامة الناس وبالنسبة لكل فرد من الأفراد فإن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17]. وأبشركم يا إخوان! بمعنىً لهذه الآية أجمع عليه المفسرون، وهو: أن قوله: (بِجَهَالَةٍ) ليس معناه في حالة جهلهم للمعصية، بل معناه: في أيام الجهل وأيام الغفلة. ثم أبشركم أيضاً بأن قوله: (مِنْ قَرِيبٍ) ليس معناه أن يتوب مباشرة وإلا فلا تقبل منه التوبة، ولكن معناه: أن ذلك القريب هو ما قبل الموت؛ بدليل الآية الأخرى بعدها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]. وعلى هذا فكل ما عصينا الله عز وجل به فهو بجهالة؛ لأن الإنسان لا يعصي الله عز وجل إلا في فترة جهالة، وأيضاً القرب ما زال أمامنا؛ لأن الروح ما زالت في الجسد -والحمد لله- فهي فرصة، ولذا يجب أن نستعتب، ويجب أن نتوب؛ فوالله ما بعد الموت من مستعتب.

إضاعة الصلاة سبب في الوقوع في الشهوات

إضاعة الصلاة سبب في الوقوع في الشهوات إخوتي في الله! إذا كان قوم قد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ فإن إضاعتهم للصلاة هي التي أوقعتهم في كثير من الشهوات، هذه الشهوات التي انفتحت على الأمة الإسلامية تدركونها دون أن أتناولها بكثير من التفصيل، ولكني سأتناولها بشيء من ذلك. إخوتي في الله! أين يذهب كثير من شباب المسلمين في عطل الصيف؟! أولئك الذين يرقبون ورقة التقويم ينظرون فرص الإجازات وفرص الصيف، كثير منهم نجدهم يذهبون إلى بلاد الكفر وإلى بلاد المعصية يذهبون إلى بلاد التحلل، يقتلون الأخلاق، ويذيبون الأموال، ويفسدون الحرث والنسل! هذه الشهوات جاءت مرتبطة بترك الصلاة؛ لأن الصلاة كما أخبر الله عز وجل عنها أنها: (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. أيها الإخوة المؤمنون! كثير من الفساد غزا قلوب كثير من الناس، بل وغزا بيوتهم؛ فأصبح في قعر بيوت المسلمين أفلام ترقص وتغني حتى الهزيع الأخير من الليل!

آثار الشهوات على الأخلاق والسلوك

آثار الشهوات على الأخلاق والسلوك هؤلاء الذين اتبعوا الشهوات كان لهذه الشهوات آثار في قلوبهم، وآثار في أخلاقهم، وآثار في سلوكهم؛ فصار هؤلاء يتطلعون إلى المعصية ليلاً ونهاراً. لقد أصيب كثير من المسلمين بهذه المشكلة، فكان ذلك جزاءً وفاقاً، ولكن على هؤلاء المسلمين أن ينتبهوا ما دام في الأمر متسع وفسحة، فكثير من المسلمين وقع في كثير من المحرمات.

بيان ضرر الربا وخطره

بيان ضرر الربا وخطره هذا الربا يا إخوتي! قد أعلن الحرب على الله عز وجل جهراً في وضح النهار، وفتح أبوابه علناً في بلاد المسلمين؛ يعطي الدرهم بدرهمين إنها معصية عظيمة لله عز وجل توعد الله عز وجل فاعلها بالخلود في نار جهنم والعياذ بالله! فقال عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]. والمرابي أعلن الحرب بينه وبين الله عز وجل وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]. هذا الربا صار ينقسم في حياتنا اليوم إلى قسمين: قسم قد أعلن الربا علناً، وفتحت البنوك أبوابها أمام المسلمين: ادفع ريالاً وخذ ريالين ادفع درهماً وخذ درهمين، وبعد فترة من الزمن فتح أبوابه مغطى وملفوفاً بلفائف مكشوفة لدى كثير من التجار الذين أصبحوا يتحايلون على الربا، ويستحلون محارم الله بأدنى الحيل، الذين يقول أحدهم: تعال إلي واشتر هذا المال شراءً صورياً، ثم بعه علي أو بعه على فلان، ثم بعد ذلك اخرج في دقائق ومعك شيء من المال بزيادة، وكل ذلك من الربا الذي يكاد أن يحل بنا سخط الله عز وجل، بل قد أخذ الربا في أيامنا الحاضرة أضعافاً مضاعفة، وهو آخر ما وصلت إليه جاهلية الأمس، وهو في الذروة بالنسبة لواقعنا اليوم، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:130]، فنجد أن البنوك اليوم إذا حل الدين بالساعة وبالدقيقة تسجل زيادة على هذا الرجل المدين حتى يؤدي هذا المال الذي عليه. فهذا هو الربا الأضعاف المضاعفة الذي هو أعظم ما فعلته جاهلية الأمس بعد الشرك بالله عز وجل، وهو الآن موجود لدى كثير من التجار. إذاً: يجب على هؤلاء التجار، ويجب على هؤلاء المسئولين عن البنوك؛ بل يجب على السلطة التي تشرف على هذه البنوك أن تستعيد صفحات حياتها، وأن تتقي الله عز وجل؛ لأن هذا من الأمور العظام التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها -أي: أخفها- كأن ينكح الرجل أمه). فتصور يا أخي! من يستطيع أن ينكح أمه؟! لكنه يستطيع أن يكسب ملايين الأموال بسبب هذه البنوك وهو لا يتصور عظم هذه الجريمة. وأضف إلى ذلك ما وقع من المعاملات المحرمة، ثم أضف إلى ذلك ما وقع من السلوك المنحرف الذي مني به كثير من الناس، نسأل الله العافية!

خطر التشبه بالكفار

خطر التشبه بالكفار ولعل جاهلية الأمس التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم لم تترك شاردة ولا واردة في عصرنا الحاضر إلا وفرضته عليه. ومن هنا يجب أن ينتبه المسلمون لهذا؛ فإن هذا سلوك يشبه سلوك الكافرين سواءً بسواء، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتعبن سنن -أي: طريقة- من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة -أي: كالسهم يتبع السهم- قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟). ونحن نكره اليهود في حقيقتنا وفي واقعنا وفي ألسنتنا، لكن أخلاقهم وسلوكهم قد وقع فيها كثير من المسلمين، نسأل الله العافية! بل إذا قيل لأحدهم: اتق الله! قال: هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدم! فسموا الأشياء بغير أسمائها، وغيروا المسميات كما غيروا الأسماء؛ فسموا الربا اقتصاداً، وسموا الرقص والغناء فناً وفنوناً، والفنون جنون، وسموا الخمر مشروبات روحية، وسموا النفاق مجاملة، وسموا الكذب دبلوماسية!! وسموا وسموا وكل هذه الأشياء حقائقها ما زالت باقية، لكن أسماءها قد غيرت، يريدون أن يموهوا على الناس وهي على حقيقتها لا تتغير؛ فالحقائق لا تتغير. أيها الإخوان! حينما ننظر في سلوك كثير من المسلمين الذين ابتلوا بتقليد أعدائهم، والذين حكى عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر بقوله: (لتتعبن سنن من كان قبلكم)؛ نجد أنهم أصبحوا صورة طبق الأصل لأعدائهم الذين هم يظهرون العداء لهم في الظاهر.

خطر تبرج المرأة وتقليدها للكافرات

خطر تبرج المرأة وتقليدها للكافرات لقد تبرجت المرأة الكافرة، وخرجت سافرة، وكشفت عن مفاتنها، وتجولت في الأسواق، وصارت تغدو وتروح، وذهب كثير من شبابنا وكثير من رجالنا إلى تلك البلاد، فعشقوا تلك الأزياء وذلك السلوك، فجاءوا وفرضوه على كثير من البلاد الإسلامية الآمنة المطمئنة، وقالوا: إن هذه هي الحضارة! ثم أيضاً رأوا أن النساء هن أكبر وسيلة للقضاء على الأخلاق والفضائل، وذلك حينما تخرج متبرجة عارية أو شبه عارية، وقالوا: إن هذه هي الحضارة! ثم بعد ذلك أرادوا أن يحرفوا أبناء المسلمين من خلال هذه التوصية التي كان سادتهم يوصونهم بها: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من هذه المرأة، فاتخذوا من هذه المرأة وسيلة للدمار، ووسيلة للفناء، ووسيلة للانحراف، ولذلك فإن أحدهم يقول قولاً معسولاً وحاله كما قال عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].

حرمة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال

حرمة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال أيضاً نرى أن كثيراً من الشباب -وهذا أعجب مما سبقه- بدءوا يعشقون عادات هي غريبة كل الغربة عن أخلاق الإسلام، بل عن الرجولة وعن أخلاق العرب! فنجد أن كثيراً من الشباب قد سقط عن رجولته، وتنازل عن الدرجة التي ميزه الله عز وجل بها عن المرأة، الدرجة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34]. فتنازلوا عن هذه الدرجة، فرأينا في أيامنا الحاضرة أن كثيراً من الشباب بدأ يتنازل عن رجولته، ويتشبه بالمرأة، وينافسها في شكلها، وفي صوتها، وربما في شيء من لباسها، فربما يلبسون الذهب، والملابس الرقيقة والضيقة، ولربما يرققون أصواتهم، وهذا أمر عجيب أعجب من الأول! ولذلك يقول الشاعر: فلا عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الشباب عجيب لأن الرجل حينما ينزل إلى مستوى المرأة إنما تنازل عن حق من حقوقه، وحينما تتطلع المرأة إلى صفة من صفات الرجال إنما تطالب بدرجة هي أعلى من درجتها التي وضعت لها. وعلى هذا فإن هذه من الأمور التي وقع فيها طائفة من شبابنا الذين ضلوا الطريق على أيدي أعدائنا، فيجب أن نتنبه لهذا الأمر. بعد ذلك نرى أن هذه الموضات وهذه الفتن وهذه المعاصي ظهرت في فترة قلّ فيها جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبح كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه إلا ما شاء الله؛ بل ربما أن طائفة من هؤلاء الناس أصبحت ترهبهم قوة البشر أكثر من قوة خالق البشر سبحانه وتعالى، فتنازلوا عن هذا الواجب أو تركوا هذا الواجب الذي أناطه الله عز وجل في أعناقهم، فخلا الجو لهؤلاء ولأولئك، فباضوا وفرخوا في هذا المجتمع الذي فقد كثيراً من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وجوب قيام كل صاحب مسئولية بمسئوليته

وجوب قيام كل صاحب مسئولية بمسئوليته أيها الإخوان! كل هذه الأمور مسجلة في صفحات هذا الجيل في أيامه الماضية، وكل هذه الأمور سيسأل عنها، وسنسأل عنها بصفة عامة، وسيسأل عنها الولاة والذين استرعاهم الله عز وجل على هذا العالم الإسلامي بصفة خاصة، خصوصاً الآباء الذين قال الله عز وجل عنهم: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والولاة الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، كل هؤلاء سيسألون وسيوقفون بين يدي أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى.

وجوب المبادرة إلى التوبة

وجوب المبادرة إلى التوبة لكن حينما نستعرض شيئاً من صفحات ما مضى ونحن نقف اليوم على هذا المفرق من مفارق الطريق في حياة الإنسانية، يجب أن نبادر إلى التوبة؛ لأني أرى أن كثيراً من الشباب الذين يتمتعون بالفتوة والقوة وأجسادهم مفتولة، أرى أن كثيراً من هؤلاء يسوفون في التوبة، ويقولون: نتمتع في هذه الحياة، وأمامنا متسع، وباب التوبة مفتوح، وقد سمعنا أن باب التوبة مفتوح إلى أن يموت هذا الإنسان أو إلى أن يقارب أجله. ونحن نقول: كم من الناس من حيل بينه وبين ما يريد! قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. فكم من الشباب في أيامنا الحاضرة من تختطف أرواحهم أكثر من الشيوخ! ولو ذهبنا إلى المرور لنسجل الوفيات التي حصلت -مثلاً- في منطقة القصيم لمدة سنة، ثم حصرنا الذين ماتوا على فرشهم؛ لوجدنا أن الذين يموتون على فرشهم لكبر سن أو لمرض لا يساوون عشرة بالمائة بالنسبة للذين يموتون في حوادث المرور، أو في موت الفجأة أو ما أشبه ذلك. وهؤلاء كلهم في الغالب من الشباب الذين كانت عندهم آمال، وكانت عندهم طموحات؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رسم على الأرض خطاً طويلاً وقال: (هذا الإنسان، وهذا أمله، ورسم خطاً أقصر منه بكثير وقال: هذا الأجل). إذاً: الأجل أقرب من الأمل يا إخوة! فلا نخطط لسنين، فعندنا من الشجاعة النفسية والأمل الطويل العريض ما يجعلنا نخطط لسنين. فعلينا يا إخوتي! أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نبادر بالتوبة. وأرى كثيراً من الأصحاء يسوفون أيضاً في التوبة، ويقولون: نحن أصحاء في أجسامنا، فلنا أن نتمتع وننهل من لذات هذه الحياة إلى أن يكبر بنا السن أو إلى أن نضعف! وكل هذه من الآمال التي لا تتناسب مع عقلية المؤمن، ومع الفطرة التي فطر الله عز وجل المسلمين عليها. إذاً: علينا أن نبادر بالتوبة، وألا تفوتنا هذه الفرصة، وهي خاطرة من خواطر شهر الله المحرم الذي نعيشه اليوم.

قيام الدولة الإسلامية في شهر الله المحرم

قيام الدولة الإسلامية في شهر الله المحرم ولعلنا نعرج قليلاً على الخاطرة الثانية، وهي أيضاً من ذكريات شهر محرم: شهر محرم شهر له أثر في قيام الدولة الإسلامية بكاملها؛ لأن في شهر محرم ذكرى لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدراك ما هي هذه الهجرة! إنها الركب الذي انتقل من مكة إلى المدينة في حجم صغير، لكنه في معنى كبير هذا الركب الصغير في حجمه العظيم في قدره هو الذي وضع الحجر الأساسي في مثل هذه المناسبة لقيام الدولة الإسلامية، وذلك يوم وقف الكفر مسلحاً أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن قرر في دار الندوة ذلكم القرار المشئوم؛ بل هو قرار كان له أثره في الهجرة، فهو قرار خير في آخر أمره، وذلك حينما انتقل المسلمون بعد ذلك القرار الذي كشفه الله عز وجل في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. ومن هنا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام، وكانت هذه الدولة وارفة الظل، سامقة الأصول؛ لأننا ما زلنا ولا يزال المسلمون يتفيئون ظلالها إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فعلينا يا إخوتي! ألا تمر بنا هذه الذكرى إلا ونحن قد وعينا الدرس الحقيقي منها، فهناك قامت دولة الإسلام، وهناك شرع الجهاد في سبيل الله، ونزلت أول آية تنفس عن المسلمين، وتأذن لهم بالجهاد في سبيل الله، ألا وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40].

ذكرى عاشوراء، وبيان الأحداث التي وقعت فيه

ذكرى عاشوراء، وبيان الأحداث التي وقعت فيه هناك أيضاً ذكرى ثالثة وخاطرة ثالثة نمر بها أيضاً مر الكرام، ألا وهي ذكرى عاشوراء، الذي صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه، وقال: (خالفوا اليهود، لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده). ولهذا اليوم ذكرى عطرة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ الإنسانية؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك الله فيه فرعون ومن معه من الكافرين المتمردين؛ وذلك حينما جاء ذلكم الطاغية الذي تحدى كل القيم وتحدى كل المعتقدات، وقال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وأنكر ألوهية الخالق سبحانه وتعالى، أنكرها بلسانه، لكنه آمن بها في حقيقته وفي قرارة قلبه، وقد كشف الله تعالى هذا الإيمان، وكشف هذا السر فقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] لماذا جحدوا بها؟ {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: جحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم. وقال الله عز وجل عنه على لسان موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]. ولذلك نجد أن هذا الطاغية إنما أنكر الخالق من أجل أن يستعبد الأمة، وهكذا في كل فترة من فترات التاريخ، أي فرد يريد أن يستذل أمة أو يستعبد شعباً فلابد أن يحول بينه وبين الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، ابتداءً من الفرس في معتقدهم الأول، وإلى فرعون عليه لعنة الله حينما أنكر الخالق، ومروراً بالشيوعية التي تكتسح كثيراً من العالم اليوم، والتي لم تجد سبيلاً إلى السيطرة على العالم إلا أن تنكر الخالق سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، فيجيئون بها وفق منهج اقتصادي في الظاهر، ولكنه في الحقيقة ينتهي إلى إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإنكار القيم، وإنكار الرسل والكتب السماوية والحياة الآخرة، وإنكار كل المبادئ؛ ليقولوا لهذا الإنسان: إنه حيوان ينتهي من حيث يبتدي! ولذلك يزعمون أن هذا الإنسان يوجد نتيجة التفاعل الكيماوي والحيوي، كما تقول الشيوعية، أي: أنه يتعفن في هذا الكون كما يتعفن الطعام، فتولد منه هذه الدودة، ثم هذه الدودة تطورت في نظر الشيوعية حتى صارت جسداً ثم صارت إنساناً!! هذه هي نظرية التفاعل الكيماوي والحيوي في نظر الشيوعية، وهذه بداية الإنسان! وأما نهاية الإنسان في نظر الشيوعية فيجب أن يباد كما تباد هذه الحشرات؛ لأنه تولد من التعفن في نظرهم كما تتولد الحشرات. ولذلك يا إخوان! لو نظرنا نظرة فاحصة إلى ما يفعله الشيوعيون في أفغانستان وفي غيرها -نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يعز الأمة الإسلامية- لوجدنا أن النهاية تطابق البداية بالنسبة لنظرة الشيوعية. يباد إخواننا المسلمون هناك بالبلاد الأفغانية كما تباد الحشرات، والله لقد زرت مستشفيات لو كان الذين فيها كلاب لوجب أن نعطف عليهم، وقد قطعت أيديهم، وقطعت أرجلهم بسبب القنابل والمواد السامة، وشوهت وجوههم!! إلى غير ذلك. مستشفيات يحصى من فيها بعشرات الآلاف بل بمئات الآلاف من البشر! إضافة إلى من يقتل ويباد هناك، ونحن في غفلة نسمع أخبار السلفادور وأخبار العالم كله، ولا نتابع أخبار إخواننا الأفغان أبداً إلا ما شاء الله، وإذا تابعنا نجده في زاوية مهجورة من صحفنا لا تتعدى ثلاثة سنتيمترات في ثلاثة. فإخواننا هناك يبادون على أيدي الشيوعية؛ لأن الشيوعية تقول: إن الإنسان ولد نتيجة التعفن، فيجب أن نعامله كما تعامل الحشرات، ولذا يبيدونه بالمواد السامة. ولذلك فإن فرعون عليه لعنة الله ما استعبد بني إسرائيل وما أراد أن يستعبد المصريين إلا من هذا المنطلق، حيث أنكر الخالق، والشيوعية وهي تريد أن تستولي على هذا العالم لا تستطيع أن تستولي على هذا العالم كما تتصور إلا إذا أنكرت الخالق؛ لأن العالم الذي لا ينكر الخالق سيقف كما يقف الأفغان في أيامنا الحاضرة الذين يقاتلون الروس ولو بالحجارة، في الوقت الذي غفل عنهم إخوانهم المسلمون، ولم يمدوهم حتى بالمال. فالشيوعيون لا يريدون الإيمان بالخالق؛ حتى لا يتسابق الناس إلى الشهادة؛ وإنما يريدون أن يقول الإنسان كما قال الدهري الأول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. المهم أن فرعون ذلكم الطاغية ولد في بيته طفل تولى الله عز وجل تربيته على عينه، كما قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، تولاه الله عز وجل، وتحدى به فرعون، فإذا كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل فإن هذا الطفل سيتربى في بيت فرعون، كما قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]. وانظروا أيها الإخوان! إلى ألطاف الله عز وجل، وانظروا إلى تعطل نواميس الحياة إذا أراد الله عز وجل أن تتعطل يقتل الأطفال من بني إسرائيل، لكن موسى يعيش في بيت فرعون ولا يقتله! ثم بعد ذلك يكون سبباً في هلاكه، وذلك حينما أمره الله عز وجل في يوم عاشوراء من شهر الله المحرم أن يخرج ببني إسرائيل صوب البحر، فلحقه فرعون بجنوده، حتى قيل: إن بني إسرائيل كانوا يحصون في ذلك الوقت بأكثر من ستمائة ألف، أي: الذين عبروا البحر الأحمر بهذه المعجزة الخارقة للعادة. وكان بنو إسرائيل إيمانهم ضعيفاً، فلما رأوا موسى يريد أن يتجه بهم إلى البحر والبحر أمامهم وفرعون من خلفهم قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وهذه فطرة بشرية لا يلامون عليها؛ لكن الرجل المؤمن موسى عليه السلام قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. هكذا الإيمان إذا حل في القلوب؛ حيث تهون كل الدنيا في وجه الرجل المؤمن؛ ولذا قال: (كَلَّا) و (كلا) للردع، (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). ولما علم الله عز وجل إيمانه أمره أن يضرب البحر ضربة واحدة بعصا صغيرة، فتحول هذا البحر إلى اثنتي عشرة طريق، كل طريق يعبر منها سبط من أسباط بني إسرائيل إنها آية عجيبة! فمن كان يظن أن البحر سيتجمد ليعبر الناس عليه بالأقدام؟! إنها قدرة الله عز وجل. فيعبر المؤمنون مع موسى عليه السلام، ثم يدخل فرعون وجنوده من ورائهم، ثم يأمر الله عز وجل البحر أن يطبق على الأقباط مع فرعون ويغرقهم أجمعين، ثم يجعل الله عز وجل فتنة فرعون آية باقية إلى يوم القيامة، ولعل الذين يذهبون إلى مصر ويدخلون المتحف الوطني يرون هذه الآية ما زالت باقية، يقول الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. فمن أراد أن يتكبر، أو ينكر الخالق، أو يشك في الخالق سبحانه وتعالى، أو يطغى على خلق الله، أو يتجبر في هذه الأرض أو يظلم؛ فإن عليه أن ينظر إلى تلك الآية التي مضى عليها اليوم ما يزيد على خمسة آلاف سنة، وهي آية ما زالت باقية يمر بها السواح، ولكن كثيراً منهم لا يشعرون.

كيف نستفيد من ذكرى شهر المحرم؟

كيف نستفيد من ذكرى شهر المحرم؟ أيها الإخوة المؤمنون! إن علينا أن نعتبر شهر الله المحرم شهراً عظيماً له ذكريات، وهذه الذكريات يجب علينا أن نقف عندها، وأن تستوقفنا، وأن نأخذ منها عظة وعبرة، فنأخذ منها العظة الأولى بأن علينا أن ننظر في صفحات أعمالنا، وفي سجلات حسناتنا وسيئاتنا قبل أن ينشر لنا الكتاب يوم القيامة، ويقال لأي واحد منا: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. ثم علينا أيضاً أن نستعيد ذكرى الهجرة مرة أخرى؛ لنشكر الله عز وجل أن قامت دولة الإسلام، ويجب أن نحافظ على دولة الإسلام التي كتب الله لها الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم أيضاً علينا ونحن نرى الطغيان اليوم ينتفخ ويتشدق ويتطاول على الجبال، ويملأ السجون والمعتقلات بالمؤمنين، ويستذل المؤمنين علينا أن ننتظر الفرج من الله عز وجل، وأن نعرف أن هذا كله زبد، وأن الزبد كما قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. ومن هنا أيها الإخوان! لا نيأس من روح الله، قال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وعلينا أيضاً أن نمد أكف الضراعة إلى الله عز وجل أن يؤيد المسلمين بنصر منه، وأن يخلص إخواننا المعتقلين والمضطهدين تحت مطارق الكافرين والظلمة والطغاة، ولكن علينا بجوار هذا الدعاء أن نقوم بجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].

أهمية نعمة الأمن والرزق ووجوب المحافظة عليها

أهمية نعمة الأمن والرزق ووجوب المحافظة عليها إذا كنا نعيش في هذا الوطن الآمن المطمئن قد أرخى الأمن علينا سدوله، وقد هيأ الله عز وجل لنا تحكيم شرع الله فكان سبباً في أمننا وطمأنينتنا؛ فإن علينا أن نتقي الله، وأن نحافظ على هذه النعمة، وأن نتجه إلى المسئولين ونقول لهم: اتقوا الله عز وجل! وعلى المسئولين ألا يغضبوا حينما يقال لهم: اتقوا الله! ونقول لهم: {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. وعلينا أن نحارب المعاصي والإلحاد، وأن نحارب كفر النعم الذي أصبح اليوم ظاهراً في كثير من البلاد التي فجر الله لها ينابيع الخيرات وقد كانت بالأمس تعيش في فقر ومسغبة، وهو ابتلاء من الله عز وجل، بل هو آخر مرحلة من مراحل الابتلاء؛ لأن الله عز وجل قد أخبرنا عن ذلك في القرآن فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]. ونحن هنا في نجد كنا في بأساء، وكنا في ضراء، وكنا في خوف، وكنا في جوع، وكنا في مسبغة، فأرسل الله لنا هذه الخيرات ابتلاءً وامتحاناً، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:94 - 95]، فقد أصبحنا نسكن في القصور الفارهة، ونركب السيارات المترفة، ونملك الأموال الطائلة، ونعيش في أمن، ويتخطف الناس من حولنا، لكن ما هي النتيجة؟ كثير من الناس إذا قيل له: اتق الله يا أخي! أنت كنت فقيراً فأغناك الله، وأنت كنت أعزب فجعل الله لك هؤلاء الأولاد الشهود، وأنت كنت تعيش في خوف وذلة فأصبحت الآن مرفوع الرأس والحمد لله، لكنه يقول: هذا أمر قد انتهى ضده! وقد مرت بنا فترات الخوف والجوع، والله تعالى يقول لنا عن هذا الموقف: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] أي: زاد المال وزاد الأولاد {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، أي: انتهى الضد، ولن يعود الضد مرة أخرى، ولكن الأمور في تقلب، فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. فعلينا أن ننتبه يا إخوان! فنحن هنا يتخطف الناس من حولنا، وتحيط بنا دائرة حمراء من الدماء، ونقط حمراء من الدماء، ونحن نعيش في منطقة -والحمد لله- آمنين مطمئنين، قد جعل الله لنا حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولنا. لكن هل تظنوا أيها الإخوان! أننا نستحق ذلك دائماً؟ A لا والله، إلا إذا حافظنا على هذه النعمة، وشكرنا المنعم سبحانه وتعالى، وقمنا بحقه، وحاربنا المعاصي؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود:116]، ويقول عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من النعيم {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]. إذاً: أيها الإخوان! علينا أن نخشى الله عز وجل، ووالله ليس بيننا وبين الله عهد ولا ميثاق، والله تعالى يقول: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31]، ونحن نرى أنه يحل قريباً من دارنا كثير من الكوارث؛ واسمعوا أخبار لبنان وأخبار إيران وأخبار العراق وأخبار أفريقيا، والأماكن التي فيها مجاعة، وأنا رأيتهم بعيني يموتون أمامنا من الجوع! ونحن -والحمد لله- عندنا هذه الأموال؛ بل كثير من الناس أصبح لا يستطيع أن يحصيها؛ حتى الأرقام عجزت أن تحصي أموال كثير من الناس، ومع هذا لم تفكر طائفة منهم في أن يوصلوا قليلاً من هذا المال لإخوانهم الفقراء. ويخشى في يوم من الأيام أن يسلط الله عز وجل على هؤلاء أصحاب الأموال أمة لا يرعون فيهم إلاً ولا ذمة، فيأخذون الأموال ويبتزونها، ويريقون الدماء ويسفكونها، ويتلاعبون بهذا الأمن الذي من الله علينا به. فهذه أمم كثيرة كانت تعيش في رخاء وفي نعمة أكثر مما نعيش اليوم، وكان الناس يذهبون من هنا إلى أفريقيا الخضراء، وكان الناس يذهبون إلى لبنان الناعمة الآمنة المطمئنة، وكان أناس يذهبون إلى الهند، فأصبح كل هذا العالم يأتي يبحث عن لقمة العيش في بلادنا والحمد لله. إذاً: أيها الإخوة! هذه نعمة لابد أن نشكرها، وإذا لم نشكرها فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فهذا عذاب الله نسمع جزءاً منه تعيشه كثير من الأمم المجاورة؛ فخذوا حذركم، واعتبروا بمن حولكم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة

دور النوادي في إصلاح الشباب

دور النوادي في إصلاح الشباب Q لدى بعض الإخوان -وخاصة أولياء الأمور- مفهوم قاصر عن أهمية الأندية الرياضية، والحقيقة أنها تخالف ذلك، وهي تدعوكم دائماً وأبداً، وفيها تفاؤل إلى التوجيه؛ فما هي كلمتكم تجاه ذلك؟ A الحقيقة أنني كنت ممن يتحرز من هذه الزيارة؛ لأن هناك حواجز منيعة بيننا وبين هذه النوادي؛ لأننا لا ندري ما وراء هذه النوادي، لكننا -والحمد لله- صرنا لا نشك في أنها اتجهت اتجاهاً طيباً؛ لأن الصحوة الإسلامية التي يتمتع بها الناس أجمعون أخذت النوادي الرياضية بنصيب وافر منها. وعلى كل فإننا مطمئنون -والحمد لله- في أيامنا الحاضرة على هذه النوادي، وليس كل الاطمئنان، ولكن أكثر اطمئناناً، وليس في كل النوادي الرياضية، ولكن في أكثرها؛ فنحن مطمئنون -والحمد لله- على أن المسئولين عنها رجال صالحون، أقصد رؤساء النوادي وأعضاء الأندية الرياضية. وعلى كل فنحن مستبشرون بهذا الواقع الطيب، ونرجو لهم مزيداً من الاستقامة، ولكن نقول: النوادي الرياضية مسئولة عن أمانة كبيرة؛ فولدي وولد فلان وفلان من الناس نسلمهم إلى هذه الأندية الرياضية مدة من الزمن، ثم بعد ذلك لا ندري ماذا يحدث وراء الكواليس! لكننا مطمئنون إلى هؤلاء الذين هم الآن أصبحوا يقومون بإدارة الأندية الرياضية؛ ولذلك فإننا نحملهم أمانة كبيرة. إن الأمة تقاس بشبابها، والشباب لا يقاس بقوة جسده فقط، فحينما تقدم الأندية الرياضية تقوية الأجساد فقط لا يكفي؛ لأن الإنسان لا يتميز بقوة جسده، فالإنسان مهما بلغ من القوة لا يبلغ درجة الجمل أو درجة الأسد أو درجة النمر في قوة جسده، ولكنه بقوة روحه إضافة إلى قوة جسده، وإذا تمتع هذا الشاب بقوة الروح مع قوة الجسد فإنه يصبح إنساناً يرجى من ورائه نفع. ولذلك فإن الأمم الحية ما كانت فقط تعتمد في تربية شبابها على قوة أجسادهم، وإنما تعتمد كل الاعتماد على تربية عقولهم. ونحن نطالب أصحاب الأندية الرياضية أن يربوا وينموا العقول تربية طيبة، فإذا كانت الأمم الشيوعية تربي أبناءها على الإلحاد؛ فالأمم المؤمنة المسلمة يجب أن تربي أولادها وتربي أبناءها على الإيمان الحقيقي الذي به يصلون إلى درجة لا يصل إليها أحد من الناس. ولذلك فإني أدعو القادة والمسئولين على الأندية الرياضية -وأقصد بالقادة رؤساء مجلس الإدارة ومدير ورئيس النادي، أما القادة الكبار فنسأل الله لهم الهداية أيضاً- فنقول: عليكم أن تتقوا الله في هذه الأمانة؛ لأنكم أصبحتم أمناء على أبناء المسلمين، ولأنكم ستسألون في الآخرة عما يصل إليه مستوى هؤلاء الأبناء الذين ينتسبون إلى الأندية التي أنتم قائمون عليها، فإن خرج هذا الشباب مؤمناً تقياً عاملاً جاداً في عمله مصلحاً في هذه الحياة، فأنتم أول من يجني هذه الثمرة، وإن خرج هذا الشباب تافهاً منحرفاً ضالاً سفيهاً، فأنتم من يسألكم التاريخ ويسألكم الناس؛ بل ويسألكم الله عز وجل يوم القيامة عن هذه الأمانة.

حكم مخالطة أصحاب المعاصي

حكم مخالطة أصحاب المعاصي Q هناك شاب يحب الخير، وله أصدقاء يحافظون على الصلاة، ولكن يعملون بعض المعاصي، وأنا أحب أن أكون مثل بعض الشباب الطيب في هذه البلدة، فماذا أفعل؟ أفتوني وجزاكم الله خيراً. A الله تعالى يقول: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، فإذا كان هؤلاء الأصدقاء الذين أشار إليهم الأخ يعملون الكبائر فحرام عليك أن تعيش معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. وعلى هذا فإذا كان هؤلاء يعملون الكبائر أو الأوبئة المعدية التي يتعاطاها طائفة من الشباب كالتدخين، فأنا أنصح بألا تعيش مع هؤلاء؛ لأن التدخين يعتبر من الأمراض التي تنتقل بسرعة عن طريق المخالطة. وأما إذا كان هؤلاء فقط يعملون شيئاً من المزاح أو الهزل الذي لا يصل لدرجة المعاصي الكبيرة؛ فهؤلاء لا بأس بمجالستهم، بل من الأفضل أن تعيش مع هؤلاء، خصوصاً إذا كانت حياتك معهم ستنقلهم من الهزل إلى الجد، وتستغل فيها الفرص من أجل أن تقدم لهم أشياء لعلها تكون سبباً في استقامتهم والتزامهم. وعلى كل: فإن الرجل المؤمن عليه أن يستعمل عقله في مثل هذه الأمور؛ فإذا كان يتأثر في مثل هذه المجالس فحرام عليه أن يجلس مع هؤلاء، والمسألة لا تصل إلى درجة الكبائر فيتسامح في ذلك.

مذاهب العلماء في أحاديث نفي الإيمان ونحوه

مذاهب العلماء في أحاديث نفي الإيمان ونحوه Q تمر أحاديث نبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها نفي، فنود من فضيلتكم تفسير هذا النفي هل هو على إطلاقه أم لا؟ منها: (من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له)، ومنها: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، ومنها: (لا يدخل الجنة رجل في قلبه ذرة من كبر)؟ A هذه الأحاديث صحيحة، لكن العلماء اختلفوا في تأويلها؛ لأن بعضها ينفي الإيمان، وبعضها ينفي الجمعة، وبعضها ينفي أشياء أخرى، فبعض العلماء له تأويل في هذه الأحاديث؛ لأنها أحاديث صحيحة لا شك في صحتها. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، بعض العلماء أخذه على ظاهره، كالإمام ابن تيمية رحمة الله عليه، وقال: كل إنسان يستطيع أن يصل إلى المسجد ويصلي منفرداً فصلاته غير صحيحة. ويعتبر الصلاة في المسجد شرطاً من شروط الصلاة؛ كالوضوء، واستقبال القبلة، وستر العورة، وما أشبه ذلك، وجمهور العلماء يؤولون مثل هذا، ويرون أن قوله: (لا صلاة)، أي: لا صلاة كاملة؛ لأن صلاة الجماعة ليست بشرط، وإنما هي واجبة وفريضة، فإذا صلى المرء في بيته فصلاته صحيحة، لكنه قد عمل محرماً إذا لم يكن له عذر في تركه الصلاة مع الجماعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، قال بعض العلماء: هذه جرت مجرى الوعيد، وآيات الوعيد وأحاديث الوعيد أيضاً كثيرة، ولعل ذلك فيمن استحل الكبر؛ لأن الكبر من أكبر الذنوب المحرمة، واستحلاله يعتبر ردة عن الإسلام؛ لأنه محرم بالإجماع، وكل محرم بالإجماع فإن استحلاله كفر وردة عن الإسلام، فلعل هذا فيمن استحل الكبر، أو أن هذا جرى مجرى الوعيد. وعلى هذا فكل ما ورد بلفظ: (لا يؤمن)، (لا يدخل) (لا جمعة له) ونحو ذلك، كل هذا لعله يؤول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لغا فلا جمعة له)، فبعض العلماء قال: هو على حقيقته، فمن عبث بالحصى، والإمام يخطب، فإنه تفسد جمعته، وكأنه لم يصل الجمعة، ولعله يكتب له أجر الظهر، وبعضهم رأى أن هذا جرى مجرى الوعيد، كما ورد أيضاً: (إذا قلت لأخيك: أنصت أو اسكت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت، أو لا جمعة لك)، كل هذا يجرونه مجرى الوعيد، وبعضهم يجريه على ظاهره، فيقول: معنى (لا جمعة له) أي: سقط منه أجر الجمعة، لكن برئت ذمته من صلاة الجمعة. والله أعلم.

حكم قراءة التوراة والإنجيل وبيان أنها محرفة

حكم قراءة التوراة والإنجيل وبيان أنها محرفة Q ما حكم قراءة التوراة والإنجيل؟ وهل ما يوجد منها الآن صحيح؟ A أما بالنسبة لقراءتها للرد على أمور -مثلاً- وصلت إلى أيدي المسلمين، ونحن نريد أن نبين للمسلمين خطأ ما فيها؛ فلعل ذلك يتسامح فيه. أما قراءتها للعلم فإن هذا لا يجوز؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى قطعة من التوراة مع عمر رضي الله عنه غضب صلى الله عليه وسلم، وظهر الغضب في وجهه وقال: (لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي). وكذلك الإنجيل وكل الكتب السماوية التي يزعم أصحابها أنها من الكتب السماوية؛ لأنها منسوخة بالقرآن، فكما نسخت التوراة والإنجيل فإن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وهذه الدعوة يجب أن نوصلها إلى كل هؤلاء الذين يعيشون مع المسلمين من غير المسلمين. أما بالنسبة للكتب السماوية المزعومة الموجودة في أيامنا الحاضرة فهي كلها محرفة، وليست كتباً حقيقية؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا بأن اليهود قد حرفوا كتابهم، وكذلك النصارى. وعلى هذا فإن ما في أيدي اليهود وما في أيدي النصارى اليوم كله محرف، وليست هي الكتب السماوية التي نزلت من السماء. وحتى على فرض أنها كتب سماوية فنحن نؤمن بأصلها، لكنها غير معتبرة في أيامنا الحاضرة؛ لأنها منسوخة بالقرآن.

أنواع الذنوب وضررها على صاحبها

أنواع الذنوب وضررها على صاحبها Q إذا كان الإنسان يصلي ويصوم، ويتصدق ويزكي، ويحب الخير، وقد يعمل بعض المعاصي مع علمه بحرمتها، فهل هذا يؤثر على عمله الصالح أم لا؟ وهل تتأثر الحسنات مع وجود السيئات؟ A أما كونه يؤدي أركان الإسلام ويفعل الواجبات لكنه يفعل شيئاً من المحرمات، فهذا نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق. لكن فعله للسيئات لا يطعن في إيمانه، ولا يطعن في إسلامه، فهو ما زال مسلماً ما دامت هذه السيئات لا تصل إلى درجة الردة، فإذا وصلت إلى درجة الردة فإنه يكفر، ويحبط عمله نهائياً، لكن فعل السيئات أيضاً يختلف؛ فهناك كبائر، وهناك صغائر؛ فإذا وصل إلى درجة الكبائر فإن هذه الكبائر تذهب الحسنات التي كسبها، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات قد تستهلك الحسنات. ولذلك الله تعالى أخبرنا بأن الوزن يومئذٍ الحق، وأن الله تعالى يزن أعمال الإنسان الحسنات والسيئات، يزنها يوم القيامة، فتوضع الحسنات في كفة، وتوضع السيئات في كفة، فإن رجحت الحسنات فقد سعد، وإن رجحت السيئات فقد شقي. ولكن المسلم الذي يعمل هذه السيئات عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأنه إذا بادر بالتوبة فإن الله عز وجل يغفر له مهما بلغ من الذنوب، كما قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54]، أي: بهذا الشرط. وإذا لقي الله عز وجل بهذه السيئات التي لا تصل إلى درجة الكفر فإنه تحت مشيئة الله وإرادته، إن شاء الله تعالى غفر له، وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار. فمن فعل الكبائر مهما كانت الكبائر، ما دامت لا تصل إلى درجة الكفر وإلى درجة الشرك فإنها لا تخلده في النار؛ فقد يغفرها الله له ولا يحاسبه عليها، وقد يحاسبه عليها، ثم يكون مصيره إلى الجنة ما دام قد مات على عقيدة الإيمان والتوحيد والإسلام. ولكن يا أخي! اعلم أن هذه مخاطرة؛ فهذه الحسنات التي تتعب فيها احذر أن تستهلكها بالسيئات، ونقول: اتق الله! ودع هذه السيئات، إلا أن أكبر سيئة أحذر الناس منها هي: الشرك بالله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). والشرك بالله قد انتشر في أيامنا الحاضرة؛ فلا نظن أيها الإخوان! أن الشرك قد انتهى إلى الأبد، صحيح أن اللات والعزى ومناة وإساف ونائلة وهبل قد فقدت وانتهت، لكن لا زالت هناك أوثان كثيرة في أيامنا الحاضرة؛ وإن شئت فاذهب إلى البلاد الإسلامية المجاورة فستجد أناساً يطوفون حول القبور، ويتمسحون بالقبور، ويخشعون أمام القبور، وينذرون لها النذور، ويتقربون إليها بأنواع القرب، وهذا هو الشرك الأكبر؛ لأن هؤلاء يقولون: نحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، وهذا كما قال الأولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. ففي كل بلاد المسلمين آلهة، فالدنيا تعبد من دون الله في أيامنا الحاضرة، وهذا نوع من الشرك، والزعماء يعبدون من دون الله في أيامنا الحاضرة في كثير من البلاد الإسلامية؛ لأنهم يشرعون ويطيعهم البشر، ويرفضون أحكام الله، ولو صدر أمر من أحد هؤلاء المسئولين وأجبر الناس عليه لوجدت الناس ينجبرون وراء هذا الأمر؛ خوفاً من سياط القوة المادية، ويغفلون عن عذاب الله عز وجل، وهذا نوع من الشرك، فالخوف من البشر أكثر من الخوف من الخالق سبحانه وتعالى نوع من الشرك. والذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعضهم تركوه خوفاً من أن ينالهم أذى، وهذا يخشى أن يصل بهم إلى درجة الشرك؛ لقوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، أي: أنه يساوي بين هذا وهذا. المهم أن الشرك موجود، وهو من الذنوب التي لا يغفرها الله عز وجل، وصاحبه مخلد في نار جهنم، أما المعاصي فإنها تحت مشيئة الله وإرادته. ولذلك فإني أدعو أخي الذي يقيم أركان الإسلام وتعاليم الإسلام ويؤدي الواجبات إلى أن يخشى الله عز وجل في هذه المحرمات؛ لأنها ستستهلك حسناته في يوم من الأيام.

شروط التوبة

شروط التوبة Q ما هي شروط التوبة؟ A شروط التوبة: أن يقلع الإنسان عن الذنب، وأن يندم على ما مضى، وأن يعزم على ألا يعود، وأن يرد المظالم إذا كانت المعصية في مظلمة بينه وبين الخلق، فإن كان قد سب إنساناً يعتذر منه، وإن كان قد أخذه ماله يرد إليه هذا المال، وإن كان قد آذاه بأي أذىً يطلب منه المعذرة. هذه هي شروط التوبة، وجماعها كلها: صدق القلب وعزمه على الإقلاع من فعل الذنب.

حكم من يقول بجواز الإسبال والغناء

حكم من يقول بجواز الإسبال والغناء Q ماذا تقولون فيمن قال: إن إسبال الثوب إذا كان في غير بطر جائز، ومن قال: إن استماع الأغاني جائز؟ A أما من قال: إن إسبال الثوب بغير بطر جائز، فنقول: أنت أخطأت، ولا نقول: إنك تعديت، بل نقول: أخطأت؛ لأن بعض العلماء يرى أن الإسبال بغير نية البطر جائز، لكن أنا أرى أن هذا الرأي لا مكان له؛ لأن عندنا وعيدين من الرسول صلى الله عليه وسلم: الوعيد الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فهذه عقوبة من فعله خيلاء. والوعيد الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)، فهذا ليس له صلة بذلك، فمن فعله بنية الكبرياء فهو أخطر، وعقوبته أنه لا ينظر الله إليه، وهذا من أعظم الوعيد، ومن فعله لكنه لا يريد الكبرياء فنقول: عليه عقوبة، لكنها لا تصل إلى درجة ألا ينظر الله إليه يوم القيامة. وبعض العلماء قال: إن هذا يحمل على هذا، فيحمل على البطر، واستدل بقصة أبي بكر رضي الله عنه: (إن إزاري يسترخي إلا أن اتعاهده) الحديث، لكن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن معنى يسترخي: ينزل، ثم يرفعه، ونحن نقول لمن نزل ثوبه: ارفع ثوبك، وتخرج من المشكلة. وعلى كل فإن الوعيد موجود لمن فعله بطراً ولمن فعله بغير بطر. أما من ادعى حل الغناء فنقول أيضاً: أنت على خطر يا أخي! ولو استمعت الغناء لكان أمرك أسهل، لكن ما دمت قد قلت: إن الغناء جائز، فإنك على خطر؛ لأن الغناء يكاد أن يجمع علماء المسلمين على تحريمه، وما دام أنه يكاد أن يجمع علماء المسلمين على تحريمه فنقول: أخطأت في هذا، ولو كان الغناء من الأمور المجمع على تحريمها عند جميع العلماء لكان من يقول بهذا الرأي مرتداً؛ لكن ما دام أن هناك من يشك في تحريم الغناء فإن الأمر لا يصل إلى درجة الردة. وعلى هذا نقول: يا أخي! عليك أن تصحح مفهومك، وأن تقرأ ما كتب عن الغناء، بل تقرأ ما ورد في الأدلة الشرعية عن الغناء، كقوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، وقول الله عز وجل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64]. واقرأ ما قاله المفسرون في هذا الأمر، واقرأ آراء العلماء والفقهاء في الغناء، ولعل مثل هذا يقتنع فلا يقول بعد ذلك: إنه جائز.

حد عورة الرجل وحكم كشفها

حد عورة الرجل وحكم كشفها Q فضيلة شيخ! ما حكم كشف العورة؟ وما حد عورة الرجل؟ وهل في ذلك خلاف بين العلماء؟ A أما عورة الرجل فإن له عورة في الصلاة وخارج الصلاة؛ ففي الصلاة ما بين السرة إلى الركبة، فهذا لا يجوز أن يكشف في الصلاة، وأحد العاتقين يلحقه العلماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، أي: لابد أن يغطى أحد الكتفين، ولذلك الإخوان الذين يلبسون فنايل علاقية نقول لهم: هذه لا تصلح في الصلاة، بل لابد أن يغطى واحد من الكتفين. أما في غير الصلاة فقد اختلف العلماء في تحديد العورة، فجمهور العلماء يرون أنها إلى الركبة، ومنهم من يرى أنها فوق الركبة، واختلف في الفخذ هل هو عورة أو ليس بعورة؟ لكن الاحتياط أن يغطى الفخذ. ولذلك فإني أدعو أصحاب النوادي الرياضية إلى أن يوجهوا الشباب الذين كثيراً ما يستعملون ألبسة تكون فوق الركبة إلى أن ينزلوها إلى الركبة، خصوصاً وأن كثيراً من الذين يلعبون هذه الألعاب من الشباب الأحداث الذين يخشى عليهم ومنهم الفتنة. وعلى هذا فإني أقول: هذا موضع خلاف، لكن الاحتياط أن يغطى الفخذ؛ هذا بالنسبة لغير الصلاة، أما بالنسبة للصلاة فلابد أن يغطى إلى الركبة. وكذلك أدعو الشباب الذين يلبسون ملابس شفافة وعليهم سراويل لا تصل إلى الركبة، أدعوهم إلى أن يغطوا إلى الركبة في الصلاة؛ لأنه كثيراً ما نصلي بجوار كثير من هؤلاء الشباب وعليهم ملابس شفافة رقيقة من خلالها نرى لون البشرة بيضاء أو سوداء أو حمراء، وهذا من الخطأ؛ لأن الصلاة من شروطها: ستر العورة؛ والله تعالى يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، أي: استروا عوراتكم، وعلى هذا نقول: إن الذين يلبسون سراويل قصيرة وثياباً شفافة قد أخطئوا، وصلاتهم ترد عليهم، فعليهم أن يستروا إلى الركبة. أما بالنسبة لخارج الصلاة فالاحتياط أن نستر إلى الركبة أيضاً.

تعريف ذوي الأرحام وبيان حكم قطيعة الرحم

تعريف ذوي الأرحام وبيان حكم قطيعة الرحم Q من هم ذوو الأرحام الذين يجب على الإنسان زيارتهم؟ ومن هو قاطع الرحم؟ A ذوو الأرحام لها مفهوم في الفرائض ومفهوم في عامة الشرع: أما ذوو الأرحام في عامة الشرع: فهم الذين تجب صلتهم، وهم الذين خرجوا من رحم واحدة، فهذه النسبة نسبة إلى الرحم، والرحم: هو رحم المرأة، أي: أنه تجمعهم أم واحدة وأب واحد، كأعمامك، وأبناء عمك، وإخوتك، وأبناء إخوتك، وأعمام أبيك، وأعمام أمك، وأخوالك، كل هؤلاء يجمعهم رحم واحدة، وهؤلاء هم ذوو الأرحام الذين تجب صلتهم، وتحرم قطيعتهم. أما صلة ذوي الأرحام فإنها واجبة، وقد توعد الله عز وجل الذين يقطعون الرحم، ووعد الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل بالجنة. وقطيعة الرحم من الأمور التي تحدث بسبب خلاف الناس على متاع الحياة الدنيا، وعلى هذا فلا يجوز للناس أن يتقاطعوا في أرحامهم لأي سبب من أسباب الحياة الدنيا، اللهم إلا إذا وصل الأمر إلى درجة المعصية التي تلزم المسلم بالهجر؛ فإن عليك أن تهجره، ويلزمك حينئذٍ أن تقطع هذه الرحم إذا عجزت عن إصلاحها، لكن هذه القطيعة لا تصل إلى درجة الجفاء الذي يفعله كثير من الناس. فقد أمر الله عز وجل بصلة الوالدين الكافرين اللذين يلزمان ولدهما بالكفر، فقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، والمراد بالصحبة بالمعروف هنا: ألا تقسو عليهما، وأن تنفق عليهما في حال الحاجة، وما أشبه ذلك. كذلك رحمك الذين لا يخشون الله عز وجل عليك أن تحسن إليهم عند الحاجة والضرورة؛ لأن هذا الإحسان قد افترضه الله تعالى في كل أمر من الأمور.

أفضل الكتب بعد كتاب الله عز وجل

أفضل الكتب بعد كتاب الله عز وجل Q ما هي أفضل الكتب التي يمكن شراؤها بعد كتاب الله عز وجل التي تفيد المسلم في دينه وخلقه؟ A الكتب الآن كثيرة، ولا نستطيع أن نحصرها، لكن يمكن أن نعطي نماذج في كل فن من الفنون، فمثلاً: التفسير هو أول العلوم التي يجب أن يكون لها نصيب؛ لأنه يفهمنا كتاب الله عز وجل، فياحبذا لو كان للإنسان كتابان من كتب التفسير: أحدهما يهتم بالأحكام والألفاظ اللغوية، والثاني يهتم بالنكت البلاغية والأسرار القرآنية؛ حتى يصل الإنسان إلى شيء من هذه الأسرار. وفي الحديث أيضاً يكون للإنسان كتاب يلجأ إليه في بعض الأحيان، ويقرؤه إذا كان من الطموحين، ككتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري، أو كان أقل من ذلك من الكتب الصغيرة التي تهتم بشرح بعض معاني الحديث. وكذلك بالنسبة للكتب الثقافية، نحن أيضاً بحاجة إليها أكثر من حاجتنا إلى أشياء كثيرة، ففي أيامنا الحاضرة يتصارع الخير والشر أمامنا، ويكاد أن يلتبس الخير بالشر أمام كثير من العقول التي أصبحت قد اختلط عليها الأمر، فعلينا أن نقرأ الكتب التي ترد على هذه الأفكار الوافدة، والتي تعلمنا ما هي الشيوعية وأخطار الشيوعية، وأخطار الرأسمالية في مفهومها الحاضر، وتعلمنا أخطار الاشتراكية، وأخطار هذه الأفكار والمذاهب القديمة والجديدة. ومن هذه الكتب الطيبة الكتب التي نثق في مؤلفيها كـ سيد قطب ومحمد قطب وحسن البنا والمودودي رحمة الله عليهم، ونحوهم من هؤلاء المثقفين الذين عايشوا هذه الفتن وهذه الأفكار، فكانت لهم ردود عليها بينوا فيها السبيل.

حكم الصلاة في الملعب إذا كان المسجد يبعد كيلو مترا

حكم الصلاة في الملعب إذا كان المسجد يبعد كيلو متراً Q هناك جماعة من الشباب يصلون صلاة المغرب داخل أحد الملاعب الرياضية، علماً أن المسجد لا يبعد عنهم سوى كيلو متر، فما حكم هذه الصلاة؟ A الكيلو متر بعيد، وهمم الناس الآن أصبحت تجعل الكيلو متراً بعيداً، وعلى كل يا أخي! الصلاة في المسجد أفضل؛ لأن الله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. لكن إذا كانت صلاتك في النادي لها أثر في المصلين، فلعلها تكون أفضل من الصلاة في المسجد من هذا الجانب؛ فإذا كنت إذا صليت في النادي تجمع إخوانك وتلقن المتخلف وتنصح المثابر وهكذا، فلعل صلاتك في النادي تكون أفضل في مثل هذه الحالة. فعليك أن تنظر المصلحة، فإذا كان لك وزن في صلاتك في النادي فصلاتك في النادي أفضل، وإذا لم يكن لك وزن فصلاتك في المسجد أفضل، لكن صلاتك في النادي أيضاً كافية. وبعد كيلو متر مسافة تعتبر كبيرة، وأنت لا تطالب بأن تركب السيارة إلى المسجد، وما دمت قد وجدت أناساً يقيمون الجماعة فلا بأس أن تصلي معهم ولو كان المسجد قريباً منك.

وجوب عبادة الله عز وجل على بصيرة

وجوب عبادة الله عز وجل على بصيرة Q كيف يعبد الإنسان ربه في عموم أحواله، حيث قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؟ A هذا السؤال غامض! فالمسلم يعبد الله في كل أحواله، ولابد أن يكون على بصيرة، ولعله يقصد: ما هي الطريقة إلى عبادة الله عبادة صحيحة؟ والجواب: أن يكون على بصيرة، والبصيرة: هي العلم، والعلم يجب على المسلم في حدود ما يعرف به الله عز وجل، وما يعرف به قدرة الله سبحانه وتعالى، وما يعرف به كيف يؤدي الفرائض، وكيف يجتنب المناهي. فعبادة الله تعالى على بصيرة واجبة، ويكون ذلك عن طريق العلم، ولذلك فإن الله عز وجل أمر الناس بأن يتعلموا فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. ومدح العلم والعلماء، واعتبرهم ورثة الأنبياء، وجعل حتى الحيتان في البحر تستغفر لهم، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، كل ذلك من أجل أن يعرف الإنسان ربه معرفة حقيقية، وأن يعبد الله عبادة توافق المنهج الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه هي الطريقة التي يجب أن يعبد الإنسان فيها ربه، وذلك بأن يكون على بصيرة، وأن يكون على هدىً من الله، وأن يكون متابعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك يا إخواني! لو نظرنا في كثير من عبادات الناس في العالم الإسلامي لوجدناها على غير بصيرة، نسأل الله العافية. وكثير من الناس أحدثوا في دين الله أموراً لم يشرعها الله، وتركوا واجبات فرضها الله عز وجل عليهم، وهذا هو الخطأ، وهذا يتنافى مع شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى (أشهد أن محمداً رسول الله): طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، وألا نعبد الله إلا بما شرعه. ولذلك فإن أصحاب البدع والخرافات الذين أحدثوا في دين الله ما لم يأذن به الله، هم الآن يعبدون الله على غير بصيرة، ويقلدون الآباء والأجداد والمشايخ ولو كانوا على غير بصيرة، ويتركون الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى. وهذه هي المشكلة التي يعيشها كثير من العالم الإسلامي، فأصبحت البدعة لدى طائفة منهم سنة، وأصبحت السنة لدى طائفة منهم بدعة، وكثرت المعاصي عقوبة على هذه البدع، وجاء الشيطان قوماً عن طريق البدع، كما جاء آخرين عن طريق المعصية.

بيان الأشهر الحرم وسبب تسميتها بذلك

بيان الأشهر الحرم وسبب تسميتها بذلك Q ما هي الأشهر الحرم؟ ولماذا سميت بالأشهر الحرم؟ وما مناسبة تلك التسمية؟ A الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهذه أشهر متوالية، ورجب، وهو المنفرد. هذه هي الأربعة الأشهر الحرم، وقد ذكرها الله تعالى بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]. وهذه الأشهر الحرم سميت حرماً لأن الله تعالى حرم القتال فيها، وحتى المشركون الأولون كانوا يقاتلون طوال السنة؛ فإذا دخل شهر من الأشهر الحرم وهم في وسط المعركة يقفون؛ لأنهم يحرمون الأشهر الحرم. والمعاصي قد حرمت دائماً، وهي في الأشهر الحرم أكثر منها في غيرها بإجماع العلماء. والأمر الذي اختلف فيه العلماء هو: هل تحريم القتال في الأشهر الحرم ما زال باقياً أو أنه منسوخ؟ فمن قائل: إنه نسخ، وأصبح القتال في سبيل الله مباحاً دائماً على مدار السنة، ومنهم من قال: إن الأشهر الحرم لا يجوز فيها القتال ابتداءً، وإنما يجوز دفاعاً عن النفس؛ فإذا هجم العدو على المسلمين فإنهم يدافعون عن أنفسهم ولو كان في الأشهر الحرم، لكن لا يبتدئون القتال في الأشهر الحرم. هذا بالنسبة للقتال. أما بالنسبة لتعظيمها وتشديد المعصية فيها، وأن المعصية فيها أعظم من المعصية في بقية الأشهر الثمانية، فإن ذلك ما زال باقياً، وسيبقى إلى يوم القيامة. ومناسبة تسميتها بالحرم من التحريم، أي: أنه حرم القتال فيها، فأصبحت حرماً، أي: لها حرمة أكثر من غيرها.

تكرار التوبة إذا تكرر الذنب

تكرار التوبة إذا تكرر الذنب Q إذا كان الإنسان يتوب ثم يرجع وهكذا، فهل لهذا توبة؟ وهل يجوز أن ينذر طاعة حتى لا يعود إلى المعصية، كأن يقول: إن فعلت هذه المعصية فعلي أن أصوم يوماً أو يومين أو أن أصلي عشر ركعات؟ فهل مثل هذا جائز؟ وما الحكم إذا ترك الإنسان المعصية من أجل هذه الدوافع لا من حيث إنها محرمة أو محظورة؟ A بالنسبة للذي يعصي ويتوب ويعصي ويتوب، هذا باب التوبة مفتوح أمامه، ولا نقول: إنه إذا عصى وتاب وعصى وتاب فلا توبة له، بل باب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أو إلى أن تبلغ الروح الحلقوم. لكن أنا أخاف على ذلك الذي يعصي ويتوب ويعصي ويتوب أن يعصي الله تعالى ولا يتوب بعد ذلك، وذلك أنه إما أن يعاقب بسوء الخاتمة، نسأل الله العافية! وإما أن يطبع الله على قلبه فلا يتوب بعد ذلك، وإما أن يحصل له شيء آخر يحول بينه وبين التوبة في أي أمر من الأمور. لكن باب التوبة مفتوح له، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، فربما يقيض الله له شيطاناً من شياطين الإنس أو شياطين الجن فيحول بينه وبين التوبة. وعلى كل فنحن نقول له: اتق الله يا أخي! وإذا عصيت وتبت فحافظ على هذه التوبة؛ لأن التوبة باب ولجت فيه إلى الله عز وجل، وخرجت به من معصيته إلى طاعته، فحافظ على هذه التوبة. ولكن إذا عصيت مع ذلك أيضاً فتب، ولو عصيت ثالثة فتب، وكن دائماً إذا عصيت تتوب، ولا نقول: اعص، وإنما نقول: تب إذا عصيت. أما بالنسبة لأن يلزم الإنسان نفسه بعبادة من العبادات من أجل أن يمتنع فيها عن المعصية، فأنا لا أرى أن يلزم الإنسان نفسه بذلك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إن النذر لا يأتي بخير)؛ لأنه عبادة يلزم الإنسان بها نفسه. فإذا كان هذا الإنسان ينذر بأنه إذا عصى يصوم أو يصلي أو نحو ذلك؛ فنقول: لا تفعل؛ لأن النذر منهي عنه، لكن لو نذرت فإنه يلزمك أن تفي به، لكن لا خير في النذر؛ لأنه لا يأتي بخير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. ولربما تكون هذه الطاعة قد ألزمت بها نفسك فلا تستطيع أن تؤديها في يوم من الأيام، لكن لو ألزمت نفسك بها بنذر فإن عليك أن تفي به. وهذا لا يكون في الحقيقة علاجاً لمن يعصي ويتوب ويعصي ويتوب، وإنما العلاج الصحيح لمن يعصي ويتوب ويعصي ويتوب أن يتصور معنى التوبة، وأن الله تعالى قد فتح بابه له، وبسط يده له، وأنه قد أنعم الله عليه بهذه التوبة، فكيف يترك نعمة بعدما حصل عليها؟! فهذه التصورات تغني عن هذه العبادات التي يلزم الإنسان بها نفسه. لكن لو ألزم الإنسان بها نفسه وليس على طريق النذر فلعل ذلك لا بأس به، لكن الأولى له ألا يلزم نفسه بشيء من ذلك؛ اللهم إلا إذا كان قد تاب فإنه يكون من أسباب هذه التوبة أن يتقرب إلى الله عز وجل بعبادات؛ لعل الحسنات يذهبن السيئات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وكما قال كعب بن مالك رضي الله عنه لما قبل الله تعالى توبته: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي شكراً لله تعالى. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك). وعلى كلٍ فالإلزام بالطاعة ليس بالشيء الجيد، لكن أنا لا أستطيع أن أجزم بأن أقول: إنه منهي عنه أو غير منهي عنه، والأقرب أنه مباح، لكن لا يلزم الإنسان نفسه؛ لأنه قد يعجز عن أداء هذا المباح فيصبح مطالباً بذلك.

حكم أخذ الفوائد الربوية من البنوك

حكم أخذ الفوائد الربوية من البنوك Q ما رأيك في شخص أخذ فائدة من البنك وحسن بها وضع أسرته الفقيرة، بدلاً من أن يأخذ ذلك البنك وينمي به رأس ماله؟ A أما ربا البنوك فنحن لا نشك بأنه من ربا النسيئة المحرم الذي لا شك فيه، والله تعالى علمنا كيف نعمل بالفائدة المحرمة في حال التوبة فقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. ولذلك أنا أخالف الذين يقولون: إننا لا نترك الفائدة؛ لأن هذه البنوك يتقوى بها الكفر على الإسلام؛ فالكفر قوي بأموال كثيرة غير هذه الأموال، والاجتهاد في موضع النص لا يجوز، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. هذا بالنسبة لمن تاب، فكيف بالذي لم يتب؟ فالذي تاب لا نقول له: أنت مسامح في الماضي الأول، وإنما نقول: خذ رأس مالك ورد الزيادة على أصحابها. ولذلك فإن الذين يأخذون الزيادة والفائدة من البنوك ويقولون: ندفعها في طرق الخير، نقول لهم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وإذا كنت تريد أن تبذل في وجوه الخير فابذل من مالك الحلال؛ أما من الربا فإن الخير لا يقوم على الربا وعلى الأموال المحرمة. وقد قال لي كثير من الذين يتعاطون الفوائد الربوية: لو تدفعونها إلى المجاهدين في أفغانستان، وأقول: لعل هذا العمل هو السبب في عدم نجاح المجاهدين في أفغانستان في جهادهم؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يقوم على الربا، والمسلمون لا يقدمون للجهاد في سبيل الله إلا أفضل أموالهم. فالذي يقدم فائدة البنوك للإصلاح وللأسرة، أو لمساعدة فقير أو منكوب، أو للجهاد في سبيل الله، نقول له: قد أخطأت، وعليك أن ترد هذه الفائدة إلى البنك ولو تقوى به؛ فإن ذلك لا يهمنا؛ لأنه لا يجوز لك أن تأخذها حتى ولو كنت سوف تحرقها؛ لأنك إذا أحرقتها قد تملكتها ثم أحرقتها. فنقول: ردوها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، ولك رأس مالك، وتنفق في وجوه الخير ما شئت من رأس مالك، لكن لا تنفق من هذه الفائدة المحرمة. هذا هو ما أعتقده وأدين الله تعالى به.

تأجير البيوت لغير المسلمين

تأجير البيوت لغير المسلمين Q أجرت بيتي من شركة وإذا بها تسكن أفراداً غير مسلمين، وبعضهم مسلمون لا يؤدون الصلاة جماعة، فما حكم هذا التأجير؟ A أعتقد أن التأجير لا بأس به، فمعاملة غير المسلمين لا بأس بها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبيع ويشتري من اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي؛ فلا مانع أن تسكِّن فيها غير مسلم؛ بشرط ألا يكون هؤلاء غير المسلمين في حي يضايقون المسلمين؛ وإنما يكونون في منطقة بعيدة معزولة. الشرط الثاني: ألا تعمل فيها المحرمات علناً، كأن تعلق فيها الصور والرموز التي ترمز للديانات المسيحية، أو يشرب فيها الخمر علناً، أو ما أشبه ذلك. أما أن تتعامل مع غير مسلمين فذلك لا بأس به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فأباح البر والإقساط إليهم، وألا نضايقهم، وألا نؤذيهم أيضاً. وعلى هذا فلا مانع من أن يؤجر المسلم على غير مسلم بيتاً، بشرط ألا يكون هناك مضايقة للمسلمين، وألا يكون فيه أذية، وألا تظهر فيه شعائر غير شعائر الإسلام.

انتشار الصحوة الإسلامية في هذه الأزمنة

انتشار الصحوة الإسلامية في هذه الأزمنة Q فضيلة الشيخ! دائماً بعض المحاضرين يتكلمون عن الشباب وما يظهر فيهم من المعاصي والانحراف، ولم يتكلموا عن هذه الصحوة التي حصلت بين الشباب اليوم من صلاح ورجوع إلى الله، نرجو منكم بيان ذلك؟ A أحسنت يا أخي! أنا كنت أريد أن أتكلم عن هذه المسألة ونسيتها، والحقيقة أنه بالرغم من وجود إرهاصات مخيفة في المجتمعات الإنسانية، فهناك -والحمد لله- الآن بوادر خير في كل العالم والشعوب. فلو ذهبت إلى أمريكا لوجدت أنه يوجد فيها شباب متدين متمسك، مع أن الشهوات تحيط بهم من كل جانب؛ بل جميع أنواع الشهوات مبذولة وميسرة، ولكنهم فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، وهكذا لو ذهبت إلى أوروبا أو ذهبت إلى الشرق والغرب، لقد رأيناهم -والحمد لله- بأعداد هائلة. وهكذا يعيش معنا -والحمد لله- كثير من هؤلاء الشباب الذين تحدوا جميع أنواع الغزو والأفكار التي وفدت إلى البلاد الإسلامية، وأعلنوا إيمانهم الحقيقي، وظهر هذا الإيمان وبرز في وجوههم وفي كل شئون الحياة. فهذه الصحوة الإسلامية لم تأت صدفة، وإنما جاءت نتيجة دعوات وعمل جاد قدمه إخواننا المسلمون هذا أمر. الأمر الثاني: سنة الله تعالى في الحياة أن الله تعالى قد تكفل ببقاء هذا الدين إلى يوم القيامة، وبمقدار ما يخاف طائفة من الناس على هذا الدين يطمئنون وهم يشاهدون هذه الصحوة الإسلامية. ثم أيضاً قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة. وعليك يا أخي! وعليَّ وعلى كل واحد منا أن ينضم إلى هذه المجموعة؛ ليحقق هذه الفئة التي أخبر الله عز وجل عنها وأخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر الله تعالى بأن هذا الخير باقٍ إلى يوم القيامة، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، ومن غلبة الرسل أن يبقى دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الرسل إلى يوم القيامة. فهذه الصحوة يا إخوان! علينا أن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثبتها، كما أن علينا أن نشجعها؛ لأني أرى أن طائفة من الآباء بدءوا يسخرون من أبنائهم، ويقولون: إنهم موسوسون، فعلوا كذا، وفعلوا كذا! والحقيقة أن هذا الكلام الذي يقوله الآباء خطر؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، ويقول تعالى وهو يخاطب الكافرين وهم في النار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]. ولذلك فإني أدعو الآباء أن يشجعوا هؤلاء الأبناء، وأخشى عليهم أن يقعوا في ردة عن الإسلام حين يقولون: فلان دخل في الدين، وكأن الوساوس التي يخافون منها يسمونها بالدين، أو يعتبرون الدين شيئاً كالجنون يدخل فيه طائفة من الشباب. وعلى هذا نقول: هذه سنة الله تعالى في الحياة، وهذا الخير يتحدى الله عز وجل به كل قوى الشر المعاصرة في أيامنا الحاضرة، ففي أيامنا التنصير والتبشير والتكفير والعلمنة، وكثير من الأفكار التي جاء بها أناس، وكانوا يخططون بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً من الناس إذا انتهوا انتهى دور الدين من هذه الحياة، فإذا بهم يخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. فتأتي هذه الصحوة الإسلامية في أحلك فترة من فترات التاريخ، وفي أشد ساعة من ساعات الزمن، وفي أيام كان هؤلاء يظنون أنهم كادوا أن يقضوا على الدين، فإذا بهذا الدين يعلن نفسه في كل أرجاء الأرض، ولو سرت إلى أي بلد من بلاد الله لوجدت هذه الصحوة الإسلامية -والحمد لله- تقوم على أشدها. ومن العجب أن الجامعات العصرية التي تدرس العلوم العصرية صارت تتمتع بهذه الصحوة أكثر من كلية الشريعة وكلية أصول الدين! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت الأقدام، وأن يأخذ بالنواصي إلى ما فيه صلاح الأمة، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يوفق القادة والمسئولين عن هذا الدين، كما أسأله أن يوفق رواد الأندية الرياضية والمسئولين عنها والرئاسة العامة إلى أن يقودوا هذا الشباب إلى ما فيه عز الدين والدنيا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

شرح حديث حذيفة فيما يستقبل من الزمان

شرح حديث حذيفة فيما يستقبل من الزمان إن من سنن الله جل وعلا أن جعل الصراع بين الخير والشر طويلاً وممتداً على مر العصور، وجعل العاقبة للمتقين، فلابد للمسلم من معرفة أسباب النجاة، ومعرفة أسباب الهلاك؛ حتى يعمل بهذه، ويجتنب تلك، ويجب على المسلم أن يحذر الدعاة الذين على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، فعلى المسلم أن يأخذ بأسباب الثبات على دين الله، وأن يكون على بصيرة من دينه، وصلة بربه، حتى يلقى الله مسلماً مؤمناً صادقاً.

ظهور فتنة الدعاة على أبواب جهنم

ظهور فتنة الدعاة على أبواب جهنم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فسيكون الكلام حول موضوع خطير؛ لأن له مساساً بواقعنا، وله صلة بما يجري في مجتمعنا اليوم، وهذا الموضوع معجزة، كان حديثاً فأصبح حدثاً! كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح واقعاً ملموساً. هذا الحديث رواه لنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال: (كان الناس يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). كل هذه مقدمة ثم يأتي بيان ما يجب على المسلم تجاه هذه الفتن، قال: (قلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: يا رسول الله! وإن لم يكن يومئذٍ للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). عُرف عن حذيفة أنه دائماً يسأل عما سيحدث من الشر قبل أن يحدث؛ مخافة أن يدركه هذا الشر على غير علم، وفي هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الخير الذي جاء به، وتلك الحياة السعيدة في ظل الإسلام سيعقبها شر، ولقد حدث في تاريخ العالم الإسلامي في أوله شيء من ذلك الشر، مما يدلنا على صحة هذا الحديث، ثم جاء الخير وكان فيه دخن، ثم جاءت هذه الفتنة العمياء التي تمثل المرحلة الرابعة من مراحل هذا الحديث الصحيح، وهي شر يتمثل في: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ثم هم أيضاً: (من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا!!) وفي الواقع أن هذه المرحلة ربما نعيشها اليوم بحذافيرها. وأما المرحلة الرابعة فقد تحققت برمّتها في واقعنا اليوم، فأصبحنا نعيش هذه المرحلة، والدليل على ذلك أن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم الآن يتسلمون مناصب كبيرة في كثير من نواحي الحياة، ثم هم أيضاً بقدر ما يتيسر لهم من إمكانات يزاولون هذه المهنة وهذه المصيبة التي حدثنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يزاولوها. فإذا كانوا من ذوي السلطة والمكانة فإنهم يقودون الناس إلى أبواب جهنم بالسلاسل، ويقودونهم بالقوة ليفتنوهم عن دينهم وليصرفوهم عنه، ثم يقودونهم إلى أبواب جهنم ليقذفوهم فيها!! أما إذا كانوا أقل من ذلك فإنهم دعاة الباطل الذين مكنتهم الحياة الراهنة من أن تكون لهم مكانة، ومن أن تكون لهم أفكار وأقلام وألسنة يقودون بها الناس إلى الهاوية وهم كما في الحديث: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وما أكثرهم اليوم!! وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أجابهم إليها)، دليل على أن العاقل لا يلتفت إلى هؤلاء ولا ينخدع بهم؛ لأن علامة النفاق واضحة عليهم وإن كانت ألسنتهم معسولة حلوة، ولقد جاء وصفهم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] بأنه صادق {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، أي: أخبثهم، {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205]، أي: إذا تمكن واستطاع أن يخدع الناس فاستلم زمام الأمور فإنه سيفسد في الأرض فساداً عريضاً: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205]؛ لأن الفساد في الأرض يؤدي إلى فساد في الطبيعة، وفساد في مخلوقات الله تعالى، وفساد في الاقتصاد، وفساد في المال والثمرات والأنفس، وفي كل شيء كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]. وعلى أيدي هؤلاء المفسدين يحدث كل ما يحدث من شر وفتنة، لكن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وهؤلاء يقول الله تعالى عنهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205] أي: أنه حينما ينشر الفساد يتسبب في وقوع العقوبة من الله فيهلك الحرث والنسل، وهذا نتيجة معصيته وإجرامه، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. وهؤلاء لهم عزة وأنفة في غير وجهها الصحيح كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، وهؤلاء لا يذيب قسوة قلوبهم إلا نار جهنم، يقول الله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].

لزوم جماعة المسلمين خير وسيلة للوقاية من شر هؤلاء الدعاة

لزوم جماعة المسلمين خير وسيلة للوقاية من شر هؤلاء الدعاة السبيل للخلاص من هذا الغزو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث، فقال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فإذا كان للمسلمين إمام ولهم جماعة فما عليك إلا أن تنضم إلى هذه المجموعة لتصبح عضواً في هذا الجسم السليم الذي نبذ كل هذه الأوبئة وهذه الأمراض. وقوله: (الزم جماعة المسلمين) دليل على أن الدعوة الفردية لا تحل مشكلة، ولا تقضي حاجة؛ إذ إن أي فرد من المسلمين يريد أن يتخلص من هذا الغزو الذي يحمل أعباءه دعاة من أبناء جلدتنا، فلا بد أن ينضم إلى مجموعة خيرة صالحة يتعاون معهم؛ ليحمي نفسه من هذا الغزو؛ وليتخذ لنفسه حصانة؛ لأن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية، ومن الناحية الأخرى: ليشكل قوة تحمي الإسلام، وتحمي أبناء المسلمين، وتقوم بالدعوة إلى الله تعالى، والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ من أجل أن تحتمي الأمة الإسلامية من أعدائها؛ ولذلك فإن العمل الجماعي في سبيل الدفاع عن الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله هو السبيل التي أرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم). أما لو فُقدت هذه الجماعة، وأصبح الشر مستطيلاً في الأرض، وأصبح الأمر بحيث لا يجد المرء فيه ملجئاً وملاذاً في مجتمع إسلامي يعبد الله، ويقيم تعاليم هذا الدين، ويحميه من أعدائه، ولم يكن للمسلمين حينئذٍ إمام؛ فما على المسلم إلا أن يلجأ إلى أصل شجرة فيعض عليها، أي: يلتزم مكاناً نائياً عن هذه المجتمعات الفاسدة، وعن هذه البيئة المتلوثة؛ من أجل أن يفر بدينه، وفي الحديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعف الجبال؛ يفر بدينه من الفتن). وهذه العزلة لا يلجأ إليها المسلم إلا في حال الضرورة إذا لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام، أما إذا كان لهم جماعة وإمام فإن هذا يعتبر هو العجز والكسل، وهو الجبن والخور، حينما يفر بدينه ويترك الميدان، ويترك الحياة يعبث بها الجرذان، وهو قد عض على أصل شجرة، مع أنه يستطيع أن يغير أو يبدل أو يأمر وينهى. إن المسلمين الآن -والحمد لله- لهم جماعة وإمام، فكل واحد من المسلمين مطالب أن ينضم إلى هذه المجموعة؛ من أجل أن يشكل جماعة تدافع عن هذا الدين، وليس معنى ذلك أن تخرج على السلطة! ولكن لتكون قاعدة للإسلام وبيئة إسلامية سليمة يأوي إليها من يريد الفرار بدينه. أما أن نفر بديننا ونترك هذه المجموعة تعمل وحدها في ميدان الدعوة والإصلاح، ونريد أن نفضل الراحة أو أن نعكف على العبادة فإن ذلك لا يجوز. ولقد فهم طائفة من الناس في الزمن الأول في عهد أبي بكر رضي الله عنه هذا الفهم، ففضلوا أن يعيشوا بعيداً عن مشاكل الناس، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأولوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم} [المائدة:105]، فسارع أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصعد المنبر وقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه). وعلى هذا فليس معنى الآية: الزموا أنفسكم، وأصلحوا أنفسكم فحسب، ولا يضركم من ضل إذا اهتديتم بأن تعكفوا على العبادة. ولكن معنى ذلك: إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وأديتم الفرائض كالجهاد في سبيل الله، ثم لم يستجب لكم الناس، فحينئذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، أما أن نتذرع بهذه الآية أو بغيرها لنعطل هذا الجانب المهم، فإن ذلك ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى. أيها الإخوان! إن علينا أن نتفهم هذا الحديث، وأن ننظر إلى واقعنا لنرى هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تعتبر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت عياناً، ثم علينا أن نسلك الطريق التي أرشدنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لنلزم جماعة المسلمين وإمامهم، وحينئذ فلن تضرنا هذه الفتن، ولن يضرنا أولئك الدعاة وإن كان لهم نصيب من البلاغة والفصاحة، وإن كانوا يتسلمون كثيراً من المراكز العالية فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

هؤلاء الدعاة هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا

هؤلاء الدعاة هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أيها الإخوان! وحينما نتأمل في أولئك القوم الذين وصفهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أن تلك المواصفات كلها قد انطبقت في هؤلاء، فهم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ولم يأتوا من الشرق أو من الغرب، وأعداء الإسلام قد مهدوا لهم السبيل، وسلموهم مقاليد الأمور، فأصبحوا يخدمونهم بكل طلاقة وبكل حرية، ويؤدون الدور الذي تعلموه على أيدي الكفار حينما عاشوا بينهم وتربوا على أيديهم، أو حينما أخذوهم إلى بلد هناك ليعيشوا بينهم، وليفرض عليهم نوع من الحياة؛ ليعودوا فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، وكما قال الشاعر طرفة في معلقته: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وحينما كان الإسلام يحاربه أعداؤه من الكفرة، فإن ذلك أمر واضح يدركه الناس عياناً، فيقيمون الحصون بينهم وبين أعدائهم، ولكن الأمر أخطر حينما يكاد للإسلام من أهله، ويحاول، أن تقطع شجرته بغصن من أغصانه، فيحاربوه بأحمد ومحمد وعبد الله من المحسوبين على الإسلام، فأصبح الأمر من الخطورة بمكان؛ لأنهم قوم من أبناء جلدتنا، فهم ينتسبون إلى العرب وينتسبون إلى الإسلام سواءً كان في الهوية أو في الاسم أو في الأصل والأمجاد، ولكن الإسلام منهم براء؛ لأنهم قد أعلنوا الحرب على الله وعلى دينه، فهم بالرغم من أنهم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، لكنهم (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). أما كيف نستطيع أن نضع الوسام على هؤلاء لنكشفهم أمام الناس، فإن ذلك لا يحتاج إلى أمر عظيم، فما عليك إلا أن تطالع كثيراً من صحف العالم الإسلامي التي تصدر في البلاد الإسلامية، أو كثيراً من مؤلفاتهم ومجلاتهم، أو كثيراً من إعلامهم؛ وستجد أن هؤلاء الدعاة الذين هم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، يبرزون أمام الناس عياناً فلا يحتاجون إلى وصف يوضحهم أكثر من ذلك الوصف، نعرفهم بسيماهم، ونعرفهم في لحن القول، ونعرفهم بنطقهم، ولربما نعرفهم بكفرهم وإلحادهم حينما يتسنى لهم في بعض الأحيان أو في بعض الأماكن، فقد يعلنوا كفرهم وإلحادهم، أو خروجهم على المبادئ الإسلامية، وعلى القيم الحسنة والأخلاق والفضائل، وكل ذلك لا يحتاج إلى دليل، فهو واقع مشاهد. أيها الإخوان! إننا نقرأ كثيراً من صحف العالم الإسلامي مما يكثر انتشاره حتى في بلادنا هذه، فنشم رائحة هؤلاء، ونراهم بأمهات أعيننا في وضح النهار، وهم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، ولكنهم: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). فمرة يحاربون الحجاب، ويدعون أن الإسلام لم يفرض هذا الحجاب، وإنما هو من مخلفات القرون الوسطى!! ومرة يقولون: إن هذا التستر وهذا الحجاب تقوقع!! ومرة يقولون: إنه رجعية وتخلف!! ومرة يصفون الحدود والأحكام الشرعية بأنها وحشية وقسوة!! وهكذا لا يدعون جانباً من جوانب هذا الدين إلا ويصيبوه بسهم من سهامهم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]. وذلك يعني أن المسلمين كلهم محاربون بهذا الغزو، ولقد أصيب بهذا الداء كثير من أبناء المسلمين من ضعاف العقول، إما ممن لم نربهم التربية الصحيحة المكتملة، أو ممن سلمناهم لهؤلاء يوجهونهم كيف يريدون، فأصبح طائفة من هؤلاء يزمرون ويصفقون وراء هؤلاء القوم، وأصبحت الفتنة قد أصابتهم بشيء من ذلك. والحديث عن هذا الموضوع واضح؛ لأنه واقع نشاهده ونقرؤه ونعايشه، فكم نرى ونقرأ في صحف تصدر في قلب البلاد الإسلامية وهي تحمل هذه المبادئ الخطيرة، وتحمل هذا السم الزعاف؟ كم نسمع ونقرأ ونشاهد ومع ذلك فإن المسلمين لم يتحرك منهم إلا النزر القليل!

الأسئلة

الأسئلة

حكم البعثات إلى بلاد الكفر لدراسة اللغات

حكم البعثات إلى بلاد الكفر لدراسة اللغات Q فضيلة الشيخ! ما رأيكم حول الرحلات والبعثات التي تقوم بها بعض المؤسسات التجارية لدراسة اللغات، سواء في أمريكا أو في بريطانيا، سواء كان بإمكان الشخص أن يقوم بأداء العبادة هناك على وجهها الصحيح أم لا، وشكراً؟ A الصحيح أن هذه الدورات سواء كان يقوم بها التجار أو تقوم بها الدولة من إرسال الطلبة والبعثات في الحقيقة أننا في غنى عنها، ونستطيع أن نعمل دورات في بلادنا، ونأتي بالمعلمين ليعلمونا اللغة أو أي مادة، والمال هو الذي يحقق كل شيء في هذه الأيام، وماذا علينا لو اكتفينا بكل شيء في بلادنا، ولم نحتج إلى إرسال بعثات إلى بلاد الكفر، فإن ذلك من أكبر الأسباب التي شكلت الخطورة في وقتنا الحالي. أما الذين يعيشون في تلك البلاد، فإن كانوا يستطيعون أن يقيموا شعائر الدين فنحن لا نقول شيئاً إلا أنهم على خطر في دينهم، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين) وفسرها العلماء: بأنه الذي لم يستطع أن يقيم شعائر دينه. وعموماً: البعثات الخارجية من أخطر ما أصيبت به بلادنا التي تمتاز عن جميع أرض الله كلها بأنها لم تدنسها أقدام الاستعمار، والآن بدأت تتأثر على أيدي هؤلاء الذين ذهبوا يدرسون هناك، ليعودوا إلى هذه البلاد وقد تغيرت أفكارهم، وقد حملوا شيئاً من السم الذي ذاقوا طعمه هناك في تلك البلاد، ونسأل الله أن يوفق المسئولين حتى يحولوا بين شبابنا وبين هذه البعثات، وهو المستعان.

حكم استقدام الخدم والسائقين

حكم استقدام الخدم والسائقين Q ما حكم استعمال الأسر لكثير من الأجانب، وخاصة غير المسلمين في حياتهم الخاصة كالخدم والسائقين، لا سيما ونحن نعيش في هذه الأيام بجانب هذه الأسر؟ A الحقيقة أن هذا يشكل حلقة من سلسلة هدم الأخلاق والفضيلة، والله تعالى يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ويقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وهذا مخطط طويل عريض، وإذا لم نذهب إلى هناك فإن أولئك سيأتون إلينا ليعيشوا معنا في قعر بيوتنا، ونأتي بالخادمة من البلاد الكافرة أو حتى من البلاد المسلمة لنخلطها بأبنائنا؛ ويحدث الاختلاط داخل قعر البيوت إذا لم يتحقق الاختلاط في المدارس والجامعات؛ لأن بلدنا هذه -والحمد لله- لم تسمح بأن يكون هناك اختلاط، لكن هذا الاختلاط سيتحقق داخل البيوت؛ لتكون خطوة أولى فيصبح بعد ذلك من السهل أن نخلط هؤلاء بهؤلاء في المدارس وفي كل مكان آخر. فهذا الاختلاط يشكل خطورة عظيمة، وفي اعتقادي أن من أخطر ما أصبنا به في هذا البلد هو هذا الترف المادي الذي يعتبره كثير من الناس هو كل شيء!! ولكنه قد فتح علينا أبواب خطيرة لعل من أبرزها: أن ذهب بنا هذا الترف وهذا البذل وحب الاستعلاء إلى أن نأتي بهؤلاء الخادمات وهؤلاء المربيات لتفسد البيوت وتفسد الأخلاق، ثم نأتي بهؤلاء الذين يقودون السيارات لنسلم لهم أغلى ما نملك: أخلاقنا وفضائلنا وبناتنا ونساءنا؛ وحينئذٍ ننتظر -لو دام الأمر على هذا الوضع- فتنة أخطر من الفتنة التي نعيشها اليوم والعياذ بالله!

معنى المستشرقين

معنى المستشرقين Q من هم المستشرقون معنى وتفصيلاً؟ A الحقيقة أني لم أطلع على شيء حول هؤلاء، ولكن المعروف أنهم أناس جاءوا من بلاد الغرب إلى بلاد الشرق الإسلامية، وعاشوا مع المسلمين، ودرسوا الإسلام دراسة شبه كاملة، وبدءوا ينقدون الإسلام، ويطعنون فيه من حيث عرفوه، ولربما يكون بعضهم أعرف بالإسلام من أبناء المسلمين، فطعنوا في الإسلام من هذه الناحية، وشككوا أبناء المسلمين في دينهم، وبعضهم قد اعتنق الإسلام حينما اقتنع وتجرد من أهوائه وشهواته، وعرف أن الإسلام هو دين الحق، أما أكثرهم فهم الذين خططوا لهدم الإسلام، وذلك بعد دراسة عن كثب، وبعد مدة عاشوها طويلاً في البلاد الإسلامية؛ عرفوا فيها الإسلام، وعرفوا كيف يغزى الإسلام، فكان من نتائج هؤلاء المستشرقين هذه المخططات التي غزي بها العالم الإسلامي.

الشخصية الازدواجية

الشخصية الازدواجية Q ما رأيك في الإنسان ازدواجي الشخصية؟ وما تعليقك على هذه الخاصية القديمة؟ A الازدواجية كلمة مصرية، وكانت تسمى في القديم: النفاق، والنفاق أصبحت له الآن مسميات كثيرة، فمرة يسمى (ازدواجية)، ومرة يسمى (مجاملة)، وما أشبه ذلك. وهذا النفاق أو هذه الازدواجية إذا كانت في الاعتقاد فإن الله يقول: {إن المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ} [النساء:145]، أما إذا كانت ازدواجية ونفاقاً في العمل فإنها معصية، وعلى الإنسان أن يبتعد عنها، وعليه أن يكون صريحاً، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204]، وفي اعتقادي أن هذه الازدواجية التي تعيش معنا اليوم ونعيش معها أخطر شيء، فهناك ازدواجية في كل شيء، حتى وسائل الإعلام التي نشاهدها ونقرؤها ونراها بأعيننا تمثل هذه الازدواجية، فلا يكاد قارئ ينتهي من قراءة آيات من كتاب الله حتى تأتي أغنية! ولا تكاد تنتهي هذه الأغنية حتى يأتي حديث! وهكذا، فأصبحت هذه الازدواجية تمثل وتشكل عقداً في نفوس الأطفال والشباب، ولربما يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه هذا الشاب أو هذا الطفل الذي ألِفَ هذه المناظر والمظاهر أن يفرق بين الخير والشر، ثم يصبح الخير كله شراً أو الشر كله خيراً في ذهنه.

حكم شراء المجلات الفاسدة

حكم شراء المجلات الفاسدة Q حبذا لو تنصح الشباب بقراءة الكتب بدلاً من هذه المجلات الفاسدة، وأن ثمنها يحاسب الإنسان عليه؛ لأنه دفعه في غير ما يرضي الله. A ليس هناك شيء أعظم من كتاب الله عز وجل، وأنا أدعو نفسي وأدعو الشباب إلى أن نجعل في كل يوم شيئاً من كتاب الله نقرؤه، ونلزم أنفسنا به، ويا حبذا لو كنا نحفظ ذلك حفظاً، ثم أيضاً هناك مجلات وكتب إسلامية كثيرة تملأ البلاد، وتغص بها المكتبات والحمد لله، وأي واحد منا يستطيع أن يختار أحسن هذه الكتب، وعليه أن يتخير من أنواع هذه الكتب، فهناك الكتب العلمية، وهناك الكتب الثقافية، وما أشبه ذلك، وهناك مجلات تعتني بالتربية الإسلامية، فيا حبذا لو كان الشباب يقتنونها ويكثرون من قراءتها.

الغرض من تكرار قصص الأنبياء في القرآن

الغرض من تكرار قصص الأنبياء في القرآن Q رأيت قصة موسى عليه السلام مكررة في كثير من المواضع في القرآن الكريم، الأمر الذي يثير تساؤلاً عند كثير من الناس، بل كان ذلك من المطاعن التي يطعن بها أعداء الإسلام، فما هي الحكمة من ذلك التكرار، وجزاكم الله خيراً؟ A الحقيقة أن أعداء الإسلام لو أردنا أن نرضيهم أو أن نسعى لدحض شبهاتهم فلن نستطيع؛ لأن الله يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} [آل عمران:7]، وهؤلاء لسنا مسئولين عن إرضائهم، ولكننا مسئولون عن أن نوضح لهم الحق إن أرادوا الحق. أما تكرار القصص في القرآن: فالحقيقة أن هذا يعطي القرآن الروعة الصحيحة، فقصة موسى هي أكثر قصة تكررت في كتاب الله، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يأتي بقصتين من قصص القرآن تحدثت عن قصة موسى عليه السلام وإحداهما تشبه الأخرى؛ فإن كل واحدة تأتي بأسلوب جديد غير ما أتت به القصة الأخرى. وعلى هذا: فإن قصة موسى أو أي قصة جاءت في القرآن الكريم لها أهداف، وهذه الأهداف كما قال الله تعالى: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو يعيش في المحنة الهوجاء التي كان يقاسيها ويعانيها من ذوي قرباه ومن أهل بلده- لا بد أن يُسلى لتخفف المحنة عنه؛ فيخبره الله تعالى بما حدث للمرسلين من قبله، وما فعلت الأمم برسلهم؛ حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مطمئن القلب؛ ليعرف أنه ليس وحده هو الذي سار في هذا الطريق الشائك. وأكثر القرآن من قصة موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء؛ لأن قوم موسى هم أقرب الأمم إلى الأمة الإسلامية، فاليهود آخر أمة بعث فيها رسول، ولربما يقول قائل: إن النصارى جاءوا بعدهم! فنقول: النصارى فرع من اليهود، فاليهود الذين بعث فيهم موسى عليه السلام لما طال عليهم الأمد، بُعث فيهم عيسى عليه السلام، فانتصر النصارى على اليهود وآمنوا بعيسى. والقرآن كله جاء من أجل تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخباره بما فعلت الأمم السابقة بأنبيائها، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وهذه القصص كلها تحتوي على الصدق الكامل؛ لأنها من كلام الله عز وجل.

حكم من لم يستطع إخراج التلفاز من البيت

حكم من لم يستطع إخراج التلفاز من البيت Q ما هو الواجب عليّ إذا لم أستطع إخراج التلفاز أو الدش؟ A إذا كان هناك هذا الشيء وتستطيع أن تحاربه فعليك أن تحاربه، ولكن حينما لا تستطيع أن تبعده عن بيتك فإن الله يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، فعليك أن تجتنب المكان الذي وجد فيه هذا الشيء وتستعين الله على ذلك.

حكم مشاهدة التلفاز

حكم مشاهدة التلفاز Q ما حكم جهاز التلفزيون، وما هو الواجب علينا إذا كان في البيت تلفزيون ولم أستطع إخراجه من البيت؟ A الحقيقة أن التلفزيون لو كان قبل هذا الزمن الذي نعيشه لما استطعنا أن نقول عنه أي شيء؛ لأنه آله، أما وقد استخدم اليوم وسيلة لهدم الأخلاق فلا أحد يشك أن أمره خطير، وأن على أي مسلم أن يحاربه بقدر ما أوتي من قوة؛ فهو الذي يفرض الاختلاط، ويعلم الناس الاختلاط، حتى المسرحيات الإسلامية التي نشاهدها أصبحنا نتعلم فيها أن سلفنا الصالح كان يختلط رجالهم بنسائهم! هذا هو ما تحمله تلك المسرحيات التي يسمونها بالمسرحيات الإسلامية! أضف إلى ذلك المسلسلات الفاسدة التي علّمت الناس الفساد والخلاعة، أضف إلى ذلك الأغاني وغيرها، فكل هذه أمور خطيرة تفرض علينا أن نحاربه بقدر ما أوتينا من قوة.

حكم التفسير بالإعجاز العلمي والتفسير بالكمبيوتر

حكم التفسير بالإعجاز العلمي والتفسير بالكمبيوتر Q ما حكم التفسير بطريقة الإعجاز العلمي للقرآن، مثال ذلك: الحكم على نظريات جديدة بإشارة آيات من القرآن لها، ثم تأتي نظرية أخرى فيشار لها بنفس الآية؟ وما حكم استعمال الكمبيوتر في تفسير آيات الكتاب العزيز؟ A بالنسبة للسؤال الأول: فالحقيقة أن هذا وضع خطير لجأ إليه طائفة من المفسرين العقليين وباعتقادي أن مصطفى محمود من هذا النوع، والحقيقة أن هذا إقحام للقرآن الكريم في أشياء لا تهمنا ولا تهم المجتمع، وهل جميع النظريات العلمية التي يقولها العلماء نحن مسئولون بأن نؤيدها بالقرآن؟! إن هذا باب خطير لربما نؤيد هذه القضية العلمية، ثم يأتي العلم -وهو غير ثابت على حقيقة واحدة- لينقض هذه النظرية في يوم من الأيام، وحينئذٍ نكون قد عرّضنا كتاب الله لأن يصبح ألعوبة، ويكذب به المكذبون. القرآن فوق مستوى هذه النظريات العلمية، القرآن جاء لتربية المرء المسلم، وما علينا إلا أن نسكت عن هذه النظريات، فإذا تعارضت مع القرآن الكريم تعارضاً واحداً فإن علينا أن نضرب بها عرض الحائط، أما إذا لم يظهر لنا التعارض بينها وبين القرآن الكريم فإن علينا أن نرجئها حتى تتعارض وحينئذ فإن علينا أن نرفضها. أما أن نفسر هذه النظريات العلمية بآيات من كتاب الله عز وجل، فإن كتاب الله فوق هذا المستوى، وكأن الذين يريدون أن يعملوا هذا العمل كما يقول سيد قطب رحمه الله: يريدون أن يلتقوا مع الجاهلية في منتصف الطريق، يقولون: ندنوا قريباً إليكم، وتدنون منا قريباً، وحينئذ نلتقي معهم في منتصف الطريق. ولربما يؤدي بنا هذا إلى أن نتنازل عن شيء من ديننا، أو أن نفسر كتاب الله على غير حقيقته!! وضربت لكم مثلاً بـ مصطفى محمود، وأنا لست من الراضين عنه، فأنا أخالف هؤلاء الذين يقولون: إن مصطفى محمود قد رجع عن إلحاده، ولكني أقول: إنه قد لجأ إلى نوع من الإلحاد، وضرب الإسلام بطريقة أخرى غير الطريقة التي كان يسلكها قبل ذلك. أما بالنسبة إلى تفسير القرآن بالكمبيوتر: فنحن لسنا بحاجة إليه، والعلماء الأولون قد خدموا كتاب الله عز وجل خدمة كافية، وما علينا إلا أن نقرأ ما كتبوه، وحينئذٍ سنجد فيه ما يكفي ويشفي، وإذا كان هناك أشياء فسرها لنا العلم الحديث ولم يفسرها لنا العلماء القدامى الذين لم يدركوا هذا التطور الصناعي الجديد، ولكن العلم الحديث قد فسر لنا هذه الآية تفسيراً جديداً، ولكنه لا يخرج بالقرآن عن إطاره؛ فإننا نقبل ذلك. وعلى سبيل المثال: قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، في بعض الكتب القديمة أنه قد أنزلت المطرقة والمنشار وما أشبه ذلك من السماء، ولكن بعد أن رأينا هذه العجائب من هذا العلم الحديث عرفنا معنى قول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، وليس معنى ذلك أن القرآن أصبح خاضعاً لهذه النظريات العلمية، ولكن هذه النظريات أصبحت مفسرة للقرآن لا مؤيدة له.

دخول الجامعات الخاضعة للنظم الغربية

دخول الجامعات الخاضعة للنظم الغربية Q سماحة الشيخ! ما رأيكم في دخول الكليات التي تخضع للنظم الغربية أو الأمريكية؟ A يقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وإذا كانت هذه الكليات أو هذه الجامعات التي تخضع للأنظمة الكافرة تسعى لهدف خبيث؛ من أجل اقتناص أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، فإنه لا يجوز الدراسة فيها؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يركن إلى هؤلاء الكافرين. أما إذا كان هذا الإنسان يأتي إليها لهدف الإصلاح وهو مطمئن على نفسه بأنه لن يتأثر، فإن هذا نوع من المخاطرة -ولربما تكون هذه المخاطرة فيها شيء من الفائدة لكنها ربما تضر هذا الإنسان- وما دام في المجتمعات الإسلامية -والحمد لله- كليات ومعاهد ومدارس بعيدة كل البعد عن مخططات الكافرين فإن علينا أن نفضلها على غيرها.

أهمية التربية الصحيحة للأبناء

أهمية التربية الصحيحة للأبناء Q هناك إهمال شديد من قبل الآباء والأمهات نحو أبنائهم، وإهمال للتربية الصحيحة، وكأن الغيرة قد ماتت، فما توجيهكم؟ A ينبغي ألا نقول: ماتت الغيرة؛ فالعالم الإسلامي فيه خير كثير، وهناك أمهات وآباء فيهم صلاح، وما زالوا يربون أولادهم تربية إسلامية، وإن ما يحدث اليوم من هذا الضعف سببه: إما انشغال كثير من الآباء بالمادة، أو وجود كثير من المغريات التي كان لها الأثر الخطير في سبيل انحراف هؤلاء الشباب، وواجب هؤلاء الآباء وهؤلاء الأمهات أن يخافوا الله تعالى، وأن يحاسبوا أنفسهم، وأن يعلموا أنها أمانة، وأنهم مسئولون عن هذه الأمانة يوم يقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى ليحاسبهم وليحاكمهم، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، فإن على هؤلاء الآباء والأمهات واجب عظيم في سبيل التربية، ولكن التربية لها وقتها المناسب، لا تتقدم ولا تتأخر عليه، والسن السابعة هي التي أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنها بداية السن التي يمكن أن يبدأ الآباء والأمهات فيها بتربية أبنائهم.

مواجهة دعاة الشر

مواجهة دعاة الشر Q كيف يقابل المسلم دعاة الشر؟ هل بالرد عليهم أو فضحهم أمام الناس أو تركهم ومخالفتهم؟ A تختلف المناسبة التي يستطيع أن يرد فيها المسلم على دعاة الباطل والشر الذين هم من أبناء جلدتنا، وهم ممن يندسون في مجتمعاتنا، ويعيشون بين ظهرانينا، فعلى المسلم أن يجند كل القوى والطاقات في سبيل الدفاع عن دينه، وفي سبيل دحض حجج هؤلاء المبطلين، وإزالة ما يقذفونه في المجتمع من شبهات ومن شهوات. فالمسلم عليه أن يستغل كل ما يمكنه استغلاله من الوسائل، فيرد على هؤلاء، ويؤلف، ويتكلم، ويخطب، ويفعل كل ما في وسعه، وكل ما في طاقته في سبيل توجيه الناس، وفي سبيل إبطال شبه هؤلاء الأعداء، وحينئذ يكون قد أدى الدور الذي أنيط به حينما كان على ثغر من ثغور الإسلام.

مفهوم المسلم الحق

مفهوم المسلم الحق Q أريد تحديد مفهوم الشاب المسلم حقاً؟ A المسلم الحق هو: الذي يقيم تعاليم الإسلام المسلم الحق هو الذي يعرف أنه لا أحد في هذا الكون يستحق أن يُعبد أو يُخاف أو يُخضع له أو يُستغاث به أو يُستعان به إلا الله سبحانه وتعالى المسلم الحق هو: الذي يطبق كل تعاليم الإسلام من أوامر وأركان وواجبات حسب استطاعته بصدق، وهو الذي يجتنب المحرمات التي ما من ذنب يرتكب منها إلا ويعود على هذا المرء وعلى مجتمعه بالفساد والمصيبة والدمار. الحق هو: الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه يشعر باللوعة والألم وهو يرى العالم الإسلامي ويرى أمته قد انتشرت فيها المنكرات والمعاصي والموبقات، وهو يستطيع أن يغير فلم يغير، إذا كان يشعر بهذا الشعور، ويحاول التغيير، فإنه حينئذ يكون مسلماً حقاً.

أهمية استغلال الشباب والفراغ والمال فيما ينفع

أهمية استغلال الشباب والفراغ والمال فيما ينفع Q إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة فكيف يستطيع الشاب المسلم -وخاصة في العطلة الصيفية- أن يقضي فراغه؟ A هذه الجوانب الثلاث التي قالها الشاعر: بشار بن برد صحيحة، وهي أخطر شيء على الإنسان: الشباب والفتوة والقوة، والفراغ حينما لا يكون هناك شغل، وتوفر المال دون أن تكون هناك عقلية تستطيع أن توجه هذا المال وجهة صحيحة، هذا أخطر شيء على الإنسان؛ لذلك يقول: مفسدة للمرء أي مفسدة، أي: مفسدة عظيمة، ولكن المرء العاقل يستغل هذه الجوانب الثلاث في أشياء إيجابية تعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع العظيم. فالشباب قوة هائلة لو استغلها الشاب لاستطاع أن يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولاستفادت أمته أيضاً منها، ولكنه حينما يستغل هذه الطاقة وهذه القوة والفتوة في معصية الله فإنها تمكنه مما يريد من هذه المعصية ومن هذا الإثم. كذلك الفراغ، والفراغ يُحسد عليه المرء، وعلى الإنسان أن يستغل هذا الفراغ فيما يعود عليه بالنفع: بالقراءة، وبمجالسة الصالحين، وبالاجتماع على الخير، أو بالحضور إلى هذه المراكز الصيفية التي أسست من أجل أن تستغل هذا الفراغ، لا من أجل أن تقضي على هذا الفراغ، وإنما من أجل أن تستغله في المصلحة؛ لأنه لا يهمنا أن نقضي الفراغ، وإنما يهمنا أن نستغله في المصلحة. وهكذا المال أيضاً: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق). وعلى هذا: فإن المال والفراغ والشباب كلها أسلحة ذو حدين، فإما أن يستغلها المرء فيما ينفعه، وإما أن يوجهها فيما يضره، وهي إلى الضرر أقرب إذا لم تجد عقلية تفكر وتستطيع استغلالها فيما ينفع.

حقيقة التخلف والرجعية

حقيقة التخلف والرجعية Q يعتقد الكثير من الناس -وخاصة الشباب- أن الالتزام بالإسلام معناه الرجوع والتخلف، فكيف نرد على ذلك؟ A الصحيح أن ترك الإسلام هو الرجوع وهو التخلف، والله يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، ومما لا شك فيه أن المراد بالتقدم هو: الأخذ بالإسلام، والتأخر: هو رفض الإسلام، أو رفض شيء من تعاليمه. والدليل على أن التخلف هو رفض الإسلام أن الأمة الإسلامية حينما كانت متمسكة بدينها وعقيدتها وأخلاقها وسلوكها وفضائلها، كانت أمة مثالية، وكانت تنهار أمام جيوشها الحصون قبل أن تصل إليها!! ولو قدر لها أن تتمسك بدينها مدة أطول، لاستطاعت أن تغزو العالم كله، وأن ينتشر الإسلام في جميع أرض الله الواسعة، وإن كل ما حدث من التخلف إنما هو بسبب ترك الكثير من المسلمين لتعاليم دينهم. وعلى هذا فإننا نقول: إنكم أنتم المتخلفون ونحن المتقدمون؛ لأننا نسعى إلى حياة أفضل من هذه الحياة، وأنا لا أشك أن عقلية الرجل الذي يؤمن بالحياة الآخرة أكبر من عقلية الرجل الذي اخترع المركبة الفضائية وما يسمى بالعقل الالكتروني وما أشبه ذلك؛ لأن هذا قد اكتسب أشياء يراها بحواسه، أما ذلك الذي آمن بالغيب فإن عقليته قد اخترقت الحجب فعلمت بأشياء لم تدركها حواسه، فهؤلاء هم المتقدمون، وأولئك هم المتخلفون.

الفرق بين الغرور والثقة بالنفس

الفرق بين الغرور والثقة بالنفس Q ما الفرق بين الغرور والثقة بالنفس؟ A الثقة بالنفس هو الاطمئنان إليها، وإعطاؤها ما تستحق من قيمة، لكن حينما تتعدى الحدود من هذه الناحية فإنها تصل إلى الغرور، والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الثقة بالنفس، ونهى عن الغرور، فقال لما سئل عن الإيمان: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك خطيئتك، فهذه علامة الإيمان)، لكن السرور بالحسنة لا يصل إلى درجة اغترارها بالحسنة والامتنان بها على الله، فإن ذلك هو الغرور.

خطر فتنة النساء والتبرج والاختلاط

خطر فتنة النساء والتبرج والاختلاط Q سماحة الشيخ! ما رأيك في المظاهر الماجنة التي تحدث في الأسواق ولا سيما في سوق الجمعة، حيث تخرج النساء بكثرة ويختلطن بالرجال، والله المستعان؟ A علينا أن نعلم أن أعداء الإسلام غزونا من ناحيتين: الشهوات، والشبهات. فإن لم ينجحوا في الشبهات فإنهم يغزوننا بالشهوات، والشبهات قد لا تجد رواجاً مثل الشهوات؛ لأن الشهوات تميل إليها النفوس، أما والناس على بصيرة من دينهم فإنهم لا يعترفون بهذه الشبهات التي تطلق في مجتمعاتهم الإسلامية؛ لأنهم على ثقة من دينهم، لكن غزو الشهوات هو أخطر شيء أصيب به المجتمع الإسلامي اليوم؛ لأن الإنسان -بطبيعته البشرية- لديه ميل إليها. ولقد استخدم أعداء الإسلام المرأة وسيلة لانحراف المجتمعات الإسلامية، وهذا مخطط رهيب من قِبَل أعداء الإسلام؛ من أجل أن يفسدوا على هذه الأمة دينها، ويقذفوا بهذا الشباب في هاوية سحيقة، فاستخدموا المرأة في كثير من الأماكن والأعمال المختلفة كالسكرتارية وغيرها من الوظائف، وخلطوا بين الشباب والشابات في كثير من المدارس والجامعات في البلاد الإسلامية، وحتى في الخدمات الجوية استخدموا المرأة أيضاً! وكل ذلك من أجل أن يفسدوا المجتمعات الإسلامية. وإن ما يحدث في مجتمعاتنا من اختلاط في الأسواق، أو من تبرج، لهو نتيجة تلك المخططات، سواء ما تنشره الصحف أو ما تنشره وسائل الإعلام المرئية، وكل ذلك له آثاره السيئة، فكان ذلك سبباً في هذا الاختلاط في الأسواق، أو في هذا التبرج الذي نهى الله عز وجل عنه، ولا سبيل إلى الخلاص من ذلك إلا بأن يعود المسلمون إلى دينهم، وأن ينشط دعاة الإسلام، وأن يوفق الله المسئولين عن أخلاق هذا البلد فيحولوا بين المسلمين وبين هذا الفساد، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5]، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].

حكم قطع النافلة بعد الشروع فيها

حكم قطع النافلة بعد الشروع فيها Q فضيلة الشيخ! إذا صام الإنسان تطوعاً ثم أفطر خلال هذا اليوم عمداً فهل يجب عليه قضاؤه أم لا، وجزاكم الله خيراً؟ A بالنسبة للعبادات لا يجب الاستمرار فيها إلا الحج؛ لأن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فالحج -سواءً كان فرضاً أو نفلاً- لا بد من إتمامه، أما سائر العبادات فإن الإنسان غير ملزم بأن يتمها، فلو صام وأفطر أثناء النهار فليس ملزماً بقضاء هذا اليوم، وهكذا أي نافلة لو بدأ بها ثم قطعها فليس ملزماً أن يأتي بنافلة أخرى إلا الحج والعمرة فإنه مطالب بإتمامها ولو كانت نفلاً، فإذا شرع فيهما فلا بد أن يتمها، وإذا أحل فعليه أن يأتي بحج أو بعمرة بدل هذا الحج أو العمرة.

شكر النعمة

شكر النعمة لقد أسبغ الله جل وعلا علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهي لكثرتها لا تعد ولا تحصى، وقد أمرنا الله سبحانه بالشكر، ووعدنا بالزيادة، فهو الكريم العظيم، وكلما شكر العبد ربه زاده من فضله، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وشكر النعم هو القيام بما أوجبه الله تعالى تجاهها، وصرفها في مرضاته وطاعته سبحانه وتعالى، وكفر النعم هو ضد ذلك، وهو سبب لزوالها وانقلابها نقمة وعذاباً.

نعمة المال والأكل من رزق الله تعالى في الأرض

نعمة المال والأكل من رزق الله تعالى في الأرض الحمد لله، الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وكل شيء عنده بمقدار، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة في الله! أيها الأحبة في العقيدة! افهموا فوائد المال وحقيقته، واسمعوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169]. في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى أن كل ما في أيدي الناس جميعاً من نعمته، فيأمر الناس عامة: برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، بأن يأكلوا من رزقه، فإن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، يعطي الدنيا المؤمنين وغير المؤمنين، ولكن هذه الدنيا إنما هي للمؤمنين، وما فيها من المتاع والنعيم إنما هو لهم، مع أنهم يشاركهم فيها غير المؤمنين، ولكنها خالصة لهم يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. وفي آية أخرى يدعو الله المؤمنين إلى الأكل من رزقه، ويبين أنه خلقه من أجلهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]. والفرق بين هاتين الآيتين: أن الآية الأولى أمرت الناس عامة أن يأكلوا من رزق الله وما في الأرض. أما الآية الثانية فإنها أمرت المؤمنين وأباحت لهم أن يأكلوا من رزقهم الذي خلقه الله عز وجل من أجلهم.

شروط الأكل من رزق الله

شروط الأكل من رزق الله حينما نعود إلى الآية الأولى نجد أن الأكل من رزق الله، والأكل مما في الأرض لا بد أن يتوافر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون حلالاً طيباً، فعلى المؤمنين خاصة أن يجتنبوا الحرام، سواء في ذلك الحرام لذاته، وهو ما حرم من أجل ذاته؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ما حرم من أجل غيره من أموال الناس، ومما يحصل عليه من الكسب الحرام. الشرط الثاني: ألا يتبعوا حينما يأكلون رزق الله في الأرض خطوات الشيطان، ولا يسيروا على آثاره ويتبعوا نهجه، سواء في ذلك شياطين الإنس أم شياطين الجن، ثم بين سبحانه وتعالى النهي عن اتباع خطوات الشيطان والأمر بالسير على أوامر الله فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170].

ابتلاء الله لعباده بالعطاء والحرمان من النعمة

ابتلاء الله لعباده بالعطاء والحرمان من النعمة معشر المسلمين! إن سنة الله في هذه الحياة أن يذيق هذا الإنسان رحمته، والمراد بالرحمة هنا: نعمة المال ولذته، حتى إذا عض على هذه النعمة بالنواجذ نزعها الله من الكافر والباغي نزعاً، حتى إذا أبدله النعمة إثماً وأبدله المال فقراً، وأبدله الصحة مرضاً والأمن خوفاً؛ نسي ما كان بالأمس، وظن أن نعمة الله لن تعود إليه أبداً منذ تلك اللحظة التي يفارقها. يقول الله عز وجل عن هذا الأمر: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} [هود:9]، (نزعناها) أي: أخذناها بقوة وبشدة وبسرعة إذا لم يكن أهلاً لهذه النعمة: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:9 - 11]. معشر المسلمين! إن سنة الله في الحياة أن يرد الناس إليه طوعاً أو كرهاً، وحينما ينحرف الناس عن دين الله، وحينما يتنكبون عن طريقه المستقيم، يبتليهم في بادئ الأمر بالفقر والمسغبة والخوف والجوع والأمراض والأسقام، فإما أن يتراجعوا ويعودوا إلى الله عز وجل، وإما يتمادوا في غيهم، فإن الله يمتحنهم في المرحلة الثانية بالنعيم، يمتحنهم بالنعم والأمن والأرزاق تأتيهم رغداً، ثم بعد ذلك إذا لم يعرفوا قدر نعمة الله عليهم أخذهم سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر. تجدون هذه المعاني كلها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:94 - 100]. معشر المسلمين! وهكذا يمتحن الله عز وجل الناس عامة بالفقر والمسغبة، ثم يمتحنهم بعد ذلك بالمتاع والنعيم، فإذا لم يؤثر فيهم هذا وذاك فإن أخذه إليم شديد.

استدراج الله تعالى للعاصي بالنعم

استدراج الله تعالى للعاصي بالنعم معشر المسلمين! ولربما يغتر طائفة من الناس بهذا النعيم، ويظنون أنه مقياس السعادة، وأنه علامة من علامات الرضا، وإذا ناقشت هؤلاء قالوا: الناس في خير! الناس في نعمة! هؤلاء الكافرون منذ القدم يرفلون في نعم الله ولم يأخذهم، ونسوا عند طرحهم لهذه الشبهة أن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. أما هؤلاء الكافرون الذين يرفلون منذ القدم في نعم الله فإن الله يقول عنهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. معشر المسلمين! إياكم واستعمال المقاييس! وإياكم أن تخدعكم هذه النعمة! وأنا حينما أخاف لا أخاف على أولئك المخضرمين الذين عاشوا فترة الجوع والمسغبة والخوف والجوع؛ فإن هؤلاء يدركون نعمة الله عليهم اليوم في كثير من الأحيان -وإن كان كثير منهم قد غير وبدل- ولكني أخشى على هذه الناشئة الجديدة التي ولدت وكما يقول المثل: وفي أفواهها ملاعق من ذهب، لا تسمع إلا عن مئات المليارات من ميزانية الدولة، ثم يظنون أن هذا النعيم كان قديماً، وأنه سيبقى لهم إلى الأبد! معشر المسلمين! احذروا هذا الفهم الخاطئ، واعلموا أن الله يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، أي: ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، بطريق لا يدركون أنه من العذاب، وأقرب ما يكون ذلك حينما تكون العقوبة نوعاً من النعيم في ظاهر الأمر. أيها المؤمنون! استجيبوا لأمر الله، واستقيموا على دينه، واعلموا أن النعمة قد تصيب القوم مع طاعة الله، وقد تكون علامة من علامات الرضا، أو نوعاً من الجزاء العاجل يعجله الله للمؤمنين، يقول سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، ثم يقول بعد ذلك: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96].

أخذ الله تعالى لمن كفر نعمته ولم يشكره عليها

أخذ الله تعالى لمن كفر نعمته ولم يشكره عليها إن علينا أن نشكر هذه النعمة، فلا نستعملها في معصية الله، ولا نقابلها بكفر المنعم سبحانه وتعالى، فلسنا بحاجة إلى معاهد للموسيقى، أو ننفق أموال الله في مثل هذا السبيل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة). إن الجهاد في سبيل الله الذي يفتح اليوم ذراعيه للمؤمنين أفضل طريق يجب أن ننفق فيه أموالنا وأموال المسلمين. فاستقيموا واحذروا سخط الله، وإياكم أن تغركم هذه النعمة، فلقد قص الله علينا أخبار كثير من الأمم كانوا في نعيم أكبر من هذا النعيم، وكان هذا النعيم فتنة، كما في قصة عاد الذين تجبروا في الأرض، وآتاهم الله من النعيم أكثر مما آتى غيرهم من الأمم فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:15 - 16]. أما قارون فقد قال الله عنه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، وقد قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:76 - 78]، فيقول الله له: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. وكان قد اغتر بهذا النعيم طائفة من قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، ولكن العقلاء والمؤمنين يقولون لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * َأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81 - 82]، ثم قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. أما بعضهم فلقد يسر الله له كل وسائل المتاع فاغتر وانخدع وتكبر على الله وعلى عباده، فانتقم الله منه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56]. ولعلكم تقرءون قصة سبأ، أولئك الذين آتاهم الله من المتاع حتى كان يسير السائر من اليمن إلى الشام في قرى متواصلة تظله الأشجار، فلما كفروا نعمة الله عز وجل أوقع بهم العقوبة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 - 17]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

شكر النعم سبب لدوامها

شكر النعم سبب لدوامها الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكلوا من فضله ونعمته، واشكروا له إن كنتم إياه تعبدون. لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتمتعوا بما في الحياة الدنيا من المتاع، وبين أنه خلق ذلك من أجلهم، بل خلق الحياة الدنيا والآخرة كل ذلك من أجلهم، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. المؤمنون هم مطالبون بأن يقابلوا حق الله بالشكر: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]، {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168]. أما الذين يستغلون نعمة الله ويخونونها، ويستخدمونها في معصيته، فأولئك شر الخلق في الدنيا والآخرة، وقد أمر الله عز وجل بأن نقوم بالشكر شكراً عملياً لا قولياً: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وإذا كانت هناك نماذج في الأرض كثيرة استغلت نعمة الله في معصيته فقد أخذها أخذ عزيز مقتدر، كما قص الله سبحانه وتعالى علينا قصة سليمان الذي آتاه الله الملك والحكمة، ولكنه أدرك نعمة الله عليه وقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. معشر المسلمين! إن الذين يستغلون نعم الله في معصيته إنما يعذبون أنفسهم بعقوبة الله في الدنيا قبل الآخرة: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. أما نحن اليوم فإننا نرفل في هذا المتاع العريض، والأمن قد أرخى سدوله في بلادنا؛ بسبب تحكيم شريعة الله عز وجل، ويتخطف الناس من حولنا، فلم نؤد في الحقيقة شكر هذه النعمة. حينما كنا فقراء كنا أطوع لله وأتقى له منا اليوم، أما اليوم فإن أقل ما نتحدث عنه بالنسبة لما حصل في بلادنا التي بليت بهذا النعيم -ولا أقول منحت هذا النعيم- أن اعتمدنا على غيرنا في تربية أولادنا اتخذنا الخادمات الكافرات أو المتمسلمات أو -على أحسن الفروض- المسلمات، واختلطن بنا واختلطنا بهن اتخذنا الصحافة في كثير من الأحيان وسيلة لهدم الأخلاق والفضائل. حينما كنا في فقر ومسغبة كنا أتقى وأطوع لله عز وجل، ونسينا أنه هو الذي يقول لنا: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132 - 135]. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عنا معهم، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا بفضلك ورحمتك. اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر على كل من استعمل نعمتك في معصيتك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]. عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. {اتْلُ مَاْ أُوْحِيَ إِلِيْكَ مِنَ الْكِتَاْبِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

السبع المثاني

السبع المثاني سورة الفاتحة هي فاتحة القرآن، والسبع المثاني، والرقية الشافية، وأم القرآن، وهي التي من أخذ بها هدي ووقي، وفاز برضا الرحمن. ولفاتحة القرآن معان جليلة، ومقاصد نبيلة، وفضائل عديدة، من أخذ بها أجر، ومن تدبرها ازداد علماً وهدى.

هل البسملة آية من القرآن أم لا؟

هل البسملة آية من القرآن أم لا؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فهذه الحلقة الأولى من تفسير كتاب الله عز وجل تحتوي على سورة الفاتحة. سورة الفاتحة اختلف في البسملة: هل هي آية من السورة، أم أنها زيادة؟ كما أنه قد اختلف في هذه البسملة في كل سورة من سور القرآن، فقيل: إنها آية من الآيات، وقيل: إنها بداية واستفتاح لكل سورة، وليست بآية إلا في سورة النمل، فهي جزء من آية في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، أما من قال: إن البسملة آية من كتاب الله عز وجل، فاستدل بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. فإذا قيل: إن السبع المثاني هي سورة الفاتحة؛ والقرآن العظيم هو بقية القرآن، وهذا من باب الاهتمام بسورة الفاتحة، فإن الآية السابعة هي البسملة؛ لأنها ست آيات دون البسملة، والآية السابعة هي البسملة، وعلى هذا فتصبح البسملة في سورة الفاتحة أو في أي سورة أخرى آية من القرآن، أي: لا تكون تلاوة كتاب الله عز وجل إلا بعد هذه البسملة.

أهمية سورة الفاتحة وما ورد فيها من فضائل

أهمية سورة الفاتحة وما ورد فيها من فضائل سورة الفاتحة لها أهمية عظيمة:

سورة الفاتحة رقية يرقى بها المريض

سورة الفاتحة رقية يرقى بها المريض أولاً: هي للرقية: فقد كان يرقى بها المريض فيشفى بإذن الله عز وجل، فهي كافية للرقية، كما في قصة القوم الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، فضافوا على قوم فلم يضيفوهم، فجلسوا قريباً منهم، فلدغ سيدهم، فجاءوا إلى هؤلاء القوم وقالوا: هل منكم من راق؟ قال رجل منهم: نعم أنا راق، لكني لا أرقيكم إلا بكذا وكذا من الغنم، فقالوا: أرق سيدنا، فقرأ عليه سورة الفاتحة؛ فزال أثر اللدغة وكأنما نشط من عقال، فأخذوا عدداً من الغنم، وقيل: عددها ثلاثون، وجاءوا بها إلى المدينة، وكأنهم تحرجوا، أي: تحرج بعض الصحابة أن يأكل من هذه الغنم وقد أخذت رقية على كتاب الله عز وجل، فلما جاءوا إلى المدينة أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (وما أدراك أنها رقية؟ اقسموها واضربوا لي بسهم)، أي: أن هذا المال الذي أخذوه على هذه الرقية جائز، فأخذ من ذلك أن سورة الفاتحة كافية للرقية، فتقرأ على المريض أياً كان هذا المرض، وبإذن الله عز وجل يشفى.

سورة الفاتحة هي السبع المثاني

سورة الفاتحة هي السبع المثاني ثم سورة الفاتحة أيضاً هي كما سماها الله عز وجل: السبع المثاني، على رأي طائفة من العلماء وهم الجمهور، وقيل: إن المراد بالسبع المثاني: السبع الطوال، ولكن الرأي الأول أرجح، والله أعلم.

سورة الفاتحة ركن في الصلاة

سورة الفاتحة ركن في الصلاة وتمتاز أيضاً سورة الفاتحة بأنها ركن في كل ركعة في كل صلاة، سواء كانت نافلة راتبة أو غير راتبة، أو فريضة؛ فإنها لا تصح الصلاة إلا بقراءة سورة الفاتحة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وتسمى فاتحة الكتاب؛ لأنها أول سورة في القرآن العظيم، فيبدأ القرآن بسورة الفاتحة. والعلماء متفقون على أنها لا تصح الصلاة السرية بالنسبة للإمام والمنفرد إلا بقراءة هذه السورة، فالمأموم في الصلاة السرية يلزمه أن يقرأ سورة الفاتحة، واختلف في الصلاة الجهرية إذا لم يترك الإمام فرصة بين الفاتحة وبين السورة الأخرى، وعلى هذا فإن هذا الخلاف واضح، بحيث إن قراءة الفاتحة ركن في كل صلاة، وفي الصلاة الجهرية مع الإمام فإنه اختلف في لو لم يترك الإمام سكتة، فإنه يجوز أن يتركها ويتحملها الإمام، ولكن إذا ترك الإمام سكتة وكانت هناك أية فرصة أو في سكتات الإمام المتقطعة فإنه في مثل هذه الحال لا بد أن تقرأ، واختلفوا فيما إذا لم يترك فرصة، وحينئذ فإنه يلزم أن يقرأها في أي حالة من الحالات، والذين قالوا: تسقط إذا لم يسكت الإمام ولم يترك سكتات، ففي مثل هذه الحال فإنها تسقط عند طائفة من العلماء، أما من استدل بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقال: إنها لا تصح أي صلاة إلا بها، فريضة كانت أو نافلة سرية أو جهرية مع الإمام أو بدون إمام منفرداً أو مأموماً، فإنه يقول: لا بد أن تقرأ في أي حالة من الحالات، ولو كان الإمام يقرأ، واستدلوا بحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن منازعة القرآن، وقال: (إلا بفاتحة الكتاب) أي: في مثل هذه الحال. وعلى هذا فإن هذه السكتة ولو كانت قليلة يستطيع أن يقرأ فيها المأموم سورة الفاتحة ولو بسرعة، أو يوزعها على السكتات، المهم أنه لا بد أن يقرأها. أما الذين قالوا: لا يجوز أن يقرأها المأموم إذا كان مع الإمام في صلاته الجهرية، فاستدلوا بقول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. إذاً: سورة الفاتحة تعتبر أعظم سورة في القرآن العظيم، كما أن آية الكرسي أعظم آية، والدليل على أنها أعظم سورة في القرآن: أن الله عز وجل أثنى عليها، وجعلها منة ونعمة منه على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فالسبع المثاني هي الفاتحة، وسميت مثاني لأنها تتكرر في كل ركعة، فيكررها المسلم عدة مرات في اليوم الواحد، معنى (مثاني) أي: مثنى مثنى، أي: تكرر مرة بعد مرة. وجعل القرآن كله في كفة، وسورة الفاتحة في كفة، إضافة إلى أنها رقية كما ذكرنا، إضافة إلى أن هذه السورة لا تصح الصلاة إلا بها في أي ركعة من الركعات فرضاً كانت أو نفلاً. وعلى هذا نعرف أن سورة الفاتحة أعظم سورة في كتاب الله عز وجل، بالرغم من قصرها، وقد جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله عز وجل: أنثى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، ثم يقول الله عز وجل: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)، ويصبح آخر السورة النصف الثاني كله دعاء، في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، آمين. ولذلك الله عز وجل يقول بعد ذلك: (ولعبدي ما سأل)، والسؤال هنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7]. وعلى هذا فإنه يتوقع الهداية من الله عز وجل لكل من يكرر هذه الفاتحة؛ لأنها لا تقوم الصلاة إلا بها؛ ولأنها هي الركن الأول من أركان الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإن أركان الصلاة تبدأ بتكبيرة الإحرام وتثنى بقراءة الفاتحة، فالفاتحة ركن في كل ركعة كما ذكرنا سابقاً.

تفسير سورة الفاتحة

تفسير سورة الفاتحة والآن نشرع في تفسير هذه السورة.

معنى الاستعاذة

معنى الاستعاذة نبدأ أولاً بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم: فمعنى (أعوذ) أي: ألتجئ وأعتصم بالله سبحانه وتعالى. (من الشيطان): المراد بالشيطان كل متمرد من الإنس والجن والطير، فهناك شياطين الإنس، وهناك شياطين الجن، فشياطين الإنس: هم من ضل الطريق من بني آدم، وبدءوا يضلون الناس عن الطريق المستقيمة، وأما شياطين الجن: فالمراد بهم الشياطين من أبناء إبليس، وهم الذين يضلون الناس عن الطريق، ولكن شياطين الإنس والجن كما قال الله عز وجل: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولذلك فإن الإنسان قبل أن يبدأ أي قراءة، وفي كل حالة ينظر أن الشيطان قد تدخل في أمر من أموره، أو بدأ يسول له، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، خصوصاً عند بداية القرآن، فإن الله عز وجل يقول عند بداية القرآن: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، كما في سورة النحل، وعلى هذا فإن معنى (قرأت القرآن) أي: إذا أردت القراءة؛ لأن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وعلى هذا فإن المسلم عليه أن يبدأ كل شيء بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم. ثم أيضاً هذه الاستعاذة تبعد شياطين الجن، وربما أنها لا تبعد شياطين الإنس إلا حينما تستعيذ بالله عز وجل منه مباشرة، وربما شياطين الإنس يحتاجون إلى جهد أكبر وهو البعد عنهم. فعلى المسلم أن يبتعد دائماً عن المتمردين من البشر، وأن يبتعد عن مجالسهم ومخالطتهم، إضافة إلى أنه يستعيذ بالله عز وجل منهم، كما أنه يستعيذ بالله عز وجل من شياطين الجن، وعلى هذا فإنك تستعيذ بالله عز وجل من شياطين الإنس والجن، إلا أن شياطين الإنس يحتاجون إلى زيادة وهي الابتعاد عن مواقعهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]. أيضاً يقول العلماء: الشيطان مأخوذ من (شاط) أو من (شطن)، فإذا كان من (شاط) فمعناه: احترق؛ لأن الشيطان محترق، أما إذا كان من (شطن) فمعناه: البعد، والشطان معناه: الرباط البعيد، فيسمى شطاناً، وعلى هذا فإنه مبعد عن رحمة الله عز وجل، فنقول: هو مأخوذ من (شطن) أي: ابتعد عن رحمة الله عز وجل، أو من (شاط) بمعنى احترق، والشيطان مبعد عن رحمة الله عز وجل، ومحترق، فهو يأخذ كلا المعنيين اللغويين. و (الرجيم): فعيل بمعنى: مفعول، أي: مرجوم، والشيطان مرجوم بآيات الله عز وجل، ومرجوم بالذكر الذي لا يمكن الشيطان من وصول بني آدم، أيضاً الشيطان مرجوم بالنجوم؛ لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصعد بعضهم فوق بعض إلى أن يصلوا إلى السماء، ويلتقطون من الوحي كلمة واحدة، ويضيفون إليها تسعاً وتسعين كذبة، ثم ينزلون بها فيخبرون بها الكهان، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم سلط الله عز وجل عليهم هذه الشهب التي نلاحظها في السماء تنطلق من النجوم، والله عز وجل يقول حكاية عن شياطين الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9]، أي: بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، ولذلك فعلى المسلم أن يكثر دائماً من الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.

معنى البسملة

معنى البسملة يقول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فهي كما قيل: آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة، وقيل: إنه يبدأ بها للبركة إن لم تكن آية من كل سورة، وقيل: إنها آية من سورة الفاتحة فقط؛ لأنها هي المكملة للسبع الآيات التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. (بسم الله) الباء: للاستعانة، أي: أستعين مبتدئاً بسم الله الرحمن الرحيم. و (الله، والرحمن، والرحيم): كلها أسماء من أسماء الله عز وجل الحسنى، وكان أهل الجاهلية ينكرون اسم (الرحمن) من أسماء الله عز وجل، فكانوا يكتبون (باسمك اللهم) ويقولون عن (الرحمن): لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة، وهو صنم من أصنامهم، وينكرون الرحمن، وإن كانوا يؤمنون بالرحيم من أسماء الله عز وجل، ولذلك كانوا يكتبون: باسمك اللهم، ويكرهون كلمة (الرحمن)، ولا يؤمنون بها اسماً من أسماء الله عز وجل، ورد الله عز وجل عليهم في سورة الإسراء بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. ومما يذكر في هذا المقام قصة سهيل بن عمرو رضي الله عنه حين كان مشركاً، حينما أرسله أهل مكة ليعمل صلحاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، يوم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة ومنعوه من دخول مكة، فأرسلوا سهيل بن عمرو من أجل الصلح، وأن تقف الحرب سنين معينة، وأن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دون أن يتم عمرته، وأن يحلق رأسه، كما هو النظام الموجود في ذلك الوقت، وهو أيضاً أصبح حكماً شرعياً، ويرجع، فجاء سهيل بن عمرو رضي الله عنه -وكان مشركاً في ذلك الوقت- فجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبون العهود والمواثيق التي اتفقوا عليها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لا نؤمن بالرحمن، فقام عمر رضي الله غضبان وقال: يا رسول الله! دعني أكسر ثنيتيه، فقال: يا عمر! اتركه، فلما بدءوا قال: اكتب باسمك اللهم)؛ لأنهم لا يريدون كلمة (الرحمن)، وبعد ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اكتب هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله مع سهيل بن عمرو، فقال: لا تكتب رسول الله؛ لأننا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال: اكتب: هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو؛ فغضب عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! دعني أقطع عنقه، فقال: اتركه يا عمر! فلعله أن يقف موقفاً نحمده عليه). وفعلاً لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان سهيل بن عمرو قد دخل في الإسلام وحسن إسلامه، وكان من زعماء أهل مكة الموجودين يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتد كثير من العرب عن الإسلام، بعد ذلك وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه على باب الكعبة وقال: يا أهل مكة! أنتم آخر من دخل في الإسلام، فلا تكونوا أول من يخرج منه، يقول المؤرخون: فما ارتد واحد من أهل مكة بسبب كلمة سهيل بن عمرو رضي الله عنه. ومعنى (الرحمن): الرحمة العامة، أما (الرحيم) فمعناه: الرحمة الخاصة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فرحيم على وزن (فعيل) بمعنى: فاعل، أي: راحم، فرحمن ورحيم معناهما متقارب: من الرحمة، ولكن كلمة (الرحمن) أعم لكل الناس، و (الرحيم) خاصة بالمؤمنين، ولذلك يقولون: الرحمن: رحمة عامة، والرحيم: رحمة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وفي قراءة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ويوم الدين: هو يوم القيامة والجزاء، فمالك ذلك اليوم هو الله عز وجل، والله تعالى هو مالك الدنيا والآخرة، لكن ربما يكون هناك -كما هو معروف- ملك محدود الزمن والملكية لواحد من ملوك الدنيا، أو لأي واحد من عامة الناس، لكن هذا الملك في الحقيقة مدته محدودة أيضاً، لكن يوم الدين هو مملوك لله عز وجل وحده، وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يوم القيامة يقول: ({لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم} [غافر:16]؟ فلا يجبه أحد -حينما يفني هذه الخلائق- ثم يرد الله عز وجل على نفسه بنفسه ويقول سبحانه وتعالى {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]،)، فقد يكون هناك من ملوك الدنيا أو من عامة الناس من يملك شيئاً من هذه الدنيا، لكن يوم القيامة يستقل الله عز وجل بملكه فلا يملكه أحد سواه سبحانه وتعالى. أيضاً الدين معناه: الجزاء، كما تقول العرب: كما تدين تدان، يعني: كما تحاسِب تحاسُب، أي: مالك يوم القيامة، وهو يوم المحاسبة أو يوم الجزاء؛ لأن يوم الدين هو يوم جزاء وليس فيه عمل، بخلاف أيام الدنيا فإنها أيام عمل وليس فيها جزاء، وقد يكون فيها شيء من الجزاء، فالله عز وجل قد يعطي شيئاً من الجزاء يعجله لبعض أوليائه في الحياة الدنيا، بخلاف أعدائه، فإن الله عز وجل يعجل لهم الجزاء كله في الدنيا، فمن عمل عملاً ظاهره الصلاح لكنه بدون نية وبدون إيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل له جزاءه في الدنيا، ولا تبقى له في الحياة الآخرة حسنة واحدة، ولذلك يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]. وهذا هو ما نشاهده في عالمنا اليوم حينما نرى أقواماً كفروا بالله عز وجل، أو تمردوا على طاعته، أو عصوا، أو أسرفوا في المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ثم نجد أن الله عز وجل يمدهم بالأهل والمال والبنين والصحة والعافية، وربما نشاهد بلادهم فيها من الخيرات أكثر مما هو في بلاد المسلمين، وعندهم من النعيم والرخاء أكثر مما في أيدي عباد الله المؤمنين، فلعل السر في ذلك -والله أعلم- أن الله تعالى عجل لهم حسناتهم؛ لأن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود:15]، و (نُوَفِّ): أي: نعطيهم أجرهم كاملاً غير منقوص: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16] نعوذ بالله! {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]، أي: كان باطلاً في الدنيا وحبط أيضاً في الحياة الآخرة، فصنعهم يحبط في ذلك اليوم، وكان باطلاً في الحياة الدنيا لأنه غير مقبول عند الله عز وجل؛ لأنه لا يصاحبه الإيمان أو لا تصاحبه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يصاحبه إخلاص العبادة لله عز وجل. وهذا أيضاً هو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الحياة الدنيا بعمله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، هؤلاء يأخذون جزاءهم في الدنيا، فيوم دينهم أي: جزاؤهم يأخذونه في الدنيا، أما المؤمنون فإن الله عز وجل قد يبعد عنهم رخاء الحياة الدنيا، فقد يعيشون فقراء أو محرومين أو معذبين أو مسجونين أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أن الله عز وجل يدخر لهم ذلك في الحياة الآخرة؛ لأن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، بل إن الله عز وجل يقول: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17]، يقول: كلا! أي: لا هذا أكرمه ولا هذا أهانه، فإن الإكرام والإهانة هو في الحقيقة في الدار الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد يكرم الله عز وجل من لا يستحق ذلك استدراجاً أو جزاءً على عمل قدمه في الحياة الدنيا، كأن يبني المدارس، أو يحفر الترع، أو يبني القناطر، أو ما أشبه ذلك مما ينفع الناس لكن بدون نية، فالله تعالى يجعل جزاءه في الحياة الدنيا. أما المؤمنون فإن الله تعالى وإن عجل لهم شيئاً من ذلك في الحياة الدنيا، لكن الجزاء الأكبر مدخر لهم في الحياة الآخرة، وهذا معنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، فهو الجزاء الحقيقي. كما أن في ذلك اليوم أيضاً جزاء الكافرين والعصاة، فإن كل واحد يأخذ جزاءه في تلك الدار إذا لم يتجاوز الله عز وجل عن سيئاته، كما يجزي المؤمنين بالجنة في الدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى يجزي الكافرين بالعذاب وكذلك العصاة، إذا لم يتجاوز الله عز وجل عنهم؛ لأن الكفار مخلدون في النار، وعصاة المؤمنين تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، فإذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على معاصيهم فإن الله تعالى قد يعذبهم وقد يعفو عنهم، وإذا عذبهم فإنهم لا يخلدون في النار إذا ماتوا على الدين والتوحيد والطاعة لله عز وجل، وإن كانت عندهم ما عندهم من المعاصي ولو كانت كبائر لم يتجاوز الله عز وجل عنها. إذاً: قول الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، وعلى هذا فإن يوم الدين ويوم الجزاء هو يوم القيامة، والله تعالى مالك أيام الدنيا ويوم الدين، لكن ملك الدنيا قد يظن أحد من الناس أنه يملك فيه شيئاً، يملك بيته يملك أرضه يملك عقاره يملك أهله وماله وداره يملك الملك دولته ويتصرف هذا التصرف، لكن الملك المطلق يكون في يوم الدين لله عز وجل؛ لأنه لا يبقى ملك لأحد في ذلك اليوم إلا من يملكه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يقولون: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74]، وهذا هو التمليك المطلق الدائم، لكنه بتمليك الله عز وجل، أما ذلك اليوم فالذي يملكه ويملك التصرف فيه، ويملك أيضاً الجزاء، ويملك من يشاء ويحرم من يشاء هو الله عز وجل، ولذلك خص يوم القيامة بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). إذاً: الدين معناه: الجزاء والحساب، وهذا دليل على أن الله عز وجل هو الذي يحاسب الإنسان بنفسه، ويحاسبه بناءً على علمه أولاً، بما فعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما سجلته هذه الصحائف التي سجلت على كل إنسان، كما جاء في الحديث: (إن الله عز وجل ينشر على عبده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، وهي صحائف الأعمال، فيقول الله عز وجل: أتنكر من ذلك شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ فيقول الإنسان: لا والله يا رب! فيظن أنه قد هلك، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، إنك لا تظلم، فيؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتوضع في كفة، وتوضع تلك السيئات العظيمة كلها في كفة، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات)؛ لأن هذا الإنسان حقق لا إله إلا الله وعمل بمقتضاها. وعلى هذا فإن الجزاء من عند الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يحاسب هذا الإنسان، حتى إن الله عز وجل كما جاء في الحديث: (يحاسب عبده ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وبالرغم من كثرة الخلائق يوم القيامة فإن الحساب يكون في لحظة واحدة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]، لأنه قد اطلع، وقد أودع الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا شهوداً تشهد على هذا الإنسان: فأولها كما ذكر الله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61]. الأمر الثاني: أولئك الملائكة، الذين يقول الله عز وجل عنهم: {كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12]. الأمر الثالث: الأرض، فإن الأرض شاهدة على الإنسان؛ لأنه لا يمكن أن يفعل الإنسان شيئاً إلا على وجه الأرض، حتى لو كان في جو السماء، فالأرض مطلعة وتشهد عليه يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، وعمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها). أيضاً جعل الله عز وجل هناك شهوداً آخرين: كالناس يشهد بعضهم على بعض، كما جاء في الحديث: (مرت ذات يوم جنازة فأثنى عليها الناس خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه). أيضاً: الشاهد الأكبر بعد الله عز وجل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء في قول الله عز وجل في سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد)

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد) ثم قال الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، هذه الآية تحمل مطلق العبادة والاستعانة بالله عز وجل، وأنه ليس هناك عبودية لأحد إلا لله عز وجل، وليس هناك معبود إلا الله عز وجل، ونأخذ كلمة التوحيد المطلقة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن (إياك) مفعول لنعبد، و (نعبد) فعل مضارع، والفاعل نحن، وتقديم المفعول على الفعل والفاعل مما يدل على الاختصاص، وهذه قاعدة في اللغة العربية: كلما قدم ما حقه التأخير فإنه يدل على الاختصاص، وعلى هذا فإنه يصبح قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد أحداً سواك، ولذلك جاء الضمير منفصلاً؛ لأنه تقدم عن مكانه، وتقدمه للحصر؛ لأنه كلما قدم ما حقه التأخير فيكون حصراً. إذاً: معنى قول الله عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك، ونأخذ الحصر من تقديم ما حقه التأخير، وعلى هذا فإن هذه الآية بجزئها الأول حصرت العبودية لهذا الإنسان لله عز وجل وحده، أي: لا نعبد أحداً سواك، وعلى هذا فإنها تحتوي على كلمة التوحيد المطلقة التي لا تقبل أي جدال ولا شك، ولذلك لما أطلق التمجيد لله عز وجل في تخصيصه سبحانه وتعالى بالعبادة، وتخصص هذا الإنسان بالعبودية لله عز وجل، قال الله عز وجل كما في الحديث: (مجدني عبدي)، عند هذه الآية، فالتمجيد معناه: الثناء الكامل وإضافة المجد كله لله عز وجل. وعلى المسلم وهو يكررها في كل ركعة من صلاته أو في غير الصلاة أن يفهم حقيقتها، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فلا يحني ظهره لغير الله عز وجل، ولا يطأطئ رأسه لغير الله عز وجل، ولا يضع أشرف عضو من أعضائه -وهو الوجه- على الأرض إلا لله عز وجل. وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الآية خص نفسه بالألوهية، ولذلك يرفضها المشركون؛ لأنهم يعبدون آلهة الكفر مع الله عز وجل، ولو قالوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنهم يقولون: نعبد الآلهة الأخرى مع الله عز وجل التي تقربنا إلى الله زلفى، ولذلك فإنهم يرفضون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأنهم يعرفون أن معناها: لا نعبد أحداً سواك، وهم مضطرون -كما يظنون في قرارة نفوسهم الضالة- أنهم لا بد أن يضعوا هذه الآلهة واسطة بينهم وبين الله عز وجل، كما في قوله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. أما إذا تفهمت يا أخي الكريم! (إياك نعبد)، فإنك تفهم أن معناها الحقيقي: لا يمكن أن يكون هناك معبود غير الله عز وجل، ولا هناك عابد لله عز وجل يعبد مع الله غيره، ونحن نرى أو نسمع أن هناك عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله عز وجل في هذا العالم، وقد رأيت كثيراً منها يحج إليها طائفة من الناس، ويتمرغون حول هذه القبور، ويطوفون بها، ويسألونهم الحاجات من دون الله عز وجل، ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، كما قال المشركون الأولون، إلا أنهم يغيرون اللفظ فقط ويقولون: هذه ترمز إلى رجال صالحين، وهذه قبور أناس صالحين نرجو شفاعتهم يوم القيامة، والحقيقة أن هذا يشبه إلى حد بعيد بل لا يختلف أبداً عن قول المشركين الأولين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والله عز وجل لا يحتاج إلى واسطة، فمجرد ما يرفع يديه هذا الإنسان إلى السماء، أو يقول: الله أكبر في الصلاة؛ ينفتح الحجاب بينه وبين الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة دون أن يحتاج إلى وساطة؛ لأن الله عز وجل لا يريد أن يسأل بجاه أحد، أو بصلاح صالح، أو بأي شيء آخر، وأن يجعل بينه وبين الله عز وجل واسطة. وعلى هذا: فإن أصحاب الأضرحة والقبور في أيامنا الحاضرة ضلوا الطريق حينما يقولون: هؤلاء الصالحون نرجو شفاعتهم في الآخرة، وأشبهوا المشركين الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وربما يكون هذا الكلام -في بلادنا هنا والحمد لله- قد لا يفهمه كثير من الناس، لاسيما الذين لم يسافروا خارج هذه البلاد، فإن بلادنا هذه -والحمد لله- حرسها الله تعالى بدعوة سلفية منذ مئات السنين، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، التي جددت لنا دعوة التوحيد التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، حينما اتفق مع أمير هذه البلاد محمد بن سعود رحمة الله عليهم أجمعين، فتعاهدوا على كلمة التوحيد، وهدمت القبور والأضرحة كلها، فبلادنا -والحمد لله- خالية تماماً إذا لم نذكر ما يوجد من القلة الذين يأتون من بلاد انتشرت فيها الوثنيات والشركيات في بلادهم، ثم يذهبون إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يأتون بشيء من الشركيات التي نسأل الله عز وجل أن يوفق المسئولين -وهم ما زالوا يحاربونها- أن يزيدوا في محاربتها؛ لأن مكة والمدينة -حرسهما الله عز وجل- تلتقي فيهما عدة حضارات من حضارات العالم، كما تلتقي فيها جنسيات العالم، فيأتي أناس يحملون هذه الفكرة التي هي في بلادهم، وربما يقول أحدهم في بلادنا هنا حينما يصل إلى مكة والمدينة: إذا كنا هناك نعظم ونقدس أناساً عاديين فأولى بهذا التعظيم وهذا التقديس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما يأتون بشيء من شركياتهم، وهذا هو ما نشاهده في بعض الأحيان حول قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، التي هي مركز التوحيد سابقاً. لكن -والحمد لله- نجد في سلطتنا الخير الكثير، فهم ما زالوا ولم يزالوا وسيستمرون إن شاء الله على محاربة هذا الفكر الذي يرد ويأتي به أناس ربما لا يفهمون الحقيقة الواقعية في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى أن بلادنا لا يوجد فيها الشرك، خصوصاً هذه المناطق التي نعيش فيها نحن هنا في نجد وما حولها؛ لأنها بلد انتشرت فيها قاعدة التوحيد والحمد لله، وجددها المجددان محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمة الله عليهما، فنشكر الله عز وجل على هذه النعمة، ونسأل الله أن يزيد المسئولين في هذا البلد إيماناً ويقيناً وتوحيداً، وأن يثبتنا وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وإياك نستعين)

تفسير قوله تعالى: (وإياك نستعين) قال تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فكما أنه قد خص بالعبودية عز وجل فإنه خص أيضاً بالاستعانة، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نستعين إلا بك، ونقول فيها من الناحية اللغوية كما قلنا في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ): قدم مفعول (نستعين) وهو (إياك)، والفاعل مستتر، وتقديم ما حقه التأخير يدل على نفس المعنى السابق في (إياك نعبد)، أي: لا نستعين بأحد سواك، وعلى هذا فإن الاستعانة تعتبر جزءاً كبيراً عظيماً حساساً من أجزاء العبودية لله عز وجل، أي: فلا نصرف نوعاً من العبادة؛ لأن الاستعانة بغير الله عز وجل أو بمخلوق من المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل أمر لا يجوز، وهو أيضاً يخل بجانب التوحيد، بل يقضي على التوحيد. وعلى هذا نقول: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حي فلا بأس أن تستعين به وتقول: يا أخي! ساعدني في كذا، أما إذا كان ميتاً فلا تجوز الاستعانة به بأي حال من الأحوال؛ لأن الميت هو بحاجة إلى الحي، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا نستعين به بعد موته، وإذا ذهبنا إلى قبره عليه الصلاة والسلام فإننا نسلم عليه بعد أن نزور مسجده، فنقف عند قبره نسلم عليه ولا نستعين به، وإنما نصلي ونسلم ونثني عليه بما هو أهله عليه الصلاة والسلام، ونسأل الله عز وجل شفاعته في الآخرة، لكن لا نسأله شيئاً، وهو أقدر الخلق في حياته عليه الصلاة والسلام على كل شيء، وقد هدانا الله تعالى بسببه، لكنه بعد موته لا يستطيع أن يقدم لنا أي خدمة أو أي معونة مادية، إلا أن نتبع سنته ونموت على ملته، ونسأل الله عز وجل الثبات على ملته. هذا هو الأمر الذي نستفيده منه، بل هو صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن نصلي عليه، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم معناها الدعاء، إذاً: هو بحاجة إلى دعائنا عليه الصلاة والسلام بعد موته، ونحن بحاجة إلى الله عز وجل مباشرة بحيث لا نستعين إلا بالله عز وجل، فكيف إذاً بمن يستعين بالأموات الذين أصبحوا رفاة ويذهبون إليهم ويقولون: يا فلان! أعطني كذا؟! تذهب المرأة التي لا تحمل -نعوذ بالله- فتجلس عند صاحب الضريح، سواء كان تقياً أو براً أو فاجراً وتقول: أنا لا أحمل! تسأله وكأنه أصبح إلهاً مع الله عز وجل، وهو لا يملك لها ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ بل إن الأموات ونحن نمر بقبورهم نسلم عليهم وندعو لهم، فكيف يدعو هذا الإنسان المصاب ويذهب إلى ميت؟! ألا يفر إلى الله عز وجل؟! فيذهب هذا المريض إلى صاحب هذا القبر ويقول: أعطني الصحة والعافية! عياذاً بالله! وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194]، وعلى هذا فإن كل ميت لا يمكن أن يساعد حياً، وكل حي قد يستطيع أن يساعد، لكن فيما لا يقدر عليه لا يجوز أن نسأله، كأمور الآخرة، أو مغفرة الذنوب وما أشبه ذلك، ولو كان حياً، أما الميت فإنه لا يجوز أن نعطيه شيئاً من الدعاء، أو نسأله حاجة من الحاجات؛ لأنه أصبح تراباً، وهو أيضاً رهين في قبره بما قدمه في حياته الدنيا، فقد يكون من أهل السعادة، وقد يكون من أهل الشقاوة، وقبره إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، حتى لو فني جسمه فإن روحه باقية، وهي التي تعود إلى مكانها يوم يأذن الله عز وجل ببعث الخلائق. إذاً: هذا هو معنى قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد إلا أنت يا رب، ولا نستعين إلا بك، لكن ذلك لا يمنع أن تستعين بحي في أمور محدودة يستطيع عليها، وتطلب منه المساعدة والعون، لكنك حينما تطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أو تطلب هذا الأمر من ميت أياً كان هذا الميت؛ سواء كان من المرسلين أو من عامة الناس، فإنك في الحقيقة تطلب المستحيل؛ لأن هذه الأمور لا يملكها إلا الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان حياً حياة برزخية في قبره كما نؤمن بذلك، إلا أنه ميت عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما يقوله غلاة الصوفية والمارقون: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي، ويقولون: محمد خلق من نور، وليس له ظل، وهذا كله في الحقيقة كفر بالله عز وجل، وكفر بما جاء من عند الله عز وجل، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى أخبر بأنه ميت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، أي: ستموت: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران:144]، إذاً: الموت يقع عليه كما وقع على جميع الأنبياء، والخلاف في الذي لم يمت في الحقيقة هو عيسى عليه الصلاة والسلام، كما دل القرآن عليه حيث قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، علماً أن طائفة من المفسرين يقولون: قوله: (إني رافعك إلي) فيه تقديم وتأخير في المعنى لا في اللفظ، أي: رافعك ومتوفيك، فالله عز وجل رفعه إلى السماء وتوفاه، ويوم القيامة قبل أن تقوم الساعة حينما يخرج المسيح الدجال ينزله الله عز وجل إلى الأرض، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب كما جاء في الحديث. إذاً: موت الأنبياء موت حقيقي، لكن حياتهم برزخية، وقد حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم كما جاء ذلك في الحديث، أما الموت فإنه كتبه الله عز وجل على كل كائن حي بما في ذلك المرسلون عليهم الصلاة والسلام، وفي يوم القيامة يموت كل شيء حتى الملائكة، وآخر من يموت حملة العرش بعد أن يموت ملك الموت، ويفني الله عز وجل هذا العالم كله؛ لأن الله تعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فالذين يقولون: محمد غير ميت وهو حي، هم في الحقيقة يكفرون بالقرآن، ويكفرون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل من الكتاب والسنة، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم في بشريته حينما قال: (ألا أنما أنا بشر)، فلم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، وهذا معنى بشر، وليس هو أول المخلوقات؛ لأن أول مخلوقات البشر هؤلاء هو آدم عليه الصلاة والسلام، كما أخبر الله عز وجل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وكل هذه من شطحات الصوفية الذين ضلوا الطريق، وأضلوا كثيراً من الناس في أيامنا الحاضرة وعبر سنين طويلة، وسوف يسألون يوم القيامة بين يدي الله عز وجل عن كل من ضل على أيديهم، وعن كل ما افتروه على الله عز وجل، وكذبوا به رسوله صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنهم يزعمون أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم. وعلى هذا نفهم قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، أن الاستعانة أيضاً كالعبودية، وهذا نفهم منه أن الاستعانة نوع من العبادة، بل هي جزء مهم من جزئيات العبادة؛ لأن الله عز وجل ذكرها بعد العبودية مباشرة، وبالرغم من أنها جزء من جزئيات العبودية إلا أنها أصل من أصول العبودية لله عز وجل، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، لا تسأل غير الله عز وجل، وذلك كله مرتبط بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: الاستعانة يجب أن تكون لله عز وجل وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) ثم بعد ذلك بدأ الدعاء الذي يقول الله عز وجل عنه: (ولعبدي ما سأل)، في قوله تعالى في النصف الثاني: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، و (اهْدِنَا) لا بد أن تقرأ بهذا اللفظ؛ لأن هناك من العامة من يقرؤها: (أَهدنا) نعوذ بالله! وهذه القراءة تزيل اللفظ رأساً على عقب، وهي أيضاً تحريف في كتاب الله عز وجل، ولا يعذر الإنسان في ذلك، بل يجب أن يتعلم سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها، بحركاتها وسكناتها، فإن من قرأ: (أهدنا) فيكون المعنى من الهدية، فالصلاة تعتبر غير صحيحة، سواء قرأها الإمام أو قرأها المنفرد أو المأموم، فلا بد أن يقرأها بهذا اللفظ: (اهْدِنَا)؛ لأن (اهْدِنَا) من الهداية، وهنا المطلوب الهداية، ومعنى (اهْدِنَا) أي: دلنا على الصراط المستقيم، ولا شك أن الذي يقرؤها ممن دله الله عز وجل على الصراط المستقيم، فكيف يقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو ما وقف يصلي بين يدي الله عز وجل إلا بعد أن اهتدى إلى الصراط المستقيم؟ فنقول: إن لها معنيين: أي: دلنا على الصراط المستقيم، وإذا اهتدينا إليه ثبتنا عليه، ويكون معنى (اهدنا) بالنسبة للمسلم وهو يقرؤها أي: اهدنا إليه هداية تامة مطلقة؛ لأن هناك من يزعم ويظن أنه على الصراط المستقيم، لكنه ضل الطريق، كما قلت لكم في غلاة الصوفية الذين انحرفوا عن الطريق، وكما يوجد في العلمانيين في هذا العصر، يقولون: إن هذا الدين دين عبادة، والقرآن نزل للعبادة، والمسلم مكلف بالعبادة فقط من عند الله عز وجل، أما بالنسبة لأنظمة الحياة فيقول هؤلاء العلمانيون: هذه ليست لله وإنما هي للبشر، هذا لله وهذا لشركائهم، ولذلك يرون أن هذا الدين لا يتدخل في أنظمة الحياة: لا في الأنظمة الاقتصادية، ولا في الأنظمة السياسية، ولا في الأنظمة الأخلاقية، ولا في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، إنما يقول هؤلاء العلمانيون قاتلهم الله: إن معنى هذا الدين أن تذهب إلى المسجد تصلي إذا جاء وقت الصلاة، وتصوم إذا جاء رمضان، وتحج إذا جاء الحج وتعتمر إلى غير ذلك من العبادات، أما أموال الناس ومعاملاتهم وسلوكهم وحكمهم وسياستهم فيقولون: لا يتدخل الدين في ذلك، فهذا منهج العلمانيين. أما الصوفية فإنهم يصرفون أنواعاً من العبادة لغير الله عز وجل، ويبدأ ذلك من البدع والعياذ بالله! والبدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة: (كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وعلى هذا: فإن أي بدعة فإنها تعتبر ضلالة في الحقيقة، وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل دائماً الهداية، فإذا كان ذلك الإنسان ضالاً وهو يسأل الله الهداية ويقول: أنا مهتدي، وهو ضال في الحقيقة، كما ذكرت عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم على الصراط المستقيم، فهؤلاء أشد الناس فتنة يوم القيامة، وهم في الدنيا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال تعالى عنهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، وأخبر الله عز وجل عنهم في مكان آخر بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]. فهؤلاء الذين يعبدون الله عز وجل على غير بصيرة أو بدون قاعدة التوحيد، أو المنافقون أو من كانت عندهم شطحات عظيمة تخرجهم من الملة: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، و (السراب) معناه: الشيء الذي يرى في شدة الحر وكأنه ماء للعطشان، فيركض وراءه، وكلما قرب ابتعد، والحقيقة أنه ليس ماءً، وإنما هو فقط أمام عينيه، وهكذا أعمال هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم على حق وهم على ضلال، ولذلك يروى أن علياً رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم في صحراء، فمر بدير من أديرة اليهود فنادى، فأطل عليه راهب كانت الدموع تسيل على لحيته، فلما رآه علي رضي الله عنه قال: صدق الله العظيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2]، أي: في الدنيا، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]، أي: في الآخرة، فلا ينفع مثل هذا إيمانه؛ لأنه يبكي على غير منهج صحيح، ولذلك نلاحظ كثيراً من الناس يصرفون وقتاً كبيراً للعبادة، لكن هذه العبادة إما مبنية على قاعدة البدعة أو الشرك بالله عز وجل، أو عمل ليس على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ليس صواباً غير مقبول. ولذلك المسلم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فيطلب الهداية إن كان عنده شيء من الأخطاء التي تضله عن الطريق أو هناك من يضله، يسأل الله تعالى أن يهديه، ثم يسأل الله عز وجل الثبات أيضاً على ذلك، أي: ثبتنا على الصراط المستقيم؛ لأن الهداية هي دلالة وثبات، فالله تعالى هو الذي يدل الإنسان على الطريق المستقيم، وقد يضل أذكى الناس كما نشاهد في أيامنا الحاضرة، فإن الذين صنعوا الكمبيوتر والأجهزة الدقيقة، وصعدوا في الفضاء، ووصلوا إلى القمر، وغاصوا في أعماق الأرض، واكتشفوا أشياء دقيقة جداً، ما هداهم الله عز وجل إلى هذا الطريق المستقيم؛ لأن الله عز وجل لا يهدي إلا من يريد، والهداية لا تقوم على الذكاء، أو على الآباء والأمجاد، أو أبناء الذوات أو ما أشبه ذلك، وإنما تقوم على توفيق من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، ولذلك المسلم يكررها في كل ركعة، وفي غير الصلاة أيضاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). وهذا دعاء يطلب من الله عز وجل وإن كان أمراً في ظاهره، لكنه لا يكون من الأقل للأعلى إلا دعاء، فالأمر له عدة حالات: فإذا كان من الأعلى أو من المساوي قد يكون أمراً، لكن إذا كان من الأقل إلى الأعلى فمعناه دعاء وتضرع بين يدي الله عز وجل، وطلب من الله عز وجل الهداية والثبات، وعلى هذا فإن معنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: ثبتنا عليه، سؤال من الله عز وجل أن يثبتهم على الصراط المستقيم. والمسلم دائماً عليه أن يتأكد من صحة المسار، ومن تأكده أن يكثر من قول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، بل إذا قالت له نفسه شيئاً من الغرور، يسأل الله عز وجل الثبات، وإن لم تقل له نفسه شيئاً من هذا الغرور فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق وأحسنهم عملاً وإخلاصاً ومتابعة لأوامر الله عز وجل كان دائماً يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ونحن أولى بأن نقول ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، ولم يقل: أسلموا، وإنما قال: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -يعني: قرب الأجل- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في أهل النار: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -أي: فيما يظهر للناس- فيسبق عليه الكتاب -أي: يقرب الأجل- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ويأتي إذا قرب الأجل ما قدره الله عز وجل له في اللوح المحفوظ، نسأل الله الثبات، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فهو في طول حياته -نعوذ بالله- ضال، لكن الله عز وجل أراد له الهداية وحسن الخاتمة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) نسأل الله الثبات والموت على الملة. قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أي: ثبتنا عليه، وهذا الثبات هو الذي يحرس هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، وكم نرى من الناس من هو على صلاح وتقى، ولكن الله عز وجل أراد له الضلالة وسجل عليه الشقاوة في جبينه يوم كان في بطن أمه وفي اللوح المحفوظ؛ لأن أول ما خلق الله القلم فقال له: (اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ، فنرى صلاحاً وتقى في إنسان، ثم إذا به ينحرف نعوذ بالله! وقد نرى والحمد لله ما هو أكثر من ذلك في أيامنا الحاضرة، أناساً رأيناهم في ضلال، حتى إذا جاء الله عز وجل بهذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهذا الاتجاه الطيب، وجدنا أن هؤلاء والحمد لله أصبحوا في مقدمة الصالحين، وقد يكونون أبناء أناس فسقة ومن الله عز وجل عليهم بالهداية، لاسيما في هذا العصر الذي أثلج -والحمد لله- صدور المؤمنين ما نشاهده من اتجاه إلى دين الله عز وجل، نسأل الله لهم الثبات والاتزان والانضباط، حتى لا يتعدوا الحدود التي شرعها الله عز وجل.

معنى الصراط المستقيم

معنى الصراط المستقيم (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، الصراط المستقيم: هو طريق الجنة، وطريق الإسلام قبل ذلك، وسمي صراطاً لأن الصراط معناه: الطريق، والمستقيم معناه: الذي لا ينحرف، وقد فسرت هذه الآية الآية الأخرى في آخر سورة الأنعام، وهي قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، الذي هو دين الإسلام وطريق الجنة، {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ومعنى السبل أي: الطرق الأخرى، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية في سورة الأنعام في آخرها خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله -يعني: الذي يوصل إلى الجنة- وعليه داع يدعو إليه)، خطوطاً منحرفة يميناً ويساراً وقال: (هذه هي السبل، وعلى كل واحد منها شيطان). ولذلك يقول العلماء: إنه كلما جاء الصراط المستقيم أو دين الإسلام أو الطريق الموصل إلى الجنة جاء بلفظ المفرد، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، وأما إذا جاءت الطرق المنحرفة فإنها تذكر بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]؛ لأن طرق النار كثيرة نعوذ بالله! وطريق الجنة واحد، ليس هناك في الجنة إلا طريق واحدة، وهي طريق الإيمان والتوحيد والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمرسلين قبله قبل أن تنسخ أديانهم. وعلى هذا فإن هذه القاعدة مطردة، كلما جاء الصراط أو السبيل بلفظ الجمع فالمراد به طرق النار نعوذ بالله! والطرق المنحرفة، كما رسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في هذه الآية، ولكن ورد في قول الله عز وجل في آخر آية في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فلم تأت حسب ما أعرف (سبل) مجموعة إلا في هذه الآية، وهي من سبل الطريق المستقيم، قال بعض العلماء عنها: (سبلنا) أي: الطرق التي تنتهي بطريق واحدة، فكأنها ممرات تنتهي بطريق واحدة، وهي طريق الجنة وهو الصراط المستقيم، ولذلك فإن السبل وإن تعددت إذا كانت تنتهي بطريق واحدة فهي طريق الجنة؛ كما جاءت في آخر آية من سورة العنكبوت. ولذلك فإننا نجد أيضاً أن هذه السبل -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- على كل واحد منها شيطان، وهؤلاء الشياطين منتشرون من شياطين الإنس والجن في أيامنا الحاضرة، وفي كل عصر من العصور، يدعون الناس إلى هذه السبل المنحرفة، وكما جاء في الحديث نفسه الذي ذكرته: (أن على كل واحد منها شيطاناً)، وهذا الشيطان قد يكون من شياطين الإنس، وقد يكون من شياطين الجن، وقد يكون من الجميع، قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وهذا نجده في هؤلاء المنصرين والمهودين في أيامنا الحاضرة، أو نجده في الذين يدعون الناس إلى الضلال ولو كانوا من أبناء المسلمين، ومن أبناء جلدتنا، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). ولذلك فإن المسلم مطالب أن يكون على المنهج المستقيم، وأن يكون متبعاً لا مبتدعاً، ثم أيضاً المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل الثبات على ذلك، وعليه أن يبحث عن أفضل فرقة، وأفضل أمة، فيضم صوته إلى صوتها، ويضم نفسه إلى مجموعتها؛ حتى لا يضل الطريق، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه حذيفة بن اليمان قال: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني - ثم قال في آخر الحديث:- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفة: قلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قال: فقلت: يا رسول الله! فماذا تأمرنا إن أدركنا ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فقلت: يا رسول الله! وإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: اعتزل تلك الفرق ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). وعلى هذا يا أخي الكريم! فإن على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يبحث دائماً عن الصواب، وعن الطريق المستقيمة في هذا الأمر، وهذا معنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، إذاً تسأله الثبات على دين الإسلام، وهذا الطريق كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أوله في الدنيا، وهو طريق الاستقامة، وآخره في الجنة، نسأل الله أن نسلكه جميعاً، وأن يهدينا إليه، وأن يجنبنا السبل الضالة حتى لو كان يتقمصها ويتبناها من أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا.

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) ثم وضح الله عز وجل هذا الصراط المستقيم فقال عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، ومعنى (صراط): أي: طريق، و (صراط) هنا بدل من الصراط، ولذلك نجد أنها منصوبة كما نصبت الصراط، لكن تلك بـ (أل) وهذه مضافة؛ لئلا تجتمع (أل) والإضافة، أي: طريق الذين أنعمت عليهم، والمراد بالذين أنعم الله عليهم: هم المؤمنون، فالله عز وجل أنعم على المؤمنين، وأضل الكافرين عن هذا الطريق. (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: من عباد الله المؤمنين، وهذه النعمة المراد بها نعمة الإسلام، وليس المراد بها نعمة المادة فقط التي يسألها ويطلبها ويسعى إليها كثير من الناس، فنعمة الإسلام هي أكبر نعمة، وأكبر ما من الله عز وجل به على واحد من الناس أن هداه لهذا الدين، ولذلك أخبر الله عز وجل فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: أنعمت عليهم بالهداية، وأنعمت عليهم بالتوفيق، وقد ضل عن هذا الطريق أناس كثر، ولذلك قال هنا في أولها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وأخبر بأن هؤلاء الذين هداهم الله عز وجل هم الذين أنعم الله عليهم، كما قال الله عز وجل في سورة النساء: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، أي: نعمة الهداية في الدنيا، ونعمة الجنة والدرجة العالية في الحياة الآخرة، ولذلك قال الله عز وجل: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: نعمة سابغة، وهي أعظم نعمة، فنعمة المال والأهل والولد كل هذه في الحقيقة تعتبر نعمة، لكنها وإن كانت نعمة في الحقيقة إلا أنها نعمة دون النعمة الكبرى، فالنعمة الكبرى هي هداية الإسلام، وما أنعم الله عز وجل على أحد أفضل وأكثر مما أنعم به في الهداية إلى الإسلام، وهذا معنى قوله تعالى: (أنعمت عليهم) وهم المسلمون.

تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ثم بين أن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم المسلمون، والدليل أنهم مسلمون أن الله تعالى قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، والمغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى، وكل من غضب الله عز وجل عليه من المسلمين فإنه سلك مسلك اليهود، وكل من ضل الطريق بعد الهداية والتوفيق من الله عز وجل فإنه يعتبر من الضالين في حساب النصارى، وإن كان المغضوب عليهم في الأصل هم اليهود، والضالون هم النصارى. وكلمة (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، تدل على أن المغضوب عليهم أشد خطراً وسوءاً وإجراماً من الضالين؛ لأن الإنسان إذا ضل الطريق هو في الحقيقة ترجى له الهداية، لكن الذي يغضب الله عز وجل عليه فإنه يعتبر أسوأ الناس؛ لأن الله عز وجل غضب عليه وقال: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60]، فالمغضوب عليهم: هم اليهود؛ بدليل هذه الآية التي في سورة المائدة: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60]. وسمى اليهود مغضوباً عليهم؛ لأن كتبهم السماوية التي نزلت على أنبيائهم كلها تذكر صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا ينتظرون قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيبعث، ويعدون العرب في مكة والمدينة، كانوا يخبرون أهل المدينة بأنه سيبعث رجل من العرب هذه صفاته، وهذا اسمه إلى غير ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] وهم اليهود، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، وكذلك النصارى معهم: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة:101]، الذي هو التوراة والإنجيل الذي جاء بصفات محمد صلى الله عليه وسلم، نبذوا حتى كتبهم وراء ظهورهم وكفروا به؛ لأنه أخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك غضب الله تعالى عليهم وتوعدهم بالنار، بل جعلهم أشر أنواع الكفار، كما في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]. علماً يا أخي الكريم! أن هذه الآية لا تدل على أن النصارى إخوة للمسلمين، كما يقول بعض المارقين -نعوذ بالله- أنهم أهل كتاب سماوي، وأنهم لا يكفرون، فإن تكفيرهم أمر مطلوب، ومن لم يكفرهم فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، لكن هذه الآية تدل على أن اليهود أشد عداوة وأخطر على الإسلام من النصارى، ولكن العداوة مشتركة؛ لأن الله تعالى قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فالعداوة موجودة من الجميع، إلا أن التفضيل هنا يزيد اليهود عداوة، ولكن النصارى أعداء أيضاً. وكما نشاهد في عالمنا اليوم كيف أن النصارى الآن يقفون في وجه هذا الدين كما وقف اليهود، وهم الآن يدمرون بلاد المسلمين، ويدمرون اقتصادهم وأخلاقهم فيما يبثونه في بلاد المسلمين من هذه المحرمات إلى غير ذلك. واليهود والنصارى يشتركون في العداوة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، لكن في الحقيقة العداوة عند اليهود أشد، ولذلك سماهم الله تعالى مغضوباً عليهم، وقدمهم في الذكر هنا مقابل المؤمنين، ولكنه ذكر بعد ذلك النصارى فقال: (وَلا الضَّالِّينَ)، أي: لا هؤلاء ولا هؤلاء، والمراد بالضالين: النصارى، وليس معنى ضالين أنهم ضلوا الطريق، وأنهم ما بلغتهم الرسالة؛ لأن الذي لم تبلغه الرسالة لا يحاسب، والله عز وجل يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فمعنى: ضالون أي: ضلوا الطريق على بصيرة، هذا هو معنى ذلك، لكنهم أقل خطراً من اليهود، وأقل جرماً من اليهود. وعلى هذا فإننا نعتبر أن الطريق المستقيم هو طريق واحدة، أما الطرق المنحرفة فهي لليهود والنصارى وأصحاب البدع والخرافات والوثنيين، وغيرهم من أصحاب الملل حتى من أصحاب الدعوة من الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيهم ضالون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، أي: أمة الدعوة والبلاغ الذين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لبلاغهم، على ثلاث وسبعين فرقة، بل قد يكون بعضهم ممن يحمل الهوية الإسلامية، فنجد أن العلمانيين يحملون الهوية الإسلامية، ونجد أن غلاة الصوفية يحملون الهوية الإسلامية، وأصحاب القبور يحملون الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي، لكن ذلك كله لا ينفعهم؛ لأن الإسلام ليس دين هوية وإنما هو منهج عمل. وعلى هذا فإننا نستعيذ بالله تعالى في كل صلاة من منهج اليهود والنصارى، ثم إذا أكملنا الفاتحة نقول: (آمين)، و (آمين) ليست آية من القرآن، وليست آية من الفاتحة، ومعناها: اللهم استجب؛ لأن آخر سورة الفاتحة يعتبر دعاءً، والله تعالى يقول: (ولعبدي ما سأل)، فنقول: (آمين) أي: اللهم استجب؛ لأن آمين اسم فعل أمر بمعنى: استجب يا ربنا. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أثر الذنوب والمعاصي

أثر الذنوب والمعاصي للذنوب آثار وخيمة على الفرد والمجتمع، فما نزل بلاء، ولا منع عطاء إلا بذنب، وما حلّ قحط إلا بذنب، ولا وقعت نكبة إلا بذنب، ولا خيم ذل على أمة من الأمم إلا بسبب الذنوب، فاتق الله أخي المسلم! وخلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها عل الله أن يرفع عنك وعن أمتك البلاء.

مقدمة عن أثر المعاصي على الأمم

مقدمة عن أثر المعاصي على الأمم الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي ينذر ويعذر، ويبين لنا أسباب الخير والسعادة وأسباب البلاء والشقاوة، حتى لا نضل السبيل، هو الذي ذكر عز وجل النار في سورة الرحمن وما فيها من العذاب ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]؛ لأن بيان العذاب في الدنيا نعمة من الله عز وجل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكم الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وجزاه خير ما يجزي به نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. وبعد: إن للذنوب خطورة في حياة البشرية، وذلك شيء نجده في القرآن العظيم، قال الله عز وجل: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت:40]. وحينما يذكر الله عز وجل عقوبة أمة من الأمم في القرآن العظيم يقول بعد ذلك: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: وقوعها على ظالمي هذه الأمة ليس بعيداً. ولولا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة لحل بها البلاء العام، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وضع في عنق كل فرد من أفراد هذه الأمة مسئولية تبليغ هذا الدين جيلاً بعد جيل، فاستجاب الله عز وجل دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يهلك أمته جميعاً. أما المعاصي فإنها محارم الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) والله عز وجل يغار على محارمه أكثر مما يغار أي واحد منا على محارمه؛ لأن الله عز وجل له غيرة أعظم من غيرة أي واحد منا على محارمه، ولكن الله سبحانه وتعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. أيها الأخ الكريم! من هنا يجب علينا أن نقف ملياً في قصص القرآن العظيم؛ لنرى ماذا فعل الله عز وجل بالظالمين وأصحاب المعاصي والملاحدة والطغاة والمتجبرين الذين عتوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد. ولقد سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه أعربياً فقال: يا أعرابي! أين الله؟ فقال الأعرابي: بالمرصاد. فقال عثمان: (والله لقد سمعتها من فم هذا الأعرابي ولها وقع). من هذا المنطلق يجب علينا أن نقف لنرى ماذا فعل كثير من الناس في حدود الله ومحارم الله وفرائضه وواجباته، لقد تعدى عليها كثير منهم، والله تعالى يسدل عليهم ستره، ويرغد عليهم رزقه، ويسبغ عليهم خيراته؛ لأن الله تعالى لطيف بعباده {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61].

الآثار المترتبة على اتخاذ الفيء دولا

الآثار المترتبة على اتخاذ الفيء دولاً أخي الكريم! موضوع حديثنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث وإن كان فيه ضعف لكن له ما يقويه من أحاديث أخرى ومن الواقع، فيأخذ درجة القبول، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور، وظهر الزنا، وأكرم الرجل مخافة شره، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً وآيات تتابع كنظامٍ بالٍ انقطع سلكه فتتابع)، وفي حديث آخر: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء). نتحدث عن هذه الخصال لنرى مدى مطابقتها لواقعنا، وهل في هذه الأمة من تجرأ على هذه الأمور؟! وما هي النتيجة؟! قوله: (إذا اتخذ الفيء دولاً) الفيء في اللغة: هو ما يؤخذ من العدو، وفي الشرع: هو ما يؤخذ من العدو بدون قتال. ثم صار الفيء يطلق على كل أموال المسلمين العامة، فصار بيت مال المسلمين يسمى فيئاً؛ لأنه يعتبر مصرفاً من مصارف الفيء، كما قال الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] وقال في الآية التي قبلها: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]. وإذا كان الفيء بيت مال المسلمين، فإن لبيت مال المسلمين الحرمة أعظم من أي مال من أموال الناس؛ لأن مال واحد من الناس يخص ذلك الواحد، ولربما يعفو عن حقه في يوم من الأيام، لكن بالنسبة لبيت مال المسلمين فإنه يتعلق به كل واحد من هؤلاء المسلمين الذين لهم حق ولهم صلة في هذا المال، فالتعدي على بيت مال المسلمين يعتبر من أكبر المعاصي التي تسبب سخط الله عز وجل أياً كان هذا التعدي، ولذلك فإن اتخاذ الفيء دولاً والتلاعب به بحيث يصبح دولة بين الأغنياء من الناس يعتبر سبباً من أسباب البلاء والفتنة.

الآثار المترتبة على جعل الأمانة مغنما

الآثار المترتبة على جعل الأمانة مغنماً قوله: (والأمانة مغنماً) الأمانة هي ما استودعه الإنسان مما يجب حفظه من أموال المسلمين، والأمانة وإن كانت في معناها الاصطلاحي الشرعي أعم من ذلك لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] وهي مسئولية التكليف أياً كانت هذه الأمانة، لكنها قد تطلق على المال المودع عند بعض الناس ليحفظه وليتحمل مسئوليته أمام الله عز وجل، فإذا اتخذت الأمانة مغنماً بحيث يصبح هذا الأمين الذي يأتمنه الناس على شيء من أموالهم يعتبرها فرصة ويعتبرها غنيمة ليتلاعب بهذا المال فذلك بلاء عظيم. والأمانة هي أول ما نفقد من ديننا، كما جاء في الحديث: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة) إذا وجد ذلك كان ذلك إيذاناً بعقوبة من الله عز وجل، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فالأمانة مسئولية عظيمة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها، وتحملها هذا الإنسان وسوف يسأل عنها، ومن هذه الأمانة أموال المسلمين التي يؤتمن عليها هذا الإنسان، فيتحمل مسئوليتها أمام الله عز وجل.

الآثار المترتبة على جعل الزكاة مغرما

الآثار المترتبة على جعل الزكاة مغرماً قوله: (والزكاة مغرماً) الزكاة في اللغة: النماء والطهارة. وفي الشرع: هي جزء من المال فرضه الله عز وجل في أموال الأغنياء يقدمونه للفقراء قربة لله عز وجل، وهذه الزكاة أمرها عظيم، والدليل على عظم أمرها أن الله تعالى قرنها بالشرك حيث قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] وقد قرنها أيضاً بالصلاة في مواضع كثيرة، فيندر أن تمر بنا آية من آيات الصلاة إلا وتذكر الزكاة بعدها، كما أنها طهارة للمزكي وللمال وللمجتمع، فالمجتمع الذي تؤدى زكاته مجتمع طاهر نظيف، لا توجد فيه اللصوصية ولا الخيانات ولا السطو ولا السرقة؛ لأن هذه الظواهر السلبية غالباً ما توجد في المجتمعات المحتاجة المضطرة. ولذلك لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أرسل يحيى بن سعيد إلى أفريقيا ليجبي الزكاة، فجمع أموالاً عظيمة من الزكاة، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: إن الإسلام قد أغنى الناس ولم نجد أحداً يأخذ الزكاة. فكتب جواباً قال فيه: اشتر بها رقاباً وأعتقهم في سبيل الله. ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية في عصور الإسلام الأولى خلال أربعمائة سنة: إنه لم تقطع فيها إلا أربع أيدي فقط، على اتساع العالم الإسلامي الذي يمتد من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً. ما السر في ذلك؟ السر في ذلك هو أن الإسلام رفع مستوى الناس، سواءٌ أكان من الناحية الاقتصادية، أم من الناحية الثقافية والعلمية، أم مما أشبه ذلك، وعرفهم بالله عز وجل حق المعرفة، ولذلك فإن الزكاة تعتبر زكاة حقيقية؛ لأنها تطهر المجتمع من التحاسد والتباغض والتنافر وغيرها من الأمراض، كما تطهر الفرد من الشح، وتزكي المال وتزيده وتنميه. أما إذا أصبحت الزكاة مغرماً وخسارة، بحيث إذا طولب هذا الإنسان بهذه الزكاة كأنه يطالب بأن يحمل جبلاً على ظهره، وصارت ثقيلة على النفوس، فمثل هؤلاء الناس حببت إليهم الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة. ولربما يزيد هذا المال عند هؤلاء فتعجز الأرقام عن حصره أو تكاد، وتعجز البنوك عن استيعابه أو تقارب، ثم إذا بأحدهم يحسب هذا المال العظيم ثم يحسب زكاته العظيمة بمقدار عظمة هذا المال، ثم يغلبه الشح والنفس الأمارة بالسوء، فتصبح هذه الزكاة كأنها غرامة عليه، فيؤديها بثقل وتبرم، ولربما يمنعها فلا يعطيها مستحقها فتزل به القدم، كما فعل الله عز وجل بذلك المنافق الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال: قليل تؤدي شكره خير لك من كثير لا تطيقه. ثم يأتي مرة أخرى ويقول: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. فيقول: يا فلان! أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفس محمد بيده لو أردت أن تسير معي جبال الدنيا ذهباً لسارت. فيأتي في الثالثة ويقول: يا رسول الله! والله لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم! ارزقه مالاً. قال: فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى بها، فكان لا يشهد جمعة ولا جماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين يأخذان الصدقة من هذا المنافق فقال: والله ما هذه إلا جزية) فأنزل الله عز وجل في هذا المنافق وأمثاله قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] وكلما جاءت كلمة (منهم) في سورة التوبة فالمراد بها المنافقون؛ لأن الله تعالى لم يكشفهم بأسمائهم وإنما أتى في شأنهم بضمير الغائب (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:76 - 77]. واليوم نخاف على كثير من أرباب الأموال الكثيرة؛ لأنهم حينما يحسبون هذه الأموال والممتلكات ثم ينظرون إلى ربع عشرها فيرونه مالاً عظيماً يضنون بالزكاة ويتخذونها مغرماً، ولذلك من العجيب في مثل هذا الوقت الذي فاض فيه المال أنه يوجد في قارة أفريقيا مائتان وخمسون مليوناً من الناس يهددهم الموت بالمجاعة، وأنا رأيت بعيني أناساً يتساقطون على الأرض من الجوع في بلاد ليس بيننا وبينها إلا هذا البحر، ونحن عندنا -والحمد لله- من الأموال ما نعرفه جميعاً. ولو أننا اقتصدنا في بذخنا وموائدنا شيئاً قليلاً لأغنينا إخواننا المسلمين الذين تسلط عليهم الكفرة بتنصيرهم وتكفيرهم وتهويدهم بسبب لقمة العيش، خبزة يرسم عليها الصليب ولا يأكلها هذا الإنسان الجائع الفقير إلا بعد أن يرى الصليب بعينيه. أكثر من عشرة ملايين من المسلمين تنصروا في أندونيسيا بسبب عدم اهتمام المسلمين بهؤلاء المسلمين في أندونيسيا وغيرها، لقد تنصر كثير من المسلمين في أندونيسيا، وفي أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا وفي مناطق كثيرة، ولو أن المسلمين أدوا زكاة أموالهم بهذه النسبة اليسيرة لأغنوا أولئك الفقراء عن أعدائهم الذين لا يقدمون لهم لقمة العيش إلا بثمن، وهذا الثمن أن يتنازل كثير منهم عن عقيدته ودينه. أيها الأخ الكريم! دعت الكنيسة إلى التبرع فجمعت مليار دولار في يوم واحد، واليوم تقوم جمعيات كبيرة متناثرة في العالم الإسلامي لتجمع شيئاً من المال في أيام فلا تحصل على معشار هذا المبلغ الذي جمع في يوم واحد على يد الكنيسة، وتصور هذا المليار كم ينصر؟ ولماذا اختاروا ملياراً بالذات؟ لأن عدد المسلمين مليار مسلم، فقال بعضهم لبعض: نجمع مليار دولار لننصِّر بها ملياراً من المسلمين. أي: كل المسلمين. ولذلك كان من تخطيطهم أن تصبح قارة أفريقيا كلها نصرانية خلال عشر سنوات، ولكن الله من ورائهم محيط، قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]. إضافة إلى أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأمر واجب مطلوب، فهي أيضاً ضمان لهؤلاء المسلمين من أن ينحرفوا عن دينهم، ومن حكمة الله عز وجل أن تسقط الشيوعية، وكنا ننتظر ذلك منذ أمد؛ لأنها قالت: إنها سوف تضع على هذه الأرض جنة أحسن من الجنة التي يعد الله الناس بها في الآخرة. مع أنهم لا يؤمنون بالله ولا بالجنة ولا بالآخرة، ثم إذا بها تتساقط تحت أقدام المسلمين والحمد لله. إذاً ليس هناك إلا الإسلام الذي سوف يسد الحاجة ويرد الحق إلى نصابه، ويعتبر سقوط الشيوعية من الأمور المتوقعة؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17]. وبقي أولئك الذين يقدمون الدرهم والدينار لحرف أبناء المسلمين عن دينهم، فما على هذه الأمة إلا أن تجتهد في الدعوة، وأن تقدم هذا المال في سبيل الله، حتى لا تكون الزكاة مغرماً، أما إذا أصبحت الزكاة مغرماً -أي: ثقيلة على النفوس وغرامة شديدة حينئذ- فلربما يبخل الإنسان بالزكاة فيغضب الله عز وجل فينقطع المطر فيهلك الحرث والنسل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). فالزكاة أمرها عظيم، ليست فقط ركناً من أركان الإسلام، لكنها إضافة إلى ذلك هي ضمان للفقراء، وحماية لهذا الدين، وضمان وحماية لبقاء الأمة الإسلامية على الأرض، بحيث يشعر هؤلاء الفقراء بحقهم، ولو تعدت هذه الزكاة الحدود السياسية فذهبت إلى أفريقيا، وذهبت إلى جنوب شرق آسيا حسب هذه الحاجة. والحمد لله على أنه في بلادنا أصبح الفقراء فيها يضاهون الأغنياء. ولقد رأيت قصر رئيس جمهورية دولة يزيد سكانها على مائة مليون يوجد من فقرائنا هنا من يملك قصراً أكبر من قصر ذلك الرئيس، وفيه من الأثاث أعظم من أثاث قصر ذلك الرئيس. ارتفع -والحمد لله- هنا مستوى المعيشة، وأصبح الفقراء ملوكاً في أيامنا الحاضرة، ولكن لا ننسى إخواناً لنا تربطنا بهم رابطة العقيدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

ظاهرة تعلم العلم لغير الدين وما يترتب على ذلك

ظاهرة تعلم العلم لغير الدين وما يترتب على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعلم لغير الدين) من أسباب العذاب أن يطلب العلم لغير الدين. وهذه معجزة عجيبة، فما كان في العصور الأولى أحد يفكر أن يفهم معنى: (وتعلم لغير الدين)؛ لأنهم كانوا لا يطلبونه إلا للدين ورضا الله عز وجل ولمعرفة الله ولعبادة الله، ثم حدث حدث خطير فتعلم لغير الدين، وأصبحت هناك منافسة على الشهادات وحب البروز والظهور، والتنافس على الوظائف والمراكز، وأصبح كثير منهم يتعلم حتى علم الشرع لغير الدين، وإذا قيل له: لماذا؟ قال: أريد أن أؤمن مستقبلي وأؤمن حياتي. ويقصد بحياته ومستقبله الحياة الدنيا. السعي للحياة الدنيا أمر مطلوب، أما أن يتخذ طلب العلم الشرعي الذي به يعرف الله ويعبد الله عز وجل لهدف من أهداف الدنيا فيعتبر ذلك بداية النهاية، وأعرف رجالاً كثيرين درسوا في كليات الشريعة ودرجوا في هذه الحياة منذ عشرات السنين، وكنا نظن أنهم سوف يغيرون وجه التاريخ حينما يكونون رجال علم وأصحاب مناصب إلى غير ذلك، وسيعيدون الإصلاح للأمة، وإذا بهم يقفون عند حد الوظيفة، ثم لا يفكر أحدهم إلا في ترقية، أو في مرتبة، أو في سمعة، أو في شرف، وذلك أخطر ما يكون على هذا الإنسان، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لِدِينِه). أيها الأخ الكريم! إذا تعلم لغير الدين، وإذا ذاب علماء المسلمين في المجتمع، وإذا أصبح الناس يتنافسون في الشهادات، وإذا أصبح طالب العلم يطلب العلم ليباري العلماء أو ليماري السفهاء فإن الأمر خطير. أخي! إذا عرفت شريعة الله عز وجل من خلال جامعة أو كلية أو مدرسة فإن عليك أن تبلغ ما عرفته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) (رب مبلغ أوعى من سامع)، أما أن ينتهي الأمر بهذا الإنسان الذي أمضى سنوات طوالاً من عمره في العلم إلى أن يذوب في المجتمع فلا نرى له أثراً، ولربما لا تمضي عليه إلا مدة وجيزة حتى ينسى كل ما تعلمه من شرع الله عز وجل؛ لأنه لم يتحرك بهذا العلم، وكذلك تراه يشاهد الأمم وهي تتهاوى في الحضيض بسبب الجهل والمعاصي، ثم لا نسمع له صوتاً يقول فيه كلمة الحق، بالرغم من أنه خريج كلية الشريعة، أو أصول الدين، أو نال شهادة الماجستير في هذا المستوى، أو ما فوق ذلك من الدكتوراه أو غيرها من الشهادات العملاقة التي يتسابق ويتنافس عليها الناس، ثم حين تعلم لغير هذا الدين أصبحت بركة هذا العلم مسلوبة، وأصبح هذا العلم لم ينتفع به حتى صاحبه، أو لربما انتفع به بمفرده بحيث لا يستفيد منه هؤلاء الناس، وهذا العلم سيكون حجة على هذا الإنسان يوم القيامة. إذا تعلم لغير الدين فإن ذلك يعتبر بادرة من بوادر العذاب من الله عز وجل. فلا تعجب -أيها الأخ- وأنت ترى هذه الجامعات الإسلامية في العالم وهي لا تحصى في عددها، وتنتج سنوياً الأعداد الهائلة من هؤلاء الشباب المثقفين ثقافة إسلامية، والمتعلمين علماً شرعياً، ثم لا نرى من يعتلي هذه المنابر ليقول كلمة الحق لهؤلاء الناس إلا الندرة القليلة مما جعلهم محط أنظار الناس، فأصبحوا معرضين لأشياء كثيرة. نحن نطالب جميع العلماء ونطالب الذين عرفوا شرع الله عز وجل أن يبلغوا هذا الدين تبليغاً كاملاً، أما إذا كان هدفهم فقط هو الدنيا فإن أول من تسعر به النار يوم القيامة ثلاثة، رجل قرأ القرآن وحفظه وعلمه غيره، لكنه لغير الله، فهذا يوقفه الله عز وجل بين يديه يوم القيامة فيسأله، ثم يأمر به فيسحب إلى النار نعوذ بالله من ذلك. إذاً لا بد من إخلاص النية لله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].

الآثار المترتبة على طاعة الرجل لزوجته مقابل عقوق أمه

الآثار المترتبة على طاعة الرجل لزوجته مقابل عقوق أمه قوله: (وأطاع الرجل زوجته وعق أمه) هل يوجد في المسلمين من يفعل مثل هذا؟! هذه الأم التي حملتك داخل جوفها وهناً على وهن، ثم وضعتك وهناً على وهن، ثم أرضعتك مدة من الزمن، ثم إذا بها تسهر ليلها مع نهارها من أجل راحتك ومصلحتك، ثم بعد هذا كله تقدم عليها الزوجة! حينما يقع مثل ذلك فهذه بداية العقوبة، وحينما نقول ذلك لا نتغافل عن حق الزوجة، فللزوجة حق كما أن للوالدين حقاً، إلا أن حق الزوجة لا يطغى على حق الوالدين، فالله عز وجل يقرن حق الوالدين بحقه مباشرة، فيقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].

تحذير الأبناء من إبعاد الآباء وإدناء الأصدقاء

تحذير الأبناء من إبعاد الآباء وإدناء الأصدقاء قوله: (وأدنى صديقه وأقصى أباه) عجيب أن يحدث مثل هذا! كم من هؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا بعد قدر الأبوة وفضلها، والذين لم يصيروا بعد آباءً لأنهم مازالوا أبناءً، والذين لا يعترفون بهذا الحق لذويه! ومن يقدم صديقه على أبيه؟! ولذلك تجد أن طائفة من هؤلاء الشباب الذين ابتلوا بهذه الفتنة يندر أن تجده مع أبيه، وإنما دائماً وأبداً مع صديقه، ولربما يكون ذلك الصديق منحرفاً، وهذه تعتبر بلية كبرى، الأب المربي العطوف صاحب النعمة قبل الحمل وبعد الحمل، وقبل الولادة وبعد الولادة هل نقدم عليه الصديق؟! الصديق له حق، ولكنه لا يأتي إلا بعد درجة بعيدة من حقوق الوالدين، أما أن يدني صديقه ويجفو أباه ليصبح الصديق في نظره أعظم وأعلى درجة من ذلك الأب فهذه تعتبر من بداية العقوبة ومن البلايا والفتن. وبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبر الوالدين دين وقرض يقدمه ذلك الولد ليجني ثماره حينما يكون أباً، إن حسناً فحسناً وإن قبيحاً فقبيحاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (بروا بآبائكم تبركم أبناؤكم) ولذلك نشاهد ذلك في الواقع، فالأبناء البررة الذين أدوا حقوق الوالدين يمن الله عليهم بأولاد بررة صالحين يؤدون حقهم. ولذلك فإني أقول: لا بد أن نرعى هذا الحق من حقوق الله عز وجل وهو بر الوالدين وصلة الرحم، فالله تعالى يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] ونقرأ في الحديث قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم طريق الخروج من باب الغار ولم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله عز وجل بصالح أعمالهم، لم يتوسلوا بالمخلوق؛ لأن التوسل بالمخلوق شرعاً لا يجوز، والتوسل بالأعمال الصالحة جائز ومطلوب، فهذا أحدهم يقول: (إنه كان لي والدان، وإنه نأى بي المرعى ذات يوم فجئت بغبوقهما فوجدتهما نائمين، فأمسكت بالقدح الذي فيه اللبن ووقفت على رأسيهما طوال الليل ولم أغبق قبلهما أهلي ولم أوقظهما حتى استيقظا قرب الفجر فناولتهما اللبن فشربا، اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة قليلاً. فكما أن الأعمال الصالحة تنجي الإنسان من عذاب الله عز وجل يوم القيامة فهي تخلص الناس من مخاوف الحياة الدنيا ومخاطرها، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] وكم من الناس من وقع في مشكلة فخلصه الله عز وجل بسبب طاعة، أما إذا أدنى الرجل صديقه وجفا أباه فإن ذلك يكون سبباً من أسباب العقوبة، نعوذ بالله.

التحذير من اتخاذ المساجد لغير ما أعدت له

التحذير من اتخاذ المساجد لغير ما أعدت له قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وظهرت الأصوات في المساجد) المساجد بيوت الله يجب أن تعظم وأن تحترم، فلا يجوز أن يكون فيها شيء غير ذكر الله وما قرب إليه، أما أن تصبح المساجد سوقاً للبيع والشراء والمزاد، وما أشبه ذلك من أحاديث الناس التي لا تقربهم من الله عز وجل، أو تكون ميداناً للغو واللعب والسباب والنزاع والخصام والشجار، أو تكون مرتعاً للجهال والعابثين فإن ذلك يعتبر ظهوراً للأصوات في المساجد، وظهور الأصوات في المساجد يعتبر سبباً من أسباب عقوبة الله عز وجل.

الآثار المترتبة على انتشار الخمور وشربها

الآثار المترتبة على انتشار الخمور وشربها يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات والعلامات: (وشربت الخمور) فمن هذه الخصال الخمس عشرة شرب الخمور، والخمر ما خامر العقل وغطاه، والإنسان مطالب أن يواجه هذه الحياة مواجهة حقيقية بعقله، ومن أجل ذلك منح الله عز وجل هذا الإنسان العقل، ولذلك نجد أن العقل محترم، والخطاب دائماً يتوجه إلى العقل، يقول عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] ويقول سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة:269] وأولو الألباب هم أصحاب العقول. من هنا كان العقل هو مناط التفكير، وكان الإنسان أفضل مخلوقات الله عز وجل على الإطلاق بهذا العقل، فقد فضل الله بني آدم وكرمهم وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً. لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان أي: لولا العقل لكان الأسد أفضل من الإنسان؛ لأن الأسد أقوى من الإنسان. والفيل أكبر جسداً من الإنسان، لكن تجد هذا الإنسان بعقله يسيطر على هذه المخلوقات كلها بإرادة الله عز وجل، ولولا وجود العقل لما شرع التكليف، فالعقل هو مناط التكليف، وبهذا العقل يحاسب الإنسان وحده يوم القيامة دون هذه البهائم التي أصبحت في خدمة الإنسان. ثم يأتي إنسان ليتعدى على هذا العقل بما حرم الله، وقد حرم الله عز وجل الخمر وكل ما خامر العقل وغطاه، والخمر من أكبر البلايا التي حلت بهذه الأمة، ولذلك تجد أن هذه الخمرة الخبيثة عالج القرآن أمرها علاجاً طويلاً، وتدرج في تحريمها تدرجاً مكيناً، حتى يقتلعها من قلوب الناس، وكان هذا التدرج في التحريم على أربع مراحل: الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] هذه إشارة. ثم جاءت المرحلة الثانية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]. ثم جاءت المرحلة الثالثة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. فحرمت الخمر في بعض المواقع وفي بعض الأوقات ليكون تمهيداً للحكم النهائي الكريم، وهي المرحلة الرابعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] فقالوا: (انتهينا انتهينا) ولما نزلت الآية الأخيرة كانت كئوس الخمر عند شفاه بعض هؤلاء الناس فأراقوها اتباعاً وخضوعاً واستسلاماً لأمر الله عز وجل، وكان بعضهم قد شرب الخمر فأدخل أصبعه في فاه ليستقيء ما شربه، بل زيادة على ذلك سألوا عن مصير الذين ماتوا وفي أجوافهم شيء من الخمر قبل أن تحرم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] يعني: قبل التحريم {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]. أيها الأخ الكريم! هكذا تستجيب النفوس المؤمنة لأوامر الله فوراً، فلا تقدم على أمر الله عز وجل أي شهوة أو رغبة أو هوى، ثم يدور الفلك دورته ويعيد الزمان سيرته، وتخلف خلوف ينتشر فيها الخمر في أيامنا الحاضرة، ومن العجيب أن المروجين لها يحببونها إلى الناس ويسمونها مشروبات روحية. فما معنى روحية؟ أي أنها تطرب الروح وتؤنسها. ولذلك يقولون في بعض الأحيان: ممنوع تناول المشروبات الروحية. قاتلها الله وقاتل من سماها مشروبات روحية، كيف تكون روحية؟! هي ضد الروح، وضد الخلق، وضد العقل، لكنها سميت مشروبات روحية كما سمي الغناء في أيامنا الحاضرة فناً، وكما سمي الربا اقتصاداً، وكما سمي النفاق مجاملة، وكما سمي الكذب دبلوماسية، وهكذا، أصبحت المحرمات تغير أسماؤها مع بقاء حقائقها؛ لأجل تلطيفها وتحبيبها إلى النفوس الخبيثة. فليس الغناء فناً، وليس الربا اقتصاداً، وليست الخمر مشروبات روحية، لكن لا تعجب، فنحن اليوم نعيش فترة من آخر فترات التاريخ في حياة البشرية، فقد تنتشر فيها الخمر، ولربما توضع في ثلاجات البيوت، تراها النساء ويراها الأطفال، ليشب الطفل وهو يشك في تحريمها أو يعتبرها من أطيب الطيبات. لا تعجب وأنت تسير في أرض الله الواسعة في جل العالم الإسلامي فترى اللافتات واللوحات تقول: هذا ضار. أو ما أشبه ذلك، لا تعجب حينما ترى الخمر توزع على الركاب مجاناً على متن الهواء في كل طيران العالم إلا في طيران بلادنا -والحمد لله- أسأل الله أن يحفظها. المشركون الأولون كانوا إذا ركبوا على سطح الماء دعوا الله مخلصين له الدين، أما هؤلاء فلا أظن إلا أن الإيمان بالله عز وجل قد فقد من قلوبهم، أو من قلوب كثير منهم، فيعصون الله على متن الهواء بين السماء والأرض، على بعد آلاف الأمتار من الأرض، فتشرب الخمور وتعرض المضيفة التي ليس لها شرط إلا أن تكون جميلة وقادرة على فتنة الناس، تسرح شعرها، وتلبس الملابس القصيرة إلى ما فوق الركبة، وتختلط بالركاب في الطائرات، وتوزع البسمات على الناس، ولربما لا يحصل ذلك إلا لركاب الدرجة الأولى الذين يدفعون أجرة أكثر، أما الدرجة السياحية فإنهم لا يستحقون مثل هذا، إلى غير ذلك. أيها الأخ! إذا شربت الخمور بجميع أنواعها فقد آذن هذا العالم بخراب، صحيح أن المخدرات تجد مكافحة اليوم، وتستحق أن تكون لها مكافحة، حتى الأمم الكافرة والدول الكافرة تعاقب على تناول المخدرات، وهذا يجب أن يكون؛ لأنها تفسد الأمم والشعوب، وتجمد العقول، لكن يجب أن يجد الخمر مثل هذا المكافحة ومثل هذه المحاربة؛ لأن الخمر هي الأصل والمخدرات تقاس عليها قياساً، هذا هو الواقع. وأقول لإخواني المسلمين: حاربوا الخمور واكشفوا مواقعها، وتعاونوا مع الدولة والمسئولين؛ لأنها ما انتشرت في أمة من الأمم إلا وسقطت من عين الله عز وجل، ولأن انتشار الخمور في بلاد المسلمين يؤدي إلى انهيارها وتدهورها ودمارها، نسأل الله العافية والسلامة.

الآثار المترتبة على اتخاذ المغنيات وآلات اللهو وحكم اتخاذها

الآثار المترتبة على اتخاذ المغنيات وآلات اللهو وحكم اتخاذها قوله: (واتخذت القينات والمعازف) القينات: المغنيات الراقصات. سواءٌ أكن يرقصن أمام الناس مباشرة، أم يرقصن في أفلام مصورة يعرضن فيها مفاتنهن وجمالهن في هذه الحياة. والمعازف: هي آلات اللهو والغناء. إذا انتشرت هذه وتلك فهي بداية العقوبة، وهي علامة من علامات غضب الله عز وجل، ويخشى أن تأتي بعدها المصائب التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري. والحر: الفرج، والمراد بالحر الزنا، والزنا الآن مستحل في جل بلاد العالم الإسلامي، وله أماكن معروفة، وأخوف ما أخاف أن كثيراً من شبابنا يرتادونها؛ لأننا نراهم حينما تكون هناك العطل والمناسبات يشدون الرحال إلى تلك البلاد بطريقة جنونية. وكذلك الحرير، وهو من المحرمات على الرجال، والخمر، فهذه الثلاثة أجمع علماء المسلمين على تحريمها. وكذلك المعازف، والمراد بالمعازف الموسيقى. والعلماء يقولون: إن دلالة الاقتران تدل على التحريم، فإذا عطف شيء على شيء أخذ حكمه، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحر والحرير والخمر)، ثم قال: (والمعازف) ودلالة الاقتران عند جمهور علماء المسلمين دلالة قوية. وعلى كل لا أظن أن أحداً يخالف إلا من شذ في تحريم المعازف والموسيقى، لكن تعال معي -يا أخي! - لنرى أن الموسيقى اليوم في بيوت المسلمين وفي أسواق المسلمين وفي سياراتهم وفي دكاكينهم حتى في هواتفهم، الموسيقى التي أصبحت الآن في الإذاعة وفي التلفاز وفي المسجلات وفي أشياء كثيرة، أصبحت الآن وسيلة تسلية، عندما تطلب من إنسان أن يعطيك فرصة دقيقة أو أقل من دقيقة ليحولك على رقم آخر فإنك تسمع الموسيقى؛ لأنهم يعتبرون الموسيقى وسيلة تمتيع لهذه النفوس، وهكذا النفوس حينما تنحرف عن الجادة المستقيمة تتمتع بما حرم الله عز وجل. أضف إلى ذلك القينات والمغنيات اللاتي تتبرم إحداهن وتتمايل وتولول الليل كله، بحيث تنحرف معها النفس الضعيفة، هذا شيء منتشر ولا يحتاج إلى دليل ولا أحد يكذب به، ولو عملنا إحصائية في جل بيوت المسلمين لوجدناها مملوءة بهذه الأشياء مع الأسف، والذي لا يملك التلفاز عنده الإذاعات تغني، أو أشرطة قينات ومعازف، لكن ما هو الحل؟! وكيف المخرج؟ إن الأمر خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هؤلاء الأقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وقال هنا في هذا الحديث: (وانتشرت القينات والمعازف). والله تعالى حرم الغناء -كما يقول العلماء- في ثلاث آيات من القرآن الأولى: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] والسمود معناه: الغناء واللهو. كما يقول علماء اللغة. الثانية: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] ويقسم عبد الله بن مسعود بالله تعالى على أن هذه الآية في الغناء، وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالثة: قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء:64] يقول العلماء: إنها في الغناء. أما بالنسبة للأحاديث فهي كثيرة في تحريم الغناء وآلات الموسيقى واللهو. أما الواقع فإنه لا يبرر حل هذه الأشياء، فنحن نأسف كثيراً أن تكون بيوت المسلمين التي كانت إلى عهد قريب لا تسمع لها إلا دوياً كدوي النحل في جوف الليل الآخر، وبكاء من خشية الله عز وجل، وتلاوة للقرآن، أما اليوم فبيوت المسلمين إلا ما شاء الله حتى بيوت كثير من العلماء والصالحين قد ابتليت بفتنة الغناء والموسيقى، فأصبحت لا تسمع إلا رنين الموسيقى، ولربما تسمع الرقص والغناء في الأشرطة وجميع الوسائل الأخرى. أما الفيديو فهو الذي جاء يعرض الجنس الآن، حتى على متن الهواء تعرض أفلام الجنس، فهؤلاء ألا يتقون الله عز وجل؟! ألا يكونون -على الأقل- مثل المشركين الذين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين؟! ألا يتركون هذه الأشياء ولو في الساعات الحرجة الخطيرة التي لربما تتحطم فيها الطائرة في لحظة واحدة فتكون نكبة على مئات البشر؟! إن هذا يدل على الضعف من خشية الله عز وجل في نفوس كثير من الناس. لقد اتخذت القينات وأصبحت الأفلام والفيديو والأجهزة الأخرى التي نعلمها تشترى بالأموال الطائلة، هذا أمر خطير، فما على هؤلاء الناس إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل. يا أخي! عندك في بيتك نساء، والنساء يتأثرن سريعاً بهذه الأفلام والموسيقى والرقص والغناء، فاتق الله في النساء، وفي بيتك أطفال، أترضى أن تنشأ هذه الناشئة من الأطفال وهي تحفظ من الأغاني أكثر مما تحفظ من كتاب الله؟ أنت مسئول عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، أترضى أن يكون أول ما تنفتح له آذان هؤلاء الأطفال آلات اللهو والرقص والغناء والموسيقى، وتنفتح أعينهم على المومسات والفاسقات والراقصات والمغنيات والممثلات في مسرحيات وتمثيليات فاضحة كلها عشق وغرام واختلاط ودعوة إلى الإباحية؟! اتق الله -يا أخي- في هذه الأمانة، فأهلك أمانة ائتمنك الله عليهم فلا تفرط فيهم؛ فإن الله عز وجل يقول لك ولي وللناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. أتستطيع أن تتحمل هذه النار التي وقودها الناس والحجارة؟ إنها نار أوقد عليها ثلاثة آلاف عام حتى أصبحت سوداء مظلمة تذوب الحجارة من حرها، فكيف بجسد هذا الإنسان؟! اتق الله -يا أخي- في هذه الأمانة، وحارب هذه المنكرات وطهر بيتك منها، وأنت مسئول عن رعيتك داخل البيت؛ لأنك إن عجزت أن تصلح أوضاع الناس في خارج هذا البيت فليس لك عذر بين يدي الله عز وجل يوم القيامة إن أهملت بيتك ولم تصلحه، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]. إن وجود هذه المنكرات في بيوت المسلمين أمر خطير أياً كان منشؤها، أنت مسئول وحدك يوم القيامة، وتموت وحدك، وتدفن وحدك، ويأتيك الملكان في قبرك وحدك، وتبعث يوم القيامة وحيداً، وتوزن أعمالك وحدك، إذاً أنت عليك أن تخلص نفسك. ويحك يا أخي! بادر إلى التوبة، وطهر هذا البيت من القينات والمعازف، فإن وجود هذه الأشياء في بيت من بيوت المسلمين يسبب غضب الله عز وجل، إضافة إلى ما يلاقيه أولادك وأهلك وذووك من فتنة ينشأ عليها الصغير ويشب عليها الشاب ويهرم عليها الشيخ، ولربما يأتي ذلك اليوم الذي لا تنكر النفس هذه الأشياء، وأظن أنه قد وجد اليوم من لا ينكر هذه الأشياء، والله عز وجل ذكر أسباب ومراحل المعصية فقال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:113] وهذه هي المرحلة الأولى، ثم قال: {وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] وهذه هي المرحلة الثانية، ثم قال: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] حينئذ يقل الحياء، فإذا قل الحياء وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).

العقوبات المترتبة على ظهور الزنا والصلة بينه وبين اتخاذ المغنيات والمعازف

العقوبات المترتبة على ظهور الزنا والصلة بينه وبين اتخاذ المغنيات والمعازف أخي في الله! من علامات العقوبة ومن أسباب العقوبة إذا اتخذت القينات والمعازف ظهور الزنا، إذاً الصلة بين اتخاذ القينات والمعازف وبين ظهور الزنا واضحة، فإن النظرة الحرام يعقبها الفعل الحرام، والسماع الحرام يعقبه الفعل الحرام، ولذلك الله عز وجل ذكر الزنا في سورة النور ثم قال بعده بآيات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وقال بعد ذلك: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فقد نهيت المرأة أن تحرك رجلها لتضرب الأرض بشدة، حتى لا يسمع صوت الخلخال رجل فيفتن بهذه المرأة التي سمع في رجلها صوت الخلخال، فكيف بالمرأة التي ترقص وتغني وتتمايل وتهتز بثياب عارية؟! إن النتيجة خطيرة، ولذلك دعا الله عز وجل في آخر الآيات التي تأمر بغض البصر إلى التوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. إن ظهور الزنا نتيجة حتمية من نتائج انتشار القينات والمعازف، وإن الفتن يجر بعضها بعضاً، يقول الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فالشرارة الصغيرة تحدث حريقاً يلتهم مدينة بأكملها، والنظرة الصغيرة تلتهم الأخلاق والفضائل، وتحط هذا الإنسان من عين الله عز وجل، فعلينا أن نبادر بالتوبة حتى لا يظهر الزنا، وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظر إلى من سبقنا إلى هذه الأشياء بمدة وجيزة من الزمن، حين انتشرت القينات والمعازف وفسد الإعلام، ماذا كانت النتيجة؟ لقد انحرفت المرأة، وفتحت دور الدعارة أبوابها علناً في وضح النهار، وانتشر زواج الذكر بالذكر باسم القانون الذي تحميه تلك الدول التي سبقت إلى الفساد والمعصية، وأصبحت قوانين تلك الدول تتردى، فكلما هبط هذا الإنسان درجة واحدة عن إنسانيته هبط القانون أكثر مما يهبط هذا الإنسان. أيها الأخ الكريم! علينا أن نخشى الله عز وجل، فنحن نعيش في نعمة وفي رخاء وفي رغد من العيش وفي أمن وطمأنينة، ويتخطف الناس من حولنا، ونحن نرفل بنعمة الله في ظل شريعة الله عز وجل، فلنحافظ عليها ولنتمسك بها؛ لأنه إذا ظهرت القينات والمعازف ظهر الزنا، وإذا ظهر الزنا انتشرت الأمراض والأوبئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم) والأوجاع التي لم تكن في أسلافنا والتي كانوا لا يعرفونها قد كثرت اليوم وانتشرت، ولم يستطع الطب الحديث علاجها، بالرغم مما يقدمه الطب الحديث من خدمات متوافرة، وهذه الأمراض تسابق الشمس على مطالعها، بسبب انتشار الزنا الذي هو من أقبح القبائح وأعظم المحرمات.

الآثار المترتبة على إكرام الرجل مخافة شره

الآثار المترتبة على إكرام الرجل مخافة شره يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (وأكرم الرجل مخافة شره). في واقعنا اليوم يكرم الرجل مخافة شره، هناك رجال كثيرون يكرمون مخافة شرورهم، يقول الشاعر: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد وهذا أعظم شيء على النفس، واليوم نجد أن كثيراً من الناس يحترمون لا حباً لهم في دينهم ولا في دنياهم، وهناك من لا خير فيه ولا صلاح ولا استقامة، ثم إذا بهؤلاء يحتفى بهم في المجالس وتصفق لهم الجماهير، وتفتح لهم الطرقات في جل العالم الإسلامي، والعجيب أن هؤلاء الذين يحترمون مخافة شرورهم، لم يسلم المسلمون بعد من شرورهم، فالطغيان قد انتفخ في أرضنا اليوم، وامتلأت السجون في جل العالم الإسلامي، وكان المفروض أن تكون تلك السجون سجوناً للجامحين والمنحرفين، فإذا بها تتحول معتقلات للأتقياء والصالحين والدعاة والمصلحين. يكرم الرجل مخافة شره؛ لأنه رجل طاغية مفسد ذو بطش وإفساد في الأرض، أو لأنه عين يتجسس وينقل أخبار المسلمين مقلوبة إلى ولاة الأمر وإلى أصحاب الحل والعقد، كأن يقول لهم: إن هذا يحرض. أو: إن ذاك يدعو إلى نزع يد الطاعة. وما علم أولئك الولاة أن هؤلاء الذين يعتلون المنابر -وأقسم على ذلك- أنهم أكثر إخلاصاً من هؤلاء الذين ينقلون الأخبار إليهم. وإذا كان أولئك الولاة مستقيمين على شرع الله ممتثلين أمره فهؤلاء الذين يعتلون المنابر يعلمون أن في أعناقهم لهم بيعة، وهذه البيعة يحرم عليهم نقضها بأي حال من الأحوال؛ لأنهم يعلمون أن الفتن لا تجر وراءها إلا فتناً أعظم منها، ومع ذلك كله فهناك كثير من هؤلاء الذين يتولون أمر المسلمين يفقدون الثقة بهؤلاء الدعاة والمصلحين، وفي المقابل فأصحاب المنابر والدعاة يفقد كثير منهم الثقة بالولاة، وما علموا أن دينهم يلزمهم بالطاعة ويحرم عليهم نزع يد الطاعة، إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله عز وجل برهان. وعلى هذا نقول: إذا حصل إكرام الرجل مخافة شره في المسلمين دل دلالة واضحة على انحراف عريض في الأمة الإسلامية وفي المجتمع الإسلامي، ودل دلالة واضحة على أن هذه الأمة ليست بخير، وأنها معرضة لعقوبة الله عز وجل، وإنما يجب أن يكرم الرجل لتقواه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير للصالحين والأتقياء، وبمقدار ما يزيد صلاح هذا الإنسان يجب أن يرتفع في أعين الناس أكثر فأكثر، وحينما ينحرف فيجب على المسلمين أن يسقطوه من حسابهم حتى يرجع إلى الجادة، أما أن يكرم الرجل مخافة شره وبمقدار ما يقدمه من أذية لهؤلاء الناس يكرمونه ويقدرونه فهذا -كما قلنا- يدل دلالة واضحة على أن هذه الأمة قد انحرفت عن خطها المستقيم.

من علامات نزول العذاب بالناس أن يسود القبيلة الفساق

من علامات نزول العذاب بالناس أن يسود القبيلة الفساق قوله: (وساد القبيلة فاسقهم) القبيلة يجب أن تكون لها قيادة، ويجب أن يكون العقلاء هم أصحاب الحل والعقد؛ لأنهم الذين يضبطون الأمور ويحلون المشاكل، ويحقون الحق ويبطلون الباطل، ولأنهم الذين يديرون دفة هذه القبيلة وهذه العشيرة، حينئذ لابد من أن تكون القيادة لهؤلاء الصالحين، لكن إذا كانت القيادة لغير الصالحين وساد القبيلة فاسقهم، وكان الفسقة هم أصحاب الحل والعقد في القبيلة وفي الأمة فحينئذ يصبح الأمر خطيراً؛ لأن الحياة سفينة، ولأن هذه السفينة تحتاج إلى قيادة حكيمة، وهذه القيادة هي التي تسير بهذه السفينة في خضم هذه الحياة إلى ساحل النجاة، فإذا كان ربان هذه السفينة منحرفاً ضالاً عاصياً فاسقاً فإن هذه السفينة ستصاب بعطل، أو ترسو في غير مكانها، وحينئذ تفسد الحياة ويتنغص العيش، ولربما تغرق السفينة، أما إذا ساد القبيلة صالحوها فذلك دليل على أن هذه القبيلة قد عرفت كيف تتعامل مع الله عز وجل، وكون زعيم القبيلة هو الأصلح والأتقى فذلك هو الأحق والأولى.

الآثار المترتبة على كون زعيم القوم أرذلهم وواجب المسلمين تجاه ذلك

الآثار المترتبة على كون زعيم القوم أرذلهم وواجب المسلمين تجاه ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وكان زعيم القوم أرذلهم). الزعيم هو صاحب السلطة أياً كانت هذه السلطة، سواءٌ أكانت سلطة كبرى أم دونها، والسلطة في العالم الإسلامي وفي الدولة الإسلامية يجب أن تكون للصالحين، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] فكان جواب الله تعالى له أن قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. إذاً يجب أن تكون السلطة في أيدي الصالحين؛ لأنهم الذين يطبقون شرع الله ويحكمون بما أنزل الله ولا يبغون به بدلاً؛ لأنهم يعلمون أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر مرتد، وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. وهذه السلطة تعتبر نيابة من الله عز وجل واستخلافاً لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض، فهو الخليفة الأول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وما زال الخلفاء الراشدون ومن بعدهم يتوارثون هذا الحكم حسب المصلحة، حتى وصل إلى واقعنا اليوم. يجب أن يكون أصحاب السلطة هم أقرب الناس إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] لكن حينما يكون زعيم القوم فاسقهم تأتي البلية، ولربما يكون منهم كفرة طغاة كما نشاهده اليوم في جل العالم الإسلامي، فهؤلاء الزعماء يحكّمون شريعة الطاغوت وقوانين البشر، ويحكُمون الناس بالظلم والاستبداد، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون. وانظر -يا أخي- لترى من الذي يتولى أمور المسلمين اليوم في جل العالم الإسلامي؟! من هؤلاء؟! وستجد الجواب واضحاً حين تنظر إلى أفعال هؤلاء الحكام، إننا نخشى نزول العذاب إلا أن يعفو الله عز وجل ويتجاوز ويصفح؛ لأنه إذا كان زعيم القوم أرذلهم فحينئذ يأتي البلاء وتأتي الفتنة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي قادتنا وولاة أمر المسلمين كافة إلى الطريق المستقيم وإلى الجادة، فنحن نشكر الله على تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بلادنا، ونرجو من الله عز وجل أكثر من ذلك، ونرجو أن يحارب الفساد في الأرض؛ فإن الله تعالى يقول لولاة المسلمين كافة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. ولا أزيد على ذلك في هذا الموضوع، وإنما نحن نبحث عن العافية، لكن ليعلم أنه إذا ساد القبيلة فاسقها فانتظر العقوبة، وإذا أردت الدليل على ذلك فليس هناك أدل من كلام الله وكلام رسوله، فانظر ماذا حدث في لبنان؟ وماذا يحدث في كل مكان من الأرض؟ أين الأندلس؟ وأين فلسطين؟ وأين أماكن كثيرة؟

الآثار المترتبة على لعن آخر هذه الأمة أولها

الآثار المترتبة على لعن آخر هذه الأمة أولها قوله: (ولعن آخر هذه الأمة أولها) ما هو الجزاء المترتب على ذلك، إنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء) هل يمكن لآخر هذه الأمة أن تلعن أولها وأولها هم الذين أخذوا هذا الدين من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم طرياً ونقلوه إلينا، ونقل عنهم حتى وصل إلينا في أيامنا الحاضرة وكأننا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه؟! هل يمكن لآخر هذه الأمة أن تلعن أولها وأولها هم الذين أقاموا دولة الإسلام السامقة التي رفرف علمها على جل المعمورة؟! نعم يوجد في آخر هذه الأمة في أيامنا الحاضرة من يلعن أولها، أول هذه الأمة وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يسلم منهم خيرة الصحابة، وهم أبو بكر وعمر. لقد أصبح كثير من آخر هذه الأمة في وقتنا يتجردون من كل قديم، فهؤلاء الحداثيون قد لوثوا وجه التاريخ في أيامنا الحاضرة، فهم يلعنون أول هذه الأمة، إن لم يلعنوهم بألسنتهم فإنهم يلعنونهم بأحوالهم وواقعهم، فهم يخرجون على كل قديم ويريدون كل جديد أياً كان هذا الجديد. نقول لهؤلاء: نحن نرحب بأي جديد إذا كان لا يتنافى مع المنهج الصحيح الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من عند ربه، ونرفض كل جديد يتنافى مع ما جاء به منهجنا الصحيح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها. هل من المعقول أن يقول أحد الحداثيين: منذ نزول سورة تبت ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم ونحن في تأخر؟! نعم. يقول ذلك. إذاً هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مجددين يلعنون أول هذه الأمة ويسبونها، ويعتبرون أنها نقطة تخلف، حتى قال قائلهم ذات يوم: إنك لا تتصور تطلعنا وتلهفنا إلى حياة إنسانية منظورة منذ ثلاثة آلاف عام. انظر إلى هذا الحد، حتى فترة التاريخ الإسلامي عند هذا وغيره يعتبرها في تخلف. وهذا داروين الملحد الملعون يقول: كان الإنسان قرداً فصار إنساناً، أو كان حشرة تعفنت على وجه الأرض فصارت إنساناً. فقول هذا القائل: نحن ما زلنا نتطلع إلى حياة إنسانية يعني: لم نصل بعد إلى ما قاله دارون الملحد الملعون. إنها مصيبة وبلية. إذاً إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، واعتبروا كل قديم متخلفاً، ورحبوا بكل جديد دون أن يعرضوه على الفكرة الصحيحة وعلى المنهج الصحيح فانتظر عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع. أيها الأخ الكريم! لا ننسى ولا نتغافل هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي أسأل الله عز وجل أن يحفظها وأن يبارك فيها، وأن يهدي المسئولين والقادة ليحيطوها بسياج منيع حتى تؤدي ثمارها، وبالرغم من وجود هذه الصحوة الإسلامية المباركة في هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ فإننا نرجو من الله عز وجل مزيداً من الخير والاستقامة؛ لأن الله قد وعدنا بإظهار هذا الدين فقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. أخي في الله! العقوبات متوقعة في مثل هذه الفترات من فترات التاريخ، ولولا رحمة الله عز وجل وكرمه ومنته وفضله وإحسانه لكانت هذه الأمة أثراً بعد عين، فهذا الربا قد أعلن عنه في وضح النهار أمام المسلمين، وأصبحنا بين كل فترة وأخرى نرى أرباع وأعشار متعلمين ممن يفتون بحل الربا، ويقولون: ليس هناك رباً إلا ربا الأضعاف المضاعفة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، ويقول: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]. ذنوب عظيمة أسأل الله عز وجل أن يرزقنا سرعة التوبة والإنابة منها. كما أسأل الله عز وجل أن يوفق القادة والمسئولين وأصحاب الحل والعقد في بلادنا الطيبة المباركة التي تهوي إليها أفئدة العالمين أجمعين، والتي يستقبلها العالم الإسلامي في كل يوم خمس مرات في أفضل وأعظم فريضة أسأل الله تعالى أن يوفقهم للضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بالأخلاق أو بالفضائل أو بالمعتقدات. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أخطار تهدد الأسرة المسلمة

أخطار تهدد الأسرة المسلمة إن المرأة جوهرة ودرة وكنز ثمين، وقد حفظها الإسلام وصانها ووضع سياجاً منيعاً من أجل الحفاظ عليها، فأمرها بالقرار في بيتها، وشرع لها الحجاب، ومنعها من الاختلاط بالرجال، إلا أن أعداء الله من الكفرة المجرمين، والمنافقين الشهوانيين ما فتئوا يكيدون ليلاً ونهاراً للوصول إلى هذه الدرة؛ كي يشوهوا جمالها وبهاءها، ويلبسوها العار والمذلة، فبثوا قنواتهم، ونشروا مجلاتهم، وعرضوا أزيائهم، حتى يفتنونها عن دينها.

تجنيد المرأة لهدم المجتمعات

تجنيد المرأة لهدم المجتمعات الحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الصراع بين الحق وبين الباطل قديم قدم الحياة الدنيا، وباق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الصراع بين الحق والباطل بدأ منذ اللحظة التي خلق الله فيها آدم وتمرد إبليس عن السجود له وأهبط الله الجميع إلى الأرض، {قَاْلَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]، ومنذ ذلك الوقت والصراع بين الحق والباطل باق وقديم، وسيبقى هذا الصراع، وسيكون للحق أعوان وأنصار وللباطل أعوان وأنصار {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، الصراع بين الحق والباطل قديم وباق، ويختار الله عز وجل للحق أنصاراً، ويجند أقوام أنفسهم -أيضاً- للدفاع عن الباطل، لكن الباطل مهما ظهر ومهما انتفخ ومهما غر ضعاف العقول فإن مصيره إلى الزوال؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ومن هنا نستبشر برحمة الله وفضله. أخي في الله! يقول الله عز وجل مبيناً أن أعداء الإسلام والمروجين للباطل سيتخذون من المرأة وسيلة لتدمير المجتمعات الإسلامية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]، ثم يشير الله عز وجل إلى مواقف المبطلين فيقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ} [الأحزاب:60 - 62]. وقوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ) دليل على أن هذا العمل من الله عز وجل سنة ماضية في القديم والحديث {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. ولذلك فإن الصراع بين الحق والباطل كثيراً ما يستخدم فيه الباطل المرأة لتكون له حبائل، ولتكون لأهله شراكاً يصطادون فيه المسلمين عن طريق الشهوة؛ لأن الله عز وجل ركب الرجل والمرأة على هذه الشهوة التي فيها من الجاذبية والشدة والقوة الدافعة ما لا يتوافر في أي جانب آخر، ولذلك فإن الله تعالى قدم شهوة النساء على كل شهوة، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، فأول هذا المتاع هو شهوة النساء، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، ويقول عليه الصلاة والسلام مبيناً أن المرأة تساوي فتنتها جميع الفتن، وأن كل الفتن في كفة وأن فتنة المرأة في كفة واحدة، وأن كفة المرأة تكاد أن ترجح بكل كفة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، فالدنيا تساويها كلها فتنة النساء. ولذلك اهتم الإسلام بتربية المرأة والعناية بها اهتماماً بالغاً، حتى لا تكون فتنة أو وسيلة دمار، ولذلك ما قدم القرآن ذكر المرأة في أي موقف من المواقف إلا في موقف واحد، وهو الزنا، فنجد أن المرأة في كل الأمور يقدم الرجل عليها إلا في الزنا فقد ذكرها الله عز وجل قبل الرجل فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]؛ لأن المرأة لديها من الدوافع والجاذبية إلى الزنا وفاحشة الزنا -نسأل الله العافية- ما لا يتوافر في أي شيء آخر، وإن امرأة واحدة لو خرجت متبرجة بين أمة لاستطاعت أن تفتن الكثير منهم إلا من عصم الله، ومن هنا قدمت المرأة على الرجل، وما قدمت في شيء آخر غير ذلك. أما أعداء الإسلام فقد أدركوا خطر هذه المرأة، وقال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمعات إلى الدمار من المرأة. فاستعملت المرأة في هذا الأمر، لذلك لا نستغرب ونحن نرى أن المرأة اليوم قد أصبحت لعبة وأضحوكة ودمية بيد هؤلاء العابثين، وإذا أراد الإنسان أن يروج بضاعته وضع صورة امرأة على غلاف منتجه، حتى المجلات الساقطة التي ليس لها نصيب من الناس لابد أن توضع فيها صورة امرأة جميلة في مقدمتها حتى تكون جاذبة للمشترين، والطائرة أول ما تقابلنا فيها المرأة، وإذا كان قد ظهر الفساد في البر والبحر من قبل؛ ففي أيامنا الحاضرة ظهر حتى في الجو، والمرأة التي تشاهدها في الطائرة والله ما جاءت للخدمة؛ لأن الرجال ليس فيهم قلة، فالعالم كله يشتكي من قلة العمل، ومن شدة المئونة وقلة الوظائف إلى غير ذلك، والمرأة ليست بأقوى من الرجل، بل هي أضعف من الرجل في هذه الأمور، إنما وضعت للتسلية؛ لكي يتمتع بها هؤلاء الركاب، وبمقدار ما تتسابق شركات الطيران لتختار أجمل النساء بمقدار ما تكسب عدداً أكثر من الزبائن كما يقولون! ولقد رأيت بعيني في دولة من الدول التي تعيش بجوارنا إعلان عن اختيار مضيفات في الطائرات، ويقولون: ندفع كذا بدل تبرج! مما يدل على أن التبرج هو المقصود في هذا العمل، ولذلك إذا ركبت الطائرة ورأيت هذا العدد الهائل وهذا الطاقم الكبير من النساء لا تجد لهن شغلاً، إلا أن شركات الطيران تتسابق في اختيار أي النساء أجمل، ومع ذلك يقولون: إنهم من أنصار المرأة! حالوا بينها وبين عواطفها وأهلها وأولادها والزواج ومتاع الحياة الدنيا، ووضعوها معلقة بين السماء والأرض، واستخدموها وجعلوها دمية يتمتع بها الناس ووسيلة تسلية، ويقولون: إنهم من أنصار المرأة! هذا أكبر دليل على أن هذا العصر عصر إهانة المرأة، لا كما يزعمون أنهم من أنصار المرأة، ومن الباحثين عن حقوق المرأة وحريتها. المهم أن أعداء الإسلام أدركوا أن الخطر يكمن في الشهوة، وأن أي أمة تعرض أمامها الشهوة تنزلق قدمها فيها، لما لهذه الشهوة من الجاذبية ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وما لا يحول بينه وبين الوقوع في الفاحشة إلا الإيمان القوي، استخدموا المرأة في هذا الأمر، ولقد استخدمها بنو إسرائيل قبل ذلك، والأمم التي أرادت أن تفسد المجتمعات كانت تستخدم المرأة، وفي أيامنا الحاضرة يركز على المرأة تركيزاً عظيماً لا يساويه شيء في عظمته. من هنا نقول: إن أعداء الإسلام أدركوا الخطر الذي تشكله المرأة على المجتمع، فجندوا المرأة لهدم المجتمعات الإنسانية، وأي أمة تقع في الفاحشة فإنها تسقط من عين الله، وهذا شيء مشاهد، ونلمسه من أن أي شباب من شبابنا يتجهون إلى الفساد الجنسي، تفسد عقيدتهم، وإذا لم يعتنقوا ديانة يهودية أو نصرانية أو إلحاداً فإنهم سيتخلون عن الإسلام في الغالب، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى شبابنا الذين يذهبون إلى البلاد المنحلة، تجد هذا الشاب لا يرجع منحل الأخلاق فقط، وإنما أيضاً منحل العقيدة، وهذا هو الهدف الذي يسعى إليه أعداؤنا في هذا الجانب. وعلى كلٍ فإن المرأة استهدفت في مثل هذه الأيام، وقامت جمعيات للمرأة الهدف من ورائها انحلال وإفساد المرأة، وإن من يسافر إلى البلاد المتبرجة يجد أن المرأة قد فقدت كل شخصيتها، وأصبحت لا تبالي حتى لو خرجت عارية، ولذلك انتشر الفساد في الحدائق والأسواق وأماكن كثيرة في البلاد الغربية التي وصلت إلى آخر مستوى، وصارت قوانينها تهبط كلما هبط هذا الإنسان، وهبط القانون حتى أصبحنا نسمع في بعض البلاد أن الشذوذ الجنسي، وزواج الذكر بالذكر ونوادي العراة أصبحت شيئاً رسمياً في تلك البلاد لا غبار عليها، والمنافقون في كل بلد الذين ينعقون ويبحثون عن حرية وحقوق المرأة يريدون ذلك، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم). وعلى كل فإن البلاد التي لا تستطيع أن تقول: نريد نوادي للبنات -وإن كانت تقال في بعض الأحيان، ولكن الظروف لا تسمح للاستجابة لها- فإنها تقول: نريد جمعيات خيرية نسوية. يصبغونها بهذه الصبغة الطيبة، ويقصدون بالجمعيات الخيرية النسوية أن تخرج المرأة في شيء يشبه الأندية الرياضية للشباب، لكنها مغطاة ومطلية بهذا الطلاء، وملفوفة بهذا الغلاف الكاذب، هذه الجمعيات النسوية التي تخرج المرأة، ولذلك في البلاد التي هي قلب بلاد الإسلام لو تتبعت أخبار بعض الجمعيات لوجدت ما يدمي القلب. وعلى كل فهذه التسمية ليست غريبة، فإن كثيراً من الآثام والجرائم التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية اليوم سميت بغير أسمائها، فهم يسمون الخمر مشروبات روحية، والغناء فناً، والنفاق مجاملة، والكذب دبلوماسية، من خلال ذلك أيضاً سموا إخراج المرأة من بيتها جمعيات خيرية نسوية، والله تعالى يعلم ما يحدث وراء ذلك. اتهموا الإسلام أيضاً بأنه ظلم المرأة، ونصبوا أنفسهم أنصاراً للمرأة، ويقولون: الإسلام ظلم المرأة، وأباح تعدد الزوجات، وجعل الطلاق بيد الرجل، وفعل فعل إلى غير ذلك. فقالوا: إنه

المرأة في الجاهلية

المرأة في الجاهلية المرأة في الجاهلية قبل الإسلام -باختصار- ما كانت إنساناً معترفاً به، فكان كثير منهم يشك: هل المرأة لها روح -كما عند الرومان-؟ وهل هي إنسان؟ وهل هي من فصيلة الحيوان؟ وبعضهم يعتبرها من فصيلة الجن والشياطين، وبعضهم يعتبرها فتنة فقط لا تعدو غير ذلك، وكانت المرأة في الجاهلية الأولى تتفسخ وتنحل، كما أشار الله عز وجل إلى ذلك لما قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ثم جاءت الجاهلية الثانية كرد فعل للجاهلية الأولى، فبالغوا في إحكام القبضة على المرأة قبل الإسلام، فكانوا يعتبرونها من أشر خلق الله، وكانوا يحرمونها من أبسط الحقوق، حتى قالوا: لا ترث. فلا يرث عند أهل الجاهلية إلا من حمل السلاح وركب الفرس وعمل وعمل، أما عن المرأة فيقولون: هي إنسان ناقص ليس مكتملاً، فلا ترث. إلى أن أنزل الله عز وجل قوله في سورة النساء: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء:7] حتى الإبرة يجب إذا مات الموروث أن تأخذ المرأة نصيبها منها، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، فقد أكده الله سبحانه وتعالى، وسنتحدث في آخر الحديث إن شاء الله عن بعض الشبهات التي يثيرها الأعداء بالنسبة للميراث. كانت المرأة تورث أيضاً، فكان الزوج في الجاهلية إذا مات عن زوجته فإن أقرب أولاده من غيرها يرثها، فكانوا يتسابقون حينما تخرج روح الميت، فأول من يلقي عليها رداءً يكون أحق بها، ويحق له أن يتزوجها ويتمتع بها، أو يبيعها أو يتصرف بها كما يحلو له، مثلها مثل سائر المتاع الذي يورث، هذه الزوجة كانت في الجاهلية، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فأصبحت المرأة إنساناً في نظر الإسلام، بل إنساناً مكتمل الإنسانية فلا تورث. وأعظم من ذلك وأفظع منه أنها كانت توأد في الجاهلية، فقد مرت فترة طويلة في الجاهلية كان إذا بشر أحدهم بالأنثى يصير حاله كما أخبر الله عز وجل {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، يعني: يتألم ويشعر بالخيبة وبالخجل أمام الناس إذا بشر ببنت ولدت له {وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:58 - 59] يختفي عن أعين الناس؛ لأنه أصيب بمصيبة {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:59]، ويكون بين أحد أمرين: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:59] فهو يمسك هذه البنت ويحتفظ بها وهو يشعر بالذلة بين قومه {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59] يعني: بعض الأحيان يمسكها على هون وتأخذه العاطفة، فيبقيها وهو يشعر بأنه ذليل؛ لأنه ولدت له بنت، أو يدسها في التراب بأن يحفر لها وهي حية ويدفنها، وهي الموءودة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]. وبقي الناس على هذا الأمر طول أيام الجاهلية، إلى أن شع نور الإسلام فأصبحت المرأة إنساناً محترماً، ومع ذلك يقولون: المرأة مظلومة في الإسلام!

حفاظ الإسلام على حقوق المرأة

حفاظ الإسلام على حقوق المرأة لقد حافظ الإسلام على حقوق المرأة من عدة جوانب: منها: أن الإسلام اعترف بالمرأة إنساناً له حقوقه وحريته وأخذه وإعطاؤه وبيعه وشراؤه، وله جزاؤه في الآخرة، كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، فشعرت المرأة بأن حقها محفوظ عند الله عز وجل في الآخرة، أما في الدنيا فلها أن تزاول كل الأعمال التي تختص بالنساء من البيع والشراء والأخذ والإعطاء والاستئجار والإيجار إلى غير ذلك من المعاملات التي أعطاها الإسلام في إطار محدود، بحيث لا يؤدي ذلك إلى فساد المرأة ولا إلى فساد المجتمع. ومنها: أن الإسلام ألزم الرجل بعشرة المرأة عشرة حسنة، وحرم العشرة السيئة، فقال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وأثبت لها حقاً كحق الرجل، فلما ذكر الله عز وجل حقوق الرجل على المرأة ذكر أن مثل هذه الحقوق للمرأة على الرجل لكنها بالمعروف، كما في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، حتى لا تطلب المرأة حقاً لا يتناسب مع تفكيرها وتركيبها وما أراده لله عز وجل لها في هذا المجتمع، ولذلك فإن الإسلام أمر بالعشرة وحرم الظلم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن: (من كانت له زوجتان ومال إلى إحداهما دون الأخرى يأتي يوم القيامة وشقه ساقط أو مائل)، وأمر بالإحسان إليها، وبالنفقة عليها، حتى قال علماء الإسلام: إن الرجل إذا عجز عن النفقة على زوجته -ولو كانت غنية- فلها أن تطالبه بذلك وتحتفظ بحقها وبمالها، وإلا فلها أن تطلب الطلاق منه، وللقاضي وللمحكمة أن تجبر الزوج الذي عجز عن النفقة على زوجته أن يطلقها إجباراً لتختار زوجاً موسراً. أي حق أكثر من هذا الحق تريده المرأة؟! ثرية وزوجها فقير ويلزم بالنفقة عليها من غير مالها، ويجبر على طلاقها إذا عجز عن النفقة عليها! هذا حق من حقوقها الذي أثبته الإسلام، كما أن الإسلام ألغى استعباد المرأة، فالمرأة -كما عرفنا- كانت مستذلة مستعبدة، فجعلها الإسلام إنساناً كاملاً له حقه وحريته في حدود. كما أثبت لها حق الميراث، فأعطاها نصف حق الرجل في بعض الأحيان, وفي بعض الأحيان تساوي الرجل، وفي بعض الأحيان قد تزيد على الرجل، وعلى كل فإن هذا الميراث -أيضاً- إنصاف للمرأة، وسيأتينا ضمن الشبهات التي يثيرها القوم في آخر الحديث إن شاء الله. وأعطاها الإسلام أيضاً حرية اختيار الزوج، لكن الزوج الصالح، فلا يجوز لأبيها أن يجبرها على رجل هي لا تقبله، صحيح أنه يجب على الأب أن يرفض اختيارها الرجل غير الصالح، لكن حينما يتقدم رجلان صالحان يستويان في الكفاءة والصلاح فالحق لها في اختيار أيهما تريد، أما لو اختارت رجلاً فاسقاً فمن باب مصلحتها أن الإسلام لا يعطيها الحرية في اختيار الزوج في مثل هذه الحال، أما إذا تقدم لها رجلان صالحان فلها أن تختار أيهما تريد إذا استويا في الصلاح أو تقاربا في الصلاح. كذلك أيضاً احترم الإسلام عواطفها الإنسانية، أما في أيامنا الحاضرة فإن الشيوعية الملحدة هي أكبر من يهين المرأة ويخرج على عواطفها ورغباتها وشهواتها الفطرية، فالشيوعية تريد من المرأة أن تكون وسيلة تفريخ، تلد الأولاد وليس لها حق العاطفة مع هؤلاء الأولاد، النساء كلهن أزواج لكل الرجال، فليس لرجل ما زوجة تخصه، هذا في نظر الشيوعية الملحدة آخر مخطط من مخططاتها، فيلغون الزواج بحيث تصبح كل امرأة في المجتمع زوجة لكل رجل من رجال المجتمع، المهم أن تنتج هذه الشيوعية الملحدة من هذه المرأة أطفالاً يكونون رجالاً لهذه الدولة، هذا هو ما يحدث الآن حتى في روسيا، ولذلك إخواننا الأفغان أكثر ما واجههم من العتو والنفور كان عن طريق جنود يسمون (الكمندوز) أبناء الزنا في روسيا، يدخلون الرجل على المرأة فتلد طفلاً فتأخذه الدولة ملكاً لها، فتربيه تربية خاصة جسمية وعقلية وحربية، ثم تزج به في الحرب، ولذلك أكثر ما استعمل هؤلاء الرجال في حرب الأفغان، وهم الذين يسمون الكمندوز، الذين -والحمد لله- أفناهم إخواننا الأفغان عن آخرهم في هذه الحرب، وقطعوهم تقطيعاً. المهم أن المرأة في نظر الشيوعية وسيلة تفريخ، بقطع النظر عن عواطفها ورغباتها وشهواتها، من أراد أن ينزو عليها من هؤلاء الرجال فله ذلك، أما هؤلاء الأولاد فإنهم يأخذون منها، ويحال بينها وبين هذه العاطفة التي هي عاطفة البنوة، التي هي أكثر ما تسعى إليه المرأة في كل فترة من فترات التاريخ، أما الإسلام فقد احترم هذه العاطفة، ولذلك حرم الزنا، وتحريم الزنا يعتبر احتراماً لهذه العاطفة؛ لأن الولد الذي تلده المرأة عن طريق الزنا لا تتمكن من الحياة معه, ولا تعترف به ولا يعترف بها، ولذلك حرم الزنا من أجل أن يبني عشاً طاهراً عن طريق الزواج، ومن أجل أن تنجب هذه المرأة أطفالاً صالحين تشبع بهم رغباتها وعواطفها، وتعيش معهم ويعيشون معها، تؤدي الواجب نحوهم في أيام طفولتهم، ويؤدون الواجب نحوها في أيام كبرها. هذه العاطفة لم يحترمها منهج ولا نظام كالإسلام، ولذلك إذا قرأنا نظرة الإسلام إلى النواحي الاجتماعية والعواطف الزوجية والبنوة وحق المرأة في هؤلاء الأطفال لا نجد نظاماً غير نظام الإسلام يحترم هذه العاطفة، والدليل على ذلك أننا إذا ضربنا صفحاً عن الشيوعية الملحدة التي لا تحترم عواطف المرأة وإنما تعتبرها وسيلة تفريخ فإننا سننظر إلى البلاد الغربية -مثلاً- ونترك البلاد الشرقية؛ لأن هذه بلاد على خلاف الفطرة، والبلاد الغربية أيضاً على خلاف الفطرة، فالولد يختفي ويغيب عن عيني والديه مدة طويلة من الزمن، ثم يقابلهما فلا تزيد مقابلته لهما على أن يشير إليهما بيده من بعد وكأنه رآهما قبل دقائق، مع أنه مضى بينه وبينهما سنوات لم يرهما؛ لأن العواطف الإنسانية قد فقدت في هذه المجتمعات الغربية. ولقد اعتنق شاب من النصارى الأوروبيين الإسلام، وسألته: لماذا اعتنقت الإسلام؟ قال: والله ما كنت أتصور أن هذه العواطف تحترم في دين كدين الإسلام، كنت أقابل أمي في مقهى أو مطعم في أوروبا بعد سنين وبعد غيبة فلا أزيد على الإشارة باليد، ولما عشت في بلاد إسلامية فرأيت الولد يأتي في الصباح فيقبل رأس أبيه، ويقبل رأس أمه، ولا يستطيع أن يعيش بعيداً عن أبيه وأمه، عرفت أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه هو الذي يحترم هذه العواطف. ولذلك في نظام الغرب الآن البنت إذا بلغت ثماني عشرة سنة فعليها أن تغادر البيت وتبحث لها عن مأوى غير هذا البيت، ولو على حساب عرضها وشرفها، وليس هناك عرض ولا شرف يحافظ عليه، وكذلك الابن. وعلى كلٍ فنشكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام، ولذلك الذين يريدون أن يخرجوا بالمرأة عن المجتمع الإسلامي إلى المجتمع الكافر يريدون أن يقضوا على عواطف المرأة، وعلى أبسط الحقوق التي يتمتع بها حتى الحيوان، فالحيوان يتمكن من أن يعايش طفله مدة طويلة من الزمن، وتشعر بالعاطفة بين الحيوان وبين طفله وأنت تتابعهما بنظرك، أما المجتمعات الكافرة فإنها أسقط وأذل من الحيوان، ولذلك صدق الله عز وجل الذي يقول: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].

الأخطار التي تحيط بالمرأة

الأخطار التي تحيط بالمرأة هي أخطار كثيرة، ولا نستطيع أن نتحدث عنها في مناسبة واحدة، ولكنا نريد أن نختار منها أهم هذه الأخطار، ولعلك تشاهد هذه الأخطار قد بدأت بالظهور في المجتمعات الإسلامية، بل بدأت تنتشر وتكثر.

دعاة الضلال

دعاة الضلال أهم هذه الأخطار دعاة الضلال، وما أدراك ما دعاة الضلال! دعاة الضلال الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن المنهج الصحيح ويفسدوا الفطرة، أرادوا أيضاً كذلك أن يحولوا بين المرأة وبين دينها، فقام دعاة الضلال -سواءٌ أكانوا من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج، أم من أفراخهم الذين يولدون ويعيشون بيننا ويتسمون بأسماء المسلمين من أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن- في كثير من الأحيان يتحدثون عن المرأة، ويقولون: نريد حرية المرأة، نريد حقوق المرأة، نريد أن يتنفس المجتمع برئتين بدل أن يتنفس برئة واحدة، نريد ونريد إلى آخره. هؤلاء الدعاة خدعوا بعض النساء، فقالوا: الصحيح أن الإسلام ظلم المرأة. والصحف تتكلم عن ظلم المرأة، والمجلات والكتب بل وبعض الخطباء، ويقولون: حقوق المرأة ضاعت، وحرية المرأة ضاعت، ونحن نحافظ عليها. وهم أكبر عدو للمرأة. هؤلاء دعاة الضلال سواء أكانوا من الخارج أم الداخل هم أخطر شيء على المرأة في أيامنا الحاضرة، ولذلك اغتر بعض النساء بهذه الدعايات المضللة، فتبرجت المرأة وتفسخت، وخرجت عن الإطار الذي رسمه الله عز وجل لها، وتنكبت الطريق الذي اختاره الله عز وجل لها، وهذا يعتبر من أخطر وأعظم الأمور، مرة يقولون: الحجاب تقوقع ورجعية وتخلف، الحجاب موروث من القرون الوسطى، الحجاب موروث من دولة كذا، الحجاب ليس من الإسلام! ومرة أخرى يقولون: المرأة عليها أن تقود السيارة، وتشتغل مع الرجل، المرأة إنسان كامل إلى آخره. هؤلاء -والله- لا يريدون خيراً للمرأة، ولو أرادوا الخير لوجدوا أن أعظم نظام وأعظم منهج يحترم المرأة هو هذا الدين.

الإعلام

الإعلام الإعلام، وما أدراك ما الإعلام! وإذا قلنا: الإعلام فالمراد به المسموع والمقروء والمرئي، وكلها في أيامنا الحاضرة تكالبت على المرأة، وأعطت كل جانب من جوانب الدين نصيبه من الهدم والتخريب، لكن أعطت المرأة الجانب الأكبر، ولذلك فإن الإعلام قد فسد في كل بلاد المسلمين -ولعله يكون في جلها-، هذا الإعلام الذي أصبح الآن يواكب التطور العلمي، واستطاع أن يشبك الدنيا كلها في شبكة واحدة، فلا يحدث شيء في الغرب إلا ويصل إلى الشرق ماراً بالوسط، ولا شيء في الشرق إلا ويصل إلى الغرب ماراً بالوسط -نحن-، هذا الإعلام الذي يظهر تلك المجلات التي تبدأ من صورة الغلاف، وهي تعرض زياً للمرأة منحرفاً كله فسق ومعصية، بعد اختيار أجمل فتاة متفسخة في جزء من لباسها قد أخرجت كل مفاتنها، فإذا بكثير من النساء اللاتي ضعفت شخصيتهن أمام هذا الغزو الفكري إذا بهن يتأثرن بهذا المنظر، ثم ما بعد هذا الغلاف إلى غلاف آخر كله -إلا ما شاء الله- في كثير من الصحف هدم للأخلاق والفضائل، سواء في ذلك الشباب والشابات. نرجع مرة أخرى إلى الإذاعة والأغاني التي كلها تكسر وتخنث وانحراف، إلى التلفاز الذي يعتبر أكبر فتنة حلت بالأمة في أيامنا الحاضرة، وما تركت بيت شعر ولا مدر إلا دخلته إلا ما شاء الله، إلى غير ذلك. ونقول: من هو المسئول عن هذه الأشياء؟ المسئول هو الدولة، فهي مسئولة بين يدي الله عز وجل عما يحدث، لاسيما وأن أكثر ما يحدث تحت أعين بعض المسئولين، وهم العقلاء من هذه الأمة، فالعقلاء إذا لم يستيقظوا وينتبهوا لهذا الخطر، ويقف كل واحد على الأقل على باب بيته شاهراً سلاحه فلا تتسرب إليه هذه الأزياء فهو مطالب أن ينكر المنكر في كل مكان من الأرض؛ لأن الله تعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكل واحد منا مسئول على قدر استطاعته وإمكانيته، مسلسلات كلها عشق وغرام تعلم المرأة كيف تخون الزوج، كيف تتصل بالصديق، كيف تغازل، كيف تنظر، كيف تتصرف، وأقل ما تفعله هذه المسلسلات أن تعرض لنا مجتمعاً من المجتمعات الغربية زي المرأة فيه زي سافر خطير، لا يستر إلا جزءاً من بدنها، ولربما يشوهون التاريخ الإسلامي، فكثيراً ما نسمع عن مسلسلات يعرضون فيها سير بعض الصالحين ومعه زوجته سافرة، وكأنهم يشوهون تاريخ الإسلام، ويقولون: المرأة مع الرجل يسيران جنباً إلى جنب. وربما يعرضون صورة عمر بن عبد العزيز الرجل الصالح أو فلان من الصالحين أو من السلف أو من الذين جاءوا بعدهم ومعه زوجته، من قال: إن المرأة كانت تختلط بالرجل في الإسلام؟! ما حدث هذا إلا في الجاهلية، سواء أكان في الجاهلية الأولى أم المعاصرة. إذاً عرض السفور والاختلاط والمسلسلات هذا كله من الإعلام المنحرف الذي يسبب خطراً على المرأة، بل هو من أكبر الأخطار؛ لأن كثرة المساس -كما يقال- تذهب الإحساس، ولذلك النساء اللاتي صرن يتابعن هذه المسلسلات أعتقد أن كثيراً منهن قل فيهن الحياء، والتي لم يقل فيها الحياء من المؤكد أنها أصيبت بفتنة، أصبحت المرأة تقرأ فتصل المجلات إليها في قعر بيتها، وهذه المجلات من العجيب أنها تتحدى كل الحواجز السياسية والجغرافية، وتصل إلى بيوت المسلمين، ولا ندري أين ذهبت هذه الرقابة! وأول من يتجرع كأس هذا الإعلام الذي قد انحرف في أيامنا الحاضرة هي المرأة؛ لأنها غالباً ما تكون داخل بيتها، وغالباً المرأة لديها من الشخصية ما هو أضعف من الرجل، بحيث تتقبل كل ما يعرض أمامها، ولديها من العواطف ما تصدق به كل ما يعرض أمامها، فتعتبره من الإسلام إذا كان يخالف الإسلام، وهكذا. إذاً هذا الإعلام يعتبر من أخطر الأمور التي غزيت بها المرأة، ووصل إلى قعر البيت، فأصبحت المرأة تشاهده وهي في خدر بيتها.

التعليم

التعليم ونعني بذلك التعليم الذي لا يقف عند حد، والتعليم نحن -والله­- لا ننكره، وهو حق للرجل وللمرأة، ولكن أي تعليم هذا الذي يجب أن يكون حقاً للرجل والمرأة؟ معرفة الله، ورسوله، ودين الإسلام، والحلال والحرام، وشيء من العلوم العصرية التي تستفيد منها المرأة. لكن قل لي بالله -يا أخي! -: هذه المرأة التي لا تريد أن تقف إلا عند آخر جدار في هذا التعليم، لا تقف حتى تحصل على الدكتوراه، وتدرس في الجامعات كل الفنون وكل العلوم، إذاً أين المرأة؟ ومن للبيت ولتربية الأطفال؟ ومن ومن إلى آخره. التعليم يجب أن يكون بمقياس معين، أو بحد معين، وإلى حد ومستوى معين، أما أن تكون المرأة ذات طموح بحيث لا تقف عند حد ولا شهادة ولا مؤهل ولا نوع من الفنون التي لا تحتاج إليها فهذا خطر من نواحٍ كثيرة: الناحية الأولى: أنه يذهب بزهرة شبابها، فلا تكاد تكمل المرحلة التي تطمح إليها إلا وقد كبرت سنها فأصبحت لا يرغب فيها الرجال، وهذا أول خطر من الأخطار، وهذه هي المشكلة التي عاناها العالم عن أيماننا وشمائلنا، فأصبح النساء الجامعيات ومن وراء الجامعات مكدسات، وأدى ذلك إلى فساد فيهن؛ لأن الرجال لا يرغبون فيهن؛ لأن السن أصبحت متأخرة. الناحية الثانية: أن المرأة درست كل شيء فأصبحت تتطلع لرؤية ما درسته، درست جغرافيا العالم كله، فأصبحت تتطلع إلى أن ترى هذا العالم، درست تاريخ العالم كله، فأصبحت تتطلع إلى أن ترى هذا الشيء، درست لغات أجنبية، فتريد أن تطبق هذه اللغات في مجتمعاتها التي تعيش فيها، وعلى هذا أصبح تعليم المرأة الذي لا يقف عند حد معين ولا عند نوع معين من التعليم أصبح يشكل خطراً عليها. الناحية الثالثة: أن النساء اللاتي بلغن القمة في التعليم أصبحن يتمنين ولو ربع زوج أو ثلث زوج أو نصف زوج، فلا يحصلن عليه، وهذا يعتبر من الأخطار التي لا تدركها المرأة إلا بعد أن تصل إلى الذروة والنهاية. الناحية الرابعة: العزوف عن الزواج، وهو يعتبر فرعاً عن التعليم طويل المدى الذي لا يقف عند حد ولا عند نوع معين، فأدى إلى عزوف كثير من الشباب عن الزواج، ولربما تصاب هي بعزوف من الزواج فتصبح عانسة، ثم تكون نهايتها بعد ذلك أرملة. الناحية الخامسة: المغالاة في المهور، وهذه اصطنعها أقوام لديهم من الجشع الذي لا يقف عند حد، ونسوا قول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، ونسوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثرهن بركة أقلهن مئونة). وقد مُني عصرنا هذا بالمغالاة في المهور، ويا ليت هذه المهور وهذه الأموال التي تبذل تصبح ملكاً للمرأة تتمتع بها في حياتها، وتقدم منها ما تشاء من أفعال الخير، بل أصبحت هذه الأموال تقدم لتحرق في ليلة واحدة في أكثر الأحيان، واذهب إلى قصور الأفراح وانظر إلى النعم والخيرات التي تضيع، واللحوم التي ترمى، والأطعمة التي تهراق في الأسواق، والمسلمون في مجاعة وشدة لا يعلمها إلا الله عز وجل. هذه المهور وهذه المغالاة في المهور التي أصبح كثير منها يصرف على اللهو واللعب والمحرمات أصبحت تشكل خطراً على الرجل والمرأة، فأصبح كثير من الشباب لا يستطيع جلب هذه المهور، وأي حل يسعى إليه؟ إما أن يذهب إلى الفساد هنا وهناك، وسيجد الوسائل ممهدة، الطائرات يومية، التذاكر مخفضة، الجوازات جاهزة، وإما أن يذهب ليتزوج من الخارج بامرأة غريبة عنه وعن مجتمعه، ولربما لا يتأكد صلاحها، وهذه كلها أخطار تحيط بالمرأة، أما المرأة هنا فإن جشع وليها ومطالبه الكبيرة التي لا تقف عند حد أصبحت تحول بين هذه المرأة وبين الزواج.

السفر إلى الخارج

السفر إلى الخارج اعتادت بعض الأسر أن تذهب في فصول ومناسبات الصيف والعطل وغير ذلك بمجموعها رجالها ونسائها إلى البلاد المتحللة، وترى هذه المرأة أو هذه الفتاة المحاطة بسياج من المحافظة مدة طويلة من الزمن ترى هذه المجتمعات المنحلة وكأنها طير فر من قفص، حتى إذا أراد صاحبه أن يدخله القفص مرة أخرى لا يستطيع ذلك، ولذلك نشاهد في كثير من الأحيان حينما نسافر إلى بعض البلاد نشاهد كثيراً من الفتيات اللاتي نعرف أنهن من هذه البلد المحافظة، وأنهن أجبرن على شيء ما كن يعتدنه، وأن هذه الأيام التي مرت بهن في تلك البلاد استطاعت أن تؤثر عليهن يوماً بعد يوم، وإذا بها تصبح كأنها امرأة شرقية أو غربية سواء بسواء، هذه مشكلة كبيرة نرجوا الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسئولين للانتباه لها بحيث لا يتيسر السفر لهذه الأسر إلى الخارج لغير حاجة، لما للسفر من ردود فعل وأضرار واضحة.

التقليد

التقليد طبيعة البشر -خصوصاً الضعفاء- تقليد الأقوياء، هذه قضية تاريخية مسلمة، والمرأة بصفة خاصة أقرب الناس إلى التقليد والتشبه وأخذ صفات وسمات غيرها لتتسم وتتصف بها، ولذلك فإن هذا التقليد يعتبر من أخطر الأمور التي تهدد هذه الأمة خصوصاً النساء، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحذر ويقول: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) يعني: نعم. اليهود والنصارى، ولذلك في كثير من المجتمعات الإسلامية لا تكاد تفرق بين المرأة المسلمة والكافرة، بل إن المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية لا تكاد تفترق عن الدول الكافرة سواءً بسواء، فإذا فتحت المسارح ودور اللهو واللعب والرقص والغناء والمحرمات في بلاد الكفر فتح مثلها في بلاد الإسلام إلا ما شاء الله. وعلى هذا نقول: إن التقليد -سواءٌ أكان على مستوى الأفراد أم الجماعات أم الدول- من مصائب هذا العصر، ولذلك فإنه يعتبر من أكبر الأخطار التي تهدد المرأة بصفة خاصة.

حرص الإسلام على صيانة المرأة

حرص الإسلام على صيانة المرأة لماذا الإسلام شدد في أمر المسلمة؟ ولماذا أصبح أمر المرأة حساساً لا كالرجل؟ نقول: لأن المرأة عارها كبير إذا انحلت أخلاقها، ومصيبتها كبيرة، ولذلك الإسلام حرم الزنا، وما شدد القرآن في موضوع بعد الشرك بالله على شيء أكثر من الزنا، بل نهى عن أن نقرب الزنا، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، ولم يقل: ولا تفعلوا الزنا. وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وقربان الزنا يعني الدنو منه، والدنو منه يعني القرب من هذه الفاحشة. واقرأ سورة النور، فلما حرم الله عز وجل الزنا وكانت أول آية في السورة {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] جاء الحديث عن الزنا، ولما جاء الحديث عن الزنا جاء بعد ذلك الحديث عن طرق الزنا، وكيف سد الإسلام طريق الفاحشة، وأول أمر سد به الإسلام الزنا هو الحدود، فذكر الله عز وجل الحد {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم بعد ذلك ذهب إلى الحديث عن الزنا والحديث عن الفاحشة؛ لأن الحديث عن الشيء يسهله ويبسطه، فجاء الحديث عن القذف {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، ثم استثنى الله عز وجل رمي الزوجة؛ لأن رمي الزوجة قد يكون ضرورة لدى الرجل، ثم جاء الحديث عن الاختلاط؛ لأن كل هذه طرق توصل إلى الزنا وكلها لمصلحة المرأة {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] يعني: تستأذنوا {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، ثم جاء الحديث عن غض البصر، وكل واحد من هذه الأشياء لو فتح المجال فيه لوصل الناس إلى الزنا. ثم قال الله عز وجل في آخر الآيات: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، هذه وسائل جاءت كلها في النصف الأول من سورة النور، كلها من أجل أن لا يقرب الناس الزنا، أما أعداء الإسلام فإنهم قد هتكوا كل هذه الحجب، وفتحوا كل هذه الطرق، فعطلت الحدود أولاً، واعتبر تطبيق الحدود وحشية وتخلفاً ورجعية في أكثر البلاد الإسلامية، وجاءت قوانين البشر تحكم الناس بما تزعم أنه الرحمة، ولكنه الإجحاف والظلم والعدوان، ثم أصبح الحديث عن الفاحشة ميسراً، والله تعالى حرم أن يتحدث الإنسان أن فلاناً زنا إلا إذا كان عنده أربعة شهود يشهدون بذلك. إذاً معنى ذلك أن الحديث عن الفاحشة حتى لو كان حقاً منهي عنه إلا بأربعة شهود {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] إذاً الحديث عن الفاحشة في المسلسلات يعتبر أخطر؛ لأن الهدف من وراء ذلك ليس هو إنكار المنكر، وإنما الهدف إشاعة المنكر، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:19]. ثم بعد ذلك نتكلم عن الاختلاط، فالله تعالى يقول: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) حتى لا يرى عورة، أو حتى لا يختلط جنس بجنس آخر ليس من محارمه، ونجد الآن دعوات كثيرات للاختلاط، حتى قال بعضهم: إن خلط الرجل مع المرأة يزيل هذه الوحشة بينهما. ولذلك يقولون: لو تساهلنا وخلطنا البنين والبنات في المدارس والمكاتب وغير ذلك أصبحت هذه الشهوة مفقودة وتصبح طبيعية. هذه الدعوة الشيطانية كاذبة، والدليل على كذب هذه الدعوة الشيطانية التي يزعمونها أن المجتمعات التي اختلط فيها الرجل والمرأة هي أكثر الدنيا فساداً. ولذلك نقول: هذه كلها من مكائد أعداء الإسلام. ثم بعد ذلك لما أمر الإسلام بغض البصر نجد أن المرأة في المجتمعات الإنسانية والإسلامية أيضاً -إلا ما شاء الله- نجد أنها تكشفت، فأصبحت تمشي سافرة في جل البلاد الإسلامية، وليست سافرة في وجهها فحسب، ولكنها قد كشفت عن ساقها وعن شيء من فخذها ونحرها وعضديها وذراعيها وعنقها إلى آخره، حتى أصبحت المرأة لا تعيش إلا في جزء من لباسها في كثير من البلاد، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقوله تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] دليل على أن هناك صلة وثيقة بين النظر وبين الفاحشة، فقال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، والشاعر يقول: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أيضاً نقول بعد ذلك: المرأة المسلمة أمامها خياران، وليس معنى قولنا: خياران أنها مخيرة في أحد الأمرين، بل أمامها طريقان: إما طريق السلامة وطريق الجنة، وهو الطريق الذي اختاره الله عز وجل لأفضل نساء العالمين، لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواصفاته نجدها في قول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلا ترقق كلامها ولو بتلاوة القرآن، أي: لو أرادت أن تقرأ القرآن فلا ترقق صوتها إن كان يسمعها أجنبي منها، فكيف بها تغني أمام رجال أجانب؟! إن الفرق بين الأمر وبين الواقع كما بين المشرق والمغرب، الله تعالى حرم عليها أن ترقق صوتها ولو بتلاوة القرآن، وهي الآن تتكسر وتغني يراها الرجال أمامهم ويسمعون صوتها، والله تعالى حرم عليها أن ترقق صوتها في أي كلام {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:32 - 33]. فالله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وأعداء الإسلام يقولون: تخرج المرأة، ويجب أن تشتغل، ويجب أن تنافس الرجال، ويجب أن يتنفس المجتمع برئتين. وأنه تعالى يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33 - 34] يعني: بلغن دعوة الإسلام، فكما أن الرجل مكلف بتبليغ دعوة الإسلام، فكذلك أيضاً المرأة مكلفة بتبليغ دعوة الإسلام هذا هو الخط الأول الذي يعترض سبيل المرأة. وهناك خط معاكس يسعى إليه أعداء الإسلام اليوم لتسلكه المرأة، والعجيب أنهم يظهرون هذا المظهر وكأنهم أصدقاء وأحباء المرأة والمخلصون للمرأة، فهو طريق أهل النار وطريق نساء النار، وهذا الطريق هو الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) يعني: معهم عصي يضربون الناس ظلماً، يفقدون الناس حريتهم التي أرادها الله عز وجل لهم. (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). أمام المرأة هذان الطريقان: الطريق الأول: طريق الجنة، والطريق الثاني: طريق جهنم نعوذ بالله منه، ونعيذ بالله النساء المسلمات منه.

المرأة في المملكة العربية السعودية

المرأة في المملكة العربية السعودية لا أظن أن امرأة في العالم أدركت شرفاً أو حقاً أو حرية كمثل المرأة في بلادنا، وإذا أردت دليلاً على ذلك فاسأل إدارة تعليم البنات: كم تتقاضى البنت التي تدرس بعيداً عن بلدها قليلاً، وكم يتقاضى أخوها الذي يحمل نفس المستوى وفي نفس السن؟ تجد أن المرأة بعض الأحيان تأخذ ضعفي راتب أخيها الذي يساويها في المستوى، إذاً أي حقوق أكثر من هذه الحقوق؟ نأتي إلى الزواج، يقولون: المرأة في بريطانيا مهرها نصف جنيه استرليني. أي: ثلاثة ريالات، وبعض الأحيان تكلف هي بدفعه، فكم مهر المرأة في بلادنا؟ المرأة في بلادنا يأتيها رزقها في قعر بيتها، والمرأة في بلاد الغرب لابد أن تلهث وراء لقمة العيش، ولقد رأيت بعيني النساء وهن يركضن وراء الباصات ولو أن تتعلق إحداهن خلف السيارة لتصل إلى بيتها، ولكنها لا تصل إلى بيتها إلا في المساء، فهي تعيش معذبة طوال حياتها، والمرأة في بلادنا -والحمد لله- أميرة في بيتها، تتوافر لها كل وسائل الراحة والمتاع، وعلى الزوج أن يذهب بنفسه ليأتي بكل شيء إليها في بيتها. وبالرغم من هذا فإن أعداء الإسلام يعتبرون هذا تخلفاً ورجعية، ويعتبرون المرأة مظلومة في بلادنا، ولذلك -يا أخي- اقرأ حتى صحفنا -ولا نريد أن نجابي- فستجد هذه الصحف العجيبة تتكلم عن أن المرأة مظلومة، فالمجتمع الذي لا يتنفس إلا برئة واحدة، لماذا لا تقود المرأة السيارة؟ لماذا المرأة لا تشارك في العمل؟ أي عمل أكبر من هذا العمل الذي تشارك فيه هذه المرأة في بلادنا؟! المرأة تربي رجالاً، المرأة مفتوحة لها المدارس، لكن يجب أن يكون لذلك كله حدود، أما أولئك فإنهم يريدون أن تتيسر لهم المرأة في بلادنا كما تتيسر في بلاد أخرى، فبدل أن يأخذوا هذه المراحل الطويلة يجدون المرأة في متناول أيديهم، هذا هو هدفهم حسب ما نعتقد، ولذلك فإن الله تعالى يحكم بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.

بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام عن المرأة في الإسلام

بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام عن المرأة في الإسلام يقولون مثلاً: المرأة مظلومة. وما دليل ذلك؟ يقولون أول ما يقولون من هذه المشكلات: تعدد الزوجات ظلم للمرأة! نقول: أولاً: نريد أن نناقشكم نقاشاً لفظياً قبل أن نناقشكم نقاشاً شرعياً، المرأة التي يتزوجها رجل ومعه زوجة هل سلبها من إنسان يريد أن يتزوجها ويستقل بها؟ لا. هي امرأة جالسة في بيتها، وهي زيادة، وهذه الزيادة شيء مشاهد، فإن عدد النساء في كل مجتمع أكثر من الرجال، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل أن جعل للرجل أربع زوجات؛ لأن المرأة في كل مجتمع أكثر من الرجل، ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية: إن في ألمانيا المرأة تساوي ثلاثة أرباع المجتمع، والرجل يساوي الربع، ولذلك لا يمكن استيفاء النساء في ألمانيا إلا إذا تزوج الرجل ثلاث زوجات. هذا شيء مشاهد دائماً، فانظر إلى سائر الإناث دائماً تجد أن الإناث أكثر عدداً من الذكور، إذاً: ما هو العلاج لهذا الأمر؟ العلاج لهذا الأمر أحد ثلاثة أشياء: إما أن تفسد المرأة، فجزء من النساء يستقل بالرجال، ويتزوج كل واحد واحدة وتبقى البقية للفساد، وإما أن تبقى للعنوسة، فتفقد عواطفها أيضاً، وإما أن تتزوج بزوج تشاركه فيها زوجة أخرى أو زوجتان أو ثلاث. ومن حكمة الله عز وجل أن جعل هذا الأمر في الرجال والنساء، علماً أن الرجال يتعرضون للموت وللفناء أكثر مما يتعرض له النساء، فهم أكثر أسفاراً، وهم الذين يتعرضون للحروب وللنكبات أكثر من النساء، وعلى كل فإن هذا الواقع ليس له علاج إلا تعدد الزوجات. نأتي إلى نواحٍ أخرى تتناسب مع عواطف المرأة: إن أكبر هدف للمرأة في الزواج هو إنجاب الأولاد؛ لأن الأولاد عاطفة تحبها المرأة كما يحبها الرجل، وإن المرأة إذا كانت مع زوج تشاركها فيه زوجة أخرى لا يؤثر ذلك على إنجابها، فإن الرجل الذي لديه أربع أو ثلاث زوجات أو زوجتان أو زوجة واحدة كل واحدة تأخذ بنصيب من النسل بحيث لا تأخذ واحدة منها حق الأخرى، وإن أخذت شيئاً من العشرة أو الاتصال. إذاً أي ذنب في التعدد؟! الذنب في التعدد الذي يذكره هؤلاء لا حقيقة له، وعلى كل لو قلنا: إن فيه نقصاً لحق المرأة فالمرأة بحاجة إلى التعدد، ولولا أن الله عز وجل أباح التعدد لما كان كل النساء يتمتعن بالرجال، اللهم إلا عن طريق غير مشروع، وهذا هو الخطر الذي يحاربه الإسلام، ولذلك فإن المجتمعات التي قامت وحاربت التعدد أصبحت نسبة النساء فيها تفيض بشكل لا يتصوره أحد، حتى أدى ذلك إلى فساد عريض في تلك المجتمعات، فأصبحت المجتمعات الكافرة تطالب في أيامنا الحاضرة في بعض الأحيان بتعدد الزوجات من أجل استهلاك هذه الطاقة النسوية الموجودة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق حكومتنا للأخذ على أيدي المخربين والسفهاء، وأسأله سبحانه أن يوفق الشعوب الإسلامية كلها إلى الالتزام بالمنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

الأسئلة

الأسئلة يقولون مثلاً: المرأة مظلومة. وما دليل ذلك؟ يقولون أول ما يقولون من هذه المشكلات: تعدد الزوجات ظلم للمرأة! نقول: أولاً: نريد أن نناقشكم نقاشاً لفظياً قبل أن نناقشكم نقاشاً شرعياً، المرأة التي يتزوجها رجل ومعه زوجة هل سلبها من إنسان يريد أن يتزوجها ويستقل بها؟ لا. هي امرأة جالسة في بيتها، وهي زيادة، وهذه الزيادة شيء مشاهد، فإن عدد النساء في كل مجتمع أكثر من الرجال، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل أن جعل للرجل أربع زوجات؛ لأن المرأة في كل مجتمع أكثر من الرجل، ولذلك تقول الإحصائيات الرسمية: إن في ألمانيا المرأة تساوي ثلاثة أرباع المجتمع، والرجل يساوي الربع، ولذلك لا يمكن استيفاء النساء في ألمانيا إلا إذا تزوج الرجل ثلاث زوجات. هذا شيء مشاهد دائماً، فانظر إلى سائر الإناث دائماً تجد أن الإناث أكثر عدداً من الذكور، إذاً: ما هو العلاج لهذا الأمر؟ العلاج لهذا الأمر أحد ثلاثة أشياء: إما أن تفسد المرأة، فجزء من النساء يستقل بالرجال، ويتزوج كل واحد واحدة وتبقى البقية للفساد، وإما أن تبقى للعنوسة، فتفقد عواطفها أيضاً، وإما أن تتزوج بزوج تشاركه فيها زوجة أخرى أو زوجتان أو ثلاث. ومن حكمة الله عز وجل أن جعل هذا الأمر في الرجال والنساء، علماً أن الرجال يتعرضون للموت وللفناء أكثر مما يتعرض له النساء، فهم أكثر أسفاراً، وهم الذين يتعرضون للحروب وللنكبات أكثر من النساء، وعلى كل فإن هذا الواقع ليس له علاج إلا تعدد الزوجات. نأتي إلى نواحٍ أخرى تتناسب مع عواطف المرأة: إن أكبر هدف للمرأة في الزواج هو إنجاب الأولاد؛ لأن الأولاد عاطفة تحبها المرأة كما يحبها الرجل، وإن المرأة إذا كانت مع زوج تشاركها فيه زوجة أخرى لا يؤثر ذلك على إنجابها، فإن الرجل الذي لديه أربع أو ثلاث زوجات أو زوجتان أو زوجة واحدة كل واحدة تأخذ بنصيب من النسل بحيث لا تأخذ واحدة منها حق الأخرى، وإن أخذت شيئاً من العشرة أو الاتصال. إذاً أي ذنب في التعدد؟! الذنب في التعدد الذي يذكره هؤلاء لا حقيقة له، وعلى كل لو قلنا: إن فيه نقصاً لحق المرأة فالمرأة بحاجة إلى التعدد، ولولا أن الله عز وجل أباح التعدد لما كان كل النساء يتمتعن بالرجال، اللهم إلا عن طريق غير مشروع، وهذا هو الخطر الذي يحاربه الإسلام، ولذلك فإن المجتمعات التي قامت وحاربت التعدد أصبحت نسبة النساء فيها تفيض بشكل لا يتصوره أحد، حتى أدى ذلك إلى فساد عريض في تلك المجتمعات، فأصبحت المجتمعات الكافرة تطالب في أيامنا الحاضرة في بعض الأحيان بتعدد الزوجات من أجل استهلاك هذه الطاقة النسوية الموجودة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق حكومتنا للأخذ على أيدي المخربين والسفهاء، وأسأله سبحانه أن يوفق الشعوب الإسلامية كلها إلى الالتزام بالمنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

حكم الجمعيات النسوية

حكم الجمعيات النسوية Q أشرتم أثناء الحديث إلى وجود جمعيات نسوية، وقد كثر التساؤل حول هذه الجمعيات، ونرجو مزيد الحديث عنها؛ لأنها في الحقيقة لها أعمال جيدة، وملموس فيها فائدة، فما رأيكم فيها؟ A الحقيقة أنا لا أعرف ما يحدث وراء هذه الجمعيات، ولا ما تزاوله النساء داخل مراكز هذه الجمعيات، لكن من المؤكد الذي لا شك فيه -أولاً- أن إخراج المرأة من البيت بهذا الشكل فيه أخطار كثيرة، والله تعالى يقول للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وهذا يؤدي إلى خروج وخروج طويل. ثانياً: تربية عواطف الأولاد؛ يلزم المرأة بأن تبقى في بيتها، ولذلك أعداء الإسلام الذين حالوا بين الطفل وبين أمه أخرجوا طفلاً لا إنسانياً ولا دينياً، الشيء المؤكد أيضاً داخل هذه الجمعيات -أو المتوقع- أن يكون هناك توسع واختلاط بين أنواع من النساء، فهناك المحافظة والمنحلة، وهناك المعتدلة والمتوسطة، وهناك ما هو أقل من ذلك، وأخشى أن تنصهر كل واحدة في الأخرى، وعلى كل فإني أخشى من أن تكون بدلاً عن الأندية الرياضية التي كنا نخاف على الشباب منها، وكانوا يقضون وقتاً طويلاً داخل أسوار هذه الأندية، وإذا كنا نخاف على الشباب فمن باب أولى أن نخاف على الشابات؛ لأن فتنة النساء لا تساويها فتنة، وعلى كل فأعتقد أن البعد عنها خير من القرب.

شروط خروج المرأة للأسواق

شروط خروج المرأة للأسواق Q هل يجوز للمرأة أن تخرج إلى الأسواق لقضاء ما تحتاجه بدون محرم، علماً بأنها ترى بعض النساء يخاطبن الباعة وجهاً لوجه، وفي إحدى زوايا المحل؟ A المحرم لا يلزم إلا في حالتين: الحالة الأولى: السفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم). الحالة الثانية: الخلوة بالرجل الأجنبي، لا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة إلا ومعها ذو محرم, وعلى كل فإن ذهابها إلى السوق إذا كان لحاجة ملحة وبأدب وبلباس ساتر، وبدون طيب، وبدون ملابس ضيقة ولا شفافة، وبحياء وبدون صوت جذاب فهذا شيء لا بأس به، لكن بهذه الشروط كلها، أما إذا كانت هناك نساء يخرجن ويكلمن الرجال بصوت رقيق فإن على هذه أن تبتعد، وأن تقدم النصح لهؤلاء النساء، أما منع النساء من الخروج فإن هذا لا أصل له في الشرع، فالأصل إباحة الخروج للمرأة، إلا أنه يجب أن يكون بهذه الشروط، ولكني أنا أدعو الرجال إلى أن يقوموا بحاجات النساء؛ لأني أجد كثيراً من النساء -وخصوصاً الفتيات- يتزاحمن أمام الخبازين وأمام الدكاكين، ويدخلن داخل المعارض البعيدة المدى، والتي فيها مداخل يميناً وشمالاً، وهذا كله خطر، فأنا أدعو الرجال إلى أن يقوموا بحاجات نسائهم حتى لا يحتجن إلى هذا الخروج.

حكم تزويج المصرين على الكبائر والفجور

حكم تزويج المصرين على الكبائر والفجور Q ابتليت بصهر يزاول شرب الخمر، ويُخشى على ابنته من بقائها معه أن يحصل لها شيء غير سوي، فهل يحاول طلاقها أم ماذا يفعل؟ A الحقيقة أن هذه المشكلة تتكرر دائماً الأسئلة عنها، وكثيراً ما نسمع عن رجال تأخذهم العواطف غير الدينية ليزوجوا رجالاً لا دين لهم، وهناك ما هو أكبر، هناك من يزوج من لا يصلي، وبعض الأحيان نتصل بالتلفون ونقول: اتق الله، هذا الرجل لا يصلي! فيقول: ما لك ولي. فيزوجه وهو لا يصلي، وهذا خطر كبير، فيجب أن نبدأ من الصلاة قبل أن نبدأ بالخمر مع خطورته، فالشاب الذي لا يصلي لا يجوز أن نزوجه امرأة مسلمة؛ لأن الله تعالى حرم علينا أن نبقي المسلمة مع الكافر، فكيف نزوجه ابتداءً، والله تعالى يقول: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، والرجل الذي لا يصلي مرتد كافر خارج عن دين الإسلام، وعلى هذا نقول: إن عليك -يا أخي- أن تحتاط لابنتك، فهذه أمانة في عنقك، احذر أن تقدم المال أو النسب أو المركز أو الشهرة أو المظهر على الدين، فإنك لو قدمت أحد هذه الأشياء على الدين ندمت. ونقول: لقد ابتلي أناس بأناس يشربون الخمر فزوجوهم بناتهم، ابتلي أناس بأناس لا يصلون ولا يعرفون الله طرفة عين وزوجوهم بناتهم، وبعض هؤلاء عقلاء، لكن فقدوا هذا العقل أيام الخطبة، لكن بعد ذلك أدركوا فأصبحوا في حيرة من أمرهم، ثم أنجبت هذه البنت أولاداً، ماذا يعمل بهذا الرجل الذي لا يصلي؟ ماذا يعمل بهذا الرجل الذي يشرب الخمر؟ الحل: الوقاية خير من العلاج، فإذا أردنا أن نزوج بناتنا فعلينا أن نبحث عن الأتقى، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل عبثاً وإنما قال: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه)، وأنت -يا أخي- لو أردت أن تشتري داراً فإنك تبحث عن جيرانها، وهذا أولى من الجار، ولو أردت أن تشتري سلعة فإنك تبحث عن كل ما فيها من العيوب، وهذه البنت هي أول من يجب أن تهتم به ويجب أن تحافظ عليه؛ لأنها أمانة في عنقك، ولذلك أقول: عليك أن تحتاط احتياطاً كبيراً، فإذا خطب منك رجل ولو أحسنت الظن به فعليك أن تسأل عنه أياماً، من يجالسه، ماذا يستعمل، في أي مسجد يصلي، من يعرف. أما إذا تساهلت فالمصيبة ستقع، وإنا لنسمع عن أناس يفعلون الفواحش والنساء قد ضاقت منهن، ولا تدري كيف تتصرف المرأة، ويومياً يتصل بنا نساء يقول بعضهن: زوجي لا يصلي. زوجي يشرب الخمر. والعلاج صعب في مثل هذه الحالة، العلاج نملكه يوم كنا نملك رأس الخيط ونمسك برأس الخيط، فحين خطب ننظر هل يصلح أو لا يصلح، أما بعد ذلك فهناك علاج، لكن هذا العلاج يحتاج إلى قوة وشجاعة، والعلاج أنه إذا كان لا يصلي يجب أن تطلب المرأة الطلاق، أو يجب أن يطلب وليها الطلاق، بل لا يجوز للولي أن يسكت عن هذا الذي لا يصلي؛ لأن بقاء هذه المرأة المسلمة في عصمة هذا الرجل الكافر لا يجوز، حتى قال بعض العلماء: حتى الأولاد الذين ينجبهم هذا الرجل وهذه المرأة أولاد غير شرعيين، هذا رأي لبعض العلماء المعاصرين، وهم يشبهون أولاد الزنا، ما دام هو كافراً وهي مسلمة لا يجوز هذا؛ لأن هذا زواج غير شرعي، والزواج غير الشرعي يكون الأولاد فيه غير شرعيين، وعلى هذا نقول: الأمر خطير، فإذا أردت أن تزوج فابحث، وإذا ابتليت بمثل هذا فإن كان لا يصلي فعليك أن تطلب الفراق فوراً، أو يرجع إلى الإسلام، وإذا كان يشرب الخمر فعليك أن تعالج المشكلة قدر الاستطاعة؛ لأن هذه الخمرة الخبيثة ستنتقل بواسطة النطفة إلى أولاد بنتك، فيكون لك أسباط منحرفين، وربما يصابون بالجنون أو بالخبل، فعليك أن تسعى قدر الاستطاعة لإصلاح هذا الرجل ما استطعت وإلا فعليك أن تسعى في التفريق، خصوصاً قبل أن يوجد الأولاد، هذا هو ما أعتقده، والله هو المستعان. وينبغي أن يعلم أن هناك مصائب أخرى للخمر، منها تهديد أمن المرأة، ففي أي لحظة إذا كان زوجها يتناول الخمر -ولأنه يفقد عقله- ربما يقتلها في يوم من الأيام، وفي أقل الحالات أنه سوف يؤثر على عقلها وشخصيتها، وأخطر هذه الأمور: أنه ربما ينتقل هذا البلاء بواسطة النطفة إلى ذرية هذه البنت، فيكون أسباطك مصابون بمشكلة إدمان الخمر، نسأل الله العافية؛ لأن هذا يؤثر حتى على العقل.

حكم أخذ الزوج جزءا من راتب المرأة

حكم أخذ الزوج جزءاً من راتب المرأة Q امرأة موظفة لها راتب، وزوجها يريد أن يأخذ نصفه، فهل يحق له ذلك شرعاً؟ A لا يحق له شرعاً، إلا إذا كان هناك شرط، مع أن هذا الشرط أعتقد أنه شرط غير صحيح وشرط فاسد، راتبها حق لها ولا يجبرها على أن يأخذ شيئاً منه، إلا إذا تطوعت هي فأعطته إياه، فلها ذلك، أما أن يجبرها فليس له ذلك أبداً، لكن له حق إجبارها على منعها من العمل هذا إذا لم يكن هناك شرط مشروط عليه.

رد شبهة أن كشف الحجاب يزيل الوحشة بين الجنسين

رد شبهة أن كشف الحجاب يزيل الوحشة بين الجنسين Q هناك مشكلة تثار، وهي أن الحجاب هو سبب الفتنة، أما لو نزع الحجاب فسيكون الأمر طبيعياً، فما هو الحكم في هذا؟ A هذا غير صحيح، والدليل على أنه غير صحيح أن أناساً يزعمون أن خلط الرجل بالمرأة يزيل الوحشة، ويزيل الشهوة بين الرجل والمرأة، وهم كاذبون بدليل الواقع، ولذلك نقول: نستطيع أن نرد على هذه الشبهة بالسؤال المطروح: هل المجتمعات التي أزيل فيها الحجاب فقدت منها الفتنة؟ الفتنة في البلاد التي تكشفت فيها المرأة وتبرجت أضعاف مضاعفة، بخلاف المجتمعات التي تحجبت فيها المرأة، والدليل على ذلك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فهو دليل على أن هناك اتصالاً بين النظر وبين الزنا، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وعلى كلٍ فإنها دعوى كاذبة، ونقول: هاتوا برهانكم. أما المجتمعات التي تبرجت فيها المرأة وكشفت عن وجهها وأسفرت عن كثير من جسدها فقد زادت فيها الفاحشة أضعافاً مضاعفة، ولكن لم يكن أمام أولئك إلا أن يفتحوا السبيل لهذه الفاحشة.

تفسير قوله تعالى: (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات)

تفسير قوله تعالى: (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) Q نرجو تفسير هذه الآية، وهي قول الله عز وجل: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]؟ A هذه الآية جاءت في آخر آيات الإفك، وآيات الإفك معروفة في سورة النور، فلما اتهم بعض المنافقين -واغتر بهم بعض المسلمين- زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة، واتهموها بالزنا كما هو معروف في قصة الإفك، وأنزل الله عز وجل براءتها، وتحدث عن قصة الإفك أراد الله عز وجل أن يثبت دليلاً على كذب هؤلاء الذين يزعمون الفاحشة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء لهم بهذا الدليل العقلي، فقال: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم طيب، ولا يمكن أن تكون زوجته إلا طيبة، وهو طاهر ولا يمكن أن تكون زوجته إلا طاهرة. وكذلك الخبيث دائماً يوفق لامرأة خبيثة، والمرأة الخبيثة توفق لرجل خبيث، فهذا دليل على أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بيت نظيف نزيه، لم يحدث فيه ما قاله هؤلاء المنافقون المروجون لهذه الفاحشة، ولكن القاعدة في التفسير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك فإن الله عز وجل حرم أن يتزوج العفيف بزانية حتى تتوب، كما حرم أن تتزوج العفيفة بزان حتى يتوب، كما في قوله تعالى: ((الزَّانِي لا يَنكِحُ)) [النور:3] أي: لا يتزوج {إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ومعنى ذلك أن هذا الحكم أصبح عاماً، فيجب أن تكون العفيفة للعفيف، والطيبة للطيب.

حكم تعليق الصور

حكم تعليق الصور Q أنا -ولله الحمد- بار بوالدي كثيراً، وقد علقت بعض صورهما في غرفتي، فهل هذا من البر في شيء؟ A هذا ليس من البر، البر له حدود، البر هو أن تحسن إلى والديك، تتلطف معهما في الكلام، تنفق عليهما، تكرم صديقهما إذا كانا ميتين، تصل الرحم التي لا توصل إلا بهما إذا كانا ميتين، إلى غير ذلك من أنواع البر والإحسان والعطف واللطف والتلطف مع الأبوين. أما تعليق الصور فأصله منهي عنه، وأول ما بدأت عبادة الأصنام بتعليق الصور، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة حطم الأصنام وصوراً كانت قد علقت في الكعبة، وبدأ يكسرها ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ} [الإسراء:81] وعلى هذا فإن تعليق الصور في البيوت يعتبر خطراً كبيراً وخطأ، ولذلك فإني أقول: إن تعليقها وسيلة وذريعة إلى خطر أكبر، كما أن أصل التصوير بدون سبب وبدون فائدة منهي عنه، إذاً فتعليق الصور بهذا الشكل -خصوصاً الصور المكبرة، وأفظع من ذلك وأعظم من ذلك صور النساء- يعتبر من الأمور المنهي عنها.

حكم عمل المرأة ممرضة

حكم عمل المرأة ممرضة Q ما رأيكم في عمل المرأة ممرضة في المستشفيات لرعاية النساء المريضات فقط؟ A الإسلام لا يعارض تعليم المرأة، كما أنه لا يعارض عمل المرأة، فقد كان من النساء المسلمات من تخرج في أيام الغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم لتمريض الجرحى، وعلى كل نقول: دخول المرأة في مدرسة للتمريض، أو اشتغالها بالتمريض، أو دخولها في مستشفى للتمريض هذا الأصل فيه الحل، لكن له ضوابط وشروط وقيود، وأهم هذه الشروط أن تكون متحجبة محافظة لا تختلط برجال، ولا تخرج إلى هذا المكان إذا كان بعيداً عنها إلا بمحرم، ولا تستعمل أي نوع من المحرمات، لا تستعمل الطيب، ولا الملابس الشفافة الضيقة والقصيرة، وإذا التزمت بهذه الأشياء وكانت مع النساء وكانت محاطة بعيدة عن الرجال فأرجو أن يكون هذا من باب الحاجة والضرورة، أما إذا اختل واحد من هذه الشروط فإن النهي يأتي عن طريق هذا الشرط الذي فقد.

الزواج في سن مبكر

الزواج في سن مبكر Q أنا طالب جامعي وحيد أسرتي، ويطلبون مني أن أتزوج، مع العلم أني لا أستطيع أن أنفق على هذه الزوجة، فهل تنصحوني بأن أتزوج، أم أصبر حتى تنتهي الدراسة ثم أتوظف وآخذ الراتب؟ A ننصحه بأن يبادر كما نصح الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب، فإنه قال في الحديث الصحيح: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج). وأقول: إن المبادرة بالزواج تعتبر من أهم الأمور التي تحصن هؤلاء الشباب، خصوصاً في وقت الفتنة الذي نعيشه اليوم، فإنه وقت خطير جداً فيه وسائل مغرية وفتن. فأقول: بادر -يا أخي- بالزواج، وإذا كان يحول بينك وبين الزواج شيء من المال فإننا ندعوا إخواننا المحسنين والذين منَّ الله عليهم بهذا المال أن يقدموا المساعدات لمثل هؤلاء، وإذا كان العائق أمام هذا الأخ أن يبني بيتاً، أو يشتري سيارة جميلة أو ما أشبه ذلك فإني أقول: اتق الله يا أخي؛ فإن الزواج يقدم على كل هذه الأشياء، فباستطاعتك أن تستأجر بيتاً، وباستطاعتك أن تملك سيارة أقل مما تفكر فيه. إن الزواج له أهمية لا تساويها أي أهمية أخرى، إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج العبد فقد حفظ شق دينه، فليتق الله في الشق الآخر) يعني أن الزواج يساوي نصف الدين، وعلى هذا فإن كثيراً من الشباب نلاحظهم في أيامنا الحاضرة إذا قيل لأحدهم: تزوج قال: أريد أن أُكَوِّن نفسي. إلى غير ذلك من الأعذار، إن الزواج يسبب الثراء، ويسبب توافر الخير بيد هذا المتزوج، والله تعالى يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لمن تزوج وهو فقير أن يغنيه الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله أن يعينهم) منهم الرجل يتزوج يريد إعفاف نفسه. فأقول: أرجو -يا أخي- أن تكون من هؤلاء الثلاثة، ولو كنت لا تملك إلا شيئاً يسيراً فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، فأنت لن ترزق المرأة حينما تتزوج بها، وإنما رزقها سيأتيها من عند الله عز وجل مباشرة، وسيفتح الله عليك طرقاً من الرزق ما كنت تفكر فيها قبل أن تتزوج، فبادر يا أخي.

حكم قص المرأة شعر رأسها

حكم قص المرأة شعر رأسها Q هل يجوز قص المرأة المتزوجة شعر رأسها، ونتف شعر وجهها وحاجبيها، وهل هذا يعتبر من الفتنة في شيء؟ A الذي أعتقده أن المتزوجة وغير المتزوجة على حد سواء، وأن شعر الرأس إذا كانت المرأة تريد أن تقص مقدمته أو مؤخرته أو أي جهة فإنا نقول: ما هو الهدف؟ فإذا كان الهدف هو التشبه بالكافرات فهذا ممنوع ومحرم؛ لأنه لا يجوز أن يتشبه المؤمن بالكفار والمؤمنة بالكافرة. وإذا كان الهدف هو التجمل لزوجها إذا كانت متزوجة، أو لتخطب إذا كانت ستتزوج، ولا يأتي في ذهنها التشبه بالكافرات فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس؛ لأن القاعدة: (الأصل في العبادات التحريم إلا ما جاء به الشرع، والأصل في العادات الحل إلا ما ورد الشرع بتحريمه) ولم يرد الشرع بتحريم أن تقص المرأة رأسها، بل قد روي خلاف ذلك، روي أن بعض زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فعل بعضهن شيئاً من ذلك، وعلى كل فإن الأصل هو الإباحة إلا إذا كان قصد هذه المرأة التشبه بالكافرات فإن هذا ممنوع، لا لذاته وإنما لغيره؛ لأنها تريد أن تتشبه بامرأة كافرة، أما الأصل فأعتقد أنه هو الإباحة، والله تعالى أعلم.

حكم إضاعة الأموال في تتبع الموديلات والأزياء

حكم إضاعة الأموال في تتبع الموديلات والأزياء Q هناك بعض النساء ترهق زوجها وتغضبه، وتجهد نفسها في شراء آخر موديلات الملابس، فما هو الحكم؟ A هذه من أكبر الأخطار، تتبع الموديلات والأنواع من الألبسة التي تواجد في الأسواق، وأخطر من ذلك هؤلاء الذين يروجون هذه الأشياء، حتى كان من هذه الموديلات ما يثير الفتنة في الرجال على النساء بسبب هذه الملابس، وعلى كل فأول وأقل ما في هذه الأمور هو تضييع المال، وهذا المال هو مال الله عز وجل؛ لأن الله قال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فدل على أن هذا المال مال الله، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى وفي المباح، والمغالاة في الألبسة والذهب والموديلات والموضات يؤدي إلى إفساد هذا المال، وهذا المال فيه حقوق كثيرة، فلنا إخوان كثيرون يفقدون لقمة العيش، ومن الذي يستفيد من هذه الأشياء؟! مصانع تكون في بلاد الكفر، وربما تذهب كل هذه الأموال أو جل هذه الأموال إلى بلاد الكفر التي تصدر لنا هذه الألبسة وهذه الأقمشة. وعلى كل فإني أقول: نحن ملزمون بالاقتصاد، حتى لو كانت المرأة ذات مال وتحصل على المال بنفسها فإنها ملزمة بهذا المال أن تحافظ عليه وفق شرع الله عز وجل، أو كان هذا المال لزوجها فلا ترهق هذا الزوج بما لا تستفيد منه، أو بما لا يستفيد منه المجتمع، ولها أن تأخذ بنصيب من هذه الزينة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، لكن ليس لها أن تبالغ كما يبالغ كثير من النساء في أيامنا الحاضرة، فتغير الذهب بعد كل فترة، فتخسر فيه أموالاً كثيرة، وتغير الألبسة، وتهجر هذه الملابس الجديدة التي تغيرت الموضة بالنسبة لها وجاءت موضة جديدة، هذه من أكبر الأخطار وأكبر الفتن، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق النساء للالتزام والمحافظة.

حكم أخذ الولي مهر موليته

حكم أخذ الولي مهر موليته Q هل يجوز لولي أمر المرأة أن يأخذ مهرها وينفقه في مصالحه، وأن يدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؟ A هذا لا يجوز، والصداق للمرأة، فالله تعالى يقول: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] دليل على أنه حق للمرأة، حتى الأب لو كان أنفق عليها وخسر أموالاً كثيرة على تربيتها ليس له حق في هذا المهر؛ لأن هذا الإنفاق واجب على الرجل يوم كان ينفق عليها؛ لأنه أمر بالإنفاق على ابنته كما أمر بالإنفاق على سائر من تلزمه النفقة عليهم، وعلى كل فإن هذا المهر للمرأة، ولا يجوز للرجل أن يأخذه بدون إذنها إلا إذا رضيت هي، كما لا يجوز للرجل أن يصرفه على موائد وحفلات الزواج بدون إذنها وبدون إرادتها، ولكن لها أن تتطوع فتقدم لأبيها أو لأي واحد من أقاربها شيئاً من هذا المهر، أما إذا كانت لا ترضى ذلك فإنه لا يجوز؛ لأنه حق لها وليس حقاً له هو. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فهذا له شروط، يقول العلماء: من شروطه أن لا يأخذه فيضر بالولد، وأن لا يأخذه ليتملكه ولد آخر؛ لأن فيه ظلماً، فإذا كان هذا الأب مضطراً وليس له غير هذه البنت وهو مضطر إلى النفقة، وإلى أن يعيش بشيء من هذا المال فلربما يتسامح في شيء من ذلك، أما الأصل فإنه مال للمرأة، فلا يجوز أن يأخذه ليتملكه ولد آخر، أو إذا كان يشاركه أولاد آخرون في هذا المال فكذلك لا يجوز أن يأخذه؛ لأن هذا ظلم لهذه المرأة أن يأخذه منها ليعطيه أولاده الآخرين.

إلزام الزوج بنفقة زوجته العلاجية

إلزام الزوج بنفقة زوجته العلاجية Q علاج المرأة هل هو على الأب أم على الزوج؟ A الأصل أن كل النفقة على الزوج، والعلاج جزء من النفقة، وعلى هذا نقول: إن المرأة إذا تزوجت أصبح الأب غير مسئول عنها، وأصبح الزوج ملزماً بالنفقة على زوجه في كل صغيرة وكبيرة، اللباس والعلاج والسكن والنفقة وغير ذلك من الأشياء التي لابد منها للإنسان، فالأب غير مسئول منذ أن يعقد الزوج على هذه البنت، وتصبح المسئولية هي مسئولية الزوج.

مجمل الأخطار التي تحيط بالمرأة

مجمل الأخطار التي تحيط بالمرأة Q ما هو مجمل الأخطار التي تلاحق المرأة؟ A نستطيع أن نلخصها في أمور: فمن هذه الأخطار: دعاة الضلال الذين يخدعون المرأة باسم حقوقها وحريتها، وهؤلاء يكثرون في أيامنا الحاضرة تحت ستار تعليم المرأة، فتعليم المرأة حق من حقوقها، لكن هذا التعليم يجب أن تكون له ضوابط، فيجب أن يقف عند حد معين بحيث لا يتعارض مع سن الزواج الذي يرغب فيه في هذه المرأة, وأيضاً أنواع المعلومات ليست كلها من اختصاص المرأة، فالمرأة تختص بما تعرف فيه دينها، وتربية أولادها، والإعداد في بيتها إلى غير ذلك، مع بعض الأمور العصرية التي تحتاج إليها. كذلك العزوف عن الزواج، وهذه من الأخطار، وهذا قد يكون عن طريق المرأة نفسها أو عن طريق الرجال، وطريق الرجال كما عرفنا يكون في عنصر من هذه العناصر، وهو غلاء المهور. ومن هذه الأشياء المغالاة في المهور، وهذا قد يكون من جانب الأب أكثر؛ لأن البنت غالباً لا تطلب مقداراً معيناً من المهر، فقد يكون هذا الأب هو الذي يتسبب في المغالاة في المهور، فتفقد البركة بين الزوج والزوجة في هذا الزواج، ولذلك يكثر الطلاق بمقدار ما تزيد المغالاة في هذه المهور. كذلك تقليد الأعداء، فهذه من أكبر الأخطار، والمرأة لديها من العواطف وضعف الشخصية ما هو أكثر من الرجل، بحيث تصاب المرأة بالتقليد أكثر مما يصاب به الرجل. وأنبه على أن العزوف عن الزواج يعتبر من أكبر المشاكل، وربما تكون له أسباب تكوينية في هذه المرأة، وهذا لا تؤاخذ عليه المرأة أو الرجل، وإنما إذا كانت الأسباب عن طريق الإنسان نفسه يصطنعها ليؤدي ذلك إلى العزوف عن الزواج، وأهمها: إذا كان التعليم لا يقف عند حد، أو كانت هناك مغالاة في المهور تؤدي إلى أن ينصرف الناس عن هذه المرأة، أو كانت هناك مغالاة في النسب، بحيث يشعر هذا الرجل بأنه أعلى الناس نسباً، ولا يريد إلا نوعاً يشابهه في هذا النسب، فإذا جاءت هذه الأمور أدت إلى انصراف الناس عن هذه المرأة، فيؤدي ذلك إلى عنوستها. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السعي المشكور

السعي المشكور لقد استنفر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة للجهاد في سبيله، ورتب عليه العزة في الدنيا، والفوز في الآخرة، ومن الجهاد في سبيل الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو سفينة النجاة للمجتمعات والأمم، وهو صمام أمان من الهلاك والعقاب، وله شروطه وضوابطه التي حددها الشرع، والتي ينبغي على من يتعدى له أن يتعلمها ويلتزم بها.

همة النصارى وكسل الدعاة إلى الله

همة النصارى وكسل الدعاة إلى الله نحمد الله حمداً طيباً مباركاً فيه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته، ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فكل الناس يعملون، منهم من يعمل للدنيا، ومنهم من يعمل للآخرة، ومنهم من يسعى ليدمر أخلاق الأمة، ومنهم من يسعى لحماية هذه الأمة من مزالق البلاء والدمار، ومنهم من التبس عليه الأمر فأصبح سعيه في نظره مقبولاً وعند الله مرفوضاً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]. ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كل الناس يغدو -أي: يسير ابتداءً من الصباح منطلقاً مبكراً للعمل- فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يبيعها الله عز وجل ويعتقها من النار، وإما أن يوبقها، وكلهم يعملون، ولربما يتعب أعداء الإسلام الذين يحاربون الإسلام ولا يرجون الجنة أكثر من أن يتعب دعاة الخير والصلاح، لكن الفرق بيننا وبينهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104]. وإن أعجب ما أتعجب له حينما أدخل في مجاهل أفريقيا في غابات موحشة، فأرى فتياناً وفتيات من النصارى يأتون من قلب أوروبا ومن روما، يركبون البقر، ويتجولون في الغابات الموحشة، ويشربون المياه الآسنة، مع شظف العيش والبعوض والحر والمخاوف والمخاطر وهم في سن مبكرة في أيام الشباب والنعومة، ثم أتعجب وأتساءل: لماذا جاء هؤلاء؟ لماذا هؤلاء لم يتمتعوا ببلادهم التي هي متعة الناس، وهم لا يرجون الجنة؟! فأتذكر قول الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. لكني أعجب من كون هؤلاء أبناء النصارى وبنات النصارى الذين لم تبق فطرتهم السليمة، بل حيل بينهم وبينها، وهم حطب لجهنم إلا إذا دخلوا في الإسلام، وأسأل مرة أخرى وأقول: أين أبناء المسلمين؟ بل أين أبناء الجزيرة العربية؟ أين أبناء مكة والمدينة وما حولها الذين هم أول من حمل هذه الرسالة وأول من كُلف بها، وهم أول من يُسأل عنها يوم القيامة؟! فلا أستطيع أن أجيب نفسي؛ لأني لا أرى إلا نادراً من أولئك، أما الكثرة الساحقة فهم أبناء النصارى الذين يعيثون في الأرض فساداً. قلت: سبحان الله! سنة الله في الذين خلوا من قبل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104]. وصدقني -أخي الكريم- أن هناك غابات في وسط أفريقيا ندخلها لا نصل إليها إلا بشق الأنفس، بسيارات جيب خاصة جداً، تخترق الرمال والوحوش والأمور المخيفة، ثم نجد هؤلاء الذين يعيشون طيلة حياتهم قد تطوعوا سنين طويلة في حرب أبناء المسلمين على الفطرة، يأخذون الأطفال من أمهاتهم الفقيرات، فيربون الأطفال، تربيهم المرأة على الحليب المركز، وتحتضن هذا الطفل الأسود وهي أشد بياضاً من الشمس، فتربيه كأنها تربي طفلها الذي خرج من جوفها، وأبناء المسلمين أكثرهم يغطون في نوم عميق!

شروط العمل المقبول عند الله تعالى

شروط العمل المقبول عند الله تعالى يذكر الله عز وجل شروطاً للعمل المقبول، بعد أن ذكر أقواماً همهم الدنيا كالآلة التي تدور وتتحرك في الوقود بدون إرادة، لا يشتغلون إلا بالدنيا، ولا يريدون إلا العاجلة، ولا يفركون في غير المتاع، يسمنون أنفسهم وأهليهم كما تسمن الماشية، لا يهتمون إلا بالطعام والشراب والجنس وما أشبه ذلك، ثم إذا قدموا على الله عز وجل إذا هم على أسوأ حال، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] ما يشاؤه الله تعالى لا ما يشاءونه هم، وليس كل ما يريدون، بل ما يريده الله سبحانه وتعالى، والنتيجة: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18] هؤلاء هم أصحاب العاجلة، وهؤلاء هم الذين ليس لهم هم إلا هم البهائم السائمة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]. أما النوع الثاني فهم أقوام عرفوا الهدف الذي من أجله خلقوا، والحكمة العظيمة التي من أجلها كانوا، فعرفوا أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وأن الآخرة هي الحيوان، فعلموا بعين البصيرة الحكمة التي من أجلها خلقوا، فكانوا كما أخبر الله عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، فهذا هو السعي المشكور، وهذا هو الجهد المدخر عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العمل الذي يجب أن يكون همَّ كل الناس، لا سيما في هذه الأيام التي تبين فيها -والحمد لله- الرشد من الغي. خمسة شروط -يا أخي- لا بد منها في صحة العمل وقبوله عند الله سبحانه وتعالى. خمسة شروط إذا أردت أن يقبل منك العمل فلا بد من أن تهتم بهذه الشروط الخمسة، ولا بد أن تتأكد من صحة وجودها في عملك، وإلا فإن الله تعالى أخبر أن هناك أقواماً يوم القيامة يصلون النار وقد كانوا في الدنيا خاشعين عابدين، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] يعني: بالرغم من أنها خاشعة في الدنيا وعاملة تعمل الصالحات (ناصبة) تبذل جهداً كبيراً ومشقة في سبيل العمل الصالح لكنها تصلى ناراً حامية، لماذا؟! لأن هذا العمل لا يقوم على أساس عقيدة صحيحة سليمة، ولأن هذا العمل لا يوافق منهجاً سليماً جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من عند ربه، فكانت النتيجة: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4]. أما هؤلاء القوم فخمسة شروط تتحقق في أعمالهم، ويكون سعيهم مشكوراً.

قصد وجه الله تعالى والدار الآخرة بالعمل

قصد وجه الله تعالى والدار الآخرة بالعمل قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ} [الإسراء:19] أي عمل لا يراد به وجه الله والدار الآخرة لا ينفع صاحبه، ولذلك الله تعالى يقول عن قوم كفار عملوا خيراً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، تسير في الصحراء في شدة الحر فترى كأن أمامك ماءً، وينخدع ذلك العطشان بذلك الماء ويركض، كلما قرب منه ابتعد السراب الذي على وجه الأرض، حتى يهلك هذا الإنسان وهو يتبع ذلك السراب: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] أين ذهب هذا العمل؟ كأنه رماد خفيف الحجم والوزن هبت عليه ريح شديدة فطار في الهواء؛ لأن هذا العمل رماد وليس بنار، ولأن هذا العمل صورة وليس بحقيقة. إذاً لا بد من إرادة الآخرة، والمنافقون لا يريدون الآخرة، وإنما يعملون العمل تقية حتى يعيشوا في المجتمع مع الناس، ولذلك الله تعالى لا يتقبل شيئاً من أعمالهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] العلمانيون -عليهم جميعاً لعنة الله إلى يوم القيامة- لا يعملون للآخرة، وإذا عملوا فإنما يعملون أموراً هم يستحسنونها فقط، فيقولون: هذا الدين عبادة فتذهب إلى المسجد، وتحج إذا جاء موسم الحج، وتتصدق على الفقراء من باب الإنسانية، وتصوم إذا جاء رمضان، لكن ما الذي يدخل الدين في أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاق؟! كل ما شئت، واشرب ما شئت، وافعل ما شئت، ولا تتقيد بهذا الدين في أي نظام؛ لأن هذا الدين للعبادة. ويقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ولكن الله عز وجل يقول: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:284] ولذلك أعمالهم كسراب بقيعة. وهكذا سائر الملل والفرق التي تعبد الله سبحانه وتعالى بدون إرادة الآخرة، يتصدق فيقول: إنسانية وهكذا يؤوِّل كل عبادة من العبادات لمصلحة الدنيا لا لمصلحته هو في الآخرة. العمل الصالح لا يصح إلا بإرادة ونية صادقة لا يريد من ورائها جزاءً ولا شكوراً من الناس، وإنما من الله سبحانه وتعالى، لا يبغي بها ثناءً من البشر، وإنما من الله عز وجل، إرادة جازمة للآخرة، هذه الإرادة لما كانت جازمة وثابتة في أعماق الفؤاد لا يستطيع أحد أن يطاردها ولو بقوة الحديد والنار، ولذلك تجد أنه كم بذل العدو في سبيل مطاردة هذا الدين فلم يفلح؛ لأنه وجد أمماً كالجبال لا يتحولون عن مواقعهم، قال الله عن مكرهم: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] لكنهم وجدوا أقواماً عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان، فما استطاع العدو أن ينال منهم منالاً واحداً، ولا أن يكسب منهم فرداً أبداً. ولقد كسب العدو أقواماً إيمانهم بسيط، إيمان تقليدي وراثي، ورثه هذا الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه، فأصبح هذا الإيمان غير ثابتٍ في أعماق القلب، وليست له جذور، فأدى ذلك إلى أن يتأثر هذا الإيمان بأول هزة، وكم نسمع أن فلاناً من الناس اهتدى واستقام، ثم نفاجأ بعد مدة وجيزة أنه استقام ورجع واستقام ورجع، السر في ذلك أن هذا الإيمان لم يتعمق في القلب، ولو تعمق في القلب ووصل إلى سويداء القلب ما كان أحد يستطيع أن يؤثر على هذا الإيمان، وسوف أضرب بعض الأمثلة: المثال الأول: أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصل إلى درجة من الإيمان لم يصل إليها إنسان قط إلا ما شاء ربك، يلقى في النار فيأتيه ملك من ملائكة الله فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وهو في طريقه يهوي إلى نار تحرق الطير في السماء، يقول: أما إليك فلا. ما خاف من النار؛ لأنه يعرف أن النار بيد الله سبحانه وتعالى، يؤمر بترك ولده الصغير الوحيد الطفل هو وأمه ليضعهما في مكة بواد غير ذي زرع، فيستجيب لأمر الله، وما قال: تأكل الطفل السباع أو تأكل أمه. وإن كان الاحتياط مطلوب في الأصل، لكن استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى. ويؤمر بذبح ولده وقد بلغ معه سن السعي ثم يستجيب لأمر الله، ولم يقل: هذا ولدي الوحيد، ولقد بلغ سن السعي وأنا بحاجه إليه. فيعلم الله صدق إيمانه فيفديه بذبح عظيم، ما هو السر في ذلك؟ هل إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة متدينة، وعاش عيشة متدينة، وجد الأب يصلي والأم تصلي وقلدهما، أم أن إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة كافرة كل من فيها كافر، ليس فيها رجل واحد مؤمن إلا إبراهيم عليه السلام؟ ولذلك الله تعالى يقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] هو أمة والعالم كله أمة، وهكذا يكون الرجل المؤمن أمة في عالم يخالفه في المنهج والعقيدة؟! إبراهيم عليه الصلاة السلام ولد في بيئة كافرة، وأقرب الناس إليه وأكثر الناس عداوة له أبوه، قال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] لكن السر في ذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بحث في هذا الكون لينظر من يستحق أن يعبد، فنظر مرة إلى الكوكب فقال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76 - 79]، هنا يكون الإيمان القوي، ولذلك الله تعالى يقول لنا وللناس كافة: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:185] ويقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191]. مثل آخر: السحرة الذين جاء بهم فرعون ليقابلوا آية الله التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام، سحرة ولدوا في بيئة كافرة، بيئة سحر، ومنذ طفولتهم وهم يتدربون على السحر، ويعيشون مدة طويلة من الزمن حتى كبر سنهم وهم لا يعرفون إلا السحر والكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هذه آية رأوها بأعينهم واستطاعت أن تمحو وتزيل كل آثار التربية السيئة التي ألفوها مدى الحياة، الذي حدث أن موسى عليه الصلاة والسلام ألقى العصا وهي آية الله العظمى لموسى عليه الصلاة والسلام، فرأوا أن مثل هذا لا يكون سحراً، وإنما هي آية من آيات الله عز وجل؛ لأنها فوق مستوى السحر، فإنهم قد فهموا السحر وهضموه هضماً كاملاً، فلما رأوا الآية تغير كل ما في عقولهم من التفكير السابق والتربية التي حقنت في دمائهم منذ الطفولة وقبل الطفولة وبعد الطفولة إلى تلك اللحظة، والفطرة موجودة في قلب كل واحد من الناس، لكن ما الذي حدث؟! كانوا قبل لحظات يقولون: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فماذا قالوا بعد ذلك لما رأوا الآية وماذا قال فرعون؟ خروا ساجدين لله تعالى، وهي السجدة الأولى والأخيرة بالنسبة لحياتهم العبادية، تصور -يا أخي- هذا التحول العجيب الذي يحصل! ثم ليس العجيب في أن يسجدوا لله عز وجل؛ لأن السجدة ما تكلف الإنسان جهداً كبيراً، العجيب أن أكبر طاغية في الأرض يحمل السكاكين والجلادين ويقسم لهم بأنه سوف يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم في جذوع النخل، فماذا تتصور يا أخي! ساحر ما مر على إيمانه إلا دقائق، وكل حياته في الكفر، فماذا تتصور والسكاكين أمامه والجلادون والسيوف والحراب مجهزة لتقطيعه؟! أول ما يتبادر للذهن أن هذا سيرجع؛ لأن التربية القديمة قد غلبت عليه، ولكن ما الذي حدث؟!! الذي حدث أنهم استهانوا بكل الحياة وما فيها؛ لأنهم رأوا بأعينهم آية من آيات الله، آية واحدة!! كم نرى نحن من آيات! وكم مضى علينا ونحن نعيش في ظل هذا الدين! وكم تربينا في بيئات مسلمة! لكن هؤلاء ما مرت عليهم إلا دقائق، تصوروا أنه لما قال لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] ماذا قالوا؟ قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] (ما) اسم موصول تفيد العموم، كل ما تريده اعمله، لكنها للاستهانة التي لغير العاقل، أي: نحن نستهين بك وبتهديدك، وبالجلادين الذين أشرعوا السيوف لتقطيع الأيدي والأرجل، وأقبلنا على الله عز وجل، ما تستطيع أن تؤثر على هذا الإيمان. ثم تجد الاستهانة بالدنيا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: اقض ما شئت. ثم قالوا: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] (إنما) للحصر، أي: الأمر الذي تريده منا بسيط، اقتلنا، وقطع رءوس مائة ألف ساحر، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى يموتوا، لكن الإيمان لا تستطيع أن تصل إليه، فهم استهانوا وقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. وقالوا: {إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا ل

السعي للآخرة

السعي للآخرة أول نقطة وأول شرط من شروط السعي المشكور الإرادة، وليست كل إرادة، هناك أناس يريدون الدنيا، فلا بد من إرادة الآخرة إرادة جازمة صادقة. وهل الإرادة وحدها تكفي؟ لا تكفي وحدها، بل لا بد من السعي، والشجرة الباسقة ذات الجذور العميقة في قلب الأرض الفائدة منها محدودة إذا لم تكن لها ثمرة، والأعمال الصالحة هي ثمرة الإيمان، ولذلك الله تعالى يقول: (وَسَعَى) أي: بالأعمال الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: صحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، ودنياك قبل آخرتك) كم من الناس من يتغنى ويتحدث عن الإسلام اليوم لكن العمل قليل، ونحن لا نريد أن نقول ما لا نفعل {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] لابد من العمل، عمل فيما بينك وبين الله، وعمل فيما بينك وبين الناس، عمل يسعدك أنت في دنياك وآخرتك، وعمل أيضاً يسعد الأمة التي أنت تعيش فيها والجيل الذي سيأتي بعدك، وهو عمل الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأن هذا الدين وضعه الله عز وجل في أعناق هذه الأمة جيلاً بعد جيل، فإن حمله الجيل الأول جنى ثمرة حمله الجيل الذي يأتي بعده، وإن ضيعه الجيل الأول تكبد مصيبته الجيل الذي يأتي بعده، ولذلك كم عاش الناس في ظل الدولة الإسلامية الوارفة التي بناها سلفنا الصالح رضي الله عنهم، وبقي المسلمون يتفيئون ظلها مئات السنين، ويسيرون أرجاء المعمورة قد رفعوا رءوسهم، إذا قيل لأحدهم: أين تذهب؟ - قال: إلى بلاد الإسلام؟ وإن قيل: من أنت؟ قال: أنا المسلم. وإن قيل: ما جنسيتك؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإن قيل: ما هويتك؟ قال: أنا مسلم. ليست هناك حدود تفرق بين الأمة الإسلامية، هذه ثمار عمل قدمها سلفنا الصالح، فماذا حدث بعد ذلك حينما نام من بعدهم؟ لم يستيقظوا إلا على الجماجم والأشلاء، ضاعت الأندلس، وضاعت دول كثيرة من بلاد المسلمين، وفي كل يوم يسقط حصن من حصون المسلمين، وفي كل يوم يتسلط الأعداء ويخرج عدو بلون جديد، حتى من أبناء جلدتنا. ما هو السر في ذلك؟ هو النوم الذي أصاب هذه الأمة إذاً لا بد من أن تستيقظ هذه الأمة، لا بد من أن تعمل لآخرتها، لا بد من أن تعمل لدنياها، لا بد من أن تعمل للجيل الذي سوف يأتي بعدها، وهذه الصحوة الإسلامية المباركة -والحمد لله- ما تركت صقعاً من أصقاع هذا العالم إلا وأخذ منها بنصيب، فلا بد من أن ترعى هذه الصحوة، لا بد من أن تقدم لها النصيحة، ولا بد من أن تقدم لها الخدمات، ولا بد من أن تقدم لها الرعاية والتربية والعلم حتى تكون ثابتة، وتكون قاعدة لمن يأتي بعدها من الأجيال اللاحقة. فهذه ثمرة الإيمان أيها الأخ المسلم، أما الإيمان التقليدي، إيمان: (وجدنا آباءنا على أمة)، إيمان (وجد أمه، تصلي فصلى مثلها) (وجد أباه يصوم فصام مثله) دون تصور لمعنى هذا فهذا الإيمان ضعيف يهتز في أي صدمة من الصدمات الصغيرة فضلاً عن الصدمات الكبيرة. لما جاءت الصحوة الإسلامية استيقظ كل أعداء الإسلام، فالنصارى كانوا إلى عهد قريب يبيعون الكنائس، ويقولون: لسنا بحاجة لنحجزها بالملايين، ولا يحضر إليها إلا كبار السن في يوم الأحد. وأول من تخلى عن هذا الدين الدول الكبرى التي كانت ترعاه، كأمريكا ودول أوروبا، فلما رأوا اتجاه المسلمين إلى الإسلام عادوا إلى دينهم المحرف المكذوب الذي ليس من دين الله المسيحي بشيء؛ لأنه محرف، وأصبحت الآن هناك عصبية دينية، وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظروا إلى ما يوجد في بلاد الصرب الكفرة الفجرة مع إخواننا في البوسنة، وانظر إلى ما يوجد الآن في إرتيريا والحبشة ممن يسمون أنفسهم بالجبهة الشعبية وهم صليبيون، حتى إن رئيس الحبشة الجديد اسمه: ملس زيناوي ومعناه: معيد عصر النصرانية. وهذا ليس هو اسمه، لكنه تسمى بهذا الاسم (ملس زيناوي) أي: معيد عصر النصرانية. أي: سيعيد عصر هيلاسيلاسي الذي كان يذبح المسلمين بالآلاف في يوم من الأيام. فلينتبه المسلمون، مع أن في الحبشة وحدها ثلاثين مليون مسلم، وليس فيها إلا عشرة ملايين نصراني، فالمسلمون ثلاثة أرباع السكان، فليسوا أقلية، ومع ذلك يعيشون أذلة؛ لأن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، وليس هناك طريق إلى النصر إلا الجهاد في سبيل الله، وإريتريا أكثرها مسلمون، ويحكمها النصارى الصليبيون الذين يعيثون في الأرض فساداً. إذاً المسألة مسألة استيقظ فيها النصارى وخافوا أن يتساهل المسلمون بشأنهم، وماذا حدث في الفلبين؟ مائة ألف صليبي يطوقون منطقة المسلمين، ولا تظن أن المسلمين قلة في الفلبين، فعددهم ثلاثة عشر مليوناً من المسلمين والحمد لله، وأبشرك بأن أكثرهم في خير، فعندما تدخل ديار بعضهم في بعض المناطق الجبلية يفتشون السيارة حتى لا يكون فيها دخان؛ لأنه ممنوع التدخين داخل تلك البلاد، لكن عندما نزور مستشفياتنا ومراكزنا لا نرى فيها من الفلبينيين إلا النصارى، فما هو السر في ذلك؟ السر في ذلك أن المسئولية أصبحت خطيرة، فيندر أن نرى تايلاندياً أو فلبينياً مسلماً في موقع عمل حساس. وفي تايلاند ثمانية ملايين مسلم في دولة كاملة في دولة (فطاني) التهمتها سيام بما يسمى الآن (تايلاند) أي: أرض الحرية. وثلاثة عشر مليوناً من خيار المسلمين، وكما أن هناك من خيار المسلمين في تايلاند فالذين يأتون بالعمال لا يفكرون بهؤلاء المسلمين إلا في آخر وقت. إذاً هذه أمور تتطلب منا أن ننتبه للخطر الذي يحيط بالأمة الإسلامية، وهذه أمثلة وهناك ما هو أكثر من ذلك. إذاً: أنت -أيها الأخ المسلم- مطالب إلى أن تسعى، سواءٌ أكان لمصلحتك أم لمصلحة دينك، أم لمصلحة إخوانك المسلمين، وكلمة (سعى) ليس معناها مجرد عمل، معناها عمل جاد، وهناك فرق بين المشي والسعي، أقول: مشيت إلى مكتبي وسعيت إلى المسجد، ولذلك تجد أكثر الآيات والأحاديث التي تتكلم عن العمل للآخرة تأتي بلفظ السعي: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران:114] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] (سارعوا) دائماً هكذا. لكن تعال إلى الحديث عن الدنيا، يقول تعالى عنها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] لم يقل: (فاسعوا في مناكبها) وليس معنى ذلك أن تعطل الدنيا، لا، وإنما معنى ذلك أن نفرق بين اتجاهنا للحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، فإذا اتجهنا للحياة الآخرة فبركض وسعي، وإذا اتجهنا للحياة الدنيا فبمشي؛ لأن الله تعالى تكفل بالرزق للإنسان، ولكن لم يتكفل له الجنة، وعلى هذا فإن الله تعالى يقول: {وَسَعَى} [الإسراء:19] فلا بد من الأعمال الصالحة. إذاً التحدث عن الإسلام والدندنة عن الإسلام والكتاب والسنة ما نريده إلا إذا كان معه حقائق وكان معه تطبيق على جميع المستويات الرسمية والشعبية، ما نقبل إلا ما كان مصدقاً بالعمل، وأنت -يا أخي- حينما تتحدث عن الإسلام فالإسلام كثر الكلام عنه هذه الأيام، لكن نريد تطبيقاً، نريد حياة عملية تعلمنا وتعلم الأجيال التي اتجهت إلى الله تعالى العمل للإسلام، وما هو الإسلام حقيقة، لا نريد أن تكون هناك ازدواجية في حياة الأطفال الذين يولدون في أيامنا الحاضرة ويسمعون الحديث عن الإسلام، فلا يرون العمل للإسلام إلا قليلاً، إذاً لا بد من سعي، لا بد من عمل جاد، لا بد من استغلال الفرصة قبل أن يهجم العدو على بقية بلاد المسلمين كما هجم على الكثير منها، حتى لا تكون هناك أندلس كبلاد الأندلس التي بلغت من الرقي والحضارة ما لم تبلغه حضارة اليوم، ومع ذلك لما نام المسلمون على الراحة والدعة لم يستيقظوا إلا على الدماء، ولربما يوجد في قادة الأمة الإسلامية من يريد أن يخدر هذه الشعوب، بل يوجد كثيرٌ، جلهم يخدر هذه الشعوب بالترف والنعيم والرخاء والوسائل حتى ينام هؤلاء المسلمون ولا يستطيعون الجهاد في سبيل الله، ولا يريدون أن يغيروا الأوضاع الراكدة التي ينعمون بها، وهذا خطر، فـ كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحباه من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ كعب بن مالك كان له بيت رشته إحدى زوجاته بالماء فأصبح بارداً، فجلس في الجو البارد والرسول صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى تبوك، وقعد مثله صاحباه، فما الذي حدث؟ الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يهجرهم، كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118]، بسبب تخلف عن غزوة واحدة. أنت -أيها الأخ المسلم- مطالب بالسعي، وأوصيك بالدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبيل العزة والكرامة.

الإخلاص لله سبحانه

الإخلاص لله سبحانه ثم يقول سبحانه وتعالى: (وَسَعَى لَهَا) والجار والمجرور هنا يعطينا شرطاً جديداً، قد يكون هناك سعي لكنه ليس لها، وإنما لغيرها، فالمنافقون يسعون لا للآخرة وإنما للدنيا، والعلمانيون يريدون أن يتخذوا مما يشبه السعي للحياة الآخرة جسراً وممراً لخديعة الناس بأنهم مسلمون ومتدينون، وهكذا كل الفئات الأخرى، فلا بد أن يكون السعي ابتغاء مرضاة الله عز وجل ومن أجل إعزاز هذا الدين. (سَعْيَهَا) وهذا شرط رابع أيضاً، فالأسلوب والمعنى يتم (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الكلام تام، لكن قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يعطينا شرطين جديدين: أن يكون السعي خالصاً لوجه الله عز وجل، وأن يكون سعياً لها، ما يناسب حجمها، وكم من الناس من يسعى الآن، لكن ليس هو سعيها الذي يوصل إليها، وإننا لنمر ببعض الأضرحة من أجل العبرة لنرى ماذا يعمل المسلمون حول الأضرحة والقبور، فنرى أموراً عجيبة لا أطيقها أنا ولا أنت ولا أتقى الناس، حركات وعبادة من أول الليل إلى آخره حتى الصباح، يهزون أجسامهم، ويرهقونها، لكن ليس سعياً للآخرة، وإن كان في ظاهر أمره حسب ما يعتقدون أو يموهون بأنه هو السعي المطلوب، يتمسح بالقبر ويطوف حوله، يخشع ويسجد، ويتمرغ بالأتربة حوله، إلى غير ذلك. وكذلك أصحاب البدع الذين يبذلون أموالهم وجهدهم في سبيل بدعة من البدع، هذا هو ليس سعيها، سعيها هو كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى إذا قلنا لأحدهم: لا تذهب -يا أخي- إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتسأل حاجتك من دون الله، واذهب إلى الله، فقد قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يفر إلى الله، ويقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] إذا قيل لهم ذلك قالوا: أنتم لا تحبون الرسول عليه الصلاة والسلام. نقول: أنتم الذين لا تحبونه؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محبة عاطفة كمحبة الزوجة، ومحبة الأولاد، وإنما هي محبة عاطفة ومحبة متابعة، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. إذاً نحن مطالبون بأن نسعى لها سعيها لا سعياً لغيرها، سعياً يناسب حجم الآخرة وطريق الآخرة الطويل، وسعياً أيضاً يناسب المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خالصاً صواباً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي نرددها في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة وفي كل شيء، معناها: طاعته وتصديقه واتباعه، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع، فمن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. ومن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العدو اللدود للرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عمله في الظاهر يعجبك وكأنه عبادة، لكن لا بد أن يكون موافقاً صواباً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإن عملنا عملاً لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود علينا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلفنا الصالح -لا سيما الخلفاء الراشدون المهديون من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - وعلى غير المنهج الصحيح فإن الله تعالى يرده على صاحبه ولا يقبله، لماذا؟ لأن من يفعل ذلك يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير، وأنه ما بلغ الرسالة كلها، فـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما كانوا يقيمون مولد ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي شخص بعد أربعة عشر قرناً من الزمن يقول: لا، إن من احترام الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقيم مولده! والرسول صلى الله عليه وسلم ما عمل في ليلة النصف من شعبان أو ليلة الإسراء والمعراج أو ما أشبه ذلك عبادة حتى نحييها نحن فنقول: بدعة حسنة. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في كل خطبة جمعة: (وكل محدثة بدعة). إذاً هو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول: هذه بدعة حسنة. ويتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير حينما يأتي بعبادة ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح، ويدعي أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حينما يحدث عبادة ما فعلها هؤلاء. فالمسألة خطيرة، بل إنه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) بل تكذيب لله عز وجل حينما قال سبحانه وتعالى في آخر آية نزلت من القرآن عشية عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، ولذلك هؤلاء لا يستطيعون أن يدخلوا بدعة في دين الله إلا ويخرجوا مقابلها سنة؛ لأن الدائرة مقفلة وضيقة ومحدودة، لا تتسع لغير ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يدخل بدعة في وسط هذه الدائرة إلا ويميت سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً لا بد من تنفيذ قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) ليس سعياً كما يروق لك، وكما يعجبك، العبادات مشروعة من عند الله عز وجل، وعلماء المسلمين يقولون: الأصل في العبادات التحريم، أي عبادة محرمة إلا إذا ورد دليل عليها، بخلاف العادات فالأصل فيها الإباحة إلا ما ورد دليل بتحريمه، فلو أن واحداً من الناس قال: الصلوات الخمس أنا أؤمن بها، لكني أريد أن أضع صلاة سادسة لأنه يوجد فصل طويل بين الصبح والظهر، وأريد أن أضع الصلاة السادسة بين الظهر والصبح في منتصف الضحى نقول: أنت مبتدع وكافر، وأنت مرتد عن دين الله. مع أنه أحدث عبادة صلاة سادسة، فنقول: لا. الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]. فلو أن أحداً قال: أنا سوف أعتاد عمرة في يوم من الأيام أعتمر فيه نقول: العمرة عبادة، لكن لما وضعتها في وقت معين من دون دليل يحدد ذلك الوقت فإن هذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهكذا. إذاً -أيها الأخ الكريم- لا بد من أن نسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أن نسعى لها سعيها، لا سعياً كما يعجبنا نحن، بل كما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

من شروط العمل المقبول الإيمان

من شروط العمل المقبول الإيمان الشرط الأخير قوله تعالى: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق مقتنع، فلا نريد إيماناً كإيمان أبي العلاء المعري، فـ أبو العلاء المعري له قصيدة يقول في مضمونها في آخر حياته لما تاب: أنا سوف أعمل ولا يضرني هذا العمل الصالح، إن كان ما جاء به حق فأنا عملت، وإن كان ما جاء به باطل فأنا ما تكلفت شيئاً. وهذا ليس من الإيمان، الإيمان أن تعمل وأنت مقتنع بأن هذا هو الدين الحق، أن تعمل وأنت تعرف أنه ليس هناك طريق للجنة إلا من خلال هذا الدين. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيماناً جازماً، لو قطعت في سبيل هذا الإيمان وفي سبيل هذا المنهج والمبدأ الذي هداك الله عز وجل إليه فإنك لا تبالي، كما قال السحرة: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. أيها الأخ الكريم! يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] هذا السعي المشكور الذي يشكره الله سبحانه وتعالى ويقبله، ويرضاه، ويثيب عليه، ويعطي عليه الجنة، أما السعي الذي تختاره أنت لنفسك لا يرتبط بمنهج مرسوم من لدن حكيم خبير، ولا بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي هدانا الله عز وجل إليها وأرشدنا إليها صلى الله عليه وسلم وتركنا عليها في أولها وآخرها الجنة، فمن سعى غير هذا السعي وسلك غير هذا المسلك فسعيه غير مشكور.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت

حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت Q ما حكم إهداء قراءة القرآن للميت، ويذكر في ذلك حديث: (يس قلب القرآن، اقرءوها على موتاكم)؟ A أولاً: نبدأ من آخر السؤال: (يس قلب القرآن، اقرءوها على موتاكم) هذا حديث لم يثبت، وفيه ضعف، ولو صح هذا الحديث فمعناه: اقرءوا على الموتى في ساعة الاحتضار؛ لأنها تخفف نزع الروح. أما بالنسبة لإهداء القرآن للميت فنحن ملزمون باتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، واختلف العلماء في العبادات البدنية والمالية أيها يصل إلى الميت، ويكادون أن يكونوا قد اتفقوا على وصول العبادات المالية كالحج لأنه يعتبر عبادة مالية، وإن كان عبادة بدنية لكن الأصل فيه المال، أن تحج عن أبيك وعن أمك، فهذا ورد فيه أدلة خاصة، كذلك الزكاة والصدقة، كأن تبني مسجداً وتهدي ثوابه لأبيك الميت، أو لأمك الميتة، وتتصدق على فقير عن أبيك أو أمك، فهذا يكاد يجمع علماء المسلمين على وصوله إلى الميت، وإنما اختلفوا في العبادات البدنية، وهناك أدلة تدل على أن العبادات البدنية لا تصل، اللهم إلا إذا كانت قضاءً، كمن مات وعليه صوم فصام عنه وليه قضاء، أما أن تهدي عبادة هكذا فأعتقد أنها ليست من شرع الله، ولا تصل إلى الميت العبادات البدنية، تقول: أصلي وأهدي هذه الصلاة إلى الميت لا يجوز هذا ولا تصل إليه، وإنما تصل إليه العبادات المالية، أما البدنية فالذي أعتقده أنها لا تصل. لكن يمكن أن تقرأ القرآن وتدعو للميت أو للحي قريبك أو غير قريبك، يمكن أن تختم القرآن وعند ختم القرآن دعوة مستجابة تدعو لأبيك الميت أو لأمك الميتة، أما أن تهدي ثواب القرآن فالقرآن ليس مالاً يهدى.

حكم حج المرأة بدون محرم

حكم حج المرأة بدون محرم Q أنا امرأة لست متزوجة، وحججت مع نساء بدون محرم، هل حجي صحيح؟ A السفر بدون محرم لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم) والرجل الذي اكتتب غازياً قال: يا رسول الله! إن زوجتي خرجت حاجّة. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن الغزو مع أن الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال- ليحج مع زوجته، فهذا أكبر دليل على أنه لا بد من المحرم. لكن نقول للأخت السائلة: لعلها إن شاء الله على حج صحيح، خصوصاً أنها جاءت من جدة، وجدة قريبة، لكن نحن ننصح الأخوات أن لا يأتين حتى من جدة إلا مع محرم؛ لأن هذه عبادة، لكن المسلمين وقعوا اليوم في أمور خطيرة جداً يجب أن يسأل عنها، فما مقدار الإثم الذي يكسبه ذلك الرجل الذي يستورد من الفلبين أو من أندونيسيا امرأة تقطع آلاف الأميال بدون محرم؟ هذا هو الإثم الحقيقي. وكذلك نقول للأخت الحاجّة: أرجو أن تحتاط في المستقبل هي أو غيرها، بحيث لا تحج إلا ومعها محرم حتى ولو كانت من جدة؛ لأن جدة عند بعض العلماء مسافة سفر، لكن نقول لهذه الأخت: لعل الله أن يتقبل منها، وحتى لو قدر أن الحج بدون محرم لا يؤثر على الحج، فالحج مقبول عند الله سبحانه وتعالى ولو بدون محرم، لكن فيه إثم ومعصية للرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالمحرم، أما الحج فهو صحيح.

حكم من حاضت ولم تطهر إلا ليلة عرفة وأرادت القران

حكم من حاضت ولم تطهر إلا ليلة عرفة وأرادت القران Q امرأة أتاها الحيض ولم تطهر إلا ليلة عرفة، ونوت الحج مفرداً، وتريد أن تجعل النسك قراناً، وقد طافت وسعت يوم الحادي عشر، فهل يمكن تحويل النسك إلى القران بدلاً من الإفراد؟ A يظهر أنها متمتعة في الأول، والتمتع يحول إلى قران ولا يحول إلى إفراد، ونقول: تلقائياً أنت عندما حضت تحولت إلى قارنة لا مفردة، أما أنها نوت الإفراد فهذا خطأ؛ لأنها جاءت بحج وعمرة، فما يمكن أن تحول إلى حج فقط، فأنا أقول: تحولت إلى قارنة تلقائياً، وتحويلك إياه إلى مفردة خطأ، إذاً أنت قارنة فعليك دم القران؛ لأنك فاتتك العمرة وعملت الحج، وأعمال القارن والمفرد متساوية، ليس بينهما فرق إلا بالنية والدم، فعليك دم القران، فأنت قارنة إن شاء الله، ولك أجر الحج والعمرة، وليس عليك شيء في ذلك.

حكم من نزلت منها قطرات الدم قبل طواف الإفاضة ثم نزل الدم غزيرا بعد الطواف

حكم من نزلت منها قطرات الدم قبل طواف الإفاضة ثم نزل الدم غزيراً بعد الطواف Q تناولت حبوباً لتأخير موعد الدورة، وأثناء تناولي نزلت بعض نقاط الدم قبل موعد طواف الإفاضة الذي لا يوافق موعد الدورة الشهرية، ثم توقف هذا الدم في يوم الطواف، وبعد أن طفت زادت كمية الدم، مما يدل على أنها قد تكون دورة شهرية رغم تناول الحبوب، فما حكم هذا الطواف؟ A الحبوب هذه تغير مجرى العادة، وتؤثر على رحم المرأة. وعلى كلٍ فهذه الأخت أنا أنصحها بأن تطوف ما دامت باقية وهي طاهرة قبل أن تسافر، إذا ذهبت تطوف طواف الوداع وتنوي به طواف الإفاضة، ويكفي عن طواف الوداع؛ فإنها إذا فرضنا أنها طافت وهي غير طاهرة تعوض بطواف آخر؛ لأنها ما سافرت، فما دامت موجودة فأنا أنصحها بأنها إذا طهرت أن تذهب لتطوف، ويكفيها عن طواف الوداع، وطواف الإفاضة معروف وقته إلى آخر شهر ذي الحجة ليس مقيداً بوقت معين.

حكم تأخير الحاج طوافه وسعيه حتى تطهر زوجته ليطوفا ويسعيا مترافقين

حكم تأخير الحاج طوافه وسعيه حتى تطهر زوجته ليطوفا ويسعيا مترافقين Q إذا حاضت المرأة فهل يجوز لزوجها أن يؤخر معها الطواف والسعي؛ لأنها لم تطهر إلا في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة؟ A نعم. فإن شهر ذي الحجة كله وقت للطواف، فإلى آخر يوم من شهر ذي الحجة يصح الطواف، فالزوج والزوجة لو أخرا الطواف -ولو بدون سبب- إلى يوم أربعة عشر أو خمسة عشر أو إلى يوم عشرين أو تسعة وعشرين جاز، المهم أنه لا يسافر إلا بعد أن يطوف طواف الإفاضة، وأن تسافر هي إلا بعد أن تطوف طواف الإفاضة، سواء أخرا يوماً أو أكثر، ولا يقرب الزوج زوجته حتى ينهيا أعمال الحج؛ لأن الطواف ركن من أركان الحج وليس فيه تحلل نهائي. ولهما أن يرجعا إلى جدة إذا كان لضرورة مثل أن تطول المدة، لكن على أن لا يقربها الزوج حتى يرجعا إلى مكة لأداء الطواف بعد أن تطهر؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج.

حكم من طاف للإفاضة ناويا معه الوداع

حكم من طاف للإفاضة ناوياً معه الوداع Q من طاف طواف الإفاضة مع طواف الوداع ثم أتى بسعي هل يجزئه، علماً بأن آخر عهده السعي وليس الطواف؟ A الحقيقة هذا السؤال معقول، والأمر مشكل وكثير السؤال عنه، لكن العلماء الذين يفتون بجعل طواف الإفاضة مغنياً عن طواف الوداع ولو كان السعي بعده فالقاعدة المعروفة أنه لا يجوز طوف الوداع إلا بعد انتهاء كل أعمال الحج، فلو طفت قبل أن ترمي لا يصح طواف الوداع، فكيف إذا طفت قبل أن تسعى وهو ركن من أركان الحج، وكأنك ودعت وبقي عليك ركن من أركان الحج وهو السعي. إلا أن العلماء يقولون: إن الطواف والسعي مرتبط أحدهما بالآخر، فالسعي يعتبر آخر عهده بالبيت، فلا يمنع ذلك أن يسعى بعد طواف الوداع الذي هو طواف الإفاضة؛ لأنه آخر عهده بالبيت، ولأن السعي مرتبط بالطواف، حتى إن العلماء يقولون: لا يصح السعي إلا بعد الطواف، فهذا دليل على أن أحدهما مقترن بالآخر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوصايا العشر

الوصايا العشر إن شرع الله عز وجل كامل وشامل لجميع نواحي الحياة، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، ومن تلك الأوامر والنواهي ما ذكره الله عز وجل في في سورة الأنعام من الوصايا، فقد ذكر فيها مجمل أحكام الشرع.

أهمية التمسك بدين الله عز وجل منهجا وسلوكا وعبادة

أهمية التمسك بدين الله عز وجل منهجاً وسلوكاً وعبادة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراًَ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله الله عز وجل رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك ونبيك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فنشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله وإحسانه، ونسأل الله تعالى أن يوفق العاملين لتبليغ دعوة الله عز وجل لتصل إلى قلوب الناس بعد أن تصل إلى مسامعهم، كما أسأله أن يوفقنا جميعاً لأن نكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]. أيها الأخ الكريم! لقد كنت أفكر كثيراً في اختيار موضوع يتناسب والوضع الذي نعيشه اليوم، لاسيما أن الوضع الذي نعيشه اليوم وضع قد انفتحت فيه كثير من الثغرات، فأصبح المتحدث في أي مناسبة لا يدري ما يقول؟ ولا يدري من أين يبدأ؟ وهنا ثغرات واضحة فتحها أعداء الإسلام في أوساط المجتمعات الإسلامية، فوفقت إلى آيات تتحدث عن عشر نصائح وعشر وصايا، يسميها علماء التفسير (الوصايا العشر)، ويقول فيها عبد الله بن مسعود رضي الله: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153]). هذه هي الوصايا العشر التي يعنيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والتي يقول عنها: (هي وصية رسول صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه). ونحن في مجتمع إسلامي اختلط حابله بنابله، نكاد أن نفقد كثيراً من هذه الوصايا العشر في غمرة الحضارات الملفقة التي وفدت على بلاد المسلمين من الشرق والغرب، ولكننا لا نتشاءم، بل نتفاءل ونحن -والحمد لله- نرى هذه الصحوة، وهذا الشباب الذي رفض كل هذه المبادئ وأقبل على دينه، وأقبل على ربه وعلى كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم منهجاً وسلوكاً وعبادة، فأعداء الإسلام وإن كادت أن تفلس -أو قد أفلست- مطامعهم في بلاد الإسلام إلا أنهم لن يألوا جهداً في سبيل عرقلة مسيرة هذه الصحوة الإسلامية، وصدق الله العظيم الذي يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، ويقول: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]، وبمقدار ما تتجه الشعوب إلى دينها وإلى ربها وإلى سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم تزيد هذه العراقيل في طريقها، وتتجه أنظار الطامعين وأنظار المفسدين إلى هذه البلاد، وبلادنا هذه -والحمد لله- هي البلاد الوحيدة التي تطبق شرع الله في الأرض، وهي البلاد الوحيدة التي لم تدنسها أقدام الاستعمار لحظة من الزمن، وهي البلاد الوحيدة التي ليس فيها كنيسة ولا معبد لغير الإسلام، ولذلك فإن التركيز عليها يكاد أن يكون أكثر من أي بلد آخر، ولعلنا نشاهد ذلك حينما يتصارع الحق والباطل، ولكن الباطل هو كما أخبر الله عز وجل عن مصيره: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].

أهمية التوحيد وفضله، وخطر الشرك وضرره

أهمية التوحيد وفضله، وخطر الشرك وضرره نعود إلى الوصايا العشر بشيء من التفصيل؛ لأن واحدة منها تستغرق عدة دروس، ولكني سأمر عليها مرور الكرام، ولربما يستوقفني بعضها حينما يكون لها صلة بالواقع المرير الذي يعيشه كثير من العالم الإسلامي، وهذه الوصايا العشر علينا أن نصغي وأن نصيخ بأسماعنا لها، خاصة أن الله عز وجل يقول في مقدمتها: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام:151]، وأصل كلمة "تعال" في اللغة العربية من العلو، وهو: الارتفاع، وإن كانت الصيغة تستعمل لمطلق النداء، فإذا ناديت أحداً -ولو كان في مستواك- تقول له: تعال. إلا أن معناها اللغوي قد يكون مقصوداً في مثل هذه المناسبة، فعلى المسلم إذا أراد أن يسمع كلام الله عز وجل أن يتعالى عن المجتمع الآثم وعن الأفكار المنحطة وعن الأوضاع الساكنة، من أجل أن يسمع كلام الله عز وجل، أما أن يسمعه بأذن قد أقفلت فإنه لا يكاد أن يسمع كلام الله عز وجل أبداً. وقوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] هذه الوصايا العشر تبدأ بالتوحيد، والتوحيد ليس بالأمر السهل، فأمر التوحيد عظيم؛ فإن التوحيد هو القاعدة وهو الركيزة التي تُبنى عليها عبادة الإسلام، وتُبنى عليها عقيدة المسلم، وأي بناء ليس له أساس فإنه قابل للانهيار، والتوحيد استحق أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في حياته المكية لمدة ثلاث عشرة سنة وهو يقول للناس: (قولوا: لا إله إلا الله) لا يزيد على ذلك، ولربما يلفت الأنظار طول هذه المدة، ولكن حينما نرى أثر التوحيد في العبادة وضعف العبادة بدون توحيد لا نستكثر هذه المدة، فإنها مدة استطاعت أن ترسي عقيدة التوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.

أهمية التذكير بقضية التوحيد والتحذير من الشرك

أهمية التذكير بقضية التوحيد والتحذير من الشرك قد يقول بعض الناس: إن الحديث عن قضية التوحيد الآن أصبح لا فائدة فيه، وكثير من المغفلين يقول: قضية التوحيد اليوم لا حاجة لها، ولم تعد الآن اللات والعزى ومناة وهذه الأصنام التي تحدث عنها القرآن الكريم تُعبد من دون الله، فالعقلية الإنسانية الآن تطورت، ووصل الإنسان إلى سطح القمر، ويفكر فيما فوق ذلك، ووصل إلى أعماق الأرض، فلا يتوقع في يوم من الأيام أن ينحت الإنسان معبوداً له من الحجارة أو من الحديد أو من الخشب ليعبده من دون الله! وهذا فيه شيء من الحق وفيه شيء من الباطل، فحقاً أننا لم نر اللات والعزى ومناة تعبد، وهذا لن يعود مرة أخرى، ولكننا نرى أوثاناً تنتشر في العالم الإسلامي تعبد كاللات والعزى ومناة. فإن من يسافر خارج المنطقة التي انتشرت فيها دعوة الحق ودعوة التوحيد ليذهب قريباً إلى الحدود يوافقني على ما أقول، حيث يرى هناك أوثاناً تُعبد من دون الله، فوالله لقد رأيت بعيني أناساً يسجدون أمام القبور، ويولون ظهورهم نحو الكعبة المشرفة، ويسيلون ويذرفون الدموع أكثر مما يذرف حول كعبة الله المشرفة! ولقد رأينا بأعيننا أناساً يطوفون بالقبور، ولا يُسمح لهم إلا بشوط واحد من كثرة الزحام، فيقول الذين يتولون سدنة هذه القبور: اعمل شوطاً وسر! لا يسمحون إلا بشوط من شدة الزحام، ولقد رأينا أناساً يعفرون وجوههم بأتربة هذه القبور، ويخضعون لهؤلاء الأموات، ويمدون أكف الضراعة لغير الله عز وجل، وينحرون الذبائح، وينذرون النذور! إن هذا الواقع واقع مرير، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله يا أخي، أين معنى قولك: لا إله إلا الله يقول: هؤلاء قوم صالحون نرجو شفاعتهم يوم القيامة. فنقول له: يا أخي -إن صح التعبير بكلمة يا أخي لمثل هذا-! إن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أصابتهم الشدة يفزعون إلى الله وحده، ولكن مثل هؤلاء ينسون الله عز وجل وتوحيده في الرخاء وفي الشدة، ويقول المشركون الأولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وما أشبه كلامك بكلام أولئك! فأنت تقول: هؤلاء رجال صالحون نرجو شفاعتهم، وأولئك المشركون الأولون الذين حُكم بخلودهم في نار جهنم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فمن يستطيع أن يفرق بين المقالتين؟! ولذلك فإن العالم الذي يقف اليوم على حافة الهاوية أشرك بالله عز وجل، وأصبح يعبد هؤلاء الأموات من دون الله عز وجل، وهذا الشرك ما زال يزيد وينمو، وكنت في تصوري السابق أظن أنه سينتهي في عصر العلم والتطور، فإذا بي حينما أسير إلى أي بلد من البلاد الإسلامية سوى بلد الحرمين الشريفين -حماها الله تعالى بعقيدة التوحيد- أجد كثيراً من هذا الأمر، إلا ما شاء ربك. وهذا نوع من الشرك، والله عز وجل يقول: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]، فكلمة (شيئاً) لها معنىً جديد؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم، و (شيئاً) هنا قد نفهم منها التحقير، وقد نفهم منها التعظيم، أي: حتى لو كان شيئاً حقيراً أو شيئاً عظيماً. ولا تعجب يا أخي؛ فإنه دخل النار رجل في ذباب، وذلك بأنه قرب ذباباً لغير الله عز وجل فدخل النار، فأصبح مخلداً في نار جهنم.

ذكر بعض أنواع الشرك

ذكر بعض أنواع الشرك إن الذين يذبحون الذبائح أمام القبور ولأرواح الأموات وينسون الخالق سبحانه وتعالى المتفرد بالوحدانية أشركوا بالله عز وجل، فأصبحوا حطباً لجهنم، وصاروا مخلدين في نار جهنم بنص القرآن: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72]. وهذا نوع من الشرك لا يجوز أن نترك التحذير منه، وبمقدار ما نستطيع من قوة يجب أن نوقظ هؤلاء الذين ما زالت في قلوبهم جذوة الإيمان تلتهب، فما دفعهم إلى هذا العمل إلا روحانية في نفوسهم، لكنها روحانية غير مبنية على علم، بل هي تقوم على أساس الجهل، ومن هنا فهؤلاء المساكين يرهقون أنفسهم في شيء يشبه العبادة، لكن ذلك لم يخلصهم من عقاب الله عز وجل؛ لأن الطريق واضحة، ومثلهم كمثل الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، ومثلهم كمثل الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104]. ووالله العظيم إننا لا نُجدّ في عبادتنا كما يُجدّ هؤلاء، ولكن لما كانوا على غير بصيرة من أمرهم، وعلى غير حقيقة من منهجهم لم يغن ذلك عنهم من الله عز وجل شيئاً. فهذا نوع مما يُعبد من دون الله، وهناك أنواع كثيرة، هناك أوثانٌ تعبد، وهناك زعماء يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ويقولون للناس: هذا حلال وهذا حرام. ثم يتبعهم الناس على بصيرة أو على غير بصيرة، فيضل الناس الطريق وراء هؤلاء الزعماء الذين جاءوا بقوانين وأنظمة وأفكار ومذاهب وضعوها للبشر، ووضعوا كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فهذه أوثان تُعبد من دون، ولذلك لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: والله -يا رسول الله- ما عبدناهم. قال: (أليسوا يحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟! ويحرمون ما أحل الله فتطيعونهم؟! قال: بلى. قال: فتلك عبادتكم لهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيامنا الحاضرة يكاد أن يجمع أكثر العالم الإسلامي على تحكيم آراء البشر، ويضعون كتاب الله عز وجل وراء ظهورهم. وهذا نوع من الشرك الأكبر؛ فإن صاحبه إن اعتقد بأن هذه القوانين وهذا الأنظمة هي خير من القرآن والسنة أو تساويهما فهو كافر مرتد، وهو مخلد في نار جهنم. وهناك عبادة أنواع من الزعماء بتقديم أوامرهم على أوامر الله عز وجل، ويخافون من البشر أكثر مما يخافون الله عز وجل، ولربما تفتي طائفة من علمائهم خلاف حكم الله عز وجل ابتغاء مرضات هؤلاء الزعماء، وهذا نوع من العبادة، وهذا نوع من الشرك، وأولئك نوع من الأوثان. وهناك عبادة الدنيا وعبادة المادة تنتشر في كثير من الناس، فأحدهم يبيع دينه بعرض من الدنيا، يسمع أن مركزاً من مراكز الربا يعطيه شيئاً من المال أكثر ولو كان ذلك حراماً، ولو كان بنص القرآن أنه حرام، ولو أجمع علماء المسلمون على تحريم الربا، لكن حبه لهذه الشهوة أصبح يعمي بصره ويضله الطريق، وهذا على خطر، فإذا امتلأ قلبه بحب الدنيا وغفل عن الله عز وجل وعن الحياة الآخرة فقد يقع في قلبه نوع من هذا الشرك الذي نهى الله عز وجل عنه بقوله: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]. وأيضاً هناك الوظيفة والمركز يُعبدان من دون الله عز وجل، ولربما يتنازل طائفة من الناس عن كل ثروة في الحياة من ثروات دينه، وعن كل مطلب نبيل من مطالب دينه في سبيل وظيفته أو في سبيل مركز يحصل عليه، وهذا أيضاً على خطر أن يدخل في شرك العبادة أو في شرك العمل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الخميصة، تعيس عبد الخميلة) فعبد الخميصة هو الذي يعبدها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس). وهناك من يعبد الهوى ويعبد الشيطان، ولذلك الله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]، ويقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] وعبادة الشيطان هي أن تطيعه فيما يأمرك به لتغفل عن أمر الله عز وجل في سبيل طاعتك للشيطان والهوى والشهوة. وكل هذه آلهة ما زالت على قيد الوجود، ولربما ينمو جزء منها في كثير من العالم الإسلامي بسبب غفلة المسلمين عن دينهم، وبسبب إهمال كثير من علماء المسلمين في تبيين الحق والباطل لهؤلاء الناس حتى ضلوا الطريق من هذا الجانب. أيها الأخ الكريم! إذاً نفهم من قول الله عز وجل: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أن كلمة (شيئاً) وراءها معانٍ عظيمة، فإذا فقدت آلهة كانت تعبد بالأمس، وحطمها الإسلام، وحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً حطمها بسيفه وقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، فإن في أيامنا الحاضرة آلهة لا يقل خطرها عن تلك الآلهة التي كانت تُعبد من دون الله عز وجل. بل إن الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطون الولاء لهذه الآلهة مع الله عز وجل لا من دون الله، ويعطونها هذا الولاء في فترات الرخاء، أما في فترات الشدة فإن الله عز وجل يقول فيهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، أما هؤلاء ففي فترة الرخاء والشدة ما يزالون يعبدون هذه الآلهة، وما زالوا يعطونها الولاء من دون الله، لا مع الله عز وجل! فهذه هي الوصية الأولى من وصايا الله عز وجل في هذه الآيات، ولا أريد أن أطيل فيها أكثر من ذلك.

الوصية بالوالدين

الوصية بالوالدين ثم جاءت الوصية الثانية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151]، فحق الله عز وجل هو الحق الأول، وحق الوالدين يأتي بعد حق الله عز وجل مباشرة، بشرط أن لا يتعارض مع حق الله، فإذا تعارض مع حق الله فإنه مرفوض؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، ويقول عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]. إذاً حق الوالدين حق عظيم، لكنه خاضع لحق الله عز وجل، ولذلك لا يجوز أن يطغى، ولذلك لما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أعرضت أمه عن الطعام، وقالت: يا سعد! والله! إن الطعام والشراب حرامان علي حتى تترك دين محمد. فصار هذا الرجل بين عاطفة الأمومة وبين عقيدة الإيمان التي استنار بها قلبه، فوقف عند أمه ونفسها تتقعقع، واستمرت أمه على إعراضها عن الطعام، ولكن العقل غلب العاطفة، فقال: اسمعي يا أماه: والله لو كانت لك مائة نفس خرجت واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني؛ فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فأكلت، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] إذاً علينا أن نرعى حق الوالدين، ولكن علينا أن نضعه في المرتبة الثانية.

تحريم قتل الأولاد خوف الفقر

تحريم قتل الأولاد خوف الفقر ثم قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، هذه الآية يقول الله تعالى فيها: (مِنْ إِمْلاقٍ)، وقال في آية أخرى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]. فالإملاق -الذي هو: الفقر- موجود في هذه الآية، ولذلك الله تعالى قدم هنا رزق الآباء على رزق الأبناء؛ لأن الإملاق موجود، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم ْ)) [الأنعام:151]، ولكن في سورة الإسراء لما كان الفقر متوقعاً لا محققاً قدم الله عز وجل رزق الأبناء على رزق الآباء، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]. وهذه عادة خبيثة كانت في الجاهلية، حيث كان أحدهم يخشى أن يزيد عدد أولاده، وليس هناك إيمان بالله عز وجل ويقين، فكان يقتل بعضاً من الأولاد خشية الفقر، كما كان أحدهم يقتل البنت خشية العار في بعض الأحيان، ولذلك الله تعالى هنا خلص الإنسان من أن يستذله أبوه بالقتل، وتكفل الله عز وجل برزق الأب وبرزق الابن في آنٍ واحد، كما قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].

تحريم الفواحش ووجوب الحذر من فعل أسبابها

تحريم الفواحش ووجوب الحذر من فعل أسبابها ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، والفواحش: جمع فاحشة. والفاحشة في اللغة العربية هي الشيء الواسع، والفاحشة في اصطلاح الشرع هي الذنب العظيم، لكن يغلب إطلاق الفاحشة على فاحشة الزنا؛ لأنها تعتبر من أعظم الذنوب، إن لم تكن أعظم الذنوب بعد الإشراك بالله عز وجل. ومن دقة القرآن العظيم أن الله عز وجل قال: (لا تقربوا)، ولم يقل: ولا تفعلوا الفواحش. فنريد أن نحدد الفرق بين الفعل والقربان، فالفعل هو الاقتراف، والقربان معناه الدنو، وعلى هذا فإن قول الله عز وجل: (ولا تقربوا) يعطينا معنىً آخر حتى نحتاط لهذه الفاحشة، فلا ندنو منها؛ لأننا حينما ندنو منها نقع فيها غالباً، إلا من عصمه الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، وإذا كان الذنب فاحشة فإنه تستحق هذه الفاحشة أن يمنع عن الدنو منها فضلاً عن مواقعتها. ولذلك أقول وبكل لوعة: مُهدت اليوم في العالم الإسلامي كل سبل الفاحشة، فأصبح الدنو منها وشيكاً، وأصبح الناس على خطر من الوقوع في هذه الفاحشة، كيف ذلك؟ سخرت أكمل وسائل هذه الحياة من أجل وقوع الناس في هذه الفاحشة، كما قال الله عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]. فإن قيل: كيف ذلك؟ فنقول: إنك حينما تلقي نظرة سريعة على واقع العالم الإسلامي اليوم -ونكاد أن نقول: كله. وإذا حابينا نقول: جله- تجد أنه قد وجد فيه السبيل لهذه الفاحشة. فحين نأتي إلى فاحشة الزنا -مثلاً- نجد أن وسائل الإعلام أكثرها يخدم هذه الفاحشة باسم التسلية، وباسم الترفيه، وأصبح الإعلام يقرب من هذه الفاحشة، وما عليك إلا أن تحرك موجات التلفاز أو موجات المذياع، أو أي وسيلة من وسائل النشر والإعلام لترى فيها الدعاية لهذه الفاحشة، سواء أكانت بصورة مباشرة أم غير مباشرة، وبصورة مقصودة أم غير مقصودة. إن السبل قد مُهدت، حيث نجد تلك السبل في كثير من وسائل الإعلام -خاصة المرئية- التي غُزي بها المسلمون في عقر دارهم، وأصبحت خطراً لم يترك بيت شعر ولا مدر إلا دخله، وأصبح من الصعب أن يتقي الإنسان هذه الوسائل، وأصبحت تأتينا بأفلام رخيصة فيها رقص واختلاط ومسرحيات تمهد للجريمة، وتعلم المرأة الخيانة الزوجية، وتعلمها كيف تتخلص من هذه الضوابط التي يسمونها قيوداً لتقع في فخ أعداء الإسلام، وهذه المسرحيات لو أمسكتها من أول خيط إلى آخر خيط فيها -إلا ما شاء الله- لوجدتها تهدم الأخلاق والفضائل، وتعلم المرأة الخيانة الزوجية، وهذا ينتشر في التلفاز في كثير من الأحيان في أكثر العالم الإسلامي. ثم تأتي أغانٍ خليعة صفيقة مؤلمة جارحة لقلب المؤمن، فتجدها تنتشر في بيوت المسلمين حتى تغيرت وانقلبت كثير من بيوت المسلمين رأساً على عقب، فتلك البيوت التي كان بالأمس لا يُسمع فيها إلا دوي القرآن ما بين راكع وساجد في الليل منيبين إلى الله عز وجل تغيرت، فلا تكاد تقف أمام بيت من بيوت المسلمين إلا وتسمع الرقص والموسيقى والمسرحيات والأغاني والأمور الفظيعة، مما يدمي قلب المؤمن ويخيفه على دينه، إلا أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين وبحفظ منهجه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فهذا يأتي عن طريق هذه الوسائل، وأخطر من ذلك تلك الوسائل التي ليست عليها رقابة، والتي تتسرب إلى بيوت المسلمين ومجتمعاتهم بطريقة سرية، فمن رآها يخبر بأنه رأى فيها ما هو أكبر من ذلك من الفواحش المكشوفة التي تعلم الإنسان كيف يفعل الفاحشة مباشرة. وكثير من المجلات تهدف إلى هذا الهدف الخبيث، وتقرب الناس من الفاحشة، ابتداءً من صورة الغلاف، حينما يختارون لها أجمل فتاة في شكل عارٍ، إلى آخر سطر من أسطرها، فكلها دعاية، حتى الدعايات للبضائع التي تُباع أصبحت تبث من خلال المرأة وجمالها وتفسخها، وعلى حساب أخلاقها وحريتها من قوم يزعمون أنهم يبحثون عن حقوق المرأة وعن حرية المرأة، حتى الجو لم يخل من ذلك، فإذا كان قد ظهر الفساد في البر والبحر فقد ظهر الفساد أيضاً في الجو، فلا تكاد تركب طائرة بتاتاً حتى تقابلك فتاة وضعت من أجل جذب أبصار هؤلاء الركاب، ومن أجل إيجاد شيء في نفوسهم من الفتنة، وليس لها هم إلا أن تمشط شعرها، وأن تعرض جمالها، وأن تستعمل الأصباغ والأدهان من أجل أن تزيد مرضاً من في قلبه مرض! فهذه مصائب كلها عمت وطمت، لا يجوز أن نغمض أعيننا عنها مهما كان الثمن، ومهما عز المطلب؛ لأننا أمة يجب أن نقول كلمة الحق في المنشط والمكره وفي العسر واليسر. وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151]، وأي سبيل للبعد عن الفواحش وأنت لا تستطيع أن تركب الطائرة إلا وأمامك فتاة، وعن يمينك فتاة، وعن شمالك فتاة؟! وأي وسيلة للبعد عن هذه الفاحشة ولا يكاد -إلا ما شاء ربك- أن يخلو بيت من بيوت المسلمين من هذه الوسائل التي أصبحت نقطة وصل بين الإنسان وبين الفاحشة إلا من عصمه الله تعالى؟! ولذلك تعبير القرآن تعبير دقيق، فلم يقل الله عز وجل: ولا تفعلوا الفواحش. حتى لا يقول إنسان من الناس: أنا أريد أن أدنو من الفاحشة حتى لا يكون بيني وبينها إلا ذراع، وعلي أن أضبط وأن أكبح جماحي حتى لا أقع في هذه الفاحشة. ولكن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). فلنحذر هذه المقدمات؛ لأنها ستؤدي إلى هذه النتائج، ولقد نشأ عن هذه المقدمات مرض في نفوس كثير من الناس، فأصبحوا كمن يشرب الماء المر ولا يروى أبداً، ولذلك فإن هؤلاء مطالبهم لا تقف عند حد؛ لأن هذا الفساد وصل إلى بيوتهم، ثم وصل إلى قلوبهم، ثم ما زالوا يريدون أكثر من ذلك، فهم غير راضين عن هذه الأوضاع، ويعتبرون أن هذه الأوضاع مازالت تعيش تخلفاً وتأخراً، فعلينا أن نأتي بالضربة القاصمة، وذلك عن طريق حرية المرأة وحقوق المرأة، فقامت دعوات في الصحف التي تنشر في البلاد الإسلامية تتهم الحجاب بأنه تقوقع، وتتهم الحجاب بأنه من مخلفات القرون الوسطى، ويهاجمون دين الله، والله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ثم يقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، ويقول هؤلاء: يجب على المرأة أن تشارك الرجل في كل أمر من أمورها، ويجب أن ترفض هذا الحجاب؛ لأن هذا الحجاب إنما هو إهانة للمرأة، وحينما ترفض هذا الحجاب عليها أن تشارك الرجل في كل عمل من أعماله، بحيث لا يختص الرجل بعمل وتختص المرأة بعمل آخر. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

وجوب الحذر من دعاة الانحراف والانحلال

وجوب الحذر من دعاة الانحراف والانحلال وفي الوقت الذي تنادي فيه الأمم التي سبقتنا إلى هذا الانحراف بضبط هذه المرأة حتى لا يقع الناس فيما وقعوا فيه، ثم يتراجعون عن هذه المسيرة المنحرفة إلى طريق الاستقامة في هذه الفترة ما زال فينا دعاة يدعون إلى انحراف المرأة باسم حقوق المرأة وحريتها، ولا أدري أي حقوق وأي حرية هم يدعون إليها؟! ولا أظن أن المرأة ستعيش مكرمة ومعززة أكثر منها في بلادنا، وبمقدار محافظة المرأة على دينها تكون أكثر تعظيماً وأكثر تقديراً. إن المرأة في بلاد الكفر لا يمكن أن تحصل على لقمة العيش حتى تكدح ليلها مع نهارها، وإن المرأة لا تستطيع أن تحصل على لقمة العيش حتى تتنازل عن شرفها وعرضها، ولكنها في بلادنا -والحمد لله- تحصل على كل وسائل المتاع والراحة وهي في قعر بيتها. ولا أدل على ذلك من هذه المهور، فإن أي بلد تنحل أخلاقها وتتخلف فيها المرأة تسقط فيها المهور، وبمقدار محافظة البلد على المرأة ترتفع المهور، وهذا يدل على ثمنيتها ونفاستها في نفوس القوم. إن علينا أن لا نغتر بهذه الدعوات؛ لأن هذه الدعوات وليدة تلك الأمراض التي وصلت إلى قعر بيوت هؤلاء، أو وليدة تلك الأمراض التي حُقنت وغسلت فيها أدمغة كثير من القوم الذي عاشوا في بلاد الكفر، ودرسوا أفكار القوم، وعاشوا هناك مدة من الزمن، فرجعوا متنكرين لدينهم، فأصبحوا عوامل هدم في بلادهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهذا الحديث يتجسد اليوم تجسداً واقعياً في أرض المسلمين، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. قال: فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قال حذيفة رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقال حذيفة رضي الله عنه: صفهم لنا يا رسول الله! قال: قوم من جلدتنا) فأسماؤهم محمد، وعبد الله، وأحمد، وليس منهم أحد يدعى أبا جهل أو يدعى أبا لهب، ولكن اسمه محمد وأحمد وعبد الله وعبد الرحمن، وتربى في أحضان أبوين مؤمنين، ولكن تربية الكافرين قد ملأت مخه وغسلته, وأزالت ما فيه من خير, وملأته شراً وحقداً على أمته, قال: (دعاةٌ على أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها, قال: قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: قوم من جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا) , فهم ينطقون اللغة العربية, ولا يحتاجون إلى ترجمة, ولذلك فإن هؤلاء أخطر على المسلمين من أعدائهم الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لأن هؤلاء يندسون في المجتمعات الإسلامية, ويفسدون من حيث يصلح الناس. فلننتبه لهؤلاء الناس, ولنحذر هؤلاء الهدامين, وما أكثرهم بين المسلمين اليوم! ولقد حاول هؤلاء أن يحققوا لأعدائهم مطالبهم حينما قال أحدهم: إنكم لن تستطيعوا أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها. وهم الآن يحاولون أن يقطعوا شجرة الإسلام في غصن من أغصانها، ولكن الله متم نوره وغالب على أمره. وبمقدار ما ينشط هؤلاء الهدامون يتجه الناس إلى دين الله عز وجل، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. إذاً علينا أن نحذر هؤلاء، كما أن علينا أن نحذر من أن نقرب من الفاحشة، فالاختلاط الآن يُخطط له في كثير من أرض المسلمين، فكثير من البلاد التي لم يعد الاختلاط فيها منهجاً رسمياً يُخطط له فيها، وهؤلاء من خبثهم وحقدهم على الإسلام واستغفالهم للمسلمين الواعين يقولون: إن خلط الرجل مع المرأة إنما يعطي هذا الرجل وهذه المرأة مناعة، بحيث تزول هذه الحواجز، وتتحطم هذه الأمور المخيفة، فيصبح الأمر طبيعياً. ولقد كذبوا، فبمقدار ما أزالوا هذه الحواجز زادت الجريمة، وانتشرت الفاحشة بين المسلمين، وهذه هي مقاصد أعداء الله، وهذه هي تربيتهم، أما تربية الله عز وجل لهذه المرأة فعلينا أن نعيها، فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31] أي: إلا ما ظهر قهراً وقسراً لا ما أظهرته هي. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، إلى قوله في آخر الآية: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فإذا كانت المرأة نهيت عن أن تضرب برجلها على الأرض بشدة حتى لا يُسمع صوت الخلخال فكيف بها تخرج ترقص وتغني أمام الناس، ويسمعون صوتها، ويرون جسمها ومفاتنها؟! وما الفرق بين أمر الله عز وجل وبين واقع كثير من أبناء العالم الإسلامي الذين نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردهم إلى الجادة وإلى الطريق المستقيم؟!

خطر الاختلاط

خطر الاختلاط ويزيد الأمر خطورة، ويأبى أعداء الإسلام إلا أن يوجد الاختلاط في أكثر بيوت المسلمين، ثم تنفتح مادة على قوم كانوا يعيشون في فقر ومسغبة، ويفجِّر الله عز وجل لهم ثروة من وراء آلاف الأقدام، فيتحول الفقير إلى غني، فيأبى إلا أن يكفر نعمة الله عز وجل، فهذه فتاة خادمة يؤتى بها من أقصى البلاد في جمالها وفي عنفوان شبابها لتعيش مع أبناء هذا الرجل أو معه، وليخلو بها، ولتسافر معه، وكأنها زوجة من زوجاته! ثم يأتي الآخر بقائد للسيارة ليسلم له أغلى وأشرف ما يملك في هذه الحياة من شرفه وكرامته، فيغدو بالبنات وبالزوجة إلى هنا وهناك، وعلى ساحل البحر، وفي أي مكان من الأرض، ويخلو بإحداهن وتخلو به في البيت وخارج البيت! ويأتي ذاك بمربية لتربي أولاده على خلاف الفطرة، وكثيراً ما تكون مشركة أو كافرة، وهب أنها مسلمة، فإن تقاليدها وأخلاقها تختلف كثيراً عن الأوضاع التي يجب أن يعيشها المسلمون في مثل بلادنا، وكل ذلك يحدث في غمرة الثراء وفي غمرة النعمة وفي غمرة الرخاء الذي اُبتلي به القوم، وصدق الله عز وجل حيث أخبرنا بأنه يبتلي هذا الإنسان بالفقر والمسغبة، حتى إذا لم يُجْدِ فيه ذلك شيئاً يفتح له أبواب النعيم، حتى إذا لم يرع ويرجع إلى الله عز وجل فإن عقوبة الله أقرب إليه من شراك نعله، فلننتبه لهذا؛ فإني أخشى أن تنطبق هذه الآيات على مثل مجتمعنا في مثل هذا البلد الذي كان بالأمس يعيش في فقر وفي خوف وذعر، وهو اليوم تنفتح عليه خزائن الحياة الدنيا من كل جانب، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]، فقر ومصائب، حتى إذا لم تجد هذه فيهم شيئاً كانت العاقبة: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، فبدل الفقر أصبحت عندهم مليارات وملايين وأرقام في بنوك يعجز الناس عن إحصائها، وأمم تموت حولنا في أفريقيا جوعاً، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن تبقى هذه الأرقام يحاسبون عليها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة بعدما تفسدهم في هذه الحياة الدنيا إلا ما شاء ربك، قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، فقد زاد المال، وزاد العدد، وزاد الرخاء، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ فهذه نعمة لها ضد يقول: ضدها قد انتهى. والله عز وجل يحدثنا عن ذلك قبل أن يقوله الناس: {حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، ما هي النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. وهكذا الله عز وجل يمتحن الناس بالمصائب والآفات والفقر والمسغبة، وإذا لم ينفع ذلك فيهم فإن لله خزائن السماوات والأرض، والدنيا لا تساوي عند الله عز وجل جناح بعوضة، فيفتح لهم أبواب الخيرات وأبواب النعيم ابتلاء من الله عز وجل، فإذا لم ينفع الثاني بعدما لم ينفع الأول فإن الله عز وجل يقول: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. وكل هذه الأمور علينا أن ننتبه لها، وإذا كان منا من اُبتلي بشيء من ذلك فعليه أن يتقي الله عز وجل، وعليه أن يحذر سخط الله، وأن لا يستعمل نعمة الله عز وجل في معصيته، فيا أخي! بأي وسيلة تحل لك فتاة تأتي بها من الهند أو من مصر أو من جنوب شرق آسيا، أو من أي مكان من الأرض ليست منك ولست منها، وليس معها محرم؟! أيها الأخ الكريم! إن الله عز وجل يحذرنا من الفواحش فيقول: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، ولذلك الله تعالى هدد هؤلاء القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوعدهم بالنار، وكان أحدهم يقتل بنته خشية العار، علماً أن الدوافع مطلوبة ونبيلة؛ لأنه فعل ذلك محافظة على عرضه، لكن في ذلك مبالغة في هذا الأمر، وهذا هو شأن الجاهلية الثانية؛ حيث إنها جاءت ترد فعل الجاهلية الأولى، حيث تفسخت فيها المرأة، أما الجاهلية الأولى فإن أحدهم كان يكره المرأة، فإذا ولدت له فتاة إما أن يدسها في التراب، وإما أن يمسكها على هون خشية أن تصيبه بعار في يوم ما، ولذلك الله عز وجل قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، والمراد بالنفس التي حرم الله تعالى النفس المعصومة التي لا يحل قتلها، والمراد بالحق ما أباح الشرع، وما أمرنا به من إقامة القصاص، ومن إقامة الحدود، ومن قتل القاتل، فهذه سنة الله تعالى التي تضبط الحياة والتي تحفظ للحياة توازنها واستقامتها.

تحريم أكل مال اليتيم بغير حق

تحريم أكل مال اليتيم بغير حق ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، فإن مال اليتيم حرام على الإنسان أن يتعدى عليه إلا لمصلحة اليتيم، وذلك كما إذا أراد تنميته.

وجوب إيفاء الكيل والميزان، ووجوب القول بالعدل

وجوب إيفاء الكيل والميزان، ووجوب القول بالعدل ثم قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، والله عز وجل عذب أمة لأنها نقصت المكاييل والموازين. ثم قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فإذا قلت أي مقالة -يا أخي- فعليك أن تخشى الله عز وجل، وعليك أن تستعمل العدل في هذا الأمر؛ لأن العدل أمر لابد منه، ولا تكون الأمور إلا به.

وجوب الوفاء بالعهد

وجوب الوفاء بالعهد ثم قال سبحانه: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152]، فلا تعاهدوا الله عز وجل وتنقضوا هذا العهد والميثاق، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].

وجوب الاستقامة على صراط الله المستقيم

وجوب الاستقامة على صراط الله المستقيم ثم جاءت الوصية العاشرة لتكون طابعاً، ولتكون جامعة لكل الوصايا السابقة، فقال الله عز وجل فيها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الأخيرة خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله. ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً فقال: هذه هي السبل. ثم قرأ هذه الآية، وقال: وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سدل مرخاة، وفي هذا السبيل -أي: المستقيم- منادٍ ينادي، فإذا أراد أحد أن يلج إحدى هذه السبل قال له: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه إلى يوم القيامة)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ذكرت أن سبيل الله عز وجل واحدة، وأن السبل الملتوية المنحرفة كثيرة جداً، ولعل واقعنا اليوم -ونحن نعيش أحزاباً وفئات وأفكاراً ومذاهب شتىً- يجعلنا نتصور معنى هذه الآية تصوراً كاملاً، وكيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر لنا هذه الآية في قوله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)؟! فما عليك -يا أخي- وأنت تبحث عن سبيل النجاة، وأنت تبحث عن سبيل السعادة وأنت تطلب وتنشد طريق الجنة إلا أن تفتش في نفسك، وإلا أن تفتش في بيتك، وإلا أن تفتش في أولادك وأهلك، فإن كانوا على المنهج الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص فعليك أن تشكر الله، وأن تسأل الله عز وجل الثبات على هذا الأمر، وإن كنت في أهلك أو في نفسك أو في بيتك على غير المنهج الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم فعليك أن تخشى الله في نفسك أولاً، ثم تخشى الله في هذه الذرية وفي هؤلاء الأهل الذين استرعاك الله عز وجل عليهم، لتعود إلى الطريق المستقيمة التي أمرك الله عز وجل بسلوكها في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].

وجوب الحذر من الغلو في الدين

وجوب الحذر من الغلو في الدين إن مما يحزن أنه في أيامنا الحاضرة توجد مذاهب وأفكار تنتسب إلى الغلو وتزيد في دين الله عز وجل، وإذا مُني ديننا وإذا مُنيت أمتنا الحاضرة وإذا مُني زماننا الحاضر بأناس خالفوا أوامر الله عز وجل وتنكبوا عن منهجه فلقد مُني بما هو أخطر من ذلك، حيث مُني بأناس يغيرون ويبدلون في شرع الله عز وجل، ويشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ويغلون في دين الله عز وجل، ويأتون بأشياء ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالله العظيم على أنه لو بُعث فينا اليوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لحمل السلاح على هؤلاء الذين يشرعون في دين الله ما لم يأذن به، وهؤلاء الذين يأتون بعبادات ما شرعها الله عز وجل ولا شرعها رسوله، قبل أن يحمل السلاح على الملاحدة والشيوعيين الذين ينكرون الخالق والدين؛ لأن أولئك أناس أعلنوا كفرهم بالله عز وجل، أما هؤلاء الذين غلوا في دين الله فصاروا يضيفون إلى دين الله أشياء لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كذبوا الله عز وجل الذي قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، واليوم هو يوم عرفة في حجة الوداع، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فقالوا: هذه عبادة، وهذه بدعة حسنة، وهذا أمر محبوب، فندخل هذا وهذا في دين الله عز وجل. حتى كاد دين الله أن لا يثبت في أذهان هؤلاء، وأن لا يقر له قرار في نفوسهم. وهذا أمر ينتشر في كثير من بلاد المسلمين، حيث تراهم يشرعون أموراً لم يشرعها الله عز وجل، وإني خائف عليهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، أما تلك الواحدة فإن منهجها واضح، وإن دينها بين، فهذا كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أكبر منهج لدين الله، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالت وستبقى إلى يوم القيامة غضة طرية، وهذا تاريخ المسلمين في الصدر الأول الذي أمرنا بالاقتداء بهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، أما هؤلاء الذين جاءوا ببدعة سموها بدعة حسنة فنسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فقالوا: لا يا رسول الله، ليست كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة. فكلما استحسنته نفوسهم جاءوا به وأضافوه إلى دين الله، فأصبح هذا الدين غير ثابت في نفوس هؤلاء، وهذا أمر خطير انتبهوا له أيها المسلمون، وقفوا عند حدود الله؛ فإن الزيادة في دين الله أعظم عند الله عز وجل من النقص في دينه؛ فإن من زاد في دين الله فقد وضع نفسه إلهاً يشرع لنفسه وللناس، وأما من نقص في دين الله فإنه عاصٍ، وهو تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. إذاً علينا أن ننتبه لهذا الخطر، وأن نحذر، وأن نسلك سبيل الله، فإن سبيل الله واحدة، وليس هناك إلا سبيل واحدة، ولذلك جاءت السبيل هناك مفردة وجاءت السبل متعددة، فقال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقهم للوقوف عند حدود الله وعند أوامر الله، فلا يزيدون في دين الله ما لم يشرعه الله عز وجل أياً كانت هذه الزيادة، ولا ينقصون في دين الله. فيتعرضون لعقوبة الله عز وجل وسخطه، كما أسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يوفق ولاة المسلمين لرفع راية الإسلام على الوجه الذي يرضيه عنا وعنهم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أمرنا وأمر المسلمين كافة فيمن خاف الله عز وجل واتقاه، ونفذ أحكامه، وحكَّم شرعه ظاهراً وباطناً في كل صغيرة وكبيرة، وأن يقينا جميعاً ولاة السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للشباب

نصيحة للشباب Q ما هي نصيحتك للشباب التي يجب أن يلتزموا بها، وأن يقوموا بها في هذا العصر؟ A نصيحتي للشباب ولغير الشباب أن يثبتوا أقدامهم على هذه الأرض التي أصبحت اليوم تهتز بكثير من الناس، وأصبح كثير من الناس الآن على مفرق طريقين بين الحق والباطل، فأوصي هؤلاء الشباب أن يثبتوا أقدامهم، وأن يلتزموا بأوامر الله عز وجل، وأوصيهم بما أوصى به رسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، فإن حذيفة بن اليمان لما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما سيحدث قال: (يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال: قلت: يا رسول! وإن لم يكن يومئذ للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك). ولكن جماعة المسلمين ستبقى -بإذن الله- إلى يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا في الحديث الصحيح فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله -أو حتى تقوم الساعة-) ولذلك فإني أقول لهؤلاء الشباب: عليهم أن يلتزموا، وأن لا يتسرعوا في مفهومهم أو في تصوراتهم أو في أي أمر من أمورهم، كما أن عليهم أن لا يغتروا بهذه الحضارات الملفقة التي جاءت من الشرق والغرب، فإنما هي -كما أخبر الله عز وجل- كسراب بقيعة، والحق هو الذي يبقى، وهذه ستزول؛ لأن الله عز وجل قد حكم بأن هذا الدين سيبقى إلى يوم القيامة، ولذلك فإني أدعو هؤلاء الشباب إلى أن يثبتوا على دين الله عز وجل، خاصة هؤلاء الشباب الذين منَّ الله عليهم بالاتجاهات الخيرة، فأصبحنا نتفاءل بهم كثيراً، وقد كان كثير من الناس يتشاءم، ويظن أن فلاناً وفلاناً من الناس فقط هم الذين سيحرسون دين الله في الأرض، فإذا بالأمر يأتي فجأة، فيتجه شباب المسلمين إلى الله تعالى في كل مكان من أرض الله الواسعة، حتى في بلاد الكفر، فقد ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى هنالك، ولربما تكون هناك نوايا سيئة لطائفة من الناس، ويتوقعون أن فلانا سيفسد حينما يذهب إلى بلاد الكفر، فإذا به يعود قد زاد إيماناً وصلابة في دينه وقوة في عقيدة، فأوصي هؤلاء وأولئك جميعاً بأن يثبتوا على دين الله، وأن لا يتأثروا بما يحيط بهم من أخطاء وأخطار، وأن يتمثل أحدهم بقول الشاعر قاصداً ربه عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب كما أدعوا هؤلاء الشباب إلى أن يثقفوا وأن يوعوا إخوانهم الذين أُصيبوا بما أصيبوا به من تخلف أو ضرر في دينهم.

نصيحة للنساء

نصيحة للنساء Q كثير من الأخوات المسلمات بحاجة إلى توجيه نصيحة لهن، خاصة من تخلط في أمورها بين التبرج وغيره من الأمور التي اُبتلي بها كثير من النساء في هذا العصر؟ A نقول للأخوات: عليهن أن يعلمن أنهن يُغزين في أيامنا الحاضرة أكثر مما يُغزى غيرهن، فتزهد إحداهن في الدين في كثير من الأحيان، ويقال لها: إن هذا الدين قد كبح جماح المرأة، وقد أغلقها عن الناس، وقد عطل نصف المجتمع، وقد ذهب الناس بحرية المرأة في أيامنا الحاضرة، والدين يكبت هذه المرأة. وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها وتسمعها المرأة، وهذه في الحقيقة لا أعتقد أنها ستؤثر على المرأة المؤمنة التي تقرأ كتاب الله عز وجل؛ لأنها تعرف حقوق المرأة قبل أن يأتي هذا الدين، وتعرف حقوق المرأة بعد أن جاء هذا الدين، فتتصور واقعها يوم كانت في الجاهلية، حيث كانت تُدفن خشية العار، وكانت لا ترث حتى ورثها الله عز وجل، بل كانت تُورث، فكانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق أحد أولاده من غيرها فأيهم وضع عليها رداءاً كان أحق بها، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فلا أعتقد أن واحدة من الأخوات المسلمات تتأثر بذلك، خاصة أننا نعيش في فترة قد تعلمت فيها المرأة وتثقفت، فأصبحت تعرف ما لها وما عليها، وتعرف ماضيها وحاضرها، فأدعو هذه المرأة إلى أن لا تنخدع بهذه الدعايات المضللة التي تفد إلينا من الشرق أو من الغرب أو تصنع في بلادنا وفي صحفنا، وعليها أن لا تغتر بشيء من ذلك، فإن الله عز وجل قد أكرمها بالإسلام، كما أدعوها إلى أن لا تتنازل عن شيء من كرامتها، أو شيء من حجابها، أو تظهر شيئاً من زينتها؛ لأن الله عز وجل قد ضرب لها مثلاً بأفضل النساء، ونادى أفضل النساء بأعظم نداء، فعلى هذه المرأة أن تلتزم بهذا النداء، وهو قول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم لا ننسى الآية الآتية بعدها: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فعلى المرأة المسلمة أن تبلغ دين الله عز وجل إلى النساء الأخريات؛ لأن معنى قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) معناه أمر للمرأة المسلمة -خاصة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأن تبلغ دين الله عز وجل لهذا العالم، وأسأل الله تعالى أن يثبت أقدام النساء كما أسأله أن يثبت أقدام الرجال.

حكم التمسح والطواف بالأضرحة

حكم التمسح والطواف بالأضرحة Q بعض الفرق التي تعيش معنا اليوم وتتمسح بالأضرحة وتسألها الحاجات من دون الله يقول بعض أفرادها: إن الآيات التي وردت في بيان أن عبدة الأصنام يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى نزلت في قوم معينين، وهم كفار مكة أو مشركوا قريش الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما هو ردكم؟ A الحقيقة أن هذا الكلام خطير؛ لأن معنى ذلك أن القرآن سيُحصر في وقت معين، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158]، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى يوم القيامة، وأي آية نزلت في فترة فإنها تتحدث عن كل الفترات إلى يوم القيامة، وعلى هذا فإننا نقول لهؤلاء: اتقوا الله عز وجل، ولا ترموا المسلمون وتقذفوهم في النار، وعليكم أن تبينوا لهم طريق الحق، وعليكم أن تبينوا لهم أن الأوثان التي تُعبد من دون الله أياً كانت هذه الأوثان فإنها أوثان، وإذا كان هؤلاء يعتقدون أنها تقربهم إلى الله عز وجل يوم القيامة ويرجون شفاعتها فإن هذه الكلمة لا تختلف أبداً عن قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فالمشركون قالوا: (نعبدهم)، وهؤلاء قالوا كلمة غير كلمة (نعبدهم)، فالاختلاف لفظي، أما الحقيقة فإن ما يفعله كثير من الناس اليوم حول الأضرحة بل حول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم هو شرك، ولو ذهب أحدنا الآن إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأى طائفة من الناس قد أداروا ظهورهم إلى كعبة الله المشرفة، واتجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خاشعون، ويقولون: يا رسول الله! أعطنا كذا. فمن كان يتصور أن هذا سيوجد في المسلمين فضلاً عن أن يوجد في بقعة من أفضل بقاع الأرض وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده، فالشرك قد عاد برمته، ولما قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي: ما شاء الله وشئت أنكر عليه وقال: (أجعلتني لله نداً؟!) فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم ميت؟! والعجيب في هؤلاء أننا إذا قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ميت قالوا: لا. الرسول حي. فنقول: كفرتم بالله إذا قلتم: إن الرسول حي؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكيف يقول الله تعالى: إنه ميت وأنت تقول: هو حي؟ وقال تعالى: {أَفَإِْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، ولذلك لما اضطرب الناس عند أن مات رسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أنكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر رضي الله عنه على الملأ وقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات). والله عز وجل قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنه ميت، وهو حي حياة برزخية، حتى وفي حياته قبل موته صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يعطي الإنسان كل شيء. إذاً ليس هناك الآن لنا سبيل إلى أن نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حاجة من الحاجات، وإنما علينا أن نتقرب إلى الله عز وجل بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالصلاة عليه، وبالسلام عليه، وتكون محبتنا ليست محبة عاطفة، فليست محبتي ومحبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كمحباتنا لأزواجنا ولأولادنا، بل محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة متابعة يجب أن تكون أعظم من العاطفة ومن غيرها، وهؤلاء إذا قيل لهم: اتقوا الله، لا تتمسحوا بقبر رسول الله، هذا أمر لا ينفع ولا يضر، لا تسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل اسألوا الله قالوا: أنتم لا تحبون الرسول صلى الله عليه وسلم. ووالله إننا لأشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ولذلك فإن علينا أن نلتزم، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قائلهم: (ألا إني متبع، ولست بمبتدع). ونحن علينا أن نتبع وأن لا نبتدع؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما الاتباع فقد أمرنا به، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، ولذلك فإني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهدي هؤلاء الذين ضلوا الطريق ففهموا هذا الدين على غير حقيقته إن أحسنا بهم الظن، وإلا فإنهم قد أساءوا إلى هذا الدين، وصرفوا أنواعاً من العبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى صرفوها لمخلوق من المخلوقين، أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.

حكم تفضيل الكفار على المسلمين

حكم تفضيل الكفار على المسلمين Q هناك من المسلمين من انخدعوا بحضارة الغرب الزائفة وبهرتهم، فأصبحوا يفضلون النصارى على المسلمين بدعوى أن النصارى يصدقون في الحديث، ولا يخلفون الوعد، وشيء من هذا القبيل، فيقولون: إن النصارى أفضل من المسلمين، ولا ينقص النصارى إلا أن يصلوا ويصوموا ليكونوا في غاية الكمال البشري، فما رأيكم في هذه المقالة الخبيثة؟ A تفضيل النصارى أو غير المسلمين على المسلمين كفر وردة، والله تعالى نهانا عن موالاة غير المسلمين فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، ولو أردنا أن نحصر الآيات في مثل هذه المواضيع لوجدناها كثيرة، وهذه الحجة الشيطانية انخدع بها طائفة من ضعاف النفوس من المسلمين، فقالوا: إن هناك أخلاقاً وفضائل يتمتع بها النصارى أكثر من المسلمين، وهذا فيه شيء من الحق، وفيه شيء من الباطل، أما أنهم أفضل من المسلمين فهذا أمر باطل، وأما أن هناك أخلاقاً يتمتع بها النصارى -هي في الحقيقة من أخلاق المسلمين- فهذا فيه شيء من الحق وماذا يريد الشيطان من البيت الخرب، فما دامت نفوسهم قد خربت ومصيرهم إلى النار فالشيطان لا يتوعد إلا أن يخرج الناس من الجنة، ومادام قد أخرج هؤلاء من الجنة وأدخلهم النار فإنه قد انشغل بغيرهم من المسلمين، فغيَّر كثيراً من أخلاقهم وفضائلهم، أما أولئك فإن ما لديهم من الفضائل لا ينفعهم عند الله عز وجل شيئاً، ولذلك الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أي: بعمله، كأن يبني المساجد، ويبني المدارس، ويبني المستشفيات، لكنه غير مؤمن {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، أي: نعطيهم الجزاء في الدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً. فلا يغتر أحد بعمل هؤلاء الكافرين، فإنه يُعجل الجزاء لهم في الحياة الدنيا حتى لا يبقى لهم نصيب في الحياة الآخرة، وما لديهم من الأخلاق والفضائل فإنما هو موروث من أخلاق المسلمين يوم استقر المسلمون في بلاد الغرب، وحينما فتح المسلمون مناطق كثيرة من بلاد الكفر، ثم بعد ذلك انتشرت هذه الأخلاق وهذه الفضائل وهذه العادات، حتى إذا تقلص الإسلام من نفوس هؤلاء بقيت تلك الأخلاق. وعلى كلٍ فإن الشيطان لم يحارب هذه الأخلاق في نفوس هؤلاء؛ لأنه سواء استقاموا على هذه الأخلاق والفضائل أو انحرفوا عنها فهم حطب لجهنم.

حكم الغلو في الأنبياء والصالحين

حكم الغلو في الأنبياء والصالحين Q هناك من يغالي في الأحياء، فيتمسح ببعض الأحياء كالعلماء -مثلاً- ويقبل أقدامهم، ويكاد يسجد لهم من دون الله، فنرجو إلقاء الضوء على هذه المسألة؟ A الخضوع لغير الله لا يجوز، إلا فيما أباح الشرع من أن يتواضع الإنسان لوالديه أو العلماء من باب التقدير والاحترام فقط، أما أن يصل إلى تقبيل الأقدام أو أن يصل إلى الانحناء كما يفعله طائفة من الناس إذا أراد أحدهم أن يحيي الآخر فينحني أمامه فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا لا يكون إلا لله عز وجل، فإذا كان الله تعالى قد نهانا أن نعبد غيره أو أن نصرف نوعاً من العبادة لغيره فإن ما نقدمه للأحياء أو للأموات على حد سواء، فكل ذلك صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فإذا انحنيت أمام قبر ميت أو أمام أعتاب حي أو أمام أي مخلوق من المخلوقات انحناءً لا يكون لله عز وجل فقد صرفت نوعاً من العبادة لغير الله، وهذا أيضاً يدخل في باب الشرك، إلا أن هذا يوجد أمام الأموات أكثر من الأحياء، كما يحصل عند الولي فلان والسيد فلان، بل عند الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (اللهم! لا تجعل قربي وثناً يُعبد) ويقولون: لا. لابد أن يُعبد قبرك يا رسول الله. فيذهبون وينحنون أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرفون الدموع، ولا يقولون كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليه أو نصلى عليه: (السلام عليك يا رسول الله)، وإنما يقولون: يا رسول الله! أعطنا كذا. يا رسول الله! أعطنا كذا. والله تعالى أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك نفعاً ولا ضراً لأحد، إلا أن يهتدي الناس بما جاء به من الهدى، كما قال عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]، وإذا كان هؤلاء يقولون: إن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثنا في هذا الأمر وهو ميت فإنهم ينكرون وفاته، ويكفرون من هذه الناحية؛ لأنهم ينكرون آيات كثيرة من كتاب الله تخبرنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات كما يموت سائر البشر، إلا أن الله تعالى يرد عليه روحه إذا سلم عليه أحد ليرد عليه السلام، وحفظ جسده من أن تأكله الأرض، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ميت، ولربما يغالي أحدهم ويقول: إن الرسول خُلق من نور، والله تعالى يقول له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، والبشر يختلف عن النور؛ لأن البشر هو الذي له جسم يباشر الأشياء، ويقولون: لا. فالرسول خلق من نور، وليس له ظل. فنقول لهؤلاء: اتقوا الله! فأنتم تكذبون الله عز وجل الذي يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، وتكذبون رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (ألا إنما أنا بشر)، ويقول أحدهم: هو أول المخلوقات. ونقول له: كذبت، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس أول المخلوقات، ويزيده شرفاً أن يكون آخر الرسل، وهو أعظمهم وأفضلهم عند الله عز وجل، وهو سيد ولد آدم، وهؤلاء يأتون بأشياء ليس لها أدلة، ويشرعون في دين الله ما لم يأذن به الله، ومن هنا ضل القوم الطريق، نسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة.

الجمع بين حديث: (كل بدعة ضلالة) وحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)

الجمع بين حديث: (كل بدعة ضلالة) وحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) Q يشكل على بعض الناس الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فما هو الجمع بينهما؟ A ليس هناك إشكال بين الحديثين، وكلاهما حديثان صحيحان، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) حديث صحيح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب به يوم الجمعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة) هذا أيضاً حديث صحيح، وله مناسبة. وأما كيف نجمع بينهما فنقول: كل بدعة ضلالة، لكن السنة إذا غفل عنها الناس ونسيها الناس ثم جاء أحد المسلمين وذكر المسلمين بهذه السنة فحينئذٍ نقول: سن في الإسلام سنة حسنة؛ لأن الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة) سببه أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإنفاق والبذل، فقام رجل ومعه صرة من مال كادت يده أن تعجز عن حملها، فسلمها للرسول صلى الله عليه وسلم أمامه علناً، فقام الناس وتدافعوا، وصار كل واحد منهم يقدم شيئاً من المال، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سيئة). إذاً من أحيا سنة غفل عنها الناس فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن أمات سنة عمل بها الناس وجعل البدعة بدلها فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، أما الأصل فإن الدين كامل، وكل بدعة ضلالة. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين.

دروس وعبر من قصة يوسف عليه السلام

دروس وعبر من قصة يوسف عليه السلام إن قصة يوسف من أروع القصص وأعجبه في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العبر والعظات، وأنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن ذل إلى عزّ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، وفيها يظهر لطف الله تعالى وعنايته بأوليائه وأصفيائه، وتأييد الله لهم في أحلك الظروف وأشدها، وغير ذلك.

بين يدي سورة يوسف عليه السلام

بين يدي سورة يوسف عليه السلام الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مليئة بالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب، ويتبين من خلالها الفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار. فيجب علينا أن نأخذ من هذه القصة العظة والعبرة، لا سيما وأن المبتلى في هذه القصة نبي من خيار أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. وقد اشتملت على محن وعلى أمور عظام تعجز عن حملها الجبال، ثم يتحملها ولي من أولياء الله عز وجل؛ لنأخذ من قصته الدروس والعبر، وهذه السورة نستطيع أن نلخص محتواها في جزء من آية وردت فيها، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام حينما انكشف أمره لإخوته قال لهم: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ونستطيع أن نلخص هدف السورة في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فالتقوى والصبر هما سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقصة يوسف عليه السلام من أروع وأعجب القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن ذل إلى عز، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولى الألباب. وسنتحدث عما تيسر من الدروس والعبر المستفادة من قصة يوسف عليه السلام.

ضرورة العدل بين الأولاد

ضرورة العدل بين الأولاد في قوله تعالى: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] ذهب طائفة من المفسرين إلى أن إخوة يوسف الأحد عشر أنبياء، وهم الأسباط الذين يذكرهم الله عز وجل في كل آية يعدد فيها الأنبياء، فقد أخذتهم الغيرة بسبب تقديم يعقوب عليه السلام يوسف في المحبة، فإن يوسف عليه الصلاة السلام نال من أبيه محبة شديدة، حتى ما كان يسمح ليوسف عليه السلام أن يخرج مع إخوته لرعي الغنم، وهذه المحبة كانت من أكبر الأسباب التي أوغرت صدور إخوة يوسف ضد أخيهم يوسف عليه السلام. ولذلك فإن العدل بين الأولاد يعتبر أمراً مهماً لا يجوز تضييعه، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (إني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) حينما أراد أن يفضل أحد الأولاد على بعض، ولذلك ما يحدث من العقوق من الأولاد لربما يكون أكبر أسبابه هو عدم العدل بين الأولاد، فهؤلاء بينوا العلة التي جعلتهم يغارون من أخيهم يوسف عليه السلام حيث قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] حتى قالوا لأبيهم عليهم الصلاة السلام جميعاً: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ثم أدى ذلك إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، فقالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] وهذا دليل على أن تفضيل أحد الأولاد دون الآخرين يغرس الحقد والكراهية لهذا الولد المفضل، ولربما يصل إلى ذلك الأب فيكون سبباً من أسباب العقوق.

الصبر على الابتلاء وعدم الجزع

الصبر على الابتلاء وعدم الجزع المسلم عند البلاء لابد أن يصبر، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الحياة وهي مبنية على الأكدار، يقول الشاعر: بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الآفات والأكدار فمن أراد أن تصفو له الحياة فعليه أن يراجع حسابه؛ لأنه يحاول أمراً مستحيلاً، فالدنيا مليئة بالمصاعب والمتاعب التي تعكر صفو هذه الحياة، وأما الراحة الأبدية والسعادة السرمدية ففي الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك أنبياء الله عليه الصلاة والسلام يلاقون في هذه الدنيا من العناء والتعب ما لا يتحمله غيرهم، ولكنهم يقابلون هذه البلايا وهذه الفتن بالصبر، ولذلك لما فوجئ يعقوب عليه السلام بالقصة المكذوبة المصطنعة في أن يوسف قد أكله الذئب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، والصبر الجميل هو الذي لا يكون معه جزع، وما ورد من حزن يعقوب عليه السلام على ولده يوسف فإنما هي عاطفة الأب نحو ابنه، فالصبر هو طريق الفرج، وهو طريق الجنة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فإذا ابتلي الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله أو في أي شيء من الأمور. فعليه أن يصبر الصبر الجميل، ويعقوب عليه الصلاة والسلام قال لما فقد ابنه يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وقال لما فقد ابنه الآخر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83].

لطف الله وعنايته بأوليائه

لطف الله وعنايته بأوليائه لما عدل أخوة يوسف عن قتل يوسف عليه السلام بناءً على مشورة أخيهم وألقوه في البئر ما كانوا يظنون أن يوسف عليه السلام سيخرج من هذه البئر حياً، بل كانوا يظنون أنه سيلقى حتفه في ذلك البئر، وما كان يوسف عليه الصلاة والسلام -لولا يقينه بربه- يظن أنه سوف يخرج من هذا البئر، ولكن الله تعالى له لطف خفي، وهذا اللطف لربما يتأخر ولا يأتي إلا في ساعة الصفر، وفي آخر لحظة من لحظات احتياج هذا الإنسان إلى رحمة الله عز وجل. من يصدق أن يوسف عليه السلام يلقى في البئر طفلاً ليصبح في يوم من الأيام ملك مصر؟ إنها آية من آيات الله عز وجل، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا بطاعة الله، وعليهم التسليم والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره في أي أمر من الأمور التي تصيبهم، فإذا كانوا كذلك فليبشروا من الله عز وجل بالفرج، فلما ألقي يوسف عليه السلام في البئر جاءت قافلة تريد مصر، فأرسلوا واردهم الذي يطلب لهم المياه فأدلى دلوه فتعلق به يوسف عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19]، ولما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها اشتراه عزيز مصر، وأوصى ملك مصر زوجته به خيراً {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ثم علمه الله عز وجل الحكمة وتأويل الأحاديث، وهذا كله من لطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين، فالمرء إذا تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء عرفه الله عز وجل في حال الشدة، وإذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى في حال الرخاء فإن الله عز وجل يتركه في وقت الشدة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام أنقذه الله عز وجل من كل هذه المحن والشدائد العظام والأحداث الجسام، قال الله عز وجل: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]. فقد نرى ولياً من أولياء الله يحيط به العدو من كل جانب، وتتكالب عليه فتن الحياة الدنيا ومصائبها وآفاتها، حتى يظن الناس أنه قد هلك، وأنه لا يستطيع الخلاص من ذلك كله، فإذا به يتخلص بقدرة الله عز وجل وفضله وكرمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيوسف عليه الصلاة والسلام عرفه الله عز وجل في وقت الشدة والضيق وخلصه، وندب إليه سيارة من الناس كانوا يسيرون في صحراء سيناء، ووقعوا على تلك البئر فأخرجوه منها، ثم أصبح هذا الغلام في يوم من الأيام ملكاً على مصر.

استشعار رقابة الله تمنع العبد من الوقوع في المحرمات

استشعار رقابة الله تمنع العبد من الوقوع في المحرمات عرضت امرأة العزيز نفسها على يوسف، وطلبت منه أن يفعل بها الفاحشة، وكانت من أجمل النساء، إضافة إلى أنها سيدته، والمسيطرة عليه وعلى شئون البيت، بل وعلى العزيز نفسه، وكان يوسف عليه السلام شاباً في ريعان شبابه، وبحاجة إلى هذا الأمر وإلى إشباع غزيرته، وشهوة الجنس شهوة سريعة الاشتعال، لا تعطي المرء فرصة للتفكير، ولربما يغفل المرء عن إيمانه فيقع فيما حرم الله. ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام -بحفظ من الله عز وجل- لما عرضت عليه هذه الشهوة في خلوة لا يطلع عليه إلا الله عز وجل قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]. فالإنسان في مثل هذه المواقف عليه أن يراقب الله عز وجل، لاسيما إذا عرضت عليه هذه الشهوة وهو بعيد عن أعين الناس، ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة، كما في الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله). وتأمل معي هذا الموقف! رجل تدعوه امرأة إلى الفاحشة، والمرأة ذات مكانة عالية، ولربما فرضت نفسها بالقوة على هذا الرجل، إضافة إلى أنها باهرة الجمال، والجمال كما هو معلوم من أشد ما يغري الرجل بالمرأة، ولكن مع ذلك كله رفض فعل الفاحشة، وقال: إني أخاف الله. فكان جزاؤه أن جعل الله عز وجل له جنتين جنة لسكنه، وجنة لأزواجه وخدمه، وإنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] فلابد من أن يتفكر العبد ويتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ولذلك مدح الله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب فقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] غابوا عن أعين الناس، ولكنهم استشعروا عظمة نظر الله إليهم، وذلك كله يدل دلالة واضحة على ثبات نبي الله يوسف عليه السلام في مثل هذه المواقف، التي لا يثبت فيها إلا من زكى الله قلبه وطهر نفسه.

تأييد الله لأوليائه في أحلك الظروف وأشدها

تأييد الله لأوليائه في أحلك الظروف وأشدها جعل الله عز وجل لأوليائه الصالحين في أحلك المواقف وأصعب الظروف فرجاً ومخرجاً، ويتضح هذا الأمر بجلاء من خلال ما حصل من امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام، لما جاء العزيز زوجها ووجد المرأة تلاحق يوسف عليه السلام داخل الدار، فقلبت القضية وجعلت يوسف عليه السلام كأنه هو الذي يراودها عن نفسها، وهذا الظلم شديد الوقوع على النفس {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112] فقلبت القضية ضد يوسف عليه السلام، وادعت أن يوسف عليه السلام يلاحقها ويراودها عن نفسها، وليس لدى يوسف عليه السلام من الأدلة ما يستطيع أن يبرئ به نفسه؛ لأنه ضعيف مغلوب على أمره، خادم داخل البيت كالرقيق يباع ويشترى، من سيدافع عنه في مثل هذه الحال؟ ومن سيعيد إليه ماء وجهه وكرامته؟ ومن سيرد إليه اعتباره؟ فتلك المرأة اتهمته زوراً وبهتاناً حيث قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]. ولكن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أنطق طفلاً رضيعاً مازال في المهد في بيت امرأة العزيز، وشهد شهادة حق، وجعل هذه الشهادة مؤيدة بالبينات الواضحة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] فأصبح العزيز أمام الأمر الواقع، فعرف أن الذي فعل هذه الجريمة هو زوجته وليس يوسف عليه الصلاة والسلام. فأظهر الله عز وجل براءة يوسف عليه السلام بطريقة ما كان أحد يفكر فيها أو يتصورها، وما كان يوسف عليه السلام يظن أن طفلاً في المهد سوف ينطق ليشهد ببراءته، فإن هذه تعتبر آية من آيات الله عز وجل، وهكذا يظهر الله عز وجل الحق على لسان ذلك الطفل الرضيع. ولقد وصل ضعف الغيرة ببعض الرجال إلى أنه يرى زوجته تراود شاباً ثم لا يتمعر وجهه ولا يغضب لمحارمه فضلاً أن يغضب لله عز وجل، ولذلك تجد أن العزيز لم يغضب لما تأكد أن زوجته فيها فساد في فطرتها وانحراف في أخلاقها، وإنما قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] وهذا في الحقيقة ليس موقف الرجال حينما يرون الخنا في أهليهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الدياثة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) فالرجل العاقل ذو الغيرة عليه أن يغضب في مثل هذه الأمور، وأن يضع حداً لهذه الزوجة التي تسعى إلى الفاحشة بنفسها، نسأل الله السلامة والعافية.

تحمل المؤمنين للأذى وثباتهم على الحق

تحمل المؤمنين للأذى وثباتهم على الحق في المرة الأخرى أمرت امرأة العزيز يوسف عليه السلام أن يفعل معها الفاحشة بالقوة وهددته بالسجن إن امتنع من فعل الفاحشة، فجمعت النساء اللواتي كن يلمنها على حب يوسف عليه السلام لتريهن ما فيه من جمال {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] فأغرين امرأة العزيز بهذا الشاب، {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]. ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل بها الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فابتلى يوسف عليه السلام بحب النساء له؛ لأنه فيه نضارة، فتوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف عنه مكر النساء، حتى لا يقع فيما حرم الله، لكنه فضل العيش في السجن على الوقوع في شيء مما حرمه الله عز وجل. ولقد أصبح كثير من الناس اليوم لا يطيق السجن ولا ساعة من نهار، ولربما يترك كثيراً من أوامر الله عز وجل مخافة أن يدخل السجن، وأصبح كثير من الدعاة في أيامنا الحاضرة يتأخرون عن واجبهم خشية أن يدخلوا السجن، وأصبح كثير من المصلحين يرجعون من منتصف الطريق حتى لا يتعرضوا للأذى، وهذه من أكبر البلايا التي أصيب بها الناس في هذا العصر. يوسف عليه الصلاة والسلام فضل العيش في السجن على أن يفعل شيئاً حرمه الله عز وجل، وهؤلاء استرخوا وناموا واستلذوا العيش الطيب وركنوا إلى الحياة الدنيا، فلا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما من كان منهم من العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، ولكنهم لم يصدعوا بكلمة الحق خوفاً من البشر، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فالناس اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة الحق، وحاجتهم إلى ذلك أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء. ولذلك ذكر الله عز وجل عن قوم يبدءون مشوارهم بالإيمان، ولكنهم يرجعون من منتصف الطريق دون أن يكملوا مسيرتهم إلى الله عز وجل والدار الآخرة، فإذا أوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين، وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] إن الذي يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل مشواره كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحس بظفر أو غنيمة استقر وإلا فر، قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} [الحج:11]. والمؤمن بمقدار ما تزيد الفتنة والبلاء والعذاب أمامه بقدر ما يزيد إيمانه ويقينه بالله والثقة بنصره عز وجل، والمؤمن الحق حينما يرى العقبات في طريقه يزداد ثقة بالطريق الذي يسير فيه، وإذا رأى الطريق ممهدة مفروشة بالورود والرياحين فإنه يشك في صحة هذا المسار، وهذا هو الصحيح بالنسبة لسير المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ الذين تحزبوا ضدهم وأحاطوا بهم من كل جانب قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] أي: من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:22 - 23]. وفي عصرنا الحاصر نصبت العقبات في طريق الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتحولت السجون إلى معتقلات للمؤمنين، ولربما لو عملنا إحصائية في سجون العالم الإسلامي هل الذين يدخلونها أكثر من الجامحين الفسقة المجرمين أم من الدعاة الصالحين لرأينا أن جُلّ من يدخل هذه السجون هم المصلحون والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على صحة الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة. فعلى الداعية المخلص أن يصدع بكلمة الحق، وأن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يلاقيه حتى لو تحمل السجن مدى الحياة، وعليه أن يتحمل الأذى ما دام ذلك في ذات الله؛ لأن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. فعلى الدعاة أن يعلموا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في بيعة سابقة مصدقة في التوراة والإنجيل والقرآن، فليس هناك خيار في مثل هذا العمل، وإنما الأمر هو جبن يصيب بعض الناس فيرجع من منتصف الطريق، يخشى على نفسه أو على ماله أو على أهله، أو يخشى أن يدخل السجن، وما عرف أن يوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قال له الطاغية الجبار: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في السجن ثلاث سنوات مقاطعاً في الشعب. المسألة هي مسألة ابتلاء، والله عز وجل ليس عاجزاً أن ينصر أولياءه، وإنما الله تعالى يريد أن يتميز المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، يقول تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] فتمييز الخبيث من الطيب لا يكون إلا عند الشدائد وعند الأمور العظام، أما إذا كان الناس كلهم على مستوى كامل في الإيمان وكلهم أتقياء وليس هناك من يؤذي الدعاة والمصلحين لو كان الأمر كذلك لكان الناس كلهم دعاة ومصلحين، ولتعطلت الحكمة من خلق النار، والله عز وجل يقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. إذاً التهديد لا يضير المؤمن، والمؤمن كذلك لا يقدم شهوة حاضرة على غيب تأكد من أنه سوف يلاقيه، ولذلك لما هددت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بالسجن قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] وهذا يعتبر في الحقيقة أعلى درجات الإيمان، يرفض الشهوة في الحرام، ويتحمل في سبيل هذا الرفض أن يكون سجيناً ذليلاً طريداً عن ملك العزيز، لكنه يعرف أنه ما زال يعيش في ملك الله عز وجل وفي كنفه وحفظه، وفعلاً يدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن، ويبقى في السجن بضع سنين؛ لأنه رفض الحرام، ولأن الله عز وجل يريد أن يبتلي يوسف عليه السلام، ويريد أن يعلم الناس كيف يواجهون الطغاة والمتجبرين في الأرض، وكيف يواجهون الشهوات التي تعترض طريقهم، وأنه لا سبيل للخلاص منها إلا بالإيمان بالله والاعتصام به جل جلاله.

الإحسان وأثره العظيم في كسب قلوب المدعوين

الإحسان وأثره العظيم في كسب قلوب المدعوين لربما يفكر أحد الناس بأن يكون من المصلحين، لكنه لا يقدم للناس وللمجتمع خيراً ولا خدمة، ولا يمتلك موهبة جذب قلوب الناس إليه، وليس عنده لباقة، مثل هذا لا ينجح في مهمته، ولذلك تأثر السجناء بدعوة يوسف عليه الصلاة السلام لما رأوا من إحسانه، فلما جاءوا إليه قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فإحسان يوسف عليه السلام هو الذي جذبهم إليه فجعلهم يذعنون لنصائحه وتوجيهاته {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] وغيرها من التوجيهات التي كان يمليها عليهم يوسف عليه الصلاة والسلام.

اقتناص الفرص المناسبة لبذل النصيحة

اقتناص الفرص المناسبة لبذل النصيحة على الداعية أن يقدم النصيحة مع حاجة الناس إليه، حتى يتقبل الناس هذه النصيحة بدافع الحاجة، ويكون من المحسنين فيقبلون عليه، فإذا أقبل الناس عليه فإن عليه أن يستغل فرصة ما يقدمه من خدمة في سبيل الدعوة، ولذلك لما قال الغلامان: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف:36] استغل الفرصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقدم لهما من النصائح ما يستفيدان منها مقابل أن يقضي حاجتهما، فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، فهما ما جاءا ليعظهما وإنما جاءا ليعبر لهما الرؤيا، لكنه رأى أنه يقدم هذه النصيحة قبل أن يعبر لهما الرؤيا؛ لأنهما بحاجة ماسة إلى أن يعبر ويفسر لهما رؤياهما التي رأياها في المنام، وهذا أيضاً منهج في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن المنهج الأول ينبني على أن الداعية أن يقدم بين يدي دعوته إحساناً ومعروفاً لهؤلاء الناس حتى يكون محبوباً لدى الجميع فإن عليه أيضاً أن يقدم النصيحة وهي ملفوفة بلفائف حاجة هؤلاء الناس.

العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر

العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر ومن هذه النصائح التي قدمها يوسف عليه الصلاة والسلام أن العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]. ومعنى ذلك الكلام أن الحكم يجب أن يكون لله كما أن العبادة لله، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل يدخل فيها الحكم، وعلى هذا فإن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر لا شك عندنا في ذلك، فإذا كانت العبادة لله فالحكم يجب أن يكون لله، ولذلك الذين يحكمون بين الناس بآرائهم ويأتون بقوانين البشر وآراء الرجال إنما هم من رءوس الطواغيت؛ لأنهم يدعون الناس إلى عبادتهم، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو أحد رءوس الطواغيت الخمسة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك يتضح ضلال العلمانيين -قاتلهم الله أنى يؤفكون- الذين يزعمون أن العبادة لله والحكم ليس لله، والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فليس هناك فرق بين الحكم وبين العبادة، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل، ومن فروعها الحكم، فمن عبد معبوداً فإن عليه أن يخضع لحكمه، فالذين يستمدون أنظمتهم من فرنسا ومن بلاد الكفر هم عباد لهؤلاء الكفرة، ومن أخذ حكمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عبد لله عز وجل، وبمقدار ما يدنو المرء من العبودية لله سبحانه وتعالى بمقدار ما يزيد شرفه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا لكن ذلك الذي يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين يأخذ قوانينه وأنظمته وتشريعاته منه هو عبد لذلك المخلوق. فالحكم والعبادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا كان من وصايا يوسف عليه الصلاة والسلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فهذا أمر من أوامر الله عز وجل ويجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فالحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] والمتحاكم إلى غير الله عز وجل يصدق فيه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60].

ظهور الحق ولو بعد أمد

ظهور الحق ولو بعد أمد الحق لابد من أن يظهر وإن اختفى مدة من الزمن، فقد بقي يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن بضع سنين، وأصبح الناس في أرجاء مصر يتحدثون بأن يوسف يهوى امرأة العزيز، وأصبح يوسف عليه الصلاة والسلام مشوه السمعة، ولم يُقَلْ عنه: إنه سجن لأنه رفض الفاحشة خوفاً من الله عز وجل. وبقيت سمعته ملطخة مدة من الزمن إلى أن أظهر الله عز وجل الحق، فالحق لابد أن يظهر وإن غطاه ما غطاه من ظلام الليل، ولذلك اعترفت امرأة العزيز بالحقيقة وقالت: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:51 - 52] فاعترف المجرم بجريمته وأثبت نزاهة المتهم الذي ما كان موضعاً للتهمة في يوم من الأيام، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، فعلى المؤمن أن يتحمل ويصبر على ما يلاقيه من أذى وفتن وتهم في سبيل دينه دعوته، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يظهر الله عز وجل فيه براءته على الملأ أجمعين، قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].

النهي عن أن يمدح المسلم نفسه

النهي عن أن يمدح المسلم نفسه لا يجوز للمسلم مهما كان تقياً نقياً أن يزكي نفسه، بل عليه أن يكون على خوف من أن يقلب الله قلبه؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولأن الله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، ولذلك نجد أن امرأة العزيز لما قالت: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] قال يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53] على خلاف بين المفسرين هل هذا من كلام يوسف عليه السلام أو من كلام امرأة العزيز، فنفس أي إنسان معرضة للفتنة، ومعرضة للبلاء، ومعرضة للمعصية إلا إذا رحم الله عز وجل هذه النفس، فإذا رحم الله عز وجل هذه النفس زكاها وطهرها وحفظها من الفتن، كما حفظ الله جل جلاله نفس يوسف عليه الصلاة والسلام أمام أشد أنواع الفتن التي اعترضت سبيله.

جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الكفاءة

جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الكفاءة هناك نصوص تنهى المسلم عن طلب الولاية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا ذر رضي الله عنه عن طلب الولاية، كما نهى أيضاً عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن ذلك وقال له: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) فطلب الإمارة يعتبر خلاف الشرع؛ لأن الذي يطلب الإمارة إما أنه يريد أن يرتفع على الآخرين في هذه الحياة، ومن منطلق القوة ربما يبطش بهؤلاء البشر، أو أنه يزكي نفسه، وكلاهما خطأ، ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية على بيت المال وعلى وزارة المالية في مصر، فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فكيف نستطيع أن نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد في الأحاديث من النهي عن طلب الإمارة؟ يمكن أن نوجهها بأن القاعدة الشرعية تنص على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد ورد شرعنا بخلافه، وهذا في شريعة يوسف عليه الصلاة والسلام. ونستطيع أن نقول -وهو الأقرب والله أعلم-: إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن البلد قد أقبلت على خطر، وأقبلت على مجاعة شديدة لربما أهلكت البلاد والعباد من خلال الرؤيا التي رآها العزيز، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فرأى أن يتولى أمر مالية مصر لتكون الخزانة محفوظة لا يتلاعب بها أحد كما يتلاعب كثير من الناس بأموال الدول الإسلامية اليوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة) لأن مال المسلمين محترم أكثر من مال الفرد، فكما أنه تقطع يد السارق إذا سرقت مال الفرد فإن أموال الدولة والمسلمين محترمة أكثر من ذلك؛ لأنها يدلي فيها كل واحد من هؤلاء المسلمين، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن العالم قد أقبل على هاوية وعلى مجاعة، وأنه لو تولى أمر هذه البلاد فإنه سوف يصلح الأمور، ولذلك يقول العلماء: إذا علم من يطلب الولاية أنه يستطيع أن يقوم بها على خير وجه، وأن غيره ربما يقصر فتتدهور الأمور ففي مثل هذه الحال يطلب الإمارة ويطلب الولاية ويطلب السلطة. كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

لا تحمل نفس ذنب غيرها

لا تحمل نفس ذنب غيرها كان أهل الجاهلية يغيرون على قوم فيبيدونهم عن آخرهم بسبب ذنب رجل واحد، وكذلك اليوم لا تسل عما يحدث، أمم تباد بسبب أخطاء أفراد، ويؤخذ الكثير بجريرة رجل واحد. أما في دين الله عز وجل فإن كل امرئ بما كسب رهين في الدنيا والآخرة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره، ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف عليه الصلاة والسلام: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:78 - 79] مع أنهم عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم ليكون بدلاً عن الذي وجدوا المتاع عنده وهو أخو يوسف، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يصدر تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة، فقال حكاية عن لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] فالذي يأخذ غير المذنب يعتبر ظالماً لنفسه وظالماً للأمة. فلا يؤخذ الابن بذنب الأب، ولا يؤخذ الأب بذنب الابن، فـ الحجاج بن يوسف وهو أشد رجل عرفه تاريخ الإسلام قساوة، كان قد أصدر ذات يوم قراراً بأنه إذا فقد الرجل فسوف يأخذ كل أهله وذويه حتى يجد ذلك الرجل، فقالوا له: لكن الله تعالى يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79] فقال: كذب الحجاج وصدق الله.

الشكوى إلى الله لا إلى الخلق

الشكوى إلى الله لا إلى الخلق الشكوى يجب أن تكون لله عز وجل وحده، وهذا هو منهج الأنبياء والمصلحين وكل مؤمن، فالشكاية التي ترفع لغير الله عز وجل مذلة، ولذلك فإن يعقوب عليه الصلاة والسلام بالرغم مما أصابه من الحزن، وبالرغم من أنه يعلم أن يوسف ما زال موجوداً على قيد الحياة لأن الله تعالى أوحى إليه بذلك لكنه لم يشك إلى أحد أولاده الأحد عشر مع أنهم يستطيعون أن يبحثوا عن يوسف، وإنما قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] لأن الشكاية لغير الله عز وجل مذلة، ومن نزلت به بلية أو فتنة أو مصيبة فأنزلها بخلق الله لم يزيدوه إلا ضعفاً، ومن أنزلها بالله عز وجل فإن لله خزائن السماوات والأرض، وهو وحده القادر على تنفيس الهموم وتفريج الكروب.

عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى

عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى لا يجوز اليأس ولو قامت كل الأسباب التي تدل على أن هذا الأمر ليس له حل؛ لأن اليأس معناه القنوط من رحمة الله، والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو قادر على إيجاد الحلول لكل المعضلات والملمات، وكل شيء عنده بمقدار وبأجل مسمى، فاليأس من روح الله ومن رحمة الله كفر بالله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] والمسلم عليه مهما تأخرت إجابة دعوته أو حصول مطلوبه في هذه الحياة أن يطرق باب الكريم سبحانه وتعالى دائماً وأبداً بالدعاء والتضرع، وبمقدار ما يتوسل ويتضرع بين يدي الله عز وجل بقدر ما يحصل مقصوده وينال مراده؛ فإن الله سبحانه وتعالى كريم جواد، ولذلك فإنه لا يجوز اليأس من روح الله سبحانه وتعالى.

التقوى والصبر مفتاح كل خير

التقوى والصبر مفتاح كل خير أعتقد -والله أعلم- أن القصة كلها تدور حول التقوى والصبر، وأنها مفتاح لكل خير، فما حدث ليوسف ولأبيه يعقوب، وما حصل من الفتن العظيمة من إلقائه في البئر، ومن بيعيه وشرائه، ومن أذية يوسف عليه الصلاة والسلام في بيت العزيز، ومن السجن، ومن الأذى الشديد كل ذلك درس من دروس هذه الحياة، من أجل أن يعلم الله عز وجل الناس الصبر، وأن طريق الجنة صعبة وعرة، فالجنة حفت بالمكاره، فهذا نبي من أنبياء الله لقي من الأذى ولقي من الفتن والبلايا ما لا يتحمله إلا عظماء الرجال. ولذلك الله تعالى أخبر أن هناك عاملين هما السبب في أن يصل يوسف إلى ما وصل إليه من حكم بلاد مصر هما التقوى والصبر، فالذي لا يتقي الله عز وجل لا يدرك مطلوبه، والذي لا يصبر ويتحمل في سبيل دينه كل مشقة وكل عناء قد ينقلب على عقبيه، ولذلك الله تعالى قال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]. ولذلك تعتبر هذه الآية هي خلاصة القصة والهدف منها، ولا يمكن أن يصل العبد إلى مطلوبه وينال مراده إلا بالتقوى والصبر.

العفو عند المقدرة

العفو عند المقدرة العفو عند عدم المقدرة أمر يسير؛ لأن الإنسان عاجز عن أن ينال من عدوه، لكن حينما يظفر بعدوه ثم يعفو ويتجاوز عنه ويبحث عما عند الله من الجزاء فإن هذا يعتبر أفضل طريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ولذلك فإن يوسف عليه الصلاة والسلام بالرغم مما فعل به إخوته من إلقائه في البئر، والمخاطرة بحياته، ثم أذية أبيه بفقد يوسف هذه المدة الطويلة التي قال بعض المفسرين: إنها بلغت أربعين سنة حتى ذهب بصره، ومع ذلك كله عفا عن إخوته رغم قدرته على إنزال أشد العقوبات قساوة بهم، وقابل إساءتهم بالإحسان {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:91 - 92] وهذا هو العفو عند المقدرة، فإن هذه صفات العظماء الأجلاء، الذين يتحملون في سبيل دعوتهم كل أذى، ولذلك فإنه عفا عنهم وقال: (لا تثريب) و (لا) هنا نافية للجنس، نفى هنا حتى العتاب، أي: لا أعاتبكم أبداً. وكونه ينفي العتاب دليل على أنه قد تجاوز عن هذا الذنب الذي فعلوه معه. إن العفو عند المقدرة هو أفضل طريق يستطيع أن يكسب فيه المرء القلوب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظفر بأهل مكة يوم الفتح، وكان يستطيع أن يقطع رءوس القوم الذين آذوه لمدة ثلاث عشرة سنة إضافة إلى ثماني سنوات وهو مطارد في المدينة، ثم لما دخل مكة فاتحاً قال عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أيها الناس! ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب العفو عند المقدرة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عفا أيضاً عند المقدرة، وقال لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:92].

قصة يوسف منهج لكل داعية يريد نجاح دعوته

قصة يوسف منهج لكل داعية يريد نجاح دعوته قصة يوسف عليه الصلاة والسلام منهج لكل داعية يريد أن ينجح في دعوته في هذه الحياة، ومنهج لكل مصلح يريد أن يكون لإصلاحه أثر في هذه الحياة، ولذلك الله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: قل يا محمد: سبيل يوسف عليه السلام هي سبيلي أنا أيضاً في الدعوة إلى الله عز وجل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فلا بد أن نتقيد بهذا السبيل، ونتقي ونصبر ونحسن العمل، ونتحمل الأذى في سبيل الله عز وجل، ونتحمل كل ما نلاقيه في ذات الله عز وجل ومن أجل دين الله عز وجل، وهذا سبيل يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل جميع المرسلين، وهي سبيل كل داعية، أما الداعية الذي يريد أن يسير في ركب هذه الدعوة دون أن يتحمل سجناً، أو دون أن يتحمل أذى، أو دون أن يبتلى في دينه، أو دون أن تعرض عليه شهوات الحياة الدنيا من نساء ومال ومركز وأذى وقتل وتعذيب فمثل هذا لا يسير على سبيل معتدلة، بل على سبيل معوجة، أما السبيل المعتدلة فهي ما عرفناه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. ولذلك فإن السبيل الذي يجب أن يأخذ منه الدعاة بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة منهجهم كتاب الله عز وجل، فإنه فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا.

مجيء النصر في آخر أشواط الكفاح

مجيء النصر في آخر أشواط الكفاح النصر قد يتأخر، فتضيق صدور، وييئس أقوام، ويرجع أقوام كثر من منتصف الطريق، ويرفع كثير من الناس أيديهم عن الدعوة، وقد يتراجع الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دون أن يكملوا المشوار، وقد يستكثر الدعاة المصلحون المجاهدون في سبيل الله مدة الجهاد، وكل ذلك لا يجوز في حياة المسلمين أبداً بأي حال من الأحوال؛ لأن النصر لا يأتي إلا في آخر شوط من أشواط الكفاح والجهاد، فإذا اشتدت الأمور وعظمت، ووصل الأمر إلى حد اليأس من بعض الناس حينئذٍ يأتي النصر، ولا يأتي النصر في أول الطريق إنما يأتي في آخر الطريق، ولو جاء في أول الطريق لما كان هناك كفاح وجهاد، ولكنه يأتي في آخر شوط من أشواط الكفاح {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] والله عز وجل يقول في آية أخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. علينا أن نوطن أنفسنا ونحن نضع أول قدم نسلكها في هذا السبيل إلى الله عز وجل والدار الآخرة والكفاح في سبيل حياة الأمم وسعادتها في الدنيا والآخرة، نوطن أنفسنا على أن الطريق وعرة، وأنها مملوءة بالعقبات، لكن لنتأكد أنه في آخر شوط من أشواط هذا الطريق سوف يأتي نصر الله عز وجل {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

غربة الإسلام

غربة الإسلام لقد جاء الإسلام والناس في غربة شديدة، فثبت الصحابة رضوان الله عليهم أمام تلك الغربة وأهلها، وتمسكوا بدين الله عز وجل رغم ما لاقوه من شدائد وآلام، حتى تغلبوا على تلك الغربة، وقضوا عليها في مدة وجيزة، وأقاموا دولة الإسلام، ولكن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الغربة سوف تعود، وهاهي قد عادت بكل مظاهرها، فلزاماً على المسلم الحق أن يقف أمام هذه الغربة، وأن يثبت في وجهها، وذلك بالثبات على دين الإسلام كما ثبت عليه الصحابة رضوان الله عليهم.

الغربة الأولى

الغربة الأولى الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويوحد بينها، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وأصلي وأسلم على البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أحبتي في الله! أشكر الله تعالى ثم أشكر لكم هذا الحضور المبارك، سائلاً الله عز وجل أن يجعلني عند حسن ظنكم بي، وأنا دون ما تظنون بكثير، ولكني أسأل الله تعالى أن يوفقنا للحكمة وفصل الخطاب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس). إننا نستطيع أن نتكلم عن هذا الحديث من خلال عدة عناصر: أولاً: الغربة الأولى. ثانياً: كيف اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة فقامت دولة الإسلام السامقة. ثالثاً: كيف نام المسلمون فعادت الغربة مرة أخرى. رابعاً: غربتنا اليوم وأهم مظاهرها. خامساً: كيف نستطيع أن نجتاز الغربة التي نعيشها اليوم. من خلال هذه العناصر نستطيع أن نتحدث قليلاً عن هذا الموضوع المهم، لا سيما في هذه الظروف العصيبة من تاريخ أمتنا الإسلامية، علماً أننا لا نتناسى ولم نتناس هذه الصحوة المباركة، التي أرى اليوم أهم مظاهرها في الشباب الملتزم بدينه، وأسأل الله أن يثبت الأقدام. أخي في الله! الغربة الأولى لا تحتاج إلى مزيد حديث، فلقد حدثنا التاريخ عنها حديثاً طويلاً، وكيف كان المستضعفون من المسلمين في صدر الإسلام الأول يلاقون من العناء، لا سيما بعد أن جهر الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته، وأنزل الله عز وجل عليه قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فصعد الصفاء وقال: (يا بني فلان، ويا بني فلان) حتى اجتمع القوم حوله فقال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)! فبدأ الصراع بين الحق والباطل، علماً أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. يقول الله تعالى لأبينا آدم وإبليس مخبراً عن قدم الصراع بين الحق والباطل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] ثم إن إبليس طلب من الله أن يؤخره ويمهله إلى يوم يبعثون، فأعطاه الله عز وجل المهلة إلى يوم الوقت المعلوم. كل هذه الفترة الطويلة ميدان للصراع بين الحق والباطل، ولا يمكن للحق أن يهادن الباطل ولا يمكن للباطل أن يهادن الحق، سنة الله في هذه الحياة، ولكن لله جنود السماوات والأرض. ومن هنا بدأ الصراع في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين الحق والباطل، حتى لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من الأذى في سبيل الدعوة مالا يخفى على أحد من المسلمين، كما سطره لنا تاريخ الإسلام، وكما أشارت إليه السنة النبوية، بل كما أشار الله عز وجل إليه في القرآن. صور الله عز وجل لنا تلك المرحلة -وهي مرحلة سوف تتكرر عبر التاريخ- صورها الله عز وجل بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، ثم يقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. تصوروا مقدار المحنة التي مرت بالأمة (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله). فقوله: (وَزُلْزِلُوا) أي: كأن الأرض تضطرب بالمسلمين من شدة ما يلاقونه من عدوهم. ثم أيضاً تزيد هذه الشدة إلى أن يتساءل الرسل ويتساءل أتباع الرسل: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟ وتصور حينما يقول الرسول: متى نصر الله؟ استبطاء للنصر لا يأساً منه. وتصور حينما يقول المؤمنون الذين يأخذون الوحي طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى نصر الله؟ فهذا يدل على أن الأمة قد وصلت إلى مستوى لا يطاق وإلى شدة لا تتحمل، ثم يجيب الله عز وجل بقوله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). ثم يصور لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه مستوى المحنة التي وصل إليها المسلمون في الصدر الأول بقوله: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيفلق فلقتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). هذه هي المحن التي تعترض سبيل المؤمنين دائماً وأبداً، فالله تعالى يقول للمؤمنين: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] وهذا الاستفهام استفهام توبيخي وإنكاري بحيث يجب أن نصبر؛ لأن الله عز وجل قد امتحن المؤمنين بأعدائهم دائماً وأبداً، ولولا ذلك لما كانت الجنة للمؤمنين؛ لأن الجنة سلعة الله وهي غالية، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، والجنة لا تدرك إلا بمثل هذه الخطا الحثيثة، فليس طريق الجنة مفروشاً بالورود والرياحين ولكنه محفوف بالمكاره والأمور العظام.

كيفية اجتياز السلف للغربة وإقامة الدولة الإسلامية القوية

كيفية اجتياز السلف للغربة وإقامة الدولة الإسلامية القوية لقد أدرك سلفنا الصالح كيف يتجاوزون مرحلة الغربة، وكانوا يتطلعون إلى الجهاد في سبيل الله، والله تعالى يقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] حتى إذا أذن الله عز وجل لهم بالجهاد في سبيل الله قامت دولة الإسلام في أقرب وأسرع وقت عرفه التاريخ، فكان سلفنا الصالح يتسابقون إلى الجنة أكثر من تسابق الناس في أيامنا الحاضرة إلى الحياة الدنيا ومتاعها. كان أحدهم يقول ومعه تمرات: (والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات وكان شابان من شباب المسلمين يتسابقان في وسط المعركة كل منهما يبحث ويقول: أين أبو جهل؟ لا عشت إن عاش؛ لأني علمت أنه يؤذي رسول الله) ثم ينقضان عليه كالصقرين يتسابقان إلى قطع رأسه. أدرك المسلمون كيف يجتازون تلك المرحلة، وإذا أردت دليلاً على ذلك فسل: أين قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغ عددهم في حجة الوداع ما يزيد على مائة ألف؟! إنها متناثرة في أرض الله الواسعة تحت الشمس، انطلقوا يبشرون هذا العالم بدين الله عز وجل، ولم تمض إلا مدة وجيزة حتى رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حينما علم المسلمون الأوائل كيف يتجاوزون هذه المرحلة، رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حتى كان أحد خلفاء الدولة الإسلامية في بغداد -وهو هارون الرشيد - يرفع رأسه إلى السماء ويقول: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين. ويذهب قتيبة بن مسلم إلى جهة المشرق ويفتح البلاد، ويستقر في بلاد ما رواء النهر ثم يجلس ذات يوم مع أصحابه ويقول: يا قوم! أي بلاد أمامي؟ فيقولون: يرحمك الله أيها القائد، إنها بلاد الصين. فيقول: والله لا أرجع إلى بلادي حتى أطأ بقدمي هاتين أرض الصين، وأضع وسام المسلمين على الصينيين، وأفرض عليهم الجزية. ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين، ويخاف من هذا الجيش اللجب الذي أقبل يحمل أرواحه بأكفه، فأرسل إلى قتيبة يقول: هذه تربة من أرضنا بصحاف من ذهب يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسام، وهذه الجزية وستصل إليه كل عام في بلاده. من منطلق القوة والعزة التي هي لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين. أما عقبة بن نافع فقد سار في بلاد المغرب وفتح شمال أفريقيا ووصل إلى تونس الحالية، وعزم وصمم على أن يبني مدينة القيروان، حتى إذا أقبل عليها وصمم على بنائها أتى إليه أهل البلد وقالوا: يرحمك الله أيها القائد، هذه أرض مخيفة ومسبعة، كل الفاتحين يرجعون دونها، ابحث عن مكان آخر. فيقول: والله لا بد من أن أبني مدينة هنا لتكون معقلاً للمسلمين مهما كلف الثمن ومهما عز المطلب. ثم يقف على جانب الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام. ومن يستطيع أن يخاطب الوحوش؟! وكيف تفهم الوحوش كلام عقبة بن نافع؟ يقول شاهد عيان -كرامة من الله عز وجل لهذا القائد المخلص-: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة وتتركها لـ عقبة بن نافع. ثم يسير عقبة بن نافع رضي الله عنه إلى بلاد المغرب ويغرز قوائم فرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليهم على فرسي هذا. هكذا قامت دولة الإسلام بالجهاد، وهكذا استطاع المسلمون بمعونة الله عز وجل أن يجعلوا تاريخهم مضيئاً مشرقاً في صفحات هذه الحياة، ثم يدور الفلك دورته ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على اللهو والمتاع كما هو الحال اليوم، ولا يستيقظون إلا على الأشلاء والجماجم والدمار، تضيع بلاد الأندلس وتضيع الحضارات، وتضيع الأمم، وتصبح وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، ويتقلص المسلمون في مواقع محدودة من بلادهم، وتتمزق هذه البلاد حتى تصبح ما يقرب من مائة دولة. بعد ذلك تعود هذه الغربة العنيفة التي لا تساويها غربة أبداً في تاريخ البشرية، ولذلك فقد عادت الغربة التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع حذافيرها، وأصبحت هناك مظاهر نستطيع أن نقول من خلالها: إن هذه الغربة سوف تكون بداية النهاية إن لم ينتبه المسلمون لهذه الغربة.

غربتنا اليوم وأهم مظاهرها

غربتنا اليوم وأهم مظاهرها يمكن أن نصف أهم مظاهر الغربة في أمور:

توسيد الأمر إلى غير أهله

توسيد الأمر إلى غير أهله إن توسيد الأمر إلى غير أهله في هذه الغربة الجديدة ما كان ليوسد لولا أن الله عز وجل له في كل يوم شأن ويصرف الأمور لحكمة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأمر إذا وسد إلى غير أهله فإن ذلك يعتبر بداية النهاية، ويعتبر علامة من علامات الساعة، ويعتبر ضياعاً لأمور المسلمين، وحقاً نقول: إن أكثر أمور المسلمين الآن موضوعة في غير أهلها. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) يقول شراح الحديث: يشير إلى أن أمر المسلمين يصبح كالوسادة يعتمد عليها الإنسان ويتلذذ بأمور المسلمين، بدلاً من أن يجعلها عبئاً ومسئولية. كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مستهل خلافته: (ألا إني لست بخيركم، ولكني أثقلكم حملاً) ولكن هذا الحمل الذي أشار إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أصبح الآن كالوسادة، فإن كثيراً من ولاة أمر المسلمين اليوم يتمتعون بهذا الأمر، ويعتبرونه منطلقاً لشهواتهم وإشباع رغباتهم، ولو كان الأمر بيد أهله في بلاد المسلمين لما حدث ما حدث من الأحداث المؤلمة التي تعتبر في الحقيقة أثراً أسود وصفحة سوداء في تاريخ الأمة الإسلامية. ومن هنا نستطيع أن نقول: لا يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها حتى يكون الأمر في كل بلاد المسلمين بيد أهله الشرعيين الذين يحكمون بما أنزل الله عز وجل، والذين يقودون سفينة الحياة إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى.

تنحي علماء المسلمين عن القيادة

تنحي علماء المسلمين عن القيادة يعتبر هذا مظهراً من مظاهر الغربة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية في أيامنا الحاضرة، والعلماء دائماً وأبداً في كل عصر وفي كل بلد هم الذين يجب أن يقودوا العالم، ويجب أن يتحملوا المسئولية كلها ليقولوا للمخطئ: أخطأت. لكن حينما يتخلى العلماء -وهذا هو ما يحدث في جل العالم الإسلامي- حينما يحدث التخلي من علماء المسلمين إما أن يتقلد الأمر غير أهله وهذا أمر خطير، ولذلك نشاهد هذا في جل الأحيان، وإما أن يكون الحمل الثقيل على من دون هؤلاء العلماء من طلبة العلم فيكونوا عبئاً ثقيلاً، وحينئذ يؤدي بهم هذا إلى أذى يوجه إليهم من كل جانب، وإلى نقد وإلى سجون وإلى معتقلات؛ لأن هؤلاء العلماء الذين تخلوا وهم أهل لهذه المسئولية وهم الواجهة بين أي دولة وبين أي حكومة وبين شعبها حينما يتخلون عن هذه المسئولية يصعب الأمر ويثقل الحمل.

المطالبة بحقوق المرأة التي ليست لها

المطالبة بحقوق المرأة التي ليست لها إن من المظاهر التي يمتاز بها عصرنا وتمتاز بها غربتنا ظهور المرأة ومطالبتها بحقوق ليست لها، أو وجود أشخاص يندسون في المجتمع يطالبون بأن تعطى المرأة حقوقاً ليست لها، وهؤلاء المندسون يتهمون المجتمع الإسلامي بالتخلف، بل يتهمون الله عز وجل بالظلم، ويتهمون نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالظلم، ويتهمون كتاب الله عز وجل الذي أنزله تبياناً لكل شيء بأنه لم يعط المرأة حقها. ولذلك فإننا نشاهد ونسمع ونقرأ وصكت آذاننا كلمات منذ سنين طويلة تقول: حرية المرأة. وتقول: النصف الثاني من المجتمع معطل، فالمجتمع لا يتنفس إلا برئة واحدة. وتتحدث عن التخلف والرجعية، إلى غير ذلك من الأمور التي جعلتنا نسأم حديث هؤلاء وننفر منه. والسبب في ذلك أن أعداء الإسلام يقرءون تاريخ البشرية أكثر مما نقرأ، فيقرءون أن المرأة حينما تنحرف ينحرف المجتمع كله من ورائها، وأنهم حينما يدفعونها إلى الوراء ويتظاهرون بأنهم يدفعونها إلى الأمام لتطالب بحقوقها وحريتها أو لتلقي الخمار أو لتفعل شيئاً من ذلك إنما يفسدون المرأة، وحينئذ تكون في متناول أيديهم ويصطادونها في الماء العكر، ويعلمون أن أي أمة من الأمم لا تسقط من عين الله إلا حين تنحرف فيها المرأة، أو حين تخرج المرأة متبرجة، وإذا أردت الدليل على ذلك فاقرأ ما فعله بنو إسرائيل في عهد موسى عليه الصلاة والسلام، واقرأ ما يكتبه أعداء الإسلام: لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة، فعليك بالمرأة، اتخذوا من المرأة وسيلة لإفساد المجتمعات. يقول أحدهم: إن كأساً وغانية يستطيعان أن يفعلا بالمسلمين أكثر مما يفعله ألف مدفع. وغير ذلك من الأمور التي كانوا يعرفون أنها سوف تسبب هذه المشاكل للأمة الإسلامية. ونحن أيضاً نسينا أن فتنة النساء أعظم فتنة، وأن رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام جعلها في كفة والدنيا بكل زينتها ومتاعها في كفة أخرى فقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) علماً أن النساء يدخلن في الكفة الثانية؛ لأنهن جزء من الحياة الدنيا. هذه الأمور كلها دفعت بأعداء الإسلام -سواءٌ أكانوا من الداخل أم من الخارج- إلى أن يستخدموا المرأة وسيلة لتدمير المجتمعات، وأكبر ظني -بل أنا لا أشك- بأن هؤلاء هم أعداء الدولة، ولربما لا تدرك الدولة أن هؤلاء هم أعداؤها إلا حينما يقع ما نحاذره، نسأل الله أن يقينا ويقي الدولة شره، إن هذه الأمور يسعى هؤلاء إلى تحقيقها، نسأل الله أن يبطل مساعيهم حتى لا ينجحوا في مهمتهم. أيها الأخ الكريم! المرأة أكرمها الإسلام، ولا يمكن أن يكون هناك نظام من أنظمة الحياة أو دستور من دساتيرها يعطي المرأة حقاً أكثر مما يعطيه كتاب الله عز وجل، فالمرأة كانت في يوم من الأيام متاعاً يورث، وكانت لا ترث إلى أن أنزل الله عز وجل في ميراثها قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] والمرأة كانت إذا مات زوجها يتسابق أولاده من غيرها عليها فأيهم ألقى عليها رداءه أولاً فهو أحق بها يتصرف بها كيف يشاء، ولو أراد أن ينكحها فله ذلك، أو أراد أن يبيعها فهي سلعة له رخيصة، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]. لقد احترم القرآن المرأة ووضع لها من الحقوق ما لا يمكن أن تحصل عليها من أي جهة أخرى، وهذا القرآن كما قال الله عز وجل عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] وهؤلاء يعرفون أن المرأة لم تكن تدرك في جاهليتها جزءاً مما أدركته في إسلامها، لكنهم يريدون أن تنحرف المرأة لينحرف المجتمع، ولتتدهور الأمور، ولتكون النهاية هي البوار والدمار، ولذلك فإننا نقول لهؤلاء الذين يدعون إلى حقوق المرأة وإلى تحريرها وإلى أمور لا تخفى نقول لهم: اخسئوا؛ فإن الله عز وجل هو الذي أكرم المرأة واحترمها، وأعطاها حقوقها كاملة، لكنكم حينما تطالبون بحرية المرأة وبحقوقها إنما تريدون أن تجعلوها لقمة سائغة لكم؛ لأنكم أشربتم وأشربت نفوسكم حب الفاحشة، وتريدون من هذه المرأة المسلمة أن تسقط كما سقطت المرأة في كثير من البلدان إلا ما شاء الله. ومن حيث يعود أعداؤنا وينادون بحفظ المرأة وصيانتها ينطلق هؤلاء فيبدءون من حيث ينتهي عدوهم، وهذه تعتبر فتنة وبلية ومصيبة لا بد من أن ننتبه لها، وتعتبر أهم مظاهر الانحطاط في هذا العصر، وتعتبر أيضاً أهم مظاهر الغربة التي نعيشها اليوم. ولا تستطيع المرأة أن تقود المجتمع أو يكون لها كيان؛ لأن الله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فيجب أن تكون القيادة بيد الرجال، ولكن ذلك لا يعني أن تهان المرأة بل يجب أن تكرم.

محاولة تغيير هوية الإسلام

محاولة تغيير هوية الإسلام نجد في هذه الغربة ونلاحظ أن أعداء الإسلام يحاولون كل المحاولات وبشتى الوسائل أن يغيروا الهوية الإسلامية، سواء في الشكل والصورة أو في الأنظمة أو في أي أمر من الأمور، حتى لقد رأيناهم يسمون الأمور التي يتحاشى المسلم أن يفعلها بغير أسمائها حتى يلطفوها، فهم الذين سموا لنا الخمر مشروبات روحية، وهم الذين سموا لنا اللهو واللعب والفسوق فناً، وهم الذين سموا لنا النفاق مجاملة، والكذب دبلوماسية، وغير هذا من الأمور والألقاب التي أحدثوها من أجل أن يقضوا على الهوية الإسلامية حتى في ألفاظها، ولذلك فإنهم يحسنون هذه الأمور بهذه الألفاظ وهذه الأسماء التي يختارونها في هذا العصر، وهي تعتبر من مظاهر غربة الأمة الإسلامية في تاريخها الحاضر.

وجود أناس يفتون بغير علم

وجود أناس يفتون بغير علم حين يبرز على الساحة الإسلامية أناس يدعون أنهم مصلحون وأنهم علماء فمثل هؤلاء يقول الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] هؤلاء الذين ما تركوا باباً من أبواب المحرمات إلا وفكروا فيه وبحثوا فيه بغير علم وروية، ولكن بجهل وحقد على الإسلام، حتى لقد سمعنا منهم من يكتب عن الربا ويقول: الربا نظام اقتصادي لا تستغني عنه الحياة، والربا مباح سوى الأضعاف المضاعفة. وأكبر ظني أن هذا -بل لا أشك- لو استطاع أن يتخلص من تحريم الربا بالأضعاف المضاعفة لتخلص منه. ولقد عجبنا كثيراً حينما يظهر ويبرز مثل هؤلاء الذين يريدون أن يخرجوا على إجماع المسلمين، ويريدون أن يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فهم لا يتكلمون عن الربا وحده، ولكن هناك من يطرق باب الربا ليحله للناس، وهناك من يطرق باب حرية المرأة وحقوقها ليقول للناس: إن المرأة مضطهدة ومظلومة. وهناك وهناك، ولذلك فإنهم هم الذين يتسلمون أكثر أمور الحياة في أيامنا الحاضرة، حينما تخلى العلماء والمصلحون عن هذه الحياة.

تحول السجون إلى معتقلات للمؤمنين

تحول السجون إلى معتقلات للمؤمنين لم يعرف الناس السجون إلا وسائل إصلاح للفاسدين والمفسدين، الذين إذا انتشروا في المجتمع أفسدوا في المجتمع، ثم إذا بهذه السجون تتحول إلى معتقلات في جل العالم الإسلامي للمؤمنين، ولو قمت بإحصائية عن الذين يدخلون السجون اليوم لوجدت أكثرهم من الصالحين والمصلحين في جل بلاد الله عز وجل الواسعة، وكأن هذا التاريخ يعيد نفسه حينما لبث يوسف في السجن بضع سنين، وحينما قال فرعون لموسى: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وهذا مما يدل على انحراف في استعمال السجن. وهؤلاء الذين تفتح لهم السجون في أيامنا الحاضرة أكثرهم المؤمنون الذين يقولون للناس: اتقوا الله تعالى. ومن يفعل شيئاً من ذلك فإنه سوف يسقط من عين الله، ولربما دعوة مظلوم في جوف الليل الآخر في سجن من هذه السجون تطيح بأمة وتسقط دولة؛ لأن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم فوق الغمام، ثم يقول: لأنصرنك ولو بعد حين. وحينئذ لا تعجب حين ترى أمور الأمة الإسلامية تنهار يوماً بعد يوم بسبب سوء استعمال هذه السجون وتحويلها إلى معتقلات.

السخرية والطعن في الدين

السخرية والطعن في الدين إن السخرية والطعن في الدين ليس جديداً، بل هو موجود في كل عصر، وذلك حين تنحرف الأمة عن منهج الله عز وجل، فنقرأ عن تاريخ المشركين الأولين في الغربة الأولى قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31] فيقول الله عز وجل {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]. وفي الحياة الآخرة إذا أدخل الله عز وجل هؤلاء الساخرين من دين الله نار جهنم قال لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]. هذه قضية تمر في كل فترة تضعف فيها الأمة الإسلامية، يسخر أعداء المسلمين من الإسلام، مثل أن يقول أحدهم: انظر إلى لحيته! انظر إلى ثوبه القصير! إلى غير ذلك، كما يسخرون من الحجاب ومن المرأة المحجبة. وهذه السخرية خطيرة جداً، بل هي ردة عن الإسلام، بل إن فاعلها عند الله عز وجل من أئمة الكفر وليس من الكافرين فحسب، فالذي يسخر من اللحية أو الحجاب مرتد عن الإسلام؛ لأنه حينما يسخر من رجل مسلم بسمات الإسلام الموجودة في شكله أو في ثوبه أو في أي أمر من أموره إنما يسخر من الإسلام، والله تعالى قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12] وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون) جردهم الله عز وجل من الإيمان، وجعلهم من أئمة الكفر، وأمرنا بأن نقاتل هؤلاء الذين يسخرون من الإسلام ويضحكون منه، ولكن الله عز وجل يسخر منهم أيضاً.

جعل المنكر معروفا والمعروف منكرا

جعل المنكر معروفاً والمعروف منكراً إن جعل المنكر معروفاً والمعروف منكراً قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سوف يوجد في فترة من الفترات وفي عصر من العصور، وذلك في المرحلة الأخيرة من حياة الأمة الإسلامية، أي أن النهاية قد قربت حينما يعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً. ولو أردنا أن نستعرض حياة الأمة الإسلامية في أيامنا الحاضرة لرأينا ذلك، كان المفترض أن يتحرك المصلحون ليصلحوا فساد الفاسدين، فإذا بنا نرى كثيراً من المصلحين ينامون إما خوفاً على الحياة، وإما طعماً في المال، وإما لهدف من الأهداف الأخرى، ثم إذا بأعداء الإسلام يستأسدون، فبدل أن يتحرك المصلحون للإصلاح تحرك المفسدون للإفساد، وهذه سنة الله عز وجل في الحياة لا بد من أن تنشغل هذه الحياة بأي أمر من الأمور، فإما أن تنشغل بالإصلاح وإما أن تنشغل بالإفساد، وهؤلاء المفسدون كالفئران، فالفئران لا تتحرك إلا حينما يسكن لها الجو وحين لا تسمع صوتاً، حينئذ تتحرك وتفسد وتقرض في المتاع وتهلك الحرث والنسل. والخفاش أيضاً لا يتحرك ولا يطير من وكره إلا حينما يخيم الظلام، وحينئذ يعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولذلك لو نظرنا الآن إلى النقد الذي يوجه من الناس إلى الناس لوجدنا أن الفسقة أكثر ما يوجهون اللوم والعتاب إلى الصالحين، أكثر من أن يوجه الصالحون العتاب واللوم إلى أولئك الفسقة والعصاة، بل إن السخرية من دين الله عز وجل والضحك على أذقان المسلمين والتحرك المشين في كل نواحي الحياة أصبح الآن بيد هؤلاء إلا ما شاء الله، ولذلك عاد المعروف منكراً الآن والمنكر معروفاً. ولربما تنشأ ناشئة في هذه الفترة فلا تعرف المنكر ولا المعروف بسبب مشاهدتها للمنكر حين يغزو المعروف ويظهر المعروف بصورة الضعيف الذي لا يصمد أمام المنكر ولا يدحره.

فساد وسائل الإعلام

فساد وسائل الإعلام إن فساد وسائل الإعلام من أخطر الأشياء على الأمة؛ لأن الإعلام بتقنيته الحديثة وصل إلى قعر بيوت المسلمين، وأصبح البيت بكامله بنسائه وأطفاله يشاهد أفلاماً أتت من بلاد لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وهذه الأفلام تفتقد الرقابة التي تخشى الله عز وجل في كثير من الأحيان، فتصل هذه الأفلام إلى قعر بيوت المسلمين فتنشأ ناشئة من أبناء المسلمين تشاهد الرقص والغناء في مستهل حياتها وفي أيام نعومة أظفارها، ولربما تصاب بالازدواجية في فهمها حينما ترى هذه الناشئة القرآن يتلى بجوار أغنية، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بجوار مسرحية مختلطة أو ما أشبه ذلك، فتنشأ هذه الناشئة لا تفرق بين الحلال والحرام، ولا تعرف الخير من الشر؛ لأن هذه الازدواجية قد انطبعت في أذهانها منذ طفولتها ومنذ أيامها الأولى. فإعلام المسلمين عندما يصنع في بلاد الكافرين يؤثر في حياة كثير من الأمم، ولعل أكثر ما يحدث من الفتن التي تشمئز لها القلوب المؤمنة والتي تحاول أن تخرج المرأة من إطارها لعل ذلك جاء من وسائل الإعلام، بل لا شك أنه جاء من وسائل الإعلام، فشوهت الحقائق، حيث جعل الإعلام تعدد الزوجات جريمة في المجتمع، والإتيان بفتاة أجنبية من الخارج أجمل من الزوجة لتقوم بالخدمة داخل البيت يعتبر هذا تطوراً وتقدماً، وكذلك الإتيان بسائق يخلو بالأهل من زوجة وأخت وابنة ويذهب بهن إلى المدرسة وإلى السوق يعتبر هذا من التطور والرقي والتقدم إلى غير ذلك، إضافة إلى ما تبثه وسائل الإعلام من اختلاط بين الجنسين تثبت للناس أن الاختلاط ليس بشيء مشين وإنما هو رقي وتقدم، وأن الذين يدعون إلى عزل المرأة عن الرجال إنما هم أعداء للمرأة، وأن المرأة باستطاعتها أن تنتج أكثر مما ينتجه الرجال، إلى غير ذلك من الأمور التي وصلت إلى قعر بيوت المسلمين. فمن كان يتصور أن بيوت المسلمين -بل أقول: وجل بيوت العلماء والصالحين إلا ما شاء الله- انتشرت فيها هذه الأفلام، ووصلت إلى قعرها هذه المسلسلات؟ من كان يتوقع هذا في يوم من الأيام؟! لقد مضت فترة ليست بالبعيدة كنت تقف عند بيت رجل من هؤلاء الصالحين أو العلماء لا تسمع إلا دوياً كدوي النحل من تلاوة كتاب الله والبكاء من خشية الله عز وجل، ثم إذ بهذه البيوت تتحول إلى هذا المستوى، حتى في الثلث الأخير من الليل لا تسمع إلا اللهو واللعب والرقص والموسيقى، فهذا من أعجب الأمور التي ما كان للعقل أن يتصورها لولا أن أصبحت خبراً وأمراً لا شك فيه. حتى على متن الهواء في الطائرة على بعد آلاف الأمتار عن الأرض تنشر هذه الأفلام، وفيها الجنس وفيها الحرام، وفيها أمور تقشعر منها نفوس المؤمنين، وكان المشركون قبلنا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فهل المشركون الذين يعبدون الأصنام من دون الله وهم على سطح الماء يخافون من الله عز وجل أكثر ممن يخاف هؤلاء الموحدون وهم على متن الهواء بين السماء والأرض؟! إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن كثيراً من القلوب قد أشرب بمعصية الله عز وجل، وأن هذه الأمة يخطط لها تخطيطاً رهيباً، وأنها قد فقدت -أو كادت أن تفقد- خشية الله عز وجل حتى على متن الهواء بين السماء والأرض. إن وسائل الأعلام خطيرة، وإن أكثر الفساد الذي حل في المجتمعات الإسلامية بصفة خاصة والمجتمعات الإنسانية بصفة عامة من وسائل الإعلام، وإني أحذر من هذه الوسائل التي لم تدع بيت شعر ولا مدر إلا دخلته، فاحذرها وحاربها بكل ما أوتيت من قوة.

فساد الاقتصاد

فساد الاقتصاد إن من مظاهر هذه الغربة فساد الاقتصاد الذي أصبح الآن يسمى اقتصاداً ولكن الله عز وجل يسمي هذا النوع المنحرف رباً، واعتبر الله عز وجل الربا من أكبر المحرمات، وجعله حرباً لله ورسوله، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: تتركوا الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. ثم أيضاً يتهدد ويتوعد الله عز وجل من يداوم على أكل الربا بالخلود في نار جهنم، مع أن الخلود في نار جهنم من خصائص الكافرين والمشركين، يقول عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]. ومن هنا نقول: إلى متى تتعامل الأمة الإسلامية بالربا؟ وإلى متى ونحن لا نرى الأمة الإسلامية تقلع عن هذا الجرم العظيم وعن هذه الحرب لله ورسوله؟ أليس الله عز وجل الحكيم الخبير الذي شرع أنظمة الحياة ووضع أموراً للتعامل بهذا المال كأي شيء آخر؟ فلماذا لا يستغني المسلمون بما أباح الله عز وجل عما حرم الله؟ أقول: يجب على الأمة الإسلامية أن تنظر في اقتصادها، وأن لا تتعامل بما حرم الله، وعلى المسلم أن يقاطع البنوك التي أعلنت حرباً لله عز وجل وحرباً لرسوله، أن يقاطعها مقاطعة تامة، وأن ينمي أمواله فيما أباح الله عز وجل، وإلا فإن الربا من لم يأكله أصابه من غباره أو دخانه، والرسول صلى الله عليه وسلم: لعن في الربا آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: (هم في الإثم سواء). لا بد من أن تقيم الأمة الإسلامية نظام اقتصادها على ما أباح الله عز وجل، لا بد من أن يشكل في كل بلد إسلامي بصفة عامة وفي بلد الحرمين الشريفين بصفة خاصة لجنة شرعية تخاف الله عز وجل وعندها وعي واطلاع على الأنظمة الاقتصادية التي أباحها الله عز وجل، لتقيم نظامها الاقتصادي على وفق شرع الله وما أباح الله، قبل أن تصهر هذه الأجسام التي أكلت الربا بالنار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أي جسم نبت من سحت فالنار أولى به). فالربا أمره خطير ويتساهل فيه كثير من الناس، وأنظمة العالم اليوم تكاد تجمع على أنها لا تستطيع أن تقيم نظام اقتصادها إلا على هذا الربا، ولكننا على ثقة من أن الله عز وجل الذي حرم الربا وسد أمامنا هذه الطريقة المنحرفة أنه فتح لنا آلاف الأبواب لننمي أموالنا فيما أباح الله عز وجل.

التبرج

التبرج نقصد بالتبرج هذه الخلاعة المشينة التي بلي بها عالمنا اليوم، فإننا نرى تبرجاً فظيعاً لم يمر مثله حتى في الجاهلية الأولى، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، هذا التبرج الذي أخذت كل بلد منه بنصيب، وبمقدار ما يكون لهذه الدولة ولهذه الأمة من نصيب من المحافظة يكون نصيبها أقل بالنسبة للتبرج، حتى وصل الأمر إلى عراء كامل في بعض بلاد الله عز وجل، لا سيما في البلاد غير الإسلامية، وهذا التبرج من أكبر وسائل الوقوع في الفاحشة، والوقوع في الفاحشة يسقط الإنسان من عين الله عز وجل، ولذلك لا تعجب حينما ذكر الله عز وجل الزنا في سورة النور ثم ذكر وسائل الوقاية إلى أن قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية، وهذا التبرج أدى إلى فساد عريض، وأدى إلى فتنة عمياء انتشرت في العالم الإسلامي، وهذا التبرج خلاف ما كان معروفاً في الجاهلية الثانية؛ لأن الجاهلية الثالثة التي نعيشها اليوم أبعد بكثير عن الإسلام في هذا الأمر من الجاهلية الثانية. تصور أنه حينما كانت الجاهلية الأولى خرجت فيها المرأة عارية تطوف حول البيت، وانتشر الفساد في الأرض، ثم جاءت الجاهلية الثانية التي كانت قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فبالغت في صيانة المرأة خوفاً عليها من الفساد، حتى وأدوا الفتاة وهي حية، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8]. لكن في أيامنا الحاضرة تبرجت المرأة خلاف ما كان في تلك الجاهلية، وأبرزت زينتها، وطالبت بحقوقها، وأيضاً هي لا تقف عند حد، فكلما أعطيت من الحرية المزعومة طالبت بما هو أكثر من ذلك، ولذلك فإن التبرج الذي شاهدته نساؤنا في وسائل الإعلام أصبح موضة من موضات هذا العصر، فإن لم يكن موجوداً فلا بد من أن تكون هي المطالبة به.

محاربة الإسلام بأبنائه ومن ينتسبون إليه

محاربة الإسلام بأبنائه ومن ينتسبون إليه الأمر الأخير من مظاهر هذه الغربة -وهو أعجبها وأقساها وأعنفها- أن يحارب الإسلام بأبناء الإسلام، ومن كان يصدق بذلك؟! ما كنا -والله- نصدق، حتى لقد كنا نسمع مقالات تقال من أعدائنا مفادها أن شجرة الإسلام شجرة سامقة عميقة في الأرض، لا تستطيعون أن تقطعوها إلا بغصن من أغصانها، وما كنا نعلم ماذا يقصدون بهذه المقالة، حتى رأينا من أبناء الإسلام من تربى على أعين هؤلاء الأعداء ليكون هو الغصن الذي يحاول أعداء الإسلام أن تقطع به هذه الشجرة. إن أعداء الإسلام الذين يتربصون بنا الدوائر، والذين كانوا يغزون بلاد المسلمين من الشرق والغرب يريدون أن يطيحوا بالأمة الإسلامية وأن يزيلوا هويتها من هذا الوجود، إنهم قد ربوا أفراخاً لهم في بلادهم، وغسلوا أدمغتهم في بلاد الشرق والغرب، وملئوا قلوبهم حقداً على الأمة الإسلامية، فجاءوا وهم يحملون هذا الحقد الدفين، وصار همهم أن يهدموا هذا الإسلام بأيديهم وأيدي الكافرين، وإن هذا من أعجب الأمور، يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وحينما كان الإسلام يُحارَبُ بـ أبي جهل وأبي لهب في أيامه الأولى كان الأمر واضحاً، ولكن حينما أصبح الإسلام في أيامنا الحاضرة يحارب بأحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وسيف الدين وسعد الدين وعماد الدين أصبح الأمر مصيبة كبرى، وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلقد حدثنا عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في حديث طويل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم يحكي واقعنا اليوم، يقول حذيفة: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. قال: فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتني، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قال: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها. قال: قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) قوله: (من جلدتنا) أي: من أبناء المسلمين، ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية، ولربما يكونون من أبناء الصالحين والعلماء، ومن لهم مجد عريق في حماية هذا الدين، ثم إذا بهؤلاء الأبناء معولاً هداماً في شجرة الإسلام السامقة. قوله: (ويتكلمون بألسنتنا) أي: باللغة العربية الفصحى. فلم يأتوا من الشرق ولا من الغرب، ولكن نشئوا في بيوت المسلمين، فهذا هو سوء التربية، وهذا هو الواقع الذي نعيشه. وأيم الله إن الإسلام في أيامنا وفي بلادنا هذه بصفة خاصة يحارب بأبناء المسلمين أكثر من أن يحارب بالكافرين؛ لأن أعداء الإسلام وثقوا بهؤلاء الذين سوف يقومون بهذه المهمة، ولذلك سلموهم الأمر وأصبحوا يراقبونهم من بُعْدٍ. ومن خلال ذلك لا تعجب وأنت ترى من ينتسب للإسلام يطعن في الإسلام من الأمام ومن الخلف، ولكن هذا هو الوعد الذي أخبر الله عز وجل عنه، والذي ينتظر من زمن بعيد، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، فإذا كانت هناك غيرة على دين الله، وإذا كان هناك غضب لله عز وجل فإن هذا اليوم هو يومه، فالعالم الإسلامي جله يحارب فيه الإسلام من أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا، وإذا لم يغضب المسلمون لدين الله عز وجل ولله عز وجل فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة.

طرق ووسائل التخلص من الغربة

طرق ووسائل التخلص من الغربة نتحدث عن العنصر الأخير من عناصر هذا الحديث، وهو: كيف الخروج من هذا المأزق؟! وكيف نستطيع أن نجتاز هذه المرحلة العصيبة من مراحل هذه الغربة التي لم يمر في تاريخ البشرية مثلها منذ أن خلق الله عز وجل الأرض ومن عليها؟ ليس هناك سبيل إلا الجهاد، وليس هناك سبيل إلا أن نتوجه إلى أولي الأمر، لا سيما في بلاد الحرمين التي تعتبر جزيرة آمنة مطمئنة، يأوي إليها المستضعفون من كل بلاد العالم، فما يكاد أحد يؤذى في بلده إلا ويأوي إلى هذا البلد الذي جعله الله عز وجل مأمناً ومهوىً لأفئدة المسلمين أجمعين، وجعل لنا فيه حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولنا، وأرغد لنا في العيش، وأنعم علينا نعمه تترى، يقول الشاعر: أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون لها ضرام وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام فإن لم يطفها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام فعلينا أن نتقدم إلى المسئولين في بلادنا بطلبات واقتراحات ورجاء، ونقول لهم بلسان الحال وبلسان المقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. فهناك فساد عريض انتشر في هذه الأرض، سافر -يا أخي- إلى أي سفارة من سفاراتنا في الخارج، والله لقد رأيت إحدى سفاراتنا يؤكل فيها بأوانٍ من الفضة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذي يأكل في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ولدي دليل على ذلك، وعليها شعار الدولة، وقد رأيت في سفاراتنا سكرتيرات من أجمل البنات، وكذلك الخطوط السعودية في كل مكان من الأرض يديرها فتيات، لتأتي المصائب والبلاء، وآخر حدث افتتاح في مدينة عنيزة لمستشفى جديد، وهذا المستشفى يديره صليبيون نصارى، مدير المستشفى صليبي نصراني، ومدير الإدارة صليبي نصراني، ورئيس التنفيذ صليبية نصرانية، حتى المحاسب صليبي نصراني، إلى هذا الحد وصل بنا الأمر! وأظن أن سبب حصول مثل هذا هو أننا لا نناصح ولاة الأمر. وأكبر ظني أنهم لا يدرون عن كثير من هذه الأمور، ولو قمنا لله مثنى وفرادى وزاحمنا ولاة الأمر الذين يقولون: إنهم قد فتحوا أبوابهم لكل من يريد أن يدلهم على خير. لو فعلنا ذلك فلا أظن أنهم سوف يردون طلباً، لا سيما وأننا في أيام محنة وفتنة لا يخلصنا منها إلا أن نعود إلى ربنا سبحانه وتعالى. وأقسم بالله على أن المضيفات في الخطوط السعودية لا يساوي لباسهن أي لباس في أي دولة من دول العالم في قصر الثياب وفي التبرج، وهذه مصيبة وهذا بلاء، فلنناصح المسئولين عن الخطوط السعودية لعلهم يتقون الله عز وجل. وهناك أمور كثيرة لا بد من أن نقوم لها غاضبين لله عز وجل، ولكن بعقل وحكمة، وأقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها، لا بد من أن نقول للمحسن: أحسنت. ولا بد من أن نقول للمسيء: أسأت. ولا بد من أن نناصح المسئولين؛ لأن هذا واجب، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم واجبة، أما إذا سكتنا عن النصيحة فويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وكذلك إذا لم يقبل ولاة الأمر نصيحتنا فويل لهم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206]، أما أن نخاف البشر وأن نجابي في دين الله فحينئذ لا تبقى بقية من ديننا، فما هو موقفنا بين يدي الله عز وجل الذي يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]؟ أخي الكريم! الأيام التي نعيشها عصيبة، وما نزل عذاب إلا بذنب، ولن يرفع إلا بتوبة، فهل سنجدد التوبة مع الله عز وجل؟ فالعدو يحيط بنا من كل جانب، من حدود العراق إلى البحر الأحمر إلى الجنوب الغربي إلى الشرق، في كل مكان عدونا يحيط بنا، الذين أكلوا خيراتنا وأموالنا هم الآن الذين يحملون الحقد، فإلى أي طريق نفر؟! أين المفر؟! قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. وأقول: أيها المسلمون! أصلحوا أوضاعكم، وناصحوا المسئولين وراسلوهم، وقولوا لهم: اتقوا الله فإننا نعيش في أمن ورخاء وسلام ويتخطف الناس من حولنا، ووالله الذي لا إله غيره إن لم نقم لله مثنى وفرادى دعاة ومصلحين فإن العذاب أقرب إلى أي واحد منا من شراك نعله.

الأسئلة

الأسئلة

فساد الأنظمة الاقتصادية والسياسية الأسباب والعلاج

فساد الأنظمة الاقتصادية والسياسية الأسباب والعلاج Q ما الرد على من يقول: إن سبب فساد بعض الأنظمة الموجودة كالنظام الاقتصادي والسياسي، وسبب وجود الغربة هو تخلف العلماء وعدم المشاركة في القرارات الشرعية التي تساير ما أتت به هذه الحضارة الحديثة، ويضرب مثالاً لذلك بوجود الأنظمة الاقتصادية الحالية، والسبب هو عدم وضع البديل الإسلامي المناسب، ومن أقواله أيضاً: إن تدريس الفقه الإسلامي ومناهجه يعتبر خاطئاً، بسبب بقاء التدريس على كتب القدماء؟ A هذا الكلام فيه نقد للقدماء، وهذا خطأ بين؛ لأن القدماء خدموا الإسلام، وهم في قرن خير من قرننا، وإن كان في قرننا خير والحمد لله، لكني أوافق الأخ السائل على بعض ما يقول، فالعلماء قصروا في هذا الجانب، ولم يقدموا الحلول الشرعية لدولة ما من الدول التي فسد اقتصادها أو قام على الربا وما حرم الله، وأكبر ظني أن كثيراً من هؤلاء العلماء في عزلة عن الأنظمة الحديثة، ولكن هناك أمر آخر لا نغفل عنه، وهو أن هؤلاء العلماء أكثرهم ما أُخذ رأيه في هذه الأمور، وهذه أنظمة اقتصادية جاءتنا من الخارج، وقيل لنا: إن نظام الحياة لا يقوم إلا عليها. ولو كانت جائرة ولو كانت ربا ولو كانت حرباً لله ورسوله، وإن كان طائفة من العلماء أرادوا أن يغيروا، لكنهم لم يغيروا إلا شيئاً يسيراً، ونحن هنا نستطيع أن نقترح على الدولة -وهي لا شك أمثل دولة نعتمد عليها بعد الله سبحانه وتعالى- أنها إذا كانت تريد أن تحارب هذا الربا العظيم الذي هو حرب لله ورسوله فباستطاعتها -لا سيما في هذا العصر الذي -والحمد لله- كثر فيه علماء الاقتصاد الإسلامي الواعون- أن تشكل لجنة ونخبة من صالحي العلماء المدركين للأوضاع الاقتصادية وأنظمة الحياة الحديثة وأن تكلفهم بهذه المهمة، وقد سبق أن كتبنا لبعض المسئولين واقترحنا عليهم أشخاصاً معروفين، ولهم وزن وثقل في المجتمع، وأعتقد أن مثل هؤلاء لو وكل إليهم الأمر لأغنوا هذه البلاد عن الأنظمة الاقتصادية المنحرفة المحرمة التي تحارب الله عز وجل ورسوله. وأملنا في الله عز وجل ثم في الدولة كبير، لا سيما أنها دائماً وأبداً -إن شاء الله- سوف تبحث عن الحلول التي تخلص فيها هذا البلد مما حرم الله سبحانه وتعالى، فالعلماء مسئولون عما انتشر من الربا، سواء أكانت هذه المسئولية بإيجاد الحلول للدولة، أو بمطالبة الدولة أو أي دولة في بلاد العالم الإسلامي أن تزيل الربا، ولكنهم لم يعطوا الأمر حقه حتى يستطيعوا أن ينطلقوا منطلقاً قوياً، ولكن لنا أمل في الله عز وجل أن تشكل الحكومة في هذه الظروف لجنة من العلماء المدركين المخلصين الذين يهتمون بهذه الأمور ليقوموا بهذا العمل، أما الأصل فإن العلماء أكثر ما يغزى الإسلام من قبلهم حينما يتهاونون في الأمر، ولذلك ما حلت أنظمة البشر وقوانين الرجال في بلاد من بلاد الله إلا بسبب ضعف القضاة أو تساهلهم في أمر من أمور القضاء، فتكثر القوانين الوضعية حينما يفسد نظام الحياة، وحينما يعجز القضاة الشرعيون عن حلها، فحينئذ يظهر الفساد في السياسة وفي الاقتصاد وفي كل الأنظمة، والله المستعان.

اقتراح بدعوة الجاليات غير المسلمة إلى الإسلام

اقتراح بدعوة الجاليات غير المسلمة إلى الإسلام Q لقد عرف عن فضيلة الشيخ عبد الله أنه يرحل إلى الخارج للدعوة إلى الله، لكن ألا يعد وجود الجاليات الكبيرة داخل المملكة من الفرص الكبيرة التي يمكن من خلالها أن ننظم حلقات للدعوة، حيث ندعو هؤلاء إلى الإسلام إذ هم موجودون في داخل المملكة؟ وهل هناك جهود في هذا الأمر؟ A الصحيح أن هذه فرصة فاتتنا من سنين طويلة، فبدل أن نغزوهم في بلادهم من منطلق قوتهم لا نستطيع أن نؤثر إلا على المسلمين منهم، ولكن وجودهم في بلادنا هذه ومنذ سنوات طويلة غفل عنه كثير من المصلحين، فما رأينا واحداً من هؤلاء -إلا في النادر في السنوات الماضية- دخل في الإسلام، وإننا كثيراً ما نرى من أبناء المسلمين من يرتد عن الإسلام على أيدي هؤلاء، سواء أعلن ردته أو لم يعلن ردته، ولكن -والحمد لله- في هذه الأيام الأخيرة افتتحت في كل مدن المملكة -بل وفي بعض القرى- مكاتب للجاليات من غير المسلمين، لتعليمهم أمور الدين الإسلامي، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ونشر المطبوعات، ورئاسة البحوث وعلى رأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وجزاه الله خيراً قدمت جهداً في هذا الأمر، فطبعت بجميع لغات العالم مطبوعات، وأعطت تراخيص لمكاتب في كل مدن المملكة وبعض قراها لتقوم بهذه المهمة باسم مكاتب لتوعية الجاليات، ولكن نرجو المزيد من ذلك، ونرجو أن لا يدخل في بلادنا كافر إلا ويخرج منها وهو مسلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن هذه أرض طاهرة، وكذلك لا يجوز أن نجمع فيها أكثر من دين، فيجب أن نقلل فيها من عدد اليهود والنصارى والوثنيين، والله المستعان على ما يحدث، لكن إذا وجدوا يجب أن ندعوهم إلى الإسلام لعلهم يرجعون إلى أهلهم مؤمنين.

علاج الحيرة الموجودة عند شباب الصحوة

علاج الحيرة الموجودة عند شباب الصحوة Q نحن شباب الصحوة أحياناً نصاب بشيء من الحيرة هل نكون مع بعض الدعاة الذين يسمون معتدلين عند بعض الناس، أم نكون مع بعض الدعاة المجاهدين المخلصين، فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وكيف تزول هذه الحيرة عند كثير من الشباب؟! A الإنسان إذا أراد أن ينضم إلى مجموعة ما فلينضم إلى جماعة المسلمين، هذا هو ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة، قال حذيفة: (فقلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين) ولذلك فإننا نقول: على المسلم أن يلزم جماعة المسلمين، وأن يختار أفضل فئة تدعو إلى الله عز وجل وتدافع عن هذا الدين، ولعل هذه الظروف التي نعيشها الآن جعلت هذا النوع من هؤلاء الدعاة في نظر طائفة من الناس متشددين أو متطرفين كما يسمونهم، والحقيقة أن هذا هو الإسلام الذي نعرفه في شرع الله عز وجل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن وجوده في هذه الفترة التي منيت بالانحراف جعل هؤلاء كأنهم متطرفون أو متشددون. والحقيقة أن الإنسان إذا أراد أن يبحث فليبحث عن أفضل فرقة، أن يبحث عن الفرقة التي تغضب لله عز وجل إذا رأت محارم الله عز وجل تنتهك، لكن لا تفقد الحكمة، والحكمة لها معنيان: الحكمة وضع الأمور في مواضعها، والحكمة بمعنى اللين، وأقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها؛ لأن الأمة الإسلامية لا بد من أن تكون لها قوة تحمي هذا الدين، وليس غريباً أن ينزل الله عز وجل الحديد كما أنزل الكتب السماوية فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فوضع الحديد بجوار الكتب السماوية، وهذا يدل على أن المسلمين لا بد من أن تكون لهم قوة، ولا نعني -أيضاً- بذلك أن نكون أناساً ثوريين وأن نحطم ونكسر ونقتل لا، لا نفعل شيئاً من ذلك، وإنما علينا أن نغضب لله عز وجل بحيث تكون قوتنا كقوة الحديد والنار حينما تنتهك محارم الله عز وجل، يقول حسان: لا خير في حق إذا لم تحمه حلق الحديد وألسن النيران فالقوة هي المطلوبة، لكن يجب أن تكون هذه القوة باعتدال وبتوازن وبانضباط، حتى لا تجر مشاكل على الأمة الإسلامية، وحتى لا تفسد عليها أمنها.

حقيقة الجهاد في أريتريا وواجب المسلمين نحوهم

حقيقة الجهاد في أريتريا وواجب المسلمين نحوهم Q لقد علمنا أنك اعتنيت كثيراً بمشكلة المسلمين في أريتريا والجهاد في أريتريا، ونود أن تعطينا فكرة عن الجهاد الإسلامي في أريتريا حتى تتضح الأمور في أذهانهم؟ A هذا حديث يطول، لكن ألخصه في كلمات: أريتريا منذ ثلاثين عاماً وهي مبتلاة بألد أعداء الله عز وجل، ولعل أحدنا يظن أني أعني الحبشة وليس كذلك، فالحبشة عدو حاقد نصراني شيوعي ملحد، لكن ابتليت أريتريا بما هو أشد من ذلك من أبناء جلدتها، من الذين تقدموا ليحرروا البلاد فإذا بهم يزيدون الطين بلة، وخلال السنوات الثلاثين التي مضت والأمور تتردى في أريتريا، حتى وصل الأمر إلى خبر نشرته صحيفة (المسلمون) منذ سنتين تقول فيه: إنه تؤخذ الفتيات من البيوت قهراً ويقتل الآباء الذين يعارضون، ويوضعن في مواطن تفريخ -أي: في معسكرات- لينزوا عليهن من لا أقول: البر والفاجر؛ لأن الكل فاجر، بل المسلم والنصراني، ويلدن أولاداً، ويعتبرون هؤلاء الأولاد صغار الثورة، ويرجون من وراء ذلك أن تحول أريتريا إلى بلد إلحادية. هذا الأمر دفع كثيراً من علماء المسلمين الأريتريين الذين درسوا في الجامعات الإسلامية هنا وهناك وفي كل مكان إلى أن اجتمعوا وتعاهدوا على الجهاد في سبيل الله، وجمعوا منظمات متفرقة في منظمة واحدة اسمها: (حركة الجهاد في سبيل الله) ويديرها واحد وخمسون من علماء أريتريا في مجلس شورى، وهؤلاء الآن يكادون أن ينجحوا في مهمتهم لو قيض الله عز وجل لهم مالاً، وبقي دوركم أنتم -أيها الإخوة المسلمون- يا من تملكون المال، فلماذا لا تتقدمون لهؤلاء بالمال لعل الله سبحانه وتعالى أن يفتح على أيديهم أريتريا؟ وهي ليست بأقل خطراً من أفغانستان علينا، بل إن أريتريا لا تبعد عنا إلا عشرات الأميال فقط، وهي تشكل خطراً لا سيما في هذه الجبهات التي تكافح فيها الاحتلال الأثيوبي. وعلى كلٍ فالجهاد في سبيل الله قائم هناك، ولكنه يفقد المال، بل يفقد لقمة العيش الضرورية، بل إن الأريتريين الذين يزيدون على مليون مسلم يعيشون الآن داخل السودان يموت عدد منهم جوعاً في هذه الأيام أكثر من أي مجاعة مرت عليهم في تاريخهم، حتى المجاعة التي سمعنا أخبارها منذ سنوات هم الآن يعيشون مجاعة أشد من تلك لأسباب كثيرة، ولعل من أهم أسبابها أحداث الخليج، وغلاء الأسعار هناك، حتى أصبح المسلمون يموتون جوعاً، فهم بحاجة إلى طعام إضافة إلى أنهم بحاجة إلى سلاح يقاتلون به عدوهم. وعلى كل فإني أدعو المسلمين إلى المساهمة لمساعدة إخوانهم الأريتريين، فهم أحوج ما يكونون إلى المال، لعل الله أن يفتح على أيديهم، ولعلنا نتقي شر تلك المنطقة وما يسمى بالقرن الأفريقي الذي يهدد أمن المنطقة كلها.

واجب المسلمين تجاه المجاهدين في أفغانستان وغيرها

واجب المسلمين تجاه المجاهدين في أفغانستان وغيرها Q مع الأحداث الأخيرة صرفت أذهان كثير من المسلمين -مع الأسف الشديد- عن الجهاد في فلسطين، وعن الجهاد الأفغاني الكبير الذي ما يزال يحاول أن يقتلع الإلحاد من بلاد الأفغان، فنود لو يذكر الناس قليلاً بواقع الجهاد الأفغاني؟ A حينما نتحدث عن الجهاد في بلد لا نتحدث عنه لأنه الوحيد في الساحة، لا، فالجهاد في أفغانستان لا ننساه ولن ننساه أبداً، والجهاد في فلسطين لا يمكن أن يغيب عن عقولنا، وأيضاً لا ننسى إخواناً لنا في جنوب الفلبين يجاهدون في سبيل الله، كل هؤلاء لا نغفل عنهم ولا ننساهم. أما الجهاد في أفغانستان فإننا نسمع أخباره -والحمد لله- وهو مرفوع الرأس، حتى لقد كان من الأخبار التي وردتنا أن عدو الله الحاكم في أفغانستان ظلماً وعدواناً يراسل القادة الذين يحيطون بكابل ويقول لهم: أنتم إخواني وأنا أخوكم أصلي وأطبق شعائر الإسلام، فارحمونا فقد أزعجتمونا ودعونا. فماذا رد الأخ القائد جزاه الله خيراً عليه؟ هل رد عليه يقول: نقتسم البلاد نحن وأنت؟! لا. وإنما كتب في أسفل خطابه -كما يقول شاهد عيان-: بسم الله الرحمن الرحيم. من فلان إلى عدو الله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] التوقيع: فلان. وهذا يدل -والحمد لله- على أنه صادر من منطلق قوة، لكن المال هو الذي يسير هذا الجهاد، والحمد لله على أن أكثر من سير الجهاد في أفغانستان هم شباب المملكة العربية السعودية، وهم أكثر الناس شهداء من غير الأفغان في تلك المناطق والحمد لله، وإننا نرجو المزيد من ذلك، وهذا يدل على وعي شباب المملكة العربية السعودية. إذاً لا بد من المال؛ لأن المال هو الذي يقوم بالجهاد، لا سيما أن أيام الشتاء إذا أقبلت فالثلوج ترتفع في تلك الجبال إلى أمتار من شدة البرودة، وربما تبلغ درجة البرودة إلى عشر أو عشرين درجة تحت الصفر في بعض الأحيان، فمن يستطيع مواجهة ذلك؟! إنهم القوم الذين عاهدوا الله على الجهاد، وهم أيضاً بحاجة إلى شيء من مالنا يتقون به البرد والعدو، والله المستعان.

كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة

كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة لقد دعا ديننا إلى الفضيلة، وأرشد إليها، وحث عليها، ومدح أصحابها، وحارب الرذيلة، وحذر منها، وشنع على مرتكبيها، فإن داعي الفطر السليمة، والنفوس المستقيمة يدعو إلى الفضائل والمكارم، ويكره الرذائل ووسائلها وما يؤدي إليها، لذلك فديننا يوافق الفطر الصافية. فعلى المسلم أن يحذر من الوقوع في الرذيلة ومن نشرها، لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، بل عليه أن يتحلى بالفضائل، وينشرها في الخافقين.

مجمل الاحتياطات التي وضعها الإسلام لمحاربة الرذيلة

مجمل الاحتياطات التي وضعها الإسلام لمحاربة الرذيلة الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أحبتي في الله! القرآن هو منهج الحياة، والأمة في العصور الماضية ما كانت تفكر أن هناك نظاماً سوف ينافس القرآن، ونحن الآن نتأكد أنه لن ينافس القرآن شيء، لكن ظن أعداء الإسلام أنهم سوف ينافسون القرآن وينازعونه بأنظمتهم وقوانينهم ولكن يأبى الله إلا أن تتعقد الحياة ويختلط الحابل بالنابل حتى يعود الناس إلى كتاب الله جملة واحدة قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:209] أي: في جميع شرائع الإسلام. ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! وأنتم ترون العالم اليوم وقد أمسك بالزناد ينتظر حروباً دامية، بل لا تكاد تسمع أخبار العالم عبر الأثير إلا وتسمع المجازر والمذابح، هذا ليس غريباً؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن كتاب الله عز وجل سوف يحدث أكثر من ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] وبالمفهوم من أعرض عن هدى الله فعليهم الخوف وعليهم الحزن. وفي آية أخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:132 - 124]. يقول الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] (فَإِنْ آمَنُوا) أي: العالم (بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) أيها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) ولذلك يحاول الغرب عبثاً أن يقودوا هذا العالم على غير عقيدة، وعلى غير منهج من عند الله، ويأبى الله ذلك حتى يعود الناس كلهم إلى كتاب الله وإلى تشريعه. ليعلم الناس أجمعون وليبلغ الذين يسمعون من لا يسمعون أن هذه الأمة لا تتفق إلا على منهج صحيح؛ ولذلك هنا في بلدنا هذه لها من الأمن بمقدار ما تطبق من شرع الله، قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] كما أنها لو تخلفت ولم تطبق شرع الله فسيكون نصيبها من ضياع الأمن ووجود شيء من الفوضى، فلينتبه الغافل وليعلم الجاهل. أيها الإخوة: الحلقة التي اخترناها في هذه الليلة هي: كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة، ولذلك اخترت لكم النصف الأول من سورة النور؛ لأن سورة النور سورة عظيمة جداً وكل القرآن عظيم، لكن لفت القرآن نظرنا إلى عظمة سورة النور، فبدأها بقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] وكان هذا اللفت للنظر يثير الانتباه، بحيث يجب على المسلمين أن يقرءوا سورة النور، ولربما يكون في سورة النور شيء يجرح المجرمين، لكنه في الحقيقة يصلح المجتمع، ولذلك فسورة النور في نصفها الأول تحارب الرذيلة التي لها دعاة في أيامنا الحاضرة، لكنهم لا يقولون: نحن نريد الرذيلة ونريد أن ينتشر الزنا في المجتمع، وهم في الحقيقة إنما يريدون ذلك؛ لأنهم حينما يكثرون علينا في أمر المرأة، المرأة، المرأة، والله ما يريدون خيراً للمرأة، وإنما يريدون للمرأة أن تفسد فيفسد المجتمع، فتخف وطأة الطريق الطويلة التي يبحثون فيها عن الفاحشة، فتكون هذه المرأة في متناول أيديهم، ولكن يأبى الله إلا أن تبقى هذه الأمة -لاسيما في جزيرة العرب منشأ الإسلام- آمنة مطمئنة محافظة على دينها وأخلاقها، رغم أنوف هؤلاء الحاقدين. اخترت لكم النصف الأول من سورة النور والعجيب أن هذا النصف بدأ بما يلفت النظر وختم بمثل ذلك، فأول آية فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] وآخر آية في هذا النصف: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]. هذه السورة كلها مدنية، ونصفها الأول يركز على موضوع واحد وهو موضوع الأخلاق والفضائل واحترام المرأة ومحاربة الزنا، وإقرار قواعد الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فيقول الله عز وجل في مطلع هذه السورة: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا). ثم يبين أسساً تكفي لحماية أي مجتمع من العابثين الذين يريدون أن تشيع فيهم الفاحشة، فأول آية بعد هذه الآية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. إذاً: هي ركزت على محاربة الزنا، وأول احتياط جاء في هذه السورة هو الحد، وسميت الحدود حدوداً لأنها حواجز أمام النفس البشرية تمنع من الوقوع في الفاحشة؛ لأن النفوس البشرية في طبيعتها تهوى هذا الأمر؛ لأن الشهوات قد ركب عليها الإنسان وكذلك كل مخلوقات الله تعالى الحية ركبت على هذه الشهوة، ولا بد من حماية جانب الأخلاق ما دامت هذه الشهوات موجودة. إن إقامة الحدود أمر عظيم، وما حصل في العالم الإسلامي اليوم من خلل فإن أكبر أسبابه تعطيل هذه الحدود، تراهم يتعاطفون مع المجرم ويقولون: إن تطبيق الحدود من قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، فيها قسوة ووحشية، أهذه هي الوحشية. أم الوحشية العبث في أخلاق الناس وفي أموال الناس وفي أمن الناس وفي أعراضهم؟! الأخيرة هي الوحشية حقيقة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين خريفاً). إذاً: الاحتياط الأول: هو الحد: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). الاحتياط الثاني: هو المحافظة على سمعة المجتمع بحيث يصبح هذا المجتمع لا يتحدث فيه عن الرذيلة، لأن الحديث عن الرذيلة يخفف وطأة الجريمة على الإنسان، ولم تعد كلمة الزنا تصك الآذان؛ لأنها أصبحت مبذولة وأصبحت سهلة مألوفة لدى الناس، لذلك جاء الاحتياط الثاني: وهو حد القذف، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. الاحتياط الثالث: في جانب الاختلاط، ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي حينما جاء أعداء الإسلام ونشروا الاختلاط في الجامعة وفي المدرسة وفي السوق وفي المكتب وفي كل شيء؛ لأنهم يعلمون أن هذا تمهيد للفاحشة. أما الإسلام فقد حارب الاختلاط كما في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. الاحتياط الرابع: هو غض البصر؛ لأن النظرة سهم مسموم كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي بقوله: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركه من أجلي، أبدلته إيماناً يجد لذته في قلبه). الاحتياط الخامس: الزواج، الذي يدعو إلى هجره كثير من أعداء الإسلام، ويقولون: العشق خير من الزواج، وهنا كلمة عند الإنجليز متداولة عند بعض شباب المسلمين: إذا كان اللبن يباع في الأسواق فلا حاجة إلى أن تشتري بقرة، يقولون هذا بلغتهم الخاصة. إذاً: لا حاجة إلى الزواج ما دمت تستطيع أن تشبع هذه الرغبة من غير زوجة ترتبط بها وترتبط بك، وتطالبك بالنفقة وغيرها من التكاليف، وربما تنجب لك أولاداً وهؤلاء الأولاد يكلفونك تكاليف كثيرة لا حاجة إليها، يقولون ذلك من أجل أن ينشروا الجريمة في المجتمع. أما الإسلام فقد ركز على هذه الأمور الخمسة وهي التي ستكون إن شاء الله موضوع حديثنا في هذه الليلة، مع مراعاة بعض الألفاظ اللغوية أو بعض الألفاظ النحوية التي تعرض لنا في هذه الآيات، وكذلك بعض الأحكام مع إشارة يسيرة إلى بعض الخلافات التي ربما نضطر إليها لتوضيح أمر من الأمور، التي أصبحت مثار جدل ككشف الوجه والكفين وما أشبه ذلك من الأمور التي يناقش فيها طائفة من الناس اليوم، وهم لا يريدون الوجه والكفين حقيقة، وإنما يريدون أن تتفسخ المرأة، لكنهم يبدءون بالوجه والكفين، ولذلك هم يقولون: إن كشف الوجه والكفين جاء به القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] كما سيأتينا إن شاء الله في الآية، وهؤلاء لو كانوا يقفون عند حد الوجه والكفين لكان الأمر معقولاً؛ لأن هذا الرأي قديم لبعض العلماء، لكن هم يريدون أن يكون هذا مدخلاً للتفسخ؛ لأن كشف الوجه يعتبر إزالة للحياء من وجه المرأة، فإذا كشفت الوجه تفعل ما تشاء.

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد الزنا

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد الزنا يقول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]. (سورة): خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة. والسورة مأخوذة إما من السوار، وهو ما يحيط باليد، أو من السور وهو الجدار المرتفع؛ لأن كل سورة من القرآن أحيطت بسور منيع من أولها إلى آخرها، فهي كالسور المنيع الذي يلتجئ إليه الخائف. قوله تعالى: (أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) نفهم منها: أن القرآن منزل غير مخلوق، خلاف ما يقوله المبتدعة الذين أحدثوا في دين الله تعالى. أما الفرض فمعناه في اللغة: القطع أي: قطعنا بها، والمراد بقوله: (وفرضناها) أي: ألزمنا المسلمين بها إلزاماً مع أن القرآن كله ملزم، لكن لما كانت هذه السورة تحمل أهمية خاصة في حياة الأمم وفي شرف الأمم، قال الله تعالى: (وَفَرَضْنَاهَا). قوله: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) والمراد بالآيات البينات ما سنذكره إن شاء الله من الأحكام والأخلاق والفضائل في النصف الأول من هذه السورة، أو ما يأتي في آخر السورة من الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون، لتكون علامة على قدرة الله ووحدانيته تعالى. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لعل) أصلها للترجي في لغة العرب، لكن إذا جاءت من الله عز وجل فليست للترجي وإنما هي للتوقع، أي: يتوقع تذكركم إذا قرأتم هذه السورة وعملتم بها؛ لأن الترجي لا يكون إلا من الأدنى إلى الأعلى، أما من الله سبحانه وتعالى فإنه لا يترجى وإنما يفرض أمره فرضاً، ولذلك يكون (لعل) هنا بمعنى اللام: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي: لتتذكروا. بدأت الأحكام في هذه السورة بقوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] هنا شيء يلفت النظر في هذه الآية، لا تجد آية في القرآن ولا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالمرأة وإنما يبدأ بالرجل؛ يقول الله تعالى: {ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ويقول سبحانه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وليس معنى ذلك أن المرأة محتقرة، لكن هما شيئان أحدهما أفضل من الآخر، ويبدأ بالأفضل، ولذلك جاءت هذه الآية على خلاف المعروف في آيات القرآن العظيم، حيث بدأ بالمرأة ولم يبدأ بالرجل فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مع أننا نجد في سورة المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] فلماذا بدأ بالمرأة؟ لأن المرأة عندها من الدوافع إلى الزنا أكثر مما عند الرجل، لكن من نعمة الله عز وجل أن جعل المرأة لا تتحرك إلا إذا حركت، كما أن المرأة عندها من القدرة على نشر الفاحشة في المجتمع أكثر من قدرة الرجل، لو أن واحداً من الناس فسدت أخلاقه نعوذ بالله، وانحط في المجتمع، فإنه يفسد فرد وحده، لكن تصوروا امرأة واحدة لو فسدت في أمة لأفسدت أمة بأكملها، لو امرأة خرجت متبرجة في أكبر سوق من أسواق مدينة ما، فإنها ستفتن دين أمم ورجال كثيرين. ولذلك قدمت المرأة على الرجل إشارة إلى أن عرض المرأة حساس، فهي إن وقعت في هذه الفاحشة نعوذ بالله سوف تدخل أولاداً على زوجها إن كان لها زوج ليسوا منه، وتدخل على مجتمعها وعلى بيتها أولاداً ليسوا شرعيين، لا تجد من يتزوجها إذا عرف أنها وقعت ذات يوم في فاحشة، بخلاف الرجل قد يُنسى أمره؛ ولذلك قدم الله تعالى المرأة على الرجل هنا من أجل أن يعلم الناس حساسية عرض المرأة، فهو أكثر حساسية من الرجل وأكثر خطورة من الرجل. الرجل يمكن أن يفسد امرأة أو امرأتين لكن المرأة باستطاعتها أن تفسد آلاف الرجال معها. والزنا في الشرع معناه: هو الوطء في فرج حرام، هذا يسمى زنا. (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) والجلد معناه: ضرب الجلد، ومائة جلدة هذا حكم خاص بالزاني غير المحصن؛ لأن الزاني في شرع الله عز وجل على نوعين: محصن، وغير محصن. فالمحصن هو الذي تزوج ووطأ زوجته التي يوطأ مثلها بنكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حران. أما غير المحصن فهو الذي لم تتوافر فيه هذه الشروط، والمحصن يرجم بعد أن يجلد، وغير المحصن يجلد مائة جلدة ويغرب سنة، هذا شرع الله عز وجل في حكم الزاني المحصن وغير المحصن، مع اختلاف بين العلماء في الجلد قبل الرجم. أما بالنسبة للجلد والتغريب فهذا ورد في الشرع بأدلة كثيرة، وبعض العلماء يرى أن سجن المرأة لمدة سنة يكفي عن التغريب، المهم أن تغيب عن المجتمع التي فعلت فيه هذه الفاحشة. قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) هذا خطاب للحكام وللقضاة ولعامة الناس، ولذلك يا أخي! إذا مررت بامرأة تجلد أو رجل يجلد؛ بسبب الزنا فلا تجعل الرحمة في قلبك وتقول: والله هذا مسكين، أو هذه مسكينة، فتخالف أمر الله عز وجل، ولكن قل: هذا شرع الله الذي يطهر المجتمع، كما أن هذه الرأفة والرحمة لا يجوز أن تأخذ القضاة أو الحكام إلى أن يتساهلوا في تنفيذ هذه العقوبات. والرأفة معناها: الرحمة والرقة، مع أن الله أمر المؤمنين دائماً وأبداً بالرحمة، لكن في باب الحدود لو طبقت هذه الرحمة لعطلت الحدود؛ ولذلك أصحاب القوانين الوضعية -قاتلهم الله أنى يؤفكون- في أيامنا الحاضرة يظهرون العطف على المجرم ويقولون: شهوة واحدة صغيرة في لحظة نرجم بسببها إنساناً أو نجلده مائة جلدة، هذه عقوبات قاسية، يسمونها العقوبات البشعة، وكأنهم أرحم من الله عز وجل الذي يعلم ما يصلح البشر. والحقيقة أنهم كاذبون فليست هذه رحمة، وإنما هذا تفلت من حكم الله عز وجل؛ لأنهم ابتلوا بهذه الجرائم بأنفسهم. قوله تعالى: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) هذا خطاب للمؤمنين، وهذا لإثارة الإيمان في النفس أي: إن كنت مؤمناً فلا تتعاطف مع أهل الرذيلة، كما تقول لفلان: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حمية الرجولة في نفسه. أيضاً عقوبة أخرى يقول عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] لا يكون الجلد داخل مكتب الشرطة، ولا يكون داخل مركز الهيئة، وإنما يجب أن يكون على مرأى من الناس؛ لأن الفضيحة التي يشعر بها صاحب الجريمة يجدها في نفسه أشد من الجلد؛ والستر مطلوب دائما وأبداً، لكن إذا بلغت الحدود السلطان فلا يصلح الستر ما يقال: هذا ابن فلان أو ابن الأكرمين، أو ابن الرجال أو ابن الملوك أو ابن الأمراء يجلد داخل مكان كذا، بل يجب أن يكون على مرأى من الناس، ولا بد أن تشهد هذه العقوبة. قوله: (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: من المسلمين المطبقين لأوامر الله عز وجل؛ لأجل أن يشعر هذا بالفضيحة فيرتدع، ومن أجل أن يرتدع من يرى هذه الحدود وهي تقام. وإقامة الحدود تقر عيون المؤمنين دائماً وأبداً، ولذلك يجب أن يشهد هذه العقوبة طائفة من المؤمنين. أمر الحدود انتهينا منه في هذه الآية، أي: استقر الأمر أن يرجم الزاني إذا ثبت الزنا وكان محصناً، أو يجلد مائة جلدة إن لم يكن محصناً. يا إخوتي! لا تظنوا أن الإسلام حينما يشرع هذه الحدود إنما يقيم مجازر، فالإسلام الذي وضع هذه العقوبة شدد في أمر ثبوت الزنا، ولذلك فإن الزنا في تاريخ الإسلام الطويل منذ أن نزلت هذه السورة إلى يومنا هذا ما ثبت بالشهادة، مستحيل أن يثبت بالشهادة؛ لأن الشهادة ليست في حد الزنا أن يرى الرجل على المرأة، وإنما هي أن يرى ذكره في فرجها عياناً، وأن يراه أربعة، حتى لو رآه واحد أو اثنان أو ثلاثة لا تقبل شهادتهم، بل لا بد من أن يكونوا أربعة شهود. إذاً معنى ذلك: أن حد الزنا لم يثبت بالشهادة وإنما ثبت بالاعتراف، أو بالتهمة، والتهمة لا تأخذ حكم الحدود وإنما تأخذ حكم التعزير، كما يفعله القضاة والحكام من وضع عقوبات للزناة في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون تعزيراً على تهمة أن فلاناً وجدت عنده فلانة في بيته، وهذه مظنة الزنا، لكن لا يقام عليه الحد، وإنما يعزر تعزيراً بحيث ينقص عن مقدار الحد، ولكن يجوز للقضاة والحكام التعزير وليس له حد محدد. وإما أن يعترف الزاني، وهذا لم يثبت إلا نادراً في تاريخ الإسلام كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: قصة ماعز رضي الله عنه. وقصة المرأة الغامدية. وقصة الرجل الذي قال: (يا رسول الله! إن ابني هذا كان عسيفاً عند فلان فزنى بامرأته)، وقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن بعد أن اعترفت المرأة واعترف الرجل. إذاً: لم يثبت الزنا إلا بطريق الاعتراف؛ لأن الاحتياطات التي وضعت في طريق هذه الحدود عظيمة وشديدة، حتى قال العلماء: لو اعترف الإنسان بالزنا ثم تراجع عن اعترافه يترك ولو بدأنا في رجمه أو جلده؛ لأنه جاء في قصة ماعز رضي الله عنه أنه لما جاء فاعترف، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يرجم، فلما بدءوا يرجمونه أوجعته الحجارة فهرب فقضوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه جاء معترفاً، فهنا تراجع عن اعترافه. قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] هذه جاءت بين حد الزنا وحد القذف، هذه الآية لها سبب في نزولها، وهو (أن امرأة تدعى أم مهزول كانت مشهورة عند الناس بالزنا نعوذ بالله، فجاء رجل من المسلمين ليخطبها، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن نكاحها، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)). فلا يجوز أن يتزوج امرأة عفيفة وهو ما زال مكباً ومصراً على الزنا حتى يتوب، فلا يجوز له أن يتزوج إلا امرأة زانية مثله مشهورة بالزنا،

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد القذف

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد القذف بعض الناس عنده غيرة، ولا يلام على هذه الغيرة، لكن قد تصل هذه الغيرة إلى القذف بدون دليل، وهذا أمر خطير لا يقل خطورة عن أمر الزنا، كأن يقول: إن فلانة زنت، أو فلاناً زنى، وليس عنده دليل، فالله تعالى وضع عقوبة للقاذف تساوي عقوبة الزاني سوى عشرين جلدة فقط. إذاً: القاذف عقوبته ثمانون جلدة، والزاني مائة جلدة، بل قد تكون عقوبة القاذفين مضاعفة لو أن ثلاثة شهدوا أن فلاناً زنى وليس عندهم رابع يشهد، في هذه الحالة كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، يكون المجموع مائتين وأربعين جلدة على هؤلاء الثلاثة، أكثر من عقوبة الزاني بما يساوي مرتين ونصف. إذا: ً حتى لا تنطلق الألسن بالحديث في الأعراض بدون بينة، وضع الله تعالى عقوبة القاذف بجوار عقوبة الزاني، ووضع عقوبة يقارب مقدارها مقدار عقوبة الزاني. القذف معناه: الرمي، والمراد به هنا القذف بالزنا نعوذ بالله، والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل؛ لأن الله وضع له حداً، والكبيرة هي التي لها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة. حرم القذف لأسباب كثيرة: السبب الأول: أنه ينفر الناس من المرأة التي قذفت، بحيث لا أحد يتزوجها في يوم من الأيام؛ ولذلك شدد الله تعالى في هذا الأمر وخص المرأة بذلك قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] مع أن الرمي للمحصنات وللمحصنين الرجال على حد سواء كله محرم وكل فيه حد. إن إشاعة الفاحشة في المجتمع تسهل الجريمة، فلو بدأ الناس يتحدثون: فلان زان، وفلانة زانية، يصبح الحديث عن الزنا أمراً ميسوراً، ولذلك فإن المسرحيات التي تنشر الآن أمام المسلمين في التلفاز وفي الإذاعة خطيرة جداً؛ لأنها تأتي بكلمات كلها عشق وغرام، ولأنها تمهد السبيل للفاحشة، لا سيما حينما تظهر الصورة وفيها رجل مختلط بامرأة، وأسوأ من ذلك ظهرت الصورة لرجل من الصالحين أو من التابعين وبجواره زوجته سافرة تختلط بالرجال، فهذا تشويه لتاريخ الإسلام، إضافة إلى أن فيه إشاعة للفاحشة فهو لا يقل جريمة عن القذف، وكذلك الحديث في المسلسلات التي تنتشر اليوم في بيوت الناس وفي أسواق الناس عبر وسائل الإعلام الحديثة، كلها في الحقيقة تمهد السبيل للجريمة، فالذي شرع الحد سبحانه وتعالى لمن يقذف امرأة محصنة، هو أيضاً يعاقب هؤلاء الذين ينشرون الفاحشة ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المحصن هو العفيف، والمحصنات هن العفيفات، لماذا سمي الرجل العفيف محصناً، وسميت المرأة العفيفة محصنة؟ كأنهم ركبوا حصاناً، والجندي إذا ركب الحصان صعب قتله، أو دخل في حصن فإذا دخل في حصن صعب قتله، وهي محصنة عفيفة محاطة بسياج منيع من حفظ الله عز وجل، ومع ذلك يقال: إنها زانية، إذاً: هذا خطير، فالله تعالى جعل عقوبة لمن يرمي المحصنة أو يرمي المحصن. الله سبحانه وتعالى ذكر هنا المرأة ولم يذكر الرجل أبداً، ما قال: والذين يرمون المحصنات والمحصنين، وإنما قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) دخل الرجل بطريق القياس والتبعية؛ لأن الرمي بالنسبة للمرأة أخطر من الرجل، لو قال واحد: بنت فلان زانية، لا يمكن لواحد من الناس أن يفكر بالزواج من هذه يوماً من الأيام، ولا يمكن لأي واحد من الناس أن يستعيد الثقة في هذه المرأة، لكن لو قال: فلان زان، قد ينسى عبر الأيام وكل الناس يزوجونه. إذاً ذكر الله تعالى المحصنات وجعل الرجل تابعاً للمرأة في هذا الحكم؛ لأن حساسية وشفافية عرض المرأة أهم وأشد من عرض الرجل. قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي: لابد من أربعة شهود، فلو جاء شخص وقال: رأيت بنت فلان تزني نعوذ بالله، نقول: بقي ثلاثة يشهدون مثل شهادتك، وإلا تجلد أنت حد القذف، ويروى: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه ثلاثة فشهدوا على فلان من الناس بالزنا، فقال: إما أن تأتوا برابع وإما أن أجلد كل واحد منكم ثمانين جلدة، وقرأ عليهم هذه الآية). ولكن ليس معنى ذلك يا إخوان أننا إذا رأينا الفاحشة في بيت من بيوت الناس نعوذ بالله، أو في بؤرة فساد أن نتركها تقديراً لهذا، ولا نقول: في هذا البيت فلانة زنت أو فلان زنى، وإنما نقول: في هذا البيت شبهة، وندعو الصالحين وأصحاب الحل والعقد والمسئولين ونقول: تفضلوا هذا البيت تدور حوله شبهة، وحينئذ نستطيع أن نوفق بين هذه الآية الكريمة وبين الواقع الذي أصبح كثير من الناس يتحاشى أن يكشف بؤرة فساد تفسد المجتمع؛ خوفاً من أن يقع في وعيد هذه الآية، فلو قال: هذا البيت مشبوه، فهو غير قوله: فلان من الناس زنى. إذاً: يجب على كل واحد من الناس إذا شك في سلامة بيت من بيوت المسلمين، أن يدعو السلطة والمسئولين وأصحاب الحل والعقد، من أجل أن يكتشفوا بؤرة الفساد التي يتوقعها داخل هذا البيت، لكن عليه أن يتثبت وعليه أن يتأنى في هذا الأمر، وإذا تأكد من صحة هذا الأمر فيجب على السلطة أن تتعاون معه، ولكن حينما تتهاون السلطة في مثل هذا الموضوع تعتبر خائنة لهذه الأمانة التي استرعاها الله عز وجل عليها. يقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) يعني: اضربوا كل واحد منهم ثمانين جلدة وليس كلهم تقسم عليهم ثمانين جلدة. قوله: {اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، انظر يا أخي! الزنا فيه عقوبة واحدة، لكن إشاعة الفاحشة في المجتمع فيه ثلاث عقوبات: الأولى: جلد كالزنا. الثانية: إسقاط الشهادة: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا). (أبداً) هنا ظرف زمان أي: مدى الحياة إلا في حالة واحدة، إذا ظهر أنه تاب من هذا الذنب الذي عمله، فإنه تقبل شهادته. الثالثة: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] أي: يعتبر من الفاسقين، يقال: الذي شهد على فلانة أو فلان بالزنا وهو ليس بصادق أو لم يثبت على ذلك يسمى فاسقاً في المجتمع. والفاسق هو المتمرد على طاعة الله عز جل. قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]، فإذا تاب الإنسان قبلت شهادته، وانتفى عنه وصف الفسق، لكن لا يسقط حد القذف أبداً ولو تاب الإنسان؛ لأن حد القذف لله سبحانه وتعالى وللإنسان المقذوف، ويغلب فيه جانب حق الله عز وجل فلا يسقط. (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) (تابوا) أي: بعد الفسق. (وأصلحوا) أي: ظهرت علامات الإصلاح والتوبة، لكن لو قال: أنا تائب، لا نقبل توبته حتى نعرف أنه أصلح العمل، وأنه غير المنهج في قذف الناس بغير حق. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تبين لنا أنه لا يسقط حد القذف وإنما يسقط رد الشهادة والفسق؛ لأن مغفرة الله عز وجل للأمور المعنوية، والأمور المعنوية هي الفسق وسقوط الشهادة، أما بالنسبة للحق المشترك بين الله عز وجل وبين الإنسان وهو الجلد، فهذا لا يسقط بأي حال من الأحوال.

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حكم الملاعنة

حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حكم الملاعنة يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] عندما نزلت الآية السابقة شق ذلك على بعض المسلمين وخصوصاً الزوج، لو أن واحداً ابتلي بزوجة زانية؛ كأن وجد عند زوجته رجلاً في بيته وفي فراشه، ماذا يعمل؟ هل يصبر حتى يأتي بأربعة شهداء؟! ومن يستطيع ذلك؟ لأن الغيرة في قلب المؤمن لا تمهله حتى يأتي بأربعة شهداء. لما نزلت الآية السابقة جاء هلال بن أمية يخبر أنه وجد عند امرأته رجلاً، فقال له رسول الله: البينة أو حد في ظهرك! ثم نزلت الآية. من رحمة الله عز وجل أنه استثنى الزوج مع زوجته، لا حاجة إلى أربعة شهداء وإنما يأتي أمر آخر يسمى حد اللعان أو الملاعنة. حد الملاعنة هذا استثني من حد القذف، فحد القذف حكم ثابت إلى يوم القيامة، ولا يستثنى منه إلا من وجد عند زوجته رجلاً أو اتهم زوجته بالفاحشة نعوذ بالله، الله تعالى سامحه عن الشهود الأربعة، وطالبه بأربعة أيمان بدل الأربعة الشهود، فلا بد أن يشهد أربع مرات أمام القاضي ويسميها: والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله علي إن كنت كاذباً فيما رميتها به. إذا قال هذا الكلام فلا حاجة إلى أربعة شهود؛ لأن الله تعالى خفف على الزوج في قذف زوجته، خصوصاً إذا كان هناك ولد وهو يشك هل هذا الولد له أو ليس له؟ فهو يكره أن يدخل ولداً في بيته وفي أسرته ومع أولاده وليس من أولاده، وإن كان الحكم الشرعي (الولد للفراش)، لكن هو لا يريد أن يدخل هذا الولد في بيته ولا في أسرته. والمرأة إذا سكتت فإنه يقام عليها الحد، ولكن لها مخرج من الحد أن تشهد أربع مرات: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، ثم تقول في الخامسة: غضب الله علي إن كان صادقاً. هذا يسمى في حكم الشرع باللعان أو بالملاعنة. إذاً: خفف الله تعالى عن هذه الأمة فاستثنى الأزواج مع زوجاتهم في هذا الحكم ويسمى حكم الملاعنة. يقول الله تعالى عنه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) (أنفسهم) هنا بالرفع بدل من شهداء لأن (إلا) هنا ملغاة تقدم عليها النفي. (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) أي: يمين الزوج ضد زوجته يكفي بدل الشهادة. وسماها الله تعالى شهادة مع أنها يمين؛ لأنها حلت محل الشهادة، ومحل أربعة شهود يشهدون بذلك. (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي: يقول: أشهد بالله إنها فعلت كذا وإني صادق فيما رميتها به من الزنا. يقول الله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] معطوف على ما قبله وهو قوله: (أربع) (والخامسة) وهي مرفوعة، أي: ويشهد الخامسة ويقول: لعنة الله علي إن كنت كاذباً، أو (والخامسةُ) هنا على الاستئناف. قوله: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أي: فيما رماها به من الزنا. إذا قال هذا الكلام سلم من الحد، ويفرق بينه وبين هذه الزوجة، وله أن ينفي الولد؛ لأنه رأى رجلاً يزني بها في يوم من الأيام، أو أنها حملت بحمل يتبرأ منه بهذه الأيمان الأربعة التي أشهد الله تعالى عليها، ودعا على نفسه باللعنة في الخامسة إن كان كاذباً، ويقام عليها الحد إلا إذا شهدت هي أربع شهادات مثله كما سيأتينا. قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] (ويدرأ) أي: يدفع ويزيل، والمراد بالعذاب هنا حد الزنا، أي: ويدفع الله عنها حد الزنا بشهادتها أربع مرات بأن تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أربع مرات. قوله تعالى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) أي: يدفع عن هذه المرأة المرمية بالزنا الرجم؛ لأنها محصنة. (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أي: تشهد أربع شهادات حتى يدفع عنها الحد، وإلا فإن الحد لا بد من أن يقام عليها. (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، ثم تكمل الخامسة. قال الله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] (والخامسة) هنا منصوبة معطوفة على (أربع شهادات). (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) والغضب أشد من اللعنة، لماذا كان هنا الغضب وكانت هناك اللعنة؛ لأن زنا المرأة أخطر من زنا الرجل؛ ولأن الحد الذي سوف يدفع عن المرأة أشد من الحد الذي سيندفع عن الرجل؛ ولذلك جاءت اللعنة وهي الطرد من رحمة الله بالنسبة للرجل، وجاء أشد من ذلك وهو الغضب إن كانت كاذبة فيما شهدت به. (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إذا قالت هذا الكلام يفرق بينهما، ويجب على القاضي في مثل هذه الحالة أن يخوفهما بالله، ويبين لهما أن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة، ويقول للزوج: لا حاجة إلى أن تلاعنها يا أخي؛ لأنك لو لاعنتها وأنت كاذب سوف تحل عليك لعنة الله. وكذلك المرأة لو كانت كاذبة فسوف يحل عليها الغضب. يقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك في ختام آيات الملاعنة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10]. أي: أن الله تعالى برحمته هو الذي شرع حد اللعان؛ ليكون تخفيفاً على الأزواج. (لولا) هنا حرف امتناع لوجود (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) وجوابه محذوف، أي: لعاقبكم ولم يسامحكم أيها الأزواج ويعطكم هذه المسامحة التي لم يعطها عامة الناس.

حادثة الإفك ووجه تعلقها بالقذف والدروس المستفادة منها

حادثة الإفك ووجه تعلقها بالقذف والدروس المستفادة منها قصة الإفك هي نوع من القذف، وأنواع القذف ثلاثة: الأول: قذف عام، قذف المرأة والرجل. الثاني: قذف الزوجة من قبل الزوج وعرفنا حكمه. الثالث: هو أخطر أنواع القذف كلها، وهو قذف زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك يؤدي إلى عذاب عظيم، ولذلك تجدون في قصة قذف زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] هذا في الدنيا أما في الآخرة: فقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]. قصة قذف عائشة رضي الله عنها استغلها بعض المنافقين، كما يستغل الآن المنافقون الفرص من أجل أن يدخلوا في المجتمعات ليشوهوها، ففي غزوة بني المصطلق وتسمى أيضاً غزوة المريسيع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج بـ عائشة معه، وهو راجع من هذه الغزوة، في آخر مرحلة من مراحل الطريق نزل الرسول صلى الله عليه وسلم هو والجيش في الليل، وعرسوا -أي: ناموا في الليل- فلما كان الصباح وكانت عائشة رضي الله عنها تحمل في هودج ذهبت لقضاء حاجتها، ثم رجعت ورأوها رجعت، ولكنها لما رجعت وجدت أنها فقدت عقدها، فرجعت تبحث عنه، فحملوا الهودج ووضعوه على البعير وهم يظنون أن عائشة رضي الله عنها موجودة فيه، ومشت القافلة وعائشة ليست معهم في القافلة، رجعت عائشة رضي الله عنها ووجدت القوم قد رحلوا، فقالت: حسبي الله ونعم الوكيل، وعرفت أنها فتنة حصلت. كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يسير وراء القافلة في المؤخرة، فرأى سواداً، فنظر فإذا هي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عن بعيره وركبت، وصار يقود البعير أمامها حتى لحق بالقوم، فاتخذها المنافقون فرصة ليطعنوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه رأس المنافقين، وشاركه في ذلك بعض المؤمنين جهلاً، فقالوا: إنها تواعدت مع صفوان بن المعطل السلمي وتأخرت للفاحشة، وانتشر ذلك نعوذ بالله في المدينة، وما علمت عائشة إلا مؤخراً، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع الكلام فاعتزل عائشة رضي الله عنها، حتى أنزل الله عز وجل هذه الآيات براءة لها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات)، ويمكن أن نمر عليها بسرعة. والمراد بالإفك هو: أشد أنواع الكذب، والعصبة هي الجماعة، وقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) الخطاب لـ عائشة ولأبيها وللمسلمين، أي: هذه القصة وإن كانت شوهت عائشة في الظاهر، لكن فيها خير وهذا الخير رآه المسلمون بعد ذلك، ألا وهو انكشاف أهل النفاق كـ عبد الله بن أبي وجماعته. وأيضاً نزلت براءة عائشة رضي الله عنها، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وثبت الله عز وجل المؤمنين، وعلمهم كيف يتعاملون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل خير كثير من هذه القصة، فالله تعالى يقول: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: فيه خير وإن كان في الظاهر شراً، وقد يكره الإنسان أمراً من الأمور ويكون له في هذا الأمر خير. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ) أي: من المؤمنين. قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) الذي هو عبد الله بن أبي الذي أشاع الفاحشة (له عذاب عظيم). ثم علم الله تعالى المؤمنين في مثل هذه الحال بقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: إذا رأيتم رجلاً صالحاً يقذف أو امرأة صالحة تقذف فلا تصدقوا، لاسيما إذا كانت زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع الزنا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا مستحيل. (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي: كما قال بعض الصحابة لزوجته وقالت له: (قالت المرأة: هل سمعت ما قيل في عائشة؟ قال: نعم سمعت، فقال لها: هل تفكرين أنت في هذه الفاحشة؟ قالت: لا والله ما أفكر بها، قال: إذاً عائشة أفضل منك). إذاً: قوله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) أي: كما أنك تظن بنفسك خيراً وبأهلك خيراً، فأولى أن تظن خيراً بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن قذف واحد من المؤمنين يؤثر على سمعة كل المسلمين إذا كان بغير حق. قال الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] أي: هلا جاءوا، مع أنهم لا يستطيعون الإتيان، ولا يمكن أن يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على ذلك، اللهم إلا إذا كانوا شهداء زور كما يزور طائفة من الناس الذين لا دين لهم الشهادة. يقول الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: أن الله تعالى رحمكم، وهذا الكلام الذي نشرتموه لولا أن الله رحمكم لأنزل على الجميع عقوبة، أي: كيف يتهم بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وفراش الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ثم يبين الله عز وجل لنا موقفنا حينما نسمع الإشاعات الكاذبة عن الصالحين والصالحات يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وهذا موقف يجب أن يفقهه المسلم أمام أي فتنة من الفتن تشاع، ضد واحد من الصالحين أو واحدة من الصالحات. يقول الله بعد ذلك: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] أي: احذروا، وهذا تحذير للمؤمنين الذين حينما نزلت هذه الآيات تابوا فالله تعالى قبل توبتهم وقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).

عقوبة من يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وضرورة الحذر منهم

عقوبة من يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وضرورة الحذر منهم يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. الذين يريدون أن تخرج المرأة عن الإطار الذي رسمه الله عز وجل لها، أو كما يزعم طائفة من الناس أنهم يطالبون بحقوق المرأة، وأن المرأة يجب أن تقود السيارة وتزيل الحجاب، فالهدف من وراء ذلك كله هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهدفهم أن تنتشر هذه الفاحشة، وإذا انتشرت هذه الفاحشة هلك الحرث والنسل، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) والمراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا. قوله: (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) عذاب الدنيا الجلد؛ لأن القاذف يجلد، وعذاب الآخرة نعوذ بالله شديد لا سيما إذا كان المقذوف زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]؛ لأن الذين بدءوا يصدقون بهذا الإفك، أو يصدقون المروجين للفساد اتبعوا خطوات الشيطان؛ لأن هؤلاء شياطين الإنس، وشياطين الإنس ينثرون الفساد في الأرض وينشرونه، ويمشي وراءهم ويتبع خطواتهم ضعاف الإيمان. أو شياطين الجن الذين يقذفون هذه الشبهة في المجتمعات وهؤلاء يصدقون. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: الذي يسير وراء الشيطان في كل صغيرة وكبيرة. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] تصور يا أخي! الذين يريدون أن تشيع الفاحشة اليوم في الناس، والذين يريدون أن تخرج بنات المسلمين فاجرات داعرات منحرفات، هم لا يقولون ذلك بلسان المقال، لكن أرى من خلال تصرفاتهم أنهم يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنهم يريدون أن يخرجوا المرأة المسلمة من إطارها، ويريدون أن ينقضوا على آخر معقل من معاقل الإسلام في جزيرة العرب وفي أرض المقدسات، ولقد ساءهم كثيراً أن فسدت المرأة في الدنيا كلها إلا هنا، فأصبح هناك تركيز كما هو حاصل في الصحف والمجلات كثيراً وكثيراً، يجب أن تكون المرأة كذا، الحجاب كذا، التستر كذا، التقوقع، التخلف إلى غير ذلك من الأمور التي أصبحت الآن تصك آذاننا، ويشهد الله عز وجل أننا قد سئمناها كثيراً، لكن لماذا هؤلاء يحبون أن تشيع الفاحشة؟ لأسباب من أهم هذه الأسباب: الأول: أن تكون المرأة لقمة سائغة في متناول أيديهم يفعلون بها الفاحشة. الثاني: إن قلوب هؤلاء انقلبت وفسدت، وأدمغتهم غسلت في بلاد الكفر، أو من خلال أفكار ترد إليهم هنا، ففسدت فطرتهم؛ فيضايقهم أن تبقى المرأة المسلمة متمسكة بدينها؛ ولذلك تجد العلمانيين والمنحرفين والكفرة والفجرة وهم من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، ولربما أن أحدهم لا يبالي أن تنتشر الفاحشة ولو في أهله نعوذ بالله؛ لأن فطرته فسدت. ومن المؤكد أن من يريد أن تنتشر الفاحشة في بيت من بيوت المسلمين؛ فإنه لا يبالي أن تنتشر الفاحشة في بيته في يوم من الأيام؛ لأنه يعرف أن المجتمع كله سلسلة متصلة الحلق ملتحمة ملتصق بعضها ببعض؛ ولذلك هو يريد أن تنتشر الفاحشة بأي وسيلة من الوسائل في العالم كله. هؤلاء لنا معهم موقف ولنا معهم حساب، ونرجو الله أن يحكم بيننا وبينهم بالحق وهو خير الحاكمين. وهؤلاء لهم عقوبتان: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، يقول الله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أما عذاب الدنيا فإننا إن شاء الله في القريب العاجل ننتظر أن يكون على أيدي الولاة الصالحين الذين سوف ينتبهون حينما يرون الخطر قد داهمهم، أو على أيدي المؤمنين الذين يغضبون لله عز وجل، ووالله إن هذا ليوشك أن يكون، لولا وجود العلماء والصالحين الذين صاروا كوابح أمام هؤلاء الشباب المندفع لدينه والذي يغضب لربه، حتى لا ينتقم من هؤلاء الذين يحاولون الإفساد في الأرض، ونرجو أن يكون ذلك على أيدي السلطة المؤمنة، بحيث يوقفون هذا التيار المنحرف الجارف، الذي يريد أن يفسد على الأمة دينها وأخلاقها. أما عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا وهو النار التي أعدت للكافرين، وأعدت أيضاً لهؤلاء الذين يسيرون ويسلكون مسلك الكافرين. فلنحذر يا إخوتي هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهم الآن كثير وهم يظهرون التباكي على حقوق المرأة، حرية المرأة، المجتمع معطل، نقول لهم: إن الرجال لم يعمل منهم إلا أقل من عشرين بالمائة، فالمجتمع ليس معطلاً ولا حاجة إلى أن نشغل المرأة في أمور لا تهمها. المهم يا إخوتي! انتبهوا لهذه الآية التي بينت أن فينا من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهل نقف أمام هؤلاء مكتوفي الأيدي أو لنا معهم حساب في الدنيا، أو لنا معهم حساب في الآخرة؟! لا شك أن لنا معهم موقفاً أمام الله عز وجل في الآخرة، ونرجو أن يكون لنا معهم موقف في الدنيا أمام السلطة العادلة. والله يا إخوان: تكاثرت الظباء على خراش. حقيقة نحن الآن لا ندري ماذا نقول؟ كل يوم نفاجأ بما يحاك ضد الفتاة من مؤمرات، فالعلمانيون يريدون إخراجها واختلاطها بالرجال في النوادي والمسابح وغير ذلك، ينبغي أن نعلن حالة الطوارئ، كيف نستمتع بالأكل والشرب والنوم وهناك عدو في الداخل وعدو في الخارج، يطوقنا من كل جانب، ويتربص بنا الدوائر. ينبغي أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:44]. نحن نسمع كثيراً هذه الأشياء ونقرؤها في الصحف، ومع ذلك لا نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. وهؤلاء الذين بدءوا يحركون الأخطار من الداخل أقسم بالله إنهم أعداء الدولة، فكما أن الدولة محاطة بالعدو من الخارج فهم يريدون أن يربكوها من الداخل، كما عمل اليهود داخل المدينة يوم جاءت الأحزاب، وطوقت المدينة من كل صوب، بدأ العدو في الداخل يتحرك فقام بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، وصاروا يحركون المنافقين في الداخل ضد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك عدواً يطوقه من الخارج. أنا أحذر المسئولين أن يتركوا هؤلاء يعبثون، وأظن أن المسئولين فيهم خير كثير إن شاء الله، ولكن التقصير منا، وأنا لاحظت شيئاً من تقصيري أنا حينما زرت بعض المسئولين الكبار، وجدت أنه لا تصل إليهم كل هذه الأخبار ولا يصل إليهم الناس. أقول: يا إخوتي! أحذركم أن تتساهلوا في هذا الأمر، أو تتركوا هذا العدو يعبث من الداخل، ويشغل الحكومة عن عدوها الأكبر من الخارج، والله سبحانه وتعالى لن يتركهم يعبثون؛ لأنه تعالى له مقاليد السماوات والأرض.

الأسئلة

الأسئلة

شروط وضوابط عمل المرأة في الإسلام

شروط وضوابط عمل المرأة في الإسلام Q هل عمل المرأة الذي يدندن به كثير من الناس اليوم يعتبر باباً للرذيلة؟ الشيخ: نحن لا نعارض عمل المرأة، والإسلام لا يعارض ذلك أيضاً، لكن عمل المرأة له شروطه وضوابطه، المرأة يجب أن تكون بعيدة عن الرجال، وفي عمل يناسب تركيبها الجسمي ووعيها وفطرتها، المرأة لا تعمل في المناجم وفي المصانع، كما أنها لا تدرس كل شيء، المرأة يجب أن تكون لها دراسات خاصة، ولذلك يا إخوان! البنات اللاتي درسن بدون قيد ولا شرط هن اللاتي أحدثن الفوضى في البلاد، وبالتالي يجب أن تكون دراسة المرأة تناسب تركيبها الجسدي، وتناسب فطرتها، وتناسب حاجة البلد إليها. أما عمل المرأة مطلقاً بهذا الشكل فهذا يعارضه الإسلام، كما قلنا: لا بد أن يوضع له قيود؛ ولا بد أن يكون عمل المرأة في حدود وفي إطار معين، ولا بد أن يكون في منأى عن الرجال، بحيث لا يؤدي إلى ضياع البيت وضياع الأسرة، وكم من الأطفال الآن من فسدت تربيته؛ بسبب خروج المرأة بدون قيد ولا شرط! يا أخي! المرأة لها عمل أكثر من عمل الرجل داخل البيت، من الذي يربي الأجيال؟ إنها المرأة، ولذلك لا نقول: المرأة طباخة أو خادمة داخل البيت، هذا ليس في الإسلام، بل نقول: المرأة مربية وإن كانت تؤدي هذه الأدوار أيضاً، لكن من باب التبع، ولها شرف أن تكون خادمة في بيتها ولا تحتاج إلى خادمة، لكن هي في الحقيقة تربي الجيل، يقول الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت جيلاً طيب الأعراق إذاً: لابد أن نعدها لتعد لنا الجيل. إن الذين يريدون أن تعمل المرأة بدون قيد ولا شرط لهم أهداف سيئة، وأهم أهدافهم أن تبتعد عن البيت وأن يفسد المجتمع، أو أن يتربى الأطفال على أيدي مربيات بعيدات عن الله سبحانه وتعالى، أو أن يفقد الطفل الحنان والعطف الذي لا يجده إلا عند أمه، فبعض النساء لا تعرف طفلها إلا حينما تضعه، ثم لا تراه بعد ذلك إلا نادراً! ترضعه امرأة وتربيه أخرى إلى غير ذلك، حتى يخرج هذا الطفل بعيداً عن العاطفة حتى عن الإنسانية. يا إخوان! تصوروا في البلاد التي سبقتنا إلى هذا العمل، ليس هناك عاطفة بين الولد وبين أمه، أو بين البنت وبين أمها؛ ولذلك يقولون هم أنفسهم: إن أحدنا يقابل أمه بعد سنوات من غيابه ثم لا يسلم على أمه إلا إشارة بيده من بعيد، وهذه تكفي تحية. أنتم تشعرون تجاه الأم بالعاطفة؛ لأنكم تربيتم مع أمهاتكم ومع آبائكم؛ ولذلك من مخططات العدو فصل الولد أو البنت عن أمه منذ أيام الطفولة، ويحتجون بالعمل.

حكم إثبات الزنا بالتصوير أو تقرير الطبيب الشرعي

حكم إثبات الزنا بالتصوير أو تقرير الطبيب الشرعي Q إذا وقع الزنا، فهل يقام الحد بموجب تقرير الطبيب الشرعي، أو بالكاميرا وما أشبه ذلك؟ A لا يقع إلا بأربعة شهود أو بأربعة اعترافات، ولذلك ماعز رضي الله عنه لما جاء وقال: (يا رسول الله! إني زنيت -ليس هناك أبلغ من هذه العبارة- فانصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء من الواجهه الأخرى وقال: يا رسول الله! إني زنيت أربع مرات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما اعترف ماعز: لعلك قبلت؟ قال: لا، بل زنيت، فقال صلى الله عليه وسلم: هل دخل ذلك منك في ذلك منها، قال: نعم يا رسول الله!) أي: أنه أقر على نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم ينصرف عنه، لكن لما اعترف أربع مرات ثبت الحد. إذاً: لا يجوز لنا أن نبحث نحن بطريق التصوير أو بطريق الكشف الطبي، ولو وجد شيء من ذلك فإنه لا يثبت الحد وإنما يثبت التعزير فقط، كما لو خلا الرجل بامرأة دون أن تكون هناك صورة، أو دون أن يكون هناك شهود أربعة. إذاً: ينبغي ألا نتتبع عورات الناس، إلا إذا كانت هناك خلايا تفسد المجتمع، وبيوت مشبوهة فإنه يجب أن نراقبها ونتتبعها ونهجم عليها ونضايقها قدر الاستطاعة، لكن أن نتتبع إنساناً لا نعرف ما يحدث داخل بيته، لا يجوز، بل في مثل هذه الحال يحرم أن نتابع هذا الإنسان ما لم يكن مفسداً في المجتمع، أو لم يكن فعل الفاحشة. أما لو كان الإنسان داخل بيته فإننا لا نتسلق عليه البيت ولا نصور ما يفعل، لا نذهب به إلى الطبيب، إلا إذا اعترف، اللهم إلا إذا كان الموقع موقع شبهة فإننا نقيم عليه التعزير، وهذا أساس من أسس الإسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً)، لكن يجب أن يؤدب ويعزر كل واحد يريد أن يفسد في المجتمع.

حكم الشرع في بيع أشرطة الفيديو الخليعة ومشاهدتها

حكم الشرع في بيع أشرطة الفيديو الخليعة ومشاهدتها Q لقد انتشرت في الآونة الأخيرة محلات الفيديو التي تبيع أشرطة الفساد والخلاعة، والتي هي في الحقيقة من أكبر دواعي الزنا، بل تعتبر هي الخطوة الأولى للزنا، ففي هذه الأشرطة تجد الرجل وهو يمسك بالمرأة ويقبلها ويضمها، بل وينام معها في فراش واحد، وهما على هذه الحالة، وتسمع منهما الكلام الساقط وهذا من أقل الأمور، والغريب يا فضيلة الشيخ أن مثل هذه الأشرطة مسموح بيعها، وقد رخص لها، فما تعليقكم عليها لا سيما وقد تهاون بها كثير من الناس؟ A هذه أيضاً حلقة في هذه السلسلة سواء كانت الصور الثابتة أو المتحركة، الله تعالى حرم النظر وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ولماذا وضعت الفروج بجوار غض البصر؛ لأن النظرة سهم مسموم والشاعر يقول: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر شرارة صغيرة تسقط على متاع أو على بيت تحرقه بكامله، ونظرة صغيرة في رأي العين تحرق أمة بكاملها، ولذلك أقول: أيها الإخوة! ما أشار إليه السائل مصيبة وبلاء حل بالأمة الإسلامية، وحقيقة أن الرقابة تغفل عن هذه الأمور، ولا أظن إن شاء الله أن المسئولين الكبار يسمحون بذلك؛ ولعل ذلك يعتبر تساهلاً من المسئولين الذين هم دونهم، ولكن هب أن المسئولين الكبار والصغار اتفقوا على ذلك، فهو لا زال محرماً والخطر موجوداً، ونحن مطالبون بأن نحمي بلادنا وأن نحمي أمتنا وأن نحمي بيوتنا من هذه الأخطار. ولذلك أقول: إن الذي يبيع هذه الأفلام ماله محرم وكسبه نجس، وقد أخذ مالاً مقابل ضياع عرض وأخلاق أمته، وهذا من أكبر المخاطرات، وكذلك فهو يربي جسده وجسد أولاده من هذا الحرام. أقول له: يا أخي! اتق الله ودع ما تفعل، ولا تتعامل بهذه الأشرطة وهذه الأفلام وهذه الصور؛ لأنها فتنة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فأنت حينما تساهم في الإتيان بشريط من هذه الأشرطة، أو صورة من هذه الصور فإنه ينطبق عليك الوعيد المذكور في هذه الآية، أسأل الله لي ولك وللمسلمين العافية.

حكم قيادة المرأة للسيارة والرد على من أفتى بجوازها

حكم قيادة المرأة للسيارة والرد على من أفتى بجوازها Q قرأنا قبل أيام مقالاً لـ محمد الغزالي يخالف فيه علماءنا الأفاضل من حيث تأييده للنساء في قيادة السيارة، ولهذا الداعية أفكار غريبة يستسيغها كثير من الناس، ويدندنون بها، وقد رفعه فئة من الناس في هذه المجتمعات؛ لذا نرجو من فضيلتكم نصيحة الشباب وتوجيههم لما فيه صالحهم، وفقكم الله؟ A أولاً: الشيخ محمد الغزالي رجل لا ننكر أنه داعية وله سابقة في الدعوة، ولكن القلوب أولاً بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ثانيا: ً الغزالي وغيره من علماء المسلمين ليسوا معصومين، فقد يخطئ ويصيب، ونحن نأخذ من كلامه الصواب ونترك الخطأ، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر يجب أن نسلم به. أما لو أن محمداً الغزالي أو كل علماء المسلمين أجمعوا على قيادة المرأة للسيارة، فنحن عندنا مقياس ثابت وهو شرع الله عز وجل، ولننظر إلى المصائب التي تترتب على قيادة السيارة من الخلوة، والسفر، والذهاب إلى محطة البنزين، والذهاب إلى الورشة، والذهاب إلى غير ذلك، كل هذه تتوقعه المرأة، ولذلك لا يفكر عاقل في أن تقود المرأة السيارة في مجتمع مسلم، هذا أمر ندعه، لكن أنا متأكد أن محمداً الغزالي والذين تساهلوا في أمر قيادة السيارة للمرأة ما عرفوا ما وراء ذلك، ظنوا أن المسألة فقط نساء خرجن يطالبن بقيادة السيارة، المخطط أكبر من ذلك، المخطط رهيب يا إخوان، إنه خروج على أوضاع قائمة وتحطيمها، وتكون هذه كواجهة فقط أو كمنظر خارجي، وهو المطالبة بقيادة السيارة، لكن الله تعالى يعلم ما في هذه القلوب. ولذلك نحن نقول للغزالي ولغيره: نحن أدرى بمجتمعنا منك، ومجتمعنا مجتمع محافظ لا يقبل هذه الأشياء، وأنت رجل كواحد من البشر تخطئ وتصيب، نأخذ الصواب من قولك ونرفض ما يخالف ذلك، لكني أرى خلف قيادة السيارة أموراً خطيرة أسأل الله أن يجنبنا إياها؛ لأن المسألة ليست مجرد مطالبة بقيادة السيارة وإنما مطالبة بالخروج على أوضاع قائمة عشناها أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وهؤلاء يريدون أن يغيروا وأن يحطموا هذه الحواجز بين الرجل وبين المرأة.

حكم خروج المرأة مع السائق الأجنبي بمفردها

حكم خروج المرأة مع السائق الأجنبي بمفردها Q إن من دواعي الزنا خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، ولقد انتشر في الوقت الحاضر خروج المرأة مع السائق وحدها، وتتعذر بقصر المسافة، فنرجو من فضيلتكم تبيين هذه النقطة؛ لأنها انتشرت انتشاراً عظيماً في هذه البلاد؟ A الخلوة أمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: يا رسول الله! أريت الحمو؟ قال: الحمو الموت) الحمو هو كل قريب للزوج، وهو أشد خطراً من غيره. إذا اختلى رجل بامرأة لا شك أن الشيطان ثالثهما كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن اثنين ثالثهما الشيطان لا تسأل عما سيحدث، ولو كان المشوار قصيراً أو المدة قصيرة؛ لأن الشيطان يستغل الفرص. على كل نحن نقول: إن الخلوة محرمة، ونحن عندنا أمران يجب أن نراعيهما: السفر بدون محرم، والخلوة ولو في غير سفر، ولو كانت المسافة قصيرة، كلاهما جاء فيه خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهما محرمان؛ ولذلك أنا آسف جداً أن رجلاً عنده غيرة المؤمنين من أخ وأب وزوج ثم يسلم زوجته أو أخته أو بنته لسائق يذهب بها إلى المدرسة ويعود بها إلى البيت، أنا أتعجب أن يوجد مثل هذا في المسلمين! يا أخي! يجب أن تقضي حاجتك بنفسك، وتبقى المرأة في بيتك حتى يتوافر لها من محارمها من يستطيع أن يذهب معها، إن فساد هذه المرأة خطر عظيم، وما تجنيه من خروجها سواء كان للمدرسة أو لغير ذلك، لا يساوي (1%) أو أقل من ذلك بالنسبة لما سوف تجنيه من هذه المرأة لو سقطت في غضب الله عز وجل.

طرق ووسائل دفع الفتن ومواجهتها والداعين إليها

طرق ووسائل دفع الفتن ومواجهتها والداعين إليها Q في هذا الزمن الذي كثر فيه الفتن، وازدادت فيه دواعي الفاحشة بين الناس، كيف للمسلم أن يقف أمام تلك المغريات؟! بل كيف يردع أفواج الناس المنطلقة للمعصية الملهية عن تلك القضايا الأساسية في المنهج القرآني الكريم؟! وكيف نقف أمام هذه الأفواج وفقكم الله يا فضيلة الشيخ، لا سيما وأننا نرى المنافقين يبثون دعاياتهم لها ليلهوا شباب الأمة عن الأمر الأعظم ألا وهو الجهاد في سبيل الله؟ A أولاً: موقفنا كما أخبر الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ووالله ما كان هؤلاء يغيبون عن عقولنا طرفة عين، بل كنا نحسب لهم ألف حساب يوم كانت الأمور تسير في مجراها الطبيعي؛ لأن الله تعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، ولذلك فإنه يجب أن يكون لنا موقف، وهذا الموقف يجب أن يكون حازماً، ويجب أن يكون جاداً مع هؤلاء الذين يريدون أن تتحطم سفينة الحياة في هذا المحيط المتلاطم الأطراف، يجب ألا نحقر أنفسنا، فإن الله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. ثانيا: ً يجب أن نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع، ونقول كما قال المؤمنون وهم قلة أمام عدو كاسر حينما رأوهم: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، ثم كانت النتيجة: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251]، وعلى هذا نقول لكم: أيها الإخوة المؤمنون! العدو لا يرحم، والعدو يتربص ونحن نيام طيلة السنين الماضية، ولربما حدث أمر تكرهه النفوس يسبب يقظة لهؤلاء الناس الغافلين النائمين، والآن جد الجد ويجب على كل مسلم أن يجند نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل، جهاد الكافرين والمتكبرين، والذين يريدون أن يفسدوا على الأمة أمر دينهم وحياتهم وعقيدتهم، لا بد أن نقف أمام هؤلاء وأولئك، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] فكما نجاهد الكفار أيضاً نجاهد المنافقين، ولربما يندس المنافقون في المجتمع الإسلامي، ويتباكون على الإسلام في بعض الأحيان، لكن الله تعالى يقول: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، ولربما أن هذه الأحداث الأخيرة قد كشفت لنا كثيراً من المنافقين، وجزى الله الشدائد كل خير.

حكم السفر للمعصية والمجاهرة بها

حكم السفر للمعصية والمجاهرة بها Q ما حكم الذين يسافرون إلى بلاد الدعارة، ويزنون هناك جهاراً نهاراً، ويتفاخرون إذا رجعوا إلى بلادهم، ودليل ذلك ما يحملون معهم من صور وأشرطة وغير ذلك؟! فما هو العمل تجاههم، لا سيما وأننا نجد بعض أوليائهم أو بعض الصالحين من إخوانهم يتربون على أظهرهم، ويدعون لهم بالسلامة بعد عودتهم، دون الوقوف أمامهم وردعهم مما هم عليه؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فهناك معصية، وهناك معصية أكبر منها وهي المجاهرة بها نعوذ بالله، وإذا وصل الأمر إلى المجاهرة بالمعصية جاء الخطر، ولذلك ذكر الله تعالى ثلاث مراحل للخطر في القرآن: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) أي: الميل طبيعي في النفوس. (وَلِيَرْضَوْهُ) وهذا هو الفعل. (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ). فالذي يعصي الله عز وجل ويستر على نفسه ويبادر بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعافي، أما الذي يرتكب المعصية ويضيف إلى المعصية معصية أكبر منها وهي المجاهرة بها فهذا لا يعافى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين). نقول لهؤلاء: اتقوا الله فلكم أهل ولكم زوجات، ولربما لكم بنات ولكم أخوات ولكم عشيرة، أما تخشون على هؤلاء من أن يقعوا فيما حرم الله عز وجل؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عفوا تعف نساؤكم) نسأل الله العفة والعافية والسلامة. ونقول لهؤلاء الآباء: اتقوا الله فلا يذهب أولادكم إلى تلك البلاد، لا سيما الشاب الأعزب الذي لم يعرف قدر الغيرة على المحارم، والذي يرى أمام عينيه هناك أعداء الله وقد فتحوا أبوابهم لسلب أموال المسلمين وأخلاق المسلمين، اتقوا الله فلا تشجعوا هؤلاء الأولاد، ونقول للمسئولين أيضاً: اتقوا الله، فيجب أن تكون هناك عراقيل أمام سفر هؤلاء إذا كنا نخشى عليهم، والخشية موجودة والفطرة البشرية تدعو إلى ذلك.

ضرورة منع دخول المجلات الخليعة إلى بلاد المسلمين

ضرورة منع دخول المجلات الخليعة إلى بلاد المسلمين Q المجلات المنتشرة في الأسواق، التي تدخل بشكل دوري إلى المملكة أسبوعياً وأحياناً شهرياً، فإن فيها دعايات وإعلانات للعطور تظهر فيها صور نساء سافرات لرءوسهن وأفخاذهن وغير ذلك، فما واجبنا نحو ذلك؟! وهل تتأثر المرأة بالمقابل بصور الرجال التي تعرض في هذه المجلات، أرجو من فضيلتكم تبيين هذا الأمر الذي دهم كثيراً من البيوت وجزاكم الله خيراً؟ A الله المستعان! هذه حلقة من سلسلة طويلة ومخطط رهيب لإفساد الأخلاق، في التلفاز، في الإذاعة، في الصحف، في المجلات، في الكتب، في الأفكار المنحرفة، وما ذكره الأخ السائل من وجود هذه الصور حقيقة ليست دعاية للعطورات؛ لأنها مواد وأمور تافهة، وإنما هي دعاية لهدم الأخلاق، لكن هؤلاء يتخذون هذه الأمور وسيلة ليدخلوا بواسطتها إلى إفساد أخلاق الناس ودينهم. وعلى كل نقول: إن نشر الصور الفاتنة التي أصبحت الآن تنشر الفساد في الأرض أمر خطير، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسئولين والمراقبين على هذه المطبوعات إلى أن يمنعوا دخولها، وأن يهتموا بهذا الجانب. لكن المشكلة أن كثيراً من هؤلاء الذين يراقبون هذه المطبوعات لا يهتمون إلا بالكلمات التي تمس أناساً معينين، أما التي تمس الدين، فإنه في النادر أن تمنع، وهذا أمر خطير يا إخوان! والله إن محارم الله وشعائر الله ودين الله أعز علينا من كل شيء في هذه الحياة، لماذا لا يشدد في هذا الجانب؟! لماذا نرضى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟! لماذا تدخل هذه الصور الفاتنة إلى بيوت المسلمين؟! لماذا يشتريها الأب لأولاده؟! أيرضى الفاحشة بأهله فيكون ديوثاً؟! ولا يدخل الجنة ديوث، أم يتسبب في هذه الدياثة، أم يخاطر ويغامر بهذا البيت من أجل رغبة بنت سفيهة أو ولد سفيه يطلبان منه هذه الصورة! الأمر خطير يا إخوان! نرجو الله سبحانه وتعالى أن ينبه الناس إلى هذا الخطر وأن يوفقهم لتدارك الأمر.

من هم الرجال؟

من هم الرجال؟ للرجولة معنيان: الأول: الذكورة التي هي ضد الأنوثة، أما الثاني فالمقصود به أولئك الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.

حقيقة الرجال في كتاب الله عز وجل

حقيقة الرجال في كتاب الله عز وجل الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويؤلف بينها، قال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، أما بعد: فإن عنوان الكلام لو أجبنا عنه بأي جواب لنازعنا عليه الناس؛ لأن أصحاب الفن يقولون: نحن الرجال. ولأن أصحاب اللهو واللعب يقولون: نحن الرجال. ولأن أصحاب المال والثراء يقولون: نحن الرجال. وهكذا كل يزعم أنه هو الذي على مستوى الرجولة الحقة، لكن نحن لن نخبر عن أنفسنا أو عن أحد من الناس بأننا نحن الرجال أو هم الرجال، بل ندع القرآن هو الذي يجيب على هذا Q من هم الرجال؟ ومن هذا المنطلق نريد أن نتحدث لنعرف حقيقة الرجال، ولنزن الناس بهذا الميزان، فمن كان على هذا المستوى فهو في مستوى الرجولة، ومن كان دون ذلك فهو لم يصل بعد إلى مستواها، وبإمكانه أن يصل إلى هذا المستوى.

معنى قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)

معنى قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض) يقول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] وفي قراءة: (الله نَوَّرَ السموات والأرض)، وفي قراءة ثالثة: (الله منور السموات والأرض) {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:35 - 37].

المراد بالنور في قوله تعالى: الله نور السموات والأرض

المراد بالنور في قوله تعالى: الله نور السموات والأرض اختلف المفسرون في معنى الآية الأولى: (الله نور السموات والأرض) فمنهم من قال: إن المراد بهذا النور هو صفة من صفات الله عز وجل واسم من أسمائه، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، والنور لا شك أنه من أسماء الله عز وجل وصفاته، ولكننا نميل إلى غير هذا الرأي؛ لأن مثل هذا الرأي يؤدي إلى شيء من التشبيه؛ لأننا حينما نقول: إن المراد بالنور هنا هو اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فهذا لا يصلح على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن صفات الله عز وجل وأسماءه لا يشبهها شيء، والله تعالى يقول: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ)، اللهم إلا إذا قلنا: إن هناك انفصالاً بين النور المذكور في أول الآية وبين ما جاء في وسط الآية، فيكون قوله تعالى الله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو النور الحق الذي هو اسم من أسمائه، وقوله: (مثل نوره) هذا لا شك أنه مخلوق؛ لأن الله تعالى شبهه بمشكاة فيها مصباح، وأسماء الله عز وجل وصفاته لا يشابهها شيء. والرأي الذي نميل إليه أن المراد بهذه الآية هو النور المخلوق، شبه الله عز وجل نور الإيمان الذي يقذفه في قلب العبد المؤمن بأقوى نور عرفه الإنسان وقت نزول الآية، حيث قال: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).

تشبيه الله عز وجل لنوره بمشكاة فيها مصباح ووجه التشبيه في ذلك

تشبيه الله عز وجل لنوره بمشكاة فيها مصباح ووجه التشبيه في ذلك قوله: (كمشكاة) المشكاة هي الكوة في الجدار التي لا تنفذ إلى الوراء؛ لأنها تعكس النور إلى الأمام، هذه هي المشكاة، أو المراد بالمشكاة فتيل السراج. قوله: (فِيهَا مِصْبَاحٌ) المصباح معناه السراج. (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) والزجاجة هي الأجسام الشفافة التي تشف عما وراءها؛ لأنها تزيد الضوء ضياءً. قوله: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) الكوكب معناه: النجم، أو النجم الكبير، وفي قراءة سبعية (دريء) بالهمز، من الدرء، ومعناها: قذف الأنوار القوية. ثم وصف الله عز وجل السراج مرة أخرى فقال: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) أي: والذي يوقد هو السراج، والشجرة المباركة هنا هي شجرة الزيتون. ثم وصف الله عز وجل شجرة الزيتون التي يؤخذ منها الزيت الذي يوضع في هذا السراج بالذات، حيث يقول: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) والشرقية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الشروق، والغربية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الغروب، لكن هذه الشجرة ليست شرقية فحسب، وليست غربية فحسب، لكنها شرقية غربية، أي أن شجرة الزيتون إذا طلعت الشمس أصابتها في وقت الشروق، ولا تغيب عن الشمس حتى تغرب فتصيبها في وقت الغروب؛ لأنها شجرة منفصلة عن غيرها، فيحسن زيتها ويحسن ثمرها، فيصبح زيتها لماعاً، بحيث لو نظرت إليه لرأيت كأنه يضيء دون أن تمسه النار، فكيف إذا وضع في السراج ومسته النار؟! ثم وصف الله عز وجل هذا الزيت بقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، فالنور الأول هو نور الكوة غير النافذة التي تعكس الضوء، مع نور آخر وهو نور الزجاجة، مع نور السراج الذي وضع فيه زيت شجرة الزيتون التي ليست بشرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية، فهذه أنوار شديدة. وهذا هو المشبه به، فأين المشبه؟ المشبه هو قلب المؤمن، أو الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن. فتقدير هذه الآية: مثل نور الله عز وجل المخلوق الذي وضع في قلب المؤمن حتى يعرف به الحلال من الحرام، والضار من النافع، والخير من الشر، كمثل نور ذلك المصباح الذي وضع في كوة غير نافذة، ووضعت عليه زجاجة وأشعل فيه زيت زيتونة ليست شرقية فحسب ولا غربية فحسب، ولكنها شرقية غربية. هذا هو المشبه وهذا المشبه به، ووجه الشبه هو اللمعان الشديد.

تحديد مكان تخرج الرجال ووجه علاقة الآية بالتي قبلها

تحديد مكان تخرج الرجال ووجه علاقة الآية بالتي قبلها يقول عز وجل في الآية الثانية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، يقول علماء التفسير: هذا جواب استفهام بياني، كأن سائلا يسأل ويقول: أين يوجد هذا الإيمان العظيم الذي هو كسراج يضيء بهذه الأوصاف المذكورة؟ فالله تعالى أجاب على هذا السؤال فقال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) ومن هنا نعرف أين يتربى الرجال، وأين يولد الإيمان، وأين يترعرع الإيمان، وأين ينمو، كل هذا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وهذه البيوت هي المساجد. قوله: (أذن الله أن ترفع) أي: تبنى وتشيد, وليس المعنى أن تزخرف وتوضع فيها الكتابات التي تلهي الناس، أو الفرش المزخرفة أو الألوان المزخرفة التي عمد إليها الناس في أيامنا الحاضرة، حتى لقد عددت في مسجد واحد قريب أكثر من ثلاثمائة قنديل يُضيء، وليس فيه إلا عشرة رجال يصلون، وهذا خلاف المألوف. فهذه البيوت هي المساجد، وقد أذنَ الله تعالى أن ترفع حقيقة بناءً وتنظيفاً وتشييداً وتطهيراً واحتراماً وتقديساً، فلا يكون فيها لغو ولا لعب ولا كلام من كلام الدنيا، ولا بيع ولا شراء ولا إنشاد ضالة، ولا أي شيء من هذه الأشياء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما ترفع بذكر الله عز وجل وتطهر لتصبح صالحة للصلاة، ولذلك من علامات الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد، فيقال: مسجدنا أجمل من مسجدكم. بينما لا يقال: مسجدنا أكثر جماعة من مسجدكم. وكذلك يقال مسجدنا أكثر زخرفة من مسجدكم، ومسجدنا أفضل فرشاً وأحسن ألواناً من مسجدكم. وهكذا. أما الإسلام فإنه ينظر إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى الحقيقة لا إلى الصورة، ولذلك الله تعالى قال: (أَنْ تُرْفَعَ) والمراد بها الرفعة الحسية المعقولة، والرفعة المعنوية الحقيقية. قوله: (في بيوت) يقول المفسرون: هذه جملة متعلقة بقوله (يوقد) أي: يوقد هذا الإيمان وينشأ هذا الإيمان ويترعرع هذا الإيمان في هذه المساجد التي أذان الله أن ترفع. قوله: (وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُهْ) هذه هي الرفعة المعنوية. ثم بين بعد ذلك التربية الحقيقية والمكان المناسب لهذه التربية فقال: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) والمراد بالتسبيح هنا الصلاة؛ لأن التسبيح كثيراً ما يذكر في القرآن والمراد به الصلوات الخمس، وإن كان يطلق أيضاً على ذكر الله عز وجل عامة. قوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) الغدو: هو أول النهار. والآصال: آخر النهار. فالغدو صلاة الفجر؛ لأن الغدو يبدأ من نصف الليل إلى نصف النهار، والأصيل يبدأ من نصف النهار إلى نصف الليل، ولو نظرت إلى نصف الليل الأخير ونصف النهار الأول فإنه ليس فيهما إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، وكأن صلاة الفجر أصبحت تساوي الصلوات الأربع الأخرى، بل جعلت صلاة الفجر في كفة؛ لأنها تقع في وقت الغدو، وجعلت الصلوات الأربع -الظهر والعصر والمغرب والعشاء- كلها في كفة أخرى؛ لأنها تقع في وقت الأصيل كلها، ثم قدمت صلاة الفجر على الصلوات الأربع، مما يدل على أهمية صلاة الفجر. ولا نرى في المساجد من المسلمين في صلاة الفجر إلا قليلاً! أليست صلاة الفجر هي التي يقول الله عز وجل عنها: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء:78] أي: وأمدح قرآن الفجر. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. ويقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى هذه الآية: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعد الذين كانوا فيكم فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)، أي: في صلاة العصر وصلاة والفجر. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما -أي: العشاء والفجر- لأتوهما ولو حبواً)، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).

معنى قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة

معنى قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]. قوله: (رجال) هذه الكلمة لها معنيان: الأول معروف، والثاني لا يعرفه إلا القليل من الناس، والمقصود هنا الاثنان جميعاً. المعنى الأول: كلمة رجل ضد الأنثى، تقول: هذا رجل وهذه امرأة. وهذا المعنى يعرفه كل الناس. المعنى الثاني: أن كلمة رجل تدل على تعظيم هذا الجنس من الرجال، ولذلك لا ترد أو قل أن ترد كلمة (رجال) في القرآن أو في السنة إلا وتدل على معنىً آخر غير معنى الذكورية زيادة على معنى الذكورية، مثلاً: ابنك أعجبك عمله فتقول له: أنت رجل. فأنت لا تقصد بقولك: (أنت رجل) ضد الأنثى، لا؛ لأنه يعرف أنه رجل، وأنت تعرف قبل ذلك أنه رجل، لكنك تقصد بذلك أنه قد اكتملت فيه معنى الرجولة فأصبح في مستوى الرجال، ولذلك قوله: (رجال) هنا ليس معناها ذكوراً فقط، وإن كانت تعطينا معنىً وحكماً شرعياً بأن صلاة الجماعة لا تجب على الإناث وإنما تجب على الذكور فقط، لكن كلمة (رجال) تعطينا معنىً آخر، وهو أنه قد استكملوا صفات الرجولة فأصبحوا في مستوى الرجال وفي مصاف الرجال حقاً، ولذلك لم ترد إلا نادراً كلمة (رجال) في القرآن كهذه؛ لأنها مدحت أهل المساجد فقالت: (رجال) وفي ذكر الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف:109]، وفي ذكر المجاهدين في سبيل الله: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، ووردت في صفة أهل الأعراف: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]، وهذه كلها تدل على تعظيم ورفع مستوى هؤلاء الرجال، أي: ليسوا ذكوراً فحسب ولكنهم رجال، ولذلك جاءت بلفظ التنكير، والتنكير دائماً يدل إما على التحقير أو على التعظيم، والمراد به هنا التعظيم. إذاً قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ) أي: ذكور وصلوا إلى مستوى الرجال حقاً، فأصبحوا يستحقون كلمة (رجال) التي لا يستحقها كثير من الناس.

صفات الرجال الذين تربوا في المساجد

صفات الرجال الذين تربوا في المساجد ما هي صفات هؤلاء الرجال؟ انظر إلى صفات هؤلاء الرجال، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم وممن يربي أولاده حتى يكونوا في هذا المستوى من الرجولة. أولاً: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). ثانياً: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) هاتان صفتان لهؤلاء الرجال في الدنيا، أما جزاؤهم في الآخرة فيقول سبحانه عنه: {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38].

عدم انشغالهم بالدنيا عن ربهم وطاعته وذكره

عدم انشغالهم بالدنيا عن ربهم وطاعته وذكره الصفة الأولى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). يقول المفسرون: إن هؤلاء الرجال لهم تجارة ولهم بيع وشراء وأموال ومصانع ومتاجر ومزارع، لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون الحياة الآخرة في قلوبهم، ولذلك لما رأى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين كان قد رفع الميزان في يده يزن البضاعة للمشتري، فلما سمع المؤذن يقول: (الله أكبر) وضع الميزان دون أن يكمل الوزن، ثم هرول إلى المسجد وأغلق دكانه، فقال: (هؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]). ولا يظنن أحد أن المراد بهؤلاء أنهم قوم يعيشون عالة على الناس ويتكففون الناس، وأنهم يعيشون على أوساخ الناس وفتات الصدقة، لا، ولكنهم قوم لهم أعمال، إلا أنهم جعلوا هذه الأعمال المادية الدنيوية في أيديهم والآخرة في قلوبهم، ولذلك وصفهم الله عز وجل بهذه الصفات: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). أيها الأخ الكريم! نحن الآن نعيش على طرفي نقيض في هذه الحياة، فمن الناس من أغرق في المادية إغراقاً كاملاً وأهمل الروح، وهذا يتمثل في الإلحاد والشيوعية الحاقدة الكافرة، فقدسوا المادة وأهملوا الروح، وأصبحت المادة هي منتهى أمنياتهم. وهناك آخرون أوغلوا في الروحانية وألغوا المادة إلغاءً نهائياً، وصار دينهم، أما دين الإسلام فإنه يوجب على المسلم أن تكون له صنعة وأن تكون له تجارة وأن تكون له وسيلة كسب، لكن هذه كلها لا تلهيه عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك الله تعالى جعلنا -أمة المسلمين- أمة وسطاً بين طرفي نقيض، فلسنا بالأمة المادية التي تقدس المادة وتعبد المادة ولا تعترف إلا بها، ولا بالصوفية التي تهمل الجسد وتقدس الروح، ولكننا أمة كما يقول الله عز وجل: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). وهنا كلمة نقولها لإخواننا التجار: اصدقوا في المعاملة، وتعاملوا مع الناس بأمانة وصدق، واكسبوا هذا المال من الحلال، وأنفقوه في وجوه الخير، واحذروا كسب الحرام، واحذروا أن تلهيكم هذه الأموال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحينئذٍ أبشروا فإن الله عز وجل قال للرجل الغني الشاكر الذي فتح الله له كنوز الدنيا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، كما قال للرجل الفقير الصابر: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. وعلى هذا نقول: هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولكن تجارتهم في أيديهم وليست في قلوبهم، فإذا دخل أحدهم في الصلاة وقال: (الله أكبر)، لا تأتي هذه التجارة في مخيلته، فلا يبيع ولا يشتري ولا يأخذ ولا يعطي وهو يصلي، بل هو واقف بين يدي الله عز وجل كما أمر الله عز وجل، لكنه حينما ينصرف من صلاته فإنه الرجل الذي يتعامل مع الناس بأمانة وصدق، والتاجر الصدوق له أجره عند الله عز وجل، وهنا مدح الله المؤمنين وهم أصحاب تجارة فقال: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، والفرق بين التجارة والبيع أن التجارة هي التي تكون بالإيراد والاستيراد والبيع الإجمالي، أما البيع فالمراد به البيع الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.

خوفهم من يوم القيامة

خوفهم من يوم القيامة الصفة الثانية: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ). إن الناظر إلى واقع الناس اليوم -مقارنة بما في هذه الآية- يجد الفرق البعيد الواضح، قوم تربوا في المساجد وقلوبهم معلقة بالمساجد، ولا يعرفون أي طريق إلا طريق الجنة، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم هم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وفي المقابل هناك قومٌ يفسقون ويفسدون ويركبون كل المناكر، ولا يتركون معصية من معاصي الله عز وجل إلا ويركبونها، ثم تجدهم يضحكون بملء أفواههم، الصنف الأول قوم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهؤلاء في غفلة لا ينتبه أحدهم إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ويقول: (أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله) أما الصنف الأول فإنه كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يخشون الله عز وجل ويبيتون لربهم سجداً وقياماً ويخافون من النار ويقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:65] ولذلك من خاف أدلج، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم. أما الذين يلهون ويلعبون ويضحكون ويسرحون ويمرحون دون قيود ودون ضوابط لا ينتبه أحدهم إلا في ساعة الموت، فالويل لهؤلاء إن لم ينتبهوا قبل ذلك. وهنا يقول الله عز وجل عن هؤلاء المتقين: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) هذه ناحية. الناحية الأخرى التي يجب أن نفهمها من هذه الآية: أن غلاة الصوفية يقول قائلهم: أنا أعبد الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته. وكيف تعبد الله؟ قال: أعبد الله محبة له. وهذه كلمة يقولها غلاة الصوفية، كما كانت تقول رابعة العدوية: والله ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته وإنما عبدته محبة له. فهذه كلمة ساقطة؛ فالمؤمنون الرجال الذين تربوا في المساجد يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، بل أعظم من هؤلاء المرسلون عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرهم الله عز وجل في سورة الأنبياء قال في آخر قصصهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] (رغباً ورهباً) أي: رغبة مما عند الله من المثوبة، وخوفاً فيما عند الله عز وجل من العذاب. هذه هي صفة المؤمن، ونحن نعبد الله محبة له، لكن -أيضاً- نعبده خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الأتقياء الصالحين: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار). قوله: (يخافون يوماً) ما هو هذا اليوم؟ هو يوم القيامة الذي يغفل عنه كثير من الناس، فلا يتصورون ساعة القدوم على الله، ولا يتصورون ساعة الموت، ولا يتصورون ساعة القبر، ولا يتصورون يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولا يتصورون يوم تتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، ولا يتصورون الوزن الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8]، ولا يتصورون الصراط الذي يقول الله عز وجل عنه ويقسم على ذلك: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72]، هنا الله تعالى ذكر صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد. قوله: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) ما معنى: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)؟ أي: من شدة الخوف يضطرب القلب حتى يتحرك بشدة، فينتقل من مكانه إلى الحنجرة. وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]، وذلك من شدة الخوف، فانظر -يا أخي- حينما تخاف أو حينما يزعجك أمر كيف يضطرب قلبك بسرعة حتى ينسد النفس؟! إذاً يتقلب القلب في ذلك المكان وفي ذلك الزمان حتى يصل إلى الحنجرة، والأبصار -أيضاً- تتقلب فتقفز من أماكنها إلى أعلى الرأس، وهذا شيء نشاهده حينما يصاب الإنسان بذعر، يرتفع بصره إلى السماء، وكأن البصر قد قفز من مكانه إلى أعلى الرأس، هذه هي صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد، رجال يسبحون الله دائماً وأبداً ويخافون من الله عز وجل.

جزاء الرجال الذين تربوا في المساجد عند الله

جزاء الرجال الذين تربوا في المساجد عند الله أما الجزاء والنتيجة والثمرة لهذا الخوف فيقول الله: {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، فالله تعالى كريم لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. ولذلك الله تعالى يقول: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي: يجازيهم بالحسنات ويتجاوز عن السيئات، والسيئات المراد بها هنا الصغائر، أما الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة، ولكن لو قدم هذا الإنسان على الله عز وجل بملء الأرض خطايا وهو على ملة التوحيد ولا يشرك مع الله عز وجل أحداً كائناً من كان، ولا يكون هناك في قلبه ند لله عز وجل فإنه يقدم على رب رحيم غفور، يقول عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا من فضل الله عز وجل، وهذا دليل على أهمية التوحيد في حياة الناس، فإذا صلح التوحيد صلحت الأعمال بعد ذلك كلها، لكن إذا اختل جانب التوحيد ولو اختلالاً يسيراً فإننا نخاف على المخل حينئذ، فاهتم بالتوحيد أخي الكريم، ولا تصرف نوعاً من العبادة لغير الله كائناً من كان هذا المخلوق، ولو كان أفضل البرية محمداً صلى الله عليه وسلم، ولذلك أقول: إن علينا أن ننزه الله عز وجل تنزيهاً كاملاً، وأنا آسف كثيراً لما نراه من اتجاه طائفة كثيرة من المسلمين إلى أصحاب الأضرحة والقبور، وأصبحت الأضرحة يطاف بها ويتمسح بها وتسأل منها الحاجات من دون الله عز وجل، وتقرب لها القرابين وتنذر لها النذور وتصرف الأموال وتذرف الدموع حولها، ويطوف الناس بها كما يطوفون حول الكعبة، وهذا موجود في جل بلاد الإسلام، ونشكر الله عز وجل، فبلدتنا حماها الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، حفظها الله عز وجل بسببه، ولذلك فإن أهل العالم المتحضر الآن يسألون أصحاب القبور ويطوفون حول قبورهم كما يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة، ولا يرى ذلك إلا من يسافر خارج هذه البلاد المباركة. ولكني أقول: هناك وسائل يسيرة وقليلة بدأت الآن تغزو مساجدنا وبيوتنا نريد أن ننزه المسلمين منها، وعلى سبيل المثال: نجد في بعض المساجد مكتوباً (الله، محمد)، ولو قلنا لواحد من الناس الجهال -لا أقصد العقلاء-: لماذا هذا الفعل؟ لقال: أنتم لا تحبون الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول: والله ما دفعنا إلى هذا القول إلا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعانا إلى التوحيد، وقضى ثلاثة عشرة سنة وهو يقول للناس (قولوا: لا إله إلا الله)، أما أن نضع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار اسم الله عز وجل سواء بسواء دون أن نرفع أحدهما على الآخر فإن هذا أخشى أن يكون وسيلة في يوم من الأيام إلى البدعة أو الشرك. وهناك أناس كثيرون يقولون: يا الله. يا رسول الله. وأخشى من هذه المعلقات التي تعلق في المسجد وفيها (الله) و (محمد) بجوارها أن يأتي يوم من الأيام يضاف إليها (ياء) كما يصنع أصحاب المذاهب الهدامة الذين يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وايم الله لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فينا اليوم لقطع رءوس هؤلاء قبل أن يقطع رءوس الملاحدة والفسقة والعصاة؛ لأن الشرك أمره خطير، ولإن التوحيد هو مفتاح الجنة، ولا يدخل الجنة إلا موحد, فقد حرم الله على النار من قال: (لا اله إلا الله). قوله: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي: فيعطيهم الله أكثر مما عملوا. ولذلك يقدم المرء يوم القيامة على الله عز وجل فيجد أعمالاً كالجبال قد سجلت في صحائف أعماله, فيقول: والله -يا رب- ما عملت هذه الأعمال. فيقول: بلى، كنت تفعل كذا، وكنت تقضي حاجات الناس، وكنت إلى آخره. فلا تحقر من المعروف شيئاً ولو أن يلقى المسلم أخاه المسلم بوجه طليق, فإن هذه تحسب حسنة له يجدها يوم يقدم على الله عز وجل. قوله: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذا هو مثل المؤمنين، وهؤلاء هم الأتقياء الذين تربوا في المساجد.

المخالفون للتربية المسجدية

المخالفون للتربية المسجدية

المخدوعون

المخدوعون يقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] هذا القسم مخدوع يظن أنه يعمل الصالحات، لكن عمله لا يقبل عند الله لأحد ثلاثة أسباب: إما أن هذا العمل يفقد الإيمان, أو أن هذا العمل يفقد الإخلاص لله عز وجل، أو أنه يفقد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أي عمل لا تتوافر فيه هذه الشروط الثلاثة -إيمان، وإخلاص، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم- لا يقبل عند الله عز وجل، وهذا هو العمل الصالح الخالص الذي يقوم على قاعدة الإيمان. قد يقدم المرء كل ماله ويفتح به المدارس والمستشفيات ويبني القناطر والترع والجسور، ويقدم كل أفعال الخير للناس، لكنه يقدم ذلك بدافع الإنسانية، وقد يصوم ويصلي ويؤدي الواجبات، لكنه غير مؤمن في قرارة نفسه وغير مقتنع بالدين من أصله، وقد يؤدي أعمالاً نعجز نحن أن نؤدي جزءاً منها، لكنها لا تبدأ ولا تنتهي بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كلما أعجبه شيء من هذه الأعمال فعله، ونسي أن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فكلما أعجبه شيء من العبادات فعله، وهكذا حتى إذا قدم على الله لا يجد شيئاً من هذه الأعمال أبداً. فما هو مثل هذه الرجل الذي لا يقوم عمله على الإخلاص والمتابعة والإيمان؟ مثله كمثل إنسان كان يسير في صحراء فعطش وليس معه ماء، وكان في شدة القيظ والحر، فرأى من بعيد شيئاً كالماء على سطح الأرض يسميه أهل اللغة (السراب) وسمي السراب لأنه يتسرب كما يتسرب الماء، وإذا كان ممتداً بين السماء والأرض يسمونه (الآل) فصار يركض وراء هذا السراب, وكلما قرب من هذا السراب ابتعد هذا السراب، حتى يهلك دون هذا السراب، حتى السراب لم يجده فضلاً عن أن يجد الماء, هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل لمن عمله ظاهره الخير وباطنه الفساد. فيكون العمل فاسداً ولو كان ظاهره الخير إذا فقد أحد ثلاثة شروط: الإيمان بالله عز وجل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم, فبدون هذه الشروط يكون العمل كالسراب، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:18] فلو هبت الريح على رماد فإنها لا تترك منه ذرة واحدة. قوله: (بقيعة) أي: أرض مستوية. قوله: (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) أي: ولا سراباً. أما في يوم القيامة فأعماله هذه يجدها، قال سبحانه: (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) أي: لم يظلمه الله. لكن عمله كان فاسداً؛ لأنه لا يقوم على قاعدة الإيمان والإخلاص والمتابعة، والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فأرسل المرسلين ليكونوا قدوة للبشر، ولينذروهم وليبشروهم. وهذا المثل ضربه الله عز وجل للذي لا يأخذ منهجه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذ منهجه من آبائه وأجداده، أو من مجتمعه ولو كان المجتمع منحلاً أو فاسداً، قال الله عنهم وعن رسولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:23 - 24]. إذاً المسلم يأخذ دينه من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء الموثوقين الذين يثق بإيمانهم ودينهم، وليحذر التقليد، خاصة في أصول دينه؛ لأنه حينما يقلد في أصول دينه يسير على منهج آبائه وأجداده، وقد يضل الطريق من هذه الناحية، فيكون عمله -نسأل الله العافية والسلامة- كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

المفسدون العصاة

المفسدون العصاة هناك نوع آخر فاسد وعمله فاسد، ويعرف أن عمله فاسد، ومع ذلك يضع السيئة تلو السيئة والكبيرة فوق الصغيرة والأكبر من الكبيرة فوق الكبيرة، ولربما يمرق من الدين نعوذ بالله؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] فتراه يترك الواجبات ويرتكب كل المحرمات وهو يعرف ذلك، هذا ضرب الله عز وجل له مثلاً آخر غير مثل الرجل الأول، قال عز وجل: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40]، فلو أن واحداً منا غاص في بحر عميق كثير الماء عظيم اللجة، وكان البحر مضطرباً بالأمواج، وكان فوق هذه الأمواج أمواج أُخر، وكان فوق الأمواج الثانية سحاب وهو في قعر البحر فإنه يصبح وكأنه في أشد ما يكون من الظلام، بحيث لو رفع يده وهي أقرب أعضائه إليه لينظر إليها لم يرها، هذا هو المشبه به، والمشبه هو صاحب الكبائر الذي ركب كل الذنوب -نعوذ بالله- وأدبر عن الله عز وجل، وترك الواجبات وفعل المحرمات، إذا قدم على الله عز وجل لا يجد إلا ظلاماً في ظلام، إلا أن يعود إلى ربه قبل أن تعاجله المنية.

الفرق بين رجال المساجد ورواد محاضن الفساد

الفرق بين رجال المساجد ورواد محاضن الفساد إن أي قوم يتربون بعيدين عن المسجد فإن عاقبتهم وخيمة، وأي قوم يتربون في المساجد فهم الرجال الذين سيخلصون هذه الأمة في مستقبلها القريب والبعيد من أزمات كثيرة، ولذلك أقول: لا سبيل إلى إصلاح أبنائنا وإصلاح الأجيال القادمة والأمم اللاحقة إلا أن يتربى هؤلاء الشباب في المساجد في حلق الذكر ومجالس العلم، يتلون كتاب الله عز وجل ويتدارسونه فيما بينهم، ويحضرون الصلوات الخمس، ويقفون أمام الرجال العقلاء، ويعرفون الله عز وجل حق المعرفة، ويتصورون ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وحينئذٍ سيكون هؤلاء رجالاً. أما لو ربينا أبناءنا في أماكن أخرى أمام الأفلام والمحرمات والمواخير ودور الفساد والخمر وما أشبه ذلك فستنشأ ناشئة لا تعرف الله عز وجل، ولا تعرف حق الآباء ولا حق الأهل ولا العشيرة، ولا حق الوطن، ولا حق المستقبل، ولا حق الأجيال اللاحقة. فالشباب الذين يتربون في المساجد هم الذين يعمرون هذه الحياة، ولذلك فإنه يلزم أي واحد منا أن يربي أولاده في المسجد، وأن يأخذهم معه إلى المسجد حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أبناءكم للصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).

نماذج من شباب ورجال المساجد

نماذج من شباب ورجال المساجد المساجد هي التي ربت الرجال، اقرأ تاريخ البشرية بصفة عامة، واقرأ تاريخ الإسلام بصفة خاصة لتعرف كيف ربى الإسلام الرجال، شباب في سن المراهقة، لكن كانت عقولهم ومستوياتهم فوق عقول الرجال في أيامنا الحاضرة، فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه حب رسول الله وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد الجيش إلى بلاد الشام وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقد جهز هذا الجيش صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف أبو بكر وعمر هل يسير هذا الجيش إلى بلاد الشام أو يبقى، فـ عمر رضي الله عنه يرى أن يبقى هذا الجيش لحراسة المدينة، وأبو بكر يرى أن يذهب هذا الجيش تحقيقاً لتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، وفعلاً يسير هذا الجيش ويظهر قوةً للأمة الإسلامية، ويبين للرومان أن الأمة الإسلامية بالرغم من وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم أنها ما زالت بخير، وأنها أرسلت هذا الجيش الجرار إلى بلاد الشام من المدينة، ويقوده رجل لا يتجاوز الثامنة عشر من عمره. وهذا محمد بن القاسم رحمة الله عليه رجل في السابعة عشرة من عمره قاد جيشاً إلى بلاد السند، وفتح لنا شبه القارة الهندية التي تعتبر الآن من أكثر بلاد الإسلام كثافة، فتحها هذا الشاب وهو لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره. ومن هؤلاء الرجال عقبة بن نافع رضي الله عنه، الرجل الذي كان يقود جيشاً في شمال أفريقية، ويسابق الشمس على مطالعها، ويصل بجيشه إلى تونس الحالية، وعندما أراد أن يبني مدينة القيروان لتكون قاعدة للمسلمين في شمال أفريقية أتى إليه أهل تلك البلاد وقالوا له: يرحمك الله أيها الأمير! هنا غابات رجع الفاتحون دونها, فلن تستطيع أن تبني فيها مدينة القيروان. فيقول لهم: لابد من أن أبني فيها مدينة القيروان. ويقف على جانب الغابة ويخاطب الوحوش ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام. يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخلي الغابة لـ عقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان. ثم يسير هذا البطل المؤمن ابن المسجد متجهاً إلى جهة الغرب حتى يغرز قوائم فرسه في مياه المحيط الأطلسي ويقول: لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته إليه على فرسي. وينشر الإسلام في شمال أفريقية ويستشهد هناك. أما قتيبة بن مسلم فإنه اتجه شرقاً, ففتح بلاد ما وراء النهر وتوغل فيها، ثم سأل أصحابه ذات يوم وقال: أي بلد أمامنا؟ فقالوا: يرحمك الله هذه بلاد الصين. فقال: والله لا أرجع إلى أهلي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين, وأضع وسم المسلمين على الصينيين, وأفرض عليهم الجزية. ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين, فيخاف من قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه, ويرسل صحافاً من الذهب قد ملئت بتراب الصين ويرسل أبناءه الأربعة ويرسل الجزية ويقول: هذه تربة الصين ليبر قتيبة بقسمه ويطأها وهو في مكانه, وهذه هي الجزية، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم وسم العرب. ثم يعود قتيبة بن مسلم إلى بلاده بعد أن نشر الإسلام في أقصى الشرق.

أهمية المسجد في تخريج الرجال

أهمية المسجد في تخريج الرجال المساجد مازالت -ولن تزال- وستبقى بإذن الله تربي الرجال حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظر إلى ما أحدثته المساجد في أيامنا الحاضرة, فهذه الصحوة الإسلامية المباركة العارمة التي أصبحت تقض على العدو مضجعه، فلا ينام من الليل إلا قليلاً, هؤلاء هم من إنتاج المساجد, أما إنتاج الأماكن الأخرى فلا أريد أن أذكره؛ لأن له مكاناً آخر. إذاً المساجد هي بيوت الله, والرجال لا يتربون تربية حقة إلا في المساجد, والذين نشئوا في المساجد وعلقت قلوبهم بالمساجد هم خير البشرية، وهم الذين سيعيدون لهذه الأمة مجدها وعزتها وكرامتها، ويوم أعرض الناس عن المساجد مدة طويلة من الزمن، وقبل أن تكون هذه الصحوة الإسلامية المباركة رأينا المصائب تترى وتتوالى على هذه الأمة، فأصبحت بلاد المسلمين تتساقط بأيدي الكافرين حصناً بعد حصن، وبلداً بعد بلد، ودولة بعد دولة، وتقسم بلاد المسلمين بمقدار ما أعرض الناس عن هذه المساجد، ويوم يعود الناس إلى هذه المساجد يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

ضرورة تربية النشء في المساجد والتحذير من التفريط عن ذلك

ضرورة تربية النشء في المساجد والتحذير من التفريط عن ذلك الأمانة التي بين أيدينا عظيمة، والله عز وجل سائلنا عن هذه الأمانة، ألا وهي الذرية، وهذه الذرية إذا تربت في المساجد فسنجني ثمارها بالبر والصلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الولد الصالح يستفيد منه أبوه في حياته بالبر ويستفيد منه أيضاً بعد موته، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وفي الآخرة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، والمؤمنون هم الذين يفعلون الأسباب، وذلك بأن يربوا هذه الذرية وفق المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وفي المسجد بصفة خاصة، ثم يمدون أكف الضراعة لله عز وجل ويقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. أما النوع الآخر الذي يفرط في هذه الأمانة وينشغل بمتاع الحياة الدنيا عن تربية هذا النشء فإن أخوف ما أخاف عليه أن يجني ثمار هذا التفريط عما قريب، فيكون العقوق وتكون القطيعة، وأتوقع أن يكون هذا الولد مصيبةً على أبويه، أما في الحياة الآخرة فإنها المصيبة الكبرى، يوم يوقف هذا الولد وتوقف تلك البنت وهذا الأب وتلك الأم بين يدي الله عز وجل أحكم الحاكمين ويقول الولد لربه: يا رب! زد أبي هذا عذاباً ضعفاً من النار؛ فإنه خانني فلم يحسن تربيتي. أخي الكريم! الرجال لا يتربون إلا في المساجد، فعلينا أن نبذل كل ما في وسعنا وطاقتنا لننشئ أولاداً صالحين تقر بهم أعيننا في الحياة الدنيا، وتقر بهم عيون المجتمع، وحينئذٍ فإن الله عز وجل بمقدار ما يقدمه هذا النشء الصالح الذي ربيناه في المسجد سيكتب لنا الحسنات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). ألا فلنكن من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فلنحفظ هذا النشء، ولنصن هذه الذرية من قرناء السوء، ومن هذا الفساد العريض الذي انتشر في المجتمعات الإسلامية، ولنحفظهم من الأفلام والمحرمات، ومن اللهو واللعب، ولنتق الله عز وجل في هذه الأمانة.

الأسئلة

الأسئلة

البطاقة التعريفية للشيخ عبد الله الجلالي

البطاقة التعريفية للشيخ عبد الله الجلالي Q نريد من فضيلة الشيخ عبد الله أن يقدم لنا بطاقته الشخصية؟ A أخوكم عبد الله الجلالي، تخرجت من كلية الشريعة عام (1981م)، ودرست في المعاهد العلمية، والآن أدرس في جامعة الإمام أحياناً في القصيم في كلية الشريعة، وما عندي أكثر من هذا.

المحافظة على الفرائض وترك المنكرات خير عظيم في الرجل

المحافظة على الفرائض وترك المنكرات خير عظيم في الرجل Q أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكنني كسول في النوافل، فأنا قليل القراءة للقرآن الكريم، وقليل القيام في الليل، وقليل الصيام من النوافل، فهل أنا من الرجال مع وجود هذه العيوب، رغم أنني أصلي وأصوم ونسبة المعاصي قليلة ولله الحمد؟ A الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث، فالفرائض إذا أديناها نرجو من الله عز وجل خيراً، ولا نعتمد على عملنا وإنما نعتمد على رحمة الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، أما النوافل فإنها تزيد الإنسان قرباً من الله عز وجل، ولذلك -كما في الحديث القدسي- يقول الله عز وجل: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) أسأل الله لي ولك -يا أخي- الثبات ما دمت تؤدي الفرائض وبعض النوافل، ولكن زد من النوافل بقدر الاستطاعة؛ لأن هذه النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة، فإذا حاسب الله عز وجل عبده يوم القيامة ونقصت الأعمال قال الله عز وجل: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟) فتطوع الصلاة تكمل به فرائض الصلاة يوم القيامة، وتطوع الحج يكمل به فريضة الحج يوم القيامة، وتطوع الصوم يكمل به فرض الصيام يوم القيامة، وهكذا سائر النوافل. أقول: يا أخي! إن رأس الإيمان هو خشية الله عز وجل ما دمت قد تركت المنكرات وأديت الواجبات، لكن علينا أن نسابق إلى الخيرات ونسارع إليها؛ فإن الله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] والخيرات يدخل فيها الفرائض والنوافل، ونسابق الناس إليها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوفانا وإياكم على ملة التوحيد؛ لأن من مات لا يشرك بالله شيئاً مع ما يؤديه من الفرائض وكان قد تخلص من حقوق الناس نرجو له الخير عند الله سبحانه وتعالى.

حقيقة المؤمن بين الدنيا والآخرة

حقيقة المؤمن بين الدنيا والآخرة Q إن الرجال الذين يتربون في المساجد هم من المؤمنين، لكن هل يعني هذا أنهم يمكن أن يبتعدوا عن واقع الحياة والناس خارج المسجد؟ A هنا ذكر الله تعالى الرجال وقال: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، والعلماء والمفسرون ذكروا معنيين لهذه الآية: فبعضهم قالوا: ليست لهم تجارة وليست لهم أعمال. على حد قول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره أي: ليس له منار يهتدى به. وجمهور المفسرين على أن لهم تجارة، ويؤيد هذا الرأي سبب النزول، أو قول بعض الصحابة حينما رأى الصحابة وهم يغلقون متاجرهم ويهرولون إلى المسجد قال: (في هؤلاء نزل قول الله عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]). وعلى هذا نقول: إن هؤلاء لهم تجارة، لكن هذه التجارة لم تلههم عن ذكر الله عز وجل، أما أن ينعزل المسلم عن المجتمع فلا، لا ينعزل عن المجتمع، وإنما المسلم يتعامل مع الناس في حدود ما أباح الله عز وجل، لكن هذا التعامل لا يجوز أن يشغله عن ذكر الله عز وجل، فإن شغله عن ذكر الله عز وجل أصبح هذا التعامل حراماً لا لذاته وإنما لما ترتب عليه، ولذلك نعرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب أموال، وأصحاب متاجر، وأصحاب أعمال، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، لكن هذه الأعمال كانوا يتخذونها قربة إلى الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18]، فدل على أن الأتقى قد يكون صاحب مال، والأتقى هو أفضل الناس وأكثرهم تقوى. إن التجرد من الحياة الدنيا أمر غير مطلوب في شرع الله عز وجل، ونحن نعرف قصة الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم الذين فكروا في شيء من التنطع في الدين فجاءوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عمله في السر، فلما أخبروا قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم غضب وقام خطيباً وقال: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). إذاً الرهبانية في الإسلام والانقطاع للعبادة وترك العمل هذا أمر غير مقبول، فالمسلم كما وصفه الله عز وجل بقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ونعرف الوصايا التي قدمها العقلاء لـ قارون -ولو قبلها لكان خيراً له- حيث حكى الله قولهم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]. إذاً نقول لهؤلاء الناس: اشتغلوا في الدنيا بقدر الاستطاعة، لكن اشتغلوا للآخرة فوق ذلك، واجعلوا الدنيا في أكفكم والآخرة في قلوبكم. أما أن تطغى وتزيد أعمال الدنيا على أعمال الآخرة، أو أن يتخذ الإنسان هذه الدنيا وسيلة لمعصية الله عز وجل فهذا الذي لا يصح من المؤمن، لكن إذا اتخذها وسيلة لطاعة الله عز وجل ومطية لحياة أفضل فهذه هي صفة المؤمن.

كيفية تذوق طعم الإيمان

كيفية تذوق طعم الإيمان Q إنني ملتزم منذ مدة طويلة ولله الحمد، ولكنني لم أتذوق حلاوة الإيمان حتى الآن، فكيف يتم ذلك؟ A يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاًً)، فما دمت قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً فأنت ذقت طعم الإيمان، والإيمان ليس طعماً يذاق ويشعر الإنسان أو كل الناس بطعمه، الإيمان في الحقيقة لذة لا تساويها أي لذة في هذه الحياة، ونعمة لا تساويها أي نعمة، ولكني أقول: ما دمت -يا أخي- قد بدأت الطريق إلى الله عز وجل، وسرت سيرة حميدة فلابد من أن تذوق طعم الإيمان، وإني أخشى من أنك لم تلتزم كل الالتزام؛ لأنك حينئذ لو التزمت كل الالتزام لذقت طعم الإيمان. والحقيقة أن طعم الإيمان يدركه المؤمن، وطعم الإيمان هو هذه السعادة وهذه اللذة التي يشعر بها الإنسان داخل نفسه، وإن كان في مصائب خارج نفسه، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ويقول عنها سبحانه وتعالى: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]. ويقول عنها ابن تيمية رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان. ويقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف. هذه اللذة تدركها يا أخي، فأنت تشعر بالراحة والطمأنينة، بل تشعر بالخلود؛ لأن غير المؤمن لا يشعر بالخلود، فهو يعتبر أن الموت هو النهاية، أما أنت -أيها المؤمن- فإنك تعتبر الموت هو البداية وليس النهاية، وتؤمن بقضاء الله وقدره، فإذا أصابتك مصيبة لا تجد جزعاً في نفسك؛ لأنك مؤمن، أما ذلك البعيد فإنه لا يستطيع أن يتحمل أي مصيبة من المصائب؛ لأنه لا يجد لذة الإيمان، وإذا أردت الدليل على ذلك فاقرأ أخبار العالم الذي تجرد من لذة الإيمان، كيف أصبح الانتحار عندهم يسجل بالثانية والدقيقة في هذا العالم؛ لأنهم لم يذوقوا بعض طعم ولذة الإيمان، أسأل الله أن يذيقني وإياك والمسلمين كافة طعم الإيمان.

حقيقة البطل بين الماضي والحاضر

حقيقة البطل بين الماضي والحاضر Q كنا عندما تذكر البطولة والبطل لا تنصرف العقول إلا إلى حمزة وخالد وعلي وأسامة وأمثالهم، واليوم أصبحت العقول تنصرف إلى أبطال المصارعة والملاكمة والكرة، فما الفرق بين بطولة هؤلاء وبطولة أولئك؟ A الحقيقة أنه ليس هناك تقارب حتى يكون هناك فرق، وأن الفساد الذي بدأ يصور لنا البطولة في هذا النوع من أصحاب الملاكمة وغيرها إنما هو بسبب فساد في الأذواق وانحراف في الفطرة، حتى أصبحنا لا نتصور معنى البطولة، كما أصبحنا لا نتصور معنى الرجولة، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الأمانة سوف تفقد حتى يقال للرجل: ما أحلمه ما أعظمه وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان؛ لأن الموازين والمعايير والمقاييس قد اختلت في أيامنا الحاضرة، فأصبحت هناك موازين ومقاييس غير الموازين والمقاييس التي يجب أن يأخذ بها الناس، لكن في إمكان الناس بأن يقرءوا تاريخهم الحق فيعرفوا من هو البطل ومن هم الرجال، ليعرفوا بعد ذلك الفرق بين البطل في الماضي والبطل في الحاضر.

التحذير من قضاء الفراغ في الحرام والدعوة إلى استغلال الفراغ في المباح

التحذير من قضاء الفراغ في الحرام والدعوة إلى استغلال الفراغ في المباح Q نريد إسداء نصيحة للشباب، خاصة في شأن الأيام التي تعتبر أيام إجازة مدرسية، وقد يستغلها بعض الشباب في اللهو الذي أدخلوا عليه كلمة (بريء) فما معنى بريء؟ وهل هناك بريء وغير بريء؟ A نعم هناك بريء وهناك غير بريء، بريء من الله وبريء من الدين، وهناك شيء غير بريء. والحق أن الفراغ من أكبر العوامل التي تضر بالناس وبالشباب بصفة خاصة، كما قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة والذي حدث اليوم هو أن هناك فراغاًَ وأن هناك شباباً وهناك جدة، فأصبحت هذه الأشياء تستغل فيما لا يرضي الله عز وجل، سيما عند غفلة المصلحين والموجهين والمربين. إن عشرات الآلف، بل مئات الآلاف من شباب المسلمين يذهبون اليوم إلى بلاد لا تعرف الله ولا تعرف الدين ولا تعرف الخلق ولا تعرف أي شيء من ذلك، ويكون الزحام على الطيران وعلى دوائر الجوازات على أشده، والمصيبة أن هناك خدمات تقدم لهؤلاء الشباب وتسهيلات وتخفيضات ودعايات ليُذهب بهم إلى تلك البلاد الكافرة، ولقد رأيت بعيني الشاب يتأبط الشابة في المطعم وفي السوق وأمام الناس دون حياء من الله عز وجل أو خجل من الناس، وهؤلاء الشباب هم من أبناء المسلمين، يرتدي أحدهم الشماغ والثوب والعقال ولا يبالي وكأنها زوجته، ولربما يخجل من أن يمسك يد زوجته أمام الناس، وهذا يحدث في مثل هذه الإجازات، وكثير من شبابنا يرقبون عقارب الساعة ينتظرون مثل هذه الفرص، وهذه من أكبر البلايا. فالشباب المؤمن لا يعرف الفراغ، فحياته كلها مشغولة فيما يرضي الله عز وجل، وهناك فرص يجب أن يستغلها هؤلاء الشباب قبل أن يستغلها العدو لينفذ من خلالها إلى عقول هؤلاء الشباب، المكتبات الآن تعرض شتى أنواع العلوم والمعارف، وتشتكي إلى الله قلة الرواد، وكذلك مدارس تحفيظ القرآن، فنحن لا نريد أن نحجز الناس عن أماكن الترفيه، لكن نقول: يجب أن يكون في حدود المباح، أما إذا وصل الأمر إلى المحرم فهنا يكون الخطر. وأنا أدعو إخواني المؤمنين إلى أن يتفقدوا شبابهم وأولادهم، وأن يُربوهم التربية الطيبة، وأن يختاروا لهم الرفقة الصالحة، وحينئذٍ سيكون ذلك كله -بإذن الله- حماية وصيانة لهؤلاء الشباب عن هذه الأشياء الخطيرة التي أشرت إلى شيء منها، والله المستعان.

حقيقة الخشوع في الصلاة

حقيقة الخشوع في الصلاة Q ورد عن عمر أنه كان يجهز الجيش وهو في صلاته، فكيف نجمع بين هذا وما عرف عنهم رضي الله عنهم من الخشوع؟ A لا شك أن الخشوع هو لب الصلاة، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، ولا أدري هل يصح هذا القول عن عمر أو لا يصح؟ ولو صح هذا القول عن عمر فيكفي أن عمر رضي الله عنه إنما يشتغل في الصلاة بما يرضي الله عز وجل، أما نحن فنشتغل بأعمالنا وحاجاتنا وببيعنا وشرائنا، هذا هو الذي يحدث كثيراً لدى كثير من الناس، لكني أشك في صحة ذلك عن عمر؛ لأن هذه الصلاة لا يجوز أن يكون فيها شيء غير الصلاة، بحيث يتصور هذا الواقف بين يدي الله عز وجل عظمة الموقف، فيتصور هذه العظمة فلا يفكر في أي شيء غير هذه الصلاة.

حكم من يخرج بأهله إلى المحلات التجارية لشراء حاجاتهم

حكم من يخرج بأهله إلى المحلات التجارية لشراء حاجاتهم Q ما الحكم في الظاهرة التي نشاهدها في هذه الأيام، عندما يأخذ الرجل زوجته أو أخته أو بنته إلى المحلات التجارية، وإن كان بزعمه أنها مغطاة، مع ما ينتشر في هذه المحلات من الأسباب التي تعرضها للفتنة؟ A هذا خير من الذي يترك زوجته أو أخته أو ابنته تذهب إلى المحلات التجارية لوحدها، وخير من هذا وذاك الذي يقضي حاجة أهله وهم في بيوتهم. وعلى كلٍ فالعصر الذي نعيشه اليوم عصر فتنة، والمسلم مطالب بأن يتقي هذه الفتنة، والله تعالى يقول للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ويقول عن الرجال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ومعنى ذلك أن الرجل مطالب بأن يحضر كل حاجات أهله، حتى لا يضطر أهله إلى الخروج من المنزل إلى مكان آخر، لكن يتسامح في هذا الخروج إذا كان يخرج معها محرمها وهي محجبة ولا ترى فتناً تعترض سبيلها، ولا تدخل المحلات التجارية التي لربما تؤدي إلى أن تستهين بالاختلاط بالرجال، فإذا وجدت كل هذه الاحتياطات فالأمر أسهل.

حكم العادة السرية ونصيحة لمن يمارسها

حكم العادة السرية ونصيحة لمن يمارسها Q بعض الشباب يمارس العادة السرية، فما هي نصيحتكم لهؤلاء الشباب عافانا الله وإياهم؟ A لا شك أن العادة السرية مما نهى الله عز وجل عنه، فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فقد حدد الله عز وجل الإباحة في أمرين: الزوجة وملك اليمين، وما سوى ذلك فقد عد الله تعالى فاعله من العادين، أي: متعدياً لحدود الله عز وجل. والعادة السرية من التعدي لحدود الله عز وجل، لكن لا شك أنها أخف من الزنا، فلو رأى أنه سيقع في الزنا لا محالة في أي لحظة من اللحظات، وأراد أن يخرج هذا الماء بهذه الطريقة لكان أسهل؛ لأنه ارتكب أخف الضررين، لكن العادة السرية -كما يقول العلماء- لا شك أنها محرمة ومنهي عنها، ومضرة بالصحة وبالعقل أيضاً، ومضرة بالحياة التناسلية، وتؤدي إلى إفساد هذا الماء الذي يجب أن يكون لإنتاج الذرية الصالحة، وعلى هذا فإنها منهي عنها، فمن ابتلي بها فعليه أن يبادر بالتوبة، وأن يأخذ بالاحتياطات، وأهم هذه الاحتياطات هي الزواج، فالله عز وجل لما ذكر الزنا في سورة النور وذكر أسبابه، ذكر ما يحول بين المسلم وبين الزنا، وذكر آخرها وأهمها بقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ولذلك ندعو الذي ابتلي بهذه العادة إلى الزواج والمبادرة إليه؛ لأنه يعتبر حصانة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج).

الآثار المترتبة على كثرة تكاليف الزواج

الآثار المترتبة على كثرة تكاليف الزواج Q نود الحديث عن تكاليف الزواج؛ حيث وإن المتزوج يكلفه الزواج إلى مائة وعشرين ألف ريال، وأنا أرغب في الزواج، ولكن ليس عندي هذا المبلغ، فلعل الله أن يهدي آباء البنات الذين حالوا بيننا وبين الحلال؟ A يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة)، قوله: (أكثرهن بركة) أي: المرأة التي مهرها قليل تكون كثيرة البركة. وبالمفهوم أن المرأة التي مهرها كثير تكون قليلة البركة، وهذا ما نشاهده، فالزوج الذي يستدين أموالاً كثيرة ليتزوج ثم يتزوج فإنه يعيش مع هذه المرأة ويشعر بأنها عبء ثقيل عليه؛ لأنها كانت سبباً في هذه الديون وهذه الالتزامات والقروض التي أصحبت في ذمته، ولعل هذه من أكبر الأشياء التي نشاهدها. أما الطلاق فإنه من خلال تتبعنا لأحوال الناس نجد أنه يكثر بمقدار ما تكثر مئونة الزواج، فالذين يتزوجون في الفنادق الراقية ويذبحون الأنعام الكثيرة لا تبقى زوجاتهم معهم كثيراً، والذين يحصلون على المرأة بتكاليف أقل وأسهل غالباً يوفقون في زواجهم، ولذلك أقول: علينا أن نتعاون في هذا الأمر؛ لأنه ليس هناك إلا طريقان: طريق حلال وطريق حرام، فالطريق الحلال هو الزواج، والطريق الحرام هو الزنا، والطريق الحلال يحتاج إلى تعاون الناس أجمعين ليقع الزواج، اسيما ونحن في فترة كثرت فيها الفتن والمغريات، وعرضت المرأة أمام الناس، فأصبحت من أكبر المشاكل التي تعترض سبيل الناس وسبيل الشباب العزاب بصفة خاصة. ففي الطائرة تعرض المرأة، وفي المحلات التجارية وفي غير ذلك، فهذه الفتنة لا يقضي عليها إلا الزواج، بحيث يستغني الإنسان بالحلال عن الحرام، وبالتعدد أيضاً، فنحن ندعو المسلمين إلى التعدد بمقدار ما تتوافر النساء، ندعوهم إلى زيادة عدد النساء؛ لأن حكمة الله عز وجل تقتضي ذلك، سيما في هذه الأيام المتأخرة؛ لأن نسبة النساء والبنات في الولادة أكثر من الأولاد، إضافة إلى عزوف كثير من شبابنا عن الزواج، إضافة إلى تزوج كثير من شبابنا من الخارج، إضافة إلى أسباب كثيرة، مثل كثرة القتل في صفوف الرجال بسبب الحروب، ولذلك نقول: الزواج سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة المرسلين من قبله، ولابد من أن نتعاون في إقامة هذه السنة، وأفضل طريق نتعاون فيه هو تخفيف هذه المهور. وفي الحقيقة أنا أخالف الذين يقولون: إن المهور كثيرة. لأني أرى كثيراً من الشباب يملك الواحد منهم سيارة قيمتها تساوي قيمة وتكاليف الزواج، لكني أقول أيضاً: على الآباء أن يخففوا هذه التكاليف، سيما الأموال الضائعة التي نشاهدها في بعض البيئات من إقامة الموائد الضخمة التي يرمى فيها اللحم للكلاب وجزء كبير من العالم الإسلامي اليوم يموت جوعاً، وهذا من الإسراف الذي حرم الله عز وجل، والتبذير الذي يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] أما لو كان المال يعود إلى حلي للمرأة وملابس أو أشياء تستفيد منها المرأة لكان الأمر أسهل، أما وقد عاد الأمر إلى موائد وإسراف وبذخ ومكابرة فإن هذا يصبح خطيراً. أما ما أشار إليه السائل بأن تكاليف الزواج قد تصل إلى مائة وعشرين ألفاً فهذا من المصائب ومن البلايا، وأنا أحذر الولي الذي يريد أن يجعل زواج ابنته أو موليته بمائة وعشرين ألفاً أو أكثر أو أقل، أحذره وأخاف عليه أن يفشل هذا الزواج، فترد عليه بنته عما قريب وهي مثقلة بالأولاد الذين يحولون بينها وبين زواج آخر، لتصبح مطلقة في بيته، أقول: علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نخفف المهور والتكاليف، وأن نسن في المجتمع سنة حسنة، حتى يكون لنا أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأدعو العقلاء ورؤساء القبائل المسئولين وأصحاب الحل والعقد ومن يستطيع أن يتدخل في مثل هذه الأمور أن يقفوا أمام هذا النهم وهذه الشدة في تكاليف الزواج، حتى يتمكن كل الشباب من الزواج، وحينئذ نسلم من كثير من هذه الفتن التي غزيت بها بلادنا وغزي بها مجتمعنا، والله المستعان.

المرأة وما يراد بها

المرأة وما يراد بها إن الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين أهلهما على وجه هذه البسيطة سنة من سنن الله تعالى في خلقه، ومحاور هذا الصراع تختلف من حين لآخر، ولعل المرأة من أبرز محاوره، لذلك يسعى الأعداء لتسييرها خلف ركب العبث والشهوات، وأنى لهم ذلك وقد جعل الشرع لأتباعه سورة النور وغيرها من وسائل عدة يدفعون بها الباطل، ويردعونه، ويعيدون الأمور إلى نصابها. وإن الباطل مهما صال وجال بشبهاته وشهواته إلا أنه زائل زاهق، وسيحق الله الحق وينصر جنده.

سنة الصراع بين الحق والباطل

سنة الصراع بين الحق والباطل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، والشكر لله الذي يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الظالمين ويفعل ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة؛ فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية جمعاء خير الجزاء، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! إن الله سبحانه وتعالى جعل للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وجعل للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، سنة الله، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. وانطلاقاً من هذه السنة كان الصراع على أشده بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر، هذا الصراع بدأ مع بدء الخليقة الأولى: {َقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، ولن ينتهي أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لكن سنة الله تقتضي أن يظهر الحق لا محالة، وأن يندحر الباطل لا شك، ولربما كانت هناك بعض إرهاصات أو أدلة تدل على أن الباطل ظاهر، لكن الشيء الذي يجب أن يؤمن به كل مؤمن: أن الدين لله عز وجل، وهو الذي يحميه، وأنه سوف يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأن الحق لا يستطيع أن يقف معه الباطل على رجليه؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ولربما تحيط بالأمة الإسلامية في فترة من فترات ضعفها أو امتحانها وابتلائها أشياء تخيف بعض الناس على مستقبل هذا الدين، ولكن الشيء الذي لا شك فيه: أن دين الله ظاهر، وأن الحق باق خالد، وأن الباطل زبد، وأن الزبد سيذهب جفاء ويبقى ما ينفع الناس في الأرض، وهذا هو ما نشاهده من خلال الأحداث التي تبدو في أول أمرها رهيبة مخيفة لكنها زبد كما أخبر الله عز وجل. أيها الإخوة! من خلال هذه السنة أن يكون الصراع بين الحق والباطل باقياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن أجل أن يكون لله عز وجل جنود في الأرض يبرزون، وأن يتخذ منهم شهداء؛ كان هذا الصراع لابد منه، وهذا الصراع يختلف حسب فترات التاريخ، فلربما تكون دولة هذا الصراع بأيدي المؤمنين، ولربما تكون دولته بأيدي غيرهم، أي أن الله عز وجل يداول هذه الأيام بين الناس كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

الوسائل الحديثة التي يحارب بها العدو الإسلام

الوسائل الحديثة التي يحارب بها العدو الإسلام وهذا الصراع أيضاً يختلف؛ فلربما يكون بالقوة المسلحة، وهذا هو ما درج عليه التاريخ الأول، فكان أعداء الإسلام يقفون أمام قوة الإسلام بقوة، فإذا بقوة هذا العدو تنهار وتتحطم أمام قوة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165]، فتتحطم أمامه هذه القوى بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة وسلاح وعتاد وعدد وفير، ولو كانت قوة الإسلام حسب رأي العين صغيرة الحجم لكنها عظيمة في الحقيقة.

لجوء العدو إلى سلاح محاربة الأفكار والقيم

لجوء العدو إلى سلاح محاربة الأفكار والقيم ومن أجل ذلك التحطم للعدو الذي وقف أمام الجحافل الإسلامية، بدأ يفكر في طرق ملتوية يظن أنه سوف يستطيع أن يدمر بها القوى الإسلامية، فلجأ أخيراً إلى ما يسمى بالحرب الباردة أو حرب الأفكار، فكان الصراع بين فكر وفكر، ولو كان هذا الصراع متجرداً لكانت القوة والأفكار الإسلامية بلا شك هي الغالبة، ولكن حينما تكون هناك عوائق في طريق الفكر الإسلامي وهو يصارع الأفكار المنحرفة، فربما تتمكن الأفكار المنحرفة فترة من الزمان في صقع من أصقاع الأرض، إلا أن النهاية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18]، بإذن الله تعالى. ومن هذا الصراع الفكري الذي يقوم على أشده في هذه الفترات المتأخرة من تاريخ البشرية، كانت هناك وسائل يتخذها العدو من أجل القضاء على الأمة الإسلامية، ولربما ينخدع بعض المسلمين بهذه الأفكار، ولذلك يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:26 - 27]. ومن هذا المنطلق نعرف أن أهداف العدو ليست مكتفية بمقدار من الانحراف لهذه الأمة، وإنما يريدون أن نميل ميلاً عظيماً؛ فالله تعالى أكد الميل بقوله: (مَيْلًا)، ثم وصفه بقوله: (عَظِيمًا)، وهذا يدلنا على أن العدو لا يرحم، وأنه لا يقبل منا إلا أن يتخلى المسلم عن دينه، وينحرف عن مبادئه، ولذلك بث كل وسائله وأفكاره، وأعلن على الملأ بأنه لا يستطيع أن يقطع شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها، ومن هنا دبر المؤامرات والمكائد من أجل حرف أبناء المسلمين عن دينهم.

استخدام العدو سلاح الشهوة الجنسية والمرأة في محاربة الإسلام

استخدام العدو سلاح الشهوة الجنسية والمرأة في محاربة الإسلام لما علم العدو الحاقد أن الأمة تقاس بشبابها، وأن الشباب هم عنوان الأمة، وأنه إن استطاع أن يقوض بنيان الشباب استطاع أن يقضي على هذه الأمة من أصولها؛ لما علم ذلك سلك المسلك الخبيث، واتجه إلى غصن الشباب، ثم أيضاً كانت هناك دراسات نفسية متعمقة تبحث في الميول والوسائل التي يستطيع بها العدو أن يقتنص أبناء المسلمين، فاتخذ كل الوسائل من أجل أن يقضي على شباب الأمة الإسلامية، وركز على جانب الشهوة في ذلك. جانب المرأة يعلم الأعداء علم اليقين أنها أكبر وسيلة يستطيع أن يصطاد بها الشباب عن طريق الشهوة الجنسية الفطرية التي ركبها الله عز وجل في الإنسان: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]؛ فأولى هذه العوامل النساء، ولذلك فإن العدو قد اتخذ من المرأة وسيلة في اقتناص شباب الأمة الإسلامية ورميهم في الحضيض. لذلك أيها الأخ المسلم! يجب أن تدرك أن العدو إنما يريد الشباب، وأنه يريد أن يقضي عليه بأسرع وقت ممكن، وأنه قد سبر غور هذه الحياة، واستطاع أن يدرس نفسيات الأمم، وأنه ينطلق من خلال دراسة وافية يظن أنه يستطيع بها أن يقوض بنيان الأمة الإسلامية من أصوله وأساسه، فمن خلال الشباب نجد التركيز على المرأة في بلاد الكفر بل وفي بلاد الإسلام. ومن هنا كان وضع المرأة وضعاً خطيراً، وكانت المرأة مستهدفة استهدافاً خاصاً لذاتها ولغيرها، أي: من أجل القضاء عليها هي شخصياً، ومن أجل القضاء على شباب الأمة الإسلامية؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح البشرية وما يفسدها.

كيف حارب الإسلام الرذيلة وعالج الشهوة

كيف حارب الإسلام الرذيلة وعالج الشهوة لقد عالج الله مشكلة الشهوة والنساء علاجاً لن يستطيع أحد أن يقدم للبشرية علاجاً ناجعاً مثله، وذلك في النصف الأول من سورة النور، وهذا ليس غريباً فإن الله تعالى يقول عن القرآن: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وهذه السورة العظيمة في مطلعها ما يلفت النظر، وفي منتصفها أيضاً ما يلفت النظر، وأحيطت الآيات التي تدور حول الشرف والفضيلة ومحاربة الرذيلة بهاتين الآيتين اللتين يلفتان النظر، أول آية من هذه السورة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وآخر آية في هذا النصف الذي يعالج مشكلة الأخلاق والانحراف والفضيلة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، وما بين هاتين الآيتين كله علاج ومحاربة للرذيلة حتى لا تحل في أمة من الأمم؛ لأن أعداء الإسلام سوف يركزون على هذا الجانب من جوانب الرذيلة؛ فيستطيعون أن يصطادوا الرجل من خلال المرأة في الماء العكر.

معالجة الإسلام للشهوة بمنع الزنا وإقامة الحد عليه

معالجة الإسلام للشهوة بمنع الزنا وإقامة الحد عليه ولقد ذكرت السورة في نصفها الأول جوانب مهمة يجب أن يفهمها المسلم، لاسيما وأن الله تعالى قال قبل ذكر هذه الجوانب: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1]، مع أن كل القرآن أنزله الله عز وجل وفرضه وأنزل فيه آيات مبينات، لكن لما كانت هذه الآيات لها أثر عميق في دنيا البشرية وفي عالم الناس؛ كانت تستحق هذا المطلع، ولذلك وضعت الطرق والوسائل التي تضمن للأمة الإسلامية الاحتفاظ بأخلاقها وفضائلها حتى لا تقع في حبائل العدو. وأول شيء ذكره الله عز وجل: هو الحد؛ لما ذكر الزنا الذي هو ضد الفضيلة ذكر الحدود التي هي حواجز أمام النفس البشرية حتى لا تقع في هذه الجريمة، والتي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لحد يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين خريفاً)، أي: أربعين سنة؛ فالحدود رحمة للبشرية. ودع عنك هؤلاء الفجرة سواء كانوا من أعدائنا الكفرة، أو من المنسوبين إلى الإسلام من الخارج، أو من أبناء جلدتنا والذين يتكلمون بألسنتنا، والذين يعتبرون الحدود وحشية وتخلفاً ولا تصلح لهذا العصر، أما الله سبحانه وتعالى فإنه يعتبرها رحمة كما اعتبر القصاص حياة، وأي رحمة هي؟! إنها رحمة تضمن سلامة الأخلاق والفضائل، وصيانة العقول والأديان والأنساب والسمعة، إلى غير ذلك. ولذلك الوسيلة الأولى من وسائل محاربة الرذيلة والحفاظ على المرأة وكرامتها ومحاربة الزنا الذي هو من أعظم الفواحش عند الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. الوسيلة هي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، يعني: حتى الرحمة يجب أن يتجرد منها الإنسان في مثل هذا المكان؛ لأن الرحمة التي يزعمها أعداء الإسلام حينما يتعاطفون مع المجرم، أو حينما يقولون: إن الحدود وحشية، هم يعرفون أنهم ليسوا بأرحم به من الله عز وجل الذي هو أرحم الراحمين، ولكنهم يريدون أن يشوهوا الإسلام من هذا الجانب، والله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، ثم قال: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2].

منع الإسلام من الكلام في الأعراض وإقامة حد القذف

منع الإسلام من الكلام في الأعراض وإقامة حد القذف لابد من وجود عامل صيانة المرأة واحترامها ومحاربة الرذيلة وفاحشة الزنا حتى لا تنتشر في المجتمع، وهو جانب السمعة؛ لأن الإنسان بسمعته الحسنة وإن لم يكن لديه دين، أو كان لديه دين لكنه ليس على مستوى يحول بينه وبين هذه الشهوة الصارخة، قد يحافظ على شرفه وكرامته وسمعته، لكن سمعته وشرفه وكرامته حينما تنخدش، يصبح كما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام وحينئذ لا يبالي أن يفعل الفاحشة أو يتركها ما دامت هذه السمعة قد تلوثت وما دامت هذه الصفة قد انحرفت، ولذلك يشدد الله تعالى في هذا الجانب ويضع عقوبة على من يقذف إنساناً بالزنا دون أن يكون لديه أربعة شهود، فمن شهد على إنسان بالزنا ولم يستطع أن يكمل أربعة شهود يشهدون على ذلك؛ فإنه يستحق الجلد ثمانين جلدة حتى ولو كان صادقاً، حتى لو رأى هذه الفاحشة بعينيه، محافظة على السمعة؛ لأن بقاء السمعة الطاهرة في مجتمع من المجتمعات إنما يعني ذلك أن هذا المجتمع مجتمع محافظ، ولأن سقوط واحد من الناس في سمعته في المجتمع يؤدي إلى أن لا يبالي في سمعته بعد ذلك، مثل الثوب الأبيض النظيف يحافظ عليه صاحبه ما لم يصب بدنس بسيط، لكنه حينما يصاب بدنس لا يبالي صاحبه أن يصاب بعد ذلك بأي نوع من أنواع الدنس، ولذلك الله تعالى وضع حد القذف ثمانين جلدة، فليس بينه وبين حد الزنا إلا عشرون جلدة، حتى لو كانوا ثلاثة شهود يشهدون فإنهم يجلدون مائتين وأربعين جلدة كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، من أجل أن تبقى السمعة طيبة في المجتمع، ومن أجل ألا تكون الأعراض مهانة، فيتحدث هذا أن فلاناً زنا، وذلك يتحدث أن فلانة زنت، دون أن يكون هناك أدلة ثابتة، ولذلك الله تعالى وضع حد القذف احتياطاً حتى لا يكون الزنا. وحينما يضع الله عز وجل حد القذف لا يريد من الناس أن يدسوا رءوسهم بالرمل وهم يرون الفاحشة أمام أعينهم، ولكنه يطالبهم بأن يثبتوا هذه الفاحشة بأربعة شهود، أو بأربعة اعترافات حتى تبقى السمعة طيبة، أو حتى يقام الحد، أما أن يشاع عن جريمة تحدث في المجتمع ولا يكون لها حد؛ لأنها لم تثبت بأربعة شهود أو بأربعة اعترافات؛ فهذا يؤدي إلى أن يستسهل الناس هذه الجريمة وتلك الفاحشة. إذاً أيها الإخوان: ما يحدث في المجتمع اليوم من أحاديث العشق والغرام والخيانات الزوجية والمسرحيات الصارخة، والأفلام المنحرفة، هذه كلها تعتبر سبيلاً تمهد الطريق إلى الزنا، ولو أن الإسلام أقيم حقاً في العالم الإسلامي لأقيم الحد على هؤلاء الذين يتحدثون عن هذه الفاحشة بصدق أو بكذب بهزل أو بجد، هذا جانب من الجوانب المهمة التي سد الإسلام فيها طريق الفاحشة.

منع الاختلاط والتحذير منه

منع الاختلاط والتحذير منه الاختلاط هو: أن يختلط الذكر بالأنثى سواء كان بخلوة أو بدون خلوة، لكنه اختلاط يؤدي إلى تقارب بين الرجل والمرأة، هذا الاختلاط حاربه الإسلام، وأعطى المسلم ما يسميه العصر الحديث بحرية المأوى، ونهى الإنسان أن يدخل على إنسان آخر قبل أن يستأذن ويسلم؛ حتى إذا كانت هناك عورة مكشوفة أو إذا كان أصحاب بيت لا يرغبون في دخول هذا الداخل يطلبون منه الرجوع، حتى قال الله عز وجل في هذا الاستئذان: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، هكذا الإسلام يحارب الاختلاط بين الذكر والأنثى؛ لأن الاختلاط يؤدي إلى هذه الجريمة الشنعاء، نعوذ بالله من شرها. ونعني الاختلاط بجميع أنواعه، والخلوة بجميع أنواعها: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم؛ حتى يتميز الإنسان بأهله وبشرفه عن إنسان آخر، ولذلك فإن الاختلاط من أخطر الأمور. وتقوم في أيامنا الحاضرة دعايات مضللة، تقول: إن الوحشة بين الرجل والمرأة هي السبب في وقوع الفاحشة، ونستطيع نحن أن نقضي عليها بالاختلاط وبالسفور وبالتبرج، يقولون ذلك عدواناً وبهتاناً وزوراً، ونقول لهم: كذبتم، إن المجتمعات الفاسدة التي انتشر فيها الاختلاط والتبرج، وأصبح فيها السفور نظاماً شائعاً، واختلط فيها الطالب بالطالبة على مقاعد الدراسة ومدرجات الجامعة والعمل إلى غير ذلك، هي المجتمعات التي أعطت الرقم القياسي في الانحراف والفساد، إذاً هم كاذبون؛ لكنهم كما قال الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. إذاً: الاختلاط بين الجنسين والخلوة سواء كان داخل البيت كما يوجد في أيامنا الحاضرة بين الخادمة ورب البيت، وبين سائق السيارة وبنات المنزل حيث يخلو بالبنت ويذهب بها إلى المدرسة والسوق، كل ذلك من الاختلاط الذي حرمه الله عز وجل، وأشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:27]، وما دام الله عز وجل هو الذي يقول: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، فنتأكد أن هذا هو الخير، وأن المصلحة في هذا الأمر.

الأمر بغض البصر عن المحرمات

الأمر بغض البصر عن المحرمات من الأمور المهمة الشريفة التي تحافظ على الأعراض والبيوت والأسر وتحارب الفاحشة منع النظر، الذي يقول الله عز وجل عنه في الحديث القدسي: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، ولذلك فإن النظر من أخطر الأمور، والنظر كما يقول عنه العلماء: إنه بريد الزنا. بل إن الله عز وجل قرن في آيات القرآن بين النظر وبين فاحشة بين الزنا؛ فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31]، ما صلة الأول بالثاني؟ لأن النظرة هي التي توصل غالباً إلى الفاحشة، وإلى فعل الجريمة، لذلك يقول الشاعر: جل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر شرارة صغيرة يحتقرها الإنسان تطير على متاعه فتحرق البيت والحي كله، ولربما تحرق المدينة كلها وهي شرارة صغيرة في أولها، ونظرة يلقيها الإنسان دون أن يحسب لها أي حساب؛ وربما تحدث ما هو أكبر من ذلك، ولذلك فإن من الوسائل التي اتخذها الإسلام لحماية المجتمع من الفاحشة ولصيانة المرأة المسلمة من الفاحشة، هو غض البصر سواء في ذلك الرجل والمرأة، ولذلك قال تعالى عن الرجل: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، يعني: لا تخفى على الله النظرة الصغيرة التي يلقيها الإنسان، وقال أيضاً عن المرأة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]؛ لأن إبداء الزينة هي سبب للفت النظر. ولذلك لا تعجوا حينما نجد أن الزنا -نعوذ بالله من شره وسوئه- هو الجريمة الوحيدة التي قدم الله تعالى فيها المرأة على الرجل، فإنك لا تجد في الكتاب ولا في السنة آية أو حديثاً نبوياً قدمت فيه المرأة على الرجل إلا في آية واحدة في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، ما قال الله تعالى: الزاني والزانية، لماذا؟ لأن المرأة قد تملك أكثر الأسباب التي تؤدي إلى الفاحشة، ولذلك قدمها الله تعالى، لكن نجد في باب السرقة مثلاً أن الله تعالى قدم السارق على السارقة، وفي كل الآيات يقدم الله تعالى الرجل على المرأة، لكن قدمها في باب الزنا لأن امرأة واحدة باستطاعتها أن تفتن أمة أو أمماً، ولذلك هنا نقول: إن المرأة وضعها خطير.

الحث على الزواج

الحث على الزواج يأتي بعد ذلك دور مهم من أدوار حماية المجتمع من الفاحشة وهو دور الزواج: يقول الله عز وجل عنه وهو يثبت أنه آخر وسيلة من وسائل حماية المجتمع من الفساد: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، وفي نفس السورة: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]. إذاً: خمسة أشياء جاءت في هذه السورة آخرها الزواج. والإسلام دين واقعي يواجه الأمور على حقيقتها، وليس ديناً يعيش في عالم الخيال كما توجد أنظمة صنعها البشر للبشر لا تقدر العاطفة، ولا الواقع، ولا تواجه الأمور على طبيعتها، فالشهوة طبيعية وفطرية في هذا الرجل بل وفي المرأة، ولما حرم الإسلام الزنا لابد أن تصرف هذه الشهوة مصرفاً طبيعياً مباحاً، لذا كان الزواج هو الطريقة الوحيدة لصرف هذه الشهوة فيما أباح الله عز وجل، ولذلك ذكر الله تعالى الزنا في أول هذه الآيات، وذكر الزواج في آخر هذه الآيات؛ حتى يعرف الإنسان كيف يتصرف، وكيف يشبع هذه الشهوة الفطرية مما أباح الله عز وجل بدلاً مما حرم الله سبحانه وتعالى؟ ولذلك نقول: الزواج حصن منيع كما أخبرنا الله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى للمتزوجات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، وسمى المتزوج أيضاً محصناً، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، ومعنى أحصن: أي كالحصان، فالإنسان المقاتل إذا ركب الحصان يمتنع ويحمي نفسه من القتل غالباً، وكالحصن الذي يتستر فيه الإنسان في المعركة، فيحميه من وقع السهام، فالمتزوج كأنه وقع في حصن، أو كأنه ركب حصاناً فيتقي شر عدوه، ولذلك نقول: الزواج هو الوسيلة الخامسة من الوسائل الخمس التي أرشد إليها الله عز وجل لمكافحة الجريمة، هذا هو المنهج السليم الذي دعانا الله عز وجل إليه، وبعد ذلك لنعرج إلى موضوعنا الذي اختاره الإخوة، وهو المرأة المسلمة وما يراد بها.

ضياع حقوق المرأة في مجتمع الحضارة

ضياع حقوق المرأة في مجتمع الحضارة إن أعداء الإسلام يكرهون المرأة والرجل، ويكرهون الإسلام كله، ويريدون أن نضل السبيل، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، إنهم يناقضون كل هذه الأشياء، فيقولون عن الحدود بأنها وحشية وقسوة، وإن كانت تصلح في عصر الخيمة والبعير لكنها لا تصلح في عصر الطائرة والصاروخ والمركبة الفضائية؛ هكذا يقولون، ونسوا أو تناسوا أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير، يعلم ما حدث في الماضي، وما يحدث في المستقبل، وما يصلح البشرية! ثم قالوا أيضاً عن القلب: لا مانع أن يتمتع المجتمع ولو عن طريق السماع، فكانت هناك مسرحيات، وكانت هناك أمور هائلة ومصائب كبيرة تصك أذان المؤمنين من خلال وسائل الإعلام تتحدث عن الفاحشة والجريمة والخيانات الزوجية، إلى غير ذلك مما هو في الأفلام، وقالوا عن الاختلاط: إنه رقي وتحضر، وإن المجتمع الذي لا يختلط -كما ذكرت لكم سالفاً- تصبح فيه وحشة بين الذكر والأنثى، ويصبح هذا الرجل دائماً يلهث وراء هذه المرأة، لكنه حينما يختلط بها ويندمج معها، ويراها مكشوفة أمام عينيه، وتكون سهلة له، يصبح الأمر طبيعياً فتزول هذه الوحشة! كما يقولون. ونحن نقول لهم: كذبتم ورب الكعبة؛ لأن المجتمعات التي تساهلت في شأن المرأة، والتي تفسخت فيها المرأة واختلطت بالرجل، هي المجتمعات التي أثبتت الرقم القياسي في الانحراف في الفاحشة والجريمة، ولذلك فإن البلاد التي يقولون عنها إنها راقية، فيها إحصائيات للاختطاف وللخيانات الزوجية وللفواحش وللقتل وللسلب تسجل بالدقيقة أو بالثانية، وأصبح الأولاد غير الشرعيين في البلاد التي يزعم أهلها بأنها بلغت مستوى عالياً من الحضارة والتقدم، فاستطاعت أن تقضي على الوحشة بين الرجل والمرأة، أصبحت المحاضن ودور الأيتام والأطفال اللقطاء والأولاد غير الشرعيين تشتكي من هذا الفيض العظيم الذي لا تستطيع أن تتحمله. والبلاد التي تبرجت فيها المرأة وانحلت، بلغت أيضاً مستوى من الرذيلة لا نظير له، وهذه مشكلة، والمشكلة الأكبر منها أن تقوم في المجتمعات الإسلامية أمم منحرفة تطالب بشيء كان العدو وما زال يحذرنا منه، حيث وقع فيه فأصبح يعض أصابع الندم، ويضرب يداً بيد على ما كسبت يداه، ويريد هؤلاء المنحرفون أن يبدأ المسلمون من حيث ينتهي العدو، وهذه تعتبر من أطم البلايا وأكبر المصائب، ولذلك فإنهم يتهمون المجتمع الإسلامي بأنه مجتمع متقوقع متخلف، أصبحت فيه المرأة كما يقولون: سوداء مظلمة، أصبحت معطلة وطاقة لا يستفاد منها، مجتمع لا يتنفس إلا برئة واحدة، مجتمع منحرف ضال متخلف؛ لأن المرأة لا تقود فيه السيارة؛ لأن المرأة لا تشتغل فيه بجوار الرجل، وكما يقول الشاعر: أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام وإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام ولنا درس في الأمم التي سبقتنا إلى هذا الأمر، تلك الأمم التي أصبحت المرأة لا كيان ولا وجود لها، بل إن القوانين التي تتابع المجتمع المنحرف في سيره أصبحت تهبط بمقدار ما يهبط هذا الإنسان، فإذا هبط الإنسان درجة هبطت هي درجتين من أجل أن تحقق للإنسان في أنظمتها الأشياء التي يريدها هذا الإنسان المنحرف، حتى لقد سمعنا في الأخير نواد للعراة في بعض دول الكفر، وسمعنا الشذوذ الجنسي، وزواج الذكر بالذكر أصبح أمراً رسمياً في بعض البلاد الكافرة، ورأينا بأعيننا دوراً للدعارة في وضح النهار، وتحمل تصريحات من الدولة في بعض البلاد الإسلامية، وتحرسها عيون تلك الدول بل رأينا ما هو أخطر من ذلك، رأينا شباباً ألهبته هذه الأفلام الجنسية الصارخة التي جاءت بمهمة خطيرة في البلاد المحافظة كبلادنا هذه، فرأينا كثيراً من الشباب يرقبون عقارب الساعة، وينتظرون الفرص التي تسنح لهم ليذهبوا إلى بلاد لا تعرف أعرافاً ولا أخلاقاً ولا ديناً. فرأينا مع الأسف الشديد الخطر الداهم، ونحن نرى أبناء المسلمين يذهبون إلى بلاد الدعارة والمخدرات وبلاد والفساد إلى آخره، حتى رأينا هذه الطائرات وهي تستعد قبل هذه المواسم بمدة طويلة، وهي تسجل هؤلاء الشباب ليذهبوا إلى بلاد لا تعرف خلقاً ولا ديناً ولا فضيلة، والضحية في ذلك كله هي المرأة، بل إن الأمة الإسلامية كلها تعتبر ضحية لهذا الواقع الأليم، فانتشرت المخدرات في بلاد المسلمين بسبب هذه البلاد التي لا تحترم أي فضيلة ولا تحسب لها أي حساب. وفي هذه الفترة التي رأينا المرأة تباع وتؤجر، ويتعامل فيها بعض هؤلاء الناس كما يتعاملون بأبسط الأمتعة؛ رأينا مع ذلك كله ضجة كبرى وصحية عارمة تزعم أنها تسعى لحقوق المرأة، وهل حرية المرأة أبقت للمرأة أي حقوق؟ هل تعلمون أيها الإخوان! أن في تايلاند البلد الكافرة التي يسافر لها شباب المسلمين بالآلاف يومياً، هل تعلمون أن البنت هناك تباع كما تباع الماعز في الأسواق، وتؤجر كما تؤجر الشقق بأبسط الأثمان؟ أم هل علمتم أيها الإخوان! أن المخدرات في تلك البلاد تباع كما تباع المشروبات المباحة في بلادنا؟ إذاً: لماذا يذهب شبابنا إلى هناك؟ ولماذا تسقط المرأة إلى هذا المستوى؟ وإذا كانت المرأة قد سقطت على أيدي هؤلاء المخربين إلى هذا المستوى ودون ذلك، فلماذا يزعم مدعو الحضارة أن للمرأة حقوقاً، وأنهم يطالبون بهذه الحقوق؟ أي حقوق بقيت؟ إن الله تعالى هو الذي أثبت حقوق المرأة، فكانت المرأة تورث في يوم من الأيام، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، فكان الرجل إذا توفي وله أولاد من غير هذه المرأة التي خلفها وراءه؛ يتسابق أولاده فأيهم وضع عليها رداءه يكون أحق بها؛ إن شاء تزوجها، وإن شاء نكحها بدون زواج، وإن شاء باعها، وإن شاء فعل فيها ما يريد، إلى أن أنزل الله عز وجل قوله: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا). وأرى المرأة في عالم الحضارة المزعومة في القرن العشرين حضارة الجاهلية الثالثة التي لم تسبق مثلها جاهلية قط في انحرافها أرى المرأة قد سقطت عن ذلك المستوى بكثير، فأصبحت المرأة تباع وتشترى، وتؤجر وتمتهن وتحرم حتى متعة الحياة الزوجية الراشدة الثابتة التي تبنى على قواعد سليمة، وعلى عش سليم حتى يكون لها أولاد، وحتى تتحقق لها العاطفة التي أعطاها الله عز وجل حتى للحيوان؛ التي هي عاطفة الإنجاب والأولاد، لكن المرأة في عصر الحضارة المزعومة تحرم من ذلك كله في كثير من الأحيان، لقد سقطت المرأة فأصبحت في بريطانيا لا تساوي نصف جنيه إسترليني تدفعه هي لتبحث عن زوج لعلها تجد فيه عشاً آمناً. والمرأة في بلادنا مكرمة والحمد لله، ولكن يقوم اليوم أناس على قدم وساق من مدعي الحفاظ على حقوق المرأة وعلى حرية المرأة يقولون: إنها امرأة مهضومة، مع أنه لا يحصل عليها الرجل غالباً إلا بأموال طائلة، لنفاستها وعزتها وكرامتها. إذاً أيها الإخوان: المرأة يريد لها أعداؤها كما يقول الله عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، ويريد الله لها عز وجل العزة والكرامة: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]. إذاً: علينا أن نعرف أعداء المرأة، وعلى المرأة أن تعرف أعداءها، وألا تنسى أعداءها أو تتجاهلهم في غمرة الادعاءات الكاذبة المزعومة التي كثر فيها أنصار المرأة، ولكن لا نجد لها نصيراً إلا دين الله عز وجل، الذي أنزل حقها في الميراث، وكانت محرومة عبر القرون الماضية؛ حتى أنزل الله عز وجل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء:7]، حتى الإبرة يجب أن تقاسمها إخوانك: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، كل ذلك يؤكد حقها.

أعداء المرأة وشبهاتهم حولها

أعداء المرأة وشبهاتهم حولها أيها الإخوان! أعداء الإسلام الذين يكرهون المرأة والمجتمع والأخلاق هم على نوعين: نوع من الخارج يسهل اتقاؤه والحذر منه. ونوع من الداخل وهم الذين يقول عنهم الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند فإذا كان الإسلام يحارب بيد أبنائه فهنا يكمن الخطر، ومن هنا تأتي المصيبة والبلية، ولذلك فكثيراً ما نجد هؤلاء الذين ينتقدون الإسلام بتشريعاته -وهم من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا- نجدهم يضعون شبهات وعراقيل في طريق المرأة المسلمة، حتى يحولوا بينها وبين ربها، وبينها وبين دينها، وبينها وبين كتاب ربها سبحانه وتعالى، وهو القرآن الذي هو دستور الأمة الخالد، وذلك من خلال شبه يقذفونها في هذا المجتمع، فمن الأشياء البسيطة التي وجدت الآن: عراك عنيف في الصحف والرسوم الكاريكاتيرية والإذاعات وغيرها عن تعدد الزوجات على سبيل المثال، حتى أصبح الأمر الآن أمام طائفة من الناس أعظم من الزنا، بل إن أحدهم لو سمع أن أحداً زنى ألف زنية -نعوذ بالله- لكان ذلك أسهل في نظره من أن يتزوج بزوجة أخرى، ويقولون: هذا إهانة للمرأة.

شبهة تعدد الزوجات والرد على أباطيلها

شبهة تعدد الزوجات والرد على أباطيلها الحقيقة أن هؤلاء لا يستحقون الرد، ولكننا نريد أن نضع على هذه الشبهة شيئاً من الضوء حتى يبين لهؤلاء الأعداء إن كانوا يبحثون عن الحق -وأظنهم لا يبحثون عنه- شيئاً من حكمة الله عز وجل التي تتجلى في هذا الأمر. نقول: تعدد الزوجات أمر مستحب ومسنون، والذي بواسطته نستطيع أن نستهلك الطاقة البشرية النسوية التي تكثر في أيامنا الحاضرة ويقل معها الرجال، وقلة الرجال سواء كان في حصول الولادة، أو في الأحداث التي تطحنهم أكثر من النساء سواء كان في الحروب أو في الحوادث المفاجئة، أو لأي سبب من الأسباب، ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في آخر الزمان يقل الرجل وتكثر النساء، حتى يصل الحد إلى أن يكون لخمسين امرأة الرجل الواحد يلذن به من قلة الرجال، وهذا شيء نشاهده، وطبيعة في خلق الله عز وجل كله، فالإناث دائماً أكثر من الذكور، ولو نظرت إلى الدجاج كنموذج واضح، وأردت أن تعد نسل الدجاجة لتحصي الذكر من الأنثى لوجدت الذكر لا يساوي إلا العشر تقريباً بالنسبة لإنتاج الدجاجة، وهكذا سائر الحيوانات، وبنو آدم أيضاً لهم نصيب من هذه الكثرة وتلك القلة. وما هو السبيل الذي نستطيع أن نكفل به حماية المجتمع من الفساد، وإغناء هذه النساء اللاتي يزداد عددهن أضعافاً مضاعفة عن الرجال؟ ثم أيضاً إعطاء كل واحدة منهن الفرصة لتتمتع برجل أو بنصف أو بثلث أو بربع رجل، والفرصة الكبرى التي تنشدها المرأة هي أن تعيش في عش زوج على قواعد صحيحة، وأن تنجب أولاداً تشبع بهم عاطفتها، وليس هناك طريق لتحقيق هذا إلا أحد سبيلين: إما الزنا وإما التعدد. والزنا هو فساد الأمم وفساد المجتمعات، والتعدد هو الحكمة التي أرشدنا الله عز وجل إليها في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، والعجيب أن أعداء الإسلام لا يغفلون في مخيلتهم هذه القاعدة وهذا الاختلاف في التوازن في عدد الرجال والنساء، وهذه العاطفة الشهوانية التي فطر الله عليها الناس، وهذه الحاجة الملحة التي تفرض على الرجل أو تبيح له أكثر من زوجة حتى يستطيع أن يسد حاجة نفسه وغيره، ولكن لما كانوا أعداءً حاقدين على الإسلام كانوا يتناسون ذلك كله، ويعتبرون ذلك تخلفاً ورجعية وإهانة للمرأة، وتضييعاً لحقوقها. إذاً: هم يريدون من المرأة أن تكون منحرفة، ولا يريدون منها أن تكون مستقيمة، ويريدون منها أن تنجب أولاداً بالسفاح بدل أن تنجب أولاداً بالنكاح الصحيح، ولذلك يحاربون تعدد الزوجات حتى أصبح في مجتمع بعض البلاد الإسلامية -إن لم أقل في مجتمعنا هنا- من السهل أن يأتي الرجل بشابة من الفلبين أو من أي بلد، وهي فتاة جميلة يضعها في بيته ويخلو بها هو أو أولاده، وهذا يعتبر تحضراً ورقياً وأمراً يفرضه العصر كما يقولون، البيوت الواسعة النظيفة المفروشة تفرض علينا أن نأتي بهذا، لكن لو أن واحداً من الناس فكر في زوجة أخرى لأصبح هذا في نظر طائفة من هؤلاء الناس متخلفاً وليس بتقدمي. وهكذا تنعكس المفاهيم، وذلك مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأنه سيأتي زمان يعود فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فأصبح المعروف الذي هو تعدد الزوجات، والذي تطالب به بعض بلاد الكفر كألمانيا في أيامنا الحاضرة؛ لأن نسبة الرجل إلى المرأة يساوي ثلاثة الأضعاف، لكن في بعض بلاد الإسلام يعتبرون تعدد الزوجات تخلفاً، والرقي والتقدم هو أن نجمل بيوتنا بشيء من هذه الخادمات، وكأنها أثاث يوضع مع البيت، ونختارها من أجمل وأصغر الفتيات، ونأتي بها من وراء آلاف الأميال، بعيدة عن أهلها وطبيعتها لنضعها في مجتمع محافظ، أسال الله سبحانه وتعالى أن يحفظه من أيدي هؤلاء المخربين. إذاً: أصبح الإتيان بخادمة ولو كانت كافرة تربي الأطفال على خلاف الفطرة، هو التقدم والرقي، وأصبح تعدد الزوجات الذي شرعه الله عز وجل من فوق سبع سماوات من أجل أن يكون هناك تناسق بين الذكر والأنثى، ومن أجل أن يكون هناك استهلاك للطاقة البشرية إذا زاد أحد الجنسين على الآخر، يعتبر هذا هو التخلف! ولذلك فإنهم يريدون بالمرأة سوءاً. ومن إرادتهم للمرأة سوءاً أن يشغلوا زوجها بخادمة أجمل منها، فلقد تكون هذه المرأة عجوزاً، أو مريضة، أو لا تستطيع أن تقوم بحقوق الزوج، لكنهم يحرمونه في نظرهم من زوجة أخرى على فراش مباح طاهر، ولربما يعيش مع تلك المرأة التي جاءت باسم مربية أو خادمة، ومن هنا ينتشر الفساد العريض في الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). ولقد انخدعت طائفة من النساء بهذه الدعايات، وقلن: إن تعدد الزوجات أمر يضر بالمرأة، وهؤلاء النساء لا ينظرن إلى هذه الحياة إلا من زاوية ضيقة، فحقدت بعض النساء اللواتي لا يفهمن الإسلام على الإسلام، كيف يبيح تعدد الزوجات، ولكني أرى الكثير الغالب والحمد لله لم يتأثر بهذه الدعايات المضللة؛ لأننا نعيش فترة وعي بالنسبة للمرأة، فلقد تعلمت المرأة وقرأت وكتبت وفهمت دينها، فأصبح كثير منهن لا يتأثرن بهذه الدعايات المضللة. ولكننا نقول: إن علينا أن نكون على حذر من هؤلاء الذين يلفون الباطل بلفائف مكشوفة في الحقيقة يريدون أن يروجوا هذا الباطل.

شبهة جعل الطلاق بيد الرجل

شبهة جعل الطلاق بيد الرجل أيها الإخوان! إن الذين يشوهون الإسلام يقولون مثلاً: لماذا الطلاق؟! وإذا كان ولا بد من الطلاق فلماذا يكون بيد الرجل فقط؟! وهم يريدون من ذلك أن تقوم المرأة التي لا تفهم الإسلام كما قام في باكستان مجموعة من النساء اللواتي لم يفهمن الإسلام فهماً صحيحاً يقلن: لماذا الطلاق بيد الرجل ولا يكون بيد المرأة؟ ونسي هؤلاء أو تناسوا العقلية الكبيرة التي يمتاز بها الرجل على المرأة، والتأني والتؤدة التي يعطيها الله عز وجل بعض خلقه دون بعض، ولذلك يقول علماء النفس: لو كان الطلاق بيد المرأة لوقع في اليوم عدة مرات؛ لأن المرأة بعواطفها وبتسرعها واستجابتها لرغباتها، وانصياعها أمام شهواتها دفعة واحدة، قد تفعل شيئاً من ذلك، ولذلك فإن حكمة الله عز وجل تتجلى حينما أعطى الطلاق للرجل لا للمرأة؛ لأن الرجل إذا أراد أمراً فكر فيه وتأنى؛ ولأن الله عز وجل لا يريد أن يقع الطلاق؛ لأن الطلاق يهدم الأسر، ويقوض البيوت، ولذلك نجد أن القرآن عالج مشكلة الطلاق علاجاً لا يمكن أن يكون مثله في أي نظام من أنظمة الأرض وأنظمة البشر التي يصنعونها لأنفسهم أو لغيرهم، الإسلام أمر الرجل بأن يصبر على المرأة ولو كرهها كراهية شديدة: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر)، وإذا توترت العلاقات يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، كل هذا من باب التأديب، وإذا توترت العلاقات وزاد الأمر سوءاً: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. إذا أعيت كل هذه الحلول وكان لابد من الفراق، حينئذ يكون الطلاق هو الحكمة والمصلحة؛ لأنه هو آخر علاج يجب أن يقدم لهذين الزوجين ما داما قد تنغص عندهما العيش، وما دامت الحياة الزوجية قد فسدت، ولابد إذاً من حل هذا الزواج، ولكن يجب أن يكون على قواعد أخرى ثابتة، فيكون هناك طلاق السنة وطلاق بدعة، وحينئذ من أراد أن يطلق فإنه يتحرى طلاق السنة، ولربما في هذه الفترة التي ينتظر فيها طلاق السنة تعود الأمور إلى مجاريها. ثم أيضاً إذا طلق يجب أن تكون طلقة واحدة، ويعطى ثلاثة أشهر أو ثلاث حيضات وأطهار حتى ينظر في أمره، ويجب عليها أن تبقى في بيت زوجها حتى ينظر إليها دائماً لعله يرغب فيها في يوم من الأيام: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، وحينئذ يعطيه الله عز وجل الطلقة الأولى والطلقة الثانية، وإذا كانت الثالثة كان الفراق الأبدي حتى تنكح زوجاً غيره. كل ذلك علاج حتى لا يكون الطلاق بسرعة، ولو كان الطلاق بيد المرأة لكانت المرأة لا تملك هذه القوى العقلية بطبيعتها وفطرتها، وإن كان منهن من يملك ذلك لكن النظر إلى الغالب، فلربما يقع الطلاق فجأة وتتهدم البيوت وتنهار الأسر، ثم أيضاً لا يعتبر الطلاق فساداً للعلاقات، وإنما يقول الله: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ويعد الله عز وجل كل واحد من المطلق والمطلقة أن له نصيباً في هذه الحياة، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130]. إذاً: الطلاق الذي شرعه الله عز وجل بعد علاج طويل، وسعي حثيث حتى تعود هذه العلاقات إلى طبيعتها؛ وهو يعتبر في الحقيقة من فضائل هذا الدين، وحينما يعتبرونه من التخلف أو الوحشية فقد كذبوا على الله عز وجل، وكذبوا على دين الله.

شبه في حقوق المرأة المالية والاجتماعية

شبه في حقوق المرأة المالية والاجتماعية يريدون من المرأة المسلمة أيضاً: أن تخرج على الأوضاع الاقتصادية، ويقولون: أيتها المرأة! لماذا يعطيك الإسلام نصف ما يعطي الرجل من الميراث؟ ألست إنساناً كالرجل له حقوقه ومتطلبات حياته؟ ونسي هؤلاء أو تناسوا التكاليف المالية التي يطالب بها الإسلام الرجال ولا يطالب بها النساء، فالله سبحانه وتعالى يطالب الرجل بتكاليف الزواج، فالمهر يدفعه الرجل ولا تدفعه المرأة، مؤن البيت والسكن والكسوة والنفقة، كل ذلك يلتزم به الزوج ولا تلتزم به الزوجة، الدية يطالب بها الرجال ولا تطالب بها النساء، وهكذا كثير من الأمور التي تلزم الرجال ولا تلزم النساء، ولو عملنا حساباً لرجل وامرأة أخوين ورثا أباهما فأخذ الابن الثلثين وأخذت البنت الثلث، ثم نظرنا إلى هذا المال بعد مدة قصيرة من الزمن، لوجدنا أن ثلث المرأة لم ينقص درهماً واحداً، وأن ثلثي الرجل قد استهلك كله في مؤن وتكاليف الزواج ومصاريف البيت وغير ذلك من الأمور التي تلزم الرجال ولا تلزم النساء. وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، فهو يعطي الرجل بمقدار ما يعطي المرأة مرتين، ويعطي المرأة نصف ما يعطي الرجل مراعاة لهذه الظروف التي تتطلب مالاً من الرجل ولا تتطلب مالاً من المرأة. ويقول الذين يريدون سوءاً بهذه المرأة: إن الإسلام يظلم المرأة، لماذا لا يقبل شهادتها في كثير من الأمور؟ وإذا قبل شهادتها في الأمور المالية، لماذا يعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل؟ يقولون هذا الكلام، ونسوا ما فطر الله عز وجل عليه المرأة من عواطف رقيقة لا تستطيع فيها أن تتحمل حتى الشهادة. فمثلاً في الجنايات والحدود والقصاص، المرأة لا تستطيع أن تنظر إلى شيء من ذلك؛ لأنها سريعة التأثر، فلو نظرت إلى رجل يقتل إنساناً أو يجرحه أو يضربه، أو رأت قصاصاً أو أي جريمة من الجرائم وحد من الحدود لا تستطيع أن تنظر إليها؛ لأن عواطفها رقيقة، ولذلك لم يقبل الله عز وجل شهادتها في مثل هذه الأمور، وإنما قبل شهادتها في أمر واحد فقط، وهي في الأمور المالية محافظة على أموال الناس، ولكن الله عز وجل أيضاً لم يظلمها ولم يبخسها حقها حينما اعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل؛ لأن الله تعالى بين السبب في ذلك وقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، أي لئلا تضل إحداهما، أو كراهية أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والمرأة بطبيعتها ومشاغلها وشئونها الخاصة والعامة لا تستطيع أن تضبط كل هذه الأمور كما يضبطها الرجل، ولذلك جعل الله تعالى شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد في الأمور المالية فقط من أجل مراعاة هذه العواطف، ومراعاة لهذه الذاكرة التي امتلأت بأشياء كثيرة أكثر من الرجل.

ثياب أعداء المرأة الجدد

ثياب أعداء المرأة الجدد على كل أيها الإخوان: المرأة مستهدفة، وأعداء الإسلام يركزون على المرأة؛ لأنهم يعرفون خطورتها في المجتمع، ولذلك يقول قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة؛ فعليكم بالمرأة، فاتخذوا من المرأة وسيلة ولكنهم تفننوا فلم يأتوا باسم إهانة المرأة، وإنما جاءوا باسم حقوق المرأة، وحرية المرأة، وما أشبه ذلك. أي حق للمرأة، وأي كرامة للمرأة الكافرة أو المسلمة التي انخدعت بالدعايات المضللة ونحن نراها بهذا الشكل؟ أصبحت لعبة بأيدي الرجال، حتى أنها فقدت كل عواطفها الإنسانية وأصبحت وسيلة تسلية، انظر إليها وهي في الطائرة تقوم بدور الخدمة، وأنت تلاحظها وكأنها وضعت دمية يتسلى بها هؤلاء الرجال، أو انظر إليها في المتاجر التي تعرض بضائعها من خلال فتاة جميلة يعتبرونها وسيلة للإغراء، إذاً: أصبحت المرأة دمية ولعبة بأيدي هؤلاء العابثين، في وقت يزعمون فيه أنهم يدافعون عن حقوقها وحريتها. أما المرأة المسلمة فقد أكرمها الله عز وجل وصانها عن ذلك، وأمرها بأن تلتزم حتى تكون في مصاف زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها كما قال لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، لا ترقق صوتها مع الرجال الأجانب حتى تثير الفتنة، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، لا تذهبن إلى العمل، فالرجال هم الذين يقومون بهذا الدور، وحينما يقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، لا يريد المرأة أن تكون خادمة فحسب في البيت، وإنما يريد أن تكون مربية في البيت، ولذلك الذين يزعمون أن المرأة قد عطل منها المجتمع، فشغلوا المرأة، ولم يستطيعوا أن يعوضوا هذا البيت إلا بخادمتين أو بثلاث أو بأربع مربيات يقمن بالدور الذي كانت تقوم به هذه المرأة في بيتها يوم كانت تقوم بدورها حقيقة، فالله تعالى يقول لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، يقول العلماء: إما من الوقار أو من القرار، فإذا كان من الوقار فبقاء المرأة في بيتها هو الوقار، وإذا كان من القرار فإن بقاء المرأة في بيتها أيضاً هو المصلحة. {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وأظن أن التبرج الموجود الآن لا يقل عن تبرج الجاهلية الأولى، ولذلك فإن الجاهلية الثانية وهي ما جاء قبيل الإسلام شددت في أمر المرأة، حتى قال قائلهم وإن كنا لا نوافقه على ذلك: إياك وشم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم وكانوا يقتلون البنت خشية العار، وخوفاً مما حدث في الجاهلية الأولى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، والله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وإذا كانت هذه هي الوسائل التي يذهب فيها الله عز وجل الرجس عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أي رجل يريد أن يذهب الرجس عن بيته فإن هذه وسائل إذهاب الرجس عن أي بيت من بيوت المسلمين. ولذلك أيها الإخوان! يجب أن لا نخسر هذه المرأة، بل نقوم بتربيتها وفق منهج صحيح جاء من عند الله عز وجل، ولا نغتر بأعداء الإسلام فإن أعداء الإسلام والله لن يرحمونا ولن يتركونا حتى نكون مثلهم، وحتى نضل السبيل، والله عز وجل حذرنا من موالاتهم ومشابهتهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، لا نركن إليهم بتقليد، ولا بتشبه، ولا بأي أمر من الأمور. أيها الإخوان! أعداء المرأة هم الذين يظهرون اليوم بثياب أنصار المرأة، وبأنهم يدافعون عن حقوق المرأة وعن حريتها، ولكننا على ثقة أن كل من طالب بحقوق المرأة لا يستطيع أن يعطيها جزءاً بسيطاً مما أعطاها الله عز وجل الذي كرمها، فقال سبحانه وتعالى: {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. ولذلك نقول: لا ننخدع بهذه الدعايات المضللة، المرأة المسلمة عليها أن تعرف عدوها، وعليها أن تقرأ كتاب ربها سبحانه وتعالى بتفهم وتدبر ويقظة، وعليها أن تعرف عدوها من صديقها، وحينئذٍ فإننا على ثقة -بإذن الله- أنها لن تنخدع بهذه الدعايات المضللة. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

خطر الخلوة المحرمة وعلاقتها بالزنا

خطر الخلوة المحرمة وعلاقتها بالزنا Q هل تعتبر الخلوة جانباً من جوانب الزنا؟ A أنا ما قلت إنه جانب من جوانب الزنا، وإنما قلت: وسيلة من وسائل الزنا، فالله تعالى حرم الخلوة، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، وحرمها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وإذا كان الشيطان هو الثالث لاثنين؛ فإن ذلك يسبب فتناً كثيرة؛ لأن الشيطان لن يترك الأمور تمشي بطبيعتها. ولذلك أقول: اجتنب هذه الخلوة سواء كانت في سيارة، أو مصعد، أو داخل بيت، أو أي مكان، وحينما يحدث شيء من ذلك نحن لا نقول: إن الفاحشة ستحدث لا محالة، ولكننا نقول: هذه الحال خطر؛ لأن الشيطان سيكون ثالث الرجل والمرأة إذا انفردا، فعليك أن تبتعد سواء كان في المصعد أو غيره، فإذا دخلت المصعد ودخلت عليك امرأة تترك المصعد لها، إلا إذا كان معكما أحد ثالث، وحينئذ تفقد الخلوة، إما أن تخلو بها فالشيطان قد يلعب على أحد منكما، أو عليكما جميعاً.

حكم ذهاب المرأة إلى المسجد الحرام برفقة زوجها

حكم ذهاب المرأة إلى المسجد الحرام برفقة زوجها Q أنا شاب متدين ومتزوج من فتاة متدينة -ولله الحمد- ونحن سعيدان في حياتنا؛ إلا أنني أسكن في مكة، وكلما أردت الذهاب للحرم المكي أرادت زوجتي الذهاب معي، ونظراً لصعوبة الدخول مع طفلها أطلب منها أن تلزم بيتها، أجابت بالحديث الشريف: (وليسعك بيتك)، فماذا تقول لها ولأمثالها، وبماذا تنصحني؟ A الحديث: (وليسعك بيتك)، حديث صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن السلامة من الفتن فقال: (ابك على خطيئتك، واحفظ عليك لسانك، وليسعك بيتك)، وهذا عام للرجل والمرأة، وكلمة: (ليسعك بيتك)، ليس معناها: لا تخرج، وإنما معناه: لا تخرج إلا لحاجة، وذلك يكون عند الفتن، والحمد لله هذه الفتن التي أشار إليها الحديث لم توجد بعد، وعلى كل فإن المرأة خير لها بقاؤها في بيتها كما في قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وحتى خروجها للمسجد جائز، لكن بقاؤها في بيتها أفضل لها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقاؤها في قعر البيت أفضل لها من بقائها في طرف من أطراف البيت، وصلاتها في أقصى خدرها في بيتها أفضل لها، لكن لا يجوز منعها من المسجد كما جاء ذلك في الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وصلاتهن في بيوتهن خير لهن). وعلى هذا نقول لك: جائز أن تذهب بها إلى المسجد الحرام، وذلك لا ينافي السنة، لكن بشروط: أن تكون غير متطيبة، وغير متبرجة، ومحتشمة، وحينئذ لا تمنعها من ذلك إذا كنت تستطيع إيصالها بأي وسيلة من الوسائل، لكن ذلك أمراً ليس بلازم؛ لأن صلاة الجماعة إنما هي واجبة على الرجال دون النساء؛ لأن الله تعالى يقول عن المساجد: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، أي: لا نساء؛ لأن النساء لا يطالبن بصلاة الجماعة، لكن ما دامت ترغب في الذهاب إلى المسجد الحرام فحاول ألا تمنعها؛ لأن في ذلك مضاعفة للحسنات بالنسبة لها؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أي مسجد الكعبة الذي ترى فيه الكعبة يساوي مائة ألف صلاة فيما سواه. وعلى هذا نقول: إن الذهاب بها أفضل، ما دامت هذه المضاعفة موجودة، ولكن ذلك لا يلزمك؛ لأنه ليس من الواجبات بالنسبة لك. أما إذا كان هناك خطر على الطفل، أو خطر عليها هي، أو خطر من أي شيء من الأشياء، فهذا يكون سبباً من الأسباب التي تمنع من الذهاب بها إلى المسجد، لكن إذا لم يكن هناك سبب يحول بينها وبين الذهاب إلى المسجد الحرام، فالأفضل أن تذهب بها ولك أجر وهي لها أجر لمضاعفة الحسنات.

دور المرأة في المجتمع

دور المرأة في المجتمع Q يقال: إن المرأة نصف المجتمع، ما هو قول فضيلتكم حيال ذلك المعنى، وجزاكم الله خيراً؟ الجوب: حقيقة هي نصف المجتمع؛ لأن النساء شقائق الرجال، فهي نصف المجتمع من حيث العدد أو الأهمية أو المسئولية، حيث يتعاون الرجل والمرأة على أعباء هذه الحياة، لكنها مهمة أيضاً في المجتمع؛ لأنها تقوم بدور تربية الأولاد، خلاف ما يظنه أعداء الإسلام من أننا نبقيها للخدمة فقط، والحقيقة أن الخدمة أيضاً أمر تؤجر عليه المرأة في بيتها، لكنها تقوم بدور أهم من الخدمة وهو تربية الأولاد، ولذلك فإن الأم لها دور في تربية أولادها وإعدادهم إعداداً صالحاً سليماً أكثر من دور الزوج أيضاً، وذلك إذا تولت الفترة الأولى التي يندر أن يكون الأب مع أولاده فيها التي هي فترة الطفولة إلى حد التمييز، ولذلك تكاد أن تنفرد بتربية الأولاد في هذه الفترة، بل إنها أيضاً تتولى ما بعد ذلك، ولذلك فإن لها دوراً هاماً يجب أن تقوم به.

التبرج والسفور ودور الرجال والنساء في الحد منه

التبرج والسفور ودور الرجال والنساء في الحدِّ منه Q نظراً لكثرة التبرج، وخروج النساء كاسيات عاريات، حتى المتحجبة قد تتحجب بحجاب بعيد عن الشروط الشرعية، وهذا يدل على مستوى الجهل الذي حل بالنساء، فما الحل، وما دور المرأة المتدينة تجاه ذلك، وما دور الرجال تجاه ذلك أيضاً؟ A الحل هو العودة إلى حكم الله عز وجل، وإلى القرآن الذي أرشد المرأة إلى سبل الفضيلة، وكما قلت لكم: إن الله عز وجل ذكر التبرج كسبب من أسباب الزنا؛ لأن الله تعالى لما ذكر في سورة النور الزنا ذكر له أسباباً، وذكر من أسبابه التبرج، وذكر من أسباب العفة غض البصر وإحصان الفرج، ولذلك نقول: هذا التبرج الذي أشار إليه الأخ السائل أصبح الآن خطيراً، سواء كان في صور المواجهة التي يشاهدها الإنسان من هذه المرأة وجهاً لوجه، أو من الصور المتحركة التي يشاهدها كثير من الناس من خلال الأفلام، أو من خلال الصور الثابتة، أو من جهات أخرى. ولذلك نقول: إن التبرج محرم، والتبرج معناه: إظهار الزينة. من البرج وهو المكان المرتفع الذي يرى من بعيد، والتبرج له طرق شتى ووسائل متعددة، سواء في ذلك إخراج زينة البدن، أو إخراج الثياب الجميلة، أو لبس الملابس الرقيقة أو الضيقة أو ما أشبه ذلك من الطرق الأخرى، وعلى هذا نقول: إن المرأة المسلمة لا تتبرج ولا تخرج شيئاً من جسدها ولا تفتن الناس. وهي حينما تفتن هؤلاء الناس تسأل يوم القيامة عن كل من كانت سبباً في فتنته وضلاله، ولذلك تتحمل هذه المسئولية، وتتحمل هذا الأمر الذي تنشره في هذا المجتمع. والتبرج أيضاً ورد فيه أحاديث شديدة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد؛ رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). والمرأة المسلمة أنصحها بأن تقتدي بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، يعني: لا ترقق صوتها: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33]، ثم قال بعد ذلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، أي: تبليغ دعوة الإسلام. ولذلك فإنا ننصح الفتيات المؤمنات اللاتي هداهن الله عز وجل في هذه الفترة أن يقمن بدور الدعوة والإصلاح، فإن المرأة تتقبل من المرأة أكثر مما تتقبل من الرجل، وأن تكون داعية إصلاح وعفة وطهارة، والله تعالى يكتب لها أجر الجهاد في سبيل الله تعالى، كما ندعو أيضاً الآباء والأولياء والرجال عامة أن يربوا هذا النشء تربية إسلامية صحيحة، حتى لا يكون في هذا المجتمع هذه الأشياء التي نحذرها ونخاف من نتائجها. هذه النساء أمانة أيها الرجل! أيها الولي! أباً كنت أو أخاً، أو مسئولاً أي مسئولية من المسئوليات، هذه أمانة في عنقك: عليك أن تخشى الله عز وجل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الأب راع في بتيه ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وهذه المسئولية تكون بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ فإن الله تعالى إذا أوقف الناس بين يديه للحساب يوم القيامة، جاءت هذه البنت وقالت لله عز وجل: يا رب! زده عذاباً ضعفاً في النار -تعني أباها- إنه خانني، ولم يربني تربية صالحة، فلنتق الله عز وجل في هذه الذرية، فلا تبرج، ولا سفور، ولا ازدحام مع الرجال، ولا اختلاط، ولا نغتر بهذه الدعايات فإن أعداء الإسلام يريدون أن نضل السبيل، والله المستعان عليهم.

حكم ولاية المرأة في الإسلام

حكم ولاية المرأة في الإسلام Q ينقل عن الكاتب خالد محمد خالد مقولة مفادها: بأن تعيين رئيسة وزراء باكستان لرئاسة المسلمين من الرجال والنساء أمر لم يحرمه الإسلام، بدليل أن بلقيس كانت ملكة على أهل سبأ، واستشهد الكاتب بأن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كن النساء شقائق الرجال، واستشهد بمقولة عمر بن الخطاب: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)، وحديث: (النساء شقائق الرجال)، وفسرها بأنها تعطي حقاً للمرأة في ولاية المسلمين، فما رأيكم جزاكم الله خيراً في ذلك؟ A خالد محمد خالد لا تغتروا به، وقد كان رجلاً منحرفاً ويقال: إنه استقام، وكان من قبل رجل يحارب الإسلام، وإن كان ينتسب فترة من الزمان إلى علماء الإسلام، وهو يحارب الإسلام، وحتى بعد أن هداه الله إلى الإسلام -كما يقول- من يقرأ كتبه مثل رجال حول الرسول وما أشبه ذلك يجد في الرجل أنه لم يلتزم بعد، ولذلك إذا مر بالمتقشفين من الصحابة رضي الله يزيد عليهم؛ لأنه رجل كأنه داعية للاشتراكية، وعلى كل فالله تعالى هو الذي يتولى حساب هذا الرجل، فلا نغتر به ولا بأمثاله، ولا نأخذ ديننا من الناس وإنما نأخذه من كتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم الهادي لنا يقول: (ما أفلح أمر ولوا أمرهم امرأة)، ويكفينا ذلك، ولذلك أول مرة في تاريخ الإسلام تحكم امرأة بلداً إسلامياً، أما استدلال هذا الرجل بقصة بلقيس، فـ بلقيس امرأة كافرة، بدليل قولها بعد ذلك: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، والله تعالى يقول عنها قبل ذلك: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، إذاً: كيف نستدل بها، ونحن الآن نناقش قضية إسلامية لا قضية عالمية. أثر عمر رضي الله عنه لما أراد أن يحدد المهور كما استدل الكاتب هذا، فلم تحكم، وإنما كانت تبدي رأيها، ونحن نقبل رأي المرأة كما نقبل رأي الرجل إذا أرادت أن تبديه، وقد تصيب المرأة ويخطئ الرجل لا شك في ذلك. أما حديث: (النساء شقائق الرجال)، فصحيح أنهن شقائق الرجال، لكن أن تحكم المرأة على الرجال! هذا خلاف المألوف في تاريخ الأمة الإسلامية، ولذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وأولئك الذين تولى أمرهم امرأة الله تعالى يتولى شأنهم نحن لا ندري ماذا في الغيب، ولكننا نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). أما خالد محمد خالد فأنا لا أحذركم من كتبه، ولكن أقول: لا تطمئنوا إلى كتبه، ولا تنسجموا معها، فالرجل يقول: إنه استقام، وكان منحرفاً وأظنه هو الذي قال: لا يؤمر بقطع يد السارق كما لا يؤمر بقطع ذكر الزاني؟ اعتراض على الله سبحانه وتعالى. وعلى كل فإننا نقول: حتى لو قدرنا أن هذا الرجل استقام، فهو بشر يخطئ ويصيب، لكني أنا أشك في كتبه وآمر بالحذر لمن أراد أن يقرأ كتب خالد محمد خالد أو غيره من الذين مروا بفترة من الفترات التي فيها انحراف، والله المستعان.

حكم لعن النساء المتبرجات

حكم لعن النساء المتبرجات Q بعض الشباب يلعن النساء المتبرجات عندما يراهن، فهل هذا يجوز، مستدلاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العنوهن فإنهن ملعونات)؟ A هذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المرأة الزانية، لما رجم الرسول المرأة الغامدية وقد زنت واعترفت بالزنا وولدت من الزنا، ولعنها أحد الصحابة لما أصابه شيء من دمها وهو يرجمها، قال: (لا تلعنها فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم). وعلى كل فإن لعن الحي لا يجوز حتى لو كان كافراً بعينه؛ لأن اللعن معناه التسبب بالطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، ويا حبذا لو دعونا لهن بالهداية. أما أن الرسول قال: (العنوهن فإنهن ملعونات)، أظنه ليس في المرأة المتبرجة، وإنما في المرأة التي تريد أن تنافس الرجل على طبيعته وفطرته لا المرأة المتبرجة، أما المرأة المتبرجة فإنها امرأة عاصية، نسأل الله تعالى أن يردها إلى الطريق المستقيم، ونرشدها نحن إلى الطريق المستقيمة، أما اللعن فإنه ليس من صفات المؤمن: (ليس المؤمن باللعان ولا الطعان).

حكم الخلوة بالمرأة في السفر

حكم الخلوة بالمرأة في السفر Q هل يجوز لي أن أحمل معي في السيارة نساء لسن بمحارم لي ومعهن أحد محارمي كأمي أو زوجتي أو أختي؟ A نعم يجوز إذا لم يكن ذلك سفراً، المهم ألا تكون واحدة؛ لأنها لو كانت واحدة لكانت خلوة والخلوة محرمة، أما أن يكون العدد أكثر من واحدة، حتى لو لم يكن معك أحد من محارمك، إلا أن الاحتياط أن يكون معك من محارمك من تستأنس به، المهم ألا تكون خلوة وألا يكون هناك سفر، فإذا كانت هناك خلوة فإن هذا محرم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلون رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وإذا كان هناك سفر فلا يجوز ولو كان عدد من النساء ما دمن لسن من المحارم، ولو كانت معك محرم من محارمك كزوجتك أو أختك؛ لأن النساء اللاتي يسافرن معك بدون محرم عملن محرماً، وأنت أيضاً عملت محرماً؛ لأن في هذا معصية لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم حينما نهى أن تسافر المرأة بدون محرم. وهناك رأي لبعض العلماء يقولون: إذا كانت هناك رفقة نساء فيجوز أن تسافر معهن امرأة ليس معها محرم ما دامت مع نساء ولو كان سفراً طويلاً، لكن هذا الرأي وإن كان صاحبه محترماً إلا أنه خلاف الحديث: (لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم)، والرسول صلى الله عليه وسلم علم أن رجلاً اكتتب في غزوة كذا وكذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم، قال: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وزوجتي ذهبت حاجة، قال: ارجع فاذهب مع زوجتك فحج معها)، كون الرسول صلى الله عليه وسلم يرد رجلاً عن القتال في سبيل الله من أجل أن يحج مع زوجته حتى لا تسافر إلا مع محرم دليل قاطع على أنه لا يحل للمرأة أن تسافر إلا ومعها محرم ولو كان معها رفقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسأل صاحب هذه المرأة أمعها رفقة أم ليس معها رفقة؟ والله أعلم.

حكم تعدد الزوجات وأدلة ذلك

حكم تعدد الزوجات وأدلة ذلك Q ذكرتم أن تعدد الزوجات من السنة، ومن الأشياء المحببة إلى الله، ونحن قد سمعنا من بعض العلماء ورجال الدعوة من ينكر على من تزوج فوق امرأته الأولى دونما سبب. أفتونا في هذا جزاكم الله خيراً؟ A الذي ينكر على من تزوج نعوذ بالله من حاله: وهو إما أن يكون رجلاً جاهلاً، وإما أن يكون رجلاً مرتداً عن الإسلام، ومن أنكر تعدد الزوجات فهو مرتد عن الإسلام؛ لأنه أنكر صريح القرآن، ومن أنكر شيئاً من كتاب الله عز وجل فهو مرتد كافر يجب أن يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل، إلا إذا كان مثله يجهل. وعلى كل نقول: الذي يدل عليه القرآن والسنة أن تعدد الزوجات سنة وليس بمباح، وهذا الذي أعتقده أنا بأدلة: أولاً: أن الله تعالى قدم التعدد على الإفراد في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]. ثانياً: أن الله تعالى أمر بالواحدة في حال الخوف، مما يدل على أنه حينما يؤمن الخوف يكون التعدد أفضل؛ لأن القاعدة أن كل شيء نهي عنه في حال الخوف فغيره أفضل في حال عدم الخوف. ثالثاً: أن الله تعالى حرم الميل بجميع أنواعه، ولكنه أباح شيئاً من الميل مع التعدد، مما يدل على أهمية التعدد فقال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]، يعني بعض الميل الذي هو ميل القلب لا يؤاخذ عليه الإنسان ولذلك أبيح؛ لأن مصلحة التعدد أكبر. رابعاً: وهو الدليل القاطع الذي يجب أن نؤمن به جميعاً: أنه هو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل، ولو لم يكن خيراً لما سبقنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نصيحة جار لديه مسبح عائلي

نصيحة جار لديه مسبح عائلي Q لدي جار وفي بيته مسبح للسباحة، وشقتي تطل على جانب منه مثلها مثل شقق كثيرة غيرها، ويسبح الجار مع زوجاته وبناته في المسبح، فما دوري كي أنهيه؟ A أولاً: عليك يا أخي! ألا تطل عليه؛ لأن هذه عورات لا يجوز للإنسان أن ينظر إليها. ثانياً: على هذا الرجل أن يتقي الله عز وجل، وإذا كان اتخذ مسبحاً في بيته أن يظلله وأن يغطيه حتى لا ينظر إليه أحد. وعليك يا أخي! أن تنصحه؛ لأنك حتى لو غضضت عنه البصر، فلربما يأتي جار أو إنسان آخر لا يغض البصر، نقول: انصحه، وعليه ما دام قد اتخذ هذا المسبح ويسبح فيه هو وزوجته فعليه أن يظلله وأن يغطيه حتى لا تصل إليه أعين الناس.

حكم زيارة الأهل مع ما هم فيه من المنكرات

حكم زيارة الأهل مع ما هم فيه من المنكرات Q زوجتي إذا ذهبت إلى أهلها فإن في ببيت أهلها تلفاز، والموسيقى والغفلة، وإني أعلم منها عدم استطاعتها على إنكار ما عندهم من منكر، وأيضاً هم لا يقبلون منا النصيحة، فماذا أفعل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A أولاً: هي لا يجوز لها أن تقاطع أهلها؛ لأن صلة الرحم أمر مطلوب، كما أن عليها أن تغض بصرها فلا تنظر إلى التلفاز ولا إلى غيره بما فيه الصور الفاتنة، فتذهب لزيارة أهلها ولا تقطعها عن زيارة أهلها، وعليها أن تجتنب المنكر كما أن عليها أن تقدم النصيحة بين فترة وأخرى لأهلها، وتستعين بالله على ذلك.

وأد المرأة في الجاهلية

وأد المرأة في الجاهلية Q بعض الناس ممن يحسبون أنفسهم مثقفين يقولون: إن وأد النساء وعدم إعطائهن بعض ما يكرمهن مما ذكره القرآن والسنة قد بالغ فيه الإسلام، على حين أنه كان يحدث بشكل بسيط جداً، وأنه كانت هناك حقوق للمرأة في الجاهلية؟ A صحيح أن وأد البنات ليس صفة من صفات أهل الجاهلية كلهم، لكن لا شك أنه صفة من صفات بعض الناس في ذلك الوقت، والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وذكر المؤرخون أنهم كانوا يئدون البنات، بل إن الله تعالى قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى} [النحل:58]، فكلمة، (أَحَدُهُمْ)، تدل على الكثرة، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:58 - 59]، يعني: على ذلة، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، الذي هو الوأد. وعلى كل حتى المؤرخين قالوا: إن الوأد لم يقع في أشراف القوم وعليتهم، وإنما وقع في بعضهم، لكن الإسلام ما قال: إن كل النساء كانت توأد في الجاهلية، حتى يقول هذا الأخ: إن الإسلام بالغ، وإنما ذكر الله عز وجل أن هناك من يئد النساء، ولو كن النساء كلهن يوأدن في الجاهلية ما بقي نسل بني آدم في تلك الفترة، وعلى كل فإننا نقول: الله عز وجل لا شك أنه أكرم المرأة، وحتى لو قلنا: إن امرأة واحدة كان نصيبها أن توأد في الجاهلية ثم جاء الإسلام فأنقذها، فإن الإسلام يعتبر هو محرر المرأة، وهو الذي أثبت حقوقها، ويكفيكم أن الله سبحانه وتعالى أعطاها كل حقوقها من الميراث والإنسانية والبشرية والبيع والشراء والتعامل، هذه كلها حقوق؛ إذ كل حقوقها قد ضمنها الإسلام، ولكن الإسلام أيضاً لم يترك ثغرة لهؤلاء الناس الذين جاءوا في هذا العصر وفي هذه الفترة ليزعموا أنهم أنصار المرأة أو أنهم يدافعون عن حقوق المرأة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن خص الله تعالى شهر رمضان بخصائص عظيمة، وميزه بمميزات جليلة، أعظمها أنه أنزل فيه القرآن، فينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن ومدارسته فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يلتقي بجبريل عليه السلام ليالي رمضان فيدارسه القرآن، وهذا هو دأب الصحابة والتابعين، وهو شأن العلماء الربانيين، فقد كانوا يتركون حلق العلم في رمضان؛ ليتفرغوا لقراءة القرآن. وتلك القراءة قراءة تدبر وتفكر تورث الخشوع والخضوع والعمل والانقياد، والقرآن ليس للقراءة فقط بل يقرأ لتحكيمه والعمل به والدعوة إليه.

شدة إقبال الناس على الطاعات بأنواعها في رمضان

شدة إقبال الناس على الطاعات بأنواعها في رمضان الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة في الله! إنها لفرصة عظيمة في موسم عظيم بجوار كعبة الله المشرفة في ليالي رمضان المبارك، في ليلة تدلف كثيراً إلى ليلة بدر الكبرى التي سمى الله عز وجل يومها: يوم الفرقان، لذلك فإنه يحسن بنا اليوم أن نصيخ بالآذان وأن نفتح القلوب والأفئدة، لاسيما في فترة أقبلت الأمة فيها إلى ربها سبحانه وتعالى وعلى ملتها الإسلام، لكنها فترة فيها ما فيها من التخلف ومن الفتن والمصائب التي تطغى على الأمة الإسلامية، إلا أن إقبال مثل هؤلاء الشباب -الذين أشاهد كثيراً منهم أمامي- في هذه اللحظات على الخير والعلم والمحاضرات الإسلامية يدل دلالة واضحة على أن العودة إلى الله عز وجل وشيكة، وأن هذه الأمة لا تزال في خير حتى يرث الله الأرض ومن عليها. أيها الإخوة! وكلما أقبل على المسلمين شهر رمضان المبارك تاقت نفوسهم إلى موسم من مواسم العبادة، وإلى فرصة من فرص الخيرات، التي يمن الله عز وجل بها على عباده، لاسيما وأن شهر رمضان العظيم المبارك فيه فرص لمغفرة الذنوب، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق النار وأبوابها، وتصفيد مردة الشياطين، وهو أيضاً مجال وفرصة للتقوى لله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فلا تعجب يا أخي المسلم! وأنت ترى المساجد تكتظ بالمصلين وبالتالين لكتاب الله عز وجل، وترى المسجد الحرام عن يمينك وهو يكتظ بالمسلمين من كل فج عميق، إنها التقوى التي أخبر الله عز وجل عنها في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. ثم لا تعجب يا أخي! وأنت ترى أبواب الخير الأخرى تفتح نفسها على مصراعين واسعين بالبذل والعطاء والسخاء والكرم، حينما يمد أصحاب الأموال أيديهم إلى إخوانهم المضطرين وما أكثرهم في العالم الإسلامي، ثم لا تعجب! وأنت ترى في هذه الحقبة من التاريخ وفي شهر رمضان بصفة خاصة كثرة التائبين والعائدين إلى الله عز وجل، إنها نعمة من نعم الله عز وجل، ومنحة يمنحها الله عز وجل لهؤلاء المسلمين لاسيما في شهر رمضان.

رمضان والجهاد في سبيل الله

رمضان والجهاد في سبيل الله أما شهر رمضان فإنه شهر خير، وله على هذه الأمة أيادي بيضاء، لعل من أهمها ما كتبه الله عز وجل من النصر المؤزر لهذه الأمة في أيامه المضيئة ولياليه الساهرة على عبادة الله عز وجل، إنك لتعجب حينما تقلب صفحات تاريخ أمتنا التي أخذت بهذا الدين، وعضت عليه بالنواجذ، وأنت ترى في شهر رمضان مثل غزوة بدر الكبرى، التي تعتبر غرة في تاريخ الأمة الإسلامية، علماً أنها أول غزوة في تاريخ هذه الأمة يلتقي فيها عدد قليل من المسلمين عزل من السلاح مع عدد كبير مدجج بأرقى أنواع أسلحة ذلك العصر، ثم تكون النتيجة النصر للأمة الإسلامية والهزيمة للكافرين: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:13]. تلكم المعركة التي سماها الله عز وجل الفرقان؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، وكانت في ليلة السابع عشر من شهر رمضان، والتي نزلت فيها الملائكة تقاتل مع المسلمين قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:12 - 13]، يقول أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف لنا مجريات المعركة: (والله إننا لنرى الرأس يطير من مكانه، ونرى اليد تطير ولا نرى من يقطعها)؛ لأن الله تعالى يقول: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان). وفي ليلة العشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة فتح المسلمون بقيادة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وغيرّ ذلكم الفتح مجرى تاريخ الحياة كلها حتى تحولت مكة من أرض للوثنية يعبد فيها غير الله عز وجل في ستين وثلاثمائة صنم إلى أرض يعبد فيها الله، وصار الناس بعد ذلك يدخلون في دين الله أفواجاً. وفي رمضان فتح المسلمون بلاد الأندلس ودخلوها، وفي شهر رمضان وقعت موقعة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون بقيادة قطز على التتر، وكان المثل السائد وقتئذ: إن التتر لا يغلبون. وهكذا يجب أن يفهم المسلمون كافة أن شهر رمضان ليس موسم نوم وموائد خاصة، ولكنه موسم عبادة وجهاد في سبيل الله تعالى، حينما يدرك المسلمون هذه الدروس، وهم يضمدون الجراح التي تتكرر في كل يوم، بل في كل لحظة على الأمة الإسلامية، حينئذ ينهضون من جديد ليكون الدين كله لله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].

رمضان والقرآن العظيم

رمضان والقرآن العظيم إن الفرصة العظمى والهدية الكبرى من الله عز وجل في شهر رمضان المبارك هي نزول القرآن العظيم، الذي يقول الله عز وجل عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، ولعل هذه الفقرة هي موضوع حديثنا في هذه الليلة بإذن الله تعالى.

هداية القرآن والآثار المترتبة على تحكيمه

هداية القرآن والآثار المترتبة على تحكيمه لأي شيء نزل القرآن؟ العلمانيون عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة يقولون: نزل القرآن للعبادة فقط، فهو عندهم منهج عبادة وليس منهج حياة، لا يتدخل في أنظمة الحكم أو السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق أو الأنظمة الاجتماعية، بل يقتصر على المسجد فحسب ولا يتعدى المسجد، لكن الله عز وجل يقول عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} [البقرة:185]. ومن هنا ندرك أيها الأخ الكريم! أن هذا القرآن ليس منهج عبادة فحسب؛ لكنه منهج حياة متكاملة كما قال عنه سبحانه وتعالى الذي أنزله: (هدى للناس). وهدى: نكرة، أي: هدى للناس في كل أمر من الأمور، هدى للناس في منهج حياتهم الفردية الخاصة، ومنهج حياتهم الأسرية، ومنهج حياتهم الاجتماعية والعالمية، هدى للناس في نظام الحكم والسياسة، وأي سياسة وأي حكم لا يستمد من كتاب الله عز وجل فهو حكم كافر مارق عن الدين، لا يصلح أن يقود الحياة؛ ودليلنا على ذلك واقع العالم الذي انحرف عن منهج الله عز وجل في أيامنا الحاضرة، فإننا نرى أمماً تسير إلى الهاوية من جانب، كما أنها تقود نفسها إلى الدمار والبوار من جوانب كثيرة، تتعقد الحياة وتلتبس عليهم السبل؛ لأنهم يفقدون القيادة الحكيمة الرشيدة التي تستمد من كتاب الله عز وجل، وهذا شيء مشاهد في تاريخ البشرية في القديم والحديث. بل إن الله عز وجل أخبرنا بأن هذا العالم سوف يبقى في شقاق ونزاع؛ حتى يحكم نفسه بشرع الله عز وجل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون الأمن والطمأنينة، وتكون الحياة الرخية السعيدة الآمنة المطمئنة، يقول سبحانه وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]، هكذا الأمم تهتدي وهكذا تنحرف عن منهج الهداية فتكون في شقاق. بل إن الله سبحانه وتعالى يكفل سعادتين اثنتين لمن انقاد لكتاب الله عز وجل وسار على منهجه، وشقاوتين لمن انحرف عن هذا المنهج القويم، يقول سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]، والمعيشة الضنك التي يعيشها العالم بصفة عامة، ولربما يعيشها العالم الإسلامي بصفة خاصة، إنما هي جزاء بمقدار انحراف الأمة عن هذا المنهج القويم، فقر ومسغبة وجهل وتنصير يسابق الشمس على مطالعها في بلاد المسلمين، وأمور عظام وسفك للدماء وانتهاك للأعراض وسلب للأموال والحريات في أكثر العالم الإسلامي، وهذا كله بسبب إعراضه عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، معيشة ضنك هذه عقوبة الدنيا، أما العقوبة في الآخرة فهي أن يحشره يوم القيامة أعمى. إذاً: الأمة الإسلامية مطالبة بمجموعها وأفرادها، بحكامها وشعوبها، أن تحكم هذا العالم بشرع الله عز وجل. القادة مطالبون بذلك والشعوب أيضاً مطالبون؛ لأن تحاكم الشعوب إلى غير شرع الله يعتبر أيضاً كفراً وردة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. إذاً: يا أخي الكريم! ما يحصل اليوم من الأخبار المؤلمة التي يدمى لها قلب المؤمن، إنما هي بسبب إعراض هذا العالم عن منهج الله وعن دين الله عز وجل، ولن تعود للأمة الإسلامية هيبتها وعزتها وكرامتها إلا بمقدار ما تعود إلى الله عز وجل، وتحكم دينه وشرعه في كل صغيرة وكبيرة. أما هؤلاء الحكام الذين نرى أكثرهم يفكر أن يخدر هذه الشعوب، إما باللهو والترف أو بالمعصية، ثم بعد ذلك يظنون أن الشعوب قد نامت على هذا المتاع، صحيح قد تنام مدة من الزمن، لكنها لا بد أن تستيقظ وإذا استيقظت فإن عظمة هذا الدين هي التي تحرك الهمم وتقود هذه الشعوب إلى طريق أفضل، وحينئذ تكون الأمور كما تسمعون عنها أمم خدرت مدة طويلة من الزمن، لكن الفطرة ما زالت موجودة فيها والخير مركوز في سويداء قلوبها، فإذا بها تستيقظ هذه اليقظة التي تسمعون أخبارها في الجزائر أو في مصر أو في تونس أو في أي مكان من الأرض، بالرغم من التمهيد الطويل في ضياع هذه الشعوب، لكنها لا بد أن تستيقظ؛ لأن دين الله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها. إذاً: ليس هناك طريق تستطيع أي قيادة أن تقود الشعوب من خلاله إلا بحكم الله عز وجل، وإلا بمنهجه القويم الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ومن هنا نقول: إن السياسة جزء من هذا الدين، وإن الحكم يجب أن يكون لله عز وجل، وإن الشعوب لا تخضع ولا تقاد إلا بشرع الله عز وجل، ومن فكر في غير ذلك فعليه أن يصحح مساره. أما حكم العالم الإسلامي بغير شرع الله فهو الكفر والردة والظلم والفسق والخروج عن الطاعة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50]، ومن هنا ندرك جانباً من معاني قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185]. إذاً: القرآن مصدر هداية تنطلق منه سياسة الأمم المسلمة وسياسة القيادات المسلمة، وأي قيادة لا تنطلق من شرع الله عز وجل فإنها فاشلة، لا يمكن أن يكون لها البقاء، لاسيما حينما تستيقظ الشعوب، ونحن اليوم في عصر الصحوة الإسلامية التي ظهرت بوادرها في أيامنا الحاضرة.

هداية القرآن وتعلق الأمن به

هداية القرآن وتعلق الأمن به أيضاً هو هدى للناس في كل أنظمة الحياة، فمثلاً: كل العالم يسعى إلى الأمن ويطلب الأمن، ويقدم كل ما يستطيع من أجل أن يتحقق الأمن لأمة من الأمم، الدول الكبرى الكافرة خاضت منذ عشرات السنين حربين عالميتين، خسرت من خلالهما عشرات الملايين من البشر؛ بحثاً عن الأمن، ولكن الأمن لا يتحقق لها. الإحصائيات الرسمية تسجل الجريمة في الدقيقة والثانية في بلاد التطور التي صنعت كل وسائل الاكتشاف، ومع ذلك لا تملك الأمن من خلال الحروب المدمرة أو الصناعات المتطورة أو العقول المفكرة، وإنما تملك الأمن من خلال عقيدة صحيحة؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. الأمن على الأموال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]. الأمن على الأعراض: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. الأمن على السمعة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. الأمن على المعتقدات: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]. (من بدل دينه فاقتلوه). الأمن على العقول في جلد شارب الخمر. الأمن على الأمن في عقوبات قطاع الطريق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. إذاً: الأمن إنما هو من خلال هذا الدين. الأمن على الدماء في القصاص، وقديماً كان العربي يقول قبل الإسلام: القتل أنفى للقتل، حتى أنزل الله عز وجل ما هو أبلغ من ذلك: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] قتل القاتل الذي يريد أن يهدد أمن الأمة أو يفسد في هذه الأرض، فهذا القتل وهذا القصاص هو حياة للأمة؛ لأن الذي يفكر في القتل حينما يعلم أن مصيره القتل يكف عن قتل غيره؛ ليحفظ دمه، يقول الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]. إذاً: هذا القرآن منهج أمن، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام:82] و (ال) في الأمن هنا: للاستغراق، كما أنه أمن في الدنيا أيضاً هو أمن في الآخرة {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103]. إذاً: هذا القرآن هدى للناس؛ لكن بشرط أن يستهدي به هؤلاء الناس، وأن يرفعوه فوق رءوسهم وأن يطبقوه، ولا يكفي في تطبيقه أن يحفظ أو تكثر حلق حفظ القرآن، ولكن يجب أن يحمل في القلوب وأن يطبق في المجتمعات، وحينئذ يتحقق الهدى الذي يقول الله عز وجل عنه: (هدى للناس).

هداية القرآن وتنظيم الأموال من حيث الاكتساب والإنفاق

هداية القرآن وتنظيم الأموال من حيث الاكتساب والإنفاق القرآن أيضاً نظام حياة اقتصادية، فيهتدي الناس من خلاله إلى أفضل طريق في تنظيم الأموال، وذلك في طريق الحصول عليها بحيث لا يكسبونها من الحرام؛ لأن كسبها من الحرام والربا يعرضها للتلف والدمار، يقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276]. كما أن هذا القرآن ينظم الأموال في طرق استعمالها بحيث تدور بين الناس وتنتقل من طبقة إلى طبقة وفئة إلى فئة وإنسان إلى إنسان وجيل إلى جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بطريقة مباحة من النفقات والكفارات والزكوات وما أشبه ذلك. ثم هو أيضاً هدى للناس بطريق صرف هذه الأموال، فلا تصرف فيما حرم الله عز وجل ولا فيما يضر بالفرد أو بالمجتمع، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

هداية القرآن وتنظيم حياة الناس الاجتماعية

هداية القرآن وتنظيم حياة الناس الاجتماعية وهو هدى في تنظيم حياة الناس الاجتماعية، فيرتبط الابن بأبيه، والفرد بالأسرة، والأسرة بالأسرة الأخرى، والمجتمع بالمجتمع، والعالم الإسلامي كله؛ من خلال روابط وشيجة هي روابط الأخوة في الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. إذاً: أقام القرآن العلاقات بين الناس: علاقة المسلم بالمسلم وعلاقته بغيره في أي مكان من الأرض، بنظام رتيب لا يدرك عظمته إلا الله عز وجل، فهو نظام اجتماعي يفرض الاحترام من الابن للأبوين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وفقاً للعواطف البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها، كذلك بين الأب وأبنائه، بين الإخوة والعشيرة وبين أفراد المجتمع المسلم كله، ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل إلا بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. والقرآن هدى للناس ونظام في كل جوانب حياتهم وفي الأخلاق والسلوك، فقد شرع هذا القرآن العظيم من الأخلاق والسلوك والآداب والأنظمة ما لا تستغني عنه أمة من الأمم، مهما كان موقعها في هذه الحياة، فنهى الله عز وجل عن التبرج وأمر بغض البصر وحفظ الفرج، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:30 - 31] إلى آخر الآية.

هداية القرآن وتنظيم الصفوف وتوحيدها بتشريع العبادات والمعاملات

هداية القرآن وتنظيم الصفوف وتوحيدها بتشريع العبادات والمعاملات إن القرآن شرع من العبادات ما توحد الصف وتلم الشعث وتربط القلوب بين المسلم والمسلم فالصلاة يقف فيها المسلمان مهما اختلفت طبقاتهما جنباً إلى جنب في صف واحد، الكل ينحني ويسجد لله عز وجل في آن واحد. كذلك الصيام يكف الناس عن الطعام في لحظة واحدة ويتناولونه في لحظة واحدة. الزكاة وهي تكفل حق الفقير في مال الغني. الحج الذي يلتقي فيه المسلم مع المسلم الآخر في أي مكان من الأرض على صعيد واحد، وهكذا سائر العبادات. أما المعاملات فقد جاء هذا القرآن العظيم بأفضل طريق للتعامل بين المسلم والمسلم، ووضع ضوابط وأسساً وقواعد لا تستغني عنها أمة من الأمم، ومن هنا نستطيع أن ندرك قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185] فهو مصدر هداية لا تستغني عنها الأمة، ولو أن هذه الأمة فكرت في الاستغناء عن هذه الهداية أو استبدالها بأي نظام من الأنظمة الأخرى فحينئذ يحدث ما يحدث من الخلل، كما يحدث في عالمنا اليوم وفي دنيا الناس اليوم، ويأبى الله عز وجل أن يختلط الحابل بالنابل، وذلك حتى يعود الناس جميعاً إلى دين الله سبحانه وتعالى. أختم حديثي هذا سائلاً الله عز وجل أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يأتي الوقت الذي يقول الله عز وجل فيه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، لقد آن وليس غريباً أن تعود القلوب القاسية إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

بيان مصارف الزكاة وحكم إعطائها لهيئة الإغاثة لتوزيعها خارج البلاد

بيان مصارف الزكاة وحكم إعطائها لهيئة الإغاثة لتوزيعها خارج البلاد Q شهر رمضان هو شهر الزكاة، نرجو بيان نصيب كل فرد في الزكاة، وهل يمكن إخراجها لهيئة الإغاثة لتوزيعها لمستحقيها خارج البلاد؟ A هذه الزكاة بين مصارفها الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] والمراد بالصدقات هنا الزكاة الواجبة، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60]، هؤلاء هم أهل الزكاة، وهذه الآية ذكرت أصحاب الزكاة، لكن طريق إخراج الزكاة يختلف في كل عصر، المهم أن تصل إلى هؤلاء، سواء كانت تصل من يدك إلى يد واحد منهم مباشرة أو عن طريق هيئات رسمية إذا كانت موثوقة. فالأخ يسأل عن هيئة الإغاثة، أنا لا أزكي هيئة الإغاثة وإن كنت أحد أعضائها المسئولين عن اللجنة الشرعية، لكني أقول: فيها خير إن شاء الله، لكن إن استطعت يا أخي أن توصل زكاتك مباشرة إلى الفقير فذلك خير، وإلا فهذه الهيئات ربما تخدمك، لكن علينا أن نشترط كيف تصرف هذه الأموال حينما نسلمها للهيئة. والشيء الذي يجب أن ننتبه له اليوم أن الزكاة تتعدى الحواجز السياسية والطبيعية والجغرافية التي صنعها البشر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الزكاة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) والضمير هنا ليس السعودية أو مصر أو الجزائر أو اليمن، قوله: (من أغنيائهم) أي: من أغنياء المسلمين قوله: (وترد على فقرائهم) أي: على فقراء المسلمين. إذاًَ: هذه الآية تعتبر فوق الحدود التي صنعها البشر، وعلى المسلم إذا أراد أن يؤدي زكاته أن يبحث عن مكان أفضل، لاسيما ونحن نسمع وأنتم تسمعون بل رأينا المجاعات والنكبات والكوارث التي تحل في العالم الإسلامي في كل يوم وفي كل ساعة، ولربما يرتد كثير من أبناء المسلمين عن دينهم في بعض المناطق كبعض دول أفريقيا التي اشتغل فيها التنصير على قدم وساق، وما أشبهها من المناطق الأخرى. إذاً: أقول: يا أخي! لا يمنع أن تخرج زكاتك خارج بلادك، بل هي بلادك ما دامت بلاد المسلمين، لكن احذر أن تقع في يد الكافرين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أغنيائهم) الضمير يعود للمسلمين: (وترد على فقرائهم). ثم أيضاً عليك يا أخي! أن تبحث عن المكان الأحوج، صحيح حينما يتساوى فقراء بلادنا بفقراء المسلمين في المناطق الأخرى أن فقراء بلادنا أحوج، لكن إذا كان وضعنا كوضعنا الحاضر بحيث أصبح فقراؤنا في كثير من الأحيان على مستوى الأغنياء، فلا يمنع أن تخرجها يا أخي إلى بعض بلاد المسلمين الأخرى، بل ذلك خير.

حكم الحج والعمرة عن الأم أو غيرها فريضة أو نفلا

حكم الحج والعمرة عن الأم أو غيرها فريضة أو نفلاً Q ما حكم من يريد أن يعتمر عن أمه فريضة العمرة مع العلم أنها على قيد الحياة؟ وكيف يكون أداء العمرة؟ A أولاً يا أخي هل حجت أمك؟ وهل حججت عنها؟ إذا كانت أمك لم تحج وهي قادرة على الحج، فإنه يلزمها أن تحج، وإذا كانت عاجزة فلها أن توكلك وتحج عنها، والعمرة نفس الشيء، إذا كانت قادرة على العمرة فلتعتمر هي، وإذا كانت غير قادرة فاعتمر عنها، لكن إذا كانت أمك قد حجت واعتمرت وتريد أن تحج عنها تطوعاً، ففي مثل هذه الحال يجوز، فتخرج إلى التنعيم (مسجد عائشة رضي الله عنها)، أو إلى الجعرانة أو إلى أي حد من حدود الحرم، وتنوي العمرة عن أمك، وتلبي قائلاً: لبيك اللهم عن أمي فلانة، وتؤدي مناسك العمرة، فهذا جائز إذا كانت العمرة نفلاً، أما إذا كان الحج والعمرة فريضة فإنه لا يجوز، إلا إذا كانت أمك عاجزة عن الحج.

حكم مشاهدة النساء للمحاضرات المصورة للمشايخ

حكم مشاهدة النساء للمحاضرات المصورة للمشايخ Q ما حكم مشاهدة النساء للمحاضرات التي يلقيها المشايخ الفضلاء؟ A مشاهدة المرأة محاضرات المشايخ من خلال التلفاز أسهل من مشاهدتها للمسرحيات، لكن نقول: لا حاجة إلى الصورة؛ لأن العبرة بالصوت لا بالصورة، فأرى أنها لا تحتاج إلى الصورة، لكن لو احتاجت إلى الصورة، وكانت الصورة طبيعية ليس فيها أمور تخالف المروءة، فلا بأس أن تنظر إلى الرجل، وليس صحيحاً ما يظنه بعض الناس من أن نظر المرأة إلى الرجل محرم، والحديث: (أفعمياوان أنتما؟) حديث ضعيف. إذاً: يجوز للمرأة أن تنظر إلى صورة الرجل بشرط أن تكون الصورة طبيعية وبدون شهوة، لكن أقول: الأفضل للمرأة أن تستغني عن الصورة بسماع الصوت. أما مشاهدة النساء للصور الفاتنة الموجودة في الفيديو والتلفاز وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وهو شيء خطير إذا كانت هذه الصور تلفت النظر.

حكم تصوير المحاضرات بآلة التصوير في المسجد

حكم تصوير المحاضرات بآلة التصوير في المسجد Q هناك جهاز تصوير داخل هذا المصلى لتصوير المحاضرات، ما رأيكم في ذلك حفظكم الله؟ A هذا في الحقيقة يستغنى عنه، لكن لا نقول: إنه محرم؛ لأن هذا يرجع إلى أصل الصورة، هل هذه تسمى صورة أو لا تسمى صورة، هذا مختلف فيه بين علماء العصر، قد لا تكون هذه الصورة حقيقية لكن الاستغناء عن هذا الشيء خير وأفضل، والصوت أنفع من الصورة؛ لأن الصورة يستغنى عنها بالصوت.

حكم الخروج إلى الجهاد العيني والكفائي دون إذن الأم

حكم الخروج إلى الجهاد العيني والكفائي دون إذن الأم Q شاب يريد أن يذهب إلى ساحات الجهاد وأمه تمنعه فما الحكم؟ A إن كان هذا الجهاد فرض عين فإنك لا تلتفت إلى منع أمك، وإن كان فرض كفاية فعليك أن ترجع وتطيع أمك، ولا تذهب إلى ساحات الجهاد إلا بعد أن ترضى أمك بذهابك، والجهاد بالنفس في مناطق الجهاد الموجودة في العالم الآن كله فرض كفاية؛ لأن المناطق التي فيها الجهاد بعيدة منا، ولا يكون الجهاد فرض عين إلا في حالتين: الأولى: إذا هجم العدو على بلاد المسلمين، ففي هذه الحالة يصير كل واحد من المسلمين مطالباً بالدفاع عن أرض المسلمين وعن هذا الدين. الحالة الثانية: إذا هجم العدو على جيراننا الذين لا يستطيعون دفع هذا العدو إلا عن طريقنا، ونحن أقرب الناس إليهم؛ ففي هذه الحالة يصير الجهاد في تلك البلاد فرض عين علينا.

حكم من يكثر من النوم في نهار رمضان مع المحافظة على الصلوات

حكم من يكثر من النوم في نهار رمضان مع المحافظة على الصلوات Q هناك بعض الصائمين ينام من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر، ثم يصلي الظهر وينام حتى صلاة العصر، ثم يصلي العصر وبعدها لا يقرأ القرآن فما نصيحتكم لمثل هذا؟ A والله هذا أعتبره إن شاء الله من الصالحين ما دام أنه يصلي، أما من تسحروا قبل الفجر بساعتين وناموا إلى العصر نعوذ بالله، فهؤلاء أعتقد أن شهر رمضان لا يزيدهم من الله عز وجل إلا بعداً؛ لأنهم ناموا عن الصلاة المكتوبة، والصلاة أهم وأعظم عند الله من الصيام، أما الذي يقوم للصلوات ثم ينام؛ فهذا فرط في اغتنام الأوقات؛ لأنه أكثر من النوم، وأخشى ألا يستطيع النوم في الليل وأن يضيع الليل كما ضيع النهار، وخير لهذا المسلم أن يجعل له ساعات في قراءة القرآن كما كان سلفنا الصالح يقبلون على تلاوة القرآن في رمضان، ولقد كانوا يهجرون مجالس العلم في رمضان؛ ليتفرغوا لتلاوة القرآن والعبادة، فأقول: يا أخي! شهر رمضان ليس مجالاً للنوم، ولكنه مجال للعبادة.

عدد ركعات صلاة التراويح

عدد ركعات صلاة التراويح Q هل لصلاة التراويح ركعات محدودة؟ A اختلف العلماء في صلاة التراويح، وكل على خير، فمن صلى إحدى عشرة ركعة فهو في خير، ومن صلى ثلاثاً وعشرين ركعة فهو في خير، حتى إن بعض العلماء زاد في العدد أكثر من ذلك، المهم أن تصلي خلف الإمام ما دام يصلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) فما دام الإمام يصلي فصل معه. لكن يأتي إشكال في الليالي العشر الأخيرة، فنجد ناساً مثلاً في المسجد الحرام يوترون مرتين، فنقول: احذر يا أخي! أن توتر مرتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن وترين في ليلة واحدة، فإذا أوترت في أول الليل فلا توتر في آخر الليل، وإذا لم توتر في أول الليل في صلاة التراويح فأوتر مع الإمام في التهجد في آخر الليل، ولربما يقول قائل: أنا أريد أن أصلي كل الركعات مع الإمام فكيف أفعل؟ نقول: إذا صليت الثلاثة والعشرين مع الإمام في صلاة التراويح شفعت الأخيرة بركعة بعدها مباشرة، وتجعل الوتر في آخر الليل، وحينئذ لا تكون ضيعت أي ركعة من ركعات الصلاة.

حكم تكرار الاعتمار لأهل مكة

حكم تكرار الاعتمار لأهل مكة Q هل على أهل مكة عمرة، أم أن هناك اختلافاً بين العلماء في هذه المسألة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A نعم، العمرة واجبة على كل المسلمين، حتى قال بعض العلماء: إنها كالحج مرة واحدة في العمر، والعمرة مشروعة في رمضان لمن هو مقيم في مكة؛ لكون العمرة في رمضان تعدل حجة، فنقول: تخرج في الوقت الذي يعجبك إلى الحل مثل: مسجد عائشة رضي الله عنها عند باب التنعيم، أو الجعرانة أو أي حد من حدود الحرم، وتنوي العمرة وتطوف وتسعى وتقصر أو تحلق وتكون بذلك قد أديت العمرة، هذا بالنسبة لأهل مكة الأصليين المقيمين، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنه كلما جم رأسه -أي: نبت- خرج إلى الحل واعتمر) والله أعلم.

حكم الاستمرار في مناصحة الإخوة الذين لا يصلون مع غضب الأم

حكم الاستمرار في مناصحة الإخوة الذين لا يصلون مع غضب الأم Q هذا شاب يقول: إن الله قد منّ عليَّ بالهداية بعد أن كنت على خلاف ذلك، ثم يقول: إني أعاتب إخوتي على عدم أدائهم الصلاة، ووالدتي غضبت مني بسبب ذلك وطلبت مني ألا أكلمها وأقسمت علي بذلك، فهل يجوز لي أن أهجرها وأعيش خارج البيت، أم أسكت عن ذلك وأعيش معهم؟ A لا يا أخي لا تسكت؛ لأنه كما جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وما دام الأمر قد وصل إلى حد أن في البيت من لا يصلي فإنه إذا كان بالغاً فهو مرتد كافر، وحينئذ أنت مطالب دائماً وأبداً بأن تدعوهم إلى الله عز وجل وأن يقيموا الصلاة ولو أغضبت أمك في هذا الأمر؛ لأن هذا أداء ركن من أركان الإسلام، وأنت ربما تكون الأخ الأكبر، وما دام الله تعالى قد من عليك بالهداية فلا تغفل عن إخوانك، وأنت مطالب بأن تقدم النصيحة بين فينة وأخرى، لكن إذا رأيت تصميماً من هؤلاء على عدم تأدية الصلاة، وتصميماً من أمك على ألا تتدخل في شئونهم فاخرج من هذا البيت؛ لأني أعتقد أنه بيت فيه انحراف وفيه فتنة، عليك أن تبر بأمك بزيارتها حسب الحاجة والضرورة، وإلا فإني أنصحك أن تبقى في هذا البيت إلا إذا عجزت عن توجيه هؤلاء الذين لا يصلون.

حكم العمل في المحاكم التي لا تحكم شرع الله

حكم العمل في المحاكم التي لا تحكم شرع الله Q ما حكم العمل في المحاكم التي لا تحكم بشرع الله؟ A لا يجوز العمل في المحاكم التي لا تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل حذر من ذلك، فإذا كان قاضياً يحل القضايا على منهج غير شرع الله عز وجل فإنه لا يجوز؛ لأن هذا فيه إعانة على الإثم، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

حكم تحية المسجد في المصلى خارج المسجد الحرام والاقتداء فيه بالإمام

حكم تحية المسجد في المصلى خارج المسجد الحرام والاقتداء فيه بالإمام Q ما حكم تحية المسجد في هذا المصلى؟ A يجوز، لكن بالنسبة لمن يصلي في هذا المصلى مقتدياً بالإمام، نقول: يوجد بعض العلماء من أفتى بهذا الأمر، يعني لا حاجة إلى أن يربط هذا بالمسجد الحرام؛ لأنه لا يفصل طريق بينه وبين المسجد الحرام، على كل حال هذا الأمر لغيرنا، أما أن تقام فيه الصلاة بإمام مستقل فهذا لا شك في جوازه، ما دام حول إلى مسجد فله حكم المسجد، لكنه لا يأخذ حكم وأجر الصلاة في المسجد الحرام.

حكم الجهاد من حيث العموم

حكم الجهاد من حيث العموم Q يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الجهاد فرض عين ما دامت الأندلس في يد الكافرين؟ A يا أخي! الأندلس ما سقطت في أيدي الكافرين إلا بعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه فلا يصح أن يقال هذا الكلام عن ابن تيمية، على كل حال السؤال الذي ربما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: هل الجهاد فرض عين أم لا؟ الذي يظهر أن آخر ما استقر عليه أمر الجهاد أنه واجب على الأمة الإسلامية، حتى يكون الدين كله لله، فما دام على وجه الأرض رجل كافر فالأمة الإسلامية مطالبة بالجهاد لا دفاعاً وإنما هجوم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: كفر {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، فما دام في الأرض كفر أو يعبد فيها غير الله عز وجل، فإن الأمة تعتبر مفرطة في أمر الجهاد.

حكم البيع بأسعار مرتفعة عن قيمة الشراء

حكم البيع بأسعار مرتفعة عن قيمة الشراء Q هل يجوز لي أن أشتري قارورة بثمن خمسة ريالات وأبيعها بخمسة عشر ريالاً؟ A أحل البيع الله تعالى، لكن إذا كان هذا البيع بهذا السعر المرتفع عن طريق الخداع فإنه لا يجوز، كأن يبيع على نساء جاهلات أو على أناس مغفلين أو ما أشبه ذلك، أما لو كان الأمر مكشوفاً فالله تعالى أحل البيع، لكن بشرط ألا يكذب وألا يخادع وما أشبه ذلك، هذه كلها شروط وضوابط لا بد منها في مثل هذه المعاملة.

نصيحة لشباب الصحوة في مصر وغيرها

نصيحة لشباب الصحوة في مصر وغيرها Q هذا الأخ يسأل عن وضع الشباب في مصر وكيف يستطيع أن يعمل؟ A يا أخي! القضية ليست فقط وضع الشباب في مصر، العالم الإسلامي أكثره معذب، المسلمون معذبون في مصر وغيرها، وسوف يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً بإذن الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الضغط على المسلمين إنما جاء بعد ما منّ الله تعالى على شباب المسلمين بالصحوة الإسلامية، واستيقظوا بعد نوم عميق، فسيجعل الله لهم وللمسلمين كافة فرجاً ومخرجاً. أما الشيء الذي ننصح به فهو أن يشتغلوا في الدعوة والتعليم، الشاب هناك يدعو المسلمين إلى العودة إلى الله عز وجل، قد تكون هناك غيبة طويلة وأخطاء كثيرة في مسار المسلمين إلى الله عز وجل. لكن ليعلم أن تسلط الفسقة والطغاة على البلاد الإسلامية إنما هو بسبب ما كسبت أيدينا، وهذا شيء مشاهد، والصادقون من المسلمين يقولون: إن ما حدث ليس فلتة ولكن حينما كنا نذهب إلى المسجد فنمر بالخمارة أو بدار الفساد في طريقنا إلى المسجد فلا ننكر ذلك، حصل هذا التسلط بسبب أخطاء المسلمين، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، الطريق المثلى أن يعود الشباب إلى الله عز وجل، وأن يسعوا في تربية المجتمع وتوجيهه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ سوف يكشف الله عز وجل هذا الكابوس وهذا البلاء الذي حل بالأمة الإسلامية في مصر وفي غيرها في كثير من بلاد المسلمين.

إخراج زكاة المال نقدا أو عينا

إخراج زكاة المال نقداً أو عيناً Q هل يجوز إخراج زكاة المال عينية أو نقدية؟ A يختلف المال، فإذا كان المال نقداً تخرج زكاته نقداً، كأن تملك مائة ألف ريال تخرج منها ألفين وخمسمائة ريال نقداً، ولا يجوز أن تخرجها عينية، إلا إذا كان هناك فقير أخرق لا يحسن التصرف، فيمكن أن تعطي هذه الزكاة إلى وكيل هذا الفقير الأخرق ليشتري له أرزاً وغيره من الحاجات الضرورية. أما بالنسبة للبضائع والعينيات فإن شئت فزكها بالمال بأن تقدرها وتخرج ربع عشر القيمة، وإذا كانت من الأمور الضرورية فلك أن تزكيها بربع عشر كميتها، مثلاً: إنسان يبيع أرزاً نقول له: أخرج ربع عشر هذه الكمية، أو إنسان يبيع ملابس ضرورية يحتاج إليها الفقراء تخرج ربع عشر كمية هذه الملابس أو الأقمشة، فإذا كانت من الأشياء الضرورية فإنه يجوز أن تقيمها في وقت الزكاة وتخرج ربع عشر القيمة، وإن شئت أن تخرج ربع عشر الكمية نفسها.

الطريق إلى التوبة

الطريق إلى التوبة Q شخص يريد التوبة ولكن لا يعرف الطريقة، فما هي الطريقة الصحيحة التي يستخدمها؟ A التوبة أمرها سهل، ليس هناك قيود ومراسيم، نحن لسنا كالنصارى الذين لا يتوبون إلا حينما يذهبون إلى من يعطيهم صكوك الغفران، ولسنا كاليهود الذين يقول الله تعالى لهم لما أرادوا التوبة: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم} [البقرة:54] الحمد لله ليس بيننا وبين التوبة إلا أن نصدق في القصد، ونتجه إلى الله عز وجل ونقول: اللهم إنا نتوب بقلب صادق عازم على العودة إليك، ثم نصحح المسار؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160]. لا يستكثر صاحبك يا أخي! الذنوب مهما كانت عظيمة، فأعظم ذنب فعله الإنسان هو الشرك بالله عز وجل، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، طريق التوبة واضح، عد إلى الله عز وجل، وتب إليه بقلب صادق، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، لكن نقول: إذا أردت أن ترشد هذا الأخ فانظر إلى نقطة الضعف فيه كأن يكون له قرناء سوء أو ما أشبه ذلك، فتقول له بعد ذلك: تجنب هؤلاء، أو مثلاً: عنده منكرات داخل بيته تغويه وتفسد عليه دينه تأمره بأن يطهر بيته، هذه كلها تعتبر من مكملات التوبة.

حكم الاعتكاف في المسجد الحرام مع الخروج لإمامة الناس في مسجد آخر

حكم الاعتكاف في المسجد الحرام مع الخروج لإمامة الناس في مسجد آخر Q أنا إمام مسجد وأريد أن أعتكف في المسجد الحرام، فهل يجوز لي أن أذهب إلى المسجد وأصلي بالناس التراويح، ثم أحضر لأكمل اعتكافي؟ A يا أخي! اعتكف في مسجدك فهذا أحسن لك، أما أن تترك مسجدك فهذا لا يصح؛ لأنك تترك واجباً وتعمل سنة، أما أن تعتكف في المسجد الحرام وتذهب في كل وقت لتصلي الصلوات الخمس وصلاة التراويح فأخشى أن يخل هذا بالاعتكاف، إذا اعتكفت في مسجدك كان ذلك أولى.

كيفية الدعوة إلى الله عز وجل بين الأقارب

كيفية الدعوة إلى الله عز وجل بين الأقارب Q وضح لنا كيفية الدعوة إلى الله في وسط الأقارب؟ A الدعوة إلى الله تعالى في وسط الأقارب كالدعوة إلى الله تعالى خارج الأقارب، بل ربما تكون الأولى أسهل، فتحضر يا أخي جماعاتهم وجلساتهم، وتقدم لهم النصيحة والأشرطة والكتب المفيدة، وتخوفهم بالله تعالى، وتذكرهم بالله واليوم الآخر والجنة والنار وما أشبه ذلك، وهذا طريق جيد في الدعوة إلى الله عز وجل، لكن يجب أن يكون بلباقة ورقة لا كما يعمله بعض الأبناء مع آبائهم وأهليهم حينما يهتدي هؤلاء الأبناء يصطدمون مع الآباء، ويستعملون الغلظة والشدة، وهذا لا يجوز.

التعاون على إزالة المنكر بالحكمة والنصيحة

التعاون على إزالة المنكر بالحكمة والنصيحة Q يقول شخص: إنه شاهد في هذه العمارة مطعماً يختلط فيه الرجال بالنساء؟ A نعم أنا شاهدت ذلك، وأرى أن نقدم خطاباً إلى الأخ عبد الرحمن فقيه، وأنا أعرف أنه يحب الخير، ونقترح عليه أن يعزل مكاناً خاصاً للعائلات، ويكون أيضاً مغطى غير مكشوف كواقع هذا المطعم، والأخ الشيخ عبد الرحمن فقيه يحب الخير فلو قدم له خطاب موقع من عدد كبير من الإخوة، وطلبوا منه أن يعزل قسم العائلات عن القسم العام، أنا متأكد أنه سوف يستجيب، وأنا مستعد أن أساهم معكم في نصحه وتبليغه.

حكم العمل في مؤسسات التأمينات الاجتماعية

حكم العمل في مؤسسات التأمينات الاجتماعية Q ما حكم العمل في المؤسسات العامة للتأمينات الاجتماعية؟ A يا أخي! ما أعرف أنا نظام التأمينات الاجتماعية الموجودة عندنا هنا، فإذا كانت تأمينات اجتماعية تؤمن مثلاً على الحياة أو تؤمن على البضائع، وتكون بالمغامرة والقمار والميسر فإن هذا العمل محرم، وفي اعتقادي أن التأمينات الاجتماعية التي تتعاطى هذه الطريقة، بأن يدفع التاجر مبلغاً من المال، وتضمن هذه الشركة الخسارة أو التلف للبضاعة أو على النفس أو ما أشبه ذلك، فهذا يدخل في الميسر الذي حرمه الله عز وجل، فإذا كان العمل محرماً فلا يجوز العمل فيه، كالعمل في البنوك مثلاً باعتبارها تحارب الله عز وجل بالربا فإنه لا يجوز العمل فيها.

حكم مقاطعة المرأة لزوجها الذي أخطأ في حقها

حكم مقاطعة المرأة لزوجها الذي أخطأ في حقها Q ما حكم مقاطعة المرأة زوجها، ولو كان الزوج هو الذي غلط عليها، أفيدونا بارك الله فيكم؟ A خير لها أن تصبر؛ لأن مقاطعته وأذيته يسبب الطلاق الذي هو من أخطر الأمور والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وكما أمر الله عز وجل الزوج أن يتحمل زوجته ويتحمل منها الأخطاء، كذلك أيضاً على المرأة من باب أولى أن تتحمل أخطاء الزوج، فأنا أرى أن تصبر وتحتسب وسوف يجعل الله لها فرجاً ومخرجاً.

حكم تأدية صلاة الوتر ثلاث ركعات مستقلات

حكم تأدية صلاة الوتر ثلاث ركعات مستقلات Q ما رأيكم فيمن صلى الوتر ثلاث ركعات مستقلات؟ A نعم يجوز أن يصلي الوتر ركعة واحدة أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة بسلام واحد دون فصل، المهم أن ينتهي بواحدة.

حكم حديث: من صلى علي ثمانين مرة

حكم حديث: من صلى علي ثمانين مرة Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي ثمانين مرة غفرت له خطاياه ثمانين عاماً) نرجو من فضيلتكم شرح هذا الحديث مع حكم صحته؟ A هذا الحديث مؤكد أنه غير صحيح، لكن يقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً) هذا الحديث صحيح، أما ثمانون لم يمر علي، وواضح أن هذا الحديث غير صحيح.

حكم العمل في المكاتب العقارية

حكم العمل في المكاتب العقارية Q ما حكم العمل في المكاتب العقارية، مع أنه لو أجر لشخص شقة أخذ منه نقوداً؟ A إذا كانت هذه المكاتب العقارية تخادع الناس وتكذب على الناس وتأخذ أموالهم بطريقة غير شرعية لا يجوز العمل فيها، فعليك يا أخي! حين تمر بمثل هذه القضية التي فيها لعبة وأكل لأموال الناس بالباطل أن ترفضها.

عقبات في طريق الشباب

عقبات في طريق الشباب إن مرحلة الشباب مرحلة مباركة، ففيها القوة والنشاط والحيوية والعمل، إلا أنها في المقابل تكثر فيها العقبات والمزلات، فإذا لم يكن الشاب مستقيماً على طاعة الله، ومعتصماً بربه، فإنه يزل ويضل، فلذلك كان على الشباب المسلم أن يستعينوا بالله في تذليل العقبات، وأن يسعوا في إزالتها بالطرق المشروعة، والابتعاد عن الأبواب الممنوعة.

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بيَّن الحجة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أحبتي في الله! الموضوع هو: (عقبات في طريق الشباب)، نسأل الله أن يوفقنا للقول السديد، وأن يصلح البواطن، ويجعلها خيراً من الظواهر، ويجعل الظواهر صالحة، كما يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أيها الإخوة! منذ أن أهبط الله عز وجل أبانا آدم وزوجه حواء إلى الأرض والصراع بين الحق والباطل على أشده، قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، هذا هو الصراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، بين جند الرحمن وجند الشيطان. ولقد كتب الله عز وجل في هذا الوجود أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والصراع الذي هو قديم قدم الحياة الدنيا بين الحق والباطل سيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن هذا الصراع يتأثر بما حوله وما يحيط به من جنود لله عز وجل، فبمقدار ما يصمم المؤمنون على مصارعة الباطل ومجادلته ومجالدته ينخفض صوت الباطل، ويظهر صوت الحق، وبمقدار ما يضعف المؤمنون يتحرك دعاة الباطل في الظلام؛ لأنهم كالخفافيش لا يخرجون إلا حينما يُفقد الضوء، ولذلك كما أن لله جنوداً في السماوات والأرض فإن الحق ظهر، والحمد لله، وانقشعت سحابة الباطل يوم صمم المؤمنون على الجهاد في سبيل الله، والمسلمون في كل معركة من معاركهم يثبتون جدارة منقطعة النظير، والعدو الذي كان يخطط وينظم ويرتب لحرب الإسلام منذ غزوة الأحزاب وإلى يومنا هذا أظهر فشله وإفلاسه في حرب المواجهة، فاتجه العدو الحاقد للإطاحة بالأمة الإسلامية، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8].

استخدام أعداء الإسلام الحرب الفكرية ضد المسلمين

استخدام أعداء الإسلام الحرب الفكرية ضد المسلمين ولذلك أيها الإخوة! يظهر الحق فتختفي تلك الجنود التي تحارب الإسلام، وتقوم بحرب باردة فكرية تمثل صراعاً عنيفاً من الداخل لا من الخارج. ومن هنا استطاع العدو أن ينجح بعض النجاح في حرف كثير من أبناء المسلمين عن الجادة، ولقد أدرك العدو الحاقد أن الأمة إنما تقاس بشبابها، وإنما تتطور بأبنائها، وبمقدار ما تقدمه الأمة من خدمة لإخراج هذا الشباب وإظهاره بالمظهر اللائق يعجز دعاة الباطل عن النيل من الإسلام، فكانت هناك تخطيطات رهيبة من الداخل وأفكار وأدمغة وخبراء تشتغل في الظلام، تريد أن تطفئ نور الله، والله غالب على أمره.

تركيز أعداء الإسلام في حربهم الفكرية على جانبي: المرأة والشباب

تركيز أعداء الإسلام في حربهم الفكرية على جانبي: المرأة والشباب ولذلك نقول أيها الإخوة!: إن الحرب الفكرية التي بدأت منذ أن فشل العدو في حرب المواجهة كلها تتوجه في الغالب إلى أمرين أو إلى جانبين من جوانب هذه الأمة: الجانب الأول: المرأة. الجانب الثاني: الشباب. وليس صدفة اختيار هذين الأمرين؛ فالمرأة كما قال قائلهم: إنه لا أحد أقدر على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة، فعليكم بالمرأة! وهذه حرب كان يتسلح بها أعداء الإسلام قبل الإسلام منذ أمد بعيد. أما الجانب الآخر فهو التركيز على شباب الأمة الإسلامية؛ لأن حرف أبناء المسلمين يعني: حرف الأجيال اللاحقة كما يعتقد هؤلاء. ومن هنا كان المخطط رهيباً وموجهاً للشباب، فلا تعجبوا أيها الإخوة! وأنتم ترون وسائل كثيرة كلها تخدم هذه المهمة، وتقوم بهذا الدور، ثم لا تعجبوا أيضاً من الجانب الآخر إذا رأيتم كثيراً من أبناء المسلمين قد انحرف عن الجادة! وأخطر وأخبث من ذلك أن يُتخذ هذا النوع من أبناء المسلمين شوكة في الجسم الإسلامي وغصناً -كما يقولون- من أغصان الشجرة الإسلامية به تقطع الشجرة الإسلامية كما يتوقع أولئك، وكما قالوا: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا الشجرة الإسلامية إلا بغصن من أغصانها، ويقصدون بذلك: تربون من أبناء المسلمين من يقوم بقطع هذه الشجرة، وهم غصن من أغصانها. كل هذه الآمال وأكثر من ذلك قد خابت والحمد لله، ولذلك في الفترة التي كانت المقاييس المادية والنفوس الضعيفة تتوقع أن ينتهي الإسلام من الوجود، وأن يخلو من هذه الأرض، زدات الصحوة، فكل هذه المقاييس -والحمد لله- قد أظهرت فشلها، وكذب زاعموها، وفي هذه الفترة العصيبة التي جندت فيها كل وسائل التقنية وجميع وسائل الأعلام لإنتاج الوسائل التي تهدف إلى الإطاحة بالأمة الإسلامية زادت الصحوة الإسلامية، كما قال عز وجل: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، وكما قال عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26]، وهذا بالنسبة لنا نحن ليس صدفة؛ لأننا لا نؤمن بالصدفة، وليس أمراً جاء فلتة؛ لأننا لا نؤمن بالفلتة، ولكن هذا الأمر هو نتيجة جهد من جانب، ومن الجانب الأعظم هو توفيق من الله عز وجل؛ فإن الله تعالى قد وعد بأن يظهر هذا الدين على الدين كله، وأن يمكنه في الأرض، وأن يبدل هذا الخوف أمناً بشرط: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، هذا وعد الله عز وجل لا يتخلف. لذلك لا تعجبوا حينما ترون هذه الصحوة الإسلامية المباركة تحطم كل ما يقف في طريقها، وتبدأ بصغار الشباب بصفة خاصة، لا تعجبوا في هذه الفترة؛ فإن هذا هو أمر الله ووعد الله الذي لا يتخلف. أيها الإخوة! بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية المباركة وبالرغم من هذه اليقظة التي أثلجت صدور المسلمين في أبنائهم، إلا أن من العجيب أنها في أبناء عامة الناس أحسن منها في أبناء علماء المسلمين وأبناء الصالحين؛ ليثبت الله عز وجل لهؤلاء الناس أن القوة لله جميعاً، وأن الله غالب على أمره.

العقبات التي تعترض سبيل الشباب وتعرقل مسيرة الصحوة

العقبات التي تعترض سبيل الشباب وتعرقل مسيرة الصحوة أيها الإخوة! بالرغم من هذه الصحوة الإسلامية ففي الساحة الإسلامية وفي دنيانا اليوم عقبات ما زالت تعترض سبيل الشباب، وتعرقل هذه الصحوة، ولولا أن الله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس لما رأينا هذا الالتزام وهذه الاستقامة في مثل هذه الفترة التي فيها من العقبات ما فيها، ولكننا نشكر الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً؛ فله الفضل من قبل ومن بعد. وهناك عقبات كثيرة جداً سوف نتعرض لجزء منها في هذا الحديث، وأظن أنها قد أثرت على كثير من الشباب، حتى بعض الشباب الذين اتجهوا إلى ربهم، فلربما تجذبهم إليها جذباً في بعض الأحيان، فيكون هناك شيء من التقلب، وهذا التقلب حدثنا عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا). فهناك عقبات في طريق الشباب كثيرة أهمها:

حب المركز والجاه

حب المركز والجاه حب المركز والعلو والسيطرة والجاه: وهذه تُعتبر من أكبر العوامل، وكم كان الناس يعلقون آمالاً عظاماً في شباب كانت لهم طموحات وفي رجال كانوا أصحاب فكرة، فإذا بهم يصلون إلى المركز، ثم يتغير شيء من مسارهم إن لم يتغير كله، وهذه من الفتن التي تفتن كثيراً من الناس عن دينهم.

الشهوة المحرمة

الشهوة المحرمة ثانياً: الشهوة الحرام التي أصبحت تُعرض على كثير من شبابنا بهذه الأفلام، فلها آثار وخيمة في نفوس هؤلاء الشباب؛ مما أدى إلى أن تسقط بعض أخلاق هؤلاء الشباب، ثم لا يجدون مبرراً لواقعهم إلا أن يتخلصوا من الفكرة النبيلة التي من الله بها عليهم.

الخوف من الموت

الخوف من الموت ثالثاً: خوف الموت: فقد ضعف اليقين في نفوس طائفة من شباب المسلمين، وظنوا أن الخوف يبعد الموت، وأن الإقدام يدني الموت، ونسوا أن الله عز وجل يقول: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب أجل الإنسان كما كتب رزقه، وكما كتب عمله يوم كان في بطن أمه شقياً أو سعيداً، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحداً من الناس لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت القلم وجفت الصحف، كما جاء معنى ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فالأرزاق بيد الله عز وجل مقدرة من لدن حكيم خبير، والآجال كذلك مقدرة كما قدرت الشقاوة والسعادة، وعلى هذا فالأجل بيد الله عز وجل.

قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه مع قيصر

قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه مع قيصر وتذكرني هذه العناصر الثلاثة بقصة شاب مؤمن عرضت عليه كل مغريات الحياة، وأهمها هذه الثلاثة: حب الحياة، وكراهية الموت، والمركز والشهوة التي تجذب إلى نفسها بقوة، فرفضها، وخرج من هذه الفتن الثلاث معافىً قد رفع رأس نفسه، ورفع الأمة الإسلامية جمعاء. والقصة باختصار كما يرويها المؤرخون: أن رجلاً من قادة المسلمين في غزوة اليرموك في بلاد الشام يدعى عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، أرسله عمر رضي الله عنه في جيش المسلمين، فوقع أسيراً في بلاد الروم، وكان شاباً يتقد ذكاءً وحماساً وتقىً واستقامة، فأعجب السجانون بهذا الشاب في عبادته وصلاحه واستقامته، فقيل لقيصر الروم الخبر عنه فقال: جيئوني به. يريد أن يعرض عليه الفتن الثلاث التي أوردتها لكم. فلما مَثُلَ رضي الله عنه بين يدي قيصر قال له: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي، فنظر إليه نظرة ازدراء واحتقار وقال: والله! لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني! هذه عقبة استطاع أن يتخطاها رحمة الله عليه, فشعر قيصر الروم بالذلة أمام هذا الرجل المؤمن العملاق، وقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في تعذيبه، بدل أن يكون مساعداً لقيصر الروم أصبح سجيناً معذباً، لكن ذلك في سبيل دينه، فقال قيصر: دلوني على طريقة أستطيع أن أفتن بها هذا الرجل، فقالوا: الشهوة، إنه شاب بعيد عن أهله منذ أشهر طويلة، وتستطيع أن تجذبه عن طريق الشهوة، فجاءت فكرة أخرى، فقال: جيئوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بها، فأغريت بالمال لتفتن عبد الله، فجردت هذه الفتاة من كل ملابسها، وأُدخلت عليه، وهو منكب يتلو القرآن، فلما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها الفتنة، فأغمض عينيه، وصارت تتابعه وترمي نفسها في أحضانه، وهو مكبل بالأغلال، وكلما اتجهت إلى جهة انحرف إلى جهة أخرى، وبقيت مدة تطارده، وهو ينصرف عنها، فأيست منه، فقالت: أخرجوني، فلما أخرجوها قالت: والله! لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر، والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! فيئست المحاولة الثانية التي تفتن اليوم كثيراً من أبناء المسلمين، وإذا أردتم الدليل على ذلك فاسألوا شركات الطيران: كم يسافر من أبناء المسلمين اليوم إلى أماكن فيها كثير من الفساد! فتحير قيصر الروم وقال: لابد أن تعطوني طريقاً أستطيع أن أفتن بها هذا الرجل، يريد أن يسترد ماء وجهه الذي ضاع أمام شاب من أبناء المسلمين، فقالوا: الموت، فكل الناس يفرون من الموت، فجيء بقدر عظيم، فأُشعلت تحته النار حتى تحول القدر إلى قطعة حمراء من النار، فقال: جيئوني بـ عبد الله بن حذافة ورجل من أصحابه الذين كانوا يلازمونه، فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وجيء بصديقه الذي لا يفارقه، فأمر قيصر أن يُؤخذ صديق عبد الله ويُرمى في القدر، فرُمي في القدر، فصار دخاناً، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، وكان قيصر يراقبه، فلما رأى الدمعة قد سالت من عين عبد الله ظن أن الرجل قد خاف من الموت، فالتفت إليه وقال: يا عبد الله! أنت ستكون بعده، قال: اخسأ يا عدو الله! لقد رأيتني أبكي، والله ما بكيت خوفاً من الموت، والله ما جئت إلى بلدك هنا إلا لأطلب الشهادة في سبيل الله، ولكني بكيت لأن صاحبي هذا كان من أعز الناس عليّ، وكان يسابقني إلى الجنة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الدار الآخرة، فكنت إذا صليت ركعتين في الليل صلى أربعاً فصليت ثماني ركعات في جنح الليل، وإذا صام في الهاجرة يوماً صمت يومين، وكان أمنيتي أن أسبقه إلى الجنة، فالآن أبكي لأنه سبقني إلى الجنة. انظروا عظمة الرجال أيها الإخوة! إنهم شباب في عقول رجال كبار، فتحير الرجل أمام هذا البطل المؤمن، ماذا يفعل؟ فقال: يا عبد الله! أريد منك شيئاً واحداً فقط، تقبل رأسي وأطلق سراحك، قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] لن أقبل رأسك ولو قطعتني إرباً إرباً، قال: يا عبد الله! تقبل رأسي وأطلق جميع أسرى المسلمين في بلاد الروم، فانظر كيف أصبح الرجل يتنازل عن مطالبه؛ لأنه يريد فقط أن يسترد مكانته التي فقدها أمام هذا الشاب المؤمن، قال: ما دام الأمر بهذا الشكل أعطني فرصة ثلاثة أيام أستخير ربي، قال: لك ثلاثة أيام، فردوه إلى السجن وشددوا عليه، وجيء به بعد ثلاثة أيام فقال: رأيت ألا أقبل رأس رجل كافر، وافعل ما تشاء، قال: يا عبد الله! تضع شفتيك على رأسي وأطلق جميع أسرى المسلمين من بلاد الروم، فوضع شفتيه على رأسه، ويُقال: إنه رضي الله عنه بصق على رأسه، فأمر بإطلاق جميع أسرى المسلمين الذين كانوا في بلاد الروم. وفي الطريق كانوا يلومون عبد الله ويقولون: يا عبد الله! كيف تضع شفتيك على رأس رجل كافر من أجلنا؟ فيقول: يا قومي! والله لقد بصقت على رأسه حينما وضعت شفتي على رأسه، فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المدينة بما فعله عبد الله بن حذافة، فقال لأهل المدينة جميعاً: إن على كل واحد منكم أن يخرج لاستقبال عبد الله بن حذافة، وأن يقبل رأسه. فهذا نموذج من الشباب الذين يربيهم الإسلام، ويحتضنهم أولياء الله، وهؤلاء ما زالوا ولم يزالوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهم قوة ضاربة في الأرض أمام الطغيان والكفر والجبروت، قال عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]. وإذا أردتم دليلاً على ذلك فتتبعوا ما يحدث في الساحة الإسلامية تجدون العجب العجاب، فهؤلاء قوم لا يخافون من الموت؛ لأنهم يرون أن الموت في مثل هذا الطريق شهادة، والشهادة ترفع الإنسان في أعلى درجات الجنة يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله؛ ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض). والجهاد في سبيل الله أنواع كثيرة، ولذلك عرفوا أن بينهم وبين الله عز وجل بيعة، وإذا أردتم نموذجاً واضحاً فتتبعوا أخبار أفغانستان في أيامنا الحاضرة فستجدون شباباً في مستهل العمر يؤكدون هذه البيعة بينهم وبين الله عز وجل، ولا يضنون بأنفسهم ولا بدمائهم ولا بأرواحهم. أيها الإخوة! لكن هذه عقبات في الحقيقة لا ننكرها، وهي تعترض سبيل كثير من الشباب.

سوء التربية

سوء التربية ومن هذه العقبات أيضاً: سوء التربية: وسوء التربية يعني أن المسئولين عن تربية هؤلاء الناشئة لا يقومون بالدور الذي أُنيط بأعناقهم، ولا يقومون بما أوجب الله عليهم تجاه إعداد النشء، وهذا تقصير مشترك بين الأب وبين المدرسة وبين البيئة وبين أناس كثيرين؛ ولذلك يجب على كل واحد من المسلمين أن يعد هذا الجيل إعداداً صالحاً مستقيماً وفق المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وعلى منهج سلفنا الصالح، فالأب يشعر بهذه المسئولية، والمدرس يشعر أيضاً بهذه المسئولية، والأم تشعر بهذه المسئولية، وولاة الأمر أيضاً يشعرون بهذه المسئولية، وكل واحد من الناس يشعر بهذه المسئولية، فيقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنظف البيئة الإسلامية؛ بحيث تصبح تربة طيبة صالحة لهذه البذور الإسلامية الصالحة الموجودة. ولذلك فإننا نقول: هناك تساهل في التربية أيها الإخوان! وهناك مسئولية عظيمة جداً، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]. وليس هناك اختلاف بين الآية الأولى والثانية، فالآية الأولى تتحدث عن التربية عموماً، والآية الثانية تتحدث عن مسئولية الآباء تجاه الأبناء، ويقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته)، فلو قام كل واحد منا بهذا الدور الذي وضعه الله عز وجل في أعناقنا وخاطبنا الرسول صلى الله عليه وسلم من منطلق الواجب لتضافرت الجهود في سبيل تربية هذه الناشئة، ولزالت هذه العقبة.

ضعف دعاة الحق

ضعف دعاة الحق ومن هذه العقبات: ضعف دعاة الحق: فدعاة الحق قد يَضعفون في بعض الأحيان، وقد يُضعفون، وقد تكون هناك عراقيل تُوضع في طريقهم، وهذا ليس عجيباً؛ لأن الجنة حفت بالمكارة؛ ولأن النار حفت بالشهوات، فدعاة الحق مسئولون عن أي تخلف يحصل في أبناء المسلمين. أيها الإخوة! إنه لما نشط دعاة الحق كانت من ثمار نشاطهم هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولكن بمقدار ما يهبط دعاة الحق يقوم دعاة الباطل؛ لأن دعاة الباطل كالفئران، لا تتحرك إلا حينما يسكن الجو، فإذا سكنت الأصوات وهدأ الجو خرجت، ثم إذا سمعت الأصوات دخلت في جحورها؛ ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! فإن الساحة الإسلامية تغص بدعاة الباطل، وهم يستغلون كثيراً من الفرص وكثيراً من الوسائل، ولا يبالي كثير منهم، حتى وصلوا في هجومهم على الإسلام وعلى الدين إلى النيل من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البرية، وحتى سمعنا في أشعارهم الساقطة الهابطة من يتناول الله عز وجل! فلماذا وُجد هذا؟ وُجد لأن دعاة الحق تأخروا، والفارغ لابد أن يمتلئ، والساحة لابد أن يُوجد فيها شيء، فإذا تأخر هؤلاء قام أولئك، وإذا نشط هؤلاء تأخر أولئك. إذاً: سنة الله تعالى في هذه الحياة أنه لابد أن تكون هناك حركة وعمل ودعوة ونشاط، وهذه إما أن تكون للحق أو للباطل، لكن من المؤكد أن الحق لو تحرك فإنه سوف يدمغ الباطل؛ لأن الله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]. إذاً: ضعف دعاة الحق يُعتبر عاملاً من عوامل دعاة الباطل، ونشاطهم يُعتبر عاملاً من عوامل اندحار الباطل بإذن الله تعالى؛ والواقع أكبر دليل على ذلك.

خطر دعاة الباطل وخاصة إذا كانوا من أبناء جلدتنا

خطر دعاة الباطل وخاصة إذا كانوا من أبناء جلدتنا تأتي المصيبة وتكون أكبر حينما يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا، وأظن بل أتأكد أن المخربين الذين نذروا حياتهم للنيل من هذا الدين قد ربوا أفراخاً لهم في بلاد المسلمين، ورعوهم رعاية كاملة مدة من الزمن، سواء كانوا في بلاد المسلمين أو خارج بلاد المسلمين، ثم قذفوا بهم إلى بلاد المسلمين، وحينئذ قاموا بهذه المهمة، وصاروا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين. وقد حدثنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حديثا عجيباً فاسمعوه، يقول حذيفة عن هذا النوع من البشر الذين يفسدون ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، ثم جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قال: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، يقول حذيفة: فقلت: يا رسول الله! -اسمعوا لهذه الفقرة الأخيرة- وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفة: فقلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). ومعنى (من جلدتنا) يعني: من أبنائنا وأبناء أعمامنا ومن أبناء أخوالنا ومن أبناء أجدادنا ومن نفس الجنسية، لم يأتوا من الشرق ولا من الغرب، وإنما ولدوا في بلاد الفطرة، وعاشوا في بيوت الفطرة، لكن هذه الفطرة أُفسدت حين تعرضت لعوامل الفساد المعروفة. وقوله: (ويتكلمون بلغتنا)، أي: اللغة العربية الفصحى، ولربما يتباكون في بعض الأحيان على الإسلام، ولربما يدبجون خطبهم أو أحاديثهم أو يستفتحون كتبهم أو مؤلفاتهم أو مقالاتهم بالتعاطف مع الإسلام؛ ليلفوا الباطل بلفائف من الحقيقة، لكنها مكشوفة. وأظن هؤلاء لا يحتاجون الآن إلى بحث كبير، فهم يعيشون في بلاد المسلمين وبكل طلاقة، وربما يكونون أصحاب أمور مهمة، أو ربما يحصلون على مراكز كبيرة في بلاد المسلمين، ومن منطلق هذه المراكز يعملون، وهذا يوجد في كثير من بلاد المسلمين، وأكثر البلاد التي أصيبت بالنكبة أصيبت على أيدي شبابها. قال حذيفة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك) انتبه رضي الله عنه، ونحن الآن أدركناهم وهي معجزة تحققت للرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فقلت: يا رسول الله! وإن لم يكن يومئذ للمسلمين جماعة، قال: فر بدينك، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)، لكن نحن لا ندعو المسلمين الآن إلى الفرار؛ لأن هذا يُعد من الفرار من الزحف؛ ولأن بقاء المسلمين والمجاهدين والعاملين والمصلحين في الساحة خصوصاً في هذه الظروف أصبح أمراً مطلوباً. فدعاة الباطل هم أكثر من يشوهون الإسلام، لا سيما إذا كانوا من أبناء الجلدة، وممن يتكلمون باللغة، ولذلك يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند إذ كون واحد بعيد منك ليس بغريب أن يظلمك، لكن حينما يظلمك واحد من قرابتك يصبح ذلك شديداً على النفس أشد من وقع السيف المهند الحاد الشديد على اللحم؛ لأن القرابة يجب أن يحموا هذه القرابة، ويجب أن يحافظوا على اللحم والدم، أما إذا كان من أبناء المسلمين من يطعن في الإسلام فهنا تأتي المصيبة والبلية، بل أنا متأكد أن الطعن الذي حصل من أبناء المسلمين على الإسلام أكثر مما حصل من أعداء الله عز وجل، وتحضرني مناسبتان في هذا: الأولى: هناك رجل اسمه محمد ممن ينتسب إلى الإسلام، وأظنه في مهد الإسلام الأول، يقول في قصيدة لا أستطيع أن أنطق بها، ولكن آتي لكم بشيء من ملخصها: إن تأخر البشرية بدأ من محمد الهاشمي، ومن نزول سورة (تبت)! تصوروا هذا الإفك العظيم، هذا أكثر من الردة؛ لأن الردة معناها: الخروج عن الإسلام، لكن هذا طعن في الإسلام، والله تعالى سمى من يقول مثل هذا المقال إماماً في الكفر، كما في قوله سبحانه: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، يعني: هو وراء الردة بكثير؛ لأنه من أئمة الكفر. وفي نفس الفترة يقول رجل كافر يهودي يدعى برنارد شو عن الإسلام: إن محمداً لو بعث اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة. فذلك مسلم ويدعى محمداً، وهذا عدو للإسلام يدعى برنارد شو، ذلك يقول: إن نزول سورة (تبت) ومجيء محمد الهاشمي سبب تأخر العالم! وهذا يقول: لو بعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة. إذاً: لا حاجة إلى أن يشتغل أعداء الإسلام من الخارج للطعن في الإسلام وللنيل من الإسلام. ونتعدى هذا الموضوع؛ لأن هذا موضوع شائك، وننتقل إلى موضوع آخر من الأمور التي تعرقل مسيرة هذا الشباب إلى ربه، وتكون عقبة في طريقهم.

عدم استقامة إعلام المسلمين

عدم استقامة إعلام المسلمين من العقبات: عدم استقامة إعلام المسلمين: فالإعلام هو: الصحافة والكتاب والإذاعة والتلفاز والأشرطة والفيديو، والأشياء التي قدمتها لنا وسائل التقنية بكثرة وبسرعة وبتطور هائل، وهذه تستغل في بعض الأحيان في بلاد المسلمين استغلالاً سيئاً، بل في أكثر الأحيان، بل أظن أن هذه الوسائل لا يأتي بها الذين يصنعونها ويروجون لها في كثير من الأحيان إلا لتكون وسيلة دمار، مع أننا لا نجردها من أن تكون وسيلة للصلاح، فكثيراً ما تكون وسيلة للإصلاح. لكن أنا أحكي عن الواقع لا عن المقصود، فهذه إذا استغلت استغلالاً سيئاً رديئاً تكون لها آثار وخيمة وسيئة، حتى ولو نشط المصلحون في الدعوة؛ لأن من شروط الاستقامة والالتزام والطاعة طهارة البيئة؛ لأن النفوس البشرية بطبيعتها تميل إلى هذه الأشياء، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، وكل هذه الوسائل وكل هذه الأمور المحبوبة للنفوس يتقدمها النساء والشهوة. وعلى كلٍ هذه الوسائل عرف صانعوها وعرف مروجوها الذين يكرهون الإسلام أنها وسيلة جذابة، ولذلك تجدون أن في أكثر المجلات ابتداءً من صورة الغلاف تُوضع صورة أجمل فتاة من أجل أن تكون جاذبة، ثم بعد ذلك يُوضع بين الدفتين ما الله به عليم، هذا بالنسبة للمجلات وللصحف. وبالنسبة للوسائل المرئية والمسموعة فإنها أيضاً تحمل سموماً كثيرة، وهذه تلوث البيئة، حتى المصلحون لا ينجحون نجاحاً كاملاً وهذه موجودة في المجتمع؛ لأن من شروط نجاح الإصلاح أن تكون هناك بيئة نظيفة طاهرة، يلتقي الشاب بشيخه أو بزميله أو بالذي يوجهه، ثم ينطلق منه فيجد أمامه بيئة صالحة وبيتاً صالحاً نظيفاً طيباً طاهراً، أما أن يتأثر ثم يجد هذه الأشياء المغرية تفاجئه في الشارع وتفاجئه في البيت وتتابعه في كل ليلة وفي كل ساعة فهذه غالباً تؤثر، ولذلك استطاع العدو أن يستغل وسائل الإعلام في بلاد المسلمين، فجعل منها وسيلة من وسائل انحراف أبناء المسلمين. وهذه الأفلام تأتي وتتعدى وسائل الرقابة، وتنتشر وتُباع بأثمان باهظة، ولا تتعجبوا من ذلك! لأن من ورائها أقواماً يحقدون على الإسلام، ويريدون أن يروجوها كما يروجون المخدرات التي أصبحت الآن تتسرب إلى بلاد المسلمين بطريقة يعجز عنها أي إنسان يحاول أن يقف في وجهها، وهذه الأفلام تتسرب أيضاً، وهي أخطر من المخدرات، ونحن نرجو من المسئولين الذين يحاربون المخدرات أن يحاربوا هذه التي تخدر الغيرة أيضاً، وتخدر الشاب، وتذيبه في مجتمع غير مجتمعنا؛ حتى أصبحت تعرض الجنس، وتعرض اللواط أمام الشباب، وتعرض أموراً خطيرة جداً! فهذه الأفلام أصبح يروجها أعداء الإسلام، وليس عجيباً أن يروجوها؛ لأن هذه مهمتهم، فهم يقومون بدورهم، والله تعالى يقول: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] وهم يُعتبرون مخلصين في القيام بمهمتهم ودورهم، لكن نحن ما موقفنا من هذه الأشياء: هل قمنا بالدور الذي أناطه الله عز وجل في أعناقنا؟ قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، فلابد من أن يكون هناك دفع يدفع الله عز وجل هؤلاء الناس بعضهم ببعض، وإلا فإن أعداء الإسلام لا يرحمون الأمة الإسلامية، ولا يفكرون إلا في انحرافها، ويخططون الليل والنهار ويشتغلون في ظلام الليل من أجل أن ينحرف أبناء الإسلام، وهم لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، إنما مصيرهم إلى النار. والله إننا نتعجب حينما نرى نشاط أعداء الإسلام في باطلهم وضعف المسلمين في مهمتهم! كنت ذات يوم في دولة من دول أفريقيا التي غزاها النصارى من كل فج عميق، ووصلنا إلى غابة من الغابات بعيدة، لم نصل إليها إلا بشق الأنفس، وبتعب شديد، بسبب وجود حر شديد، وبعوض، ومياه متكدرة، ومع ذلك لما وصلنا وجدنا من شباب أوروبا وشابات أوروبا فتياناً وفتيات أظنهم في سن العشرين كل واحد منهم قد احتضن طفلاً من أطفال المسلمين الضائعين الذين يهاجرون من دولة إلى دولة، فقلت: سبحان الله! كيف جاء هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ هؤلاء هم بعيدون عن الجنة، ويعرفون بأنهم يدعون إلى دين فاسد؛ فهم يريدون أن ينَّصروا أبناء المسلمين وهم يعلمون أن النصرانية قد انتهت مهمتها في هذه الحياة، وأنها لن تعود مرة أخرى، بل أكثرهم ملاحدة. ولكن أعجب من ذلك أني قلت: أين أبناء المسلمين؟ ولماذا لا يأتي من أبناء المسلمين الذين يزيدون عن المليار؟ وأين ثروات المسلمين وهم يملكون أكبر ثروة في العالم؟ ولماذا لا تصل إلى هذا المكان؟ ولماذا لا يصل أبناء المسلمين هذا المكان؟ حتى رأينا من أبناء المسلمين من يولد على الفطرة وينتهي يهودياً أو نصرانياً أو ملحداً على أيدي هؤلاء! وليس عجيباً! فهناك أب فقير ابتلاه الله عز وجل بكثير من الأولاد، وليس في يده شيء، ونام المسلمون على المتاع، وجاءه هؤلاء النصارى واليهود والبوذيون وربوا أبناءه، وساعدوه في تربية أولاده، فليس غريباً أن ينحرف هذا أو ينحرف أولاده، ولكن الغريب أن يتأخر المسلمون عن مهمتهم. إذاً: أيها الإخوة! لم يقم المسلمون حقيقة بالدور الذي أناطه الله عز وجل بهم.

سوء اختيار الصحبة

سوء اختيار الصحبة ومن هذه العوامل التي تؤثر الآن على كثير من الشباب: سوء اختيار الصحبة: فنرى كثيراً من الآباء منذ طفولة ولده وفي أول أيامه لا يبالي من يصاحب هذا الولد، ثم يكبر هذا الولد فلا يستطيع ذلك الأب أن يعزل هذا الولد عن هؤلاء الأصحاب الذين ألفهم منذ طفولته، ثم تكون هناك مشاكل وفتن كثيرة وخطيرة، فالله عز وجل حذرنا من موالاة هؤلاء، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:13]، ويقول الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من مجالسة هؤلاء فيقول: (لا تجالس إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي). والقرآن يحذر من صحبة هؤلاء تحذيراً شديداً، كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]. فكل هذه النصائح غفل عنها كثير من الناس، واهتموا بالدنيا، وغفلوا عن الأولاد، فنشأت ناشئة وصلت إلى مستوىً من الفسق والانحراف لا يعمله إلا الله عز وجل، وكل ذلك بسبب هذه الصحبة، وتأكدوا أنه بمقدار ما يوجد من الشباب الذين اهتدوا وهم يسيرون الآن لهداية إخوانهم الشباب أنه يوجد أكثر منهم من يعمل عملاً مضاداً؛ ويسعى لحرف أبناء المسلمين، لا سيما في عصر هذه الفتن. إذاً: أيها الإخوة! لابد أن نحسن الاختيار، وإلا فإن ذلك يعتبر عاملاً من عوامل انحراف الشباب؛ ولذلك فإن هذا الولد أمانة في عنق هذا الأب، عليه أن يراقبه أكثر بكثير من أن يراقب ماله أو يراقب شيئاً يستفيد منه في هذه العاجلة؛ لأن هذه أمانة كبيرة ومسئولية عظيمة. أيها الإخوة! لابد أن تتضافر كل الجهود من أجل تعريف هؤلاء الشباب بربهم، وربطهم بعقيدتهم ربطاً كاملاً؛ حتى لا يتعرضوا لهذه الفتن وغيرها من الفتن الكثيرة. أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يثبت الأقدام، وأن يحمي حوزة الدين من أعدائنا في الداخل والخارج، وأن يتوفانا على ملة الإسلام، وأن يلحقنا بالصالحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

انحرافات وتصرفات أبناء الإسلام لا تمثل الإسلام

انحرافات وتصرفات أبناء الإسلام لا تمثل الإسلام Q كثر الادعاء بالإسلام والتستر به، وأخذ بعضه وترك بعضه، فما هو موقف الشباب من هذه الاتجاهات والانحرافات؟ A هذه قد تكون موجودة، بل هي موجودة لا شك، لكن هذه لا تضير الدين، والشاب الذي يريد أن يفهم الإسلام من خلال المسلمين يخطئ، والمطلوب هو أخذ الإسلام من مصادره الصحيحة؛ لأن المسلمين حينما ينحرف منهم من ينحرف عن المنهج الصحيح لا يضير ذلك الإسلام، وإنما يضير هؤلاء الذين أصيبوا بهذه الفتنة. وأقول: أيها الإخوة! إن الإسلام محفوظ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يأخذه طرياً فليأخذه من الكتاب والسنة ومن العلماء المخلصين، ولا يأخذه من الواقع؛ لأن أخذه من الواقع يؤدي إلى أن يوجد ازدواجية في نفوس كثير من الشباب، ولا يلامون حينما يكون ذلك؛ فإنه حينما ينظر كثير من المسلمين إلى هذه الازدواجية التي توجد في حياة الناس لربما توجد خللاً في نفسه واضطراباً في يقينه بالله عز وجل؛ كيف فلان من الناس الذي يُعتبر مثالاً للإسلام يفعل كذا؟! وكيف فلان يفعل كذا؟! فهذه الأمور لا يجوز لأحد أن ينظر إليها، وإنما عليه أن يعتبر هؤلاء البشر يخطئون ويصيبون، وأن دين الله عز وجل محفوظ، وأن له مصادر أصيلة يجده فيها، ولا يكون الإسلام بالتقليد.

الأمور التي ترجع إليها المعوقات

الأمور التي ترجع إليها المعوقات Q عددتم معوقات الشباب، ألا يظن فضيلتكم أن جميع هذه المعوقات ترجع في مجملها إلى ضعف العقيدة الصحيحة التي تؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ A بالنسبة لهذه الأمور كل واحد منفصل عن الآخر، لكن ربما ترجع إلى شيء واحد وهو ضعف الإيمان في النفوس، وإن كان الإيمان -والحمد لله- موجوداً، لكن هذا الضعف الذي بُلي به المسلمون كانت له آثاره على ذلك الجزء الذي أصيب بعدم المناعة، فأصبح الجسم يتأثر بأي نوع من الأمراض البسيطة، ويتضخم، حتى تصبح الأمراض كبيرة لضعف المناعة في هذا الجسم، ولكن الجسم لو كانت عنده قوة في المناعة لاستطاع أن يتخطى كل هذه العقبات، وكذلك المجتمع الإسلامي في أيامنا الحاضرة، وفيه مغريات، وفيه أمور توجهه إلى الله عز وجل، وهناك نفس لوامة، وهناك نفس أمارة، وهناك أيضاً نفس مطمئنة، لكن وجود هذه الأشياء -بالرغم من وجود إيمان ويقين- لا شك أنه يعرقل مسيرة الشباب إلى ربه، وهناك فرق بين بيئة نظيفة طاهرة لا توجد فيها هذه المغريات وبين بيئة متلوثة، إذ لا شك أن الثانية سوف تؤثر على أهلها ولو كان عندهم ما عندهم من الإيمان؛ لأن الإنسان بشر، والبشرية تتعرض بطبيعتها إلى أشياء كثيرة. ولذلك هناك أناس عندهم رغبة في الخير وحب للخير واتجاه للخير، لكن يفاجئون بهذه الأشياء التي تنتشر في مجتمعهم، فتجدها تضعف من اليقين الموجود في قلوبهم، لكن لو كانت البيئة طاهرة ونظيفة من كل هذه المغريات لكان ذلك أقوى في إيمان هؤلاء الشباب، وأمثل في اتجاههم إلى ربهم، وإن كان المؤمن الحق ينظر إلى هذه الأشياء نظرة تافهة، ولا يقيم لها وزناً؛ لأنه مؤمن يقول: أنا مؤمن أبغي الحياة وسيلة للغاية العظمى وللميعاد فينظر إلى هذه المغريات نظرة احتقار، وهذا يوجد، لكن الكثير يتأثر بهذه المغريات.

كيفية علاج الشهوات

كيفية علاج الشهوات Q إذا وقع الشاب المسلم في الشهوات، وحاول أن يتخلص منها ولكنه لم يفلح، فما هو علاج مثل هذه الحال يا فضيلة الشيخ؟! A ليست هناك شهوة محرمة وإلا ويقابلها شهوة مباحة، فالزنا -وهو من أعظم الشهوات- يقابله الزواج، قال عز وجل: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، والسرقة يقابلها الكسب الحلال، والربا يقابله البيع الشريف والشراء، وهكذا كل هذه الشهوات المحرمة والمغريات الموجودة في الحياة لها مقابل مما أباح الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما سد طريقاً أمام الناس إلا وفتح لهم أوسع منها، والإسلام لا يؤمن بنظرية: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء بل يسد طريقاً ويفتح مائة طريق بدلها، وإذا كان هناك أحد الناس وقع في هذه الشهوات المحرمة ويريد أن يتخلص منها فنقول: طريق الخلاص واضح وبين، فعليك أخي! أن تبحث عن الحلال بدلاً من الحرام، فإذا كنت قد اُبتليت بمحرم فانظر إلى أقرب طريق يخرجك من هذا المحرم، وتصور يا أخي! عظمة الله عز وجل، ومن تعصي أنت؟! ثم تصور ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ثم تصور ساعة الموت قبل ذلك، وأن الموت يأتي فجأة لا سيما في أيامنا الحاضرة التي تُختطف فيها أرواح الشباب أكثر من أرواح الشيوخ، والأصحاء أكثر من المرضى، فتصور هذه الأشياء وبادر بالتوبة، ولا تسوف. فيا أخي! بادر بالتوبة، وابحث عن البديل، ولا تسوف في التوبة، واعلم يا أخي! أن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فبادر بالتوبة قبل أن يقفل الباب.

معالجة النظر إلى النساء

معالجة النظر إلى النساء Q أنا شاب ملتزم والحمد لله، وأحافظ على الصلوات جميعها في المسجد، لكن مشكلتي هي أنني أطالع في النساء، ولا أغض بصري، رغم أني متزوج بزوجة صالحة إن شاء الله، وعندما أحاول غض بصري تراودني أفكار بأنني لا أقدر أن أغض بصري إلا بزوجة ثانية، وأكون متردداً وفي حيرة، وخوفي هو أن أتزوج وتستمر هذه العادة، أفيدوني أفادكم الله؟ A يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى} [النور:30]، وفي الحديث القدسي: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه). ولا شك أن النظر خطير جداً، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى ذكره في سورة تتحدث عن الزنا، وابتدأت بذكر الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، ثم تحدث الله بعد ذلك عن عوامل الزنا، فذكر من هذه العوامل القذف؛ لأن القذف يشيع الفاحشة، وذكر من هذه العوامل دخول البيوت فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، ويدخل في ذلك الاختلاط ثم ذكر سبحانه من عوامل الزنا النظر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ثم ذكر بعد ذلك الزواج مباشرة فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ونأخذ من خلال هذه الآيات المتتالية أن النظر يسبب الزنا، ولذلك يقول الشاعر: جل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر والنكاح أو الزواج هو أكبر وسيلة للعفة؛ لأن الله تعالى لما ذكر النظر قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، وذكر التبرج ثم قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]. إذاً: الزواج يُعتبر وسيلة من وسائل غض البصر وحفظ الفرج، ولذلك أقول أيها الإخوة: إن الله عز وجل حكيم، ولا شك في أنه أحكم الحاكمين؛ ولذلك ما سد طريق الفاحشة وإلا وفتح أربعة طرق، وليس طريقاً واحداً، فأباح أربع زوجات لكل واحد من المسلمين. ولا شك أن في أيامنا الحاضرة تقوم ضجة كبيرة ضد تعدد الزوجات، وتنفير الناس من تعدد الزوجات، ويعتبرون هذا ظلماً للمرأة، وهو في الحقيقة تكريم للمرأة، وليس ظلماً للمراة؛ لأن الزوجة الثانية لن يأخذها المتزوج من رجل متزوج بها، وإنما يأخذ امرأة ليس معها زوج، فيعف امرأة ثانية وثالثة ورابعة. والمرأة حين تبقى مع زوج معه أكثر من زوجة خير لها من أن تبقى مطلقة أو تبقى أرملة أو تبقى عانساً. وعلى كل أقول لهذا الأخ: الزواج هو طريق العفة، وقد سماه الله تعالى إحصاناً وسمى المتزوجة محصنة، يقول العلماء: لأنه كالحصن يتحصن به الإنسان من القتل أو كالحصان الذي يمنع صاحبه من أن يقع في الفاحشة؛ ولذلك نعتبر الزواج بواحدة إذا كانت تعف الإنسان أو باثنتين أو ثلاث أو أربع أمراً مطلوباً، وقد وضع الله عز وجل هذا العدد من أجل أن يستغني الإنسان بالحلال عن الحرام. وعلى كل نقول: يا أخي! تزوج ثانية وتزوج ثالثة ورابعة حتى تعف نفسك، ولكن في نفس الوقت عليك أن تتصور أن هذا الأمر خطير جداً؛ لأنه يتبعه أشياء بعده أخطر منه، فهو يُعتبر بداية، وليس نهاية، فالنظر كما عرفنا سهم مسموم، فأقول لهذا الأخ: تزوج، واخش الله عز وجل بغض البصر، وأسأل الله أن يحفظني وإياك والمسلمين. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فاستقم كما أمرت [1]

فاستقم كما أمرت [1] لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة على أمره سبحانه، وذلك بالسير على منهج الله الرباني، وصراطه المستقيم، من غير انحراف أو غلو أو اعوجاج، فصراط الله معلوم، والاستقامة عليه مطلوبة، وتصحيح الطريق أمر ضروري لمن أراد اللحاق بركب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنجاة من عذاب الله.

حقيقة الإنسان الذي أمر بالاستقامة

حقيقة الإنسان الذي أمر بالاستقامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، البشير النذير، والسراج المنير صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن أحدثكم عن حقيقة الاستقامة، وعن مظاهرها التي يجب أن يتحلى بها المسلم، نعود قليلاً لنعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولنرى من هو هذا الإنسان الذي يقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]؛ لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون هذا الإنسان على هذا الكوكب، وهذه الحكمة لا يعلمها إلا الله، فحينما خلق الله عز وجل الإنسان، واعتبره خليفة لأمم سكنت الأرض كما يقول طائفة من المفسرين عن قول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. كان هذا الإنسان أولاً غير مطالب بالعبادة، وإنما أسكنه الله عز وجل الجنة قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35]، لكن حكمة الله عز وجل أن يكون الابتلاء لهذا الإنسان، فيحذر الله عز وجل النبي الكريم آدم عليه الصلاة والسلام عن شجرة واحدة في الجنة، ويبيح له كل ما فيها من نعيم، وما ذلك إلا من باب الابتلاء، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]. ثم إن هذا العداء الذي وقع بين آدم وبين إبليس لحكمة يعلمها الله عز وجل، فأغواه ليأكل من هذه الشجرة فاستطاع أن يؤثر على آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21 - 22]. ومن هنا أهبط آدم وأهبطت حواء؛ لتكون ذريتهما هي التي تعمر هذه الأرض، وليكون الابتلاء، ولكن حكمة الله عز وجل أن تكون الفطرة هي الأساس المتين الذي ينشأ عليه بنو آدم، فالله عز وجل اقتضت حكمته أن يخلق فطرة التوحيد والإيمان في قلب كل واحد من بني آدم قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]. ثم أيضاً: نجد أن الله عز وجل أخبر أنه أخذ هذا العهد والميثاق على بني آدم جميعاً حينما استخرجهم من ظهره كالذر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فكانت الفطرة موجودة، كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي حيث قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، وبقيت هذه الفطرة إلى أن تسلط عليها شياطين الإنس والجن؛ فكان الصراع بين المؤمنين ابتداء من آدم عليه الصلاة والسلام وفي ذريته إلى يوم القيامة، وبين الشياطين مستحكماً منذ أن أهبط آدم من الجنة، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الصراع سوف يستمر. ولذلك فإن هناك عوامل مهمة خلقها الله عز وجل في هذه الحياة من أجل أن يكون الامتحان والاختبار، ومن أجل أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، فاقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقسم الناس إلى شقي وسعيد منذ أن كان هذا الإنسان جنيناً في بطن أمه، حينما يكتب الملك أربع كلمات منها: شقي أو سعيد، وعلى هذا يستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد جعل الله عز وجل في هذه الحياة مغريات وأموراً تميل إليها النفوس البشرية بطبيعتها وفطرتها، ولكن الله عز وجل خلق العقل، وأعطاه ميزة تسيطر على هذه الشهوات في كثير من الأحيان، ولذلك فالصراع بين العقل والعاطفة والشهوة هو الذي يحدد مصير هذا الإنسان؛ ولذلك كان لا بد من الاستقامة؛ حتى لا تتغلب العوامل والشهوات على العقل الذي يخاطبه الله عز وجل دائماً، ويعتبره هو المعيار والفيصل بين الإنسان والحيوان، ويخاطبه الله عز وجل دائماً: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24]، {لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43] إلى غير ذلك. فالخطاب في مثل هذه الأحيان يوجه للعقل حتى لا يلغي هذا الإنسان العقل، ولكن هذه العوامل ما زالت تتابع الإنسان، أي: عوامل الانحراف والخطأ كما هي الفطرة البشرية قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53]، ومن هنا لا بد أن يكون للاستقامة دور، ولا بد أن تكون الاستقامة حينما توجد مثل هذه العوامل، لاسيما إذا كانت هذه العوامل عنيفة شديدة، قد تعصف بالإنسان، فيغفل عن عقله وتفكيره؛ لينسجم مع عواطفه، فيؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى الانحراف، فلا بد إذاً من الاستقامة. وهذه العوامل العنيفة منها السلبي، ومنها الإيجابي، فالإنسان له شهواته ومطامعه، وله خوفه ورهبته؛ ولذلك فإن المسلم عليه إذا عن أمامه أمر من هذه الأمور التي ربما تعصف بعقله وتفكيره، وبأخلاقه وسلوكه لا بد أن يتذكر هذا عدوه اللدود الشيطان الذي يحذر الله عز وجل عنه فيقول: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].

حقيقة الاستقامة وأهميتها وما يخل بها

حقيقة الاستقامة وأهميتها وما يخل بها وعلى هذا لا بد أن نعرف حقيقة الاستقامة، وأهم مظاهرها.

الاستقامة طريق النجاة من عذاب الله

الاستقامة طريق النجاة من عذاب الله أولاً: قبل أن نبحث في معنى الاستقامة وفي الآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع نعرف أن الأمر بالاستقامة في هذه الآيات جاء في آخر سورة هود، وسورة هود يكفي أنها هي التي شيبت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قيل له: (يا رسول الله! شبت! قال: شيبتني هود وأخواتها) ولذلك حينما تقرءون سورة هود تجدون فيها من الوعد والوعيد، والأخذ الشديد للقوم الذين تنكبوا عن منهج الله، وعن دعوة المرسلين عليهم الصلاة والسلام. ثم تعرج الآيات بعد ذلك للتحدث عن يوم القيامة: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 107] إلى غير ذلك، ثم يقول تعالى بعد آيات: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]. إذاً: الاستقامة هي الطريق الذي يكفل للإنسان السعادة في الحياة الدنيا، ويسلم من عذاب الله، وهي الطريق التي توصل الإنسان إلى الدار الآخرة وهو مؤمن فيسلم من عذاب الله، ويدخل الجنة خالداً فيها كما قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، الطريق هو: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وهذا يسميه علماء اللغة استفهاماً بيانياً وكأن سائلاً سأل: ما هو طريق الخلاص من عقوبة الدنيا والآخرة؟ A ( فاستقم كما أمرت)، وهذا الخطاب وإن كان موجهاً في الأصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه في الحقيقة موجه لكل مسلم.

حقيقة الاستقامة

حقيقة الاستقامة والاستقامة حقيقتها: سلوك الطريق المستقيم، وأن نعرف أن في هذه الحياة طريقاً مستقيمة، وفيها طرقاً معوجة، ونفهم أن الطريق المستقيمة هي طريق واحدة، وأن الطرق المعوجة كثيرة جداً، ويدلنا على ذلك ما في آخر سورة الأنعام، قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ولذلك لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية في سورة الأنعام خط خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً صغيرة وقال: هذه السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها ستر مرخاة، وعليها شياطين يدعون إليها، وعلى الصراط المستقيم داعٍ إذا أراد أحد أن يسلك أحد هذه الطرق ناداه: يا عبد الله! لا تسلكه فإنك إن تسلكه تلجه، وإن ولجته لا تنتهي منه إلى يوم القيامة) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: (فاستقم) يعني: ابحث عن الصراط المستقيم. ثم نجد أن الطريق المستقيم واحد، وأن الطريق المنحرفة كثيرة التشعب، وهذا لا يحتاج إلى بحث وتفكير بعيد، لو رأيت الآن هذا العالم الذي يسلك طرقاً منحرفة كثيرة، ولا يجد أمامه طريقاً مستقيماً إلا طريقاً واحدة، فهمت معنى هذه الآية، وفهمت حقيقة الطرق المنحرفة؛ ولذلك بمقدار ما ينحرف الإنسان عن هذه الطريق المستقيمة يجد أن أمامه متاهات وطرقاً كثيرة منحرفة تتلقفه، ويتخبط فيها لا يكاد يخرج من طريق حتى يقع في طريق أخرى يضل من خلالها. وعلى هذا فإن طريق الجنة واحد، ولذلك تجدون في الحديث الصحيح كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) هي صاحبة الطريق المستقيم، أما الاثنتان والسبعون فهم أصحاب الطرق التي تلف يميناً أو شمالاً عن الطريق المستقيمة. (قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). وعلى هذا فإن البحث عن الطريق المستقيمة لا يكلف المسلم جهداً طويلاً وإنما يبحث ماذا كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يزيد ولا ينقص، إن نقص فهو عاص، وإن زاد فهو مبتدع. فهذه هي حقيقة الاستقامة أي: سلوك الطريق المستقيم الذي نسأل الله في كل صلاة أن يهدينا له، وأن يثبتنا عليه، وأننا إذا زغنا عنه نسأل الله العافية والسلامة، فأمامنا طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، والصراط المستقيم الذي نقول فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هو طريق الجنة؛ لأنه طريق غير معوج، ولذلك تلاحظ وأنت تسير في هذا الطريق أن فيه الاستقامة، وتدرك فيه عدم الاعوجاج، بالرغم من أن هناك أقواماً هم أعداء للبشرية يريدون أن نضل الطريق: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:45] كما قال الله عز وجل.

الاستقامة لا تكون إلا على هدي الله ورسوله

الاستقامة لا تكون إلا على هدي الله ورسوله إذاً: هذه الاستقامة واضحة، وهي سلوك الطريق المستقيم، لكن ما معنى: (كما أمرت)؟ قد يلتبس الأمر على الإنسان عندما يرى طرقاً تشبه طرق الاستقامة، لكنها ليست كما أمر هذا الإنسان، ولذلك هذا الواقع هو أخطر شيء على حياة البشرية، وهو أكثر ما يدخل الناس النار، ويجعلهم حطباً لجهنم، أن يبحث عن طريق الاستقامة ومن خلال طريق الاستقامة ينحرف، أي: يضل عن طريق الطاعة، ولذلك تجدون في القرآن أقواماً يكبون على وجوههم في نار جهنم، هم ومن كانوا سبباً في إغوائهم وضلالهم عن الطريق، فيلتفون إلى قادتهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم عن الطريق ويقولون لهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: ما كنتم تأتوننا عن الشمال، ما معنى (عن اليمين)؟ أي: تأتوننا عن طريق الطاعة وما كنتم تأتوننا عن طريق المعصية، ولو جئتمونا عن طريق المعصية ما اتبعناكم؛ لأننا نعرف أن المعصية يكرهها الله عز وجل، لو أتيتم إلينا وجعلتمونا لصوصاً نسرق أموال المسلمين ما اتبعناكم، لو أردتم أن نكون فجرة وزناة نسرق أعراض المسلمين ما اتبعناكم، لكنكم جئتمونا عن طريق الطاعة؛ ولذلك الإتيان عن اليمين خطير جداً، بل لا يشك مسلم أنه أخطر من إتيان الناس عن طريق الشمال، أي: عن طريق المعصية. وإذا أردنا أن ننظر إلى واقع الأمة الإسلامية إذا استثنينا النوع الذي هداه الله عز وجل إلى الفطرة وجدنا الناس على شقين: شق سلك مسلك المعصية، يعربد ويسرف على نفسه في المعاصي والآثام والفجور، لكنه يعرف بأنه يعصي الله عز وجل، ويعرف أنه سلك طريقاً غير طريق الاستقامة، ولربما يعد نفسه بالتوبة ويسوف، لكنه يعد نفسه أنه سوف يتوب في يوم من الأيام. أيهما أخطر هذا المسلك أم أقوام عبدوا الله عز وجل على غير بصيرة، وهم ركع سجد لكنهم يعبدون الله على غير بصيرة، ويعبدون الله عز وجل على غير ما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فهم في اعتقادي يمثلون أهل النار الذين يقولون لمن كانوا سبباً في ضلالهم: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، وهذا هو طريق البدعة والانحراف عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما يأتي ذلك بدافع المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه حب غير صحيح؛ لأنه حب عاطفة وليس حب متابعة، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وايم الحق سبحانه وتعالى لو بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أيامنا الحاضرة ورأى هذا النوع الثاني من البشر الذي انحرف عن الطريق من حيث يزعم أنه يعبد الله، لقاتلهم، لأنهم يتحقق منهم قول الله عز وجل: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] فقد أسرفوا وبالغوا حتى رفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مرتبة البشرية، حتى قال قائلهم: إنه ليس من فصيلة بني آدم، هو خلق من نور، ليس له ظل، هو خلق قبل آدم إلى غير ذلك من الكلام الذي هو كفر بالقرآن في الحقيقة؛ لأن القرآن أعلمنا أن أول الخلق في هذه الأمة آدم عليه الصلاة والسلام، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو لم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، فهو أفضل من الملائكة الذين خلقوا من نور أضعافاً مضاعفة. ومن قال: إن الخلق من نور يعطي المخلوق ميزة أكثر ممن خلق من اللحم والدم؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إنما أنا بشر) بل إن الله عز وجل يقول له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] والبشر معناه: الذي له بشرة أي: لحم ودم. القضية أيها الإخوة ليست قضية تذوق وإنما هي قضية تعبد لله عز وجل بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما شرعه المرسلون من قبله، أما أن تكون المسألة محبة عاطفة فإن الله عز وجل يقول: (فاستقم كما أمرت) يعني: لا تستقيم كما يروق لك. ومن هنا ندرك معنى قول الله تعالى: (كما أمرت) أي: حتى الاستقامة مضبوطة بحدود، وبدائرة لا يمكن أن يتعداها الإنسان ليبحث عن الاستقامة حسب رغبته وشهوته؛ ولذلك فإن هذا الدين محاط بحلقة مفرغة ليس فيها منفذ لأي واحد من الناس حتى يزيد أو ينقص في دين الله؛ ولذلك الله تعالى جعل آخر آية نزلت من القرآن على رأي جمهور المفسرين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

البدع وانتشارها مخالف للاستقامة

البدع وانتشارها مخالف للاستقامة إذاً: ليس هناك مجال للاجتهاد، وليس هناك مجال للابتداع، أبو بكر وهو أفضل البرية بعد المرسلين عليه الصلاة والسلام يقول: (ألا إني متبع ولست بمبتدع)، فإذا كان لا يحق لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يبتدع وهو الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، فهل يحق لواحد يأتي في القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية الكريمة ليحدث في دين الله ثم يقول: إن هذه بدعة حسنة وتلك بدعة سيئة؟! هذا هو الذي نفهمه من قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت). الخطاب موجه في الأصل للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له أن يستقيم كما يحلو له، بل كما أمر، والآمر هو الله عز وجل. إذاً: هذه الاستقامة ليست مجرد تدين أو مجرد عبادة، وإنما هي عبادة مضبوطة محاطة بحلقة مقفلة ليس لأحد أن يتعداها أبداً؛ ولذلك تجدون في القرآن كثيراً ما يلوم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في بعض الاجتهادات في مواطن كثيرة قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:35]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]. هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أن يبتدع في دين الله إلا ما أوحى الله عز جل إليه، ولذلك السنة هي الوحي الثاني من عند الله عز وجل، فالمسألة استقامة كما أمر هذا الإنسان، أما باب البدعة الذي انفتح اليوم على الناس، وجعل منه بدعة حسنة كما يقوله طائفة من الناس، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل خطبة جمعة: (إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). إذاً: (كل) من ألفاظ العموم لا تعطينا أي علم على أن هناك شيئاً يسمى البدعة الحسنة في أي حال من الأحوال. ولربما يحتج هؤلاء بقصة عمر رضي الله عنه في التراويح حينما قال: (نعمت البدعة)، البدعة هنا ليس معناها البدعة التي أحدثت جديداً، بدليل أن التراويح ليس الذي أحدثها هو عمر رضي الله عنه، وإنما شرعها محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه تركها خشية أن تفرض على هذه الأمة، حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه فأحياها؛ لأن التشريع توقف، فلا يخشى في يوم من الأيام أن تفرض، وسماها بدعة أي: سنة نسيت فأحياها عمر رضي الله عنه. وهنا تكون البدعة حسنة أي: إذا كانت سنة نسيت فيحييها أحد من أهل الخير والصلاح، أما أن تكون هناك بدعة حسنة فليس هناك بدعة حسنة، وإنما كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولكن هذه البدعة -أيها الإخوة- تجر إلى بدعة أكبر منها نسأل الله العافية والسلامة، وهي الشرك بالله عز وجل، وسأعطيكم دليلين اثنين على ما أقول: الدليل الأول: أن الله عز وجل قرن البدعة بالشرك في آيتين من كتاب الله عز وجل، وعندما تقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، وهذا في البدعة، ثم قال بعد هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] هذا دليل من القرآن. وأذكر لكم دليلاً من الواقع: حينما كثر الابتداع في دين الله عز وجل، وصار في قاموس هذا العصر ما يسمى بالبدعة الحسنة التي نعتبرها ضلالة، وكلما أعجبهم شيء في ظاهره عبادة فعلوه، وهو في حقيقته تعد على سلطة الله عز وجل، وهي الألوهية والتشريع التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فيقولون بلسان الحال: ما أكملت لنا ديننا، ولا أتممت نعمتك علينا، بدليل أن هنا عبادات جديدة أوجدوها، ويكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف ندخل الحمام، وكيف نجلس عند قضاء الحاجة، وماذا نقول عند دخول الحمام، وكيف نلبس النعل والثوب، وندخل البيت ونخرج، وندخل المسجد، ولا يعلمنا أموراً مهمة أحدثها الناس اليوم في دين الله؟! ما الذي حدث؟ هذه البدع تطورت فأصبحت شركاً بالله عز وجل. وإذا أردت يا أخي دليلاً على ذلك فسر في العالم الإسلامي وسوف تجد كيف تقترن البدعة بالشرك بالله عز وجل، فتبدأ من بدعة صغيرة -كما يقولون- إلى بدعة كبيرة إلى أن تصل إلى الشرك الأكبر نسأل الله العافية والسلامة! فبناء القبور في المساجد بدعة تؤدي إلى الشرك الأكبر، فتجد الطواف حول هذه الأضرحة التي يسمونها الأولياء، وتجد الدموع التي تراق عند هذه الأضرحة أكثر والله مما تراق عند الكعبة المشرفة، وتجد صناديق النذور التي تملأ كل ساعة بالأموال، وتصرف على هؤلاء المشعوذين في وقت العالم يهدد فيه بالمجاعة، فأصبحنا نسمع في قارة واحدة من قارات العالم التي انتشر فيها البدع والوثنية أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان أكثرهم من المسلمين يهددهم الجوع والموت. والله يا إخوان رأيت بعيني هاتين رجالا ًفي آخر العمر ساجدين للقبور، ولوا ظهورهم صوب الكعبة، وولوا وجوههم جهة هذه القبور، ففهمت قول الله تعالى حينما ذكر مشاقة الرسول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115] ثم ذكر الشرك بعد ذلك، وقد ذكرت لنا الإحصائيات الرسمية في أيامنا الحاضرة: أن في العالم اليوم أكثر من عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله. وهذه الإحصائية مضى عليها أكثر من عشر سنوات، فقارن بين هذا الرقم وبين آخر لحظة في آخر معقل من معاقل الوثنية يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ليفتحها؛ لتتحول إلى دار إسلام، كم عدد الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وهي معلقة في الكعبة كلها؟ كانت ستين وثلاثمائة صنم، قارن بين ذلك العدد، وبين هذا العدد، وعد مرة أخرى لتقارن لنا بين جاهلية اليوم وجاهلية الأمس. إذاً: الأمر خطير أيها الإخوة! والعجيب أن كل من يريد أن يتحدث عن هذا الموضوع يتهم بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحب الصالحين. أولاً: محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست محبة عاطفة، وإنما هي محبة متابعة، فليست محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كمحبة الزوجة والأطفال، وإنما محبة متابعة، وتأتي العاطفة بعد ذلك؛ لأننا نتقرب إلى الله عز وجل بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا نؤمن إلا ويكون هو أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا والناس أجمعين، هذا الشيء الذي نؤمن به، لكنها محبة متابعة أكثر من أن تكون محبة عاطفة، ثم يقولون: أنتم لا تحبون الأولياء، نقول: من هم الأولياء في مفهومكم وقاموسكم الجديد؟ يقولون: فلان وفلان من أصحاب الأضرحة، نقول: لا، نحن في مفهومنا -المفهوم الشرعي الصحيح- أن الأولياء هم المتقون، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فأنت وفلان وفلان من الصالحين نعتبركم أولياء، هذا في مفهوم الشرع، أما أن يصبح اسماً اصطلاحياً على قوم من الناس الله أعلم بولايتهم لله عز وجل، فلا نوافقهم على ذلك.

الاستقامة على دين الله يعترضها الابتلاء

الاستقامة على دين الله يعترضها الابتلاء أيها الإخوة! الاستقامة معناها الالتزام بهذا الدين، لا سيما في فترة يتغير فيها الناس عن منهج الله ويتنكبون فيها عن دين الله، لا بد في مثل هذه الظروف من الاستقامة، لاسيما حينما تكون هناك ضغوط تضطر المسلم إلى أن ينحرف، وتكون هناك مغريات، لاسيما أهم عامل من عوامل الاستقامة الذي هو الصدع بكلمة الحق التي تعتبر أفضل نوع من أنواع الجهاد، لاسيما أمام سلطان جائر يريد أن يذل من أعز الله بطاعته، ويعز من أذله الله عز وجل بمعصيته، ففي مثل هذه الظروف يأتي ذلك المسلم ويستقيم على هذا المنهج، ويقول كلمة الحق ولا يبالي، وهذا أفضل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى. ولذلك هذه العقبة كئود وشديدة إذا وصل الأمر إلى هذا النوع من الجهاد، لاسيما إذا تكالب الأعداء على الأمة الإسلامية وأصبحت الطريق وعرة وصعبة، ومن المؤكد أن هذه الطريق غير ممهدة ولا مذللة، ففيها عقبات فيها زلزلة فيها دماء تراق في سبيل الله فيها ابتلاء في الأهل والمال والولد، ولذلك وصف الله تعالى هذه الطريق ووعورتها بأنها شديدة كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214] ما مقدار هذه الزلزلة؟ {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]. تصور يا أخي كيف يقول الرسول متى نصر الله؟! كيف المؤمنون مع المرسلين يقولون: متى نصر الله؟! و (متى) هنا ليست للاستفهام فقط، بل هي للاستبطاء، يعني: أبطأ نصر الله، ثم يأتي نصر الله في مثل هذه الظروف قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. ولذلك فإن أكبر عقبة في طريق الاستقامة أن يتحزب أعداء الإسلام ضد هذا الدين، فلربما يؤدي ذلك إلى الخوف والرعب، والرجوع من منتصف الطريق، وإلى النكوص على الأعقاب نسأل الله العافية والسلامة! وكم من الناس من يبتلى في مثل هذه العصور بهذا النوع من الفتنة فيرجع من منتصف الطريق قبل أن يكمل المشوار إلى الله عز وجل؛ ولذلك يقول الله تعالى عن أقوام فكروا في الاستقامة على هذا المنهج لكنهم فوجئوا بأذى شديد في سبيل الله وفي ذات الله، وكان إيمانهم ضعيفاً مهتزاً لا يستطيع أن يتحمل هذا العبء الثقيل، فرجعوا من منتصف الطريق وقالوا: نحن هربنا من عقوبة يقصدون عقوبة الآخرة، ووقعنا الآن في عقوبة محققة مؤكدة نراها بأعيننا، من الأفضل أن نتحمل عقوبة موعودة ولا نستطيع أن نتحمل عقوبة حاضرة؛ لأن الإيمان ضعيف، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: من أجل دين الله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أتدرون ما فتنة الناس؟ أي: عذاب الدنيا، سجون، أذى، قتل في سبيل الله إلى غير ذلك. لكن هناك أقوام آخرون بمقدار ما يضرم الجو أمام أعينهم ويشتد الأمر تستبين لهم الطريق، ويطمئنون على صحة المسار، ويعرفون أنهم يسيرون على بصيرة بمقدار ما يؤذون في دين الله وذات الله، فيعتبرون هذا الأذى أكبر دليل على أن الطريق الصحيحة هي التي سلوكها، فيزدادون إيماناً وتسليماً، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا النوع من البشر: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].

الاستقامة قد تؤدي إلى الاعتداء

الاستقامة قد تؤدي إلى الاعتداء إذاً: هنا تكون الاستقامة في مثل هذه الظروف، أما الانسجام مع هذه المغريات والشهوات التي ابتلي بها البشر في هذا العصر، فهي أخطر شيء على حياة الأمم، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] حتى الاستقامة لها ضوابط أيضاً ومعالم، {وَلا تَطْغَوْا} [هود:112] فقد تؤدي الاستقامة إلى الطغيان وتعدي الحدود، وأنا قلت لكم: إن دين الإسلام دين محصور في حلقة مقفلة، حتى الزيادة فيها لا تجوز، سواء كان في أمر العبادات أو في أي أمر من الأمور الأخرى، ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]. ولذلك ما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم كغضبه يوم جاءه ثلاثة نفر ذات يوم إلى داره، فسألوا عن عمله في السر عليه الصلاة والسلام، فأخبرتهم إحدى زوجاته؛ فتقالوا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، يريدون أن يغلوا في هذا الدين. نحن نتكلم عن الغلو، وإن كنا لا نعتبر في الساحة المعاصرة شيئاً من هذا الغلو إلا نادراً جداً في مواطن متخلفة، وإن كان يوصف المتدينون بعصرنا الحاضر مع الأسف بالتطرف والتخلف والرجعية إلى غير ذلك من الألقاب، نحن لا نعترف بها، لكن لا بد أن نتحدث أيضاً عن هذا الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى يقول: (ولا تطغوا) حتى الطغيان في العبادة وتجاوز الحد في العبادة أمر محرم لا يجوز. فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام هؤلاء الثلاثة غضب غضباً ما غضب مثله أبداً؛ فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما بعد: فإني والله أتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

معنى الطغيان المضاد للاستقامة

معنى الطغيان المضاد للاستقامة والطغيان نستطيع أن نفسره بجانبين:

من معاني الطغيان مجاوزة الحد في العبادة

من معاني الطغيان مجاوزة الحد في العبادة الجانب الأول: هو تجاوز الحد في العبادة، ولذلك فإن العبادات محصورة في دائرة محدودة، لا تجوز الزيادة فيها كما لا يجوز النقص، ولذلك لو أن واحداً من الناس أراد أن يزيد على الصلوات الخمس صلاة سادسة قلنا له: أنت محدث في الدين، وأنت متجرئ على حدود الله عز وجل، وأنت تنصب نفسك في درجة الألوهية لا في درجة العبودية، فالله عز وجل حدد العبادات بمقادير معينة، فلم يفرض إلا خمس صلوات، ولذلك تجدون كيف يرعى الإسلام هذا الجانب، فلا يبيح للمسلم أن يزيد في العبادة. فمثلاً: الله تعالى حدد لنا صيام رمضان الله تعالى بمدة معينة وحرم الزيادة، فحرم صيام يوم الشك كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) يعني: يصوم مثلاً الإثنين والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، فوافق يوم الشك، أما ما سوى ذلك فإنه لا يجوز صيام يوم الشك، ويوم العيد الذي هو بعد رمضان مباشرة حرم الله عز وجل صيامه. إذاً: نجد أن رمضان عبادته حددت في أولها وآخرها، حتى لا تكون هناك زيادة فيؤدي ذلك إلى الجرأة على أوامر الله عز وجل، فيكون هناك مشرعون. تعال إلى يوم الصوم نفسه، تجد أنه قد حدد ابتداؤه وانتهاؤه بوقت معين، وحث الشرع على تعجيل الفطر وتأخير السحور؛ حتى لا يفكر أحد ويقول: إني أزيد ساعة أو ساعتين من آخر الليل، وأزيد ساعة أو ساعتين من أول الليل؛ فهذه عبادة محددة من عند الله عز وجل لا يمكن أن تزاد في أولها ولا في آخرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) وحرم الرسول صلى الله عليه وسلم الوصال، وقال: (إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني الله ويسقيني). إذاً: هذا دليل على أن العبادات الأصل فيها التحريم كما قال علماء الأصول، فلا يجوز للإنسان أن يحدث عبادة إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما سوى ذلك فإنا نعتبره مبتدعاً في دين الله، والله تعالى يقول: (ولا تطغوا) هذا جانب مفهوم من مفاهيم الطغيان، لاسيما أنه جاء بعد قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].

من معاني الطغيان التعدي على حدود الله وخلقه

من معاني الطغيان التعدي على حدود الله وخلقه أما الطغيان في معناه الثاني فهو: تعدي حدود الله عز وجل، والتعدي على خلق الله، والاستبداد في هذه الحياة إذا خول الله عز وجل واحداً من هؤلاء الناس سلطة أو ملكاً أو أي مكانة، فاستغل هذه المكانة ليكون طاغية من طغاة البشر يستذل عباد الله؛ ليذل من أعزه الله، وليعز من أذله الله تعالى.

مظاهر الاستقامة في سورة هود

مظاهر الاستقامة في سورة هود

عدم الركون إلى الكفار

عدم الركون إلى الكفار قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر الاستقامة؛ لأن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تكون لها شخصية مستقلة عن أن تذوب في شخصية الكفار، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] يعني: إذا لم تعترفوا بهذا المبدأ بحيث يكون الكافر هو ولي الكافر، وبالمفهوم يكون المؤمن ولي المؤمن، ولا يكون ولياً لكافر، إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والفتنة معناها: الانحراف عن الدين، والفساد الكبير لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل. فالركون إلى الكافرين أمر خطير جداً، ولذلك تجدون أن الله تعالى يهدد رسوله عليه الصلاة والسلام لو ركن إلى الكفار ولو كان شيئاً قليلاً. أولاً: الركون القليل غير مقبول، أياً كان هذا الركون. ثانياً: الركون حتى لو كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فكر بالركون إلى الكفار، وإنما فكر أن يجذبهم إلى الحق بطريق اللين، فالله تعالى قال له: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75] يعني: عذاباً مضاعفاً في الحياة الدنيا، وعذاباً مضاعفاً في الحياة الآخرة أي: مكرراً، وأنت محمد خير البشر، عليه الصلاة والسلام. إذاً: الركون إلى الكفار، والميل إليهم، وعشق أخلاقهم وسلوكهم، أو تقليدهم في أي أمر من الأمور لا يجوز في شرع الله عز وجل، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: (خالفوا المشركين) وكان يحرص دائماً على مخالفتهم، ومن ذلك حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة -يعني: مهاجراً من مكة- وجد اليهود يصومون يوم السبت فسألهم لماذا؟ قالوا: إنه يوم عظيم نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فرعون وجنوده، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) وأمر المسلمين بصيام يوم عاشوراء، ثم أمر المسلمين بمخالفتهم فقال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع). إذاً: المسألة مسألة مخالفة حتى في أمور العبادات، فدين الإسلام جاء لا ليوافق هؤلاء، وإنما ليخالفهم في كل أمر من الأمور، والذين يعشقون أخلاق الكفار، ويطمئنون إليهم، ولربما يستقدمونهم إلى بلاد المسلمين، ويكثرون سوادهم، لا سيما في جزيرة العرب التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) يعتبر هذا الأمر أمراً خطيراً نسأل الله العافية والسلامة. وعلى هذا: فإن الركون أمر محرم، وهو جانب مضاد لجوانب الاستقامة التي يقول الله عنها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة ويقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، وهذا جانب إيجابي، ومظهر من مظاهر الاستقامة الذي هو إقام الصلاة، والصلاة خصت هنا من بين العبادات؛ لأن الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأي مجتمع يقيم الصلاة فإنه من المؤكد أنه مجتمع لا بد أن تحارب فيه المنكرات ولو على جانب معين، ولذلك أخبر الله عز وجل أن الصلاة تذهب السيئات. ولذلك نزلت هذه الآية في رجل من المسلمين قبل امرأة تقبيلاً حراماً، فجاء وقال: يا رسول الله! عملت عملاً حراماً قبلت امرأة، فجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيه وفي أمثاله من الذين يعملون معصية من الصغائر قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] وهذه تشمل الصلوات الخمس؛ لأن طرفي النهار صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب، الطرف الأول: الصبح والظهر، والطرف الثاني: العصر والمغرب {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] التي هي صلاة العشاء، ثم قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي خاصة، أم لجميع الأمة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (بل لجميع أمتي). فالصلاة من ميزتها أنها تكفر صغائر الذنوب دون أن تحتاج إلى توبة، أما كبائر الذنوب فإنها تحتاج إلى توبة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].

لزوم الصبر

لزوم الصبر قال تعالى: {وَاصْبِرْ} [هود:115] وهذا جانب مهم من جوانب الاستقامة؛ لأن غير الصابر لا يستطيع في الحقيقة أن يستقيم في فترة لا سيما إذا كانت هذه الفترة من الفترات المظلمة في تاريخ البشرية، فالصبر هو السلاح المنيع الذي من خلاله يستطيع هذا الإنسان أن يشق طريقه في هذه الحياة، وأن يعبر هذا المعترك الشديد بأمن وسلام. أما الذين لا يصبرون، والذين يجزعون لأي حدث أو أمر من الأمور التي تعترض سبيلهم فلا يمكن أن يحصلوا على جانب الاستقامة لاسيما في مثل هذه العصور، وعلى هذا فإن الصبر هو طريق الجنة، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]؛ ولذلك لا تجد الجهاد يذكر في مكان إلا ويذكر معه الصبر، أياً كان هذا الجهاد سواء كان جهاد النفس، أم جهاد العدو المقنع الداخلي، أم جهاد العدو الخارجي، فلا بد من الصبر في كل مجال من مجالات الجهاد؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بعد ذلك يأتي المظهر الأخير من مظاهر الاستقامة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ} [هود:116] أي: فهلا كان {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] أي: في الأمم كلها يقل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتجه إليه إلا الذين يستحقون النجاة من عذاب الله عز وجل. (إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) فأنجاهم الله عز وجل من الخوف من البشر، وأنجاهم الله عز وجل من العذاب في الدنيا؛ لأن الله تعالى إذا أنزل عقوبته إنما ينزلها بالذين يفعلون الفواحش والذنوب، والذين يسكتون عليها. أما الذين ينهون عن الفساد في الأرض فهم الذين ينجيهم الله عز وجل، وتدل أدلة كثيرة على أن الله سبحانه وتعالى لا ينجي من عذابه إذا أنزله بأمة من الأمم إلا الذين ينهون عن السوء، كما ذكر الله عز وجل في قصة أصحاب السبت قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. وعلى هذا فإننا نقول: لا بد من أن تقيم الأمة الإسلامية جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تكون الاستقامة في مجتمع من المجتمعات عطل فيه هذا الجانب العظيم، الذي هو في الحقيقة الذي يحمي هذا الدين؛ لأن هذا الدين يحمى بقوة البيان، ويحمى بقوة الحديد والنار؛ ولذلك أخبر الله تعالى أنه أنزل الكتب السماوية وفيها العدل والخير، لكنها لا بد أن تحمى بقوة الحديد والنار، وهو جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عز من قائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]؛ ولذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لا خير في حق إذا لم تحمه حلق الحديد وألسن النيران والذين يظنون أن هذه الأمة غير مطالبة بأن تتخذ جانب القوة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأنها تكتفي فقط بأن تقول: هذا منكر، أو هذا حق، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد فإن الأمة تكون عطلت جانباً عظيماً من جوانب هذا الدين. فالدعوة إلى الله غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وزع المسئولية على ثلاث مراحل: الإنكار باليد، وهذا في الأصل للسلطة، ولكل من يستطيع أن ينكر باليد فإن عجز فعليه أن ينكر باللسان، فإن عجز عن ذلك -ولا يكون ذلك إلا في مجتمعات خاصة نسأل الله العافية والسلامة، وفي ظروف خاصة نسأل الله أن يحفظنا حتى لا ندركها- كان الإنكار بالقلب فقط. ولذلك هذا يعتبر أضعف الإيمان، أما إذا وصل الأمر إلى أن تألف القلوب المنكرات؛ لأنها تعيشها مدة طويلة من الزمن، وتختلط بلحمها ودمها حتى لا تنكرها في القلب فذلك أخطر المراحل، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه في قوله في سورة الأنعام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} [الأنعام:113] حينما يكون مألوفاً {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لأفضل طريق إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، وأن يثبت أقدامنا في عصر زلت فيه كثير من الأقدام، وأن يتوفانا وإياكم على منهج الاستقامة غير مضيعين ولا مبدلين.

من مظاهر الاستقامة لزوم الصبر

من مظاهر الاستقامة لزوم الصبر

من مظاهر الاستقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من مظاهر الاستقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأسئلة

الأسئلة

آخر أخبار الجزائر

آخر أخبار الجزائر Q ما هي أخبار الجزائر في هذه الأيام، نود أن تحدثونا عنها بالتفصيل؟ A أخبار الجزائر حيل بيننا وبينها، إعلام المسلمين ما أعطانا صورة، سمعنا أخبار السلفادور والعالم كله، ولكن لا نسمع أخبار الجزائر، لكن الشيء الذي يجب أن تثقوا به هو أن إخواننا في الجزائر إذا صح قصدهم وهدفهم فلا بد أن يظهروا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. وعلى هذا فإننا متأكدون أن إخواننا في الجزائر إن صح قصدهم وهدفهم -ونحسبهم كذلك والله حسيبهم- فإن الله تعالى سوف يظهرهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ونحن لا نشك بأن هدف إخواننا في الجزائر ليس هو طلب الملك، وإن كان أصحاب الملك يخافون على الملك دائماً وأبداً، وهذا ندركه حتى في القرآن في مواقف طغاة البشر، حينما يتسلطون على الناس يقولون: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء:35] فهم يخافون على الأرض، وإخواننا في الجزائر ليس لهم هدف الأرض، وإنما هدفهم أن يكون الدين كله لله؛ ولذلك كل المغريات التي وجهت إليهم، والتموينات والأطعمة قالوا: نحن نرفضها، نحن نريد أن يطبق فينا شرع الله، وأن نحكم بشرع الله، وهذا هدف يجب أن يكون هدف كل واحد من المسلمين. على كل حال: الطغيان الذي يحكم الجزائر ويحكم أكثر الكرة الأرضية هو لا يريد أحداً أن ينازعه ملكه؛ لأنه يخاف على السلطة، أما إخواننا في الجزائر فهم لا يريدون إلا أن يحكموا بشرع الله عز وجل. أما أخبارهم: فحسب ما يظهر من بعض إخواننا القادمين الذين يحدثون عن بعض الأخبار، أنهم يلاقون محنة شديدة، وابتلاء في دينهم، حتى سمعنا أن مكبرات الصوت في خطب الجمعة أصبحت لا يسمح لها أن تنتشر؛ حتى لا يسمعها الجنود فتتغير وجهتهم فيستسلموا لمطلب هذا الشعب؛ لأنه مطلب يرضي الله سبحانه وتعالى. لكن ثقوا يا إخوتي أن هؤلاء القوم سوف يظهرون بإذن الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، وهذه سنة الله في الحياة إلى يوم القيامة.

الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة

الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة Q في حال سلوك الطريق السوي هل هناك ضوابط يلتزم بها المستقيم، ثم ما الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة، بينوا لنا وجزاكم الله خيراً؟ A هناك ضوابط يلتزم بها المستقيم، وأهمها: سلوك الطريق، والتأكد من صحة المسار، فإننا نعيش الآن فترة اختلط فيها الأمر على كثير من الناس، فأصبح كثير منهم لا يميزون بين طريق الجنة وطريق جهنم، وكما قلت لكم: والله يا إخواني رأيت أناساً عباداً تحتقرون عبادتكم بالنسبة لهم، لكنهم يسيرون إلى الله عز وجل على غير بصيرة، فأهم ضابط لذلك هو أن تبحث عن المنهج الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتلتزم به، وهذا هو أعظم ضابط، بل هو الضابط الوحيد الذي من خلاله تستطيع أن تتأكد من أنك تسير إلى الله عز وجل على بصيرة، وأنك تسير في طريق الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). وعلى هذا: فإن المنهج واضح، والطريق واضحة وليست ملتبسة، وكتاب الله باقٍ ما بقيت الدنيا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة، ولا تزال طائفة على هذا الطريق تسير حتى يأتي أمر الله. أما الفرق بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة فهو واضح: أنت تحب زوجتك محبة عاطفة، ولكن ليس محبة متابعة، تحب أطفالك محبة عاطفة، لكن ليس محبة متابعة، ولكن محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم في الحقيقة يجب أن تكون في الأصل محبة متابعة، وتأتي محبة العاطفة بعد ذلك؛ ولذلك كثير من هؤلاء الذين ضلوا الطريق اكتفوا بمحبة العاطفة، فإذا رآك وأنت تدعو الناس إلى التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، قال: أنت لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أنت لا تطوف على قبره أو تتمسح على قبره، إلى غير ذلك، فنقول: يا أخي! أنا عدم فعلي هذا العمل هو محبة لرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فأنت يا من تزعم المحبة لكنها ليست محبة متابعة أنت الذي تكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنك تخالف أمره، ولأنك تأتي بشيء خلاف ما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه حينما قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وهكذا نستطيع أن نميز بين محبة العاطفة ومحبة المتابعة، ويكفينا في محبة المتابعة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. إذاً: هذه هي المحبة التي يجب أن تكون لله عز وجل، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: يجب أن تكون محبة العاطفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سبب هداية هذه البشرية.

أسباب الانحراف عن الدين

أسباب الانحراف عن الدين Q ما هي أسباب انحراف من استقام على الطريق المستقيم ثم انحرف عن هذا الطريق، وأصبح بدلاً من ذهابه إلى المسجد يذهب إلى أماكن اللهو؟ A هناك عوامل كثيرة ترد الناس إلى الله عز وجل، وهناك عوامل أخرى تحرف الناس عن الطريق المستقيم، والتقلب سمة من سمات آخر الزمان، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ثم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن المخرج من هذه الفتن (فقالوا: وما المخرج يا رسول الله منها؟ قال: كتاب الله وسنتي) كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ستبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. لكن لا ننسى أن هناك عوامل ومغريات في الحياة لربما تتغلب على العقل من خلال العاطفة؛ فتؤدي إلى انحراف المجتمعات، ويكفينا في واقعنا الآن ما فيه من المغريات، أصبحت البيئة غالباً ملوثة بالأفلام والمحرمات، وضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك مما كان سبباً في وجود مغريات شديدة صرفت كثيراً من الناس عن الطريق المستقيمة؛ ولذلك لا تعجب حين تجد شاباً مستقيماً ثم تفاجأ في يوم من الأيام أنه انحرف عن هذه الطريق، لأن البيئة التي نعيشها في أيامنا الحاضرة بيئة فيها كثير من اللوث، وفيها كثير من الانحراف، مما قد يكون سبباً في انحراف كثير من أبناء الفطرة، لكن بالرغم من ذلك -والحمد لله- رأينا العكس من ذلك هو الكثير، لقد رأينا كثيراً من أبناء المسلمين، ولربما من أبناء الفسقة وغير المتدينين من اتجهوا في مثل هذه الظروف إلى الله عز وجل، وهذا يدل على أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

دورنا تجاه الشرك بالله وانتشار الأضرحة

دورنا تجاه الشرك بالله وانتشار الأضرحة Q هذه الإحصائيات التي ذكرتها عن انتشار الأضرحة في العالم الإسلامي فاجعة كبرى، والسؤال: ما هو دورنا وقد سمعنا هذه الإحصائيات؟ A أزيدك يا أخي علماً، ذات ليلة في جوف الليل الآخر مررت بأحد هذه الأضرحة فوجدت الزحام من السيارات التي تنزل الحجاج كما يقولون إلى هذا الضريح -واحد من هذه الأضرحة- والله لا تكذبني حينما أقول لك: إنه أكثر من العدد الذي يأتي إلى مكة حرسها الله بحفظه. على كل: يا أخي! الطريق واضحة، وهي الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41] ننصح كل شاب من شباب المسلمين لاسيما هنا في بلاد الفطرة التي فطرت على التوحيد والعقيدة السليمة، ننصحهم أن يسيروا في هذه الأرض؛ ليبينوا للناس الطريق التي يجب أن يسلكوها؛ وليبينوا للناس خطر الشرك بالله عز وجل، فإنه أعظم شيء، فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ويجب على أبناء هذه الأمة وأبناء هذه البلاد بصفة خاصة أن ينتشروا في أرض الله الواسعة، يعلمون الناس كيف يعبدون الله عز وجل، وسوف تسقط هذه الأضرحة كما سقطت الأوثان التي كانت معلقة في الكعبة، يوم كسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه وهو يتلو قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]. فمن كان عنده علم، ومن كانت عنده شخصية متينة قوية يستطيع من خلالها أن ينفع ولا يتأثر، وأن يؤثر ولا يتضرر هو بنفسه، أنصح أي شاب يستطيع أن يسافر إلى هناك؛ ولذلك فإن الناس رغم تعصب كثير منهم لما ألفوه من حيات آبائهم وأجدادهم، فإن هناك أيضاً كثير من هؤلاء المسلمين يقبلون الحق، ولذلك تجدون كثيراً من الذين أولعوا بالذهاب إلى هذه الأضرحة، وعاشوا حياتهم كلها بين تلك الأضرحة حينما يأتون إلى بلادنا هنا والحمد لله، ويرون معالم التوحيد، نجد أنهم يتأثرون ويستفيدون، ويرجعون موحدين في كثير من الأحيان.

نصيحة في كيفية دعوة الناس إلى الله عز وجل

نصيحة في كيفية دعوة الناس إلى الله عز وجل Q لقد تحدثت عن الاستقامة والبدعة في هذا العصر، فما هو العمل لمحاربة هذه البدع، والعمل من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، ونشر دعوة الإسلام كما أراد رب العالمين؟ وما هي نصيحتكم لهذا الشباب المسلم الذي يتعرض للكبت من جميع الجوانب في أنحاء العالم؟ A نستطيع أن نحارب البدعة عن طريق إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأني قلت لكم: إن الإسلام دائرة مقفلة لا يمكن لأي واحد أن يزيد فيها، ولا يمكن أن تتسع لغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه؛ ولذلك نلاحظ أن الذين أحدثوا في دين الله لا بد أنهم أماتوا السنن، وأنهم لو لم يخرجوا سنة ليتركوا فراغاً لهذه البدعة ما استطاعت هذه البدعة أن تنفذ في دين الله عز وجل، والطريق هو أن نحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ندعو الناس إلى العودة إلى الأصل، وإلى المنبع الأصيل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، ومن هنا تتساقط البدع؛ لأن الفراغ الذي تركته تلك السنن هي مواقع هذه البدع. وعلى هذا فإننا نقول: لا بد من إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإصلاح ما أفسده الناس، وهذا هو منهج الغرباء الذين لهم الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس). أما إحياء الخلافة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها هي آخر المطاف في حياة البشر، كما في الحديث: (ثم تكون خلافة على منهج النبوة)، فذكر أن الأمر سوف ينتهي في يوم من الأيام بخلافة على منهج النبوة. والطريق هو دعوة الناس إلى العودة إلى دين الله، وإلى تحكيم شرع الله، وتحكيمهم شرع الله هو الخلافة على منهاج النبوة. ونصيحتي للشباب المسلم الذي يتعرض للكبت في أنحاء العالم بعده أمور: أولاً: أن يضبط نفسه، وأن يحفظ توازنه، وأن يتقي الله عز وجل في هذا الدين وفي هذه الأمة، فنحن لا نريد شباباً متهوراً يفسد أكثر مما يصلح، نطالب هذا الشباب أولاً بالعلم، والعلم هو أفضل طريق للحياة السعيدة. ثانياً: نطالب هؤلاء الشباب أيضاً بالتوازن في الدعوة إلى الله عز وجل، فالشباب المخرب الذي يكسر ويفسد في الأرض، هذا لا يمكن أن يصلح، وإنما يفسد أكثر مما يصلح، بل ندعو هؤلاء الشباب إلى أن يقوموا بالدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وهذا هو منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وهذا هو المنهج الصحيح. ندعو هؤلاء الشباب إلى أن يلزموا الجماعة، وإلى أن ينضم بعضهم إلى بعض، ليسلموا من هذه الفتن التي يعيشون معها وتعيش معهم، فقد جاء عن حذيفة بن اليمان حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما يحدث في آخر الزمان، وأخبر بأنه سوف يأتي دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقال حذيفة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الزم جماعة المسلمين وإمامهم) فلزوم الجماعة أمر مطلوب، والدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة هي طريق السعادة فقال: (قلت: يا رسول الله! وإن لم يكن للمسلمين يومئذ جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك). ونحن نقول: هذا غير موجود، فالجماعة للأمة الإسلامية موجودة، وسوف تبقى هذه الجماعة ما بقيت السماوات والأرض، وما بقيت الحياة الدنيا، وعلى هذا فإننا ندعو هؤلاء الشباب إلى الحكمة والعلم، وإلى التوازن وضبط النفس، والنشاط في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنه الآن قد تبين الرشد من الغي، وما دام أنه قد تبين الرشد من الغي أصبح المجال مجالاً مهماً للدعوة؛ حتى تتسع هذه الدائرة، وحينئذ لا يكون في هذه الأرض حكم إلا لله سبحانه وتعالى.

أخبار المجاهدين في إرتيريا

أخبار المجاهدين في إرتيريا Q ما هي آخر أخبار إخواننا المجاهدين في إرتيريا؟ وأين يقيمون معسكراتهم الآن بعد طردهم من السودان؟ A أخبارهم سوف تستمر بإذن الله تعالى، والمسلم أرضه واسعة لو ضاقت به أرض معينة، فإن أرض الله عز وجل واسعة، وإذا كانت السودان رفضت إخواننا المجاهدين الإرتيريين في أيامنا الحاضرة، فلعل ذلك يكون سبباً من أسباب النصر في العاجل إن شاء الله، فإن إخواننا أصبحوا يجاهدون الآن داخل إرتيريا، ولربما يكون هذا أفضل، وهذا هو التحيز إلى فئة معينة. وعلى هذا فإن إخواننا المجاهدين في إرتيريا أصبحوا الآن داخل البلاد يكافحون الظلم والعدوان والفسق هناك والحمد لله، وسوف تسمعون إن شاء الله نبأهم بعد حين، وفي وقت قريب إن شاء الله أنهم ظهروا؛ لأن الله تعالى أخبر أنه سوف يظهر كل من سار على المنهج الصحيح.

أخبار الإصلاحات الحكومية في السودان

أخبار الإصلاحات الحكومية في السودان Q يرفع الحكام في السودان هذه الأيام شعار الإسلام وتطبيق الشريعة، فما مدى صدقهم في ذلك؟ A صدقهم عند الله، نحن لا نعرف ما في قلوبهم، لكن نتأكد أن الأوضاع فيها شيء من التحسن والحمد لله، فقد سمعنا أن البنوك الربوية وأن كثيراً من مظاهر الفساد الاقتصادي تعالج الآن، وعلى كل قلوبهم بيد الله، ونحن لا نطلع على ما في قلوبهم، لكنه يظهر إن شاء الله أنه في العالم كله -لا في السودان وحدها- هناك بوادر للإصلاح؛ لأن الشعوب عرفت مطالبها، وأصبحت تفرض مطالبها على القادة، والقادة العقلاء دائماً لا يصطدمون بالشعوب؛ لأنهم لا يمكن أن يضبطوا أو يحكموا هذا العالم بقوة الحديد والنار؛ ولأن هذه الشعوب لا تضبط إلا بشرع الله عز وجل، ولا تقاد إلا بشرع الله عز وجل، فلا يمكن أن تقاد أو تضبط بقوة الحديد والنار، كما أنها لا يمكن أن تضبط بالترف والمتاع والمحرمات، بل بشرع الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ركب هذه الأمم على أن يكون لها دين وعقيدة، فأي إنسان يريد أن يضبط الأمور في بلد ما فلا بد أن يحكم هذا العالم بشرع الله عز وجل.

نوع الاستقامة التي أمر الله بها نبيه

نوع الاستقامة التي أمر الله بها نبيه Q نريد أن توضح لنا ما نوع الاستقامة التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم؟ A نوعها يتلخص في أن تسير على الطريق المستقيم، وهو طريق الهداية التي تطلبها في كل صلاة، فتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: تثبت على هذا الطريق وتتأكد من صحة المسار إلى الله عز وجل بسلوكك هذا الطريق الذي ينتهي بالجنة، فأوله في الدنيا وآخره في الجنة، وعلى هذا فإن معنى الاستقامة واضح، ونستطيع معرفته من خلال اللفظ اللغوي، استقام من الاستقامة وهي: سلوك طريق معتدل.

حكم زيارة النساء للقبور

حكم زيارة النساء للقبور Q ما حكم زيارة النساء للقبور؟ وهل صحيح أن المرأة التي تزور القبور كأنها والعياذ بالله قد زنت؟ فإن كان الأمر كذلك فهل ينطبق هذا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله زائرات القبور) وفي رواية: (زوّارات القبور) واختلاف هذا اللفظ أخذ منه بعض العلماء أن المراد (بزوّارات) اللواتي يكثرن زيارة القبور، أما اللعن فإنه مؤكد في حديث صحيح. وعلى هذا فإنه لا يجوز للمرأة أن تزور القبور لاسيما إذا كانت زيارة مكررة أخذاً من لفظ: (زوّارات) أما الحديث الأول فهو مطلق زيارة، ولا أعرف أن هناك فرقاً بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأي قبر من القبور بالنسبة للمرأة، فإذا نهيت عن زيارة القبور كافة، فأولى أن تكون نهيت عن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قد تتعدى فيها الحدود، كما نلاحظ الآن عند زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من الناس، ويكفي أن المرأة عندما تزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في مكانها الذي تصلي فيه، أما أن تأتي إلى القبة الشريفة لتقف عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول: السلام كما يفعل الرجال فظاهر الأحاديث أنه لا يجوز. كما ننصح الإخوة الذين يريدون أن يزوروا المدينة ألا يقولوا: نريد أن نزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يقولون: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).

أحوال المسلمين في الفلبين

أحوال المسلمين في الفلبين Q ما هي أحوال المسلمين في الفلبين؟ A أحوال المسلمين في الفلبين والحمد لله طيبة لا بأس بها، ولابد أن نعرف أن في الفلبين أكثر من اثني عشر مليوناً من المسلمين يسكنون في مناطق الجنوب، بل ونعرف أن الفلبين كلها كانت في يوم من الأيام دولة إسلامية كأندونيسيا، لكن حينما نام المسلمون، واشتغل التنصير استطاع أن يحول أكبر هذه الكتلة إلى نصارى، وكانت لهم السلطة أيضاً، وأصبحوا يستذلون المسلمين في الجنوب، ويأخذون أراضيهم، ويتركون لهم الجبال الوعرة كما هي عادة أعداء الإسلام دائماً. الذي حدث أن إخواننا في الفلبين ربما تحملوا أن تذهب أموالهم وأراضيهم، لكنهم لم يتحملوا أن يفتنوا في دينهم؛ لأن الحكم الوثني النصراني في الفلبين تسلط على مناطق المسلمين، وبدأ يرسل الفساد ويصدره إلى مناطق المسلمين، مما كان سبباً في انحراف كثير من المسلمين في سلوكهم، فأدى ذلك إلى أن تكون هناك حركات جهاد، أهمها الحركة التي يقودها أخونا حفظه الله سلمات هاشم وأحسبه من المجاهدين السلفيين كما يظهر لنا، وهذا الرجل قد اعتصم بالجبال، وانضمت إليهم مجموعات كبيرة من المسلمين، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله، حتى تحرر مناطق المسلمين من هؤلاء النصارى المغتصبين، وهم والحمد لله بخير، لكنهم يحتاجون إلى دعم من إخواننا المسلمين، وهناك في هذا البلد الطاهر من يوصل أي مساعدة إليهم بإذن الله تعالى.

تعدد وسائل الدعوة إلى الله عز وجل

تعدد وسائل الدعوة إلى الله عز وجل Q ما هي القنوات التي من خلالها نستطيع أن ندعو إلى الله في الخارج؟ A القنوات كثيرة، والدعوة لا تقف في الداخل، والله تعالى جعل هذه الأمة مطالبة بنشر الإسلام في الأرض كلها قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، ونشر الدعوة في الأرض أمر مطلوب على الجميع، والله تعالى يسألنا قبل أن يسأل المرسلين عن هذا الدين، قال تعالى {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، عالم يموتون على غير الملة ويموتون على جهل نحن مسئولون عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة! ومن أكبر العار والمصيبة والبلاء والفتنة أن ينام المسلمون عن هذا الدين في وقت انبرى فيه كل أعداء الإسلام بأنفسهم وأموالهم لتنصير وحرف الأمة الإسلامية عن دينها، ولكن الله تعالى يبشرنا ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، وايم الله لقد رأيت بعيني هاتين في غابة من غابات أفريقيا الموحشة فتيات وفتيان جاءوا من إيطاليا، ومن بلاد أوربا التي هي أجمل بلاد العالم، جاءوا مهاجرين للدعوة إلى النصرانية، يعيشون في بلد عند الحر الشديد والمياه الكدرة، ويركبون البقر ويتجولون في مناطق المسلمين يحرفونهم عن الطريق المستقيمة، وحينما نظرت إلى هؤلاء الفتيان والفتيات الذين هم في مستهل العمر، قلت: سبحان الله! ماذا يريد هؤلاء وهم لا يطمعون في الجنة غالباً؟ ثم أين أبناء المسلمين الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس هذا الحق وأن ينشروا هذا الإسلام؟ البلية كبيرة أيها الإخوة! إذاً: لا بد من أن يتحرك المسلمون للدعوة إلى الله عز وجل، فعالم كثير يموت على الوثنية، وعالم آخر كبير لم تبلغه دعوة الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وليست هناك رسالة تنتظر بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

فاستقم كما أمرت [2]

فاستقم كما أمرت [2] إن الاستقامة المطلوبة والتي أمر الله بها لا تتم إلا ببذل أسباب الثبات عليها، وبالقيام بمقوماتها التي تعين العبد على دوام الاستقامة، وقد ذكر الله هذه المقومات والأسباب وبينها أحسن بيان، فما على المرء إلا أن يأخذ بها حتى يصل إلى بر الأمان.

حقيقة الاستقامة التي أمرنا الله بها

حقيقة الاستقامة التي أمرنا الله بها الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يقول، وكما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: الحديث في هذه الليلة عن الاستقامة وعواملها وآثارها وجزائها، فالله تعالى يقول عن هذه الاستقامة ومظاهرها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:112 - 117]. أيها الإخوة! هذه الاستقامة وهذه مظاهرها الخمسة: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ). أما الاستقامة فمعناها في اللغة: الاعتدال وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، والمستقيم معناه: الذي هو غير منحرف، وغير ملتو وهو الذي يمثل الخط المستقيم، أي: الطريق المعتدلة، وهذه الطريق ينصح الله تعالى كل واحد من المسلمين أن يلتزم بها في الوصايا العشر التي تجدونها في آخر سورة الأنعام، فآخر هذه الوصايا العشر وهي العاشرة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. فالاستقامة: هي اتباع صراط الله المستقيم، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً. وعندما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) خط خطاً طويلاً معتدلاً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، فقال عن المعتدل: (هذا صراط الله، وعليه داع يدعو إليه، والداعي هو القرآن، وعن يمينه وشماله سبل، وهي التي يقول الله عز وجل عنها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وعلى كل سبيل منها ستر مرخاة، وعليها شيطان يدعو إليها) وأظن أنه لا يخفى عليكم هؤلاء الشياطين، لقد بدءوا يبرزون اليوم حتى في ثياب المسلمين من المنافقين والمتمسلمين. ولكن على الصراط داع كلما هم أحد أن يزيح ستاراً نادى هذا المنادي: ويحك يا عبد الله! لا تزح، فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في رسم هذه الطريقة بصورة ترى بالعين المجردة. هذا هو صراط الله، وهذه هي السبل، وذاك هو الاستقامة، وما يقع عن يمينه وشماله من الطرق المنحرفة هي الانحراف، ولذلك تجدون هذه الانحرافات كثيرة جداً، وتتعدد، ولربما يخطئ الإنسان واحداً منها فيصيبه سبيل آخر. وتأكدوا أن طريق الجنة واحد، وأن طرق النار كثيرة، ولذلك قال: (صِرَاطِي)، وقال: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). ويوضح هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة). إذا: ً الصراط واحد، وطريق الجنة واحد واضح، والطرق المنحرفة كثيرة جداً، وربما تتعدد في مفاهيمها وأساليبها، وفي دعاياتها ودعاتها، وفي أشكال دعاتها وألسنتهم، لكنها تتحد في الحقيقة في نهايتها، فهي تصب كلها في نار جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). إذاً: يا أخي! فتش هل أنت على الصراط المستقيم؟! هل أنت مستقيم على دين الله؟! كيف تستقيم؟ الزم جماعة وطريق المسلمين، ابحث عن السبيل التي يتسم بها المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة)، هذا هو الصراط. ولذلك فإن المسلم يسأل الله تعالى أن يهديه إلى الصراط، وإذا هداه للصراط المستقيم سأله أن يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيدعو دائماً في الصلاة وفي غير الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وهذا الصراط المستقيم هو طريق الاستقامة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فهو طريق واضح. ولا تظنوا -أيها الإخوة- أن هذه الطريق غامضة، فهي ميسرة واضحة إلا على من ختم الله على بصيرته، نسأل الله العافية والسلامة، فهم الذين يتخبطون في دياجير الظلام قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. أما المؤمنون فهم يرون هذا الصراط بأعينهم المجردة، ويدركونه بقلوبهم؛ ولذلك نقول دائماً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، هذه هي الاستقامة التي نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه دائماً وأبداً. وهذه الاستقامة هي الثبات على المنهج الصحيح، وعدم التأرجح والشكوك، فالمحجة بيضاء واضحة، تركنا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحذرنا أن نميل عنها يميناً وشمالاً، ومن مال فلا يلومنّ إلا نفسه. والاستقامة تتعرض في كثير من الأحيان للفتن، لا سيما في عصرنا هذا حينما ينشط دعاة الباطل، ويضعف دعاة الحق، فيلتبس الأمر، فيرتبك بعض المسلمين ويصير في أمرهم اختلاط مع وضوح السبيل، لكن لوجود مغريات، ووجود أمور ربما تكون سبباً في انحراف طائفة من المسلمين، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تأتي في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، دعاة باطل مغريات أهواء شهوات إلى غير ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). وهذا التقلب يوجد في كثير من الأحيان مع وضوح السبيل، ولا سيما في آخر أيام الدنيا عندما ينشط دعاة الباطل وينام دعاة الحق؛ ولذلك ربما تشاهدون اتجاهات تتعدد في بعض الأحيان، ولربما نفاجأ أن طائفة من الشباب ربما ينحرفون ويتأثرون بالدعاية المضللة، وربما يرتد كثير من المسلمين عن الإسلام؛ لأن الاستقامة غير موجودة عند هؤلاء، بل في دولة إسلامية واحدة يتنصر اثنا عشر مليوناً من المسلمين، لضعف دعاة الحق، ونشاط دعاة الباطل، وبخل المسلمون بأموالهم، ونشاط دعاة الباطل في بذل أموالهم، فكل ذلك من عوامل الانحراف. أما الأصل فإن هذا الدين فطرة قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فطرة طبع عليها الإنسان يوم كان في ظهر أبيه الأول آدم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، وبالرغم من هذا العهد والميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، يقول الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف:102] نسوا هذا العهد، فكان ذلك سبباً في انحراف طائفة من المسلمين الذين غفلوا عن العهد، وربما ولدوا على الفطرة، لكن اجتالتهم شياطين الإنس والجن.

أسباب الثبات على الاستقامة

أسباب الثبات على الاستقامة أيها الإخوة! إن شياطين الإنس في بعض الأحيان ينشطون أكثر من شياطين الجن؛ لأن الله تعالى يقول عن شيطان الجن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لكن شياطين الإنس ربما يتربصون بهذا المسلم، حتى يخرجوه عن دائرة الدين.

اختيار الزوجة الصالحة

اختيار الزوجة الصالحة إذاً: الاستقامة أيها الإخوة لها أسباب، وعوامل، والانحراف أيضاً له أسباب، ولعل من أهم عوامل وأسباب الاستقامة: اختيار الزوجة الصالحة، والبيئة الصالحة، والبيت الصالح: حينما تتوفر هذه العوامل الثلاثة تكون عاملاً مهماً من عوامل الاستقامة، زوجة صالحة (فاظفر بذات الدين) بيت نظيف طاهر بعيد عن المحرمات والمغريات، وعن الشهوات والشبهات، ليس فيه تشكيك ولا محرمات منتشرة تختلط بدماء الأطفال، فينشأ أحدهم على هذه النشأة مع بيئة صالحة طاهرة، يؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وهذه تعتبر عاملاً من عوامل الاستقامة، لكن لما تنحرف البيئة أو ينحرف البيت فإنه يؤثر ذلك على الفطرة، فالفطرة بذرة صالحة تحتاج إلى تربة صالحة، وهي الزوجة، وتحتاج إلى ماء نقي، وهي البيئة التي تسقي هذه البذرة، لتكون شجرة صالحة، ولكن إذا فسدت إحدى هذه العناصر الثلاثة: إما البذرة أو التربة أو البيئة التي تسقي هذه البذرة يوماً بعد يوم، ربما تتأثر هذه الفطرة فيحصل الانحراف. من أسباب الانحراف عن الاستقامة أيضاً: نشاط دعاة الباطل، ونوم دعاة الحق: لأن الشجرة التي لا تسقى إلا بعد فترة طويلة من الزمن، أو تسقى ماء مالحاً أجاجاً تموت، بالرغم من أصالتها وصحة بذرتها وتربتها، لا بد أن يكون هناك ماء، ولا بد أن يكون هذا الماء صالحاً لسقي هذه الشجرة؛ ولذلك فإن الدعوة إلى الله تعتبر من أهم العوامل التي تستقيم بها الأمم قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. إذا وجد إيمان ووجد ذكرى تستقيم الأمور؛ ولذلك فإننا نطالب دعاة الحق أن ينشطوا لا سيما في هذه الظروف التي ارتبكت فيها كثير من الأمور في العالم الإسلامي، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح الأمر خطيراً من هذا الجانب.

التربية الصالحة

التربية الصالحة كذلك من هذه العوامل: التربية الصالحة: فلا بد أن تكون التربية صالحة سواء كانت من البيت، أو من المدرسة، أو من المكتبة التي تخاف الله سبحانه وتعالى، فلا تنشر إلا ما يقوي عقول الشباب، وينمي أفئدتهم، ويحفظ توازنهم، فإذا فسدت المكتبة، وصارت تنشر ما هب ودب من الكتب والمجلات والصحف التي تغري وتفسد، فإن ذلك يكون عاملاً من عوامل الانحراف. وكذلك المدرسة والمنهج، وكذلك الإعلام الذي يعيش معه الناس بحيث لا ينشر إلا الأمور التي تربي العقل على طاعة الله سبحانه وتعالى، وتحول بين هؤلاء الناس وبين الفتن والصور الفاتنة، والقصص الغرامية الماجنة، كل ذلك يعتبر عاملاً من العوامل المهمة في هذه الاستقامة.

الجليس الصالح

الجليس الصالح ومن هذه العوامل أيضاً: الجليس الصالح: فالجليس الصالح يؤثر على جليسه كبائع المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه على الأقل رائحة طيبة، بخلاف الجليس الفاسق، فإنه كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36] سواء كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:36 - 37] في الدنيا فيصرفه عن الاستقامة، ويحرفه عن المنهج الصحيح: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف:37 - 38] الذي تأثر بالجليس الفاسد (قَالَ) أي: لجليس السوء {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، يقول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. فهل بعد ذلك يفرط الشباب بالجلساء أم يسيئون اختيار الجلساء والأصدقاء والأصفياء، أم هل يفرط الآباء بأبنائهم فلا يحسنون الاختيار لجلساء أبنائهم ولأصدقاء أبنائهم؟ إذا كان الثاني فإنه خطر على هذه البذرة الطيبة، وخطر على الاستقامة، ولذلك فإن على المؤمن أن يهتم بهذا الجانب.

النظر في ملكوت الله

النظر في ملكوت الله من عوامل الاستقامة المهمة: النظر في هذا الملك العظيم لهذا الكون الفسيح: الإيمان إما أن يكون جاء عن طريق الوراثة والبيئة، وإما أن يكون جاء عن طريق التفكير في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وفي آياته الآفاقية والنفسية والكونية، فإذا كان الأول أصبح هذا الإيمان معرضاً للفتنة وربما ينهار في أي لحظة؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأن من الناس من يعبد الله على حرف، فهو مستقيم ما دامت الأمور هادئة ومطمئنة، يؤذن يذهب إلى المسجد يأتي رمضان فيصوم يأتي الحج فيحج لكن هناك ضريبة لهذا الدين، وهناك فتنة وابتلاء فلا يتحمل؛ ولذلك يعتبر هذا النوع من البشر إنما أخذ الإيمان عن طريق الوراثة، حيث وجد أباه يصلي فصار يصلي، وجد أمه تصوم فهو يصوم، لكن لا يتصور معنى هذه العبادة، ولا يعرف من يعبد ولا من يستحق هذه العبادة، يقول الله تعالى عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، يعني: طرف بين الإيمان والكفر، ممكن أن يسقط في أي ساعة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] بقي على الإيمان إذا كان المسلمون بخير لا توجد فتن ولا ابتلاء، ولا يوجد أذىً ولا مصائب ولا في فتن، لكن عندما تأتي الفتن يبتلى في دينه قال تعالى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] وإذا انقلب على وجهه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] هذا النوع من الإيمان الذي لا يكون عن تمحيص وروية وتفكير. لكن تعال يا أخي إلى الإيمان الذي يحصل بعد البحث والقراءة، والنظر في ملوك السماوات والأرض، وتدبر آيات الله عز وجل في هذا الكون، فهذا الإيمان لا يتأثر بأي عاصفة من هذه العواصف، إيمان كالجبال كما أخبر الله عز وجل عنه: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] فلو زالت هذه الجبال من مواقعها لا يزول هذا الإيمان من قلب هذا الإنسان؛ لأنه جاء عن طريق الروية والتفكير، وهذا الإيمان ليس كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] لكنه إيمان كإيمان القوم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] في أيام الشدة تذكروا وعد الله عز وجل، ربما في أيام الرخاء غفلوا عن هذا الأمر، لكن لما جاءت الشدة ورأوا الأحزاب وتشكلت كل قوى البشر ضدهم، ووقفت جميع قوى الكفر أمام وجوههم زادهم هذا الفعل إيماناً، قالوا: نحن ننتظر هذا اليوم، الآن زاد يقيننا بهذا الدين، والآن زادت ثقتنا بهذا الإيمان، الآن يقوى إيماننا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. الفتن زادت هؤلاء إيماناً، وزادت أولئك تراجعاً ونكوصاً إلى الوراء قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) من أجل الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني: يوم القيامة. فهذا هو الفرق بين الإيمان الذي يحصل بعد بحث وتفكير وبين الإيمان الذي يحصل بتقليد ووراثة؛ ولذلك نجد في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام العبرة العظيمة: كان إبراهيم لا يشك في الله سبحانه وتعالى، حتى في أيام طفولته وشبابه قبل أن يكون نبياً، حتى وهو يعيش في بيئة فاسدة تعبد الأصنام، وأول من يحاربه أبوه، ينظر في هذا الكون فينظر إلى الكوكب ويقول: هذا ربي، فلما أفل الكوكب قال لا أحب الآفلين، ونظر إلى القمر فقال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين! نظر إلى الشمس فقال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، هنا جاءت قوة الإيمان، والبراءة من الكافرين والمشركين حتى الأب ويقول: إني بريء من المشركين، يقول: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام:79 - 80] لكن هذه المحاجة جاءت بعد إدراك عميق لعظمة الخالق سبحانه وتعالى: {قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]. ثم يبتلى هذا الإيمان وهذه الاستقامة فلا تتأثر، يلقى في النار فلا يبالي، ويؤمر بذبح ولده فلا يبالي، ويؤمر بأن يبقى ولده وزوجه في مكة بواد غير ذي زرع فلا يبالي، كل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل؛ لأن الإيمان قد قوي في هذه النفس، واستقر في هذا القلب، فهذه هي الاستقامة.

العلم

العلم كذلك من عوامل الاستقامة العلم: فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فبمقدار ما يكون الإنسان أعلم بالله يكون أتقى لله غالباً، وإلا فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بالله أعرف كان منه أخوف) ولذلك فإن الخشية وهي أعظم أنواع الخوف تكون بالعلم غالباً، سواء كان علماً شرعياً وهذا أولى، أو كان في علم الفلك، فينظر في هذه المخلوقات العظيمة فيخرج بنتيجة، أو في علم الطب فينظر إلى خلايا هذا الجسم، وإلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فيرى الخالق سبحانه وتعالى من خلال هذه الصنعة، أو في أي علم من هذه العلوم تسبب خشية الله.

سؤال الله عز وجل الثبات

سؤال الله عز وجل الثبات وأهم عامل من عوامل الاستقامة سؤال الله عز وجل الثبات: فكم من إنسان اغتر بعمله، واغتر بنفسه فكانت نهايته البوار والدمار، حيث انقلب على وجهه. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يسأل الله الثبات، ويقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول لمن أوصاه: (قل آمنت بالله ثم استقم)، والله تعالى يقول قبل ذلك: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ما قال: أسلموا، ولكن قال: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. فهناك فرق بين الحياة على الإسلام وبين الموت على الإسلام، فلربما يعيش الإنسان في هذه الحياة طول حياته على الإسلام والملة لكن الله عز وجل أراد له سوء الخاتمة فيرتد نسأل الله العافية والسلامة، فتكون عاقبته الردة، فتكون نهايته النار، كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). وكذلك أوصى إبراهيم ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل. على كل أيها الإخوة! لا بد من سؤال الله عز وجل الثبات والاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقلب أفئدة الكافرين ويقلب أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ولربما يأخذ الغرور أحداً من المسلمين بعمله فيعاقبه الله عز وجل بالردة والانحراف نعوذ بالله! ولذلك المسلم دائماً وأبداً يسأل الله الثبات، ودائماً وأبداً يشعر بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر من أكبر عوامل الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى.

جزاء الاستقامة في الدنيا والآخرة

جزاء الاستقامة في الدنيا والآخرة

جزاء الاستقامة في الدنيا

جزاء الاستقامة في الدنيا أما الاستقامة فجزاؤها عند الله عز وجل عظيم في الدنيا، وهو حياة سعيدة يشعر فيها المؤمن بالراحة والطمأنينة، ومتعة البقاء والخلود في الحياة الآخرة، فهذه الحياة وهذه اللذة لا يدركها إلا المؤمنون كما قال ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان التي يقول الله عز وجل عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. ولا تظنوا أيها الإخوة أن الحياة الطيبة هي حياة القصور، وحياة الترف، وحياة النعيم، قد يشترك فيها المسلم والكافر بل ربما يشترك في هذا المتاع الظاهر الإنسان والبهيمة، إنما هي لذة الإيمان التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف. ويقول عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً هذه العزة وهذه اللذة وهذه المتعة لا يشعر بها إلا أولياء الله، ويفقدها أعداء الله، ويضيقون ذرعاً بكل حدث من أحداث الحياة الدنيا، ويتخلصون من هذه الدنيا بالانتحار، ولذلك يوجد مواقع في بلاد الغرب مخصصة للانتحار، وفي اليوم الواحد ينتحر عدد من الناس، لماذا؟ لأن لذة الإيمان غير موجودة، وجد متاع ولم يوجد إيمان، والمتاع بطبيعته إذا ألفه الإنسان يصبح شيئاً طبيعياً، وما السعادة في الدنيا سوى شبح يرجى، فإن صار جسماً مله البشر. القاعدة أن لذة الإيمان تتجدد في كل يوم؛ ولذلك الذين فقدوا لذة الإيمان -لأنهم فقدوا الاستقامة على دين الله- يعيشون بلا تفكير بلا هدف بلا قصد، يقول أحدهم: لا أدري من أين جئت! ولا أدري أين أذهب! شك في المجيء وفي الذهاب، فلأي سبب من الأسباب، ولأي حدث من الأحداث ولو كان صغيراً يتخلص من هذه الحياة بالانتحار؛ لأنه غير مؤمن قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] هذا المتاع الحسن لا يكون إلا للمؤمنين، ويفقده غير المؤمنين، وهنا يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]. إذاً: هذه الاستقامة جزاؤها في الدنيا حياة سعيدة طيبة لذيذة، يتمتع فيها الإنسان بمتاع الحياة الدنيا، وتكون له خالصة يوم القيامة، فإذا أصابته مصيبة في الدنيا احتسبها عند الله، فخفت عليه المصيبة، إذا شعر بقصر الأجل شعر بالخلود الباقي في الآخرة بالجنة، فنفس هذا عنه، ووسع له ضيق الحياة الدنيا.

جزاء الاستقامة عند الموت

جزاء الاستقامة عند الموت أما في ساعة الموت، وما أدراك ما ساعة الموت! وهي أشد ساعة تمر بالإنسان طول حياته، فهي ساعة مخيفة جداً رهيبة، إنها ساعة ينظر الإنسان فيها إلى أهله وأمواله وأطفاله وزوجته النظرة الأخيرة، ويريد أن يودع الحياة الدنيا، ساعة التفت فيها الساق بالساق! وبلغت الروح التراقي، يريد الآن أن يفارق الحياة الدنيا. ماذا يكون موقف هذا الإنسان وهو يودع المتاع والنعيم والقصور والأولاد، ويقبل على حفرة مظلمة لا يدري ماذا يجد فيها؟! هذه ساعة مخيفة، وهي أشد ساعة تمر بالإنسان طول حياته. تصوروا أنه في هذا الموقف الرهيب يأتي دور الاستقامة وجزاء الاستقامة أيضاً، ينزل الله عز وجل على هذا الإنسان في هذه الساعة الرهيبة الشديدة المخيفة المزعجة ملائكة تطمئنه: اطمئن أمامك الجنة ما وراءك من الأهل والذرية والمال نحن نخلفك فيه لا تخاف على أولادك سنعوضك في الدار الآخرة ما هو أفضل من ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: ثبتوا على دين الله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: في ساعة الموت، تقول لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من الحياة الدنيا، فالأولاد نحن نخلفكم عليهم نحن نرعاهم نحن نعوضكم عن الممتلكات العظيمة التي خلفتموها وراءكم بما هو أفضل منها، سنكون معكم حتى تدخلوا الجنة، لا نفارقكم حتى في القبر وعند الحساب والميزان، حتى على الصراط لا تخافوا ولا تحزنوا، لو لم يكن للاستقامة جزاء إلا هذا لكان هذا ألذ جزاء. أما الساعة الرهيبة المخيفة المزعجة الموحشة! فتتنزل الملائكة وتقول لهؤلاء المستقيمين على دين الله: {((أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:30 - 31] كنا معكم في الحياة الدنيا نحرسكم قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: بأمر من الله، {وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] أيضاً سنكون معكم لا تنزعجوا، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32]. إذاً: هذه الاستقامة تؤنس الإنسان في ساعة الموت، لكن الصنف الآخر -نعوذ بالله- هم الذين يقول الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء:97]، و {الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] من الأمام ومن الخلف.

جزاء الاستقامة في الآخرة

جزاء الاستقامة في الآخرة الاستقامة في الآخرة لها جزاء أيضاً عند الله، وأفضل جزاء الجنة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14] لأنهم استقاموا على دين الله؛ ولذلك نفهم معنى قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]. إذاً: هذه الاستقامة يحتاج المسلم دائماً وأبداً إليها، فهو دائماً يسأل الله الثبات عليها، ويحاول دائماً أن يبتعد عن مواطن الفتن التي ربما تغريه أو تصرفه عن منهج الاستقامة، فتكون الخسارة العظيمة في الدنيا والآخرة.

من معاني الاستقامة ترك الابتداع

من معاني الاستقامة ترك الابتداع وهذه الاستقامة أيضاً ليست راجعة إلى اختيار الإنسان وذوقه، فبعض الناس يظن أن معنى الاستقامة أن تتجه إلى دين الله ولو على غير بصيرة، فعندما تجد قوماً يعبدون الله على غير بصيرة تعجب وتقول: كيف أن هذه العبادة تصرف في غير مصارفها، والله إن هناك أناساً يعيشون كل ليلة في عبادة لكنها غير مقبولة عند الله سبحانه وتعالى لأنها انحراف، كما يفعل غلاة الصوفية وأصحاب الأضرحة والقبور!

انتشار البدع والشركيات في بلاد المسلمين

انتشار البدع والشركيات في بلاد المسلمين سافر يا أخي إلى كثير من بلاد المسلمين تر الأضرحة والعبادات التي تشبه العبادة لكنها بعيدة عن المنهج الصحيح، ولا تزيد الإنسان من ربه إلا بعداً نسأل الله العافية والسلامة، بكاء حول الأضرحة طواف تضرع خشوع سجود ركوع لغير الله عز وجل قرابين تذبح لغير الله عبادات لكنها على غير بصيرة، هل مطلق العبادة يعتبر استقامة، أم أن هناك نوعاً خاصاً من العبادة هو استقامة؟ هناك نوع خاص من العبادة هو الاستقامة، ولذلك يقول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] أي: لا تستقم كما يحلو لك، كثير من الذين يبتدعون في دين الله إذا أعجبتهم عبادة أدخلوها في الدين، وقالوا: هذه بدعة حسنة، هل يكون هناك في دين الله بدعة حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟ أين البدعة الحسنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)؟ (كل) من ألفاظ العموم، فليس في الإسلام بدعة حسنة أبداً. ويستدل بعضهم بقول عمر رضي الله عنه لما أعاد صلاة التراويح (نعمت البدعة) فظنوا أن هذه بدعة حسنة، وعمر ما أتى ببدعة جديدة، وإنما أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم فقط خشية أن تكتب على الأمة؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر تشريعاً لهذه الأمة. أما ما يفعله الناس اليوم من العبادات التي لا أصل لها في دين الله، فهي تتعدى الكفر بالله سبحانه وتعالى. أنا متأكد أنه لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم اليوم في العالم لقطع رءوس هؤلاء القوم الذين يبتدعون في دين الله، ويحدثون عبادات ما شرعها الله، ويطوفون بالأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات، ولقاتلهم قبل أن يقاتل الشيوعيين الذين يقولون: لا إله والحياة مادة؛ لأن هؤلاء الذين يعبدون الله على غير بصيرة ينافسون الله عز وجل في سلطانه، ويريدون أن يكونوا مشرعين هم أنفسهم، ويضلون الناس من حيث لا يشعر الناس، ولذلك إذا ألقي أهل النار في النار يقولون لدعاة الضلال: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: ما جئتمونا عن طريق الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإنما جئتمونا عن طريق الطاعة، قلتم لنا: هذه بدعة حسنة هذا دين الله هذا شرع الله فاتبعناكم. ولذلك كان هذا أخطر ما يدخل الناس النار، وهو أعظم عند الله من المعاصي الكبائر، وإن كان أصحابها يعتبرون من العباد النساك، ولربما وجد من العلماء من يشجعون على بناء الأضرحة والقبور، والذهاب إليها وسؤالها، وهؤلاء الصالحون ترجى شفاعتهم كما كان المشركون الأولون يقولون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. أيها الإخوة! إنه في هذا العصر الذي استيقظت فيه العقلية البشرية، وتطورت فيه عقلية الإنسان، وظن بعض الناس أن الخرافات سوف تنتهي؛ تقول الإحصائيات: إنه يوجد في العالم الإسلامي عشرون ألف ضريح يعبد من دون الله، ويحج لها الناس من بلاد بعيدة، ولو جئت إلى بعض المواقع يقول لك: لا تطف إلا شوطاً واحداً، الكعبة سبعة أشواط، لكن هنا شوط واحد لأن الزحام شديد، لا يسمح لأي واحد، إلا بشوط واحد إلا إذا استعمل الحيلة مثل أن يخرج ويرجع ليأتي بشوط آخر.

الابتداع في الدين اتهام له بالنقصان

الابتداع في الدين اتهام له بالنقصان أين دين الله عز وجل الذي يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]؟ أين هذا الإكمال عند هؤلاء مع هذا الواقع؟ نقول: نعم، الله تعالى أكمل هذا الدين، لكن هؤلاء ما فهموا معنى إكمال هذا الدين، فوضعوا أنفسهم مشرعين كما يشرع الله سبحانه وتعالى، فيأتون بعبادات، ويصرفون الناس عن المنهج الصحيح، ولعل هؤلاء هم السبب في وجود هذه الأشياء من شياطين الإنس الذين جاءوا فاجتالوا بني آدم عن الفطرة. أكثر ما وصلت إليه الوثنية في آخر يوم من أيامها يوم فتحت مكة، أن كان لها ستون وثلاثمائة وثن تعبد من دون الله، والآن يقولون: بلغت عشرين ألف ضريح وهذه الإحصائية قبل عشر سنوات. إذاً: يقول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ليس معناه: استقم كما يحلو لك أو كما يبدو لك، ليس هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة، فإن كل بدعة ضلالة، ولذلك يجب أن يحقق الإنسان معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ويحقق شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن انحرف يميناً أو شمالاً عن هاتين الشهادتين فهو الكفر والشرك بالله عز وجل.

لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا صوابا

لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً صواباً يشترط الله تعالى في صحة العمل شرطين اثنين لا بد منهما: أن يكون العمل خالصاً لله، وأن يكون صواباً على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] هذا الشرط الأول، وهو معنى لا إله إلا الله. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] يعني: صواباً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: يحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله. إذاً: أيها الإخوة! يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) أي: أنت مضبوط بمنهج مرسوم لك، لا تعبد الله كما يحلو لك، ولا تستقم كما يحلو لك من الاستقامة، فأنت مضبوط ومربوط بمنهج، ولا تسمى الاستقامة استقامة إلا إذا كانت على هذا المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله. أحذر إخواننا الذين يأتوننا من خارج هذه البلاد أن يميلوا إلى هذا النوع من البشر الذين أحدثوا في دين الله، أو يذهبوا إلى الأضرحة والقبور ويسألونها الحاجات من دون الله، فإنه لا يقضي الحاجة إلا الله سبحانه وتعالى. وأدعوهم إلى أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الناس إلى المنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ولو جعلنا هذا الدين مطاطاً كلما أعجبتنا عبادة أدخلناها في دين الله لما وقف هذا الدين عند حد، ولما تحقق قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وبمقدار ما يدخل من البدع في دين الله تخرج السنن حتى لا تبقى سنة، ويكون الأمر كله بدعة.

من معاني الاستقامة التوسط في الأمور

من معاني الاستقامة التوسط في الأمور ثم إن الاستقامة لها معنىً آخر: وهو التوسط في الأمور: لأن الاستقامة معناها أن يكون الأمر مستقيماً بين طرفي نقيض، ومن فضول القول أن نتحدث عما يسمى بالتطرف في أيامنا الحاضرة، أنا والله حينما أتحدث عن تطرف لا أجد مجالاً للحديث، لكن ربما نومئ إليه إيماءً. فمعنى التطرف المبالغة في الدين، هذه قد توجد نادراً لكن لا كما يصورها الناس في أيامنا الحاضرة، ففي أيامنا الحاضرة كلما رأى الناس شخصاً يتمسك بهذا الدين، ويخرج عن الأوضاع المألوفة التي ألفها الناس مدة طويلة في أيام الركود التي مضت بنا، يسمون ما يحدث بالتطرف، والحقيقة أن هذا ليس تطرفاً، هذا هو الدين، لكن لما نسي الناس وغفلوا عن هذا الأمر مدة من الزمن ظنوا أن من اتجه هذا الاتجاه يعتبر متطرفاً، وإلا في الحقيقة هذا هو الدين. ولربما يطعنون في المتدينين فيسمونهم المتطرفين أو الأصوليين أو ما أشبه ذلك، وهؤلاء هم المتدينون الذين ساروا على المنهج الصحيح، لكن ربما أن الناس جهلوا جانباً من جوانب هذا الدين أو تناسوه أو نسوه مدة طويلة من الزمن، وهي مدة الركود التي مرت بنا، فظنوا أن ما حدث تطرفاً، لكن لا يمنع أن يكون هناك تشدد في الدين، وهذا التشدد يقابل من الجانب الآخر التساهل؛ ولذلك يقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) أي: فإن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فلا هو بالطرف الشديد من جهة اليمين، ولا بالطرف الشديد من جهة اليسار ولكنه وسط؛ ولذلك يحذر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يزيدوا في هذا الدين، كما يحذرهم أن ينقصوا من هذا الدين، ولكن النقص في هذا الدين أسهل من الزيادة؛ لأن النقص في هذا الدين يعتبر معصية، والزيادة في هذا الدين تعتبر تشريعاً، فهذا الزائد في الدين يعتبر نفسه مشرعاً يضع نفسه في درجة الخالق سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87] فقدم تحريم الطيبات على الاعتداء الذي هو الجرأة على المحرمات، فالأول أشد، والثاني أيضاً شديد. ولذلك نجد أن دين الإسلام دين وسط بين طرفين، فمثلاً: حينما تقدس الصوفية الروح وتهمل الجسد، نجد بجانبها من الطرف الآخر الشيوعية الملحدة التي تهمل الروح وتقدس الجسد. والإسلام يعطي لكل من الجسد والروح حقه، فلا يسمح للإنسان أن يرهق هذا الجسد حتى ولو في طاعة الله تعالى، ولا يسمح له أن يتساهل في أوامر الله، فلا هو بالصوفية الموغلة التي تهتم بالروح دون الجسد، ولا هو بالشيوعية الملحدة المادية التي تهمل الروح وتقدس الجسد. والإسلام لا يذيب الفرد في سبيل الجماعة، ولا الجماعة في سبيل الفرد، فيعتبر للجماعة حقاً، وللفرد حقاً، فالإسلام في الأنظمة الاقتصادية لا هو بالرأسمالية في معناها العصري والاصطلاحي التي تأخذ المال من أي طريق وبأي حال ولا تعتبر في المال حقاً، ولا هو بالاشتراكية الخبيثة الملحدة التي تأخذ أموال الناس وتبتزها، ولكنه وسط، فهو يثبت الملكية الفردية للإنسان، ويضع لها قيوداً سواء كان في مصادرها أو مواردها. وهكذا تجد أن الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فهو مستقيم بين طريقين منحرفين؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] وبالرغم من أن (وسط) معناه: عدول وثقات، وهي كذلك تعطينا المعنى الآخر، فهو وسط بين طرفي نقيض. إذاً: هذا هو معنى قوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ) فلا يظنن أحد أن باب الاستقامة مفتوح للزيادة، ولذلك نجد أن الله تعالى يحرم عبادات حتى لا يزيد الإنسان في العبادات، فمثلا: ً نأتي في أمر الصلاة، فلو أن واحداً زاد صلاة سادسة، قلنا: أنت كفرت بالله عز وجل، ولو جعل الصلوات أربعاً قلنا أيضاً: كفرت بالله تعالى. ومثله في الصيام: حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك، وجاء في الحديث: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ويوم الشك هو آخر يوم من شعبان. لماذا حرم الرسول صلى الله عليه وسلم صوم يوم الشك؟ حتى لا يدخل الناس في العبادات زيادة ليست منها، وحرم صوم يوم عيد الفطر حتى لا يزاد في هذه العبادة من آخرها. وأمر صلى الله عليه وسلم بتأخير السحور حتى لا نأخذ من الليل زيادة للنهار، وأمر بتعجيل الفطر حتى لا نأخذ من الجانب الآخر من الليل زيادة.

مقومات الاستقامة

مقومات الاستقامة وهكذا نجد أن الإسلام يقيد الناس بأوامر حتى لا يزيدوا؛ لأن الزيادة أخطر في هذا الدين من النقص، وهكذا كل العبادات تجدونها بهذا الشكل، إلا ما يفعله الإنسان تطوعاً بشرط ألا يضعه كعبادة واجبة.

ترك الطغيان

ترك الطغيان قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]: الطغيان وهو أول عامل من عوامل عدم الاستقامة، لأن الطغيان مجاوزة الحد، وقلت لكم إن الزيادة في العبادة تعتبر طغياناً؛ ولذلك جاء ثلاثة نفر ذات يوم إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبرتهم إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بعمله في السر، فتقالوا هذا العمل، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعله هؤلاء؛ فخاف أن يكون ذلك حدثاً في دين الله، وخاف أن يحدث الناس تشريعاً لم يشرعه الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب غضباً لم يغضب مثله أبداً، وصعد المنبر وقال: (أما بعد: فإني أتقاكم لله، وإني لأصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالطغيان حتى في العبادة لا يجوز؛ ولذلك فإن الطغيان بكل أنواعه خطير جداً، طغيان المادة يفسد الأمم، والتكبر في الأرض يفسد أصحابه؛ ولذلك أخبر الله تعالى بأنه أخذ الأمم حينما طغوا في البلاد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]. يقول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) أي: فلينتبه كل من طغى، وهذه الآية تعطينا معنىً جديداً خالداً إلى يوم القيامة أن كل من طغى، وتجاوز الحد، وركب محارم الله، وتعدى على خلق الله، واستذل من أعزه الله، وحاول أن يذل المؤمنين، وحاول أن يظهر مظهر الكبرياء والخيلاء والعظمة التي لا تكون إلا لله، فإن الله عز وجل له بالمرصاد. ولذلك نقرأ في أخبار الأمم السابقة في القرآن: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]. ثم نقرأ بعد ذلك قصة الطاغية الجبار العنيد الذي كان يستذل الأمم ويقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويزيد في طغيانه وتكبره على الله عز وجل فيقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38]؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه بأن الله تعالى موجود، وأن الله هو الرب الحقيقي قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] هذا الطغيان! (طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) فأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر. وإذا لم يأخذ الإنسان عظة وعبرة من الأمم السابقة فعليه أن ينظر في أمم طغت في أيامنا الحاضرة، أو في عصرنا الحديث أو قبل سنين، فماذا فعل الله تعالى بالمسلمين في الأندلس؟ أصبحوا خبراً بعد عين. ماذا فعل الله تعالى بلبنان؟ ماذا حدث في أمم عشناها نحن؟ بمقدار ما ركبوا من محارم الله، وبمقدار ما اشتدوا على خلق الله، عاقبهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا قبل الآخرة، وليس هناك ذنب أعظم وأحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا قبل الآخرة من الظلم في الأرض، فإن الظلم يعجل الله عز وجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة. فالذين يظلمون الشعوب ويتعدون على محارمهم، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، هؤلاء قد يعاجلهم الله عز وجل بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وكم سقطت من أمة، وكم درج في هذا التاريخ الطويل عبر هذه الحياة الطويلة من الأمم فصار خبراً بعد عين! أيها الإخوة! قال تعالى: {وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] يعني: يدرك أموراً لا يدركها الناس.

ترك الركون إلى الكفار

ترك الركون إلى الكفار ثم العنصر الثاني من مقومات الاستقامة: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]: والركون إلى الكافرين هو الميل بحيث تتخذ الكافر ركناً تعتمد عليه بدل أن تعتمد على المسلمين بعد الله سبحانه وتعالى. والمسلم لا يركن إلى أعدائه ولا يميل، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لامه الله عز وجل لما فكر أن يميل شيئاً قليلاً، وأن يركن شيئاً قليلاً إلى الكافرين، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر أن يركن قليلاً لمصلحة الإسلام وللدعوة؛ لعله أن يكسب القوم ليستقيموا على دين الله، ومع ذلك يقول الله تعالى: لو فعلت ذلك يا محمد وأنت خير البرية (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) فركون المسلمين إلى الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين أمر عظيم، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]. مودة الكافرين أمر عظيم عند الله ولو كانوا أقرب الناس منا، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22]. أيها الإخوة! إن الميل إلى الكافرين سواء كان بمحبة أو اعتماد عليهم من دون الله عز وجل، أو موادة، أو ابتسامة في وجوه الكافرين حرام، حتى السلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام) ولا نفسح لهم المجال في بلاد المسلمين بحيث يرفعون رءوسهم والمسلمون يخفضون رءوسهم، قال صلى الله عليه وسلم (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه). وليس معنى ذلك أن نؤذي الكافرين المعاهدين، بل علينا ألا نتركهم يرفعون رءوسهم في بلاد المسلمين بحيث يخفض المسلمون رءوسهم أمام هؤلاء الكافرين. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: تصيبكم، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة العنصر الثالث من مقومات الاستقامة قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]: الصلاة أفضل العبادات، ليس هناك عبادة شرعت فوق السماء إلا الصلاة، وسائر تشريعات الإسلام كلها نزل بها الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأرض، إلا الصلاة لما أراد الله تعالى أن يفرضها صعد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوق السماء؛ ولذلك فإن تركها ردة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتخلف عنها في المسجد غالباً إلا منافق معلوم النفاق، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -لأنه لا يستطيع المشي- حتى يقام في الصف). ولذلك فإن الصلاة أعظم شريعة، ولا يرتد المسلم بترك عبادة من العبادات إلا الصلاة. قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ) صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) يعني: هذه الصلوات تكفر الذنوب التي تفعل فيما بينها إذا كانت من الصغائر، أما إذا كانت من الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة خاصة. ولذلك فإن سبب نزول هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني قبلت امرأة، فقال له: اجلس، فجلس الرجل، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] قال: يا رسول الله! ألي خاصة أم لجميع الأمة، قال: بل لجميع أمتي) فالصغائر تكفرها الصلوات الخمس. لذلك فالصلاة أمرها عظيم، وقد شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جار في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى من درنه شيء الصلاة تطهر المجتمع من الفساد، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

لزوم الصبر

لزوم الصبر يقول الله تعالى عن الأمر الرابع: كم من الناس من هو في خير لكن طال عليه الأمد فقسا قلبه نسأل الله العافية والسلامة، ولذلك فإن المسلم مطالب بالصبر بكل أنواعه: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله. وهذه الثلاثة الأنواع من الصبر كلها يحتاج إليها المؤمن في حياته، فيصبر نفسه على طاعة الله، لما يوجد في طاعة الله من المشقة. ويصبر عن معصية الله؛ لما في معصية الله من الشهوة. ويصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لما في أقدار الله عز وجل من الأذى والتعب، الذي قد لا يستطيع الإنسان أن يتحمله. وطريق الجنة -كما نعرف- محفوف بالمكاره، كما أن طريق النار محفوف بالشهوات، قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي الحديث: (إن الله عز وجل حينما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب جبريل إلى الجنة، فوجدها جنات تجري من تحتها الأنهار، رجع فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالمكاره) فصلاة الفجر تأمر المسلم بأن يقوم في ساعة لذة النوم التي ينام عنها كثير من المسلمين اليوم، والتهجد والصيام فيه مشقة، وكذلك غيره من العبادات، الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك فيه شيء من المشقة. (ثم خلق الله عز وجل النار فقال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فلما جاءها يأكل بعضها البعض -نسأل الله العافية والسلامة- رجع وقال: وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات) المحرمات اللذيذة، النوم عن الصلوات المكتوبة البخل بالزكاة التمتع بالمال فيما حرم الله الزنا وما فيه من لذة ومتعة السرقة إلى غير ذلك من الشهوات التي تميل إليها فطرة كثير من الناس. (فلما رآها قد حفت بالشهوات رجع وقال: وعزتك وجلالك خشيت ألا ينجو منها أحد)، نسأل الله العافية والسلامة. فالله تعالى هنا يقول: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] والإحسان معناه: إتقان العمل، ومراقبة الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر لربما تعجز عنه النفوس الصغار التي لا تشتاق إلى الجنة وإلى لقاء الله عز وجل، لكن النفوس الكبار التي تعشق هذا النعيم لا تبالي في طريق الجنة بأي مكروه من هذه المكاره. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة).

النهي عن الفساد في الأرض

النهي عن الفساد في الأرض يقول الله تعالى عن آخر مقومات الاستقامة: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]: أهم عوامل الاستقامة النهي عن الفساد في الأرض، وأهم عناصر بقاء الاستقامة في الأرض أن ينهى عن الفساد في الأرض، ومن الذي ينهى عن الفساد في الأرض؟ الأمة الإسلامية كلها، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] الفساد إذا حل في الأرض تفسد حياة الدنيا كلها، وربما ينزل الله عز وجل عقوبة تكتسح هذا العالم، كما أهلك عاداً وثمود وأصحاب الأيكة إلى غير ذلك من الأمم. ووجود الفساد في الأرض سراً ربما يكون أمره سهلاً، لكن انتشار الفساد في الأرض، وانكشاف الفساد في الأرض علناً في وضح النهار ينظر إليه المسلمون بأعينهم، ويسمعونه بآذانهم، ويعيشونه حياة طويلة من الزمن، ولا يرفعون بذلك رأساً أمر خطير جداً، فالله سبحانه وتعالى يغار على محارمه كما يغار أي شخص منا على محارم نفسه، بل إن الله تعالى لا يشبهه في غيرته أحد من خلقه، والله تعالى له محارم، ومحارم الله: ما حذر الله وما نهى عنه سبحانه وتعالى، فإذا فعل أصحاب المنكر المنكر في وضح النهار، وسكت العلماء وسكت العامة، وكل تخلى عن هذه المسئولية، حلت المصيبة بالأمة الإسلامية ولذلك مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة كلها بسفينة واحدة يسكن فيها الصالحون والفسقة والطغاة والكفار والمؤمنون، وكل أنواع البشر. لكن هذه السفينة إما أن تبقى يحافظ عليها الجميع فتسلم هذه السفينة، وإما أن يعبث بها الجرذان وضعاف الإيمان، وشذاذ البشر، فلا بد حينئذ أن يكون في السفينة من يحافظون عليها من الغرق، فإن تركوا أوباش البشر يلعبون بالسفينة ويخرقونها ولو كان للمصلحة حسب ما يعتقدون، ليستقوا الماء من عندهم حتى لا يضطروا إلى أن يؤذوا من فوقهم بحسن نية، أو بسوء نية؛ غرقت السفينة وفيها الصالحون والفاسدون. ولذلك نصيحتي أيها الإخوة أن نحافظ على هذه السفينة، وأن نناصح المسئولين ونقول لهم: اتقوا الله، وعلى المسئولين أن يقبلوا كلمة (اتقوا الله)؛ لأن الوعيد جاء من عند الله لمن لم يقبل كلمة: اتق الله. وعلينا ألا نغفل عن قولنا لهم: اتقوا الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلينا أن نحافظ على أنفسنا حتى لا تخرق السفينة داخل بيوتنا، وعلينا أن نحافظ على السفينة حتى لا تخرق في أسواقنا، فتغرق هذه الحياة كلها فيحدث أمر لا يطاق؛ ولذلك فإن الله عز وجل يقول: (فَلَوْلا) أي: فهلا (كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: علمتم أن من قبلكم من القرون كان فيهم من لا ينهى عن الفساد في الأرض، فهل ستكونون مثلهم يا أمة الإسلام لا تنهون عن الفساد في الأرض؟! وهذ استفهام إنكاري مشدد من عند الله عز وجل. {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] أي نجاة لا تكون إلا للذين ينهون عن الفساد في الأرض، فانهوا يا إخوتي في الله عن الفساد في الأرض. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدام الجميع على الاستقامة على دين الله، وأن يحفظنا وإياكم بالإسلام قائمين وقاعدين ونائمين، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يهدي ولاة أمر هذا البلد، وأن يجعلهم من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. كما أسأله أن يهدي ولاة أمر المسلمين والمسلمين كافة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

معاص وعقوبات

معاصٍ وعقوبات ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وما حل اليوم بالمسلمين من مصائب وشدائد إنما هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، والله عز وجل قد ينزل بعض العقوبة في الدنيا؛ لكي يرتدع العاصي، وينزجر المذنب، فيرجع إلى الله عز وجل، فإن لم يرجع فإن عذاب الآخرة أشد وأبقى. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من العلامات التي تنذر بقرب وقوع الهلاك، ونزول العذاب، وما أكثرها في هذه الأيام!

استمرار الصراع بين الحق والباطل سنة كونية

استمرار الصراع بين الحق والباطل سنة كونية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن نتحدث عن المعاصي وآثارها في الأمم وما تسببه من غضب الله عز وجل وأليم عقابه نقول: منذ أن خلق الله البشرية والصراع قائم وموجود بين الخير والشر، كما قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123]، وهذا الصراع سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، وفي هذا الصراع جند لله وجند للشيطان، والله تعالى أمرنا بأن نقاتل أولياء الشيطان فقال لنا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، وفي غضون هذا الصراع يظهر الحق أحياناً، ويختفي بعض الأحيان، ولكنها سنة الله القائل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ وهذا الصراع يتأثر بنوعية الذين يتحملون المسئولية من قبل الله عز وجل، والذين يقومون بالدور الذي كلفهم الله به في هذه الحياة؛ ليكونوا من أولياء الله وجنده. ثم جرت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يفتن هؤلاء الناس بعضهم ببعض، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب، فوقف من وقف في وجه هذه الدعوة، فأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، إلا أن سنة الله تعالى في هذه الأمة ألا يعاقبها دفعة واحدة، من أجل أن تنقل الرسالة جيلاً بعد جيل وأمة إثر أمة؛ لأنها آخر أمة؛ ولأن رسالتها آخر الرسالات. ومن هذا المنطلق فإن سنة الله تعالى في هذه الأمة ألا يهلكها بسنة عامة، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الأمة حينما تتمادى في غيها وضلالها أنها لا تؤاخذ، ولكنها لا تهلك جميعاً، وهذا الذي أقوله عليه أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكم جرى على هذه الأرض من الأمم التي عصت الله سبحانه وتعالى فعاقبها! وكم من حضارة سادت ثم بادت حينما انحرفت عن المنهج الصحيح، وكم من أمة أُخذت أخذ عزيز مقتدر! كل ذلك بسبب سيئاتها، وهذه دروس لنا، والله تعالى قد قال لنا نحن أمة الإسلام: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم:42]، وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]، كل ذلك يجب أن نفهمه، حتى لا نقع في سخط الله عز وجل، وهذه الأمة يحذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً أنواعاً من المعاصي تسبب عقوبات كاسحة مهلكة تستأصل أمماً كثيرة، ولكن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة.

ذكر بعض الأمور التي إذا ظهرت في الأمة فقد قرب منها العقاب

ذكر بعض الأمور التي إذا ظهرت في الأمة فقد قرب منها العقاب ونقف مع حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وإن كان فيه شيء من الضعف، لكن له أحاديث تقويه وله أدلة من الواقع- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وظهرت الأصوات في المساجد، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وأدنى صديقه وجفا أباه، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وأكرم الرجل اتقاء شره، فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة ومسخاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع). والمراد بالنظام: المسبحة، يعني: كمسبحة قطع سلكها، فأصبحت تذهب حبة بعد حبة، أي: أن العقاب يتبع بعضه بعضاً، كما لو قطعت مسبحة، فهذه معاصٍ وهذه عقوباتها، قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45]. وأمتنا أظنها قد ابتليت بكل هذه الأمور، فأصبحت على خطر، وأصبح ما يصيبها من نكبات وعقوبات وتشريد في الأرض وتسليط السفهاء وما أشبه ذلك، كل ذلك مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع).

اتخاذ الفيء دولا

اتخاذ الفيء دولاً وقوله: (إذا اتخذ الفيء دولاً): الفيء: ما يأخذه المقاتلون بدون قتال، كما قال عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، وهو يشبه الغنيمة، لكنه بدون قتال، وهذا الفيء يعتبر مصدراً من مصادر بيت مال المسلمين، وقد يطلق الفيء على بيت مال المسلمين؛ لأن الفيء كل مال يُحصل عليه، والفيء لا يستحقه الناس كالغنيمة، وإنما يقسم كما قسمه الله عز وجل بقوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7]. وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن معنى الحديث: إذا اتخذ بيت المال دولاً، وأصبح بيت مال المسلمين ليس منضبط المصارف، وصار ألعوبة في أيدي الناس، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد فالأمر خطير، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة)، فالمال مال الله، وهو محترم، وكما أنه تُحترم موارده تحترم أيضاً مصارفه، ولذلك فإن بيت مال المسلمين إذا أصبح ألعوبة بأيدي العابثين لا يرعون فيه إلاً ولا ذمة فهذا يعتبر بداية من بدايات العقاب من الله سبحانه وتعالى.

اتخاذ الأمانة مغنما

اتخاذ الأمانة مغنماً وقوله: (والأمانة مغنماً): أي: أن كل أمين على أمر من أمور المسلمين أو على مال من أموال المسلمين يعتبر هذا الأمر غنيمة، ويعتبر ذلك فرصة بيده يستغله حسب مصلحته وحسب رغبته، وهذه هي الأمانة التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. إذاً: هذه الأمانة سواء كانت أمانة المال تودع عند واحد من الناس فيخون هذه الأمانة، أو كانت أمانة التكليف التي كلف الله عز وجل بها هذا العالم، أو كانت أمانة الذرية التي هي أمانة كبيرة ويخونها كثير من الناس، أو أمانة المسئولية، أو أمانة رعاية أمر المسلمين؛ بحيث لا يؤدي هذا الراعي حق هذه الرعية؛ وإنما اتخذ الأمانة مغنماً واعتبرها غنيمة لنفسه، واستغلها حسب رغبته، وتمتع بها، وبدل أن يعتبرها مسئولية كبيرة يتحملها على مضض اعتبرها فرصة سانحة يستغلها حسب رغبته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث متفق على صحته: (إذا اوسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وقال علماء الحديث: إن معنى (وسد الأمر) أي: اعتبر ولي الأمر أمر المسلمين كالوسادة يعتمد عليه، ويتمتع به، بدل أن يشعر بأنه مسئولية كبيرة. ولقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا ولي أحدهم أمراً من الأمور يعتبرها مسئولية كبيرة، فيخاف من حمل هذه، حتى كان يقول أحدهم: (ولست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً)، فكانوا يعتبرونها حملاً، وصار الناس في أيامنا الحاضرة يعتبرونها مغنماً، وهذا المغنم مسئولية عظيمة يسأل عنها الإنسان يوم القيامة إذا وقف بين يدي الله عز وجل، فيجب عليه أن يؤدي حق هذه الرعية، ويؤدي حق هذه الأمانة، ويقوم بما أوجب الله عز وجل عليه من مسئولية هذا التكليف. فهي حمل ثقيل لا يشعر بهذا الحمل ولا يدركه إلا عقلاء الرجال، أما سفهاء الناس فيعتبرون هذه الأمانة مغنماً، فيستغلونها لرغباتهم وشهواتهم ومصالحهم، وربما يستغلونها لظلمهم إن كانوا ممن اشتهر بالظلم والطغيان في الأرض، أما الحقيقة فإن الأمانة ليست مغنماً، ولكنها حمل ثقيل، وهذا الحمل لا يشعر به إلا المؤمنون، قال عز وجل: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، أي: خفن {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].

اتخاذ الزكاة مغرما

اتخاذ الزكاة مغرماً وقوله: (والزكاة مغرماً): الزكاة أحد أركان الإسلام، بل هي أهم العبادات المالية، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة، وقال: (والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). والزكاة فرصة للمسلم، فقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا رأوا من يسأل الناس عن الزكاة بصدق يقولون: (مرحباً بمن يحمل زادنا إلى الآخرة)، ثم اعتبرها كثير من الناس مغرماً، فهي غرامة ثقيلة يشعرون بالقلق منها، ويشعرون بالصعوبة عند أدائها. وربما يكثر المال ويتضخم وتعجز الأرقام عن تعداد أموال كثير من الناس، ثم إذا أحصيت الزكاة وجد هؤلاء الأقوام أن الزكاة أصبحت كبيرة وكثيرة بسبب ضخامة هذا المال، فأصبحت ثقيلة، وربما لا يؤدونها، كما فعل ذلكم المنافق الذي أخبر الله عز وجل عنه في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75 - 76]. ثم أيضاً هذه الزكاة هي حفظ للمال، وهي صيانة له، وما هلك مال في بر أو بحر إلا بسبب منع الصدقة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع)، فإذا أصبحت هذه الزكاة عبئاً ثقيلاً على هذا الإنسان، ويشعر بأنه لا يستطيع أداءها إلا بثقل، فحينئذٍ يكون ذلك علامة من علامات بداية النهاية، ومن علامات قرب العذاب على هؤلاء الناس.

تعلم العلم لغير الله

تعلم العلم لغير الله قوله: (وتعلم لغير الدين): أي: العلم الشرعي، وكل العلوم يجب أن تكون خالصة لله عز وجل ومن أجل رضا الله، ولمصلحة الأمة الإسلامية، لكن إذا كانت لغير الله، لا سيما إذا اتخذت العلوم الشرعية وسيلة للشهادة، أو للوظيفة، أو للسمعة، أو ليجاروا السفهاء، أو ليماروا العلماء؛ حينئذ تفسد النية، ويكون ذلك علامة من علامات انحراف الأمة عن المنهج الصحيح. وعلى هذا فإن العلم يجب أن يكون لأجل الدين، ومن أجل الله عز وجل، خصوصاً العلوم الشرعية، بل كل أعمال الإنسان يجب أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، فلا يقصد من ورائها رياءً ولا سمعة، ولا ذكراً ولا ثناءً، ولا الحصول على شيء من أموال الناس أو على شيء من هذه الدنيا.

ظهور الأصوات في المساجد

ظهور الأصوات في المساجد ومن علامات بداية العقوبة: (إذا ظهرت الأصوات في المساجد): وظهور الأصوات في المساجد معناه أن المساجد قد استعملت لغير العبادة، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، كما قال عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فإذا أصبحت المساجد مجالس للناس يتحدثون فيها في أمور دنياهم، وربما تكون مرتعاً للسفهاء وألعوبة للاعبين، فإن ذلك أيضاً علامة من علامات العقوبة.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين وقوله: (وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه): الأم هي التي حملت هذا الإنسان ووضعته وهناً على وهن، وأرضعته من دمها، وبذلت كل ما تستطيع وفوق ما تستطيع من أجل سلامة هذا الطفل، حتى إذا كان رجلاً أدنى زوجته وعقها، أي: عصاها وخالفها في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً علامة من علامات العقوبة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (وأدنى صديقه وجفا أباه): وهل يكون الصديق أقرب من الأب؟ وهل يتغلب حق الصديق على حق الأب وحق الزوجة على حق الأم؟ A لا يوجد ذلك إلا في أمة انحرفت عن المنهج المستقيم، فإذا أدنى الرجل صديقه وجفا أباه وأطاع زوجته وعق أمه فهذا انحراف، وقد أمر الله عز وجل ببر الوالدين، وجعل حق الوالدين بعد حق الله عز وجل مباشرة، كما قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8]. إذاً: تقديم حق أي واحد من الناس على حق الوالدين يعتبر إثماً ومعصية، فحتى في حال كفر الوالدين، وفي حال محاولة إكراه الولد على أن يكفر بالله من قبل الوالدين، لا طاعة للوالدين في مثل هذا الأمر، ولكن يبقى لهما حق الإحسان، كما قال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [العنكبوت:8]، وقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].

شرب الخمر

شرب الخمر ومن علامات العذاب: شرب الخمور: الخمر هي أم الخبائث، وقد كانت الخمور تشرب في الجاهلية، وشربت في الإسلام، وشربت في عهد السلف الصالح، لكنها لم تنتشر كانتشارها في أيامنا الحاضرة، فقد انتشرت الخمور والمخدرات وغيرها من الأمور العظام التي أفسدت عقول كثير من الناس، فأصبحوا لا يحسنون التصرف في هذه الحياة. والخمرة هي التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم شاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها إلى غير ذلك. والخمرة هي التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، ثم إن عاد فشرب لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن مات دخل النار، وإن تاب تاب الله عليه، ثم قال في الرابعة: فإن شربها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة، قالوا: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: عصارة أهل النار). إذاً: الخمرة خطيرة، وقد انتشرت في مجتمعاتنا الخمور، بل أصبحت تسمى مشروبات روحية، وكأن هذا الاسم يريد أن يوجد رغبة وشوقاً إليها، فهي ليست بروحية قاتلها الله وقاتل أصحابها ومن يروجها، بل هي ضد الروح، هي لفساد الروح جاءت، وربما يدسها أعداء الإسلام حتى تنتشر في المجتمعات الإسلامية لتفسد العقول. والخمور والمخدرات كلها على حد سواء، وإن كانت المخدرات في عهدنا الحاضر تلاقي مكافحة أكثر، لكن الخمور لا تنقص ضرراً عنها، وإن كانت لا تجد كل هذه المكافحة ولا جزءاً منها، أي: المكافحة التي تتولاها هيئات رسمية وعالمية، فالخمور قد انتشرت في بيوت كثير من المسلمين، وأصبحوا يتعاطونها مع الأسف، وربما تشترك الأسرة -كما نسمع في بعض الأحيان- على هذا المحرم! نسأل الله العافية والسلامة، فيتربى عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير! وعلى كل انتشار الخمور في المجتمع علامة من علامات أسباب العذاب، لاسيما حينما تكون هذه الجريمة لا تجد مكافحة تتناسب مع حجمها، فأنا متأكد أن السلطات الإسلامية لا تعطي هذه الجريمة ما تستحق من اهتمام وإكبار، ولذلك تنتشر في المجتمعات الإسلامية انتشاراً هائلاً. أيها الإخوة! الخمر هي كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم أم الخبائث، وهي لا تجتمع هي والإيمان إلا أوشك أحدهما أن يخرج الآخر، ولذلك رأى الصحابة رضي الله عنهم أن يقيسوا حدها بحد القذف، وعقوبتها بعقوبة القذف؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، كما أخبر الصحابة، ولذلك فإن الأمة الإسلامية مطالبة أن تحارب هذه الفاحشة وهذه الجريمة العظيمة التي تجر وراءها جرائم كثيرة؛ فإن الإنسان إذا تناولها يفسد عقله، فيهبط إلى مستوى الحيوان، بل ربما ينزل عن مستوى الحيوان، وينسى العقل الذي يوجه الله تعالى إليه دائماً خطاب: (أفلا تعقلون) (أولوا الألباب) (لقوم يتفكرون). ومن هنا يفقد الإنسان العقل والتفكير واللب حينما يتناول هذه الجريمة، وربما يقع على محارمه، وربما يقع على أمه، نسأل الله العافية والسلامة! ومن هنا فإني أدعو الأمة الإسلامية إلى أن تهتم اهتماماً كبيراً بخطر هذه الفاحشة وهذه الجريمة العظيمة، وإذا انتشرت دون أن يكون لها رادع منضبط انضباط حقيقياً فإن ذلك يؤذن بعذاب، ويؤدي إلى انتشارها في المجتمعات الإسلامية. نسأل الله العافية والسلامة.

انتشار القيان والمعازف

انتشار القيان والمعازف ومن علامات العذاب: انتشار القينات والمعازف، والقينات هن المغنيات الراقصات، والمعازف معناها الموسيقى ووسائل اللهو الأخرى، واسمحوا لي أن أقول لكم: إنه يندر أن يخلو منها اليوم بيت من بيوت المسلمين، سواء كانت بواسطة الإذاعة أو التلفاز أو الأفلام التي انتشرت في بيوت كثير من المسلمين أو غير ذلك. وهذه المعازف هي التي قرنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح مع أكبر المحرمات؛ مع الزنا ومع لبس الحرير ومع الخمر فقال: (ليأتين أقوام يستحلون الحر)، أي: الزنا، (والحرير والخمر والمعازف). وكثير من الناس يتساهل في هذا الأمر حتى أصبحنا نسمع عند بعض الناس أن هناك موسيقى إسلامية! بل يندر أن يأتي حديث إلا وتتقدمه هذه الموسيقى، بل يؤسفني أنها ربما تأتي بعد تلاوة القرآن مباشرة! وعلى كل هناك ازدواجية يعيشها كثير من الناس، حتى أصبح كثير من الأطفال لا يفرق بين القرآن والموسيقى، وإنما يعجبه نغم فقط دون أن يميز بين هذا وهذا، وهذا التباس عظيم، فيوشك أن ينشأ في المجتمعات الإسلامية أطفال لا يفرقون بين الحق والباطل! فإذا انتشرت القينات، وانتشرت الأفلام التي ترقص فيها النساء، وانتشرت الأغاني التي تغني فيها النساء وتلهو وتلعب، وانتشرت المسرحيات التي تشوه الإسلام؛ بحيث تبرز رجال الإسلام ومعهم زوجاتهم سافرات، فإذا انتشرت هذه الأشياء فإنها بداية لعقوبة الله عز وجل. أيها الإخوة! لا نكتمكم سراً إذا قلنا: إن كثيراً من وسائل الإعلام التي تطورت في عصرنا الحاضر وانتشرت تحمل هذه الفكرة، سواء كانت في الصورة الثابتة كما يوجد في كثير من الصحف والمجلات، حيث يختارون فتاة فاتنة في جمالها يضعونها في مقدمة هذه المجلة، أو الصور المتحركة التي انتقلت إلى بيوت المسلمين بواسطة الأفلام أو بواسطة الأجهزة الحديثة التي ملئ بها عصرنا الحاضر، فكانت تشكل خطورة على هذه المجتمعات.

واجب المسلم تجاه الأغاني والمعازف ووسائل الإعلام التي تبث ذلك

واجب المسلم تجاه الأغاني والمعازف ووسائل الإعلام التي تبث ذلك أيها الأخ المسلم! ربما لا تملك أن تنكر المنكر كله، ولا أن تقضي على هذا الإثم من أصوله ومن منابعه، لكنك تملك بيتك، وإذا لم تستطع أن تسيطر على بيتك فعليك وعلى بيتك السلام، فقف يا أخي عند باب بيتك واحفظه من هذه الأفلام ومن هذه القينات ومن تلك المعازف؛ حتى تسلم من عقوبة الله عز وجل لو حلت بهذه الأمة التي انتشرت بها القينات والمعازف. فكثير من بيوت المسلمين تغص بهذه الأمور؛ ولذلك فإن المسلم في مثل هذه الأيام لا نقول: يقف متحيراً؛ فالأمر واضح، والسبيل مستبينة، ولكنه قد يقف عاجزاً أمام أهله الذين أظهر معهم الضعف من أول وهلة، فأصبح لا يستطيع أن يحكم قبضة هذا البيت، ولا يستطيع أن يسيطر على بيته وعلى أسرته. فأقول يا أخي المسلم! اتق الله عز وجل؛ فأنت تتحمل أمانة عظيمة، ومسئولية كبيرة، إنها أمانة الأهل والذرية، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]. إنها اختبار من الله سبحانه وتعالى، ولما أهمل كثير من الناس القيام بالتربية في هذه البيوت نشأ في هذه البيوت مجرمون، ونشأ في هذه البيوت لصوص، ونشأ في هذه البيوت أناس اشتعلت في قلوبهم الشهوة الحرام، فأصبحوا لا يملكون أنفسهم، وأصبحوا يبحثون عن الجريمة وعن الفاحشة في مواطنها، ولذلك فإنه قد مهد لهذه الفواحش داخل بيوت المسلمين أمام هذه الأفلام المحرمة، وأمام هذه القينات والمعازف، فأصبح هؤلاء الشباب كطيور في أقفاص مقفلة ينتظرون اللحظة الأخيرة التي يفتح فيها هذا القفص من أجل أن يفر من هذا المجتمع المحافظ ليبحث عن الفاحشة، وهذا هو ما يحدث، فقد ضاع كثير من شباب الإسلام في بلاد الفاحشة والحرية المطلقة التي لا تقف عند حد، وهي حرية تعتبر في الحقيقية عبودية لغير الله عز وجل. ولذلك فإننا ندعو قادة الأمة الإسلامية إن كانت فيهم روح إسلامية إلى أن يتقوا الله في هذه المسئولية وهذه الأمانة، وندعو أيضاً قادة وأرباب البيوت والذين حملهم الله عز وجل المسئولية مباشرة إلى أن يتقوا الله تعالى في حماية هذه البيوت.

سيادة فاسق القبيلة

سيادة فاسق القبيلة ومن هذه الجرائم: (وساد القبيلة فاسقهم): وهل يسود القبيلة فاسقهم؟ A نعم، فإنه إذا انحرفت القبيلة سادها فاسقهم، حتى يقال للرجل: ما أطرفه وما أحلمه وما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فربما تختل المعايير وتفسد الموازين في عقول الناس، ولا يستطيعون أن يميزوا بين الحق والباطل وبين النافع والضار، فحينئذٍ يسود القبيلة فاسقهم، والفاسق هو: الذي يفعل الذنوب العظام أو يدمن على الصغائر. ولو أرادت القبيلة الخير لنفسها والعزة والكرامة لها لكان الأمر في خيارها، أما وقد أصبح الأمر بيد فاسق من فساق هذه القبيلة، لأنه صاحب مال أو لأنه صاحب جاه أو لأنه صاحب مركز أو لأي سبب من الأسباب؛ فهنا يسود القبيلة فاسقهم، وكان الأولى بهذه القبيلة التي تريد أن يكون لها الخير والسعادة أن يكون الأمر في صالحيها، فإذا كان الأمر في فسقتها فذلك بداية العذاب.

زعامة أرذل القوم

زعامة أرذل القوم ومن هذه الأمور التي تسبب سخط الله عز وجل: (أن يكون زعيم القوم أرذلهم): وهل يكون زعيم القوم أرذلهم؟ A نعم، إذا فسدت الأذواق، وكان الأمر بغير أيدي العقلاء، وتولى أمور المسلمين غير الصالحين منهم، وقادوا سفينة تسير في أعماق بحر متلاطم الأمواج، ولا يستطيع أن يخلص هذه السفينة من هذه الأمواج ومن هذا البحر المتلاطم إلا العقلاء. فإذا كان أمر المسلمين في العقلاء فإن ذلك هو الخير للقائد وللمقود، وإذا فسدت الأمة، أو فقدت الصالحين، أو أصبحت مغلوبة على أمرها، وكان من يتولى أمر المسلمين هم الفسقة، أو الذين لا يخلصون في قيادة هذه السفينة، أو الذين يريدون أن يهتموا بمصالحهم، أو يشبعوا رغباتهم، أو ينتقموا من الصالحين فحينئذٍ تخرب القيادة، ويفسد الأمر، وربما تغرق السفينة، وربما تغطيها الأمواج، وربما تصطدم بجبل فتتحطم، ولذلك فإننا نقول: إن أمر المسلمين يجب أن يكون في أصلحهم وأتقاهم وأعبدهم لله عز وجل وأكثرهم إخلاصاً لهذه الأمة؛ حتى تسير سفينة الحياة إلى شاطئ النجاة دون أن يصيبها خلل ودون أن تصاب بأمر من الأمور. أيها الإخوة! إن الصالحين من هذه الأمة هم الذين يستطيعون أن يقودوا هذه السفينة إلى ساحل النجاة، سواء كانوا السلطة الحاكمة أو الأمراء أو الوزراء أو العلماء، وإذا كان هذا الأمر في الصالحين فإن الأمة الإسلامية بخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإذا وسد إلى غير أهله فانتظر الساعة). ونحن نطالب كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين أن يتقي الله عز وجل، وأن يؤدي هذه الأمانة التي استرعاه الله عز وجل إياها، وأن يبحث عن أصلح الناس وأكفئهم ليتولى هذه الأمور، وندعو القادة والعلماء إلى أن يقودوا هذه الأمة إلى عزها وصلاحها وكرامتها، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا كان زعيم القوم أرذلهم فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء). وهذه المسئولية وهذه القيادة ليست خاصة بولاة الأمر الكبار في الأمة الإسلامية، ولكنها أيضاً تعم كل من تولى أمراً من أمور المسلمين، وكل من استرعاه الله عز وجل على مسئولية، فحتى الموظفون وحتى رؤساء الأقسام وحتى المسئولون عن دوائر الحكومة يدخلون في ذلك، فهو يعم المسئولية الكبرى والمسئولية الصغرى، فيجب أن تكون دائماً في الصالحين وفي أكفاء الناس وفي أصحاب الخبرة والعقل والدين والحزم والأمانة، وإلا فإن الأمر خطير وخطير جداً، ولذلك فإن من يتتبع تاريخ أي أمة من الأمم يرى أن أسباب سقوطها وبداية نهايتها حينما يكون الأمر في غير أهله.

لعن آخر هذه الأمة لأولها

لعن آخر هذه الأمة لأولها ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (ولعن آخر هذه الأمة أولها): وهل يلعن آخر هذه الأمة أولها؟! وأول هذه الأمة هم الذين أقاموا دولة الإسلام التي مازالت الأمة الإسلامية تتفيأ ظلها الوارف، وتعيش في ظل فتوحات الفاتحين من سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فأولئك هم الذين قدموا أنفسهم فداءً لهذا الدين، وهم الذين وضعوا قواعد الدولة الإسلامية على أساس متين، والذين نقلوا لنا هذا الدين جيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة. وأما هل يوجد في آخر هذه الأمة من يلعن أولها؟ ف A نعم، لقد كان هذا أمراً غريباً، لكننا وجدناه واضحاً في كثير من الأحيان، فقد وجدنا من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يلعنهم، ومن يكفرهم ويخرجهم من الملة! كما يوجد فيمن يسمون أنفسهم بالشيعة من الرافضة. بل لقد وجد في عصرنا الحاضر أمة تزعم أنها تتحمل مسئولية التجديد، ومسئولية محاربة القديم، وهؤلاء في أنفسهم عقدة التخلف وكراهية كل قديم، ولذلك فإنهم يحاربون كل قديم، ويزعمون أنهم يجددون في هذا العصر، ويريدون أن يقضوا على ذلك القديم الذي يعتبر تخلفاً وتأخراً ورجعية في نظرهم، مع أن الله سبحانه وتعالى سماه هو التقدم وسماهم هم المتأخرين، فقال عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، والمراد بالتقدم: الأخذ بهذا الدين، والمراد بالتأخر: رفض هذا الدين. وعلى كلٍ وجد في عصرنا الحاضر من يسمون أنفسهم بالحداثيين أو بالمجددين، والذين لا يروق لهم الأمر ولا تلذ لهم الحياة إلا حينما يحاربون كل قديم، ويطعنون في سلفنا الصالح رضي الله عنهم، وفي مؤلفاتهم من الكتب الصفراء كما يقولون، ويعتبرون أنفسهم هم المجددين، بل ربما يطعنون في دين الإسلام، ويعتبرون دين الإسلام تخلفاً، وأن ما أصاب الأمة من تخلف إنما سببه الأخذ بهذا الدين! هكذا يقولون، وربما يتمادون في طعنهم في هذا الدين، فيسبون خير البرية محمداً صلى الله عليه وسلم، ويعتبرونه هو الذي أخر هذه الأمة! وربما ينالون الله عز وجل بالطعن والأذى! وهم بهذا يؤذون الله ورسوله، وهؤلاء كلهم يدخلون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولعن آخر هذه الأمة أولها). لكن ما موقفنا نحن من مثل هؤلاء المرتدين؟ موقفنا من هؤلاء المرتدين هو كما أمرنا الله عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون). فنقول: لا يجوز للأمة الإسلامية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هؤلاء الطاعنين في الإسلام والذين يتناولون دين الله بالسب والهمز واللمز، فيجب أن تكون للأمة الإسلامية ويجب أن تكون للحكومة الإسلامية قوة تحمي جانب هذا الدين، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر الأمة الإسلامية بأن تدافع عن هذا الدين بكل قوة، بل أخبر سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتب السماوية من أجل هداية البشر، ومن أجل إقرار قواعد الأمن والطمأنينة والعدل في هذه الأرض، وأنزل مع الكتب السماوية الحديد فيه بأس شديد، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]. فالمسئولية أولاً مسئولية ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل على هذا الدين، وتأتي المسئولية في الجانب الثاني على كل واحد من المسلمين يغار لله عز وجل ولدينه، فإذا رأى دين الله عز وجل يُنال منه ما ينال فعليه أن يغضب لله عز وجل، وعليه ألا يغضب لنفسه أو لماله أو لحقوقه أكثر من غضبه لله عز وجل، وإذا غضب لنفسه دون أن يغضب لله فويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة.

إكرام الرجل مخافة شره

إكرام الرجل مخافة شره وقوله: (وأكرم الرجل مخافة شره): وهذا قد وقع، فإن كثيراً من الناس يُكرم مخافة شره، ويقوم له الرجال، ويعظمونه، ويمجدونه، ولربما يعطونه من الألقاب ما لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وكثير منهم -إن لم نقل: جلهم- يكره هذا الإنسان، لكن أكرموه مخافة من شره. وهذا هو الذي ألجم كثيراً من الألسن أن تقول كلمة الحق، والحقيقة أن مخافة الشر أو الطمع في الخير أو الرجاء لمصلحة من المصالح هو أكثر أسباب الإكرام التي تحدث في عالمنا اليوم، ولذلك يكرم كثير من هؤلاء الذين يخشى شرهم وبطشهم وسطوتهم، أكثر من أن يكرم العلماء الأفاضل الذين يدلون الناس على طريق الجنة.

واجب الأمة تجاه الذنوب والمعاصي

واجب الأمة تجاه الذنوب والمعاصي

الغضب لله عز وجل ومكافحة الجرائم

الغضب لله عز وجل ومكافحة الجرائم أيها الإخوة! هذه بعض أسباب العذاب التي انعقدت في المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، وفي المجتمعات الإسلامية بصفة خاصة، فلم يخل منها مكان من الأمكنة؛ ولذلك فإن ما يحدث في هذه الحياة من خلل ومن عقوبات ومن جرائم ومن فساد في البر والبحر إنما هو بما كسبت أيدي الناس، كما قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. إن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تدفع عن نفسها عذاب الله عز وجل إلا حينما تكافح هذه المنكرات، وتغضب لله عز وجل، ولا تترك الفساد يسير في الأرض، فهي مسئولية كما يتحملها ولاة الأمر يتحملها المسلمون أيضاً، ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وسوف يسأل الله عز وجل الجميع عن هذا الدين يوم القيامة. فعلى المسلمين أن تتمعر وجوههم غضباً لله عز وجل، أما إذا لم تتمعر الوجوه غضباً لله عز وجل فإن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود:102 - 103].

عدم الخوف من غير الله عند رؤية المنكرات

عدم الخوف من غير الله عند رؤية المنكرات أيها الإخوة! إن الله تعالى يبتلي المؤمنين بالفسقة، ويسلط بعضهم على بعض؛ لينظر كيف يعملون؛ ولينظر هل يقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد المسلمين أم أن الناس يخافون على أنفسهم وعلى حياتهم وعلى أرزاقهم، وهذا وبعينه هو ضعف الإيمان، بل أخشى أن يصل بالناس إلى درجة الشرك بالله عز وجل، فحينما يُصرف جانب الخوف لغير الله عز وجل ويكون من غير الله فإن هذا من الشرك، والله تعالى يقول: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ} [المائدة:44]، والناس لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام، وجفت الصحف). فصرف الخوف لغير الله عز وجل نقص في جانب من جوانب التوحيد، وليس من جوانب المعصية والطاعة، بل هو من جانب الشرك والتوحيد، فإذا صرف هذا الأمر لغير الله عز وجل، وأصبح الإنسان يخاف على حياته أو يخاف على رزقه أو يخاف على نفسه أو يخاف على أهله، ويترك لذلك أموراً هو يُطالَب بها من قبل الله عز وجل، بحيث يقدم خوف البشر على خوف الله عز وجل، فهذا أمره عظيم، وهذا ليس معصية، ولكنه شرك بالله عز وجل. فتجب الثقة بالله سبحانه وتعالى؛ فإن الله تعالى قدر الآجال، كما قال سبحانه: {كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145]، وقال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وقدر الأرزاق، كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقدر كل أمر من الأمور، فممَ يكون الخوف؟ يجب أن يكون الخوف لله عز وجل وحده.

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم عقلاء الأمة

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم عقلاء الأمة فنقول أيها الإخوة! إن الذين يأمرون بالمعروف وينهون المنكر، ويحاربون الفساد في الأرض، ويدعون إلى الله عز وجل ويتحملون المسئولية أمام البشر ليتخلصوا من المسئولية أمام الله عز وجل يوم القيامة؛ هم عقلاء الأمة، بل هم الذين يريدون السعادة للأمة، بل هم الذين يريدون السعادة أيضاً للدولة؛ لأن الدولة لها أجل، فكما أن الإنسان له أجل فالدولة لها أجل، والله تعالى يقول: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34]، وهذا الأجل يبقى ما بقيت الدولة تحافظ على دينها وتحافظ على أوامر الله عز وجل، وينتهي ذلك الأجل بمقدار ما تنحرف الدولة أو تنحرف الشعوب عن منهج الله سبحانه وتعالى.

الذنوب والمعاصي سبب الزلازل والخسف والمسخ وغيرها

الذنوب والمعاصي سبب الزلازل والخسف والمسخ وغيرها فإذا فعلت الخصال المذكورة في الحديث، وجاء في حديث آخر: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة)، إذا فعلت هذه الخصال حل بها البلاء. وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء)، وهذه الريح قد تهب ويظنها الناس سحاباً ممطراً، كما حدث لقوم عاد، فقوم عاد لما رأوا العذاب: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، فقال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24 - 25]. قال عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة)، وكم يحدث من الزلازل في هذا العالم يوماً بعد يوم؟! وكم يحدث فيه من النكبات، وقد تحل قريباً من دارنا أيها الإخوة؟! ولا تظنوا أننا حين نعيش في أرض الحرمين أن لنا حصانة، أو أن بيننا وبين الله عهد أو ميثاق، فلا عهد بيننا وبين الله عز وجل إلا بتطبيق شرع الله، وبخشية الله عز وجل، وبفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لأنه ليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب ولا عهد ولا ميثاق، إلا أن يحافظ الناس على هذا الميثاق الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، هذا هو العهد الذي يجب أن نحافظ عليه. وعلى هذا نقول أيها الإخوة! إن ما حدث في العالم من زلازل أو من أحداث أو نكبات أو تسلط السفهاء أو نقص في الأمطار وجدب في الأرض وجور في سلاطين الأرض وغير ذلك؛ إنما هو بسبب ما كسبت أيدينا، فلنخش الله عز وجل، ولنعد إلى الله عز وجل. قال عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة ومسخاً)، وهذا المسخ ربما يكون في العقول لا في الأجسام، فربما يفقد الإنسان تفكيره فيكون قد مسخ إلى صورة حيوان في عقله وتفكيره وعدم غضبه لله عز وجل، وربما يفعل الله عز وجل بأمة كما فعل بقوم من بني إسرائيل حين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]. وقوله: (وآيات تتابع)، أي: عقوبات لا يعلمها إلا الله عز وجل، فقد تأتي من السماء صواعق وآفات ورياح وعواصف، أو تصعد من الأرض براكين وزلازل، أو تكون فتن بين الناس، بأن يسلط الله عز وجل بعضهم على بعض، وهذا هو أكثر ما يحدث في هذه الأمة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].

نداء إلى جميع المسلمين للنهي عن المنكر

نداء إلى جميع المسلمين للنهي عن المنكر أيها الإخوة! إن أفضل طريق، بل إن الطريق الوحيدة التي نسلم بها من عقوبة الله عز وجل هي: أن نتناصح فيما بيننا، وأن تنشط الدعوة إلى الله عز وجل، وأن يتحمل العلماء وطلبة العلم مسئوليتهم كل في موقعه، وعلى مقدار مسئوليته، وعلى مقدار علمه بشرع الله عز وجل، وأن يقوموا لله مثنى وفرادى، وأن يقولوا للناس: اتقوا الله، فمن قبل هذه الوصية فليبشر بسعادة الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنها أو أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم، كما أخبر الله عز وجل. إن جانب الأمر المعروف والنهي عن المنكر قد تعطل أيها الإخوة في كثير من الأحيان، وبمقدار تعطله تجرأ السفهاء على دين الله عز وجل، فلابد أن ينشط هذا الجانب، ولا يكفي أن تكون هناك هيئة تعمل بطريقة رسمية؛ لأن المسئولية ليست مسئولية رسمية، ولكنها مسئولية الجميع، وعقوبة الله عز وجل إذا نزلت في الأرض لا يتخلص منها إلا الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. أيها الإخوة! إني أدعو نفسي وأدعوكم إلى أن ننشط في هذا الجانب، وأن نمنع وقوع البلاء بما نقدمه لهؤلاء الناس من نصيحة على كل المستويات، سواء كان على المستوى الرسمي أو غيره: فنقول لولاة الأمر: اتقوا الله، قال عز وجل: {لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. ونقول للناس كافة: اتقوا الله، ونسعى قدر جهدنا واستطاعتنا لدفع هذا العذاب، وهذه الدروس قد تحل قريباً من دارنا، ولننظر ماذا فعل الله عز وجل بلبنان، وماذا فعل الله عز وجل بالعراق، وماذا حدث في الكويت، وماذا فعل قبل ذلك في بلاد الأندلس، وماذا حدث في فلسطين، وماذا حدث في كثير من بقاع العالم! والله يا إخوان إن كثيراً من الذين وقعوا في عقوبة الله من العقلاء الذين يصدقون الحديث، يقولون: كنا نتوقع ما حل بنا منذ زمن بعيد؛ لأننا كنا نمر بطريقنا إلى المسجد بخمارة أو ببيت دعارة فلا نغضب لله عز وجل، وكنا نحذر ما وقع، ولكننا لم نأخذ بأسباب دفع البلاء، فما حل بنا ليس شيئاً غريباً، ولكنها عقوبة الله عز وجل! أقول قولي هذا، ولا أعلم أن أحداً منكم أعظم مني تقصيراً أو أكثر مني ذنباً، ولكني أستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

ذكر بعض أحوال المسلمين في كشمير وأفغانستان وإريتريا والفلبين

ذكر بعض أحوال المسلمين في كشمير وأفغانستان وإريتريا والفلبين Q نرجو منكم أن تحدثونا عن أحوال إخواننا المسلمين في باكستان وكشمير، سواء منها ما يختص بأحوال المسلمين عامة أو الجهاد خاصة؟ A ذكر أحوال المسلمين يحتاج إلى حديث طويل؛ لأن سائر المسلمين في كشمير وفي أفغانستان وفي باكستان، لهم مشاكل كثيرة، وهكذا حال المسلمين في كل بلاد العالم، لكن -والحمد لله- نبشركم بشيئين: الشيء الأول: أن الصحوة الإسلامية المباركة عمت جميع بلاد العالم حتى بلاد الكفر، فالذين يتمتعون بها في أمريكا لا يقلون أهمية عن الذين يتمتعون بها هنا في الجزيرة العربية. والشيء الثاني: أن الجهاد في سبيل الله بدأ الآن في مواطن كثيرة من الأرض، وربما أن الإخوة الأفغان جزاهم الله خيراً هم الذين وضعوا البذرة في هذا القرن، فالجهاد في سبيل الله يوجد في أفغانستان وفي كشمير وفي إريتريا وفي الفلبين وفي مواطن كثيرة، والحمد لله. على كلٍ أصبحنا نتوقع أن يكون الدين كله لله، وهذا ما وعدنا الله عز وجل به، وهو الحد النهائي لوضع السلاح، فلا يوضع السلاح على الأرض إلا إذا كان الدين كله لله، لقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]، والمراد بالفتنة هنا الشرك، لا بمفهوم الفتنة في أيامنا الحاضرة، بل الفتنة هنا بإجماع علماء المسلمين هي الشرك والكفر، فقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، أي: لا يبقى على وجه الأرض إلا مسلم. وعلى كلٍ وجود هذه الجبهات في أفغانستان وفي كشمير وفي إريتريا وفي الفلبين وفي مواقع كثيرة من الأرض يعتبر -إن شاء الله- إيذاناً بأن يكون الدين كله لله، وألا تكون هناك فتنة في الأرض. ولكن أحوال المسلمين عموماً تحتاج إلى دعم من المسلمين، ولا أقصد بذلك الدعم المادي فقط، بل حتى الدعم المعنوي، فكثير من قضايا المسلمين تخفى على المسلمين في كل الأرض، فنحن هنا تصل إلينا أخبار السلفادور وأخبار أمريكا الجنوبية والعالم كله، وكثير من أخبار المسلمين لا تصل إلينا، ولو سألت أي واحد من الناس: ماذا تعلم عما يحدث في كشمير؟ لقال: لا أدري، ولو سألته وقلت: ماذا تعرف عن المسلمين في جنوب الفلبين؟ لقال: لا أدري. فيا إخوان: في جنوب الفلبين اثنا عشر مليون مسلم يحملون السلاح في وجه الكفر، ويصنعون الأسلحة بأيديهم على عقيدة أهل السنة والجماعة، وأكثر المسلمين لا يعلمون عنهم شيئاً! فالخير في الأرض سيبقى ما بقيت الحياة الدنيا، لكن علينا أيها الإخوة أن نتابع أخبار المسلمين، وأن نسير في الأرض للنظر ماذا يحدث في هذا العالم، أو على الأقل نقدم الدعم المادي على قدر استطاعتنا للجهاد في سبيل الله، فالله تعالى قد اشترى منا أموالنا وأنفسنا، فإذا ما استطعنا أن نقدم الأنفس فلنقدم الأموال.

الطريقة المثلى لإنكار المنكرات

الطريقة المثلى لإنكار المنكرات Q ما هي الطريقة المثلى لإنكار المنكرات؟ A الطريقة المثلى هي ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ولا نظن أن المسألة مسألة تخيير، بل المسألة مسألة تدرج، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: بيده أو بلسانه أو بقلبه، وإنما قال: (فإن لم يستطع)، فالمسألة مسألة تدرج، وحسب استطاعة الإنسان وإمكاناته، فإذا استطاع الإنسان أن ينكر المنكر باليد وكانت القوة بأيدي المسلمين فيجب أن يكون الإنكار باليد، وهذا هو ما أشار إليه الله عز وجل في الآية التي في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]. إذاً: لابد أن تكون للمسلمين قوة تحمي الكتب السماوية، وتحمي جانب العدل، فإذا لم يستطع المسلم أن يقوم بذلك أو يترتب عليه مشاكل، فنقول: أقل شيء باللسان، ولا يمكن أن يعذر الإنسان على ترك الإنكار بلسانه مكتفياً بقلبه؛ لأنه يستطيع أي واحد أن ينكر المنكر بلسانه ولو تحمل بعض المسئوليات، فلا تظنوا أن طريق الجنة مفروش بالورود والرياحين، بل طريق الجنة محفوف بالمكاره، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]. إذاً: هذا هو طريق الجنة يا أخي! فإذا كنت تظن أنك تحصل على طريق الجنة بركعات أو شيء من ذلك، فنقول: هذا جزء من طريق الجنة، لكن أفضل طريق يؤدي إلى الجنة هو طريق الجهاد في سبيل الله، وهو أضمن طريق، ومن الجهاد في سبيل الله الدعوة إلى الله، وقول كلمة الحق ولو أسخطت الناس مادامت ترضي الله سبحانه وتعالى. فعليك يا أخي! أن تتحمل في طريق الجنة ما يلاقيك، فليس طريق الجنة سهلاً، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. إذاً: لابد في طريق الجنة من عقبات، فالكلمة باللسان لابد أن يتحمل الإنسان مسئوليتها أمام الناس، ليتخلص بمسئوليتها أمام الله عز وجل يوم القيامة.

إخراج الشيخ الجلالي من منطقة القصيم

إخراج الشيخ الجلالي من منطقة القصيم Q سمعنا خبراً بإجلائكم عن منطقة القصيم، فما صحة هذا الخبر؟ A هذا الخبر صحيح، لكن أنا قلت لكم: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، ولابد أن نصبر ونتحمل، ولا نريد أن نقول كما قال الكفار لرسلهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]. وعلى كلٍ هذه أمور أظنها ما وصلت إلى الجهات العليا، وإن وصلت فإننا نظن في الجهات العليا خيراً، وربما تكون تصرفات أشخاص دون هؤلاء، وعلى كلٍ ليست الأرض ملكاً لأحد، قال عز وجل: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وحينما يخرج الإنسان من منطقة ليعيش في منطقة أخرى ليس معنى ذلك أنه أُبعد؛ فإن أرض الله واسعة. وعلى هذا نقول أيها الإخوة: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره ومن هذه المكاره: أن يحال بين الإنسان في دعوته وبين وطنه، مع أن المسلم لا يتقيد بوطن، وافهموا هذا يا إخوان، وطن المسلم هو أي مكان في الأرض يستطيع أن يقيم فيه شرع الله عز وجل، وعلى هذا نقول: ليست المشكلة كبيرة، فالمشكلة يسيرة جداً؛ لأن أرض الله واسعة؛ ولأن المسلم يستطيع أن يعيش في أي أرض يستطيع أن يؤدي فيها شعائر دينه، والله المستعان!

موقف المسلم من وجود التلفاز في بيته

موقف المسلم من وجود التلفاز في بيته Q إنسان لا يريد التلفاز، وله أولاد، فجاءوا به، فحلف أن يخرجوه، ولم يخرجوه، فسلك جميع السبل مع زوجته وأولاده، فما هو الطريق الصحيح لإخراج هذا التلفاز من البيت؟ وهل من الحكمة إذا كان الشخص حديث عهد بهداية أن يخرجه من بيته؟ A أولاً: بالنسبة للأبناء الذين يعقون أباهم إلى هذا الحد وإلى هذا المستوى؛ هؤلاء عليهم خطر في دينهم، وأنا أرجوهم رجاءً أن يتقوا الله أولاً في هذه المعصية، فوجود هذه الوسائل بهذا الشكل معصية. الشيء الثاني: عقوق الأب من أجل معصية من معاصي الله عز وجل هذه أيضاً معصية أكبر، فنقول لهؤلاء: اتقوا الله، ونقول لهذا الأب: صمم يا أخي على ما تريد، فأنت المسئول عنهم أمام الله عز وجل، وخصوصاً إذا كان هناك أطفال أو نساء يتأثرون أكثر من غيرهم بهذه الوسائل الحديثة. أما بالنسبة للأخ الذي هو حديث عهد بالاهتداء فربما أنه لا يستطيع أن يؤثر على هذا البيت؛ لأن هذا البيت كما يظهر لي من هذا السؤال فيه شيء من الانحراف أو فيه شيء من الأخطاء على الأقل، ونقول لهذا الأخ: مادام الله تعالى قد هداك للفطرة فادعهم بلين وتؤدة؛ حتى تستطيع أن تصلح وضع هذا البيت. فأنا لا أؤيد استعمال القوة في مثل هذه الأمور، وفي محاربة هذه المنكرات، ولكني أقول: لابد أن يكون ذلك بحكمة، والشاب الذي هداه الله تعالى للطريق المستقيمة عليه أيضاً أن يسلك طريق الحكمة، ولا يندفع كل الاندفاع من أجل إنكار هذا المنكر، ولكن عليه أن يسلك طريق الحكمة واللين، ويستغل الفرص التي من خلالها يستطيع أن يوصل الموعظة إلى أهله وبيته وأسرته من أجل أن يقتنعوا بترك ما حرم الله سبحانه وتعالى.

حكم التلفاز

حكم التلفاز Q هل التلفاز حرام؟ A نقول: التلفاز في موقع الحرام حرام، ولا نشك في ذلك، مادام أنه يعرض الموسيقى ويعرض صوراً مختلطة ويعرض أغاني، وهو ليس حراماً لذاته، ولكنه حرام لما يعرض فيه، فهناك شيء محرم لذاته، وهناك شيء محرم لغيره، ومحرم لما عرض فيه، ولو استعمل التلفاز في غير ما استعمل فيه اليوم فلا نستطيع أن نقول: إنه حرام، وإن كانت الصور بهذا الشكل فيها شيء من الشبهة على الأقل. وعلى كلٍ نقول: في وضعنا الحاضر هو إثم، أنصح كل واحد من المسلمين أن يبعده عن بيته، ويستعين بالله عز وجل، ولا يؤخر هذه الفرصة.

موقف المسلم من مناهج التعليم التي تخالف الشرع

موقف المسلم من مناهج التعليم التي تخالف الشرع Q المناهج الدراسية تحتوي بين طياتها في مختلف مراحلها على مواضيع تخالف الشرع، وبرامج لامنهجية تقام في المدارس، فكيف بالمدرس إذا أمر أن يقوم بتدريس ما خالف الشارع؟ وماذا يفعله حيال ذلك، وجزاكم الله خيراً؟ A أنا لا أعرف أن فيها شيئاً يخالف الشرع، بل إني أظن أن التعليم عندنا -والحمد لله- أكثر المناهج في العالم الإسلامي استقامة؛ لكن ربما تكون هناك نظريات فاسدة أُبعِد كثير منها، وربما بقي بعضها، خصوصاً في علم الأحياء وما أشبه ذلك. والمدرس هو الذي يستطيع أن يوجه الطلاب إلى ما فيها من خلل، بل هذه فرصة أن توجد هذه النظريات الفاسدة في هذا الكتاب، وإن كنا لا نود وجود ذلك، لكن مادامت قد وجدت فهي فرصة يستطيع المدرس من خلالها أن ينقض هذه النظريات، وأن يعلم الناس بأن هذا شر استهدفت به هذه الأمة، كما أنه مطالب أن يقدم إلى الجهات المسئولة والمعنية هذه الأمور الخطيرة التي عثر عليها في هذا الكتاب؛ من أجل إبعادها عن المناهج الدراسية. وعلى كل واحد أن يتصرف، سواء كان في توجيهها أمام الطلاب وبيان ما فيها من انحراف، أو توجيه الجهات المسئولة التي تستطيع أن تزيل هذه النظريات أو هذه الأفكار أو هذا الخلل في هذه المناهج.

حكم العقوبات المالية القائمة في نظام المرور وغيره

حكم العقوبات المالية القائمة في نظام المرور وغيره Q ما هو رأي الشيخ في المخالفة المرورية التي تسجل بالكمبيوتر ويمكن لصاحب المخالفة تسديدها بعد عشرة أيام وإلا تضاعف هذه المخالفة وتزيد بمرور الأيام؟ ألا تدخل هذه الزيادة في الربا؟ A لا تدخل في الربا، ولكن تدخل في أكل أموال الناس بالباطل، والحقيقة أن كل العقوبات المالية أنا أشك في حلها، بل الإسلام وضع عقوبات ما علمت منها عقوبة واحدة مالية أبداً. وعلى كلٍ هي تعتبر رادعاً لبعض المخالفات، والمخالفات المرورية بعضها خطيرة، ولو أن واحداً من الناس قطع الإشارة وقتل إنساناً فإنه يعتبر كالمتعمد في قتل هذا الإنسان، صحيح أنه يجب أن توضع هناك عقوبات، لكن لماذا لا تكون غير مالية، وإذا كانت مالية لماذا تضاعف؟ فأنا أرى أن العقوبات المالية كلها موضع نظر، فلا يعاقب الناس بأموالهم، وإنما يعاقبون بأنفسهم، ولابد أن تكون العقوبة كما جاء الشرع، بأنها تكون فور المخالفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر كل من فعل ذنباً أو إثماً أن يعاقب فوراً؛ حتى يكون رادعاً لغيره، أما وضعها مدة من الزمن وإدخالها في الأجهزة الحديثة، ثم مضاعفتها بعد مدة من الزمن، فأنا أظن أن فيه تعدياً على أموال الناس.

قوة وشموخ الصحوة الإسلامية

قوة وشموخ الصحوة الإسلامية Q في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه المحن، وانتهكت فيه حرمة العلماء والدعاة، وضيق على الصحوة، ما هو توجيهكم الكريم لهذه الصحوة العارمة التي لم تؤد جزءاً من دورها قياساً بعددها؟ ونرجو توضيح ما يخطط لهذه الصحوة، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً: هذه الصحوة لا أحد يستطيع أن يقضي عليها، وقد سمعت واحداً من العلماء يقول: نحن نرشها بالماء، وفي أفغانستان رشوها بالمبيدات وما استطاعوا أن يقضوا عليها. وعلى كلٍ يا إخوان! الصحوة الإسلامية معناها إظهار لدين الله، والله تعالى حكم في القرآن العظيم بأنه سيظهر هذا الدين. إذاً: معنى ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقف في وجه هذا الدين، قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وكم من خلق الله من حاول أن يقف في وجه هذا الدين، وأن يذل من أعزه الله، فعجز وتحطم، وقد جاءت الحروب الصليبية وبقيت مائة وسبعين عاماً تجوب خلال الديار، وخرجت والإسلام أعز مما كان، وجاء التتار وساموا المسلمين سوء العذاب، وخرجوا من بلاد المسلمين ولم يضعفوا مسلماً واحداً أو جعلوه يرتد عن دينه، بل خرجوا والمسلمون أعز مما كانوا، وهذه في اعتقادي أكبر أحداث في التاريخ جاءت لصرف المسلمين عن دينهم. فهذه الصحوة ليست معرضة لأن يضعفها أحد من الناس، إلا أننا ننصح كل واحد من الناس تسول له نفسه أن يقف في وجه هذا الدين أن يسير مع هذا الدين إن كان ممن ولاه الله تعالى أمراً من أمور المسلمين، وحينئذٍ نبشر بالعزة والتمكين في هذه الأرض، أما من يفكر في غير ذلك فإن عليه أن يراجع حسابه؛ لأن الله غالب على أمره ومتم نوره، وننصح إخواننا شباب الصحوة الإسلامية أن يضبطوا أنفسهم وتوازنهم، وألا يندفعوا كل هذا الاندفاع الذي نشاهده على بعضهم في بعض الأحيان، وربما يكون سبباً في جر مشاكل عليهم، وننصحهم أن يتعلموا الشرع؛ لأن كثيراً منهم اتجه إلى الله عز وجل متأخراً، وربما أنه لا يعرف شيئاً من علوم الشرع، وربما أنه اختص بالعلوم العصرية، فنقول: لابد من أن يكون هناك علم تنضبط به هذه الصحوة، وتسير معه في خط مستقيم.

دعوة للتبرع للجمعيات الخيرية من أجل تزويج الشباب

دعوة للتبرع للجمعيات الخيرية من أجل تزويج الشباب Q الحمد لله الذي أعانني على إكمال ديني بأن تزوجت، وذلك من فضل الله، ثم من تبرعات المسلمين الذين يدعمون الجمعيات الخيرية، فنرجو منكم يا فضيلة الشيخ! أن تدعوا للتبرع لهذه الجمعيات؛ ليعم الخير جميع الشباب؟ A الحقيقة أن أفضل ما نقدمه من المال بعد الجهاد في سبيل الله هو تزويج هؤلاء العزاب، والله تعالى وعد من يتزوج لحفظ دينه بأن يعطيه من هذه الدنيا، فقال عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. وتزويج هؤلاء العزاب فيه فوائد كثيرة، منها إعفاف الفروج، سواء في ذلك الرجال والنساء، وبناء بيوت وأسر على طريق شرعية، وحماية وحفظ هؤلاء الشباب الذين يتفلتون هنا وهناك، ولربما يحدثون فساداً في الأرض بسبب هذه الشهوة الحرام، وكل هذه الأشياء نستطيع أن نقضي عليها بما نقدمه من هذا المال، سواء كان للجمعيات الخيرية التي تتبنى موضوع تزويج العزاب، أو ما نقدمه لهؤلاء الشباب الذين يفكرون في الزواج مباشرة. وأدعو الجمعيات الخيرية أن تزيد البذل في هذا السبيل؛ فإنها في اعتقادي من أفضل السبل التي يقدم فيها المال.

زيادة الصدقة في عمر المتصدق

زيادة الصدقة في عمر المتصدق Q الصدقة تزيد في العمر، كيف ذلك والآجال مكتوبة، والله عز وجل يقول: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]؟ A يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، يقول العلماء: المراد بالوسع هنا أحد أمرين: زيادة البركة في العمر، فالسنون لا تزيد لكن يبارك فيها فيستفيد الإنسان من هذا العمر أكثر مما يستفيده إنسان في عمره الذي لم ينزل الله عز وجل فيه بركة، فيمضي عمر الثاني دون فائدة يستفيد منها، وأما صاحب العمر المبارك الذي أنزل الله تعالى فيه البركة فاستفاد منه صاحبه. الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، فقد قدر الله تعالى الآجال، لكن يثبت الله تعالى ويزيد وينقص ويمحو، فيمكن أن يزاد في العمر حتى في الزمن، وليس معنى ذلك أنه تخطى الأجل، يعني: أن الله تعالى وضع له أجلاً، ثم زاد في هذا الأجل فأعطاه أجلاً آخر، فهذا الأجل الآخر هو الذي حصل عليه الإنسان بسبب صلته لرحمه أو بذله أو ما أشبه ذلك.

دعوة إلى التبرع لنشر الدعوة عبر الكتاب والشريط

دعوة إلى التبرع لنشر الدعوة عبر الكتاب والشريط Q هناك بعض المناطق في المملكة وخارجها تنقصها الدعوة إلى الله، ومن وسائل الدعوة توزيع ونشر الكتاب والشريط، فهل ترون عرض هذا الأمر على أهل الخير لدعم هذا المشروع؟ A هذا مشروع طيب، والبذل في أمر ينشر الدعوة إلى الله عز وجل مطلوب، لكن بشرط أن يفهم الناس أن هذا ليس من الزكاة؛ لأن في اعتقادي أن هذا لا يصلح مصرفاً من مصارف الزكاة، فإذا أشعر الناس بأن هذا ليس من الزكاة وإنما هو من الصدقة الزائدة عن الزكاة فهذا عمل طيب. والشريط -والحمد لله- الآن يخدم الدعوة الإسلامية أكثر من أن تخدمها أي وسيلة من الوسائل الأخرى، وأرجو من إخوتي أن ينشطوا أمر الشريط والكتاب؛ فإن واحداً من الناس يهتدي بسبب شريط أو بسبب كتاب يكون خيراً لك من الدنيا وما عليها، وإذا ساهمت في هذا الشريط بريال واحد فلربما يكتب الله عز وجل لك هذا الأجر كله، وكم من الناس من اهتدى بسبب الشريط أو بسبب الكتاب! فأنا أشجع هؤلاء الإخوة القائمين على ذلك، وعلينا أن نساهم، لكن لا نحتسب ذلك من الزكاة، وهذا مشروع أسأل الله تعالى أن يبارك فيه، وأن يوفق القائمين عليه للصواب.

أسباب ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أسباب ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q ما رأيك في ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع عموماً وعند الشباب خصوصاً؟ وهل هو ناتج عن ضعف المناهج التربوية المطروحة، أم عن الغزو الذي يمارسه الإعلام الداخلي والخارجي، أم أنه نتيجة للتربية المنزلية المستمدة من أعراف المجتمع، أم غير ذلك؟ A ذكر الأخ السائل أسباباً كثيرة لهذا الضعف، ولكن أنا أضيف إلى هذه الأسباب أسباباً أخرى: ولعل من الأسباب أن تكون هناك هيئات رسمية تولت هذا الأمر، فظن الناس أنها مسئولية الدولة وليست مسئولية الناس، ولكن نحن مطالبون بأن نتعاون من الدولة ومع الحسبة الرسمية لإنكار المنكر، ولإقرار قواعد المعروف في الأرض، ووجود حسبة رسمية لا يعني أننا نصبح غير مسئولين أمام الله عز وجل، وقد عشنا شيئاً من الفترة التي سبقت وجود حسبة نظامية فرأينا الناس كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولما قامت هذه الجهات الرسمية بهذا الأمر ظن كثير من الناس أنها مسئولية الدولة وليست مسئولية الناس، والحقيقة أنها مسئولية الجميع. وأمر آخر: لعل في كثرة المنكرات التي انتشرت في بلاد المسلمين ما أدهش كثيراً من المسلمين، فلم يستطع أن يقدم أو يؤخر شيئاً منها؛ لأنه اندهش، فكان ذلك سبباً في حيرته، فتأخر عن هذا الأمر كله. وعلى كلٍ فإن من أعظم أسبابها ضعف الإيمان في نفوس بعض الناس، وربما أن الخوف قد دب في نفوس بعض هؤلاء المسلمين، فلم يستطيعوا الإقدام على هذا الأمر، والله المستعان.

حكم الامتناع عن الدعوة لمن منع عنها

حكم الامتناع عن الدعوة لمن مُنع عنها Q إذا مُنعت من الدعوة فهل يجوز لي أن أمتنع، ولا ينالني الخسران المذكور في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]؟ A ليس لك عذر أن تتوقف حينما تُمنع، فطاعة أولي الأمر واجبة، لكن بشرط ألا تتعارض مع طاعة الله عز وجل، فإذا تعارضت فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والدولة مسئولة أن تنظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ليس لها الحق أن تمنع داعية يدعو إلى الله عز وجل على بصيرة. وعلى هذا نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فرض كفاية، فإذا كان يقوم به من يكفي فيعتبر عذراً لك حينما تتوقف، مع أنك بهذا تفوت كثيراً من الفضيلة؛ لأن الدعوة إلى الله أفضل طريق إلى الجنة، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33]، أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، ولكن حينما تكون الساحة قد خلت أو ضعف هذا الجانب وأنت تُمنع من أن تقوم بالدعوة إلى الله فحينئذٍ لا تتوقف؛ لأنك تسير بأمر من الله عز وجل القائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. فإذا خلت الساحة ولم يقم بهذا الأمر من يكفي فلا يجوز لأحد أن يتوقف لأي أمر من الأمور، وإذا كانت الساحة قد شُغلت وأصبح الأمر مكتفياً فيكون بالنسبة لك فرض كفاية، وحينئذ لك أن تتوقف، لكن اعلم أن من يدعو إلى الله هو خير منك؛ لأنه يقوم بهذا الأمر العظيم، ويهتدي على يده أناس كثيرون.

حكم الأكل مع المشرك

حكم الأكل مع المشرك Q هل يجوز الأكل مع شخص مشرك ولو كان عاملاً أو خادماً أو سائقاً في البيت، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A موالاة الكافرين والمشركين لا تجوز، لقول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، إلى آخر الآية، وهناك فرق بين الموادة وبين المعايشة، وكثير من إخواننا خارج السعودية يبتلون بهؤلاء المشركين؛ لأنه حصل في بعض البلاد اندماج واختلاط بين الفئتين. وعلى كلٍ يا أخي! احرص على أن تبتعد عن هؤلاء القوم، لكن لو أكلت معه دون أن تكون هناك صداقة وإنما جمعك معه مجلس أو ما أشبه ذلك، فلا أعتقد أن في ذلك حرجاً، لكن البعد عن هؤلاء في مجالستهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم هو الأولى والأفضل، لكن لو اضطررت أن تأكل مع مشرك أو مع كافر بشرط ألا يكون هناك حرام في الأكل أو في طريقة الأكل أو ما أشبه ذلك؛ فحينئذ لا أعتقد أنه قد نهي عن ذلك، وإن كان الأصل هو أن يتميز المسلم بشخصيته وبحياته عن كل كافر ومشرك.

أفضل طريقة لحفظ القرآن الكريم

أفضل طريقة لحفظ القرآن الكريم Q ما هي أفضل طريقة لحفظ القرآن؟ A عندك -والحمد لله- حلق في المساجد لتحفيظ القرآن وفيها خير، لكن أفضل طريقة لحفظ القرآن هي أن تحدد لك مقادير معينة من القرآن تحفظها، وتتوقف عند نهايتها، وتكررها يوماً بعد يوم، وتضع لك كل يوم صفحة من الصفحات تحفظها، وتكررها في الصلوات الخمس، وتكررها وأنت تمشي، وفي كل حالة من حالاتك، وفي اليوم الثاني تزيد صفحة وصفحتين وهكذا، حتى إذا صرت إلى مقدار معين تتوقف، وتكرر ما حفظته حتى لا تنساه، ثم بعد ذلك تبدأ مرة ثانية، وهكذا. المهم أن يكون هناك مذاكرة مستمرة لما حفظت من القرآن، وهذه أفضل طريقة. وأفضل زمن لحفظ القرآن هو أيام الصغر وأيام الشباب، ولذلك فإني أنصح الشاب أن يبادر إلى حفظ القرآن قبل أن يتحمل مسئوليات وتكاليف الحياة التي تشغله، وأنصح الآباء أن يلزموا أبناءهم أو على الأقل يشجعونهم على حفظ القرآن ماداموا في سن مبكرة؛ حتى لا تفوتهم هذه الفرصة، وهذه فضيلة للأب وللابن الحافظ للقرآن، والله المستعان. والحمد لله رب العالمين.

دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [1]

دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [1] لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قصص أنبيائه السابقين؛ تسلية وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وقد أطال الله تعالى في قصته ما لم يطل في قصص غيره من الأنيباء؛ لما في قصته من دروس وعبر عظيمة، يستفيد منها العلماء الربانيون، والدعاة المربون، والأئمة المصلحون، والناس أجمعون.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون

قصة موسى عليه السلام مع فرعون إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاصم الطغاة والمتجبرين، وناصر أوليائه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا غالب إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! ما زلنا في سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكان حديثنا في حلقة سابقة عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، والتي ابتدأت بطفل صغير يلقى في البئر، ويئس منه إخوانه، حتى يمكن الله عز وجل له في الأرض، وتنتهي تلك القصة بمغزاها الكبير: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]. أما حديثنا الآن ضمن سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فهو قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد وأكبر طاغية -إن صح التعبير- باستثناء طغاة يعيشون في عصرنا الحاضر، فهذا الطاغية أنكر الخالق سبحانه وتعالى، وادعى الألوهية والربوبية لنفسه، وذبح الأبناء، واستبقى النساء خشية على نفسه، ولكننا سوف نجد أنه ينتهي أجله وحكمه وسلطانه وطاغوته وكبرياؤه على يد طفل من الأطفال الذين ولدوا في هذه الفترة التي كان يقتل فيها الأبناء ويستبقي النساء، وذلك كله تحدٍ من الله عز وجل لهذا الطاغوت، ولكل طاغوت إلى يوم القيامة، حينما يريد أن يستذل خلق الله، أو يستبد في هذه الأرض، أو يعيث في الأرض فساداً. إذاً: القصة التي معنا اليوم هي قصة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه الصلاة والسلام، أمام الطاغوت المتجبر فرعون عليه لعنة الله، ومن سار على منهجه إلى يوم القيامة. القصة تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر، ثم يكون الأمر نهاية فرعون على يد موسى عليه الصلاة والسلام. ومن هنا نعلم أن قصص الأنبياء تبدأ في بادئ الأمر بسيطة، لكن الله عز وجل لا بد أن يظهر أولياءه، ويزيل الطواغيت على يد أناس كانوا مغمورين في المجتمع، فيوسف عليه الصلاة والسلام ينهي الحكم في مصر، ويتولى هو حكم مصر، وقد خرج من البئر، أما موسى عليه الصلاة والسلام فيلقى رضيعاً في تابوت في نهر النيل، ثم بعد ذلك يسقط أكبر طغيان على وجه الأرض مرت عليه مدة طويلة من الزمن. إذاً: هذه حكمة الله عز وجل، لا نستبعد النصر من الله عز وجل، ولو ضعفت البوادر والإرهاصات، فإن الله عز وجل غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن قصة موسى تبدأ من قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وتنتهي بقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، هذه النهاية.

أخذ العظة والعبرة من قصة موسى مع فرعون

أخذ العظة والعبرة من قصة موسى مع فرعون أما مغزى هذه القصة فهو واضح؛ لأن الحديث عن الأمم السابقة إنما هو من أجل أن تأخذ هذه الأمة درساً مدى الحياة؛ حتى لا تيأس من روح الله من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى تأخذ بأسباب القوة والتقدم، والله عز وجل يقول: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، هذا هو حكم الله عز وجل في هذه البرية، ولذلك فإن القصة عجيبة، تبدأ من طفل يلقى في النهر وتحدٍ، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، مع أن القاعدة: أنه إذا خفت عليه أدخليه داخل الغرفة وأغلقي عليه الباب، وأسدلي الأستار حتى لا يعرف لكن هنا تحدٍ (أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، مع أن هذا اليم -الذي هو نهر النيل- ينتهي بقصر فرعون، يعني: لو انقطع هذا الحبل كما حدث لانتهى في قصر فرعون، ولكن هذا كله من باب التحدي، قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]. إذاً: هذا هو ملخص القصة، وقد يستغرب أحد الناس حينما يقرأ القرآن، فيندر أن توجد سورة طويلة إلا وفيها قصة موسى مع فرعون وقصة بني إسرائيل، ما هو السر في ذلك؟ لعل السر في ذلك هو أن بني إسرائيل هم آخر الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل قائلاً يقول: عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بعد موسى، وجاء أنبياء بعد موسى! فنقول: نعم، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام بعث إلى بني إسرائيل، ولما بعث إلى بني إسرائيل آمن به من آمن من بني إسرائيل، وسموا أنفسهم نصارى، ثم انعزل النصارى عن بني إسرائيل، وهم في الحقيقة فرع من فروع بني إسرائيل، وغصن من أغصان شجرة بني إسرائيل. إذاً: الحديث الطويل في القرآن عن بني إسرائيل لأنهم آخر الأمم من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن في بني إسرائيل من العبر والآيات ما على مثله يؤمن البشر، أعطى الله عز وجل موسى آيات كونية إضافة إلى التوراة والصحف، تسع آيات كل واحدة تكفي لإيمان البشر عامة إلى يوم القيامة، ومع ذلك هذه الآيات التسع ما نفعت بني إسرائيل، حتى أراد الله عز وجل لهم الطرد والإبعاد في هذه الحياة؛ ليعيشوا مشردين في الأرض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، ما نفعتهم هذه الآيات التسع، وكذلك آل فرعون الذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بتسع آيات ما نفعتهم هذه الآيات، فكانت نهايتهم الغرق والدمار. ولذلك بنو إسرائيل بناءً على هذه الآيات التسع التي جاءت من أجل أن تكون دافعاً لهم إلى الإيمان ما زادتهم إلا عتواً ونفوراً، والسر في ذلك هو الاستكبار الذي يصيب الأمم، فهنا فرعون قال الله عنه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، فكان طغيانه سبب نهايته، وبنو إسرائيل أيضاً استكبروا في الأرض فكان ذلك سبب نهايتهم، ولذلك بنو إسرائيل يسمون أنفسهم: شعب الله المختار؛ انطلاقاً من قول الله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وحقيقة هذا الاختيار كان في زمن من الأزمان، لكن بعد أن انحرفوا عن دين موسى عليه الصلاة والسلام أصبحوا أذل الأمم وأبعدها، أما هم فيظنون أن بينهم وبين الله عز وجل نسباً فيقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، وليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب، فالله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، لكنه التمسك بهذا الدين، فمن تمسك بهذا الدين فإن الله عز وجل يعطيه من الكرامات التي لم يعطها أحداً من العالمين، لكن حينما ينحرف فإنه ليس هناك بينه وبين الله عز وجل عهد ولا نسب، فليعلم الناس أجمعون في أي مكان من الأرض وفي أي عصر أنها سنة الله عز وجل في هذه الحياة، فإذا انحرف الناس عن سنة الله عز وجل في هذه الحياة فإن الله تعالى يقول عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، أما الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه مصير كل من ينحرف عن هذا الدين.

الدروس المستفادة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون

الدروس المستفادة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون لابد أن نستنتج من هذه القصة دروساً، وهذه الدروس لا نوجهها إلى بني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل رفضوها، وإنما نوجهها إلى المؤمنين من هذه الأمة؛ حتى يأخذوا منها العظة والعبرة والدرس، حتى لا ينحرفوا كما انحرف بنو إسرائيل، وحينئذ هذه الأمة ليست أقرب إلى النبوة من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل فيهم النبوة منذ عهد يعقوب عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، باستثناء نبي واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع الأنبياء في بني إسرائيل باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هو من بني إسرائيل، أما النبوة فإنها كلها في ذرية يعقوب عليه الصلاة والسلام. إذاً: معنى ذلك أن بني إسرائيل أقرب إلى النسب الشريف إذا كانت المسألة مسألة أنساب، لكن هذه الأمة تمتاز بأنها خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يكن منها إلا نبي واحد وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فالقصة ليست مسألة نسب، وليست مسألة وراثة، ولكنها مسألة تمسك بهذا الدين، فمن أخذ بهذا الدين فهو النسيب الشريف العظيم القريب من الله عز وجل، ومن انحرف عن هذا الدين أياً كان هذا الإنسان فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين. نعود إلى بعض الدروس التي سمعناها في هذه السورة في هذه الآيات من دروس بني إسرائيل، أولاً: هذه الآيات لا يستفيد منها إلا المؤمنون، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، أي: الذين عندهم علم وعقل، وهنا يقول الله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3]، أما القوم الذين لا يؤمنون فيظنون أنها قصة كسائر القصص التي يسمعونها! ولربما يسمونها أسطورة -نعوذ بالله- حينما ينحرفون عن المنهج الصحيح، ثم تمر هذه الآيات وهذه القصة التي تقطر بالآيات والعظات والعبر، ثم لا يستفيد منها هؤلاء القوم، لكن المؤمنين هم الذين يستفيدون من مثل هذه القصة. يقول الله تعالى عن هذه الآيات: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:4]، هذا هو السر الذي جعل فرعون ينتهي سلطانه، العلو في الأرض، من أعظم الذنوب عند الله عز وجل التعالي، سواء على الله سبحانه وتعالى أو على خلق الله، هو أسوأ طريق يورد الأمم إلى الهاوية، ولذلك نجد في قصة إبليس أنه كان في الجنة، وكان من الملائكة، ولكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أنه علا في الأرض، فأصبح إبليس ملعوناً يلعنه الناس إلى يوم القيامة، وهو الذي يقود الأمم إلى جهنم يوم القيامة؛ بسبب أنه علا في الأرض وتكبر، وفرعون هنا كان صاحب سلطان عظيم، وكان كما يقول عن نفسه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:51 - 52]، يقصد به موسى عليه الصلاة والسلام, {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. إذاً: القصة بدأت من العلو في الأرض، فأي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويؤتيها من ملكه وسلطانه فيجب أن تستغل هذا الملك وهذا السلطان فيما يرضي الله عز وجل، فإن استعملت هذا الملك وهذا السلطان في الكبرياء على خلق الله، واستذلال الأمم، وأذية الدعاة ومطاردتهم، ومتابعة أنفاسهم، إلى غير ذلك مما يؤدي إلى العلو والاستكبار في الأرض، فإن هذه الأمة قد أوشكت على النهاية؛ لأن هذا الرجل بدأت نهايته: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. ولعل السر في تذبيح الأبناء الذكور بصفة خاصة والاستبقاء على النساء يرجع إلى رؤيا قيل: رآها فرعون، أو تخمين جاء في نفسه بأنه سوف يولد طفل من بني إسرائيل يكون هو سبب نهاية فرعون، وهذا غيب من غيب الله عز وجل، لا يطلع عليه إلا الله عز وجل ومن أراد من المرسلين، لكن جاء في ذهنه هذا الأمر، فأوحى إلى زبانيته أن كل ولد ذكر يولد لا بد أن يقتل، ولا يبقى إلا النساء، ثم جاءت فترة خشي أن ينقرض شعبه؛ فصار يقتل سنة ويستبقي سنة أخرى، ومن عجائب قدرة الله عز وجل أن موسى ولد في السنة التي يقتل فيها فرعون الأبناء، حتى يكون أبلغ في التحدي، كما كان من التحدي أن يدخل موسى وهو طفل رضيع إلى بيت فرعون، ولذلك فإن الله عز وجل أراد أن يفرضه فرضاً عليه حتى يرى أن احتياطه لا ينفع ولا يرد من قضاء الله عز وجل وقدره شيئاً، فولد موسى عليه الصلاة والسلام، وشب في بيت فرعون، وألقى الله عز وجل عليه المحبة؛ فاحتضنته زوجة فرعون المؤمنة، وبقي هذا الطفل حتى أصبح رجلاً، فكان سبباً في نهاية فرعون. إذاً: هذه الآية لا يستفيد منها إلا المؤمنون.

العلو في الأرض له نهاية مؤلمة

العلو في الأرض له نهاية مؤلمة الآية الثانية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، إذاً: التسلط على الشعوب، وأذية الأمم، والجلوس لهم بالمرصاد، هذا أخطر شيء في حياة الأمم؛ لأن الإنسان حينما يعصي بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فهذه معصية تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، ما لم تصل إلى درجة الكفر أو الشرك، لكن إذا وصل إلى استذلال الأمم، وأذية المؤمنين، فهذا أخطر شيء في دمار الدول ونهايتها وسقوطها في أقرب وقت ممكن، ولذلك هذا هو الذي عجل نهايته، قال تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]. ولذلك فإننا نقول لكل زعيم يريد أن يحكم بحكم الله في هذه الأرض: أنه ليست مهنته استذلال البشر؛ لأن استذلال البشر معناه أن يضعف القاعدة التي يقوم عليها؛ لأنه لا يقوم سلطان لأحد في هذه الأرض إلا على قاعدة، وهذه القاعدة هم هؤلاء المؤمنون الأتقياء الصالحون، فحينما يستضعفون ويستذلون، وتسلط عليهم الأضواء، وتتابع أنفاسهم إلى غير ذلك، وتفسر وتؤول كلماتهم خلاف ما يريدون، ويؤدي ذلك إلى أن تنشأ أمة ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن كيان أمتها، يؤدي ذلك إلى ضعفهم وعدم قدرتهم على البقاء. وهذا هو الذي أحدثه فرعون أضعف القاعدة، واستذل الأمة، وصار يذبح الأبناء، ويستحيي النساء؛ لأنه كان من المفسدين، هو لا يريد الإصلاح، لو أراد الإصلاح لكان الأمر غير ذلك، إذاً: الذي حدث هو استذلال هذه الأمة فأدى ذلك إلى سقوط ملكه ونهايته. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وكلمة: (من المفسدين) دليل على أنه ليس هو وحده المفسد، فالمفسدون في القديم وفي الحديث موجودون، والعجيب أن هؤلاء المفسدين من طبيعتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12].

الإمامة لا تنال إلا بالصبر واليقين

الإمامة لا تنال إلا بالصبر واليقين ثم بعد ذلك يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، أمة مستضعفة تتحول إلى أئمة، لكن متى تكون هذه الإمامة؟ بشرطين: الصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، الأمم غير الموقنة غير المتأكدة من صحة المسار غير المقتنعة بالمنهج الذي تسير عليه لا تستطيع أن تصل إلى القيادة والريادة في هذه الحياة، الأمم التي لا تصبر نفسها، ولا تريد أن تتحمل المشاق في طريق هذه الحياة؛ لا تستطيع أيضاً ولا يمكن أن تحصل على قيادة هذه الحياة، أما هنا فالله تعالى يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، يتحول من مستضعف في الأرض إلى إمام، وحينما يكون إماماً عليه أن يعي الدرس الذي يكلف به، لا يعتبر الإمامة والسلطة منطلقاً لاستذلال الأمم، وإنما يعتبرها كما أخبر الله عز وجل عنها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم. {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، هذه هي مقومات الإمامة، وهذه هي نتائج الإمامة في هذه الأرض، وهنا يقول: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، الوارثون لمن؟ الوارثون للسلطان الذي سوف ينتهي عما قريب على يد هذا الطفل، الذي ولد وتربى في بيت فرعون، ثم هو أيضاً يريد أن يقضي على هذا الملك في لحظة واحدة كما هو في آخر القصة؛ لأن آخر القصة ونهاية القصة، كما أخبر تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:137 - 138]، فجعل الله لهم خلاصاً ومنهجاً بعد أن أوقع الطاغية وجنوده شر موقع.

حفظ الله ورعايته لأوليائه تتدخل مهما كان الأمر

حفظ الله ورعايته لأوليائه تتدخل مهما كان الأمر درس آخر: قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، هذا هو الأمر العجيب! عندما يخاف إنسان على إنسان لا يلقيه في اليم، وإنما يدخله في الغرفة ويخفيه، ويغلق عليه الباب، هذه هي القاعدة المعروفة عند الناس بالنسبة لمن يخاف على نفسه أو من يخاف على غيره، لكن هنا يقول تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، وهذا في غاية التحدي من الله عز وجل لهذا الطاغية ولكل طاغية، أي: أن قضاء الله عز وجل وقدره ينفذ مهما اتخذت الاحتياطات ضد هذا القضاء والقدر، وكم من إنسان كان محصناً في ملكه، محيطاً به حرسه وقوته، وهو بكامل قواه، ثم ينزل عليه قضاء الله عز وجل وقدره في أقوى ساعة يكون فيها متحصناً عن عدوه؛ لأن هذه أقدار وآجال مقدرة مؤقتة من عند الله عز وجل: {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]. إذاً: الاحتياطات لا تنفع، الذي ينفع هو الاعتماد على الله من ناحية، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، لكن لا يعتمد على الأسباب، وإنما يعتمد على خشية الله عز وجل، وعلى حفظ الله عز وجل وحمايته، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، بشرط أن يسير هذا الإنسان سيراً مستقيماً. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يحكم عالماً كبيراً، كان ينام في المسجد، ما كان يحتاج إلى حرس، ويشهد له الزبرقان عدوه، لما وجده متوسداً بردة له في المسجد، وهو نائم في وسط الناس، وهو الخليفة، شهد له بالحق، وقال: يا عمر! عدلت فأمنت فنمت، ولكن الذين لا يعدلون كيف يحيط بهم الحرس والجنود من كل جانب، ومع ذلك لا يمكن أن يحفظهم هؤلاء من قضاء الله عز وجل وقدره. فهنا يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وإن كان في اليم؛ لأن الله تعالى هو الذي يحفظ الإنسان، فليس الذي يحفظه الأبواب المغلقة، والستور المرخاة، والحصون المحصنة إلى غير ذلك، وإنما الذي يحفظه هو الله عز وجل: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، تصور يا أخي! وهو طفل يرضع تأتي البشارة من عند الله عز وجل لأمه، وهذا الإيحاء ليس كإيحاء الأنبياء، وإنما هو نفث في الروع بأنه سوف يرجع إليها مرة أخرى ولو ذهب بعيداً عنها، وسيكون أيضاً من المرسلين، بل هو من خيار المرسلين عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أولي العزم الخمسة عليهم الصلاة والسلام.

الإثم على قدر المشاركة في الصد عن سبيل الله

الإثم على قدر المشاركة في الصد عن سبيل الله قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، هل يمكن لأحد أن يلتقط طفلاً ليكون له عدواً وحزناً؟ لا يمكن ذلك، إذاً: آل فرعون حينما التقطوه ما كانوا يظنون أنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً؛ بل كانت تقول امرأة فرعون لفرعون تجاه هذا الطفل: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، لكن الله تعالى حكم بأنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً، وحكم بأن هذا الطفل سوف يسقط هذه الإمبراطورية العظيمة التي مضت عليها آلاف السنين، سوف يسقطها هذا الطفل بإذن الله عز وجل، وبقدرة الله عز وجل الغالبة، فاللام هنا ليست للتعليل كما يقول المفسرون، وإنما هي للصيرورة، أي: سوف يصير الأمر إلى أن يصبح هذا الطفل الذي يتربى في حجر فرعون عدواً لهم وحزناً، ثم ينهي هذا الظلم والطغيان الذي مضت عليه مدة طويلة من الزمن على يد هذا الطفل، حينما يبلغ سن الرجال ويوحي الله عز وجل إليه. يقول تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهذا درس آخر، فرعون هو الطاغية الأول، وهامان الذي كان وزيره، لكن ما مصير الجنود؟ قد يقال: الجنود إنما هم منفذون للأوامر، كما يفعله جنود كثر في أيامنا الحاضرة، يفتكون بالمؤمنين والعياذ بالله، وينفذون أوامر الطواغيت في الأرض، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، قال: أنا تصدر لي أوامر فأنفذها، أنا بريء كيف يكون بريئاً والله تعالى يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]؟! إذاً: أنت حينما تنفذ أمر طاغوت في هذه الأرض إنما أنت كجندي من جنود آل فرعون الذين حكم الله عز وجل بأنهم ظالمون، كما أن فرعون وهامان كانوا ظالمين، من أكبر جندي إلى أصغر جندي من أكبر مسئول إلى أصغر مسئول، كلهم يشاركون الطواغيت في تنفيذ أوامر تنافي أوامر الله عز وجل، أو تؤذي المؤمنين؛ فإنهم يشتركون في الجريمة سواءً بسواء: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، إذاً: المسألة مسألة اشتراك ولو بكلمة، ولو بكتبة قلم، ولو بأقل من ذلك، ولو بإشارة، ما دام أنه قد ساهم في مساعدة طاغية من طغاة البشر؛ فلابد أن يساهم في الخطأ الذي اقترفه هؤلاء، ولا بد أن يساهم في الإثم، وأن يكون له نصيب كنصيب ذلك الذي يصدر الأوامر التي تنافي أوامر الله عز وجل، فالمسألة ليست مسألة تنفيذ أوامر ما دامت تتنافى مع أوامر الله عز وجل، وإنما المسألة مسألة خطأ مشترك يشترك فيه أكبر طاغوت في الأرض يصدر الأمر، إلى أصغر صعلوك يستطيع أن يساهم في تنفيذ هذا الأمر الذي يتنافى مع أمر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:8] جميعاً، {كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].

غلبة أمر الله وقدرته على كل القدرات

غلبة أمر الله وقدرته على كل القدرات ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك حينما يرعى الله عز وجل هذا الطفل الصغير بعنايته ليكون هو رجل المستقبل، يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، وهذه أول رحمة تنزل على هذا الطفل الصغير؛ لأنه وصل إلى داخل بيت فرعون، أصبح الآن لا مناص له من القتل، فرعون يقتل الأبناء الذكور، وهذا ذكر، وقد تكون هناك علامات موجودة في موسى، وإرهاصات تدل على أنه هو الذي سيقضي على هذا الملك الجبار العنيد، إذاً: ما هو العلاج؟ ألقى الله تعالى من أول وهلة المحبة في قلب امرأة فرعون، فطلبت من زوجها الطاغوت أن يستبقي هذا الولد من بين كل الأطفال الذين يقتلهم في كل لحظة، ممن يولدون من بني إسرائيل في تلك الفترة إلا هذا الطفل؛ لأن الله تعالى يريد له أن يبقى، وهذه من قدرة الله عز وجل الغالبة التي يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فهذا من غلبة أمر الله عز وجل، ومن نفاذ حكمه الذي لا بد أن ينفذ في هذا الكون؛ حتى يكون ما أراده الله عز وجل. أما أم موسى فقد أصبح قلبها فارغاً، وهذه عاطفة لا تلام عليها أم موسى؛ لأنها عاطفة الأمومة التي تشعر بها كل أم تجاه طفلها، بالرغم من أن الله عز وجل قد أمنها وأخبرها أنه سوف يرجع إليها، لكن ضعف الشخصية لدى المرأة مع شدة العاطفة التي تشعر بها المرأة أكثر من الأب أو أكثر من إنسان آخر هي التي جعلتها يفرغ قلبها؛ لأنها تريد هذا الطفل، فخافت عليه، خصوصاً أنها علمت أن النهر سوف ينتهي به إلى دار فرعون، ولولا أن الله تعالى لطف بها لأبدت الأمر، لكنها أخفته، ثم رجع إليها.

تحقق وعد الله الذي وعده أم موسى

تحقق وعد الله الذي وعده أم موسى ثم يذكر الله عز وجل أن أخته قصته، فصارت تبحث عنه، فوجدته قد دخل في بيت فرعون، فكتمت أخته الخبر حتى لا يعلم من أين جاء هذا الطفل، ورحمة الله عز وجل تدركه مرة أخرى من أجل أن ينفذ هذا الأمر، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، من أجل أن يرجع إلى أمه كان كلما قدم له ثدي ليرضع منه رفض، إلى أن جاءت أخته فوقعت عينها على هذا الطفل فقالت: ألا أدلكم على من يستطيع أن يرضعه؟ فأخذته إلى أمه، وأصبحت أمه ترضعه وتأخذ مالاً على ذلك، إضافة إلى أن عاطفتها أشبعتها بحضور هذا الطفل، فكسبت زيادة على طفلها مالاً شهرياً يصل إليها بسبب إرضاعها لهذا الطفل الذي جيء به من قصر فرعون. ثم بعد ذلك يقول الله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:13]، ما هو وعد الله؟ {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فتحقق الوعد الأول وهو الرد إلى أمه، أما قوله: (وجاعلوه من المرسلين) فسوف يتحقق عما قريب.

مشاهد من قصة موسى عليه السلام وأخذ العبرة منها

مشاهد من قصة موسى عليه السلام وأخذ العبرة منها ثم بعد ذلك يأتي دور موسى عليه الصلاة والسلام لما بلغ سن الرجال، ولكن لا بد للرسالة ولا بد للداعية ولمن يريد أن يقنع الناس بهذا الدين وبأهمية هذا الدين حتى يستجيب الناس له، لابد أن يكون له وزن في المجتمع، وأن يقدم الخدمات لهذا المجتمع، حتى يستطيع أن يملك قلوب الناس، فالداعية الذي لا يقدم خيراً للناس قد لا يستجيب الناس له كل الاستجابة، لكنه حينما يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يبحث عن الحق ليحقه في هذه الأرض، وعن الباطل ليبطله، مثل هذا هو الذي يستحق أن يكون مصلحاً في هذه الحياة.

موسى عليه السلام ونصرته للإسرائيلي

موسى عليه السلام ونصرته للإسرائيلي ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام أعطاه الله قوة في جسده، ومع هذه القوة أعطاه قوة أيضاً في شخصيته، فكان يبحث دائماً عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، فحينما يرى مظلوماً يسعى قدر استطاعته إلى أن يرفع الظلم عن المظلوم؛ من أجل أن يكسب سمعة في هذا المجتمع، حتى يكون ذلك مقدمة لرسالته، وهذا في كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الرسالة كيف كان يقدم من الخدمات للناس، حتى قالت خديجة: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر) عندما شهدت له رضي الله عنها، وهذه هي صفته كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، حتى كان أهل مكة بالرغم من كراهيتهم له يسمونه الصادق الأمين، لكن ذلك كان قبل الرسالة، أما بعد الرسالة فقد أصبح كاذباً خائناً في نظرهم، وهذه قاعدة مطردة، أي إنسان لا يريد أن يغير أوضاع الناس فتجده في كثير من الأحيان محبوباً عند الناس، لكن إذا أراد أن يغير أوضاعاً مألوفة فإنه يصبح خائناً وساحراً وكاهناً وكاذباً إلى غير ذلك. فموسى عليه الصلاة والسلام كان لا يتحمل الضيم، وكان يريد أن ينقذ المستضعفين في هذه الأرض، فذات يوم وجد قبطياً من جنود فرعون يتنازع مع إسرائيلي من قومه، وكان ذلك القبطي ظالماً، فضربه موسى ضربة صغيرة، فسقط ومات بقوة موسى عليه الصلاة والسلام, لكن موسى ندم ورأى أنه قد أخطأ واستغفر الله تعالى. وفي اليوم التالي وجد صاحبه الإسرائيلي يتنازع مع قبطي آخر، فأراد أن ينتقم له مرة أخرى؛ لأنه يرى أنهم مظلومون فقال: يا موسى! {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، فكشف سراً ما كان له أن يكشفه، وقد كانوا يبحثون عن الذي قتل القطبي، فانكشف السر؛ مما اضطر موسى عليه الصلاة والسلام إلى أن يغادر أرض مصر هارباً إلى بلاد الشام, من أجل أن يفر بنفسه عليه الصلاة والسلام حتى يبتعد عن أعين القوم، أما القوم فقد علموا أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس؛ فصاروا يبحثون عنه، فجاءه رجل وحذره وقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] , وهذا الخوف فطري ليس خوفاً من غير الله عز وجل، وإنما هو خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ على الخوف الفطري، فحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإن كانوا أشجع الناس وأقرب الناس إلى الله عز وجل، لكن الخوف الفطري جبل عليه كل الناس، لكن هذا الخوف ميزته في الأنبياء والمصلحين أنهم لا ينثنون عن مرادهم خوفاً من البشر، وإنما قد يختفون عن أعين الناس، كما اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور خوفاً من أعين قريش, وكما هرب موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر خوفاً من آل فرعون. هنا يقول الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام لما ذهب: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وهذه ميزة يجب أن يتميز بها المصلحون، كما هي ميزة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل هي ميزة يجب أن تكون لكل الناس ولجميع المؤمنين, في حال الشدة يجب الفزع إلى الله عز وجل, والدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى كريم، فهو الذي يقول: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]، وبمقدار ما يُظلم الجو أمام الإنسان ما دام أنه قد أحسن العلاقة مع الله عز وجل فإن الله تعالى يخلصه، ولذلك فالله تعالى خلص موسى من آل فرعون، فالله سبحانه وتعالى كريم، إذا تعرف إليه الإنسان في حال الرخاء فإن الله تعالى يتعرف إليه ويعرفه في حال الشدة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة): {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، ودروس كثيرة في القرآن والسنة، أمم يقعون في أعوص المشاكل وفي أحلك الظروف؛ لكن لهم حسنات سابقة لاسيما إذا كانت هذه الحسنات بينهم وبين الخلق؛ لأن الحسنات على نوعين: حسنات بينهم وبين الله عز وجل يكسبون فيها أجراً، لكن هناك حسنات أخرى يقدمونها كخدمة لهؤلاء الناس، ولإصلاح أوضاع الناس، فإن الله عز وجل قد يعجل لها شيئاً من الأجر في الحياة الدنيا، فيخلصهم من أمور خطيرة تحيط بهم.

خروج موسى عليه السلام إلى أرض مدين

خروج موسى عليه السلام إلى أرض مدين إن المسلم قد يقع في مأزق من المآزق أمام عدو من أعدائه في هذه الحياة، لكن له سيرة حسنة مع إخوانه المسلمين, فالله عز وجل قد يعجل له شيئاً من الجزاء، فيخلصه من هذه المشكلة في هذه الحياة، ولذلك فموسى توسل إلى الله عز وجل وقال: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، فنجاه الله تعالى من القوم الظالمين، ثم اتجه في طريقه إلى أرض مدين, ولما اتجه في طريقه إلى أرض مدين -وهي في حدود بلاد الشام- رأى ظلماً آخر، وهذا الظلم الآخر للمرأة المسكينة؛ لأن المرأة لا تظلم إلا في ظل جاهلية، لا تظلم في ظل دين, فامرأتان تذودان معهما غنم، وهذه الغنم لا تشرب من البئر حتى يصدر الرعاء، ما هو السبب؟ السبب أن اللاتي ترعى هذه الغنم هن امرأتان ضعيفتان، أما البقية فكانت مع رجال أقوياء, فكانت المرأة مغلوبة، ولذلك فإن موسى عليه الصلاة والسلام رأى أن هذا حق قد هضم، وأن هاتين المرأتين قد ظلمتا في ظل هذه الجاهلية، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24].

أخذ العبرة من قصة المرأتين اللتين سقى لهما موسى.

أخذ العبرة من قصة المرأتين اللتين سقى لهما موسى. ولعلنا نستطيع أن نأخذ من قصة هاتين المرأتين: أن المرأة لا يجوز لها أن تزاحم الرجال؛ لأن القاعدة الاصطلاحية الشرعية أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولذلك يقول الله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِم} [القصص:23]، أي: في مكان بعيد، {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23] تذودان الغنم، إذاً: هي لا تزاحم الرجال، لكن كيف خرجت هاتان المرأتان هذا المشوار الطويل من بيت شعيب -على رواية طائفة من المفسرين- أو من بيت آخر الذي هو صاحب مدين، على خلاف بين المفسرين؟ السر في ذلك أنها ضرورة، فأبوهما كما قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، ولهذه الضرورة خرجت المرأة. إذاً: نستطيع أن نقول من خلال هذه الآية: إن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، سواء كان لرعي الغنم أو لقضاء حاجة؛ لأن المرأة يجب أن يقوم الرجال بكفاية شئونها وقضاء حاجاتها، لكن حينما تضطر إلى الخروج لتقضي حاجة من الحاجات، فإن عليها أن تكون في منأى بعيداً عن الرجال حتى لا تختلط بهم، هذه هي سنة الله تعالى في هذه الحياة، وهذه هي الطريقة المثلى التي يجب أن تسلكها المرأة؛ حتى لا تحدث فتنة في المجتمع، ولهذا قال: (من دونهم امرأتين تذودان) أي: تذودان الغنم بعيداً عن الرجال. وعلى هذا نقول: إن المرأة إذا اضطرت إلى الخروج من بيتها لحاجة اضطرارية لا مناص منها، فإن عليها أن تكون في منأى عن الرجال، هذا هو حكم الله عز وجل، وهذا هو شرع الله تعالى للمرأة دائماً وأبداً في كل شرائع المرسلين عليهم الصلاة والسلام، أما في شريعة الغاب وفي شريعة المفسدين في الأرض فيقولون: لا، المرأة يجب أن تكون بجوار الرجل سواء بسواء، مجتمع معطل لا يتنفس إلا برئة واحدة! حتى في وقت فاض فيه عدد الرجال، وأصبح الرجال يعجز أحدهم عن الحصول على وظيفة، لا بد أن تكون المرأة تعمل، ولا بد أن تكون بجواره، ولا بد أن يكون هناك اختلاط، حتى لقد رأينا في دنيا الناس اليوم النساء تنافس الرجال على الوظيفة، لو دخلت مستشفى من المستشفيات مثلاً، وعملت إحصائية، أيهما أكثر الرجال أم النساء في مجال التمريض؟ لوجدت أن النساء أكثر بكثير من الرجال، حتى كأن الرجال فقدوا، فأصبحت المرأة هي التي تتولى خدمة الرجل، إضافة إلى خدمة المرأة، فهي التي تعطيه الحقن، وهي التي تناوله العلاج إلى غير ذلك، بالرغم من وجود رجال عاطلين في مجتمعات الأمة الإسلامية، وأعجب من هذا أن نجد النساء يعالجهن رجال، إذاً: المسألة ليست مسألة حاجة وضرورة، ومسألة إجبارية, المسألة مسألة انحراف أصاب هذه الأمة, وهذا الانحراف هو الذي سبب هذا الخلل الاجتماعي الذي أصاب أمتنا اليوم. وعلى ذلك نقول: القاعدة أنه يجب أن يكون للرجال رجال، وللنساء نساء، سواء كان في باب العلاج، أو في التعليم، أو في أي أمر من الأمور، أما هذا الاختلاط المشين الذي يدعو إليه أعداء الإسلام فلا يجوز، وفي شرع من قبلنا بالرغم من أنها بنت نبي صالح تستطيع أن تحفظ نفسها، وتكون تربيتها أقوى وأجود، بالرغم من ذلك: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، فبقيتا بعيداً عن الرجال, إذاً: هذه هي القاعدة الشرعية التي تتكرر في كل شرائع الأمم إلى يوم القيامة، أن تكون المرأة بعيدة عن الرجال، لكن في شريعة المفسدين في الأرض من العلمانيين والمتمردين والكفرة والفجرة يقولون: لا، الرجل والمرأة شيء واحد، ما هذا التخوف؟ لماذا نخاف على المرأة من الرجل؟! أليس: النساء شقائق الرجال؟! لماذا لا تزاحم الرجال؟! تختلط معهم في مدرج الجامعة، وفي الفصول الدراسية، وفي مكاتب الأعمال وغيره، حتى في المهن والحرف التي لا تصلح للنساء، ونتأكد أنها لا تصلح إلا للرجال!! إذاً: ذاك هو شرع الله، وهذا هو شرع البشر الذين تنكبوا عن شرع الله عز وجل، فالمسألة -أيها الإخوة- خطيرة جداً؛ لأن هؤلاء تمردوا -أي: الذين يريدون أن يخلطوا بين الرجل والمرأة في كل أمر من الأمور أو في جل الأمور- تمردوا على شرع الله عز وجل في كل الشرائع السماوية، فضلاً عن شريعة الإسلام التي أولت هذا الجانب أمراً عظيماً من الاهتمام: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، فكأن هذا شيء مسلم، أن المرأة لا تزاحم الرجال، ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام ما سأل: لماذا لا تسقيان حتى يصدر الرعاء؟ لأن القاعدة متفق عليها، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام -وهو قبل النبوة، قبل أن يكون نبياً- أن المرأة لا تخالط الرجال؛ لأن هذه فطرة بشرية، ولأن اختلاط المرأة بالرجال انحراف عن هذه الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، هذا هو العذر الذي أبدته هاتان البنتان، حتى لا يستغرب موسى لماذا الناس كلهم رجال مع أغنامهم إلا هاتان البنتان امرأتان، فالعلة: ضرورة، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، ثم ينتصر عليه الصلاة والسلام للحق {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلّ} [القصص:24]، فأخذ نصيبهما بالقوة من الماء، حتى سقتا الغنم، فرجعت البنتان إلى أبيهما شعيب عليه الصلاة والسلام -على رواية- فاستغرب كيف رجعت البنتان مبكرتين في هذا اليوم؟! وكيف استطاعتا أن تسقيا مع زحام الرجال وبنتاه لم تجر العادة بأن يخالطن الرجال ويزاحمن الرجال؟! فأخبرتاه بالقصة، وأنه جاء رجل تظهر عليه سيماء الخير والصلاح والاستقامة والقوة أيضاً، فسقى لهما، أما موسى عليه الصلاة والسلام فـ {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24]، إلى ظل شجرة، وبدأ يتضرع بين يدي الله عز وجل لا يدري أين يذهب؟ ولا يدري من أين يأكل؟ ليس بيده طعام، وليس بيده مال يشتري طعاماً؛ لأنه هارب فار بدينه من أرض الظلم والطغيان. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، تضرع بين يدي الله عز وجل، والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين. أما أبو البنتين فأرسل إحدى البنتين -وهذه ضرورة أخرى- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، لتنتبه المرأة، (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، فالحياء أعظم صفة للمرأة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة خلق، وخلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً). إذاً: ما الفرق بين وضع هذه البنت التي جاءت على استحياء وبين كثير من النساء اللواتي يملأن أسواق العالم الإسلامي دع عنك العالم الكافر؟! والله إنه في كثير من البلاد الإسلامية لا أحد يستطيع أن يفرق بين المرأة المسلمة والكافرة! الحياء فقد منذ زمن بعيد! لكن الذي حدث بعد فقد هذا الحياء فساد عريض؛ لأن الحياء الذي هو لباس هذه الأمة وكساء نساء هذه الأمة حينما فقد أصبح هناك عراء عجيب, فقد الحياء، وانتشر الزحام، ووصل الأمر إلى أن ترى نساء تنتسب إلى الإسلام على شواطئ البحار عارية أو شبه عارية تماماً! فأين الحياء الذي تتميز به الأمم؟! لا في هذه الأمة فحسب بل حتى في الأمم السابقة، والذي إذا فقد في أمة من الأمم تصبح هذه الأمة بعيدة عن رعاية الله عز وجل.

موسى عليه السلام يذهب إلى والد المرأتين فيؤمنه

موسى عليه السلام يذهب إلى والد المرأتين فيؤمنه {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] , ثم يذهب موسى عليه الصلاة والسلام إلى صاحب مدين ويخبره بالقصة, فيطمئنه صاحب مدين بأنه لا خوف عليه بعد اليوم، انتهى عصر الخوف بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام، وأنه دخل في أرض أمان بأنه من الآمنين كما شهد الله عز وجل؛ لأن الأمن لا يأتي إلا مع الإيمان، ومع طاعة الله عز وجل: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، وهنا يقول له صاحب مدين: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] الذين هم آل فرعون. إذاً: ما هو السر في هذا الأمن؟ وأين يكون الأمن؟ وكيف تبحث الأمم عن هذا الأمن؟ وفي أي مكان؟ إن الأمن مع الإيمان، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. وعلى هذا فإن أي حاكم يريد أن يحكم هذا العالم ويريد أن يأخذهم بطريق القوة ليقرر قواعد الأمن بالقوة فإنه لن يستطيع، وأي حاكم يحكم هذا العالم يريد أن يقرر قواعد الأمن والاستقرار من خلال اللهو واللعب والمسرحيات والترف والنعيم والفساد وإغداق الأموال فلن يستطيع؛ لأن هذه الشعوب مهما بلغت من الترف والنعيم والفساد لا بد أن تستيقظ في يوم من الأيام كما استيقظت في أيامنا الحاضرة، ثم ترفض هذا النعيم وهذا الترف والمتاع، ثم لا ينتبه الذين أذابوها في مجتمع مترف إلا على الجماجم والأشلاء، وهذا هو الذي يحدث في عالمنا اليوم. كذلك من يريد أن يحكم هذا العالم ويقرر قواعد الأمن بقوة الحديد والنار فإنه لن يستطيع ذلك، فإن الشيوعية قدمت ستين مليوناً من البشر في فترة وجيزة في عهد إستالين، تريد أن تقرر قواعد الأمن في بلادها، فما استطاعت أن تقرر قواعد الأمن أبداً، ثم سقطت الشيوعية وعاد الناس إلى دينهم وفطرتهم الصحيحة. وفي أفغانستان اثنا عشر عاماً والحرب تدمر المسلمين، وقتل ما يزيد على مليون مسلم، ودمرت منازلهم وشردوا، وما استطاعت الشيوعية في أفغانستان أن تثبت أقدامها فضلاً عن أن تقرر قواعد الأمن. إذاً: ما هو الطريق للأمن؟ الطريق لا تخف؛ لأنك رجل سيرتك معروفة: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، ولذلك خاض العالم حربين عالميتين الحرب العالمية الأولى والثانية، وقتل فيها أكثر من ثمانين مليوناً من البشر، وشوه فيها أكثر من ذلك، ودمر فيها من الأموال والثروات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل؛ بحثاً عن الأمن، وما استطاعوا أن يقيموا قواعد الأمن في بلادهم، ولكن إذا أرادت أمة أن تثبت الأمن في بلادها فإن عليها أن تسعى إلى أن تثبته من خلال تربية الشعوب على طاعة الله عز وجل، تفتح المجال للدعوة إلى الله عز وجل، تشجع الدعاة وتعطيهم الحرية الكاملة، ادعوا إلى الله ربوا الشعوب فإذا تربت الشعوب على طاعة الله وعلى أيدي الدعاة والمصلحين؛ حينئذ يتحقق الأمن لهذه الأمة أياً كانت الظروف المحيطة بها، ولو كان كل الناس يحيطون بها من كل جانب، ولو كان الأعداء يتكالبون عليها من كل فج عميق، ما دامت قد أقامت شرع الله عز وجل في الأرض، وما دامت قد أقرت قواعد الدعوة إلى الله عز وجل، وأعطت الدعاة الحرية لأن يدعوا الناس إلى دين الله عز وجل دعوة صحيحة، وأن يقودوهم إلى طريق السعادة، هنا يتحقق الأمن؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولذلك يقول الله تعالى هنا عن رجل مدين أنه قال لموسى: (لا تَخَفْ)، حينما علم سيرته، {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].

اتصاف موسى بصفة القوة والأمانة

اتصاف موسى بصفة القوة والأمانة وكان موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بصفتين هما صفتا العامل الناجح, فعلم رجل مدين -وأنا أقول: رجل مدين؛ لأن المفسرين اختلفوا هل هو شعيب أو غيره؟ فنريد أن نخرج من الخلاف بهذا الاسم- علم من خلال ابنته التي جاءت به أنه رجل شريف في خلقه وشرفه، وأنه رجل قوي في جسمه ودينه أيضاً. إذاً: هو يستحق أن يكون عاملاً عند رجل مدين، أما بالنسبة لشرفه وأمانته وعفته فيقول المفسرون: كانت الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فصار الهواء يرفع ثوبها؛ فخشي أن يرى شيئاً من جسدها، فقال: تسيرين ورائي وأنا أكون في الأمام، فأصبح رجلاً شريفاً يصلح لهذا الأمر. أما بالنسبة للقوة فهو الذي استطاع أن يدفع الناس كلهم رعاة الغنم من أجل أن يسقي غنم رجل مدين، ولذلك مدحه الله تعالى بالصفتين: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، إذاً: القوة والأمانة هما الصفتان اللائقتان لكل أجير، أياً كان هذا الأجير، سواء كان عاملاً أو غيره، فيجب أن نختار القوي الأمين، إذاً: ليعلم الذين يأتون بالكفار إلى بلاد المسلمين، ويعتبرون أن عندهم من الأمانة ما ليس عند المسلمين أنهم خاطئون، وأنهم قد تعرضوا لغضب الله عز وجل؛ لأن هذا يتنافى مع الشرط الذي اشترطه الله عز وجل لمن يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر، ولو كان حرفة، ولو كان حراسة، ولو كان خدمة أياً كان، فكيف إذا كان أمراً مهماً؟ وكذلك بالنسبة لمن يتولى أمراً من أمور المسلمين أياً كان هذا الأمر، سواء كان رئيساً للدولة، أو أصغر جندي من جنود الدولة، أو أي مسئول، وزيراً كان أو أميراً، يجب أن يتصف بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، ويجب أن تكون هذه القوة ليست خاصة بالقوة الجسمية، وإنما أيضاً في القوة المعنوية والعقلية وقوة الإرادة، وكذلك الأمانة والهدى والتقى والاستقامة. وهنا نقول: إن أبرز صفتين من صفات من يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر: أن يكون قوياً، وأن يكون أميناً, أما إذا كان ضعيف الشخصية, فماذا تستفيد الأمة من الرجل الصالح إذا كان ضعيف الشخصية؟ يغلب على أمره، لا يستطيع أن يحل مشكلة من مشاكل الناس، وماذا يستفيد الناس من الرجل الخائن الذي فقد الأمانة حينما يتولى أمراً من أمور المسلمين؟! ولذلك نشكو إلى الله عز وجل عدم توفر هذين الشرطين في كثير ممن يتولى أمور المسلمين في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون قوياً، لكن قوته إنما تكون تسلطاً وجبروتاً ليذل من أعز الله أو ليعز من أذل الله، وإما أن يكون ضعيفاً لكنه ذو أمانة، ونحن لا نستفيد من أمانته ما دامت هذه الأمانة تتسم بالضعف, فالصفتان لا بد من أن تشترك كل واحدة منهما مع الأخرى؛ حتى يكون من يتولى أمر المسلمين قوياً أميناً. ولذلك: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، أي: لرعاية الغنم؛ لأننا نحن نساء، لا نريد أن نخرج كل يوم من الصباح إلى المساء نرعى الغنم، نحن نساء يجب أن نؤدي الدور المنوط في أعناقنا داخل البيت؛ لنقوم بإعداد البيت وتربية الأطفال والنشء، أما هذه الغنم فيجب أن يتولاها رجل، وهذا الرجل هو الذي يجب أن يتولى دائماً الأمور التي تكون خارج البيت، كما هي الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها, وهذا الرجل يتصف بصفتين مهمتين هما: القوة والأمانة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. إذاً: لا بد أن يفهم الناس ما هي مواصفات وما هي شروط الأجير؟ ونقول: الأجير؛ فإن رئيس الدولة يعتبر أجيراً؛ وإن الجندي الصغير والخادم الصغير يعتبر أجيراً، وما بين ذلك يعتبر أجيراً للمسلمين يتولى أمر المسلمين، فلا بد أن تتوفر الأمانة والقوة، فإذا فقدت إحداهما لا تنفع الأخرى، وإذا فقدت الاثنتان فإن المصيبة تكون أشد وأعنف، ولذلك لا بد من القوة والأمانة، أما قوة بدون أمانة فإنها تحدث لنا السفاحين في الأرض والسفاكين للدماء، وأما أمانة بضعف فإنها تجرئ على الأمة الإسلامية أعداءها الذين يتربصون بها الدوائر، إذاً: لا بد من هاتين الصفتين: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].

موسى عليه السلام يتسلم رعاية الغنم مقابل الزواج

موسى عليه السلام يتسلم رعاية الغنم مقابل الزواج ثم بعد ذلك تبدأ الأجرة، ويعمل العقد بين موسى عليه الصلاة والسلام ورجل مدين على ثمان سنين أو عشر سنين، ويكون الخيار فيه لموسى عليه الصلاة والسلام، ويكون المهر هو هذه الأجرة، وهذا دليل على أن المهر واجب من واجبات النكاح، وأن المرأة في الأديان عزيزة كريمة، وأن المرأة لا تسقط في مهرها إلا حينما تسقط أخلاقها، وهذان مثلان: المثل الأول: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، ثمان سنين، انظر إلى كثرة المهر؛ لأنها امرأة كريمة تستحق هذا المبلغ، ثم تعال إلى بلادنا هنا، كثير من الناس يتكلم عن غلاء المهور، صحيح هناك غلاء في المهور، لكن ما هو السر في غلاء المهور؟ لأن هذه المرأة في بلادنا مصونة، لكن اذهب إلى بريطانيا تجد المرأة بنصف جنيه إسترليني، يتزوج الإنسان امرأة، ولربما هي تبذل هذا المهر إذا عجز الزوج عنه؛ لأنها امرأة ساقطة, ونحن حينما نقول هذا الكلام لا نريد أن نشجع غلاء المهور، فإن غلاء المهور يعتبر خللاً في نظام المجتمع، ويؤدي إلى عزوبة وعنوسة في المجتمع، لكن نقول: وجود المهور مرتفعة في بلد ما يدل على كرامة المرأة وعزتها, ولذلك بمقدار ما تنحدر المرأة إلى الحضيض ينحدر معها المهر؛ لأنها تصبح امرأة لا قيمة لها ولا وزن, وبمقدار ما تتمسك هذه المرأة بدينها وبشرفها يكون نصيبها من المهر أكثر، وقد ضربت مثلين: المثل الأول: في البلاد التي سقطت فيها المرأة حتى أصبح فيها نوادي للعراة -نعوذ بالله- وأصبح زواج الذكر بالذكر في مثل بريطانيا يبيحه القانون والنظام بعقد شرعي نظامي كما يقولون، وفي البلاد التي تحافظ محافظة بمقدار ما تحافظ يكون نصيبها من غلاء هذه المهور, ولذلك قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27]. وهنا لابد أن ينتبه إخواننا أصحاب المؤسسات المعمارية والتجارية, فإننا في كل لحظة توجه إلينا أسئلة من عمال مساكين جاءوا من بلاد بعيدة هم مسلمون وأتقياء، جاءوا ليعفوا أنفسهم، وليرتزقوا الله عز وجل في هذه البلد بلد الخيرات والنعيم، وبلد الاستقامة, ومن أجل أن يحصلوا على لقمة العيش، من أجل أن يقيتوا شيوخاً وعجائز وأطفالاً وأرامل، ثم إذا بهم يفاجئون ببعض أصحاب المؤسسات في بلادنا يستغلون هذا العامل كل استغلال، ولربما يفرض عليه خمسين بالمائة من دخله مقابل أن يكفله, وربما يكون بالراتب ولا يعطيه الراتب، كثير من الشكاوى تصل إلينا من العمال ضد أصحاب المؤسسات، خصوصاً الذين يأخذون العمال ويتركونهم, يجلس في بيته نائماً ويستغل هذه الفرصة، وهي أن الدولة أعطته فرصة لأن يكون كفيلاً لهؤلاء الفقراء، ثم يأخذ أكثر ما يكسبون، ثم يرجعون إلى بلادهم فقراء، حتى إن طائفة منهم يأتون يطلبون أجرة العودة إلى بلادهم! هذا ليس من صفات المؤمنين، ومنهج المرسلين خلاف ذلك, والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)، من هم الذين يخاصمهم الله عز وجل؟ ومن يستطيع أن يخاصم الله؟! ومنهم: (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، بأي شيء يا أخي! تستحل مال مسكين كان يكدح ليله ونهاره من أجل أن يحصل على لقمة العيش ليقيت نفسه وأطفاله وذريته وأهله، وأنت الرجل الذي أنعم الله عليك في بلاد الخيرات، وتنام في بيتك لتأخذ النصف وربما الثلثين من دخل هذا المسكين، وربما يكون مبلغاً مقطوعاً قد لا يحصل العامل على هذا المبلغ، وقد يحصل عليه فقط دون أن يكون له وافر كسب؟! فهنا قال لموسى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27]، هذا هو النظام الذي يجب أن يسلكه الناس في معاملة العمال والمساكين. هذه من صفات المستأجر مع الأجير: (وما أريد أن أشق عليك)، ثم يقول المستأجر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] , فالمسألة ليست أمراً فقط يقوم به المستأجر، وإنما حتى الأجير يجب أن يكون من الصالحين, ويجب أن يؤدي الدور الذي من أجله استؤجر ويؤدي العمل؛ لأنه حينما يؤدي العمل يكون قد أبرأ ذمته أمام الله عز وجل، وأخذ رزقاً حلالاً، وهي هذه الأجرة التي يأخذها مقابل هذا العمل، فالأول لا يشق على الأجير، والأجير يجب أن يكون من الصالحين أي: يؤدي العمل كما يرضي الله عز وجل.

إتمام موسى عليه السلام للأجل

إتمام موسى عليه السلام للأجل ثم بعد ذلك قضى موسى الأجل، كما أخبر الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] , فيجب الوفاء بالعقود، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] , فالوفاء بالعقود أمر طبيعي، وواجب يجب على المسلم أن يحافظ عليه، ويجب الوفاء بالشروط أياً كانت هذه الشروط، ما دامت لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)، أما الشروط التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً؛ فإنه يجب الوفاء بها أياً كانت هذه الشروط، سواء كانت بين الزوجين، أو بين الأجيرين، أو بين أي واحد من الناس؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] , وعلى هذا نقول: إن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تطبق هذا القرآن منهج حياة، فليست قصصاً تتلى، وليست أشياء مسلية، وإنما هي أحكام يجب أن تنفذ، وحينما يقص الله عز وجل علينا قصة أمة من الأمم يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، فهذه العبرة يجب أن تؤخذ كمنهج حياة لأمة من الأمم, والقاعدة الشرعية أن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام مع الأمم هو منهجنا، لا يختلف إلا إذا جاء شرعنا بخلاف ذلك, فإذا جاء شرعنا بخلاف ذلك فإن شرعنا يتقدم, وإذا وافق شرعنا ولم يأت شرعنا بخلاف ما جاءت به الشرائع السابقة فإن ذلك يجب أن يكون منفذاً، ولذلك هذا القرآن خلق عظيم، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفسرته عائشة رضي الله عنها في قولها حينما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)، والمسلم حينما يقرأ القرآن عليه أن يأخذ منهج حياته من كتاب الله عز وجل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [2]

دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [2] كانت المرحلة الثانية من حياة موسى عليه السلام مرحلة عصيبة، حيث أصبح فيها داعية إلى عبادة الله عز وجل، وقائداً للناس إلى طاعة ربهم، وبالمقابل مواجهاً لأطغى رجل في ذلك العصر وهو فرعون، فتارة يدعوه باللين والجدال الحسن، وتارة يريه المعجزات والآيات لعله يؤمن بالله تعالى، ولكن لم يجد ذلك شيئاً، فكانت نهايته الغرق هو وجنوده، بعد أن أتى موسى بكل الوسائل في الحوار معه، وهكذا تكون نهاية الظالمين.

مراحل مصارعة موسى عليه السلام لفرعون

مراحل مصارعة موسى عليه السلام لفرعون إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! هذه حلقة من حلقات (من نبأ المرسلين)، وهي الحلقة الثانية بالنسبة لسيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد في الأرض، أنكر الألوهية، وادعى لنفسه الربوبية، وبطش في الأرض، وعاث في الأرض فساداً، ولكن نهايته كما قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. وهذه النهاية هي نهاية كل جبار عنيد، وكل طاغوت يريد أن يبطش بعباد الله، ويريد أن يستذل من أعزه الله وأن يعز من أذله الله، ولربما تطول الجولة لطغاة ووحوش البشر، ولكن الله عز وجل كما قال عن نفسه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]. وقصة موسى مع فرعون قصة طويلة، كما عرفنا الجزء الأول منها، والجزء الأول يعود كله إلى إعداد موسى عليه الصلاة والسلام إعداداً عجيباً، يبدأ من ولادته في فترة كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتحدى الله تعالى -كما مر معنا في الحلقة السابقة- أيما تحدٍ، قال تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ثم يتحداه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]. ثم يكون الصراع المؤقت بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعون إلى أن فر إلى ديار مدين وبقي هناك بضع سنين، ثم رجع إلى ذلك الطاغوت وهو يحمل الرسالة من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النصف الثاني من الحديث عن موسى وفرعون، يبدأ بقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29]، ولعلكم خلال الآيات التي سمعتموها أدركتم كيف أن الإيمان يفعل أفاعيله بالرجال، وأن الإنسان ليعجب كل العجب وهو يسمع أن السحرة الذين استقطبهم فرعون من كل أقطار مصر، حتى قال بعض المفسرين: إن عددهم بلغ مائة ألف، كل جاء بما عنده من السحر، أنهم في اللحظة الأولى يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، وبعدها بلحظات يقولون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، وحينئذ نعلم أن الإيمان فطرة في هذه القلوب، وأن الله سبحانه وتعالى قد استودع في النفوس البشرية، بل في نفوس مخلوقاته سبحانه وتعالى هذا الإيمان، كما قال عن نفسه سبحانه وتعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. ثم إنك لتعجب كل العجب وأنت ترى هؤلاء السحرة الذين ما عرفوا الله عز وجل إلا في لحظات، وما عبدوه إلا في سجدة واحدة فقط، ثم يوجه إليهم هذا الإخبار الشديد، وهذا التخويف والإرهاب من طاغية هو ينفذ في الحقيقة كل ما يقوله، فيقول لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، وفعلاً هذه أخطر وسائل القتل والتصليب والتقطيع، ولكن الإيمان أمره عجيب! لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الإيمان حتى ولو كان إيماناً حديث العهد وجوده في نفوس هؤلاء الناس؛ لأن أصله -وهي الفطرة- موجود ومفطور عليه كل الناس، ولذلك فإنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] تغير الأسلوب، فقد كان الحلف: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)، فأصبح بعزة الله سبحانه؛ فهو (فطرهم) أي: خلقهم {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]. فانظر يا أخي! السحرة لم تمر على إيمانهم إلا لحظات، إذاً: كيف بالذين ولدوا على الفطرة؟! وكيف بالذين عاشوا في بيوت الفطرة وفي أرض الفطرة لو تعرضوا لمثل هذه الفتن أو لأقل من هذه الفتنة، ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟ نستطيع أن نأخذ هذه المرحلة من مرحلة حياة موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصارع هذا الطاغوت الجبار العنيد على عدة مراحل من هذه الآيات التي ذكرها الله تعالى.

تحرير موسى عليه السلام بني إسرائيل من العبودية

تحرير موسى عليه السلام بني إسرائيل من العبودية أولا: ً موسى عليه الصلاة والسلام وسائر المرسلين ما جاءوا لهذه الحياة من أجل أن يعلموا الناس العبادة لله عز وجل فقط، وإنما جاءوا أيضاً من أجل أن يحرروا النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك فإن منهج المرسلين -وهو أيضاً منهج المصلحين إلى يوم القيامة دائماً وأبداً- هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ثم هو أيضاً تحرير النفوس البشرية وإنقاذها من الخضوع لغير الله عز وجل، ومن أجل ألا تستغل هذه النفوس المؤمنة لغير الله عز وجل، ولا تنحني لغير الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن منهج موسى عليه الصلاة والسلام في أول مقابلة يقابل فيها هذا الطاغوت أن قال: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، هذا هو منهج المرسلين، خلاف ما يتهم العلمانيون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- هذا الدين بأنه إنما هو منهج عبادة، أما قيادة الحياة فهم يعتبرونها لغير المسلمين، ولغير المؤمنين والمتدينين والمصلحين. إذاً: أول مهمة وأطروحة طرحها موسى عليه الصلاة والسلام، وأول هدف جاء به من عند الله عز وجل مع أخيه هارون أمام هذا الطاغوت هو تحرير النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل: {فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47]؛ لأن تعذيب النفوس بغير حق إنما هو ظلم، والمرسلون جاءوا لرفع الظلم عن البشرية، والعلماء المصلحون يأتون من بعدهم لرفع هذا الظلم، ولذلك أول مطلب لهذين الرسولين عليهم الصلاة والسلام: {فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47]، ولم يقولوا له: والسلام عليك؛ لأنه غير مؤمن، وإنما قالوا: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن يوجه لكل كافر لا يؤمن بالله عز وجل، ولا يؤمن باليوم الآخر، فلا يجوز أن نبدأ اليهودي ولا النصراني ولا الكافر أياً كان، ولا الملحد بتحية غير هذه التحية: (السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: فإن اتبعت الهدى فعليك السلام، وإن لم تتبع الهدى فإن السلام ليس حق لك منا، وعلى هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).

الجبابرة والطواغيت منهجهم دائما إنكار الخالق

الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً إنكار الخالق ثم نجد أن الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً وأبداً إنكار الخالق سبحانه وتعالى، فينكرون الخالق وهم يؤمنون بالخالق؛ لأن الإيمان بالخالق يربط البشر بالله عز وجل، ويحررهم من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك نجد ونلاحظ عبر فترات التاريخ الطويل أن كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يبدأ أولاً بإنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن لم ينكره من أول وهلة لكنه يأتي بمقدمات تشير إلى أنه لا يؤمن بخالق لهذه السماوات والأرض، على الرغم من أن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها. ولذلك حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بالخالق يقول أحدهم: والله الذي لا وجود له، كان يحلف بمثل هذا الحلف، فالفطرة تفرض عليه أن يقول: والله، لكن المصلحة تفرض عليه أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد هذا الطاغوت لا يمكن أن يستعبد الأمة إلا أن يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] أي: فيما يدعيه من أن له إلهاً، ولذلك نجده هنا يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]، وهو يعرف أن ربهم هو الله عز وجل، وأنه لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه لم يخلق شيئاً في هذا الكون، ولا يستطيع أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأن الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل عليها البرية هي الإيمان بهذا الخالق سبحانه وتعالى، لكن لا يمكن أن يستعبد الأمة وهي تعرف أن لها خالقاً، ولذلك فإنه يضطر إلى أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، حتى يستطيع من خلال هذا الإنكار أن يستذل هذه الأمة. أما فرعون في قرارة نفسه فإنه يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى بنص القرآن: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] و (ظلماً) هنا حال من الواو في (جحدوا)، لا من الهاء في (استيقنتها)، أي: أن تركيب الكلام: (وجحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم)، وهذا شيء مشاهد، ولذلك نجد هذا اليقين الذي أخبر الله عز وجل عنه بقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) نجده يبرز في ساعة الصفر حينما تنتهي المهمة، وتنتهي مسرحية فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى، واستذل أمة مدة طويلة من الزمن، حتى إذا انتهت الفترة التي من خلالها يستطيع أن ينكر الخالق إذا هو يعلن إيمانه بالخالق سبحانه وتعالى، وهي ساعة الغرق؛ ولذلك يقول الله عز وجل عنه في ساعة الغرق: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، ثم قال الله تعالى له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91 - 92] فقط لا نعيدك للدنيا مرة أخرى {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]، كل طاغوت يريد أن يستذل أمة أو أن يستعبد شعباً أو أن ينكر الخالق سبحانه وتعالى أو يستضعف الأمة المؤمنة تكون أنت آية له وكل من رآك، وإن من يراه في متاحف مصر ليتذكر هذه الآية التي يقول الله عز وجل فيها: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). إذاً: هو يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، ويعلن هذا الإيمان في الفترة التي لا يستفيد فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن من يزور مقابر الفراعنة في مصر يتأكد أنهم يؤمنون بالخالق سبحانه وتعالى، فهم يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولذلك يجعلون فتحات في مقابرهم لعودة الروح يوم القيامة، والإيمان بالبعث بعد الموت فرع عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يؤمن بالبعث بعد الموت إلا بعد أن يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى. وهنا يوجد من ينكر البعث بعد الموت وإن كان يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى، كما كان المشركون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتقدون شيئاً من ذلك. إذاً: الطغاة والمتجبرون والمعاندون، والذين لهم تفكير في إذلال البشرية، لا بد من خلال هذا التفكير أن ينكروا الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد الشيوعية التي جاءت وحكمت مدة خمسة وسبعين عاماً في بلادها ثم سقطت في آخر المطاف؛ لأنها تنافي الفطرة، نجد أنها طيلة هذه الفترة تجبر الناس على إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وأهم مبادئها هو إنكار الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن الشعوب لا يمكن أن تخضع لغير الله إذا آمنت بالله عز وجل، وبالرغم من ذلك فإنها لم تستطع أن تنجح في مهمتها. إذاً: الإيمان بالله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل كل المخلوقات عليها الإنسان وغير الإنسان، فالإنسان مفطور على الإيمان: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] وغير الإنسان من المخلوقات الحية مفطورة على الإيمان أيضاً، كما قال الله عز وجل: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].

استعباد الأمم لا يكون بإذلال المصلحين

استعباد الأمم لا يكون بإذلال المصلحين الأمر الثالث: كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يستذل المصلحين، ولا بد أن يحول بين المصلحين وبين الأمة؛ لأن هؤلاء المصلحين منهجهم هو إرشاد الناس إلى الخضوع لله عز وجل، وتحذيرهم من الخضوع لغير الله عز وجل؛ ولذلك فإن كل المفسدين في الأرض -وإن تظاهروا بالإصلاح كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]- هم في الحقيقة يخافون على الأرض لا يخافون على الدين، وربما يتظاهرون بالخوف على الدين، كما قال فرعون لعنه الله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، مع أنه هو الذي كان ينشر الفساد في الأرض، ولذلك هم يخافون على الأرض، ويخافون على الملك، ويخافون على السلطة، فيقفون في وجوه المصلحين خوفاً على هذه السلطة أن تنتزع من أيديهم إلى أيد أخرى هي أهل لهذه السلطة، ولذلك يقولون: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:57]. ولذلك هذا هو الخوف الحقيقي، هو خوف على الأرض لا خوف على الدين، وإن تظاهر المفسدون في الأرض بأنهم يخافون على الدين، وأنهم يخافون على عقيدة الناس، وعلى منهج الناس، فهم في الحقيقة لا يخافون إلا على الأرض، أما المصلحون فليس لهم مطمع في الأرض؛ لأن هدفهم فوق الأرض والتراب، هدفهم هو إصلاح هذه الأمم وربطها بالله عز وجل. أما الكراسي والمراكز فإنها ليست أهم أهدافهم، اللهم إلا إن كان هدفاً كهدف يوسف عليه الصلاة والسلام حينما قال للعزيز: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] يريد أن يتخذ من هذه السلطة منطلقاً للإصلاح في الأرض.

إيمان السحرة بالله تعالى

إيمان السحرة بالله تعالى الأمر الرابع: وهو ما أشرت إليه سابقاً: أن الإيمان ولو طال الأمد عليه وفقد مدة طويلة من الزمن لا بد أن يعود إذا جاء موعده! وكيف أن المؤمن ولو ألحد وغفل عن الله عز وجل كثيراً إذا رأى الآية التي تعرفه بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل؛ لأن الفطرة الأصل أنها موجودة، وهي ما أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وما أشار الله عز وجل إليها في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم). ولذلك يقول الله تعالى هنا: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70]، فقد ولدوا بعيدين عن الفطرة معزولين عزلاً كاملاً عن الفطرة، يعيشون على حياة السحر والشعوذة بعيدين عن الله عز وجل، لكن حينما رأوا آية واضحة من آيات الله عز وجل اعتبروا السجود هو العاصم الذي يعتصمون به من هذا الذنب العظيم الذي اقترفوه مدة طويلة من الزمن، فخروا ساجدين لله عز وجل، وما أدوا عبادة إلا هذه السجدة وهي سجدة فقط، ثم كانت نهايتهم الجنة، وكان مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض. وعلى هذا نقول: إن باب التوبة مفتوح، ومهما ابتعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى فإن عليه أن يفكر دائماً وأبداً في طريق العودة إلى الله عز وجل، ولا يستعظم ذنباً فعله، فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55]. ومن هنا نقول: إن هؤلاء السحرة بالرغم مما فعلوه من الذنوب العظيمة، وآخرها الوقوف أمام آية من آيات الله عز وجل، والحلف بعزة فرعون وهو لا يستحق شيئاً من ذلك، ثم لما رأوا الآية من آيات الله عز وجل رجعوا إلى أنفسهم؛ لأنهم تجردوا عن الهوى، وعرفوا أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آية من عند الله، وليس بسحر، فخروا ساجدين لله عز وجل. ثم كانت هذه هي الخاتمة، فالعبرة إذن بحسن الخاتمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ولذلك فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة، حتى لو كان في خير وفي عمل صالح يرضى به لنفسه ويطمئن إليه فلابد أن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة والثبات، ولذلك فإن الرسول -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فتقول له عائشة في ذلك: أتخاف على نفسك يا رسول الله؟! فيقول: يا عائشة! وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). فهؤلاء كفرة يحلفون بعزة فرعون، جاءوا معاندين لآية من آيات الله، يريدون أن يأتوا بالسحر ليطمسوا فيه معالم آية من آيات الله، وما كانوا يظنون أنها آية، واستغفلوا مدة من الزمن، واستذلوا واستعبدوا، لكن لما رأوا الحقيقة رجعوا إلى الطريق المستقيم، فخروا ساجدين لله عز وجل، ووقف فرعون مبهوراً! مائة ألف ساحر جميعاً ولدوا على السحر وعلى البعد عن الله وعلى عبادة فرعون، ثم يسجدون جميعاً سجدة واحدة لله عز وجل! هذا أمر عجيب! لكنه ليس عجيباً بالنسبة لأمر الله عز وجل. إذاً: ما هو الموقف الذي سوف يسلكه مثل هذا الطاغوت؟! منطق الطواغيت والظلمة معروف حينما تعييهم الحجة ليس أمامهم إلا القوة؛ لأنهم يملكون القوة البشرية، ويملكون القوة المادية في هذه الحياة، ولربما يفقدها المؤمنون، فيلجئون إلى التهديد بهذه القوة، ولذلك أحضر الجلادين، وأحضر جذوع النخل، وأحضر الذين سوف يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من خلاف، وأحضر كل وسائل التعذيب أمام مائة ألف من البشر خروا ساجدين لله عز وجل. وكان المنطق البدهي المجرد من الإيمان يقول: إن ساحراً أمضى حياته في السحر وفي عبادة غير الله عز وجل، وما دخل الإيمان إلا بسيطاً في لحظة واحدة قد يتأثر بسرعة، ويتراجع عن مبدئه حينما يرى وسائل التعذيب، كما نشاهد في دنيانا اليوم أن كثيراً من ضعاف الإيمان حينما يخوفون بغير الله عز وجل يخافون، ولكن الله عز وجل ربط على قلوب هؤلاء السحرة، وتحدوا فرعون وكل قوى التعذيب والبطش التي أحضرها لهم، وقالوا: نحن رأينا بأعيننا الحقيقة، آمنا عن اقتناع، افعل ما تشاء! ولو فعلت فماذا ستفعل؟! ستهلك هذا الجسد، لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الروح، سوف تهلك هذه الدنيا، لكن لن تستطيع أن تصل بنا إلى الحياة الآخرة، افعل ما تشاء، لما قال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، أنا أم الله؟ أو أنا أم موسى؟! فكان الجواب شافياً: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] آيات رأيناها بأعيننا، آية جاءت من عند الله عصا تتحول إلى ثعبان عظيم يلتهم سحر مائة ألف من السحرة كنا نعده منذ سنوات طويلة، فتلتهم هذه الآية هذا السحر في لحظة واحدة، وتريد أن نرجع إليك بعد هذه الآية التي رأيناها! لن نؤثرك عليها، لن نقدم رأيك ولا تعذيبك على تعذيب الله عز وجل في الحياة الآخرة؛ لأننا لو أطعناك الآن وسلمنا في هذه اللحظة تعرضنا لعذاب عظيم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107]، لكننا حينما نعصيك اليوم وتريد أن تذيقنا ما تذيقنا من عذاب الدنيا فإن ذلك لن يضيرنا؛ لأنه لحظة واحدة تفارق فيها الروح الجسد، وننتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض. هذا هو المنطق الصحيح الذي يجب أن يكون منطق كل مؤمن، ومنطق كل إنسان رأى الحقيقة بعينيه، وآمن بالله عز وجل حق الإيمان، فلا يكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: في الدنيا {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] نعوذ بالله! هؤلاء ضعاف الإيمان. أما هؤلاء فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] حلفوا بالله أنهم لن يغيروا رأيهم أبداً، ولن يرجعوا عن دينهم الذي اهتدوا إليه بعدما رأوا الآيات بعينهم، فحلفوا بعظمة الله عز وجل الذي فطرهم. أي: خلقهم، ثم قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، الذي تريد أن تفعله فافعله، لك الأجسام لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الأرواح؛ لأن الأرواح في قبضة الله عز وجل وليست في قبضتك: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما تريد أن تفعله في هذه الحياة الدنيا.

السحرة يستهينون بالدنيا مقابل الآخرة

السحرة يستهينون بالدنيا مقابل الآخرة ثم استهانوا بالدنيا فقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] و (إنما) للحصر، أمر بسيط وهزيل أنت تريده منا، أنت الآن تطلب هذا الجسد، هذا الجسد ليس له أهمية، سوف يفنيه التراب حينما يوضع في التراب، فافعل فيه ما تشاء، فأنت لا تقضي إلا الحياة الدنيا، والحياة الدنيا أمرها سهل، ومن الذي علمهم هذا الأمر وقد عاشوا الحياة الطويلة بعيدين عن الله عز وجل؟ هي الفطرة التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، فأصبحت الدنيا في نظرهم لا تساوي إلا شيئاً تافهاً. {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء:51]، فهم ما زالوا خائفين رغم أنهم سجدوا لله عز وجل، بالرغم من أنهم سلموا أجسادهم للطاغوت يفعل فيها ما يشاء، وبالرغم أنهم استهانوا بالدنيا، فهم يطمعون طمعاً ولا يجزمون جزماً بأن الله سوف يغفر لهم خطاياهم، مع أن الله عز وجل قد أوجب على نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17] و (على) للوجوب أوجبها على نفسه {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، والقريب هو ما قبل الموت، فأبشروا أيها الإخوة، فليس القريب معناه في اللحظة الأولى، القريب ما قبل الموت، ولذلك هؤلاء ما تابوا إلا في آخر حياتهم قبل الموت، لم تمض بعد توبتهم إلا دقائق، ثم لقوا الله عز وجل على جذوع النخل على أيدي هذا الطاغوت المتجبر. (إنما التوبة عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يعني: في أيام غفلة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، فإذا بدأت تغرغر الروح في الجسد تريد الخروج فهنا لا تقبل التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرر أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا تقبل التوبة أيضاً، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73] أنت ليس بيدك شيء، حتى الموت فإنه ليس بإرادتك، بل هو بإرادة الله عز وجل، قال تعالى: {لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، لو شاء الله لما استطاع أن يصل إلى أجسامهم أيضاً، مع أنه ما قتلهم إلا بقضاء الله عز وجل وقدره، وهو لم يستطع أن يصل إلا إلى الجسد ولم يصل إلى الروح، وهو أيضاً بقضاء الله وقدره، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].

السحرة يدعون الناس إلى الله تعالى

السحرة يدعون الناس إلى الله تعالى ثم بعد ذلك لم يكتفوا أن يكونوا مؤمنين، بل أصبحوا دعاة، واستغلوا اللحظات الأخيرة قبل أن يبدأ تقطيع الأيدي والأرجل من الخلاف، يد يمنى ورجل يسرى، ثم الصلب، ثم الموت، استغلوا هذه الفرصة فعلموا الناس الذين بقوا وراءهم أن مثل هذا التصرف لا يضيرهم أبداً، وأن المصيبة الكبرى هي أن يقدم الإنسان على ربه يوم القيامة وهو كافر، وهو بعيد عن الله عز وجل، فقالوا للناس: انتبهوا أن تغتروا بهذا الطاغوت الذي اغتررنا به مدة طويلة من الزمن، فعليكم أن تلزموا دينكم، فأصبحوا دعاة بعد أن كانوا قبل لحظات سحرة، فماذا قالوا؟ قالوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا})) [طه:74] يحذرون الناس ألا يقدم أحدهم على ربه مجرماً {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] ما هي الدرجات العلى؟ {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76]، وهذا ليس عجيباً من أمر الله، وإن كان عجيباً في واقع البشر، وفي حياة البشر، وفي مألوفات الناس أن يتحول الساحر إلى داعية، بل ليس عجيباً في عالمنا اليوم ولله الحمد، فقد رأينا كثيراً من المفسدين تحولوا إلى مصلحين، وكثيراً من تجار المخدرات والمحرمات وأصحاب الجرائم والملاحدة في مثل هذه الأيام والحمد لله أصبحوا دعاة مصلحين، وعسى الله أن يتجاوز عنهم، وليبشروا، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. المهم أن يوفق الإنسان إلى العودة إلى الله عز وجل قبل أن يحضر الأجل، أما إذا جاء الأجل فإن أحدهم يقول بكل لوعة وندامة: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. هذا درس يجب أن نفهمه أيها الإخوة! لا سيما في مثل هذه الأيام المباركة التي سقطت فيها المبادئ، وسقطت فيها الأفكار، وأهبت ريح الخير والإيمان والحمد لله، علينا أن نراجع أنفسنا قبل أن يحضر الأجل، ثم علينا أن نصلح العمل قبل القدوم على الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذا الكلام صدر من السحرة، ولكنه كلام بعد الاقتناع بالإيمان، وهم يرون الموت ليس بينهم وبينه إلا لحظات، لكنهم يعرفون أنها ميتة لا بد أن تكون، سواء كانت هنا أو هناك، في هذه الساعة أو بعد ساعات أو بعد سنوات، كل حي ميت، إذاً: لا بد أن يموت الإنسان على الفطرة، ولا بد أن يموت في سبيل الإصلاح قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].

السحرة يدعون الله أن يثبتهم عند اشتداد العذاب

السحرة يدعون الله أن يثبتهم عند اشتداد العذاب درس آخر: لما كانوا يخافون على أنفسهم من الفتنة كانوا يتضرعون إلى الله عز وجل -لأنهم يرون القسوة في المعاملة- أن يثبتهم الله على هذا الإيمان؛ لأن الإنسان مهما كان على جانب من الإيمان واليقين والتقوى لله عز وجل فهو على خطر من الزيغ أيضاً، ولذلك بالرغم من أن عندهم هذا الإيمان الصلب فهم يقولون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، يطلبون الوفاة على الإسلام، ولا يطلبون الحياة؛ لأن الوفاة على الإسلام أفضل لهذا الإنسان من الحياة على غير الملة، ولذلك هم خائفون، وهم هذا العدد الكبير الذي سوف يتعرض لهذه الفتنة العمياء الصماء البكماء، وهم ما زالوا حديثي عهد بإيمان، وبمعرفة الله عز وجل، وبمعرفة آياته، فهم يخافون أن يفتنهم هذا الرجل، أو أن يتراجع من تراجع منهم عن منهجه الذي عاهد الله عز وجل عليه، فعندما قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] خافوا أن يصاب أحد منهم بشيء من الخوف والذعر فيرجع من منتصف الطريق، فدعوا الله عز وجل وسألوه الثبات فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126] أي: توفنا على ملة الإسلام.

تثبيت الدعاة والمصلحين للأتباع وتحذيرهم من الزيغ والنكوص

تثبيت الدعاة والمصلحين للأتباع وتحذيرهم من الزيغ والنكوص ثم أيضاً نجد في المقابل أن المصلحين دائماً يحذرون الأتباع من أن يزيغوا في مثل هذه الفترة العصيبة التي ربما يتعرض فيها الإنسان لهزة من الهزات التي ترغبه في الدنيا وتزهده في الحياة الآخرة، أو تخيفه من الموت حينما يغفل أن الموت قدر وأجل من عند الله عز وجل. فنجد أيضاً أن المصلحين يدعون فيقولون: اثبتوا على هذا الطريق، فنجد موسى عليه الصلاة والسلام يحرضهم على الثبات: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128] موسى أصبح يخاطب الذين ينظرون إلى هؤلاء القوم وهي تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى لا يتراجعوا عن منهجهم الصحيح الذي اقتنعوا به، فيوجه إليهم وسيلة تثبتهم بإذن الله عز وجل ويقول: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، والعجيب أن موسى يقول هذا في فترة ما كان يملك شيئاً من الأرض، ولا كان يملك شيئاً من السلطة، وإنما يملك فقط آية من آيات الله عز وجل، لكنه واثق بأن الأرض ليست ملكاً لأحد، وليست ملكاً لطاغوت أو لحاكم يظن أن هذه الأرض هي له وسوف تبقى له، ولا أحد يستطيع أن ينازعه إياها، فإذا قام المصلحون يريدون تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض في أمة من الأمم خاف أولئك على هذه الأرض، فأصبحوا يبطشون بالمسلمين كل البطش خوفاً على هذه الأرض، ويظنون أن هذه الأرض ملك لهم، والعجيب أن يكون من ورائهم من يعتقد هذه العقيدة، ويظن أن هذه الأرض لفلان وليست لفلان، وأن فلاناً صاحب السلطة لو خرج من ينازعه في هذه الأرض لا يريد الأرض ذاتها، وإنما يريد أن يقيم شرع الله وحكم الله في هذه الأرض، يتصور طائفة من الناس أن هؤلاء ليسوا كفئاً لأن يكونوا في هذا المستوى، فيبنون الأرض لفلان أو لفلان أو لصاحب السلطة، ثم بعد ذلك لا يفكر أحدهم أن هذه الأرض سوف ترجع إلى أصحابها الشرعيين، فالأرض لست ملكاً لهؤلاء الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شرع الله عز وجل، الأرض كما قال الله تعالى هنا: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] فقد يملكها اليوم رجل، وفي الصباح الباكر في ملك رجل آخر، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. فهذه هي الأرض، وهي لمن أراد أن يحكمها بشرع الله، والقوم الذين يعيشون على هذه الأرض لا يتبعون إلا من يحكمهم بشرع الله عز وجل؛ ولذلك فقد أخبر الله عز وجل في آية أخرى أن الأرض للمؤمنين وليست للكفرة الذين يحكمون بغير شرع الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فهي للصالحين، وليست للفسقة الذين يأخذونها بطريق الانقلابات العسكرية، والثورات الدامية، واستغلال البشر، وملء السجون، ووضع المخيمات التي يسومون فيها المسلمين سوء العذاب، ويظنون أن هذا العرش ملك لهم، وأن هذه الأرض ورثوها كابراً عن كابر، الأرض ليست لهم وإنما هي لعباد الله الصالحين، كما أن الرزق في هذه الأرض وما في هذه الأرض من طيبات ليست ملكاً لأحد وإنما هي للمؤمنين، لكن في الدنيا يشاركهم فيها الكفرة والفسقة كما تشاركهم البهائم. أما في الآخرة فإنها خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] هذه هي الأرض! وهذا هو الرزق! فالأرض ملك لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، والرزق هو رزق الله إنما هو للمؤمنين، ويأكل هؤلاء الكفرة والفسقة من فضلات المؤمنين، لكن المؤمنين يختصون بطيباتها وبرزقها في الحياة الآخرة. ولذلك فإن من ظن أن الإسلام لا يستحق أن يحكم هذه الحياة، وأن هؤلاء الذين يطالبون بأن يحكموا بشرع الله أنهم متمردون، أو أنهم بغاة أو أنهم خارجون، من يعتقد مثل هذا الاعتقاد فقد ذهب بعيداً عن المنهج الصحيح، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون، ولربما تطول فترة من الزمن تصبح هذه الأرض في أيدي غير أصحابها الشرعيين ابتلاءً من الله عز وجل؛ ليعيش أصحابها الشرعيون الذين يجب أن يملكوا هذه الأرض في غياهب السجون أو في المعتقلات أو في المخيمات التي يحكمون فيها بقوة الحديد والنار، لكن هذه إنما هي فترة مؤقتة ومحددة، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي تعود فيها الأرض لأهلها الشرعيين، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، الذين يطالبون بشرع الله، ويقدم لهم الطواغيت الطعام والمغريات فيقول أحدهم: نحن نطالب بتطبيق شرع الله، نحن لا نريد حتى وسائل المتاع البسيطة، وإنما نريد أن نحكم بشرع الله عز وجل، هؤلاء هم أهلها الشرعيون طال الزمن أو قصر، فلا بد بإذن الله عز وجل أن يتحقق هذا الوعد؛ لأن الله تعالى أقسم على ذلك فقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا) (ولقد) الواو هنا للقسم، واللام للقسم، وأكد الفعل بـ (قد) من المؤكدات للفعل الماضي (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد التوراة (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهو يرد أيضاً في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. فلا يستطيل المؤمن الطريق مهما كانت وعرة، ومهما كانت صعبة، ومهما رأينا إخواننا يعيشون في عذاب ليروا أعداء الله عز وجل يحكمونهم بقوة الحديد والنار، فالذي أسقط الشيوعية بعد أن حكمت ثلاثة أرباع قرن من الزمان وهي تحكم أناساً بقوة الحديد والنار، سوف يسقط كل حكم طاغوت يريد أن يحكم هؤلاء الناس بعيدين عن شرع الله عز وجل بقوة الحديد والنار.

نهاية الطغاة فرعون وجنوده

نهاية الطغاة فرعون وجنوده ثم بعد ذلك نهاية الطغاة وشيكة الانهيار، فهذا فرعون قد أخبر الله عز وجل أنه قد أسقط ملكه العظيم على يدي المصلحين من المرسلين عليهم الصلاة والسلام موسى وهارون، ومن تبعهم على هذا الإيمان، فيقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] بدأت الآن النهاية: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] لكن هذه الموعظة وهذا الأخذ المحدود لم يجد في هؤلاء القوم، فكان الأخذ النهائي الذي يقول الله عز وجل عنه، وهو الفرج القريب للمؤمنين والمصلحين، يقول الله عز وجل عن هذا الفرج: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] بماذا؟ بالصبر، لما صبر القوم على مصارعة أعداء الله جاء الوعد الذي قال الله عز وجل عنه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وهذا القسم لا يمكن أن يتخلف، ولربما يتأخر زيادة في الابتلاء والتربية والإعداد، وابتلاء المؤمنين، لكن النتيجة أنه لا بد أن يقع هذا الوعد؛ لأنه جاء بقسم من الله عز وجل، فيقول الله عز وجل عن تحقيق هذا الوعد: بأن أورث المستضعفين الأرض كلها، وآخذ المتجبرين والطغاة، يقول الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:137] بأي سبب؟ ((بِمَا صَبَرُوا)) [الأعراف:137] فالصبر: هو طريق الوصول إلى الخير، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. إذاً: انتهت دولة الكفر التي تقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] انتهت هذه المرحلة، وجاء تحقيق وعد الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف:137]، الذين كانوا يعيشون في مصر بالأمس أذلة، لما صبروا وصابروا ورابطوا، وكانوا عضداً مع أنبياء الله موسى وهارون عليهم الصلاة والسلام {بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:137 - 138].

موسى وقومه يرحلون من مصر

موسى وقومه يرحلون من مصر ثم جاء درس من الدروس العجيبة، درس لا يتأمله إلا المؤمنون، يأذن الله عز وجل لموسى بالرحيل من مصر هو وبنو إسرائيل، ويتجه موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل -كما يقول المفسرون والمؤرخون- مشرقين في آخر الليل، وعند وقت الشروق ينتبه فرعون وقومه بأن بني إسرائيل سوف يهربون، ثم يلحقهم وقد استكمل كل طغاته وعتاته وجنوده من أجل أن يبطش بهؤلاء المستضعفين، ثم يلحق بهم فيكون موسى وبنو إسرائيل بين العدو وبين البحر، وهو موقف محرج لولا أن الإيمان أقوى من ذلك كله، فيلتفت بنو إسرائيل ويقولون لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] العدو وراءنا، والبحر من أمامنا، ماذا نفعل؟! لكنّ موسى عليه الصلاة والسلام الذي رباه ربه سبحانه وتعالى على الإيمان واليقين يعلم أن هذا الدين هو لله عز وجل وليس له، وليس لأحد من الناس، وأن الذي فرض هذا الدين هو الذي سوف يدافع عنه، وأنه الآن لا بد أن تكون هناك حماية، وأن هذا البحر وإن كان مائجاً يغرق، والعدو من ورائهم فتاك عنيد، لكن لا بد أن يأتي الفرج، فيقول موسى عليه الصلاة والسلام: (كَلَّا) يعني: الآن لسنا بمدركين، هم في الحقيقة مدركون حسب الظواهر المرئية؛ لأن البحر من الأمام، والعدو يحيط من الخلف، وسوف يلجئهم إلى البحر ويغرقهم، لكن الإيمان فوق ذلك، فهو يقول: (كَلَّا) ولذلك ما قال: لا، بل قال: (كَلَّا)، وهي أبلغ في النفي وتأكيد النفي: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أنا أسير على منهج من عند الله، أنا لم أسر على غير منهج؛ فربي سوف يوفقني، وفعلاً يهديه الله عز وجل، وتتعطل نواميس الحياة وأنظمة هذا الكون ليتحول ذلك البحر المائج إلى طريق يابسة، إنها قدرة الله عز وجل! ثم يعبر موسى وقومه في اثني عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل وقبائلهم، حتى تجمد البحر، وأصبح طبقاً كالجبال واقفة، وأصبح جدداً -جمع جادة- يسيرون عليها، وكل ينظر إلى الآخر من وراء الماء يطمئن على صاحبه، ويعبرون البحر بقدرة الله عز وجل: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) يتجمد البحر ويتجمد كل شيء، وتتجمد الدماء في عروق الطغاة حينما يزيد بطشهم بالمؤمنين، والله عز وجل من ورائهم محيط. إذاً: المسألة هي قدرة الله عز وجل التي لا تغلب، ويعبر موسى ومن معه إلى الضفة الشرقية، ويعبر فرعون وجنوده داخل البحر، حتى إذا اكتمل موسى ومن معه خارجين إلى الجهة الشرقية، واكتمل فرعون وكل جنوده داخل البحر؛ أمر الله عز وجل البحر أن ينطبق عليهم ليستأصلهم عن آخرهم: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56]. هذا درس يجب أن يفهمه المؤمنون دائماً، ويجب أن يفهموه في ساعة الشدة بصفة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، فالنصر لا يأتي غالباً إلا بآخر لحظة من لحظات الابتلاء، ولذلك أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن معه، فأصبح الأمر آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى.

من الدروس المستفادة من إغراق فرعون وإنجاء موسى وقومه

من الدروس المستفادة من إغراق فرعون وإنجاء موسى وقومه هناك درسان نستطيع أن ننهي بهما البحث في قصة موسى مع بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام: الدرس الأول: لا بد من التغيير، قد يظن بعض الناس أن الدعاء والتضرع -ولو كان بصدق- يمكن أن يخلص المضطهدين والمؤمنين، ولو كانوا على ما كانوا عليه من معصية الله عز وجل، وهذا خطأ واضح جداً، ولذلك أخبر الله تعالى أخبر في القرآن: أنه يأخذ الأمة وهم يتضرعون إذا لم يغيروا، فيقول الله عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]، وهم يقولون: يا ويلنا، فالمسألة ليست مسألة يا ولينا إنا كنا ظالمين فقط. إذاً: ما هو طريق العمل والإصلاح؟ فالأمة ليست مطالبة بالتندم والتحسر على هذا الدين، وإنما هي مطالبة بالإصلاح، ولذلك أخبر الله تعالى في قصة موسى مع بني إسرائيل أنهم بقوا مدة من الزمن يتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويقولون دائماً وأبداً: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]، لكن هذا دعاء ناشف ليس فيه تغيير أبداً، وليس فيه بذل في سبيل الله، ولا تضحية، فقط: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]، فما نفعهم ذلك أبداً وهم يعيشون تحت الذلة والاستعباد؛ لأنهم لم يغيروا، ولم يفكروا بالجهاد في سبيل الله الذي يتخلصون به من الذلة، ولم يقدموا أغلى ما يملكون وهو المال. فبقي بنو إسرائيل مدة طويلة من الزمن قبل أن يأذن الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم بالرحيل من مصر ببني إسرائيل وهم يدعون ويتضرعون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] لكنهم لم يغيروا شيئاً من وضعهم كما يفعله كثير من الناس، يكتفون بالدعاء لكنه دعاء ناشف كما يقولون. فالذي حدث أن الله أرشدهم بأن هذا الدعاء لن يقبل إلا بتغيير وتضحية: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]، وفعلاً بنو إسرائيل نفذوا هذا الأمر من أوامر الله عز وجل فغيروا، فجعلوا بيوتهم مكاناً للعبادة، وأقاموا الصلاة، واستقاموا على دين الله عز وجل، ثم دعوا بعد ذلك مرة أخرى، وانظر إلى الفرق بين الدعاء الأول والدعاء الثاني بعد التغيير: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ما هي النتيجة؟ {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]، لماذا ما أجيبت في الأول وقد مضت عليها سنوات {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]؟ لأنه ليس هناك تغيير في الواقع، فلا بد أن يكون هناك تغيير، وإذا حدث التغيير فالدعوة تستجاب من الله عز وجل. درس آخر نختم به قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر وأقبلوا على الأرض المقدسة أرض الشام، كان بنو إسرائيل -بالرغم من ذلك التكريم من الله عز وجل- كان الخوف يسري في عروقهم، ويختلط بدمائهم؛ فيقبلون على بلاد الشام ويقول لهم موسى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] لكن صاحبهم الخوف؛ لأنهم ولدوا في أرض خوف، وعاشوا في جبن وضعف قد ملأ قلوبهم، فقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، وبالرغم من أن النصائح توجه لهم {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23]، وبالرغم ذلك كله قالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فيقولون لموسى: اذهب أنت وربك قاتل العمالقة في بلاد الشام، ونحن سنجلس هنا، حتى إذا حررتم البلاد دخلناها! هذه هي الأمة التي تقوم على هذا الضعف والإذلال! ولذلك فإننا ننصح من يتولى سلطة من سلطات المسلمين ألا يذل شعبه، وألا يذل أمته؛ لأن هذه الأمة هم سلاحه وعتاده، فحينما يذلهم بالتجسس والأذى والبطش والطغيان سوف لا يكون عنده سلاح ولا عتاد ولا قوة حينما يريد أن يدافع بهم عن حدود بلاده؛ ولذلك حكم الله عز وجل على بني إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء، يقول المؤرخون: حتى فني الجيل الأول الذي ولد في أرض الإذلال والاستعباد، وفي الأربعين السنة هذه ولد ونشأ جيل جديد ما عاشوا على الإذلال، فدخلوا بعد ذلك الأرض المقدسة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الدعاة المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والحمد لله رب العالمين.

أسباب النصر والهزيمة

أسباب النصر والهزيمة جعل الله للنصر أسباباً لا يمكن للإنسان الانتصار إلا بها، وقد بين الله تعالى هذه الأسباب في كتابه، ورسوله في سنته، ويوم أن عمل بها رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كان النصر حليفهم، فملكوا مشارق الأرض ومغاربها، فإذا أردنا أن ينصرنا الله فلنحقق هذه الأسباب في واقعنا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

أزلية الصراع بين الحق والباطل

أزلية الصراع بين الحق والباطل بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فما أجمل استغلال الساعات العصيبة التي نرجو الله سبحانه وتعالى فيها أن يهلك الظالمين بالظالمين، ويخرج المسلمين من كيدهم سالمين! إن الموضوع الذي نتناوله هنا يتعلق بشكل كبير بأحداث الساعة، وهو: أسباب النصر وأسباب الهزيمة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لنقول ما ينفعنا والمسلمين! قبل الحديث في هذا الموضوع نحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: أن نرجع إلى المنهج الصحيح المثبت في كتاب الله عز وجل وسنة وسيرة رسوله خير البرية عليه الصلاة والسلام، وسيرة أصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. الأمر الثاني: أن نعي خطورة الموقف. ومن خلال ذلك نستطيع -بتوفيق الله تعالى- أن نستشف أسباب النصر وأسباب الهزيمة. إن الصراع بيننا وبين عدونا قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] فكانت هذه هي البداية، وسيبقى الصراع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولا يمكن أن ينتهي هذا الصراع أبداً؛ ولذلك شرع الجهاد، ولم يزل قائماً منذ صدر الإسلام، اللهم إلا في فترات يضعف المسلمون فيها عن الجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن الأمة الإسلامية مسئولة عن رفع راية الجهاد في كل فترة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فهذه غاية، بل ونهاية آخر مرحلة من مراحل التكليف بالجهاد، الذي بدأ بالأمر بالصبر في مرحلته الأولى -المرحلة المكية- ثم تلا ذلك الأمر بدفع العدو في أول المرحلة التالية -المرحلة المدنية- ثم قتال العدو أو أخذ الجزية منه في المرحلة الوسطى، ثم المرحلة الرابعة والأخيرة -وهي التي يجب أن يعيها المسلمون دائماً وأبداً- ألا يوضع السلاح ولا يترك الجهاد طاعة لله عز وجل القائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. وإن كان الواقع خلاف ذلك فالمسلمون مسئولون عن التقصير، إذ ركنوا إلى الدنيا ولم يقوموا بهذا الدور، وهذا عين التفريط في أمر من أعظم الأمور التي حملهم الله عز وجل مسئوليتها، وتجاهل أكثرهم أنهم إذا تركوا الجهاد ذلوا، وتسلط عليهم أعداؤهم، وغزوهم في عقر دارهم. فيجب أن يكون الجهاد في سبيل الله مرفوع الرايات كما قال الله عز وجل: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، ونريد هنا أن نفهم معنى الفتنة، فالناس في أيامنا الحاضرة لا يفهمون عن الفتنة إلا أنها الاضطرابات وعدم الانضباط وعدم استقرار الأمور، لكن الفتنة في مفهوم القرآن الكريم هي: الكفر والردة عن الإسلام، ولو كانت الأمور المعيشية مستقرة استقراراً كاملاً، وهادئة هدوءاً منتظماً، فما دام أن في الأرض من يدين لغير الله، ومن يعبد غير الله، وما دام أن فيها نظاماً أو أمة تحكم بغير شرع الله، فهذه هي الفتنة التي أُمرنا بالجهاد حتى لا تكون هذه الفتنة قائمة، ولو كانت الأمور المادية مستقرة. هذا هو مفهوم الفتنة -الذي يجب أن يفهمه المسلم- بدليل قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] وهذا -أيضاً- يبين أن الغاية من منع قيام الفتنة هي حفظ دين الله تعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، ويقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] وهذا دليل على أن الفتنة شيء والقتل شيء آخر، والفتنة أشد وأكبر من القتل؛ فتأمل!! وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] أي: عن أمر رسوله عليه السلام {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: كفر أو ردة عن الإسلام {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فالفتنة هنا تفيد شيئاً آخر غير العذاب. فعلى المسلمين أن يصححوا هذا المفهوم، فإذا استقرت الأمور مادياً مع وجود بلاء ومصائب، وإجرام وفساد في الأرض، وردة عن الإسلام؛ فهذه هي الفتنة؛ وإذا وجد الخلاف والنزاع في الأرض على الحق، وفي سبيل البحث عن الحق، فليست هذه هي الفتنة؛ وهذا هو مفهوم القرآن الكريم. فعلى المسلم أن يعرف أن الصراع بينه وبين عدوه قديم قدم الحياة الدنيا، وباق حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا مجال لترك الجهاد في سبيل الله تعالى. وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن هذا الواجب يتحرك العدو مستهدفاً دينهم وأنفسهم وأرضهم وأموالهم، ولا يوقفه عن عدوانه ويكف كيده ويطفئ ناره إلا الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله جل وعلا؛ لأننا عرفنا هذا العدو جيداً، وأنه كالفئران لا تتحرك إلا حينما تهدأ الأمور.

الأسباب المؤدية إلى تنزل النصر عند لقاء العدو

الأسباب المؤدية إلى تنزل النصر عند لقاء العدو الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة التي بواسطتها نستطيع أن نزيح الفتنة عن الأرض؛ وبالجهاد في سبيل الله يكون الدين كله لله، فلا يبقى نظام لله ونظام لقيصر، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن يكون الدين كله لله، ولتحكم هذه الأرض كلها بشريعة الله، ولا تُحكم بقوانين البشر وآراء الرجال؛ وعندها سيتحقق هذا الهدف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. فالأمة الإسلامية مطالبة بالجهاد في سبيل الله، لا سيما حينما يهجم العدو على بلاد المسلمين، فإن النفير يصبح إجبارياً واجباً، ويصبح فرض عين على كل واحد من المسلمين أن يجاهد في سبيل الله، كيف لا والمسلم قد أبرم بيعة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى؟! وهذه البيعة استوفيت فيها كل شروط وأركان البيع المعهودة المعروفة عند الفقهاء، وهذه البيعة موثقة في كل الكتب السماوية، وقد جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] وأركان البيع الأربعة موجودة في هذا السياق، وهي البائع وهو: المسلم، والمشتري: وهو الله عز وجل، والسلعة وهي: النفس والمال، والثمن: وهو الجنة، وهذا البيع نافذ وليس فيه خيار، ثم وثق الله تعالى هذا البيع في الكتب السماوية حيث قال: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآن) ولما سمع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه هذه الآية قال: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، قال: يا رسول الله! والله ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل). وقد التزم سلف هذه الأمة بهذه الوثيقة الربانية، فبعد نزول هذه الآية وأمثالها جعل المسلمون يخرجون كافة من المدينة للجهاد، ولم يستثن أحد منهم نفسه، حتى أمرهم الله عز وجل أن تتفرغ منهم طائفة لطلب العلم بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] وهكذا كانت تؤثر الآية القرآنية في المسلمين. وقد جاء الوعد الحق من الله عز وجل ومن رسوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيله بالدرجات العلى في الجنة، كما جاء في الحديث: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله) فإذا كان ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ فأعلى درجة كما بين السماء والأرض، مائة درجة بهذا القدر للمجاهدين في سبيله تعالى. وأما عن المسئولية عن تعطيل الجهاد فالمسلمون هم الذين يتحملون مسئولية تعطيل الجهاد في أي فترة من الزمن، ويكون تسلط العدو على المؤمنين بمقدار ما يعطلون من هذا الأمر العظيم (وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا). بل إنه يوشك أن يكون ترك الجهاد ردة عن الإسلام، وقد روي عن النبي عليه السلام قوله: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر -يعني: انشغلتم بالحرث عن الجهاد- سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا يقال: (حتى تراجعوا دينكم) إلا لمن تركه أو قارب!! والجهاد في سبيل الله كما علمنا واجب حتمي، وأما ما يترتب عليه من نصر فلا يحصل عليه كل الناس، فالنصر لا يكون إلا بشروط بينها الله تعالى في القرآن، والذي يقرأ التاريخ يرى كيف استطاعت الأمة الإسلامية أن تحقق النصر والقيادة والريادة في العالم عبر التاريخ الطويل، عندما تمسكت بشروط وأسباب النصر، وكيف تأخرت وتخلفت وانهزمت حينما تركت هذه الأسباب. وهذه الأسباب بيَّن الله تعالى أكثرها في سورة الأنفال، وهي السورة العظيمة التي نزلت لتتحدث عن موقعة بدر، وتتكون من ست وسبعين آية كلها تتكلم عن التربية المعنوية، ما عدا آية واحدة تناولت التربية المادية والإعداد، وهي قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا استثنينا هذه الآية، فيصح أن نقول: إن السورة كلها تتكلم عن تربية هذه الأمة وإعدادها إعداداً معنوياً للجهاد في سبيل الله. وبإمكاننا أن نجملها في ستة أسباب ثم نبيّن مدلولاتها، وهذه الأسباب الستة يقول الله تعالى عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:45 - 47].

السبب الأول: الثبات وعدم الفرار

السبب الأول: الثبات وعدم الفرار أول هذه الأسباب: الثبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] أي: إذا قاتلتم جماعة من الكافرين {فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]. والثبات: حسي ومعنوي، والأمر بالثبات في الآية يشمل الأمرين جميعاً: الثبات الحسي؛ والثبات المعنوي. أما الثبات الحسي فهو: ما نعرفه في أحكام الشرع من عدم الفرار عند الزحف، والفرار عند الزحف من الكبائر العظام عند الله عز وجل؛ لأنه يؤدي إلى أن يختل نظام الجيش المسلم، فيشجع -بفراره- جزءاً منهم على الفرار، ويبقى جزء منهم يتعرض للفناء، كما أن العدو أيضاً يطمع في هزيمة المسلمين حينما يفر منهم من يفر من الزحف، فالله سبحانه وتعالى الذي شرع حد المرتد عن الإسلام -لأنه يطعن في الإسلام بدخوله فيه ثم خروجه منه- هو الذي حرم الفرار من الزحف؛ لأن ذلك يعني أن الجيوش الإسلامية أصبحت ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تقف أمام عدوها، ولذلك كان الفرار من الزحف من الكبائر. وهناك آية أخرى قد يفهم بعض الناس أن بينها وبين هذه الآية تعارضاً، وهي قوله تعالى في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:15 - 16] فالأمر في تلك الآية مطلق (فاثتبوا)، بينما هذه الآية جوزت التولي من موقع المعركة في حالتين: 1 - أن يكون متحرفاً لقتال: فالمقاتل له أن يبحث عن مكان وموقع أحسن لمواجهة العدو، وهذا ما يسمى بـ (تكتيك القتال). 2 - أن يكون متحيزاً إلى فئة: أي: يرى جماعة من المسلمين قد أحاط بها العدو، فيريد أن ينصر هذه الجماعة من المسلمين. وعلى هذا نقول: تحمل تلك الآية المطلقة على الآية المقيدة: أي: (فاثبتوا) إلا في تلك الحالتين اللتين ذكرهما الله تعالى بقوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:16]. أما أن يكون المسلم جباناً في نفسه، فما أن يدخل المعركة، ويرى العدو أمامه حتى يفر منه كاشفاً بذلك عورة المسلمين، فذلك أمر محرم شرعاً، وهو أمر خطير يعطي صورةً سيئة عن الإسلام، ويعرض الأمة المسلمة إلى الفناء والدمار، فيتسلط العدو على البقية الباقية التي لم تفر فلا تستطيع المقاومة؛ لأن نظام المعركة قد اختل. لكن هذا الأمر بحرمة الفرار مقيد بمقاييس معينة، وهذه المقاييس نجدها في قوله تعالى في آخر السورة: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65]. ومعنى ذلك: أنه لا يجوز الفرار من الزحف ما دامت نسبة المسلمين إلى الكفار قد بلغت واحداً إلى عشرة، ثم نُسخ هذا، وخفف عن الأمة الإسلامية هذا العدد وهذا المقياس، فألزم الله عز وجل أن يقف المسلم أمام اثنين والمائة أمام مائتين، وذلك في قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66]. ومعنى ذلك: أن الأمر الذي استقر عليه الإسلام أن عدد الكافرين إذا كان ضعف عدد المسلمين فلا يجوز الفرار من الزحف، وإذا زاد العدد أكثر من ذلك، فللمسلمين أن ينسحبوا بطريقة منظمة تحددها قيادة الجيش، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه في يوم مؤتة حينما تسلم قيادة الجيش بعد مقتل القادة الثلاثة، عندها وجد خالد أن جيش المسلمين بأعداده القليلة لا يقوم لجيش الروم بأعداده الهائلة، فسارع بإعادة تنظيم جيشه، وانسحب بالمسلمين بطريقة منظمة؛ ليحافظ على بقية الجيش الإسلامي، وهذا لا يعد فراراً من الزحف. وعلى كل فهذا الأمر مقرر في كتب الفقه، بل إن له أدلته من نصوص القرآن، لكن هناك ثبات يغفل عنه الناس، وأرى الحاجة إليه ملحة جداً في أيامنا الحاضرة: وهو ثبات القلوب والأفئدة ثبات العقيدة، فلربما يعتمد الناس على غير الله، ولربما تعلقت قلوبهم بغير الله، وتزعزعت عقائدهم وانهارت معنوياتهم إذا واجههم عدو متسلط وطاغية من طغاة الأرض، وعاث جنوده في الأرض فساداً، وداسوا التوراة والإنجيل والقرآن بأقدامهم، وهذا منهج من مناهج مبدئهم، ولا عجب! وهو من المبادئ المتبعة لدى هذه الأحزاب التي تحاربنا اليوم. وتعلق الناس بغير الله في مثل هذه الأيام هو الشيء الذي أصبحنا نخاف منه اليوم؛ لذلك نرى أن كثيراً من الناس تعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على القوة الكافرة، واعتبر أن القوة البشرية هي النصر، لم يقل: إنها سبب النصر، وإنما قال: هي النصر! وحقيقة الأمر أن هذه القوى هي أسباب، وإذا أراد الله تعالى أن تكون سبباً للنصر كانت كذلك، وإذا أراد الله تعالى أن يبطل مفعولها فلن يكون لها أثر في ترجيح كفة المعتمدين عليها؛ لأن كل شيء بيد الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون النصر بيد الخلق، والله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. ويظهر ذلكم النصر الإلهي جلياً في معركة بدر إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر مقاتلاً، يلاقون ألفاً من الكافرين، فلم يكن هناك تكافؤ في العدد ولا في العدة، فالمسلمون لا يملكون من السلاح ما يكفيهم، فما لبثت أن جاءت أوامر الله سبحانه وتعالى التي أصدرها للملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12] فجاء الخبر أولاً: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فما معنى مردفين؟ معناه: أن كل واحد من الملائكة أردف معه مجموعة، حتى بلغت هذه المجموعة خمسة آلاف من الملائكة كما أخبر الله عز وجل في سورة آل عمران: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] فكانت الملائكة في بدر خمسة آلاف؛ وكل واحد من هؤلاء الملائكة مسوم، وموجه من عند الله، ومزود بالسلاح، وكان جبريل أحد هؤلاء الملائكة، وهو -كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم- له ستمائة جناح، ويستطيع أن يحمل الأرض كلها بجناح من أجنحته ويقلبها، كما فعل بديار قوم لوط، لكن الله جلت عظمته أراد أن يكون ذلك زيادة في التنكيل بالمشركين، وشرحاً لصدور المؤمنين. وما جاء هؤلاء الملائكة المسومون بالنصر، إنما قال الله تعالى عنهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران:126] فكان نزولهم مجرد بشرى، ولكي تطمئن القلوب، ولكي يستبشر الناس بأن النصر قد أقبل، وحتى ينام المسلمون في تلك الليالي آمنين مطمئنين وهم ينتظرون موقعة بدر، ومن أجل ألا تؤرقهم هذه الأحداث وتزعجهم، فالنصر ليس من هؤلاء الملائكة الخمسة الآلاف، إنما النصر يأتي من عند الله، ولذلك قال الله تعالى عن هؤلاء الملائكة الألف المردفين الذين تعدادهم خمسة آلاف وجبريل معهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]. ومعنى ذلك: لو جاءت جنود الأرض كلها لتحمي بقعة من الأرض -ونحن لا نناقش مسألة جواز الاستعانة بالكفار ودخولهم جزيرة العرب؛ لأن هذا الأمر أصبح واقعاً- فلن تستطيع أن تأتي بالنصر، فالذي يأتي بالنصر هو الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، (وما النصر إلا) تفيد في لغة العرب الحصر، بمعنى أنه يستحيل أن يأتي النصر حتى من هؤلاء الملائكة، وليس هؤلاء الذين جيء بهم ليدافعوا عن بلاد المسلمين أقوى من الملائكة. وقبل نهاية الكلام عن السبب الأول من أسباب النصر أؤكد على أنه لابد من فهم معنى قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] لابد أن تثبت العقيدة، وأن تستقر النفوس إلى أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل، وأن هذه الأسباب لا تغني من الله عز وجل شيئاً، ولذلك يقول العلماء: الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى عقل، والاعتماد على الأسباب وحدها كفر بالله تعالى، وإلغاء الأسباب نقص في العقل، معنى ذلك: أنه لابد من الأخذ بالأسباب بشرط أن يقترن بها الاعتماد على الله سبحانه وتعالى. فواجبنا الذي يحتمه علينا ديننا هو: الثبات في مثل هذه المواقف الرهيبة التي تعيشها أمتنا اليوم: ثباتاً في الميدان عند ملاقاة العدو، وعدم الفرار من الزحف، وثباتاً في العقيدة والنفس بحيث يشعر هذا المسلم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى. وحين ينزل الله نصره فإن أكثر ما يخشى على الناس هو اهتزاز عقيدتهم، فيؤدي ذلك إلى أن تتعلق النفوس بهؤلاء الكفرة الذين استعان بهم المسلمون، ثم تزيد الأمور خطورة، ويُنسى مالك النصر وواهبه وهو الله سبحانه وتعالى الذي يُنزل النصر. فمن لوازم اليقين بالله أن يتعلق القلب بالله، وتترسخ الثقة به عز وجل قبل المعركة وبعد المعركة، وحتى نلقى الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يكون ثبات العقيدة في القلب والجنان ثباتاً يوافقه القول والعمل؛ حتى لا نطلب النصر -دائماً وأبداً- إلا من عند الله سبحانه وتعالى.

السبب الثاني: الإكثار من ذكر الله وخاصة في ساحة المعركة

السبب الثاني: الإكثار من ذكر الله وخاصة في ساحة المعركة السبب الثاني لتنزل النصر: ذكر الله، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فذكر الله سبحانه وتعالى من أكبر أسباب النصر، ولذلك كانت الحصون تهتز وتتساقط ويستسلم أهلها حينما يسمعون تكبير المسلمين قائلين: الله أكبر، وكان كلما استعصى فتح حصن من الحصون في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد سلفنا الصالح -في عهد الفتوحات- كان ترديدهم (الله أكبر) أشد من القنابل الموجودة في عصرنا الحاضر، إذ كانت تهتز لها الحصون، وتتساقط بإذن الله عز وجل، ويدخلها المسلمون فاتحين. وهذه القوة البشرية الموجودة في الأرض هي تحت تصرف الله عز وجل، وفي قبضته، والله تعالى أكبر منها وأكبر من قوى الدمار والشر التي يملكها البشر؛ ولذلك لابد من ذكر الله عز وجل سواء كان الذكر باللسان أو بالجوارح أو بالقلب. فذكر القلب: أن يتعلق بالله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه. وذكر الجوراح: بالعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى. وذكر اللسان: اللهج بالثناء عليه وتسبيحه وتحميده. أما إذا كان المسلمون قبل المعركة في لهو ولعب حتى يفاجئوا بساعة الصفر، فلن يتحقق النصر لأمة هذه حالها -في مثل هذه الظروف- ولن يتم النصر إلا إذا تعلقت هذه الأمة بالله عز وجل. ولذلك يقول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فالتضرع هو المطلوب في مثل هذه الظروف، فعلينا دائماً أن نرفع أكف الضراعة إلى الله عز وجل: يارب! يا رب! هذا هو التضرع. يقول الله تعالى عن الأمم التي أنزل بها بأسه وعذابه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]. فنعلم يقيناً أن الكفار والطغاة والظلمة والمتجبرين لا يتسلطون على بلاد المسلمين إلا بتسليط من الله عز وجل، وهذا عذاب من عند الله؛ لأن الأمة الإسلامية قد ارتكبت كثيراً مما حرم الله عز وجل، وإن إرهاصات هذا العذاب قد بدأت، ولعلها تكون تربية من الله عز وجل وإنذاراً لهم لعلهم يرجعون، فإن الله تعالى يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فالفساد موجود في البر والبحر، وحتى في الجو. وهذه الأحداث ربما ترد الناس إلى دين الله عز وجل، وتعيدهم إلى الحق، وتعلمهم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] و (لعل) إذا جاءت من الله فليس معناها الترجي ولا التوقع كما نعرفها في لغة العرب، وإنما معناها: تحقق الوقوع وتأكيده، فمدلول الآية تأكد رجوع الخلق إلى الله إذا أذاقهم بعض العذاب على ما اجترحوه من الشر، وهذه بشرى من الله سبحانه وتعالى، حيث بين الله أن الناس عند الشدة يلجئون إلى التوسل والخضوع بين يدي الله عز وجل. بل إن المشركين كانوا إذا ركبوا في البحر وهبت ريح عاصف، واضطربت السفينة يفزعون إلى الله عز وجل، ولا يفزعون إلى أحد سواه، حتى الأصنام التي نصبوها حول الكعبة -وعددها ستون وثلاثمائة- لم يكونوا يفزعون إليها في حال الشدة، وإنما يرجعون إليها في حال الرخاء، أما في الشدة فكانوا يفزعون إلى الله عز وجل وحده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، وقال جل في علاه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] فهذا حال أولئك المشركين الذين يعبدون الأوثان، وأولى بها أن تكون صفة من صفات المؤمنين الموحدين. ولكن لما فوجئت هذه المنطقة -أسأل الله أن يحفظها بحفظه- بهذه الأحداث على أيدي هؤلاء الطغاة الذين يريدون بها سوءاً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ رأينا أناساً فزعوا إلى كل شيء إلا إلى التوبة، فادخروا الأرزاق والأطعمة والسرج والأشياء التي تتخذ احتياطاً للحرب دائماً وأبداً كما هي العادة، ولكن لم يفكر أحد أن يغير وضع بيته أو سوقه أو مجتمعه أو أهله أو زوجته أو ولده إلا من رحم الله، والخير كثير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لكن الأكثرية الساحقة ما رأينا أحداً منهم فكر في تغيير شيء من واقعه؛ على كل المستويات: الرسمية والشعبية، وربما يكون هناك تغيير بعد هذه الأحداث؛ لأن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يؤدب ويربي هؤلاء الناس ويردهم إليه، كما قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. فإذا كان المشركون يرجعون إلى الله عز وجل في حال الشدة، فنحن أولى أن نرجع إلى الله عز وجل في مواجهة مثل هذه الأحداث، ولعلها من أحلك الفترات -في اعتقادي- التي مرت على هذا البلد منذ سنين طويلة. فمن يراقب الموقف والأحداث فسيقول: إن هؤلاء الناس إما أن يكونوا شجعاناً شجاعة منقطعة النظير، وإما أن تكون القلوب قد ماتت، فإذا كانوا يسمعون بأن عدواً متربصاً مجرماً يملك قوة مبيدة من قوى الأرض المادية، ويهدد بلاد الإسلام، ورغم ذلك لا يزال المسلمون لا يغيرون من حال واقعهم؛ فهذه إما شجاعة منقطعة النظير! وإما غفلة شديدة رانت على القلوب! وكان ما كان؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فالأولى لنا أن نرجع إلى الله، فإن الرسول عليه السلام -وهو الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قام في ليلة بدر يجأر إلى الله عز وجل، مع أنه قائد الأمة، وليس هناك من يعبد الله في الأرض غيره وغير هذه المجموعة التي كانت معه عليه السلام، وسوى عدد قليل ممن بقي في المدينة، فقام عليه السلام يتضرع بين يدي الله، ويناشد ربه أن ينجز له ما وعده، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض) إلى غير ذلك من الأدعية والتضرع بين يدي الله عز وجل، فكان يرفع يديه إلى السماء حتى كان يسقط رداؤه من على كتفيه، فيضع أبو بكر الصديق رضي الله عنه رداءه على كتفيه، ويقول: (يا رسول الله! ارفق بنفسك، فإن الله منجز لك ما وعدك). لكن Q هل المسلمون اليوم يتضرعون بين يدي الله؟ وهل هناك تهجد في آخر الليل وبكاء بين يدي الله عز وجل وتضرع أم أن الغفلة ما زالت تضرب أطنابها في قلوب الناس؟ بل نطلب أقل من ذلك ونقول: هل منا من فكر أن يطهر بيته مما حرم الله من الأفلام والأغاني والموسيقى؟ فالله تعالى يقول: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:45 - 47] فيستمر النقص شيئاً فشيئاً حتى تنتهي النعمة. ثم يبين الله تعالى في القرآن أن سنة الله في هذه الحياة أن يمتحن الناس بالمصائب والبلايا، فإذا لم يجد هذا الامتحان، ولم يرعوِ هؤلاء الناس، فإن الله تعالى يمتحنهم بالنعم والخيرات والأمن والاستقرار، فإذا لم تنفع الثانية جاء العذاب بعدها مباشرة. وهاتان المرحلتان قد أدركتهما في عمري، وأكثر من في مثل عمري قد أدرك هاتين المرحلتين، فلقد كنا في شظف من العيش، وكنا في جوع ومسغبة حتى فجر الله لنا هذه الخيرات من تحت أقدامنا، وكنا في خوف وذعر حتى هيأ الله لنا الملك عبد العزيز رحمه الله، فوحد الجزيرة العربية في ظل الإسلام، وانتهت المرحلة الأولى، ثم جاءت المرحلة الثانية، وأصبحنا في رخاء ونعيم وأمن واستقرار، وإذا قيل لأحد منا: اتق الله يا أخي! أنت في نعمة، وكنت في جوع ومسغبة، يقول: أبي وجدي عاشا تلك الفترة، وقد انتهت! وقد جاء ذكر هذا الموقف كله في كتاب الله عز وجل، حيث قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والبأساء هي: الحروب والفتن وعدم الأمن، والضراء: الجوع والمسغبة، ثم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، والمقصود بالسيئة هنا: الجوع، فأبدل الله مكان الجوع الشبع، حتى إن بعض الناس صار لا يعرف كم مقدار رأس ماله الذي لا يحصر، فصار يتقلب في الخيرات، والنعيم، والقصور، والترف، والرخاء، والطمأنينة. قال: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ) المصائب، (الْحَسَنَةَ) النعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] أي: زادت الأموال وزاد الأهل وزادت القصور، فإذا قيل لهم: اتقوا الله {قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] فيحتج بأن الدنيا تتقلب، وليست هذه ابتلاءات من الله، زاعماً أن آباءه وأجداده ما عاشوا هذه النعمة التي يعيشها اليوم، فما كانت النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. فهذه نتيجة امتحانين وليس امتحاناً واحداً، وقد مرّ هذان الامتحانان بنا جميعاً، وأكثرنا قد أدرك هاتين الفترتين: الجوع والخوف، والشبع والأمن والطمأنينة. ونحن نرى أنه منذ سنوات والعالم يُتخطف من حولنا، ونحن نعيش في ظل حرم آمن، فبمقدار ما طبقنا من شريعة الله عز وجل أعطانا الله من الأمن والرخاء والطمأنينة، وليس معنى ذلك أننا أمة بيننا وبين الله نسب! إنما هي سنة الله تعالى في الحياة: خط مستقيم مرسوم، من سار عليه أمن، ومن انحرف عنه يميناً أو شمالاً عُوقب، ولذلك يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].

السبب الثالث: التزام أوامر الله تعالى ورسوله في كل الأحوال

السبب الثالث: التزام أوامر الله تعالى ورسوله في كل الأحوال ثم يقول تعالى مبيناً السبب الثالث للنصر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:46]. فعند مقابلة الفئة الكافرة في المعركة وقبل مقابلتها وبعد مقابلتها، لابد من طاعة الله ورسوله طاعة مطلقة، لا خلاف فيها ولا اعوجاج ولا انحراف، ليست هناك خيرة، وإنما الخيرة لله عز وجل ولرسوله. فلقد عُوقب الصحابة -وهم خير البرية- يوم أحد بسبب معصية صغيرة، وذلك حينما قال النبي عليه السلام للرماة في ذلك اليوم: (اثبتوا على الجبل، ولا تنزلوا ولو رأيتم الطيور تتخطفنا) فلما تقهقر المشركون، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ظن الرماة الذين كانوا على رأس الجبل أن المعركة قد انتهت، وأن الوقت قد حان للنزول، فنزلوا متأولين، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] وهذه المعصية أحاقت بالمسلمين هزيمة قاسية؛ حتى إن الرسول عليه السلام شج رأسه، وكسرت رباعيته، ووقع في حفرة، حتى أحاط به المسلمون يحمونه ويذودون عنه أذى الكفار، وكل ذلك كان بسبب معصية خمسين رجلاً من المسلمين، لا ملايين البشر، وكانت معصية صغيرة حسب رأيهم، وكانت بتأول، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152]. وإذا بدأنا نستعرض معاصي الناس اليوم في ساعة المعركة، فسيطول بنا المقام، وهي معلومة لدى الجميع، ولكن نقول: إن الله تعالى شكور حليم لطيف، ولولا لطف الله سبحانه وتعالى لما تحقق لنا النصر، لكن الله تعالى قد يعطينا النصر إما امتحاناً، وإما لحملنا على الرجوع إليه عز وجل، ولذلك أقول: لابد من التوبة في مثل هذه الأيام، ولابد من مراجعة الحساب، ولابد من الإنابة إلى الله عز وجل {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:54 - 59] فهذه المعاصي لربما تحبط كل سبب، وتبطل مفعول كل سلاح؛ فلا بد من العودة إلى الله عز وجل. وفي ساحة المعركة يغربل الله عز وجل المؤمنين ويمتحنهم، ولقد ذكر الله تعالى في القرآن قصةً تصوِّر هذا الأمر، ألا وهي قصة جالوت وطالوت، فإن الله سبحانه وتعالى أخرج مع طالوت أمة كبيرة للجهاد في سبيل الله، فانقسموا إلى قسمين: قسم عصوا الله، فتخلفوا عن المعركة، وكانوا يمثلون الأكثرية الساحقة. وقسم التزم بأمر الله عز وجل فتحقق لهم النصر، وإن كان عددهم قليلاً. وتفاصيل هذه القصة أن الله عز وجل بعث لبني اسرائيل ملكاً يُدعى طالوت وأمرهم بالقتال معه، فكان منهم أصحاب مقاييس مادية، نظروا بمنظار مادي إلى طالوت، وقالوا: لم يؤت سعة من المال؛ فكان هذا سبباً من أسباب تخلفهم عن المعركة؛ لأن النظرة المادية دائماً تؤدي إلى الغفلة عن القدرة الإلهية، ومن ثم تؤدي إلى الهزيمة النفسية. ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنهم، فأجرى لهم نهراً بارداً وهم عطاش، فقال لهم: لا تشربوا من هذا النهر إلا بمقدار شربة واحدة واتركوا البقية {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249] وهذه هي المعصية الثانية؛ حيث شرب أكثرهم من ماء النهر ولم يتقيدوا بما أمروا به. ثم بعد ذلك حينما حانت لحظة المواجهة، وقف الناس في جيش طالوت وقد أرهبتهم قوة البشر: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] فكان ذلك سبباً ثالثاً من أسباب الزعزعة التي حلت بجنود طالوت؛ حيث استعملوا المقاييس المادية وغفلوا عن المقاييس الروحانية. إلا أن الفئة القليلة التي ثبتت انتصرت في المعركة لأسباب: أولاً: هذه الفئة لم تشرب من النهر طاعة لله عز وجل. ثانياً: لما رأوا العدو أيقنوا بنصر الله سبحانه وتعالى، وقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فكان تعلقهم بالله لا بالبشر، وكان نظرهم إلى الكيف لا إلى الكم. ثم جاءت القضية الأخيرة وهي التضرع بين يدي الله عز وجل، فلما برز هؤلاء القلة الذين لم يشربوا من النهر، ولم يدخل في قلوبهم خوف غير الله عز وجل، ورأوا العدو؛ تضرعوا إلى الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] ثم تحقق النصر للعدد القليل، وقد خاف من الهزيمة العدد الكثير، قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251]، بالرغم من قلة الأسباب لكن النصر كان بإذن الله. إذاً: فالمقاييس المادية لا تصلح أن تكون ضابطاً لتنزل نصر الله عز وجل أو حلول الهزيمة في حق أي فئة من الفئات.

السبب الرابع: اجتماع كلمة المسلمين وعدم التنازع والاختلاف

السبب الرابع: اجتماع كلمة المسلمين وعدم التنازع والاختلاف السبب الرابع من أسباب النصر هو ما يدل عليه قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. وهذا عامل مهم من عوامل النصر، فإن وحدة الصف تؤدي إلى ظهور مواطن القوة في أي تجمع مهما كان قليل العدد، وبالعكس من ذلك فإن الخلاف شر، والتنازع لا يؤدي إلا إلى الفشل والضعف، وقد بين الله عز وجل عواقب الفشل في هذه الآية بقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. كما بين النبي عليه السلام الحكم على من سعى في تثبيط المسلمين، وذلك في حديث عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: (ثم ستكون بعدي هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر أمة محمد عليه السلام وهم جميع فاضربوه بالسيف)، وفي رواية أسامة بن شريك قال: قال عليه السلام: (فمن رأيتموه يريد تفريق أمر أمة محمد عليه السلام وهم جميع فاقتلوه كائناً من كان من الناس). وهذا الحكم من الرسول عليه السلام إنما يدل على مدى خطورة الفرقة والنزاع على الصف الإسلامي، وقد تجلى هذا الأمر واضحاً في أحداث غزوة أحد؛ حين أقدم المنافق ابن سلول على ترويج بياناته المثبطة، والتي أدت في نهاية الأمر إلى رجوع ثلث جيش المسلمين معه إلى المدينة. ومن هنا فإن التنازع والاختلاف في المجتمع المسلم له آثاره الخطيرة على الأمة، سواء كان هذا التنازع على مستوى الأفراد أو المجتمعات، إلا أن التنازع الأكثر خطراً هو الذي يتولاه ويحمل رايته أهل الريادة والزعامة في الأمة، والذين يمثلهم أهل العلم وذوو السلطان، فالدولة الإسلامية على مر العصور ما فتئت قوية يمتد سلطانها من مشرق الأرض إلى مغربها، إلى أن دب الخلاف بين الأمراء والسلاطين، فأضحى كل واحد منهم يكيد للآخر، إلى أن بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يستعين بالنصارى الصليبيين على جيرانه من الإمارات المسلمة، حتى باتت إمارات المسلمين هدفاً لكل رام، وغرضاً لكل طامع، ومن أمثلة هذه الصراعات والتي سطرها التأريخ بالمداد الأحمر، ما حصل من صراعات وحروب بين أمراء الطوائف في الأندلس، والذي أدى في نهاية الأمر إلى سقوط الأندلس حاضرة الإسلام في أوروبا، والتي ما برح العالم يبكيها عقوداً من الدهر.

السبب الخامس: توطين النفس على الصبر خاصة عند لقاء العدو

السبب الخامس: توطين النفس على الصبر خاصة عند لقاء العدو لا ننسى أن نشير إلى ما قاله الله تعالى واصفاً حال الفئة القليلة من قوم طالوت حين تراءى لهم جالوت ومن معه، فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250]. وهذا هو السبب الخامس من أسباب النصر، ألا وهو الصبر. والمسلم لا يتوقف صبره على مواجهة العدو في ساحة المعركة، بل إنه يشمل جميع نواحي حياته في طريق دعوته ودفاعه عن هذا الدين. ومن أمثلة الصبر في مجال الضغط النفسي الذي يتعرض له المسلم: ما حصل لـ سعد بن أبي وقاص حين أسلم، بينما بقيت أمه على الشرك، فاستعملت هذه الأم كل طريقة لثني ابنها عن اعتناق هذا الدين، فلما عجزت عن ذلك لجأت إلى سلاحها الأخير وهي تعلم مقدار تأثيره على ولدها، فاستغلت حبه لها وبره بها للضغط عليه للرجوع عن دينه، لدرجة أنها امتنعت عن الطعام والشراب، وربطت بين رجوعه عن هذا الدين وبين خروجها من حالة الاضطراب تلك، وخلال ذلك بقي سعد في صراع داخلي بين حبه لأمه وخوفه من أن تهلك نفسها، وبين حبه لدينه ونبيه، والذي لن يتردد في سبيلهما في التضحية بنفسه التي بين جنبيه، فضلاً عن أمه، لكن الصراع بين العاطفة والعقل يغلب فيه العقل حينما يكون الإيمان قد ملأ القلب واستقر في النفس، فقال: (اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني؛ فإن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي) فأكلت في آخر الأمر؛ لما رأت عدم جدوى هذه الطريقة مع ابنها المؤمن، فأنزل الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]؛ لأن العاطفة في هذا الموقف تعد فتنة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، ثم جاء الأمر من الله تعالى بعد ذلك فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] لكن هذا الإحسان لابد أن يكون له ضوابط، فلا يصل إلى درجة أن يتنازل المرء عن دينه، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]. فهذه الفتن قد تعرض على نفوس كثير من الناس: فتنة المال فتنة الشهوة فتنة حب الحياة وكراهية الموت فتنة العاطفة فتنة الأهل والقرابة إلى غير ذلك من الفتن التي تُعرض على كثير من الناس وتتكرر، ولا سيما في هذه الظروف التي بات فيها أبناء المسلمين عرضة لهذه الفتن، وربما تعرض الإنسان لموجة عارمة من الفتن: فتنة مع أبيه مع أمه مع أقاربه مع مجتمعه، ولمواجهة ذلك لابد أن يكون هناك إيمان أصلب من العاطفة، حتى لا ينجرف هذا الإنسان أمام العاطفة، والأمة لا تدرك النصر في هذه الحياة -سواء كان نصراً على النفس أو نصراً على العدو- إلا بالصبر، ولذلك قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا} [الأنفال:46] ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وفيه تعليل للصبر يبين عاقبته حتى يسهل أمره. ومعية الله سبحانه وتعالى هي التي تمهد لكل شيء في هذه الحياة، فإذا كان الله معك وكنت مع الله فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.

السبب السادس: أن يكون الخروج إلى الجهاد طلبا لمرضاة الله ورفعة دينه

السبب السادس: أن يكون الخروج إلى الجهاد طلباً لمرضاة الله ورفعة دينه السبب السادس والأخير من أسباب النصر هو المفهوم من قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] وهذه الآية تحكي قصة خروج كفار قريش في بدر، وذلك حين خرج المسلمون مع رسول الله لاعتراض عير لقريش، فقام أبو سفيان باتخاذ طريق الساحل حتى لا يواجه المسلمين، فلما تم له ذلك أرسل إلى أهل مكة ألا يخرجوا؛ لأن العير قد سلمت من محمد، إلا أن أبا جهل أبى ذلك، وقال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً وننحر الجزور ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان؛ حتى تعلم العرب بمسيرنا فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر، فهو مصمم على أن يحارب الإسلام بالرغم من أن عير قريش قد سلمت! فهو إنما خرج لإحقاق الباطل ولإظهار الفساد والاستكبار في الأرض. وقد نهى الله عز وجل المسلمين أن يخرجوا مثل هذا الخروج، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] أي: بطرين، ومن أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض ويهابوهم، وهؤلاء هم الذين أحلوا قومهم دار البوار، فعلى المسلمين إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله أن يكون خروجهم لهدف سامٍ وواضح، فإن أول سبب من أسباب النصر هو حسن القصد، فيجب أن يكون الخروج من أجل أن يكون الدين كله لله، ومن أجل الدفاع عن بلاد المسلمين ومقدساتهم، ومن أجل ألا يتسلط الكافرون على المؤمنين، وألا تكون للكافر شوكة في هذه الأرض، وألا تطأ الأقدام القذرة أرض الإسلام ومقدسات المسلمين، ومن أجل أن ترتفع راية الإسلام وراية التوحيد، وهذا هو الهدف الذي من أجله يجب أن يجاهد المسلم ويقاتل؛ أما من كان خروجه في سبيل الوطن دون أن يكون قصده الدفاع عن بلاد المسلمين، أو كان خروجه من أجل الشهرة أو يقال: إنه شجاع، فهذا يكون حطباً لجهنم، وقد ورد في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، وجاء فيه: (ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: ماذا فعلت؟ فيقول: أي رب! أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل) فمع أنه استشهد في سبيل الله حسب ظواهر الأمور، إلا أنه يكون من أول من يدخل النار والعياذ بالله. فلابد من إصلاح القلب؛ ولابد من إصلاح القصد، بحيث لا يخرج الإنسان بطراً ولا رياءً، وإنما يكون خروجه من أجل أن ترتفع راية الإسلام، وأن تنخفض راية الشرك والكفر والطغيان في الأرض. أما لو خرج الجيش مغروراً بعدده الكبير؛ أو بعتاده وتقنيته العصرية المتطورة التي بلغت الذروة، ففي مثل هذه الحال يأتي الخطر، خصوصاً إذا صدر هذا الفعل عن أمة مسلمة تخرج مغرورة بقوتها أو بعددها أو بعتادها أو بأسلحتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]. (والبطر) الكبر وهو: غمط الحق واحتقار الناس، (ورئاء الناس) من أجل أن يرى الناس مكانهم في هذه الأرض كما قال أبو جهل عليه لعنة الله! فينبغي لمن أراد الخروج للقتال أن يخرج خاضعاً لله عز وجل، يمد أكف الضراعة لله سبحانه وتعالى، ويستكين لله سبحانه وتعالى، ويطلب النصر من عند الله دون أن يغتر بالقوة. ولقد كان عدد المسلمين يوم حنين اثني عشر ألفاً بقيادة الرسول عليه السلام، وكانت هذه الغزوة بعد فتح مكة، ولم يسبق أن اجتمع مثل هذا الجيش في أي غزوة من غزوات الرسول عليه السلام، وبالرغم من كثرة هذا العدد وقلة العدو كانت المعركة في بدايتها لغير صالح المسلمين، وفر الناس لا يلوون على شيء، وبقي الرسول وحده مع طائفة قليلة. وسبب ذلك: أن أحد المسلمين أخطأ، إذ نظر إلى الجيش الكبير المكون من اثني عشر ألف مقاتل فقال: لن نُغلب اليوم من قلة، وما زاد على هذه الكلمة، فلم يقل: نتحدى القدر، كما يقول ذلك بعض الناس الذين يريدون أن يحاربوا وهم بعيدون عن الله عز وجل، وقد كان قوله: لن نُغلب اليوم من قلة. بحسن قصد؛ فحاقت الهزيمة بالمسلمين، وفر أكثر المسلمين من المعركة وعددهم حينذاك اثنا عشر ألفاً، وما بقي مع الرسول عليه السلام إلا عدد قليل، ثم أمر الرسول عليه السلام عمه العباس أن ينادي: يا أهل الشجرة! يا أهل بيعة الرضوان! فاجتمع المسلمون حول النبي عليه السلام، ودارت المعركة مرة ثانية، ولنا أن نتصور الهزيمة التي كادت أن تنزل بجيش الرسول عليه السلام بسبب كلمة، فلما فاء المسلمون إلى ربهم وعرفوا أنهم بحاجة إلى نصر الله تعالى، دارت المعركة مرة ثانية، وانتصر المسلمون، وقد صور الله تعالى هذا الموقف فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:25] بالرغم من سعة الأرض فقد أصبحت في نظركم ضيقة، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] أي: هربتم من حول الرسول عليه السلام، {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]. فالغرور هو الذي يبطل مفعول القوة، والقوة مهما كانت ضارية فيها العتاد والسلاح والتقنية الحديثة، إلا أنه لا يمكن أن تنتصر إلا بالخضوع لله عز وجل والاستكانة إليه. فلابد من الاستكانة لله عز وجل، والشعور بالضعف أمام قوته، والتضرع بين يديه جلت قدرته؛ فلا ينظر المسلم إلى الكثرة، وإلى عدد الطائرات والأسلحة والأموال والجيش والجنسيات المتعددة، وإنما ينظر إلى شيء واحد وهو أن هذه أسباب إذا أراد الله لها أن تنتصر فستنتصر، ولو كانت أقل بكثير من هذا العدد، وإذا أراد الله تعالى أن تنهزم فستنهزم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]. فيجب علينا تصحيح الهدف، بحيث يكون الهدف هو: الدعوة إلى دين الله، وتطهير الأرض من الفساد، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإذا كان الهدف غير ذلك فالأمر خطير. وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] يدل بمفهومه أنه لابد أن تكون هذه القوة من أجل أن تفتح الطريق لدين الله تعالى حتى ينتشر في هذه الأرض، {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:47 - 48]. وقصة الشيطان معروفة مع ابن آدم، إذ لم يزل يفتنه حتى ورطه وأدخله في متاهات الكفر ثم تخلى عنه، وقد جاء الشيطان إلى أهل مكة في يوم بدر، وكانوا خائفين من كنانة، فقال لهم: (إني جار لكم)، أي: أنا أحميكم من كنانة، وما زال بهم ليخرجوا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم حتى خرجوا، فلما تراءى الجمعان ورأى الشيطان الملائكة تنزل من السماء هرب ورمى نفسه في البحر: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48].

تجديد العهد مع الله تعالى

تجديد العهد مع الله تعالى إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى أن تجدد العهد مع الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي ساعة الصفر التي تعيشها أمتنا ومنطقتنا هذه لابد من التوبة الصادقة، والاعتماد على الله عز وجل وحده، ولابد من تفقد أمور المسلمين، ونوجه هذا النداء أولاً إلى المسئولين عن هذه الدولة، ونظن فيهم خيراً كثيراً إن شاء الله. ونقول: إن قوى البشر التي ملأت هذه الأرض لا تستطيع أن تدفع عنا أمراً من أمور الله عز وجل، والله هو الذي يدافع عن الذين آمنوا، وهذه القوى إنما هي أسباب قد تنفع وقد لا تنفع، فلابد من العودة إلى الله عز وجل، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد فتح تبارك وتعالى أبواب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، فلابد من إزالة كل محرم من المحرمات التي لا ترضي الله عز وجل حتى يتم النصر، ولابد من محاربة الربا، وإصلاح الإعلام، وإصلاح جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولابد من إصلاح أمور كثيرة يعرفها الناس، وهي من بدهيات هذا الدين، وهي تمثل المنهج السليم الذي يجب أن يكون عليه المسلم. ولا نقول هذا الكلام لغاية ما؛ كما يفعل العلمانيون في أيامنا الحاضرة، والذين يريدون أن يربكوا الدولة في ساعة الصفر، ولكن نقوله ونحن على ثقة بأن الله سبحانه وتعالى سوف ينصرنا بمقدار ما نعزم في قلوبنا على أننا سوف نصلح حينما تستقر الأمور وتعود إلى طبيعتها، فنحن لن نكون كالعلمانيين الذين ما إن طوق العدو بلادنا حتى بدءوا يربكون الدولة من الداخل، ويثيرون القضايا، لكننا سنقدم أنفسنا ودماءنا وكل ما نملك في سبيل الله وفي سبيل الدفاع عن أرض الإسلام؛ لا لأنها أرض وتراب، ولكن لأنها أرض الإسلام وأرض المقدسات، وهي معقل الإسلام الأول والأخير، وفيها قبلة المسلمين. وإننا في نفس الوقت نطالب من المسئولين أن يستعرضوا الساحة التي يعيشون عليها، وما فيها مما يتنافى مع دين الله عز وجل، وتعاليمه وسلوكه وآدابه، بحيث يتم الإصلاح، وسوف يتم الإصلاح إن شاء الله بجرة قلم منهم إذا أرادوا؛ لأنهم يملكون هذا الأمر، ونحن نملك أن ندعو الله عز وجل أن يثبت أقدامهم ويوفقهم. ولكن أيضاً لا ننسى أن الشعوب هي مسئولة عن كثير من هذه الأخطاء الموجودة في الساحة، فلابد لكل واحد منا أن يستعرض أمامه ما في بيته، أو ما يستطيع إنكاره مما حرم الله عز وجل، فيعاهد الله عز وجل على التوبة، والله سبحانه وتعالى كريم، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، ونصر الله عز وجل قريب: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فما علينا إلا أن نتعامل مع الله عز وجل بالإحسان، ثم بعد ذلك نأخذ بأسباب النصر ونعتمد على الله عز وجل. أسأل الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الظروف الشديدة أن يوفق ولاة المسلمين للعمل بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وأن يعينهم على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يفسد في هذه الأرض، أو يجر على هذه الأمة الويلات والفتن. اللهم إنا نتوجه إليك -يا أرحم الراحمين- أن تردنا وأن ترد المسلمين إليك رداً جميلاً، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كل معصية نراها أو نسمعها، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم وأبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا رب العالمين! اللهم إنّا نسألك نصراً مؤزراً مبيناً. اللهم عليك بأعدائك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم عليك بطغاة الأرض وجبابرتها، رب لا تذر على الأرض منهم دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، وأرح المسلمين من شرهم، يا رب العالمين! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم أن تزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائنا، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم انصرنا عليهم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

ويمكرون ويمكر الله

ويمكرون ويمكر الله لا يزال الكفار والمنافقون يؤذون الله ورسوله والمؤمنين، ويمكرون المكر الشديد في محاربة الإسلام والمسلمين، ولذلك يسلط الله عليهم في آخر الزمان عباده المؤمنين، ويمكنهم من رقابهم. ومن رحمته سبحانه أنه فتح باب التوبة لكل من أراد العودة إلى الدين، والكف عن إيذاء عباده المؤمنين، ومن لم يتب فإن الله له بالمرصاد.

أسباب تسليط الله للمؤمنين على الكافرين

أسباب تسليط الله للمؤمنين على الكافرين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه حلقة جديدة في موضوع آيات القتال والجهاد في سبيل الله من سورة الأنفال التي تتحدث بمجموعها عن الجهاد في سبيل الله، وتتحدث بصفة خاصة عن موقعة بدر وأسبابها، والسر في انتصار المسلمين وانهزام الكافرين. يقول الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:30 - 32] إلى آخر الآيات.

مكرهم برسول الله عليه السلام

مكرهم برسول الله عليه السلام إن هذه الآيات والتي قبلها تتحدث عن الجرائم العظيمة التي من أجلها سلَّط الله تعالى المؤمنين على الكافرين، وتقدم لنا الجريمة الأولى من جرائمهم، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وتلك الجريمة كانت هي الشرارة التي من أجلها كانت موقعة بدر، ومن أجلها سلط الله المؤمنين على الكافرين ونصرهم عليهم؛ لأنهم أخرجوا رسوله عليه السلام من مكة بغير حق، وطاردوه عند خروجه إلى المدينة. فالله عز وجل يسلط على من يتجرأ على حدوده جنداً من جنوده وأولياء من أوليائه، ولربما يسلط على المسلمين فجرة كفرة بسبب بعدهم عن الله سبحانه وتعالى، لا عجب من ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، وإذا كان الله تعالى قد سلط المسلمين على المشركين الوثنيين في يوم بدر، فقد سلط على المسلمين في فترات كثيرة متقطعة من التاريخ أعداء أبعد منهم عن الله عز وجل، وقد يسلط الله تعالى على المسلمين المنحرفين كفرة بسبب ما كسبت أيديهم، فلله عز وجل جنود السماوات والأرض يسلط من يشاء على من يشاء.

ادعاؤهم المقدرة على الإتيان بمثل القرآن

ادعاؤهم المقدرة على الإتيان بمثل القرآن والجريمة الثانية التي استحقوا بها الهزيمة هي ادعاؤهم المقدرة على الإتيان بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]. لقد كان النضر بن الحارث ومن على شاكلته من الوثنيين المعاندين إذا سمعوا القرآن سخروا منه، وقالوا: هذه أساطير الأولين؛ كما هو منطق كثير من المعاندين للإسلام اليوم، ولربما يكون بعضهم من المحسوبين على الإسلام، كما قال طاغية من طغاة الأرض ذات يوم: إن العقل لم يعد يصدق بما يقوله محمد في القرآن من عصا موسى، وقصة أصحاب الكهف، وإن محمداً يأتي بخرافات ويضعها في القرآن فأخذ الله عز وجل هذا القائل أخذ عزيز مقتدر، ولربما أخذ الله أمة بسبب مقالة رجل يتعدى حدود الله عز وجل ويتجرأ على دينه إذا سكتت عن مثل هذا القول الذي قاله رجل في عهد الرسول عليه السلام. يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال:31] أي: سمعنا ما تقوله يا محمد، {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] أي: إن القرآن كلام نستطيع أن نقول مثله، ولذلك وجد منهم من عارض القرآن وسخر منه وجاء بشيء مضحك زعم أنه يشبه القرآن! وهؤلاء هم المستهزئون الذين يقول الله تعالى عنهم في سورة الحجر: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]. ثم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] أي: ما هذا إلا قصص وخرافات من الأولين يأتي بها محمد ويضعها في القرآن، ويقصدون بأساطير الأولين ما قصَّه الله تعالى من أخبار الأمم السابقة الذين في قصصهم عبرة لأولي الألباب. فهذه هي الجريمة الثانية من جرائم القوم، والتي كانت سبباً في تسليط المسلمين على المشركين، فليحذر المنسوبون للإسلام الذين يتجرءون في مثل هذه الأيام على مثل هذه المقالات، ويطعنون في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، ويسخرون من المسلمين ومن دينهم فليحذروا أن يجروا قومهم إلى دار البوار والهلاك والدمار؛ بسبب ما تتفوه به ألسنتهم.

طلبهم إنزال العذاب بهم

طلبهم إنزال العذاب بهم قال سبحانه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] وهذه المقولة قالها أيضاً النضر بن الحارث ومن معه من كبار المعاندين للإسلام، وكان المفروض أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه؛ فإن هذا هو أقل ما يقال في حال الشك أو البعد عن الله عز وجل. وقراءة: (الحقَّ) بالنصب على أن (هو) ضمير فصل ليس له محل من الإعراب، واسم كان: (هذا) وخبرها: (الحقَّ)، أما قراءة: (الحقُّ) بالرفع فعلى أنها خبر المبتدأ (هو) باعتباره مبتدأ، والجملة الإسمية هي خبر كان. وإنما قال النضر بن الحارث ذلك تأكيداً منه على أن هذا القرآن ما جاء من عند الله، لا أنه يريد حجارة تنزل عليه من السماء، إنما يريد تأكيد الخبر، ويريد أن يثبت للقوم بأن هذا القرآن لم ينزل من عند الله -كما يزعم- ويقول: يا رب! إن كان القرآن نزل من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] يطلب العذاب أياً كان، وهذا العذاب من السهل أن ينزل؛ لأن القوم تجرءوا على حدود الله، وكفروا به، وسخروا من كتابه، وآذوا رسوله عليه السلام، وأخرجوه من بلده، وحاربوا الإسلام، ووقفوا له عند كل مرصد، لكن حلم الله عز وجل أكبر من ذلك، فالله تعالى لا يعاجل هذه الأمة بالعقوبة، والسر في ذلك: أنها آخر أمة، وكونها آخر أمة فستظل باقية، تتناقل الإسلام جيلاً بعد جيل.

أسباب رفع العذاب والشدائد

أسباب رفع العذاب والشدائد

ما جعله الله لهذه الأمة أمانا من الاستئصال

ما جعله الله لهذه الأمة أماناً من الاستئصال لقد أعطى الله تعالى لأمة محمد عليه السلام أمانين من الاستئصال، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأمان الأول: ألا يعذبهم ما دام محمد فيهم حياً، وذلك لا يمنع أن تُعذب طائفة منهم كما حصل يوم بدر، فقد أهلك الله يوم بدر سبعين من رءوسهم، لكن الاستئصال الكامل لهذه الأمة لا يحدث أبداً، بخلاف الأمم السابقة التي قد استؤصل بعضها؛ لأن الله سبحانه وتعالى كلما أهلك أمة جاء بأمة جديدة وأرسل إليها رسولاً جديداً، لكن هذه الأمة هي آخر الأمم، ورسالتها آخر الرسالات، ونبيها آخر المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكتابها آخر الكتب السماوية، ولذلك أعطى الله تعالى لرسوله عليه السلام هذين الأمانين، الأول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]. والأمان الثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] ومعنى (يستغفرون): يقولون نستغفر الله، وقيل: إنهم كانوا يستغفرون خصوصاً إذا ركبوا في الفلك ويدعون الله مخلصين له الدين، وقيل: كان أحدهم إذا طاف بالبيت قال: لبيك لا شريك لك. لكنهم يلوثون هذا التوحيد بقولهم: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! وهم مع هذا خيرٌ من مشركي هذا العصر؛ لأن مشركي هذا العصر لادينيون كفرة ملاحدة، لا يعرفون الله في حال الرخاء ولا في حال الشدة، أما أولئك فكانوا يفزعون إليه حال الشدة وينسونه حال الرخاء، ومعنى ينسون الله، أي: يشركون به. فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] دليل على أهمية الاستغفار في ساعة الشدة وأيام الحروب؛ كهذه الأيام التي نعيشها، فهل يستغفر الناس فيها؟! أولئك الذين ادخروا الأرزاق في بيوتهم لسنين خوفاً من الحرب المدمرة هل استغفروا الله تعالى من سيئاتهم؟! إن الله تعالى لا يرفع العذاب عن هذه الأمة إلا إذا استغفرت وتضرعت إلى الله في كشف ما بها كما قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولا يظن أن الاستغفار كلمة تقال باللسان، بل هو قول وعمل، ولذا نجد أن قوم موسى عليه السلام استغفروا وتابوا وأنابوا ورفعوا أكفَّ الضراعة إلى الله عز وجل أن يكشف ما بهم من أذى فرعون وتسلطه وطغيانه في الأرض، فقضى بنو إسرائيل عمراً طويلاً وهم يقولون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] فمتى استجيب دعاؤهم؟ لقد استجيب دعاؤهم حين غيروا ما بأنفسهم. أي: حصل شيء من التغيير في الواقع. فالأمة الإسلامية تمر بأيام شديدة لابد معها من تغيير شيء من الواقع على مستوى الدول والشعوب، فالدعاء والتضرع وحده لا يكفي، فبنو إسرائيل كانوا يقولون طيلة مدة استعباد فرعون لهم: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86]. فعلمهم الله تعالى كيف يتوبون، وكيف يقدمون المال، ويضحون بأعز وأغلى ما يملكون، وحينئذٍ يتقبل الله تعالى دعاءهم، فقال لهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]. هذه هي التغييرات الجذرية التي كانت السبب في رفع العذاب عن بني إسرائيل، وهي التي سوف ترفع عنا ظلم الظالمين وطغيان الطغاة في أيامنا الحاضرة، فإذا كان أمننا الذي بذلنا في سبيله الغالي والنفيس، والذي نعمنا به مدة طويلة، قد حصل له ما حصل في أيامنا الحاضرة؛ فذلك يتطلب منا توبة وإنابة إلى الله عز وجل، بإصلاح أوضاع البيوت والأسر والمجتمع، وإصلاح أوضاع الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتنظيمية وغير ذلك، بحيث تكون وفق منهج صحيح. إن بني إسرائيل لما أمرهم الله بجعل بيوتهم قبلة امتثلوا أمره، وجعلوا بيوتهم قبلة -أي مكان عبادة كالمساجد- من أجل رضا الله عز وجل، ولما نفذوا هذا الأمر من أوامر الله دعوا مرة أخرى، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ومعنى ذلك أن التغيير قد وقع. ولقد استجيب لهم هذا الدعاء؛ لأنه قد حصل منهم بذل في سبيل الله، وتغيير وضع مألوف منذ زمن طويل؛ لذا قال الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:89 - 90] فاستجيبت الدعوة بعد التغيير، وبعد الدعاء والتضرع، أما الدعاء والتضرع وحده فلا يكفي، ولذلك يقول الله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5] أقروا أنهم كانوا ظالمين، ولكن بعد أن جاءهم بأس الله. إذاً: لا بد لتحقيق رفع العذاب من أمرين: الأمر الأول: تغيير أوضاع الناس من سيئ إلى أحسن. الأمر الثاني: الدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل. ونحن نطالب الناس اليوم على كل المستويات أن يفهموا أمثال هذه الآيات: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. إن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كان الناس يحاربون ويقاتلون أعنف عدو على وجه الأرض، وأعتى جبابرة الأرض، فلابد من تجديد توبة، ولابد من تغيير الأوضاع، فإن الخطر يحيط بالأمة الإسلامية.

الصد عن سبيل الله والاستهزاء بالمسلمين من أسباب تسليط المسلمين على الكافرين

الصد عن سبيل الله والاستهزاء بالمسلمين من أسباب تسليط المسلمين على الكافرين أيها الإخوة! إن الخطاب في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] ليس خطاباً للأمة في عهد الرسول عليه السلام، ولكنه خطاب خالد إلى يوم القيامة، ولذلك بين الله تعالى في الآية التي بعدها أنهم مستحقون للعذاب، لكن رحمة الله أدركتهم. قال الله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34]. هذه أيضاً جريمة من الجرائم التي بسببها سلط الله تعالى عليهم المؤمنين، فقد كانوا يصرفون الناس عن دين الله، ولربما صرفوا الحجاج والمعتمرين، وكانوا يقولون: نحن أهل البيت وأولياء الله، وهم أبعد الناس عن الله لشركهم ولصدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام. ولا تكون حماية البيت إلا لأولياء الله وللصالحين من عباده، ولا تصلح أن تكون سلطته إلا بأيدي أولئك الذين يحكِّمون شرع الله عز وجل. ولذلك يبين الله تعالى جريمة من جرائمهم كانت سبباً في عقوبتهم يوم بدر فقال: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34] كانوا يمنعون الطائفين والمعتمرين من المسجد الحرام، وكم منعوا الناس من الدخول في الإسلام أيضاً، وهذا شأن دعاة الضلال، فهم لا يكتفون بضلالهم وحدهم، بل يسعون إلى أن يضلوا الناس عن الطريق المستقيم. ثم قال الله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال:34] يعني: ليسوا هم بأوليائه، وإن كانوا يدعون ذلك بقولهم: نحن أولياء البيت وسدنته. {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] و (إن) هنا: حرف نفي بمعنى (ما)، أي: ما أولياء هذا البيت إلا الذين يتقون الله ويمتثلون أمره، فالمسألة ليست مسألة وطن أو مولد، أو آباء وأجداد وأمجاد، لكن المسألة مسألة دين، فمن أخذ به فهو ولي هذا البيت، ومن رفضه فليس من أوليائه. بعد ذلك يبين الله تعالى أن من جرائمهم أنهم كانوا يضحكون ويسخرون ويصفقون ويصفرون عند البيت، لا سيما إذا رأوا الرسول عليه السلام والمسلمين يصلون، فيتخذون عبادتهم سخرياً ويهزءون بدين الله عز وجل كما يهزأ به كثيرٌ من الناس اليوم، {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]. المكاء: التصفير، والمكَّاء طير يصفر، والماكي الذي يضم يديه ويضعهما عند فمه ويصفر. والتصدية: التصفيق، فهم يلعبون ويسخرون في وقت الصلاة التي هي أعظم عبادة وأعظم شعيرة فرضها الله عز وجل على هذه الأمة، فإذا رأوا الرسول عليه السلام يصلي صفروا وصفقوا، واكتفوا من الصلاة بذلك التشويش على المسلمين، وهذه أيضاً جريمة من جرائمهم التي كانت سبباً في تسليط المسلمين عليهم، فليحذر الذين يسخرون من دين الله أو الصلاة أو شخصية المسلم أو صفته! وقد أخذ العلماء من هذه الآية النهي عن التصفيق، وقد قال رسول الله عليه السلام: (إنما التصفيق للنساء)، وإذا أخطأ الإمام في صلاته وخلفه الرجال والنساء، فالرجل يسبح والمرأة تصفق. أما تصفيق الرجال فإنه خلاف الفطرة وخلاف سنة محمد عليه السلام؛ وفيه تشبه بالكافرين الذين كانوا يسخرون من الصلاة بالتصفيق، ولذلك قال الله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35]، أي: ذوقوا عذاب القتل يوم بدر، وهو بداية العذاب لا نهايته كما أخبر الله، ولذلك لا ينتهي بهم العذاب في الدنيا، بل يتبع هذا القتل عذاب البرزخ، ثم ينتهي بهم الحال إلى عذاب الآخرة الذي لا ينتهي: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107].

فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً لما انتهت موقعة بدر، ورجع المشركون إلى مكة سعى رجالٌ منهم وصاروا يطوفون خلال مكة ويقولون: يا قوم! إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، ورمل نساءكم، ويتم أطفالكم، المالَ المالَ! أي: ابذلوا المال لحرب محمد مرة أخرى.

جهود النصارى لتكفير المسلمين خائبة

جهود النصارى لتكفير المسلمين خائبة إن هذه القضية تشبه إلى حدٍ بعيد ما يُفعل في أيامنا الحاضرة، فقد بخل كثير من المسلمين بالمال الذي لا تقوم دولة الإسلام ودعوته إلا به، وقدَّم الكافرون هذا المال سهلاً من أجل تكفير وتنصير أبناء المسلمين، وحين دعت الكنيسة إلى جمع المال لتنصير أبناء المسلمين، جمعوا في فترة وجيزة مليار دولار. إن مليار دولار ليس رقماً ارتجالياً، إنه رقم يقصدون به عدد المسلمين؛ فكأنهم قالوا: إن عدد المسلمين مليار، فادفع دولاراً واحداً تُنَصِّرُ به واحداً من المسلمين، ولكن الله تعالى غالب على أمره، ومتم لنوره. أما المسلمون فإنهم إذا دعوا إلى البذل في سبيل الله أو الدعوة فإن كثيراً منهم يبخلون. إن هذه هي سنة الله تعالى في الحياة، وقد ذكرها الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]. ورغم هذا المبلغ الضخم الذي جمعه دعاة التنصير فإن الكنيسة ما استطاعت أن تنصر واحداً من المسلمين، اللهم إلا طفلاً ولد على الفطرة وربي على غير الفطرة. إن الله تعالى حافظ دينه الذي هو فطرته في نفوس الناس: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]. وهذه الفطرة لا يستطيع أحد أن ينتزعها من هذا الإنسان إلا لظروف خاصة، ولذلك بشر الله تعالى المسلمين وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لقد رأينا معنى هذه الآية متجسداً في قصة العالم الإسلامي في وضعه الحاضر، إذ تبذل الأموال لإقامة مراكز للتنصير، ثم يأتي داعية أعزل لا يملك من المال إلا النزر اليسير، فإذا بهؤلاء الذين نصرتهم الكنيسة يعودون إلى الفطرة ولقد شاهدنا هذا في بعض مناطق في أفريقيا وقلنا: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] فأموالهم الطائلة التي تبذل لا تستطيع أن تحرف أبناء المسلمين عن الفطرة؛ ونحن مستبشرون بموعود الله عز وجل، وهذه قضية يعيشها العالم في كل فترة من فترات التاريخ؛ حيث تبذل الأموال من أجل صدّ أبناء المسلمين عن دينهم، لكن الحقيقة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36].

دعوة المسلمين للإنفاق في سبيل الدعوة إلى الله

دعوة المسلمين للإنفاق في سبيل الدعوة إلى الله إننا ندعو المسلمين إلى البذل حتى يكون بذلهم أكثر من بذلك أولئك الكافرين، لأمور: الأمر الأول: لأن الله سيخلف عليهم في الحياة الدنيا، وهم يؤمنون بهذا الإخلاف؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]. الأمر الثاني: لأن الله تعالى ينمي هذا المال القليل الذي يبذله هذا الإنسان ولو كان قرشاً أو ريالاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما أخبر الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]. الأمر الثالث: أن المسلم إذا بذل المال للجهاد في سبيل الله، وللدعوة إلى الله، وللمحافظة على الكيان الإسلامي والأمة الإسلامية إنما يرجو بذلك الجنة، وأعداؤنا لا يرجون الجنة ولا يؤمنون بها، والله تعالى يقول لنا: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فإن كان يؤلمك بذل المال فعدوك يؤلمه بذل المال أيضاً، لكنك ترجو من الله الجنة وترجو عز الإسلام ونصره في القريب العاجل، وهو لا يرجو إلا الفخر في الدنيا، فالمسلمون أولى ببذل هذا المال في سبيل الله عز وجل. وقد أخبر الله عنهم بالفعل المضارع (ينفقون) (ليصدوا) وفي هذا إشارة إلى أن هذا الأمر (الإنفاق) و (الصد عن سبيل الله) يتجدد منهم باستمرار، والإخبار بالفعل الماضي يفيد ذلك، والله سبحانه وتعالى يريد أن يبين أن هذه قضية سننية تتكرر عبر التاريخ؛ أن الكفار يبذلون أموالهم دائماً وأبداً للصد عن دين الله عز وجل. وأعجب ما رأيناه في ذلك: ما رأينا في مجاهل أفريقيا وغاباتها الموحشة رأينا شباباً في مستهل العمر من البنين والبنات، يأتون من أوروبا إلى أفريقيا يركبون البقر ليدعوا إلى النصرانية، وكنا ذات يوم في غابة من الغابات البعيدة عن الحضارة، والتي لا يستطيع أن يعيش فيها أبسط الناس؛ لما فيها من الأمراض، والحر الشديد، وقلة الماء والطعام، وكثرة البعوض والأوبئة، ورأينا هؤلاء يأتون من إيطاليا وغيرها من البلاد الأوروبية المترفة، ثم يعيشون في هذه البيئة السيئة الملوثة من أجل أن يربوا أبناء المسلمين على غير الفطرة، وعلى غير الملة، قلت: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]. ثم قلت: أين المسلمون؟! أليسوا هم أولى بتربية أبنائهم من هؤلاء؟! وفي تلك المناطق يعيش كثير من المسلمين المهاجرين من دول أفريقية مجاورة. أيها الإخوة! أعداؤنا أنشط منا في الدعوة إلى مبدئهم الباطل ومنهجهم الفاسد، ونحن مطالبون بأن ننفر خفافاً وثقالاً لنجاهد في سبيل الله. إن أولئك المنصرين يأخذون الطفل في أول أيام طفولته، وربما كان يحمل كل الأمراض، حتى المعدية منها تأخذه الفتاة المترفة المنعمة الرقيقة لتضعه في حجرها وتصنع له الطعام والعلاج وكأنه طفل من أطفالها، لولا أنه يختلف عنها في اللون. إن أعداء الإسلام يضربون آباط الإبل من أقصى الدنيا من أجل أن يكفِّروا أبناء المسلمين، فإلى متى والمسلمون نيام وهؤلاء يفتنون أطفال المسلمين، ويربونهم على غير الملة ليكونوا في يوم من الأيام قُسُساً يدعون إلى منهج ودين محرَّف! إن الذين يحاربون المسلمين سوف ينهزمون حينما يعود المسلمون إلى دينهم {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]؛ سوف يتحسرون على أنهم أنفقوها ثم لم تتحقق بها أهدافهم {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] في المعركة، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، فهذه هي نتائج نفقاتهم: غلبة في الدنيا، وحشر إلى جهنم في الآخرة، ما نفعتهم أموالهم، ولا جمعهم، ولا قوتهم؛ لأنهم ما أرادوا بذلك الحق، ولا أرادوا رضا الله عز وجل ولا الجنة.

الحكمة من ابتلاء الله للناس بالكفر والإيمان

الحكمة من ابتلاء الله للناس بالكفر والإيمان

تمييز الخبيث من الطيب

تمييز الخبيث من الطيب سلط الله تعالى الكافرين على المسلمين؛ يقدمون أموالهم وأنفسهم ليحاربوا بهما الإسلام، وجعل له سبحانه وتعالى جنداً يقاتلون في سبيله، وجنداً للطاغوت يقاتلون في سبيل الطاغوت السر في ذلك: أن يكون للجنة أهل وللنار أهل، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، كما قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، ولولا هذه الفتن، ولولا الجهاد في سبيل الله، ولولا تسلط الطغيان في الأرض على المؤمنين ما كان ليتميز الخبيث من الطيب، ولو أن هذا الدين لم يطالب أهله بجهود ولا تضحيات ولا إراقة دماء ولا بذل للأموال ولا دعوة إلى الله لولا هذه المطالب لما تميز الخبيث من الطيب. ولو كان الدين مجرد شعائر تعبدية دون أن تكون هناك تكاليف وعقبات ونكبات وأمور موحشة ومخيفة في طريقه، لما عرف الصالح من الطالح، ولما تمايز الناس إلى درجات، والله تعالى يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقد أخبر الله تعالى بأن من ظن أن طريق الجنة سهل فعليه أن يراجع أمره فقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].

تبين من يصبر على الإسلام فيستحق الجنة

تبين من يصبر على الإسلام فيستحق الجنة معنى ذلك: أن طريق الجنة طريق وعر، فيه عقبات ومخاوف، وأشلاء ممزقة، وجماجم مطوَّح بها، ومخاوف وسجون، وتسلط، وأمور عظام، ولابد أن يسلك المسلم طريق هذه الجنة، ويتخطى كل هذه العقبات الذي تعترض سبيله، لابد من أن تكون هناك أحداث وأمور مخيفة حتى يتميز الخبيث من الطيب في هذه الحياة، يقول الشاعر: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يدرى طيب عرف العود فلو أخذت عوداً ثميناً وشممت رائحته، فقد لا تستطيع أن تميز جودته، لكن إذا مسته النار خرجت رائحته، وهكذا الفتن تميز الرجال، وتظهر الطيب من الخبيث كما تظهر النار الملتهبة رائحة العود الطيب من رائحة الحطب، والله تعالى يبين أن تميز الخبيث من الطيب إنما يحتاج إلى فتن ومحن وأمور عظيمة، وكأن الله تعالى يقول: جاهدوا في سبيل الله وكونوا من جنده، وحاربوا أولياء الشيطان إن كيده كان ضعيفاً لماذا؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. أيها الأخ المسلم! إن طريق الجنة طريق وعرة ينكص عنها أقوام ويسلكها رجال، وهؤلاء الرجال هم الذين لا يرجعون من منتصف الطريق مهما عز الطلب وغلا الثمن، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس والمال والولد من أجل رضا الله عز وجل، ولذلك أخبرنا الله عز وجل بأن قوماً يسلكون طريق الجنة ولكن الإيمان لم يتمكن من نفوسهم بعد، حتى إذا اعترضت سبيلهم عقبة من العقبات عادوا من منتصف الطريق ناكصين على أعقابهم، ويقول قائلهم إذا أصابته فتنة أو عذاب من عذاب الناس: خير لي أن أمتع نفسي اليوم ولا أتحمل هذا العذاب الحاضر المؤكد فراراً من عذاب متوعَّد به! ثم يرجع من منتصف الطريق. وهؤلاء هم الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] (فتنة الناس) أذى الناس في الحياة الدنيا، (كعذاب الله) في الآخرة.

تميز عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بالثبات على الدين

تميز عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بالثبات على الدين يروى أن عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وكان من قواد الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك، وقع في أسر الروم، وكان رجلاً ذكياً وضيئاً شجاعاً فذاً، بقي في السجن أشهراً، فأعجب السجانون بقوة شكيمته، ووصلت أخباره إلى قيصر الروم، وقيل له: إن في سجنك رجلاً لو ضممته إليك لكان في ذلك مكسباً كبيراً للنصرانية. قال: ائتوني به. فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي. وهكذا تعرض الفتن على القلوب، فالقلوب الضعيفة هي التي تتقبلها، أما القلوب العظيمة فإنها ترفضها رفضاً باتاً. فقال عبد الله بن حذافة: اخسأ يا عدو الله! -يقول هذا لـ قيصر الروم وهو رجل أسير- والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني! فتعجب من قوة شكيمته، وقال: ردوه إلى السجن وشدوا عليه وثاقه. فأعيد عبد الله بن حذافة إلى السجن وزادوا في أغلاله. ثم جمع الملك مستشاريه وقال: دلوني على أمر أفتن به هذا الرجل؟ فقالوا: إنه شاب قوي، بعيد عن زوجته وأهله منذ أشهر، وتستطيع أن تفتنه عن طريق الشهوة. والشهوة سلاح من أسلحة أهل الباطل قديماً وحديثاً، وها نحن نرى الشهوة تعرض في بلاد المسلمين على أهل الإسلام، فتفتن كثيراً منهم عن دينهم. قال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي. فجيء بها، وأغريت بالمال إن هي فتنت هذا الشاب. فتجردت عن ملابسها، ودخلت عليه ورمت بنفسها في أحضان هذا المؤمن، فلما رآها صرف نفسه عنها، وأكبَّ بوجهه على الأرض وهو يتلو القرآن، وصار كلما اتجه إلى جهة تابعته بجسدها الرقيق الجميل، وهو ينحرف ويبتعد عنها، وهي تلاحقه، وهو يقول: معاذ الله! فيئست هذه المرأة من أن تنال من هذا الرجل نظرة؛ فضلاً عن أن ينالها بفاحشة. وقالت: أخرجوني. فلما أخرجوها قالت: والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! ووالله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! تعني: أن هذا ليس من البشر الذين عهدتهم يفتنون بجمال النساء؛ وقد كان عبد الله بن حذافة رضي الله عنه من أولئك الرجال الذين يريدون الجنة، ولا تصرفهم عن غايتهم هذه الشهوات. فتحير قيصر الروم في أمره، واستشار الناس، فقالوا: خوفه بالموت، فكل الناس يخافون منه. فيقال: إنه طلب قِدراً عظيمةً، ملئت زيتاً، فأوقد تحتها حتى غلى زيتها، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله وبأصحابه الذين كان يأنس بهم ويطمئن إليهم، فجيء بهم، ثم أمر أن يؤخذ صديق لـ عبد الله ويبدءون به فيرمى في القدر، فرمي في القدر فطفت عظامه بعد أن ذاب عنها اللحم، عليه رحمة الله -وكان قيصر يراقب عين عبد الله - فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله وهو على حافة القدر، فظن عدو الله أنه نجح في زعزعة إيمان هذا الشاب، فقال: يا عبد الله! جزعت من الموت؟ فقال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلدك هذه إلا لأبحث عن الموت والشهادة، لكني بكيت على أن سبقني هذا إلى الله والدار الآخرة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله، وكان ينافسني وأنافسه، فكنت إذا صلى ركعتين في جوف الليل المظلم صليت أربعاً، وإذا صلى أربعاً صليت ثمانياً، وإذا صام يوماً في شدة الهاجرة صمت يومين، وإذا صام يومين صمت أربعة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله والدار الآخرة، وبكيت الآن لأنه سبقني إلى الجنة. إن مثل هذا لا يستطيع أحد أن يؤذيه أو أن يناله بسوء مؤمن يتحدى الخوف من الموت الذي يخاف منه الناس، ويتحدى نار الدنيا، والمنصب، والشهوة التي فتنت كثيراً من الناس، حتى ارتد بعضهم عن الإسلام بسببها. أيها الإخوة! إن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه بهذه الفتن يميز الخبيث من الطيب، فيخرج الخبيث الذي سوف يذهب إلى النار من الطيب الذي أعده الله عز وجل للجنة، يقول الله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:37]. وجميع أنواع الملل قد تختلف في أسمائها، لكنها تتحد في مفهومها: علمانية، وثنية، نصرانية، يهودية، شيوعية؛ فأياً كانت تسميتها فهي تلتقي جميعاً في نار جهنم، وكل أنواع الخبث يركمه الله تعالى في جهنم. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37] خسروا لذة الحياة الدنيا والتي لا تنال إلا بطاعة الله عز وجل فيها، ثم خسروا بعد ذلك جنة عرضها السماوات والأرض بسبب عنادهم لهذا الدين، ووقوفهم ضده؛ ولذلك يقول الله تعالى: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37].

فتح باب التوبة للكفار والمنافقين

فتح باب التوبة للكفار والمنافقين إن باب التوبة مفتوح، وهؤلاء الذين يسبون الله ورسوله في أيامنا الحاضرة لو تابوا لقبل الله توبتهم؛ لأنه تعالى أوجب على نفسه قبول التوبة؛ بشرط ألا تفارق الروح الجسد وهم على باطلهم، وبشرط ألا تطلع الشمس من مغربها وهم على منكرهم، فنقول لكل الذين يحاربون الإسلام بالسلاح أو بالقلم، بالكلمة أو بالسخرية: ما زال باب التوبة مفتوحاً، اتقوا الله، وعودوا إليه، وأصلحوا العمل، فإن توبتكم لا تقبل إلا إذا تأكد صلاح العمل كما قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160]، فلربما يتوبون ظاهراً خوفاً من الأمة الإسلامية، فلابد أن يصلحوا العمل، وأن يبينوا؛ بحيث ينقضون ما كانوا يقولونه بالأمس من حربهم للإسلام وسخريتهم وعدائهم لهذا الدين، فالله تعالى قد فتح باب التوبة، وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]. ليس هناك دين أعظم من هذا الدين في فتحه باب التوبة مع وضع الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل لما أرادوا أن يتوبوا قال الله لهم: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] والنصارى لا تتم توبتهم إلا بالاعتراف بالذنوب أمام القساوسة ليعطوهم صكوك الغفران كما يقولون؛ لكن الإسلام يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؛ اللهم إلا إذا كانت هناك حقوق للخلق فلابد من ردها، وإذا عجز الإنسان عن ردها فقد يتجاوز الله عز وجل عنه، ويرضي صاحب الحق بما يعطيه في الآخرة؛ بحيث يعفو عن هذا الحق الذي له. وهذا الرد للحقوق شرط من شروط التوبة للمسلم، أما الكافر فإنه بإسلامه يغفر له ما قد سلف، ولا يلزمه شيء مما فعله في كفره ولو قتل من المسلمين آلافاً مؤلفة. فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان أكبر من نال من المسلمين في يوم أحد، ومع ذلك صار من خيار الصحابة حين أسلم، وقال له الرسول عليه السلام حين أخذ الراية في مؤته: (فأخذها سيف من سيوف الله، حتى فتح الله على يديه). وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أشد المشركين عداءً للإسلام، فلما هداه الله تعالى للإسلام أصبح أحد المبشرين بالجنة، بل هو ثاني العشرة المبشرين بالجنة. باب التوبة مفتوح، بشرط ألا يتمادى الإنسان في غيِّه، وألا يركب رأسه، وألا تغره الحياة الدنيا، وألا يغره بالله الغرور بشرط ألا يغتر بالصحة والعافية والشباب بشرط ألا يغتر بالمنصب والتخويل الذي خوله الله عز وجل إياه، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]. إن باب التوبة مفتوح، ولذلك يقول الله تعالى لرسوله عليه السلام: يا محمد! {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] عن كفرهم وحربهم للإسلام، ومطاردتهم لرسوله عليه السلام، وأذيتهم للمؤمنين، وحمل السلاح في وجوه المسلمين، (يغفر لهم ما قد سلف). و (يغفر) جواب الشرط، و (ينتهوا) فعل الشرط، وجواب الشرط لا يأتي إلا إذا جاء فعل الشرط؛ فلا (يغفر) ما قد سلف إلا إذا (انتهوا) عن حربهم وعنادهم للإسلام.

وعيد الله للكفار إن لم يتوبوا

وعيد الله للكفار إن لم يتوبوا ونحن نقول لكل الذين يحاربون الإسلام أياً كان نوع الحرب؛ سواء كانت حرباً حارة أو باردة، حرب سلاح أو أفكار، من الخارج بالعداء السافر، أو من الداخل بالنفاق: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فإن الله عز وجل كما أخبر عن نفسه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، ونحن ندعوهم إلى التوبة، ونقول لهم: ويلكم! آمنوا وادخلوا في طاعة الله، ولا تحاربوا الله ورسوله؛ فإن من حارب الله ورسوله فإن الله {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. وماذا يكون لو لم ينتهوا، وعادوا لحرب الإسلام والمسلمين مرة أخرى، وعادوا للعناد والمكابرة والطغيان في الأرض وأذية المسلمين وإرهابهم وإزعاجهم، وعادوا إلى الطعن في الإسلام والنيل من دين الله والسب له ولرسوله لو عادوا {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]. وجواب الشرط محذوف، وجملة (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) ليست هي جواب الشرط، ولكنها تعليل لجواب الشرط المحذوف، أي: وإن يعودوا نعد لإهلاكهم وقتلهم بسيوف المسلمين والملائكة، فقد مضت سنة الله عز وجل في الأولين أنه يأخذ الطغاة والمتكبرين والكفرة والمعاندين لدين الله تعالى أخذ عزيز مقتدر. وهذه الآية فيها بشرى لنا إذا استقمنا على دين الله، وإن أوذينا فيه، وإن حاربنا طغاة الأرض، وسلطوا علينا صواريخهم وأسلحتهم الفتاكة، ووجهوا إلينا كل ما يوجهونه من أذى وبلاء وفتن، فإننا على ثقة بنصر الله سبحانه وتعالى، لكن بالشرط السابق؛ وهو أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع، وبشرط أن نصلح الأوضاع الداخلية والخارجية، وأن نتفقد الأمور كما أمر الله عز وجل بني إسرائيل بألا يدعوه إلا بعد أن يغيروا شيئاً مما في واقعهم، وإذا غيروا شيئاً مما في واقعهم فإنهم يدعونه، وإذا دعوه فإن رحمة الله قريب من المحسنين بعد التغيير والدعاء والتضرع. أيها الإخوة! إن سنة الله في الأولين إهلاك الطغاة، وقد ينتفخ الباطل ويظهر مخيفاً كما يحدث في أيامنا الحاضرة، ويعجز المؤمنون عن دفعه، لكن نهايته قريبة، واضمحلاله وشيك، ولربما لم تستكمل شروط النهاية بعد، وإذا استكملت هذه الشروط فإن الله سبحانه وتعالى سوف يقذف بالحق على الباطل بعد أن يتفقد المسلمون أنفسهم وأوضاعهم، وقد تطول مدة الابتلاء، لكن من المؤكد أن لكل ليل فجراً، ولكل طغيان نهاية؛ لأن الله تعالى وعدنا وقال: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]؛ فهذا وعد منه سبحانه بإهلاك المتجبرين والطغاة، والمعاندين للإسلام، والمحاربين لأولياء الله عز وجل وجنده، وهذه سنة الله في الأولين التي تتكرر عبر التاريخ، لكنها قد تتأخر لاسيما حينما لا تتوفر أسباب تواجدها، فعلينا أن نبحث عن الأسباب التي بها نستجلب نصر الله عز وجل، ثم علينا بعد ذلك أن نحسن الظن بالله، وأن نوقن بأن نصر الله قريب، وأن رحمة الله قريب من المحسنين.

وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة

وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قد يركن المسلمون إلى الراحة والدعة، والرخاء والاسترخاء، والمساكن المترفة، والمراكب الفارهة، والزوجات والأبناء، والأهل والعشيرة، ويتركون الجهاد في سبيل الله مدةً من الزمن، ثم يتسلط الكافرون والظالمون عليهم، والسر في ذلك هو: ترك الجهاد في سبيل الله.

لا وضع للسلاح حتى يكون الدين كله لله

لا وضع للسلاح حتى يكون الدين كله لله نحن أمة مطالبة بألا تضع السلاح حتى يكون الدين كله لله، وإذا وضعنا السلاح قبل أن يكون الدين كله لله، فلنتحمل ضريبة هذا الترك والإخلاد إلى الدنيا، فإن دين الإسلام كان آخر ما استقر عليه ألا يوضع السلاح وفي الأرض ملة غير ملة الإسلام، ودين غير دين الله، وإذا وضع السلاح فإن رد الفعل سوف يأتي من الخارج بتسليط الكافرين على المسلمين، نجد ذلك في قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. ليس في الإسلام (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، ليس فيه علمانية: الصلاة والصيام والحج والعمرة لله، أما الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فللبشر، فالإسلام لا يعرف هذا. العلمانية إنما وجدت في الأمم النصرانية التي كانت تحارب التطور والتقدم، لكن ذلك لا يكون في أمة الإسلام التي يقول الله عز وجل لها في آية من آيات كتابه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فهو يأمرها بالصناعة والإتقان وضبط الأمور. نحن أمة شرعت الخلافة في الأرض، ووضعت نظاماً للسياسة والاقتصاد والاجتماع، ولذلك ليس فيها نظام علماني يقول: ما لله لله وما لقيصر لقيصر، الدين في المسجد والنظام لأناس غير أهل الدين. ليس في الإسلام رجال دين، فكل واحد من المسلمين يجب أن يكون رجل دين، أما إذا كان الدين بعضه لله وبعضه للبشر فهذا من قول أهل الشرك كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] إن العلمانية نظام لا يصلح للبقاء، فهو نظام يريد أن يحصر الدين في المسجد، وفي المحكمة يحكم بغير ما أنزل الله، وفي الأنظمة الاقتصادية يشرع أنظمة على غير ما أنزل الله، وإن أمة هذا نظامها لابد أن يتسلط عليها أعداؤها. إذاً: ما الحل؟ الحل أن يكون الدين كله لله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] ليس هناك دين لله ودين للبشر؛ فالدين كله لله. أيها الإخوة! إن الحد الذي يمكننا عنده أن نضع السلاح هو أن يكون الدين كله لله، وألا يكون هناك عبث في دين الله، أما إذا كان الدين لغير الله، ويعبد في الأرض غير الله فلا يجوز أن يوضع السلاح، فآخر ما استقرت عليه الوثنية والجاهلية التي بعث فيها الرسول عليه السلام أن عبد في مكة ستون وثلاثمائة صنم، فجاء رسول الله عليه السلام ودخل مكة فاتحاً، وليس هناك صنم معلق في الكعبة إلا وكسره بينما تقول الإحصائيات الآن: إن في الأرض عشرين ألف وثن تعبد من دون الله.

معنى أنه لا إكراه في الدين

معنى أنه لا إكراه في الدين يقول بعض المعاصرين الذين يضعون الإسلام في قفص الاتهام: إن أعداء الإسلام يقولون إن الإسلام انتشر بالسيف، فحتى لا نشوه الإسلام فإننا نقول: إن أمر الإسلام في الجهاد استقر على الدفاع لا على الهجوم، ويستدلون بأدلة ليس فيها دلالة على ما يقولون، كقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. ونحن نقول لهم: (لا) هنا نافية وليست ناهية، بدليل أن الله تعالى قال: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] ما دام قد تبين الرشد من الغي واتضح الأمر، فلا يسمى إكراهاً وإن كان إلزاماً؛ لأن الإلزام بالأمور المجهولة الفائدة يسمى إكراهاً، والإلزام بالأمور المعروفة الفائدة لا يسمى إكراهاً. ومن ظن أن الإسلام يقاتل الناس دفاعاً فعليه أن يفهم قوله تعالى: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39]؛ لأن (حتى) للغاية، أي بحيث ينتهي الأمر إلى أن لا يبقى في الأرض دين غير دين الإسلام، ولا يعبد في الأرض غير الله. وتقول الإحصائيات: إن في العالم عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، وقد مررت على بعض الأضرحة في بعض بلاد العالم قبل الفجر بساعات فوجدت ازدحام حجاجها عليها؛ يأتونها من جميع بلاد العالم، وزحامهم أشد من زحام الحجاج الوافدين إلى مكة، حتى رأيت قبوراً يطوف عليها الناس شوطاً واحداً فقط؛ لأن الزحام لا يسمح بسبعة أشواط! فهذا يؤكد أن الدين ليس كله لله، ولابد أن يقام الجهاد حتى يكون الدين كله لله، وما دام هناك من يعبد في هذا الوجود غير الله عز وجل، فالأمة الإسلامية مسئولة عن هذا الجهاد، وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غزوها في عقر دارها وفي مهبط الوحي ومنازل الأنبياء وفي مواقع كثيرة إلا بسبب أن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، والرسول عليه السلام يقول: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا) هذه الذلة هي التي سلطت الكافرين على المؤمنين، ولو أن المؤمنين نشروا هذا الدين نشراً حقيقياً في العالم لما بقي على وجه الأرض إلا مسلم، ولو أنهم على الأقل أعطوا صورة حقيقية عن الإسلام لكان الدين كله لله. و (فتنة) في قول الله تعالى: (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) معناها: كفر، أي: حتى لا يبقى في الأرض كفر، ومن أراد أن يفسر الفتنة بغير هذا المعنى في مثل هذه الآية فعليه أن يأتي بالدليل؛ لأن الفتنة إذا أطلقت فإنما يراد بها الكفر، وقد يراد بها في مواضع أخرى الاضطرابات، لكنها ترد غالباً في القرآن بمعنى الكفر، كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].

موقف الإسلام ممن انتهى عن عداوته وممن لم ينته

موقف الإسلام ممن انتهى عن عداوته وممن لم ينته قال الله عز وجل: {فَإِنِ انتَهَوْا} [الأنفال:39] أي: انتهوا من حرب الإسلام ومعاندة المسلمين ودخلوا في طاعة الله {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39] جواب الشرط محذوف، وهذا تعليل لجواب الشرط المحذوف؛ فقد يقول إنسان: انتهوا في الظاهر لكننا لا نعرف بواطنهم. نقول: اتركوا الباقي لله سبحانه وتعالى، ما داموا قد انتهوا عن حرب الإسلام وأعلنوا الدخول في طاعة الله فاتركوا البقية لله تعالى. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنفال:40] أي: إن صمموا على حرب الإسلام، وعلى أذية المسلمين، و (إن) شرطية، و (تولوا) فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف، وجاء بالعلة لجواب الشرط، وهي جملة تعليلية تنوب مناب جواب الشرط. قال الله عز وجل: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال:40] هذا تعليل لجواب الشرط المحذوف {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] مولاكم: ناصركم، فأنتم بحاجة إلى الله عز وجل، فاطلبوا النصر منه إذا قاتلكم الكافرون، وآذاكم الطغاة والمتجبرون في الأرض، ففي يوم بدر أنزل الله على المسلمين خمسة آلاف من الملائكة مسومين، فله جنود السماوات والأرض، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال:40] أي: هو الذي ينصر حقيقة، ثم أثنى على نفسه سبحانه وتعالى فقال: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] أي: ليس كالخلق الذين يُتولون وينُتصر بهم، فإن الخلق ضعاف لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، لكن الله عز وجل يمدح نفسه ويقول: (نعم المولى) أي: الوالي والناصر (ونعم النصير) الذي ينصر أولياءه إذا رجعوا إليه، وخضعوا بين يديه، واستكانوا له، وأعلنوا الذلة والإنابة والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى، فإنه نعم المولى ونعم النصير. وأخيراً ننصح الأمة الإسلامية دائماً وأبداً، وننصح ولاة الأمر بأن يخضعوا لله عز وجل، وأن يرجعوا إليه، وأن يطلبوا منه وحده سبحانه وتعالى النصر والتأييد؛ وحينئذٍ لا يحتاجون إلى أحد، وإن احتاجوا إلى أحدٍ من البشر فإنما هي أسباب لا تغني من الله عز وجل شيئاً، فلا يجوز لهم أن يعتمدوا على هذه الأسباب، وإنما عليهم أن يعتمدوا على المسبب سبحانه وتعالى. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الاستقامة وأسباب الانحراف

الاستقامة وأسباب الانحراف إن الاستقامة نعمة عظيمة وفلاح في الدنيا والآخرة، وإن الانحراف وبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، ومن أراد الاستقامة وتجنب الانحراف فلا بد من أن يعمل بأسباب الاستقامة ويتجنب أسباب الانحراف، ويجاهد نفسه على الكف عن الشهوات.

تعريف الاستقامة والانحراف

تعريف الاستقامة والانحراف الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالاستقامة حتى الموت، ونهى عن التغيير والتبديل، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، البشير النذير والسراج المنير الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]، أما بعد: فإن حديثنا يتعلق بالاستقامة وأسباب الانحراف، وقبل أن ندخل في هذا الموضوع نريد أن نعرف أموراً: أولاً: معنى الاستقامة، ومعنى الانحراف. ثانياً: هل الأصل في هذه الحياة الاستقامة، أم الانحراف. ثالثاً: جزاء الاستقامة وعقوبة الانحراف. رابعاً: عوامل الانحراف. أما عندما نتحدث عن الاستقامة في معناها اللغوي فمعناها: أن تلتزم الطريق المستقيم، والطريق المستقيم هو الذي أخبر الله عز وجل عنه في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وهو الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم كان يحدث أصحابه، فرسم خطاً طويلاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله) ورسم عن يمينه وعن شماله طرقاً وعليها سبل وقال: (هذه هي السبل، وعليها ستر مرخاة، وعلى كل واحد منها شيطان يدعو إليه، وعلى الصراط المستقيم داع يقول: يا عبد الله! لا تلجه؛ فإنك إن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة)، ولقد تبين لنا في دنيا الناس اليوم هذه السبل وانكشفت أمام العيان، ورأينا دعاة الباطل الذين يقفون على أبواب هذه الطرق يريدون أن يزيحوا هذه الأستار عن هذه الطرق حتى يلجها الناس فيتورطوا بها إلى يوم القيامة. هذا هو معنى الاستقامة. أما معنى الانحراف فهو الاتجاه إلى إحدى هذه الطرق التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي قال عنها الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

الاستقامة هي الأصل والانحراف أمر طارئ

الاستقامة هي الأصل والانحراف أمر طارئ وبعد أن عرفنا معنى الاستقامة ومعنى الانحراف نتجه إلى بيان أيهما الأصل: الاستقامة أم الانحراف. الأصل هو الاستقامة، ولذلك يقول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، أي: على التوحيد وعلى الإيمان {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، والمفسرون يقولون: قبل (بعث) كلمة محذوفة تقديرها: فانحرف الناس فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ولعل هذا هو أرجح الآراء التي ذكرها المفسرون في معنى قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي: على دين الإسلام وعلى الفطرة وعلى التوحيد، فانحرفوا (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). ويؤيد أن الأصل هو الاستقامة لا الانحراف قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية: (إن الله استخرج ذرية آدم كالذر، فأخذ قبضة بيمينه وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبال. وأخذ قبضة أخرى فقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي. فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له). ويبين هذا أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء - أي: على الفطرة وعلى التوحيد- فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وبمجموع هذه الأدلة كلها ندرك أن الإنسان خلق على الفطرة، وأن الأصل هو الاستقامة، وأن الانحراف يعتبر هو الطارئ وهو الذي حدث على حياة الناس، ولذلك فإن الله عز وجل قد حذر الناس من الانحراف وأمرهم بالاستقامة.

فوائد الاستقامة وحقيقتها

فوائد الاستقامة وحقيقتها ندخل إلى العنصر الثالث من عناصر الموضوع وهو فوائد الاستقامة وحقيقتها. أما حقيقة الاستقامة فهو أن يثبت الإنسان على دينه، فلا يغير ولا يبدل ولا يتأثر بالحياة من حوله، ولا بالعوامل التي تسعى جادة في سبيل انحراف هذا الإنسان عن مبادئه وعن أخلاقه وعن دينه وعن عقيدته، ولذلك فإن الله عز وجل وعد المستقيمين بسعادة في الدنيا، وسعادة عند الموت، وسعادة في الحياة الآخرة.

السعادة في الدنيا

السعادة في الدنيا أما سعادة الدنيا فإن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، والمراد: أعطيناهم متع الحياة كلها ويسرنا لهم سبيل العيش. وليس بين هذه الآية تعارض وبين الأدلة الأخرى التي تبين أن الناس إذا انحرفوا -أيضاً- فتح الله عليهم أبواب الدنيا، وهناك فرق بعيد بين هذا النعيم وبين المتاع الثاني الذي يعطيه الله عز وجل للمنحرفين من الناس. أما هذا المتاع فإنه متاع إلى سعادة أفضل، وأما المتاع الثاني فإنه استدارج من الله عز وجل واختبار حتى يدنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] أي: نعطيهم من أنواع النعيم ونحن ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:183] أي: أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] فيبين الله تعالى أنه من كيده وأنه من مكره بهؤلاء الكافرين، ولذلك يبين في مكان آخر أن الناس إذا أعرضوا عن دين الله فإنه يفتح لهم أبواب النعيم ويعطيهم من الدنيا فوق ما يفكرون به، وذلك استدراج من الله عز وجل حتى تقوم عليهم الحجة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. بل يبين الله تعالى في مكان آخر أن الناس يمتحنهم الله تعالى بالعذاب وبشظف العيش وبالخوف وبالقلق إذا عصوا الله تعالى، فإذا لم تجد فيهم المواعظ فإن الله يختبرهم بالنعيم بعد ذلك، فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:94 - 95] أعطيناهم بدل الخوف أمناً، وبدل الجوع مالاً، وفجرنا لهم من وراء آلاف الأقدام ينابيع الأرض حتى يتمتعوا في هذه الحياة ليختبرهم الله عز وجل بالنعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95] نسوا ما مضى {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] أي: كان آباؤنا بالأمس يعيشون في شظف من العيش، وهذه النعمة التي بأيدينا هي بدل شظف العيش الذي كان يعيش فيه آباؤنا بالأمس. هذا هو حديث الناس اليوم في البلاد التي فتح الله تعالى عليها الخيرات وأنعم عليها وفجر لها ينابيع الخيرات من وراء آلاف الأقدام، ما هي النتيجة: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. ومن هنا نعرف أن النعيم قد يأتي استدراجاً وامتحاناً من الله تعالى، بل قد يأتي عقوبة: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33] أي: على الكفر {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. إذاً ليس انفتاح الدنيا على الناس دليل الرضا، ولذلك يخطئ الإنسان إذا استعمل المقاييس المادية التي استعملها الجبابرة والطغاة بالأمس، ومنهم فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:51 - 53]، فكانوا يظنون أن المقياس هو الثروة وهو المادة، ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن المقياس غير ذلك: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] أي: ليس ذاك إكراماً وليس هذا إهانة، بل كلاهما اختبار من الله سبحانه وتعالى. هذه هي نتائج الاستقامة في الحياة الدنيا، تأتي الدنيا وهي راغمة وتكون متاعاً إلى حين، ولذلك أخبر الله تعالى في كتابه أن هذه الأرض خلقت من أجل المؤمن، وأن هذا الرزق الذي أرسله الله تعالى في هذه الحياة إنما جاء من أجل المؤمن، وإذا كانت الأرض خلقت من أجل المؤمن فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وإذا كان الرزق للمؤمن وحده ويشاركه الكفرة كما تشارك البهائم الإنسان في متاع الحياة الدنيا فإن هذا المتاع يكون خالصاً للمؤمن يوم القيامة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، ومن لطف الله عز وجل بعباده أن جعل الدنيا يأكل منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولكن الحياة الآخرة لا تكون إلا للمؤمنين، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].

السعادة عند الموت

السعادة عند الموت أما جزاء الاستقامة في آخر لحظة من لحظات الحياة الدنيا فهي طمأنينة النفس وسعة الصدر، يضع الإنسان قدماً في الدنيا وقدماً في الآخرة أو في حياة البرزخ وهو مطمئن القلب، وهو مرتاح النفس، تنزل عليه ملائكته تبشره وتطمئنه، تبشره بما أمامه وتطمئنه على ما خلفه؛ لأنه استقام على دين الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: في ساعة الموت {أَلاَّ تَخَافُوا} [فصلت:30] مما أمامكم من أهوال يوم القيامة {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] على ما خلفتموه من ورائكم من الأولاد والأهل والذرية والمال، فما عند الله تعالى خير وأبقى مما خلفتموه وراءكم. ولذلك فإن الإنسان في ساعة الموت بين هذين الجانبين يتنازعه الخوف والحزن، خوف مما أمامه من القبر والحياة الآخرة والحساب والميزان والصراط، ووراءه أيضاً متاع سيخلفه وراءه، فهو سينتقل من سعة الدنيا ومن قصورها ورياشها وأثاثها وخيراتها إلى قبر ضيق مظلم، فإنها تبشره وتقول: (وَلا تَحْزَنُوا) فإن الله تعالى سيعوضكم عما في الحياة الدنيا ما هو خير، ولذلك فإن الإنسان إذا كان يعيش في غرفة في هذه الحياة الدنيا فإن المؤمن سيفسح له في قبره مد بصره، وسيأتيه من روح الجنة وطيبها إلى أن تقوم الساعة، وسيتحول هذا القبر إلى روضة من رياض الجنة، وهذه نتيجة من نتائج الاستقامة.

السعادة في الآخرة

السعادة في الآخرة أما النتيجة الكبرى فإنها تكون يوم القيامة، فسيجد الإنسان جزاء هذه الاستقامة، فجزاؤه كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14]، هذا هو جزاء من يستقيم على دين الله، يتغير الناس حسب الأهواء والشهوات والمؤمن ثابت لا يتغير، مهما غلا الثمن ومهما عز المطلب ومهما نكص الناس على أعقابهم، فإن المؤمن يعلن إيمانه في وقت قوة إيمان الناس وفي وقت ضعف إيمانهم، لا يبالي بما حوله، ودائماً هو يتمثل بقول الشاعر مع ربه عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب يقول هذا فيما بينه وبين ربه عز وجل، لا يغير ولا يبدل، لا يمشي مع الأهواء، ولا يخاف من المخلوقين حينما يخاف الناس، ولكنه رسم لنفسه طريقاً يعرف بأن هذه الطريق تنتهي بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك فقد باع نفسه وسلم الثمن وأخذ المثمن فهو ينتظر المثمن يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

مصيبة التقلب والانحراف عن الاستقامة

مصيبة التقلب والانحراف عن الاستقامة لقد منينا بفترة كثر فيها التقلب وقلت فيها الاستقامة وكثرت فيها عوامل الانحراف، فأصبحنا نلاحظ ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا، فلا نكاد نسر برجل من المؤمنين تعجبنا أخلاقه وفضائله وسلوكه ودينه حتى نفاجأ بانحراف أصاب هذا الإنسان، ولا أكتمك سراً إذا قلت لك: إن كثيراً من الرجال الذين كانوا بالأمس تعلق عليهم آمال بعد الله عز وجل، وكانوا مضرب المثل في الخلق والاستقامة رأينا كثيراً منهم قد غير وبدل وأصيب في نفسه، أو أصيب في بيته بشيء من الانحراف أو بكثير من الانحرافات التي أصابت كثيراً من الناس. وأضرب مثلاً: كان هناك بالأمس أناس ينهون عن المنكر ويأمرون بالمعروف، ولا نكاد نصدق حينما نجد في بيوت هؤلاء الذين كانوا بالأمس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كثيراً من المنكرات، بل أكبر من المنكرات التي كانوا ينهون عنها بالأمس، وهذه هي المصيبة العظمى التي لا تساويها مصيبة، وذلك حينما رأينا الانحراف بدأ في بيوت هؤلاء الصلحاء ووصل إليها في وقت كنا نتطلع إلى أن يشمروا عن سواعد الجد حينما يكثر الانحراف في المسلمين في مثل هذه الفترة العصيبة من فترات التاريخ. فلو رأيت ما في بيته فلا يكاد يسرك في كثير من أحواله، وعلى سبيل المثال وسائل الانحراف التي جاءت عن طريق الإعلام في كثير من العالم الإسلامي تسربت إلى بيوت الصلحاء والمؤمنين، فلا نكاد في هذه الأيام نفرق بين بيوت الصلحاء والمنحرفين في كثير من البلاد، حتى أمر النساء الأجنبيات والخادمات والسائقون الذين يقودون السيارات، والذين تسلم لهم بنات المسلمين يكاد أن يعم ويطم في هذه الأيام، فما الذي حدث؟ لم يحدث شيء بعد إلا أن الله تعالى امتحننا بالنعيم بعد أن كنا نعيش في شظف من العيش، وهذه هي مصيبة الترف، وهذه هي مصيبة النعمة تأتي بعد الفقر، فلا يكاد يتحملها كثير من الناس.

أسباب الانحراف عن الاستقامة

أسباب الانحراف عن الاستقامة لما سبق فإني سأحدد -فيما أعتقد- عوامل الانحراف أو أسباب الانحراف التي أصابت المسلمين اليوم، وسألخصها في أربعة أشياء:

الفتن

الفتن الأمر الأول: الفتن. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها ستغزو المسلمين وستخترق عليهم أسوار بيوتهم بحيث تصل إلى قعر البيوت، ثم يصاب كثير من المسلمين في دينه وفي قعر بيته، ولو فعل كثيراً من الاحتياطات، وهذه الفتن هي التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتناً كقطع الليل المظلم)، ولعل من أهم هذه الفتن التي أحدثت هذا الانحراف فتنة الدنيا، ونلخصها فيما هو أهمها الذي هو فتنة المال وفتنة النساء. أما فتنة المال فإن الله تعالى قد وسع على كثير من الناس ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذا النعيم بعد الفقر، فصاروا ينهلون منه حتى الثمالة، وزادت الثروة في أيدي كثير من الناس فتعاطوا الربا وجاءوا بكثير من المحرمات فأدخلوها في قعر بيوتهم، فكان هذا المال سبباً من أسباب الانحراف، وكان ذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لما جاء مرة مال من البحرين مع أبي عبيدة فعلم الأنصار بهذا المال فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فلما رآهم علم ما في نفوسهم وأنهم جاءوا يريدون شيئاً من هذا المال، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (لعلكم سمعتم بمجيء أبي عبيدة بشيء من المال من البحرين. قالوا: أجل يا رسول الله. فقال: أبشروا، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، ومن هنا صار لبسط الدنيا أثر كبير. أضف إلى ذلك شهوة النساء التي أصبحت من أكبر عوامل الفتنة في أيامنا الحاضرة، والتي عرف عدونا كيف يغزو أخلاق المسلمين وأبناء المسلمين بها حتى يوصلها إلى قعر بيوت المسلمين، فدخلت صورة الفتاة في المجلة، وفي الصحيفة، وفي الوسائل المرئية من تلفاز وفيديو وما أشبه ذلك، وجاءت هذه الصورة على أبشع ما تكون، فكان لها أثر في نفوس الشباب، فحركت كثيراً من الشباب، ولربما دخلت في شكلها العام في صورة مربية أو خادمة أو ما أشبه ذلك، وحينئذ أثرت على كثير من نفوس الشباب، فصار هذا الشباب يتطلع إلى هذه الجريمة التي وصلت إليه بطريق هذه الصورة المرئية أو غير المرئية، أو بواسطة هذا الصوت الجميل الذي عشقه بالأمس، أو بواسطة هذه الأفلام التي وصلت إليه فحركت شهوته فصار يبحث عنها، ومن هنا مهدت كل السبل للمسلمين بحيث يسافرون إلى بلاد لا ترعى في دين الله إلاً ولا ذمة، ولا تعرف شيئاً من الاستقامة، ولا تعرف شيئاً من الأخلاق والفضائل، بل تبذل الجريمة للناس علناً. ولقد توافرت كثير من وسائل الحياة في سبيل تحقيق هذا المطلب، حتى الطيران صار يُخفض للشاب بنصف قيمة التذكرة، حيث يسافر إلى هناك من أجل أن يحقق رغبته وشهوته ليأتي هنا بهذا السم الزعاف لينثره في مجتمعه، ولربما تذهب الأسرة بمجموعها فتأتي بكثير من هذه الرذائل وكثير من هذه الأفلام، وهذا سببه كله ما متعنا الله به من زينة الحياة الدنيا ومن المال، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه بقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، ولعله المقصود في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف:95] لأن هذا المال أصبح جناحاً يطير به هذا الإنسان حيث يشاء وحيث يريد، ويوم كنا فقراء كنا أتقى لله عز وجل، ولذلك كانت وصية أحد الأنبياء لقومه: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132 - 135]. فهذا المال إذا لم يصادف عقلية كبيرة تزن الأمور بميزان الشرع صار خطراً على هذه الأمة أو على أي أمة من الأمم، وهذا هو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولكن أخشى عليكم الدنيا)، وجعل فتنة النساء تساوي فتنة الدنيا كلها فقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء). وأعتقد أن هذا من أكبر العوامل التي سببت انحراف كثير من المسلمين.

الخوف من المخلوق

الخوف من المخلوق هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن هذا، وهو عامل الخوف من المخلوق، بحيث يتراجع الإنسان من منتصف الطريق حينما يخاف من مخلوق من المخلوقين؛ لأن خشية الله صارت أقل من خشية مخلوق من المخلوقين في قلب هذا المسلم؛ لأن الإيمان ضعف في قلبه، وهذا أيضاً عامل من عوامل الانحراف، ولكم كنا نعلق آمالاً بعد الله عز وجل على كثير من المصلحين حتى رجعوا من منتصف الطريق لما رأوا الأمر بواقع يخافون منه، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين حقاً، فإن الذي يرجع إذا خاف من المخلوق بحيث يقدم خشية المخلوق على خشية الخالق ضعيف الإيمان أو فاقد الإيمان، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] يترقبون المؤمنين، فإذا وجدوا المؤمنين يعيشون في عزة وفي قوة كانوا معهم، وإذا وجدوا الإسلام يضرب في مكان من الأرض انحرفوا حيث يخافون من هذه الضربة أو من هذا العدو أو من هذا المخلوق، ويفرون من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة، وهذه هي المصيبة، ولذلك يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ثم أقسم الله تعالى فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]. فهذا عامل من عوامل الانحراف التي أصيب بها كثير من الناس، ولربما أصيب طائفة من الدعاة والمصلحين بسبب خوف المخلوق وتقديمه على خوف الخالق سبحانه وتعالى.

قوة دعاة الباطل ونشاطهم

قوة دعاة الباطل ونشاطهم ومن عوامل الانحراف قوة ونشاط دعاة الباطل. فقد كرسوا جهودهم وبذلوا قصاراها في سبيل حرف أبناء المسلمين عن دينهم، وهؤلاء هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] وقدم شياطين الإنس أولاً {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، هؤلاء الشياطين الذين لم يدخروا وسعاً في سبيل انحراف أبناء المسلمين عن دينهم وعن الفطرة السليمة المستقيمة التي فطر الله عز وجل الناس عليها. هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم من أعدائنا المكشوفين، والذين كانوا بالأمس يستعمرون كثيراً من بلاد الإسلام، ولكنهم لم يرحلوا منها حتى تأكدوا بأنهم حرفوا كثيراً من المسلمين عن دينهم، وأنهم أوقعوهم على حافة الهاوية، ولربما لم يرحلوا حتى تركوا أفراخاً لهم وأوصوهم أن يقوموا بهذه المهمة، وهؤلاء هم الذين يشكلون القسم الثاني من عوامل دعاة الباطل وهم أبناء جلدتنا، وهم الذين ورد ذكرهم في حديث طويل رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. قلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: يا سول الله! وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قال حذيفة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! صفهم لنا: قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا). وإذا كان الإسلام بالأمس يحارب بـ أبي جهل وأبي لهب فإنه اليوم يحارب بأحمد ومحمد وعبد الله، وإذا كان بالأمس يحاول أعداء الإسلام قطع شجرة الإسلام بفأس الكفر فإنهم يقولون: اليوم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها. ولذلك فإننا لا نستغرب هذه الدعايات المضللة التي يتبناها كثير من المتمسلمين، والذين ينتسبون إلى الإسلام والإسلام منهم براء، والذين يحاولون أن يشككوا المسلمين في دينهم وأخلاقهم وفضائلهم، فمرة يتكلمون عن الحجاب ويصفون الحجاب بأنه تخلف وقوقعة، ومرة يصفون الحدود ويقولون إنها تخلف ووحشية، ومرة يصفون القصاص ويقولون: هذا لا يناسب هذا العصر. ويكتبون في صحف المسلمين بين فترة وفترة يشككون المسلمين في دينهم. ولم يعمل أعداء الإسلام أكثر من ذلك، بل لقد كان عمل هؤلاء أكثر وأخطر على الإسلام من عمل أعداء الإسلام المكشوفين، لماذا؟ لأن هؤلاء يندسون في صفوف المسلمين، ويحسبون على الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين ويحملون في جيوبهم هويات مسلمة، والمسلمون قد لا يتقون شرهم؛ لأنهم يطمئنون إليهم في كثير من الأحيان، ومن هنا أصبح الخطر أكبر، وأصبحت المصيبة أبدع، ولذلك فإن دعاة الباطل من أبناء جلدتنا أخطر بكثير على الإسلام من دعاة الباطل الذين نعرف بأنهم أعداء للإسلام. فهذا جانب مهم من جوانب الانحراف، ولذلك فقد أثرت دعوة هؤلاء في كثير من ضعاف العقول، وفي هذا نحن لا نتناسى هذه الصحوة الإسلامية -والحمد لله- التي ملأت الدنيا، والتي قطعت نياط قلوب الكافرين في كل مكان من الأرض، سواء أكان هؤلاء الكافرون من أبناء جلدتنا أم من أعدائنا الذين يحيطون بنا من الخارج، والذين صاروا يصفون هؤلاء بالرجعية، ويصفون هؤلاء بالتطرف، ويصفون هؤلاء بالتخلف. وما هو -والله- بتطرف ولا هو بتخلف، ولكنه الدين الحق، بل هؤلاء الشباب هم الذين قال الله فيهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:22 - 23]، ومن هنا نعرف قدر هذه الصحوة، وعلينا أن نقدر لها قدرها، ونمد أكف الضراعة لله عز وجل في أن يثبت أقدام هؤلاء الشباب المؤمنين، وأن يرزقهم الاتزان، وأن يرزقهم الصراحة في الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون الدين كله لله، وحتى يعود الخير إلى مجاريه.

ضعف دعاة الحق

ضعف دعاة الحق أما العامل الأخير من عوامل هذا الانحراف فيتمثل في ضعف دعاة الحق. ففي أيامنا الحاضرة ضعف كثير من دعاة الحق، ولربما ترك كثيرٌ منهم الأمر كله، ولربما كان هناك منهم من يئس ومنهم من خاف ومنهم من ضعف، وكل هؤلاء وهؤلاء وأولئك لن يضروا دين الله عز وجل، فإن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والله متم نوره ولو كره الكافرون، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. ومن هنا فنحن لا نخاف على الإسلام حينما نرى أن كثيراً من دعاة الحق قد تركوا الواجب المناط بهم، ولكننا نخاف على هؤلاء؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4]، أي من أعدائه {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4 - 5].

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعلم أن هذا العامل هو من أكبر العوامل وأهمها، واعلم أن الباطل منذ أن خلق الله الأرض وإلى يوم القيامة باق في هذه الأرض، ولكن لابد من أن تكون هناك دعوة حق تكافح هذا السوء وتقف في وجه هذا المنكر؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116] مما يدل على أن الفساد في الأرض كان قديماً {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، ولذلك فإن الله عز وجل قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: فقسمان هالكان وقسم ناج، أما القسم الأول الهالك فهو فاعل الجريمة، والقسم الثاني هو الساكت عن الجريمة ويسميه العلماء شيطاناً أخرس، ولا ينجو إلا الذي ينهى عن السوء، وهو القسم الناجي. فمن أغمض عينيه عن منكر فإنه سيسأل عن هذا المنكر يوم القيامة، وليس معنى ذلك التهور في إنكار المنكر، ولكن يجب إنكاره بحكمة، وليس معنى الحكمة اللين أيضاً، ولكن الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها. يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] ذكر الله ثلاث طوائف في بني إسرائيل: طائفة فعلت المنكر وصارت تصيد السمك يوم السبت، وقد نهاهم الله عز وجل عن صيد السمك يوم السبت، ولم يصيدوه مباشرة وإنما استعملوا الحيلة، يضعون الشباك يوم الجمعة وينزعونها يوم الأحد، وبالرغم من أنهم يعملون الجريمة بطريقة غير مباشرة، فإن الله عز وجل أخذهم، وأخذ معهم قوماً يقولون: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]، ونجى أمة واحدة هي التي قالت: اتركوا هذا المنكر واتقوا الله واحذروا سخطه. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. وأنت -يا أخي المسلم- إذا كنت تكره الانحراف الذي أصيب به العالم اليوم فإنه لا سبيل إلى الإصلاح إلا أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعتبر نفسك جندياً من جنود الله شاء الناس أم أبوا، وتعاهد الله عز وجل على أن تنكر هذا المنكر مهما عز المطلب ومهما غلا الثمن، وإلا فإنه يخشى عليك أن تكون من الذين يقول الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]. وأنت -يا أخي- حينما تهرب من عقوبة الناس عليك أن تقارن بين عقوبة الناس وبين عذاب النار، إن أكثر ما يستطيع أن يفعله الناس بالناس حينما ينكرون المنكر ويقفون في وجوه الطغاة الذين كثير منهم اليوم يتسنم مراكز العالم الإسلامي إن أكثر ما يفعلونه هو القتل واغتيال هذه الروح، وهي لن تموت إلا بأجل بإذن الله عز وجل، والرزق أيضاً مقدر من عند الله سبحانه وتعالى، فأيهما أهون: هذا العذاب أم عذاب الآخرة الذي لا ينتهي أبداً؟ وهذا هو معنى قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: عقوبتهم {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: عذاب يوم القيامة. إذاً عليك -أخي المسلم- أن تكون جندياً من جنود الله، وأن تكون داعياً إلى الاستقامة على دين الله، محارباً للانحراف بجميع صنوفه وملله وأنواعه. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتني وإياك على هذا الأمر، وأن يتوفانا ونحن على ثغور الإسلام، وأن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يوفق قادة بلدنا وقادة العالم الإسلامي أجمع لأن يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الزواج هو العلاج الوحيد للشهوة

الزواج هو العلاج الوحيد للشهوة Q أنا من أول عمري أحب الخير وأسعى إليه، وأستمع إلى المحاضرات والأشرطة الدينية، وأدافع عن الدين أمام الشباب، ولكن عندي مشكلة أقلقت راحتي، وهي دافع الشهوة القوي حيث ألجأ إلى المعصية، وأنا الآن أفكر في الزواج، ولن يتم الزواج لوجود بعض الظروف، ولا أستطيع الصيام، وأنا أرتدع أمام المواعظ، ولكن عندما أقدم على هذه المعصية لا أبالي، فما رأي فضيلتكم؟ A لقد أرشدت نفسك إلى طريق العلاج وهو الزواج، والزواج هو العلاج الوحيد لسد شهوة الإنسان؛ لأنك وأنت تقرأ سورة النور تجد ثاني آية تتحدث عن جريمة الزنا وعقوبته، ثم بعد ذلك تبين عوامل الجريمة، ثم تبين في آخر آية العلاج الصحيح وهو الزواج: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]. وعلى هذا فإن الزواج سنة من سنن المرسلين، وهو العلاج الوحيد لهذه الشهوة التي تشتكي منها، ولربما أصيب بها كثير من الناس وأصبحت تقلق راحته، والزواج -والحمد لله- الآن شبه ميسر، فهناك أهل الخير، وهناك الجمعيات الخيرية، وهناك المحسنون كلهم يتعاونون مع الشاب إذا عزم على الزواج، ولذلك فإني أدعوك للزواج بحيث تصرف هذه الشهوة التي أقلقت راحتك مصارفها المباحة لتسلم من آثامها ومصائبها.

علاج التفكر في ذات الله

علاج التفكر في ذات الله Q إني كثير التفكير في ذات الله، أرجو أن أرشد إلى داوء أو قول يبعدني عن هذا التفكير؟ A التفكير في ذات الله من الشيطان، ولكنه حقيقة الإيمان، ولكن الاستجابة مع هذا التفكير والانصياع له بطريقة شديدة قد يؤثر على عقيدة المسلم، ولذلك الصحابة لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به قال: (ذاك صريح الإيمان) ثم أمر المسلم بأنه إذا فكر في هذا يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. وأرشدك -يا أخي- إلى التفكر في مخلوقات الله لتعرف فيها عظمة الله بدل أن تفكر في ذات الله تعالى؛ لأن مخلوقات الله هي التي تعرض أمامك في الليل وفي النهار، وفي كل لحظة من لحظات حياتك، بل وفي نفسك، وإذا فكرت في نفسك وفي خلقك وفي دقة صنعك عرفت قدرة الله سبحانه وتعالى، ولو رفعت نظرك إلى السماء في الليل فرأيت النجوم والقمر، أو في النهار ورأيت الشمس وهذا النظام البديع لأدركت عظمة الخالق سبحانه وتعالى، والتفكير في عظمة الله وفي مخلوقاته يغنيك عن التفكير في ذات الله الذي يجب عليك أن تنتهي عنه بقولك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].

حرمة شرب الدخان وحرمة انتهار الأم

حرمة شرب الدخان وحرمة انتهار الأم Q هل شرب الدخان من سبل الانحراف؟ وإذا دخلت إلى البيت وأنت غضبان فكلمتك والدتك لترسلك إلى السوق -مثلاً- فنهرتها فهل هو حرام؟ A أما بالنسبة للدخان فقد ثبت ضرره طبياً واجتماعياً وأخلاقياً، ولذلك فإنه يعتبر من الفسق، وأنا لا أستطيع أن أقول: إنه محرم وأجزم بأنه محرم، ولكن من خلال أضراره التي نسمع عنها نستطيع أن نقول: بمقدار أضراره يكون محرماً. فإذا كان فيه ضرر على الصحة فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، ولذلك فإن الرجل الذي حز يده قال الله عز وجل: (عبدي بادرني بنفسه! حرمت عليه الجنة) وذلك عندما قتل نفسه، فإذا كان الدخان يؤدي إلى قتل النفس فإنه من أكبر المحرمات، وفيه خطر أيضاً أنه قد يكون سبباً للخلود في النار؛ لأن الله تعالى يقول: (حرمت عليه الجنة)، وهذا من باب الوعيد. وعلى كل فهو من الفسق، وهو من أسباب الانحراف، ولربما يجر شرب الدخان إلى الشاب الحدث مصائب أكبر من شرب الدخان، بحيث يحتاج إلى شيء من المال فلربما يتنازل عن شرفه وعرضه، ولربما يخالط أراذل الناس بسبب شربه للدخان، ولذلك فإني أدعو الشباب إلى أن يبتعدوا عنه، وأن يتقوا الله. أما بالنسبة للأم فإن الله تعالى حرم التأفف في وجهي الوالدين، فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] و (أف) معناها تضجر، يعني: لا يجوز أن تتضجر في وجهيهما، فإذا طلبت منك حاجة كأن تذهب إلى السوق لمصلحة أو ما أشبه ذلك وليس هناك ضرر فإنك ملزم بطاعتها بقدر الاستطاعة، وهذا من البر؛ لأن البر معناه الطاعة للوالدين بالمعروف.

خطورة مخالطة المنحرفين

خطورة مخالطة المنحرفين Q هناك بعض الشباب مستقيمون ولكنهم يخالطون أناساً منحرفين، ويحتجون بأنهم مستقيمون وأن هذا لا يضرهم، فهل هذا صحيح أم لا؟ A الاختلاط بالناس على نوعين: فمن كان يعرف من نفسه الاستقامة ولا يخشى عليها الانحراف من مخالطة هؤلاء، بحيث تكون شخصيته أكبر من شخصية من يخالطه وأقوى، ويعرف بأنه بمخالطة هذا المنحرف يستطيع أن يقوم أخلاقه فإن هذا سنة، وقد نقول: إنه واجب؛ لأن هذا من الدعوة إلى الله ومن الإصلاح. أما إذا كان يخشى على نفسه من ضرر هذا المختلط به لأنه أقوى شخصية منه فإنه يحرم عليه أن يختلط به؛ لأن هذا سبب من أسباب الانحراف. أما إذا كان يجهل الأمر فلا يدري أيستطيع أن يؤثر على صاحبه أم صاحبه يستطيع أن يؤثر عليه فإن الاحتياط أن لا يقرب؛ لأنه سيؤثر عليه؛ ولأنه ربما يكون خطراً عليه، وهذه مخاطرة في دينه، وعلى هذا فإن عليه أن يبتعد ويعَتَبِر هذا من أكبر المنكرات.

توجيه للشاب إذا كان في بيته منكرات

توجيه للشاب إذا كان في بيته منكرات Q توجد استقامة عند بعض الشباب مع فساد البيت الذي يعيش فيه، ولا يستطيع إزالة ما في البيت من منكر، فما هو الحل لهذا الشاب حتى لا يتأثر بهذا المنكر؟ A ما ورد في السؤال صحيح، خاصة في هذه الأيام، فقد وجد في كثير من البيوت الإسلامية شباب مستقيمون خالفوا في استقامتهم منهج كثير من أفراد الأسرة، ولربما يكون من أفضل فضائل هذا العصر أن كثيراً من الأبناء صاروا أفضل من آبائهم استقامة. وبقيت مشكلة ما يعانونه في هذا البيت من انحراف، فأقول للشباب: إن كان هذا الانحراف لن يؤثر عليك في نفسك فإن عليك أن تبقى في هذا البيت من أجل إصلاح هذا البيت، ومن أجل أن تبذل كل ما في وسعك في سبيل تقويم هذا البيت وإصلاح أهلك وإخوانك وأبيك وأمك، ومن كان في البيت. أما إذا كنت لا تطيق ذلك حيث إن هذا خطر ربما يصل إليك في يوم من الأيام، وبذلت كل الجهود في سبيل الاستقامة فإن عليك أن تهرب بدينك وأن تلزم جماعة المسلمين، لكن بعد أن تتأكد من أنك مهدد بالخطر في دينك، أما إذا كنت تشك في ذلك فإن بقاءك بين أهلك وذويك خير لك، خصوصاً وأنك مطالب بإصلاحهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].

موقف الإنسان من الانحرافات والفتن والمضايقات

موقف الإنسان من الانحرافات والفتن والمضايقات Q ما هو موقف الإنسان تجاه الانحراف والفتن والضغوط التي تحصل له بسبب الاستقامة؟ A موقف المسلم هو الثبات وعدم التأثر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قولٍ لا يسأل عنه أحداً غيره فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا يدل على أهمية الاستقامة. وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن لا يتأثر بالأجواء التي تحيط به، سواء أكانت في بيته أم في مجتمعه أم في العالم أجمع؛ لأن المسلم إذا اقتنع بطريقه ومبدئه وعرف أنه على حق وعلى طريق مستقيم فإنه لا يضره ما حوله، وحينئذ فإني أوصي الشاب الذي يقع في مثل هذا بأن يثبت على دين الله، وأن لا يتأثر بما يحيط به من دعوات مضللة وأفكار منحرفة، وحينئذ فإنه سيجد الخير في نهاية هذا الطريق.

الصبر على الاستقامة والثبات عليها

الصبر على الاستقامة والثبات عليها Q بعض الشباب المتدينين يلاقون بعض المضايقات من بعض الناس بإطلاق الكلمات القبيحة التي قد تؤثر على الشاب الذي هو في بداية الاستقامة، فما هي الآيات القرآنية التي نقرؤها من أجل أن يتقوى إيمان هؤلاء الشباب؟ A هذا المبدأ قديم وليس بجديد، فالمسلمون الأوائل كانوا يلاقون مثل هذه الضغوط وأشد من ذلك، كان الواحد منهم كـ بلال رضي الله عنه توضع حجارة حارة على بطنه، ولا يصده ذلك عن دينه، وكان عمار وأبوه ياسر وأمه سمية وأناس غيرهم يلاقون صنوف الأذى في سبيل دينهم ولا يصدهم ذلك عن دين الله. وممن لاقى الصد عن الدين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذلك أنه اعتنق الإسلام فقالت أمه: يا سعد! والله لا آكل طعاماً ولا شراباً حتى تكفر بدين محمد. فجلس هذا الرجل بين عاملين -عامل الإيمان والعقل وعامل العاطفة- ينظر إلى أمه ونفسها تتقعقع من شدة الجوع، ولكن العقل غلب العاطفة فقال: اسمعي يا أماه: والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فأكلت، وأنزل الله تعالى فيه قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]. أما ما يلاقيه المسلمون من التعب في أيامنا الحاضرة فإنا نعزيهم فيه بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، ونعزيهم بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29 - 32] يقولون: هذا لحيته طويلة. هذا ثوبه قصير. هذا رجعي. هذا فيه كذا. أما النتيجة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]. وحينئذ فيكفيك فخراً -أيها الأخ المسلم- أن يقول الله لك بأنك مؤمن {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، ويقول الله تعالى عن يوم القيامة حينما يجمع الله الناس ثم يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، ويبدأ الخصام بين هؤلاء الذين يسخرون من المتدينين ويضحكون منهم ويتخذونهم سخرياً، يقول الله تعالى لما يلقي أولئك في النار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]. ومن هنا لا يجوز لمسلم أن يتأثر بمثل هذه الدعايات التي تكال اليوم لكثير من المسلمين، والذين أصبحوا غرباء، ويكفيهم أنهم غرباء، وطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس.

الدخان حرام بحسب ما فيه من الضرر

الدخان حرام بحسب ما فيه من الضرر Q ما معنى قولك: لا أجزم بتحريم الدخان؟ A أنا لست أقول: إن الدخان ليس بمحرم. وهناك فرق بين من يقول: احتاج إلى أن أتأكد من تحريمه ومن يقول: إنه محرم. لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87]، فالإنسان الذي يحرم الشيء ولم يتأكد منه أعظم جرماً ممن يفعل حراماً، فالذي يفعل حراماً فعل معصية والذي يحرم شيئاً لا يجزم بتحريمه تعدى على شرع الله تعالى وتعدى على التشريع الذي هو لله تعالى، ولكني أقول: إن الدخان قد ثبتت مضاره، فظهرت دلائل الحرمة من خلال هذه المضار، سواء في ذلك المضار الاجتماعية -فإنه لا يتعاطاه في الغالب إلا الساقط من الناس- أو الأضرار الأخلاقية -قد خربت أخلاق كثير من الشباب بشرب الدخان- أو الأضرار الصحية أيضاً، فقد ثبت طبياً بأنه ضار، ومن هنا نستطيع أن نقول: إنه محرم بمقدار ما فيه من المضار. أما أن نقول: هو محرم لذاته فلا أحد يستطيع أن يقول: إنه محرم لذاته؛ لأن الدخان لم يرد فيه شيء من شرع الله، ولأنه من الأمور المحدثة، ولكن تحريمه معلق بالأضرار التي تترتب عليه، ولذلك فإني أصحح مفهومك -يا أخي- بأني لم أقل بأن الدخان حلال، أو أن الدخان غير محرم، ولكني أقول: أنا لا أجزم بتحريمه إلا بمقدار ما فيه من الأضرار. فإذا ثبتت هذه الأضرار التي نسمع بها أو جزء منها فحينئذ يكون محرماً لا لذاته، وإنما لما يترتب عليه.

حكم الخجل من إنكار المنكر

حكم الخجل من إنكار المنكر Q أنا شاب أبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، أرى بعض الناس المسبلين وغيرهم من العصاة، ولكن لا أنصحهم؛ لأنني شديد الخجل، فهل علي إثم؟ وما علاج ذلك؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى) و (من) هنا اسم موصول من ألفاظ العموم، أي: جميع الناس (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، والمسألة ليست مسألة تخيير وإنما هي مسألة ترتيب، فإذا كان الإنسان يستطيع أن ينكر المنكر بيده فإنه مطالب بذلك، والله تعالى أعطى المسلمين قوة، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، ثم قال بعد ذلك: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فالقوة يجب أن تصحب الكتب السماوية. ثانياً: إذا عجزت عن الإنكار بيدك فإنك مطالب بأن تنكر بلسانك، وإذا كان يمنعك الخجل فهذا خطأ كبير؛ لأن الحياء يجب أن يكون من المعصية لا من الطاعة، ومن هو الذي يخجل من أن يطيع الله عز وجل؟! بل المسلم مطالب بأن يستحيي من أن يفعل معصية، أما الطاعة فإنه لا يجوز أن يمنعك الخجل منها، والإنكار بالقلب لا يجوز أن نلجأ إليه في مثل هذه الفترة، ونحن -والحمد لله- نعيش في حكم إسلامي وفي دولة إسلامية لا تعارض الذين ينكرون المنكر، فإذاً أصبح الإنكار بالقلب لا مجال له في بلادنا.

لبس الحجاب شرع لا عادة

لبس الحجاب شرع لا عادة Q كثير من الناس يعتبر أن الحجاب عادة وليس واجباً، وأن العلماء يأمرون به لئلا ينتشر الفساد، فهل هذا صحيح؟ وهل ولي الأمر آثم إذا لم تتحجب نساؤه؟ A الحجاب ليس بعادة، وهذه من السموم التي دسها أبناء جلدتنا، فقد كتبت صحف كثيرة في بلادنا بأن الحجاب موروث عن العصور المتخلفة، وأن الحجاب تقوقع وتخلف، وقرأنا كثيراً في كثير من صحفنا حينما مرت بها فترة سيطر عليها فيها طائفة ممن نخشى أن يكونوا من تلك الفئة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. فالحجاب واجب بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، ويمكن أن نقسم الحجاب إلى قسمين حتى لا نتعدى على شرع الله: فهناك حجاب لتغطية الوجه واليدين مع بقية الجسد، وهناك حجاب بمعنى ستر العورة التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} [النور:31] إلى آخر الآية. أما الأول فهو وإن كان قد اختلف طائفة من العلماء في حكم ستر الوجه والكفين إلا أن العلماء أجمعوا إجماعاً على أن الفتنة إذا خيفت فإنه يجب تغطية الوجه والكفين، وحينئذ يصبح ذلك الرأي لا أثر له؛ لأن الفتنة متوقعة ومتأكدة في كشف الوجه والكفين، خصوصاً الوجه الذي هو موضع جمال المرأة، وعلى هذا فإنه يصبح الخلاف لغوياً ولا أثر له في الشرع، فإذا كان هناك من الأئمة الأربعة من قال: يجوز كشف الوجه والكفين فقد أجمع الأربعة وأجمع المسلمون على أنه إذا خشيت الفتنة فلا يجوز كشف الوجه، وحينئذ أصبح كشف الوجه -خاصة في أيامنا الحاضرة- موضع فتنة، ومن المؤكد أنه يثير الفتنة، إذاً نستطيع أن نقول: أجمع المسلمون على تغطية الوجه في زمننا؛ لأنه موضع للفتنة بالإجماع. أما بالنسبة لما زاد على الوجه والكفين فلا أحد يستطيع أن يقول بأنه ليس في شرع الله، بل جاءت به الأدلة القرآنية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، ثم قال بعد ذلك: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] وأحاديث كثيرة عن رسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على ذلك. إذاً هذه التي تخرج شعرها أو ساقيها أو عضدها أو نحرها أو ما أشبه ذلك كيف تستطيع أن تقول بأنها أخذت دليلاً من شرع الله تعالى على ذلك؟! وقد أجمع المسلمون على تحريم هذا الأمر بنص القرآن الكريم وفي نص السنة المطهرة، والخلاف إنما هو في الوجه والكفين، وإجمع المسلمين على أنها إذا خشيت الفتنة فلا يجوز كشف الوجه. إذاً يكاد أن يكون الحجاب واجباً إجماعاً.

حكم تأخير الصلاة عن وقتها لمشاهدة المباريات

حكم تأخير الصلاة عن وقتها لمشاهدة المباريات Q أحضر بعض المباريات وتكون في أوقات الصلاة، فيخرج الوقت، فهل أنا آثم بذلك؟ A نعم أنت آثم، وما هذه المباريات وما وزنها في دنيا الناس اليوم إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف المعركة من أجل أن يقيم الصلاة؟! فكان يغير شيئاً من نظم الصلاة من أجل أن تقام الصلاة جماعة لا فرادى، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، ثم يقول بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا} [البقرة:239] أي: صلوا وأنتم تركضون على أقدامكم {أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] وأنتم على الإبل والخيل. إذاً ما هو عذرك -يا أخي- وأنت في سفاسف الأمور كلعب الكرة؟ تريد أن تؤخر الصلاة عن وقتها والرسول صلى الله عليه وسلم في ساحة الجهاد في سبيل الله يأمره الله تعالى بأن يقيم الصلاة جماعة، وأن يغير شيئاً من نظم الصلاة من أجل أن تقام الصلاة جماعة فمثلاً: كان يصف المسلمين صفين، فيسجد الصف الأول ويقف الصف الثاني ولا يسجد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يسجد الصف الثاني في الركعة الثانية ويبقى الأول، ثم بعد ذلك كل يكمل ركعة أخرى ويسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أين هذا من ذاك؟! وأين هذا الواقع الذي تصطف فيه آلاف البشر من المسلمين وتمر بهم الصلاة تلو الصلاة لا يرفعون بها رأساً، من واقع الرسول صلى الله عليه وسلم حين يأمره الله تعالى أن يقيمها في ساعة المعركة؟ إذاً عليك -يا أخي- أن تعلن الأذان، وأن تقطع كل شيء حتى تقام الصلاة جماعة، ولا عذر للمسلمين في أن يمضي الوقت وهم في أي عمل من الأعمال دون أن يقيموا الصلاة.

كثرة النعم ليست دليلا على رضا الله

كثرة النعم ليست دليلاً على رضا الله Q هل يصح لنا أن نقول: إن كثرة النعم دليل رضا الله علينا؟ A لا، والنعم تأتي لثلاثة أمور: إما أن تكون علامة على الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وإما أن تكون علامة غضب، كما في قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، وقبلها {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]. وإما أن تكون امتحاناً وابتلاء، أي أن الله تعالى يختبرك بالنعمة، ويعطيك المال ويعطيك الولد، ويعطيك الخيرات ورغد العيش ليختبر إيمانك هل تصبر أو لا تصبر، وهذه أكثر ما تكون في عالم الناس.

تمييز نعمة الاستدراج عن نعمة الرضا أو الابتلاء

تمييز نعمة الاستدراج عن نعمة الرضا أو الابتلاء Q كيف نعرف إذا نزلت بنا نعمة أنها اختبار وعذاب أو رحمة ورضا من المولى عز وجل؟ A العلامة هي الطاعة، فإذا جاءت النعمة مع الطاعة والاستقامة على دين الله فهذه علامة الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن:16] أي: على المنهج السليم {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، ثم قال: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17] أيضاً، فهم يعطون النعمة جزاءً ويختبرون بها أيضاً، ولكن إذا جاءت النعمة مع المعصية فإنها علامة الاستدراج؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام:44] يعني: أعرضوا عن دين الله {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]. فالعلامة هي واقع الناس، فإذا كان الناس تأتيهم النعم مع استقامة فهذه قد تكون علامة رضا، وإذا جاءتهم مع معصية وكفره وكلما زاد الكفر والبعد عن الله تعالى زادت النعم فهذه علامة الغضب ودنو العذاب.

ترك فعل الخير والصوم بدعوى الصغر

ترك فعل الخير والصوم بدعوى الصغر Q بعض الناس يقول: أنا إنسان مستقيم. ولكنه لا يفعل الخير ولا يصوم؛ لأنه يدعي بأنه صغير، فماذا نقول له؟ A إذا كان صغيراً فإنه لا يلزمه الصيام؛ لأن كل تكاليف الإسلام وشرائع الإسلام لا تلزم إلا بعد البلوغ، ولكن المسلم يتمرن عليها قبل البلوغ، حتى إذا بلغ يكون قد استعد، فيؤمر الصبي بالصلاة لسبع سنين، ويشدد عليه إذا بلغ عشر، لكن في السابعة إلى العاشرة إلى أن يبلغوا لا يكلفون بالصلاة ولا يعاقبون على تركها، وإنما هي من باب التمرين والتربية، وكذلك الصيام، وقد كان الصحابة يدربون أبناءهم على الصيام وهم أبناء عشر سنين وهم صغار. وعلى كل فإذا كان هذا الذي يدعي بأنه مستقيم ويترك العبادات وهو دون البلوغ فإنا نقول: من الاستقامة أن تؤدي هذه التكاليف لتتمرن عليها، ولكننا لا نقول بأنك عاص أو مرتد إذا تركت الصلاة وأنت لم تبلغ، ولكن المستقيم بطبيعته يتمرن على العبادات ويؤدي العبادات ولو كان صغيراً.

حكم قراءة المجلات الماجنة

حكم قراءة المجلات الماجنة Q عندي كثير من المجلات الفاسدة فهل يحرم علي قراءتها، علماً أنني لا أريد أن أرد على ما ورد فيها، وهل إذا علم ولي الأمر أن أولاده يقرءون ذلك يكون آثماً؟ A أما بالنسبة للشر الذي فيها أو النظر إلى الصور المثيرة فإن هذا تحرم قراءته، اللهم إلا للإنسان يريد أن يعلم هذا الشر من أجل أن يرد عليه من حيث جاء، فإن هذا يستحب إن لم يكن واجباً؛ لأن هذا من إنكار المنكر. أما بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يتمتع بالشر الذي فيها أو يتمتع بالصور المنحرفة الموجودة فيها كصور الغلاف أو داخلها أو ما أشبه ذلك فهذا حرام، ولكني أنصح الشباب الذين لم ينضجوا بعد أن يبتعدوا عنها قدر المستطاع، حتى ولو كان اقتناؤها بدافع الرد عليها أو معرفة الشر كما يقولون؛ لأن هؤلاء لا يؤمن عليهم الانحراف، ولأن أعداء الإسلام قد يدسون السم في الدسم، فيأتون بأفكار سيئة مشبوهة بكلمات حسنة، ولذلك فإن هذا خطر.

الكتاب والسنة ميزان استقامة العمل

الكتاب والسنة ميزان استقامة العمل Q إن بعض الناس يعمل ويعتقد أن عمله على استقامة، فكيف نعرف أن هذا الإنسان على استقامة في عمله؟ A نعرض عمل هذا الإنسان على المنهج الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عمله موافقاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا عمل صحيح ومقبول، وإذا كان مخالفاً للمنهج الذي جاء من عند الله وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو غير صحيح؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].

طريقة نصح الشباب وكيفية إقناعهم

طريقة نصح الشباب وكيفية إقناعهم Q بعض الشباب في وقتنا الحاضر انحرفوا عن الطريق السليم، وإذا خاطبت واحداً من هؤلاء ناصحاً له فإنه لا يبالي بهذه النصيحة؛ لأنه قد يكون من ينصحه لم يقنعه إقناعاً تاماً، فما هي الطريقة التي يستطيع الداعي بها إدخال نصيحته إلى قلب هذا الشاب؟ A أعتقد أن التربية في أيامنا الحاضرة أفضل من النصيحة، وأفضل من الموعظة، لأن التربية كمن يغرس شجرة ثم يتعاهدها فترة بعد أخرى، والموعظة كمن يغرس شجرة ثم ينساها مدة طويلة من الزمن حتى تذبل أو تيبس. وعلى هذا فإن من أفضل الطرق التي نستطيع أن نربي فيها أبناء المسلمين اليوم لمن أراد ذلك أن يحتضن مجموعة من شباب المسلمين مجموعة أخرى يعيشون معهم ويقضون مدة من الزمن مع بعضهم، ويتبع بعضهم بعضاً بالخير، ويحذر بعضهم بعضاً من الشر، ويقلد بعضهم بعضاً في الأفعال الخيرية، وأقول: يقلد، أي: يأخذ الخير منه، أما التقليد الأعمى الذي لا ينبني على قاعدة فإنه لا يصح. فهذه تعتبر من أفضل الطرق، والموعظة -أيضاً- لها أثر بين فترة وأخرى، ولكن التربية أفضل من الموعظة، ولذلك جاء في آخر حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم). فالإنسان عليه أن يلزم الجماعة المسلمة، وعليه أن يبحث عن مجموعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فالذي يبتعد عن إخوانه وعن أهل الخير يقتنصه أعداء الإسلام، والذي يعيش مع هؤلاء يسلم في الغالب من أعداء الإسلام الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، قال حذيفة: (فإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: فاهرب بدينك ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).

قبسات من حياة موسى عليه السلام

قبسات من حياة موسى عليه السلام لقد كانت قصة موسى عليه السلام أكثر القصص تكرراً في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العظات والعبر، فقد عانى موسى عليه السلام من بني إسرائيل أشد المعاناة، وذلك بسبب عنادهم وعصيانهم، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً، إضافة إلى أن موسى عليه السلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة؛ إذ كانوا قد بلغوا غاية الطغيان، ففي صفحات هذه المادة قصة موسى عليه السلام، والمواقف والأحداث التي تعرض لها.

أهمية قصص الأنبياء

أهمية قصص الأنبياء الحمد لله نحمده ونستعينه ونشكره، ونثني عليه الخير كله ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد قص الله علينا في كتابه قصصاً طيبة من أخبار أنبيائه، ووصفها بأنها أحسن القصص، وهذا الوصف من الله تبارك وتعالى يدل على أنها أصدقها وأبلغها وأنفعها للعباد، فمن أهم منافع هذه القصص أن بها يتم ويكتمل الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وحينما نتحدث عن قصص المرسلين نحقق قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، ففي هذا القرآن من العظة والعبرة الشيء الكثير، سيما في أخباره الصادقة التي لا تتناقض ولا تختلف، والعظة للمؤمنين الذين يفهمون كتاب الله عز وجل غضاً طرياً كما أنزل، ففي قصص المرسلين العظة والعبرة، ولذلك تجد أن جزءاً عظيماً من القرآن الكريم يهتم بجانب القصة، وليست قصة تسلية ولكنها قصة عظة وعبرة، سيما حينما تتكلم عن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام. وسوف يكون كلامنا عن سيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام.

أسباب اختيار قصة موسى عليه السلام

أسباب اختيار قصة موسى عليه السلام أولاً: تعتبر قصة موسى أكثر قصة تكررت في القرآن العظيم؛ لما فيها من العظة والعبرة، لاسيما في بني إسرائيل الذين طال عنادهم لموسى عليه الصلاة والسلام، واستمر مدة طويلة من الزمن إلى أن قضى الله عز وجل أمراً كان مفعولاً. ثانياً: أن موسى عليه الصلاة والسلام عالج فرعون وجنوده أشد المعالجة، فلم يعرف التاريخ رجلاً أشد طغياناً منه؛ لأنه زعم الإلهية لنفسه، وأنكر إلهية الخالق سبحانه وتعالى. وبالرغم من أن فرعون أنكر إلهية الخالق إلا أنه كان يؤمن بقرارة نفسه بإلهية الله عز وجل، وأنه هو ليس إلهاً، لكنه يريد أن يستعبد أمة، وهذا المنهج هو الذي يتكرر عبر التاريخ الطويل، فكل من أراد أن يستعبد أمة ويستذلها لابد من أن يبعدها عن الإيمان بالله عز وجل، كما فعلت الشيوعية التي سقطت في عصرنا الحاضر. إذاً منهج الذين يريدون أن يذلوا الأمم هو أن يحولوا بينها وبين الله عز وجل، ولذلك فرعون -لعنه الله- كان يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، بدليل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فالله عز وجل فطر كل الناس على الإيمان به سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] إنما هو تغطية للحقيقة، والدليل على ذلك أن فرعون صرح في آخر لحظة من لحظات حياته لما أيس من مهمته وفكرته الخاطئة، فقال حينما أدركه الغرق: {آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ومع أن فرعون كان جباراً ومفسداً في الأرض إلا أن رحمة الله عز وجل قد تدرك من كان على مثل هذه الشاكلة، فقد أرسل الله عز وجل له رسولين اثنين موسى وهارون عليهما السلام، وأمرهما باللين بالرغم من قسوة هذا الجبار العنيد فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. ثالثاً: أن موسى عليه الصلاة والسلام أعظم أنبياء بني إسرائيل، ومن أولي العزم الذين هم أفضل الأنبياء، وهم خمسة عليهم الصلاة والسلام، وشريعته وكتابه التوراة مرجع أنبياء بني إسرائيل بعده وعلمائهم، وله من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره. رابعاً: أن بني إسرائيل أقرب الأمم إلى الإسلام، فلم يأت بعدهم إلا هذه الأمة، فأمرت هذه الأمة أن تأخذ منهم العظة والعبرة، سيما أن قصة بني إسرائيل تحتوي على الكثير من الدروس العظيمة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول لقومه ولنا: (لقد كان فيمن كان قبلكم)، والمراد بذلك بنو إسرائيل. أما بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام ولحياته ولمنهجه فقد كان تكملة لحياة بني إسرائيل؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام هو -أيضاً- بعث إلى بني إسرائيل، فآمن به من آمن، وسموا أنفسهم النصارى؛ لأنهم ناصروا عيسى عليه السلام، فتعتبر حياة عيسى تكملة لحياة موسى عليه الصلاة والسلام.

وقوع ما كان يحذره فرعون

وقوع ما كان يحذره فرعون حياة موسى كحياة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بدأت بشدة، ومن منطلق قسوة، ولكنها بدأت -أيضاً- بتحدٍ عنيف من الله عز وجل لهذا الطاغية، فقد تحدى الله عز وجل فرعون بتحديات كثيرة، ففرعون رأى في منامه رؤيا، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً في بني إسرائيل سوف يولد يكون سقوط عرشك على يده. فقرر قتل الأبناء الذكور كافة واستبقاء النساء، ثم بعد ذلك لما رأى أنه سوف يقضي على النسل صار يقتل الذرية من الذكور عاماً ويبقيهم عاماً آخر، لكنه بالرغم من هذه الفكرة يولد موسى عليه الصلاة والسلام في العام الذي يقرر فيه القتل، لا في العام الذي يستبقي فيه الذكور، وهو الرجل الذي سيسقط حضارة الفراعنة، ويقيم العدل في المعمورة، ويقضي على الطغيان الذي مضت عليه السنون الطويلة، وهذا زيادة ونكاية في التحدي لفرعون. والعجيب أن الله عز وجل يأمر أم موسى عليه الصلاة والسلام أنها إذا خافت عليه أن تلقيه في اليم، وهذا خلاف القاعدة المتبعة التي يستخدمها الناس للمحافظة على أطفالهم، فلا يوضع الطفل في البحر إذا خيف عليه، وإنما يوضع في غرفة وتقفل عليه الأبواب، هذه هي القاعدة المتبعة في حماية الأطفال من البلاء والفتن، فمتى كان الإلقاء في اليم يعتبر أمناً لطفل من الأطفال ما زال رضيعاً؟! لكن في هذا مزيدٌ من التحدي لفرعون: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] وأراد الله عز وجل أن يري فرعون وأن يعلم الناس أن كل الاحتياطات التي تتخذ لابد من أن يبطل مفعولها حينما يريد الله عز وجل أمراً من الأمور. ويزيد هذا التحدي فيذهب من اليم إلى قصر فرعون، وفرعون -كما هو معلوم- متعطش لدماء بني إسرائيل، ثم يدخل قصر فرعون هذا الطفل الذي يتأكد فرعون أنه إسرائيلي لا محالة؛ لأن علامات التكتم موجودة وظاهرة، وذلك حينما وضع في تابوت، فيلقي الله عز وجل عليه المحبة، وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يدي هذا الطفل حينما يكبر، ولا يشعرون مكر الله عز وجل بهؤلاء الماكرين الطغاة الظلمة، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]، ولذلك يتربى هذا الطفل في قصر فرعون وفي رعايته وفي كنفه وفي حجره كما يتربى ولد أي إنسان، لكنهم لا يعرفون عاقبة أمرهم. ثم نجد أن رعاية الله عز وجل تتابع موسى عليه الصلاة السلام متابعة دقيقة، فيحرم الله عز وجل عليه المراضع، فكلما عرض على مرضعة لترضعه يأبى أن يقبل ثديها حتى يصل إلى أمه لترضعه وتأخذ عليه الأجرة، وهكذا تدركه عناية الله عز وجل منذ أيام الطفولة، وهكذا يربي الله عز وجل أولياءه المتقين، يقول الله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:12 - 13] وبناءً على ذلك نقول: إن الله عز وجل إذا أراد أن ينفذ أمراً من أوامره لا يمكن لأي إنسان أن يقف في وجه هذا الأمر أو يحول دون تنفيذه؛ لأن الله عز وجل له الأمر من قبل ومن بعد.

تأييد الله للمستضعفين

تأييد الله للمستضعفين تعتبر حياة موسى عليه الصلاة والسلام في بدايتها حياة تتسم بالشدة، لكنها تمتاز بالتحدي من الله عز وجل لفرعون ولآل فرعون الذين قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. إن على المستضعفين في الأرض أن يستشعروا بأن القوة ليست للبشر وإنما هي لله عز وجل، فمهما أظلمت الحياة، ومهما انتفخ الطغيان في الأرض، ومهما تجبر وتكبر، ومهما علا وارتفع فإن له نهاية؛ لأن الطغيان كالزبد يذهب جفاءً، كما أخبر الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]. ولربما يرهب الناس -كما هو في عصرنا الحاضر- من الطغيان الذي سيطر على جل المعمورة، وأصبح المؤمن يعيش فيها مخفوض الرأس، وأصبح طغاة البشر ووحوش البشرية يرفعون رءوسهم ويلغون في دماء المسلمين، ولربما دب اليأس إلى واحد من الناس، سيما ضعفاء الإيمان، والذين لم يقرءوا تاريخ البشرية، أو الذين ضعف يقينهم بموعود الله عز وجل وأنه سيعيد للأمة الإسلامية في يوم من الأيام تاريخها المجيد ومجدها التليد، سيما بعد هذه الإرهاصات الشديدة التي لا يكاد المسلم يرى فيها الإسلام قد ارتفع في أرض من أرض الله إلا ويفاجأ بالقمع والذلة والإرهاب لهذه الأمة الإسلامية، فقد يدب اليأس إلى واحد من المسلمين، ثم بعد ذلك تكون الحيرة وعدم الثقة بنصر الله عز وجل. يقول الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] وهذا أمر صعب، أمم لا يستطيع أحد فيها أن يقول كلمة الحق التي يعتقدها في قرارة نفسه، بل إنه يخشى من ظله، أمة تعيش على الاستعباد والذلة لمدة من الزمن، ولكن الله عز وجل جعلهم أئمة، فما مضت سنون قليلة حتى كبر هذا الطفل الذي ولد ليكون منقذاً للبشرية وقتئذ، ليقضي على ذلك الحكم الجائر، ويخلص الأمة المستضعفة في الأرض، ولما انحرفت تلك الأمة عن الجادة وحادت عن طريق الحق والاستقامة واستمرت في طغيانها أزالها الله عز وجل وخلفتها أمم خير منها لتكون لها الإمامة في الأرض، يقول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].

منهج موسى عليه السلام في التغيير

منهج موسى عليه السلام في التغيير عاش موسى عليه السلام في تلك البيئة الظالمة الغاشمة التي هي بيئة مصر والتي كان يتسلط فيها فرعون والأقباط معه على المستضعفين من بني إسرائيل، ولكنه لم يقر هذا الظلم، بل سعى سعياً حثيثاً إلى التغيير وإصلاح مجتمعه، ومنهج المرسلين والمصلحين لا يبدأ بالإصلاح الديني فحسب، لكنه يبدأ في الحقيقة بالإصلاح المادي، فحينما يقوم المصلحون بإنقاذ مجتمعاتهم من أخطاء يقع فيها أقوامهم يقومون بإنقاذهم مما هم فيه من الذلة والمهانة، حينئذٍ يستطيعون أن يكسبوا الناس إلى صفهم قبل أن يتسلموا القيادة والريادة، وهذا هو المنهج الذي ربى الله عز وجل عليه موسى عليه الصلاة والسلام، فقد كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر مستذلين مستضعفين، ولذلك انتصر موسى عليه السلام للإسرائيلي ليدفع عنه شر القبطي، يقول تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:16] ولاشك أن قتل النفس إثم، لكن حينما تكون هذه النفس آثمة فإنها تستحق القتل؛ لأن قتل المفسدين في الأرض يعتبر نوعاً من الإصلاح، والله تعالى يقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ويقول تعالى أيضاً: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40 - 41]. فقام موسى عليه السلام بإقرار العدل حتى تكون له يد عند القوم قبل أن يصل إلى المهمة الكبرى التي أعدها الله عز وجل له، فانتصر للحق من الباطل، وقضى على رجل الباطل المستذل لخلق الله المستعبد لهم في الأرض.

هجرة موسى عليه السلام إلى مدين وقصته مع المرأتين

هجرة موسى عليه السلام إلى مدين وقصته مع المرأتين هذه المرحلة تبدأ من الهجرة الطويلة من مصر إلى فلسطين، وبالرغم من أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن له علم بالطريق لكنه لجأ إلى الله تبارك وتعالى وقال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ويسير في طريق طويلة مهاجراً إلى الله عز وجل، ليس هروباً -وإن كان عنده شيء من الخوف من آل فرعون- لكنه بأمر من الله عز وجل يهاجر من مكان إلى مكان، ثم يسير في صحراء سيناء مدة من الزمن حتى يصل إلى بلاد مدين. وهناك في بلاد مدين وجد قوماً كثيرين من الناس يسقون مواشيهم، ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفان غنمهما عن الماء، فقال موسى عليه السلام لهما: ما شأنكما تمنعان الغنم من ورود الماء؟ ولم لا تستقيان مع السقاة؟ قالتا: من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاة مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مسن لا يستطيع بضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نستقي بأنفسنا. قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] هاتان المرأتان قيل: إنهما ابنتا شعيب عليه الصلاة والسلام. وقيل غير ذلك، فقد أخبرتا كيف تخرج المرأة، وكيف تمارس عمل الرجال، إنها لا تفعل ذلك إلا عند الضرورة والحاجة، ومبرر خروج هاتين البنتين أن أباهما شيخ كبير، فلا يستطيع أن يرعى الغنم، ولم تخرج هاتان البنتان إلا في حشمة، فلم تفكرا في مزاحمة الرجال حينما خرجتا للضرورة الملحة، فقد كانتا بعيدتين عن مزاحمة الرجال، حتى إذا انتهى الرعاء وسقى كل الرجال غنمهم قامت بعد ذلك هاتان المرأتان بسقي الغنم، فلا تخرج المرأة إلا عند الحاجة والضرورة الملحة، وإذا خرجت فيجب أن تتقيد بقيود المرأة المؤمنة المسلمة، بحيث لا تزاحم الرجال ولا تقضي حاجتها إلا حينما ينتهي الرجال، لكن على هؤلاء الرجال أن يكون عندهم أنفة وأن تكون عندهم رجولة، بحيث يعطون هذه المرأة حقها حتى لا تتأخر كثيراً حينما تضطر أن لا تزاحم الرجال. وقد خدع أعداء الإسلام المرأة اليوم، فزعموا أن الإسلام ظلم المرأة، وأن الإسلام يهضمها حقها، وأن المجتمع المحافظ -كمجتمعنا- مجتمع معطل النصف لا يتنفس إلا برئة واحدة، فهم ينطلقون في الظاهر مطالبين بحقوق المرأة وحريتها المهضومة كما يزعمون، ولكن هؤلاء القوم يريدون في الحقيقة أن يصطادوا المرأة في الماء العكر، ويريدون منها أن تفسد أخلاقها، وأن تسقط في الحضيض، ويريدون أن يدمروا هذه الأمم تدميراً، فكم اتهمت صحفنا اليوم الإسلام بالتأخر والتقوقع والتخلف، واتهمت الحجاب بأنه من مخلفات القرون البائدة، واعتبرت المجتمع الذي يصون كرامة المرأة ويحافظ على كيانها مجتمعاً متخلفاً يجب القضاء عليه في أقرب وقت ممكن. فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الشعارات الزائفة التي تهدف إلى اغتيال عفة المرأة وشرفها، حتى وإن كان الذين يروجونها من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية. لقد ظلمت المرأة في عصرنا الحاضر ظلماً لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فحملوها الأعباء والتكاليف الشاقة التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الرجال، وخلطوها مع الرجال على مدرجات الجامعة، وفي فصول الدراسة، وفي الأسواق، وداخل مكاتب الوظيفة، وفي كل أمر من الأمور. فالمسألة هي مسألة مؤامرة على الإسلام، وفي ملة رجال مدين الذين لم يدركوا الإسلام لم تكن المرأة تختلط مع الرجال {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، إذاً ليس هذا هو منهج الإسلام فقط عند خروج المرأة للحاجة والضرورة الملحة، لكنه منهج الملل والأديان كلها منذ أن خلق الله البرية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، أما الذين يطالبون بحقوق المرأة في عصرنا الحاضر ويزعمون أن لها حقوقاً مهضومة، وأنها معطلة، وأن حريتها قد تعدى عليها الرجال في ظل الإسلام فهم مجرمون يقول الله عز وجل عنهم: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] فعلينا أن نحذر سموم هؤلاء، وأن لا نغتر بدعاياتهم الكاذبة وشعاراتهم الزائفة، فإن الأمر واضح، فالملل كلها تعتبر بقاء المرأة في بيتها -إلا عند الحاجة- صيانة لها، وإن الجاهليات منذ خلق الله البشرية إلى يوم القيامة هي التي تريد أن تتخذ من المرأة وسيلة للدمار والإفساد وإشاعة الفاحشة في أوساط المجتمعات المحافظة.

القوة والأمانة في شخصية موسى عليه السلام

القوة والأمانة في شخصية موسى عليه السلام أما موسى عليه الصلاة والسلام فقد كان رجلاً يعدّه الله عز وجل للرسالة، فكان لابد من أن ينكر هذا المنكر الذي شاهده في بلاد مدين كما أنكر المنكر في مصر، ولابد من أن تأخذ المرأة بنصيبها في منأى عن الرجال، فاستعمل قوته التي منحه الله عز وجل إياها فسقى لهما، ثم رجعت الفتاتان إلى أبيهما مسرعتين، فيستغرب الأب كيف وصلتا في وقت مبكر، وكيف استطاعتا سقي الغنم في هذه المدة الوجيزة، مع أنهما لا يخالطن الرجال، ومن عادتهما الإبطاء! فسألهما عن السر فأخبرتاه عن قصة الرجل الصالح الذي استعمل قوته فسقى لهما، فما كان من رجل مدين إلا أن أرسل إحدى البنتين -وهي- أيضاً -ضرورة ثانية- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما؛ لأنه لم يكن له أبناء ذكور. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد جلس في ظل شجرة عند ذلك الماء يتوسل إلى الله عز وجل، ويسأله من فضله أن يمن عليه بمن يؤويه من هذا الظلم الذي هرب منه في أرض مصر، فيقول مناجياً ربه سبحانه وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، ثم يسعفه الله عز وجل بعودة إحدى هاتين البنتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء، فعلى المرأة المسلمة أن تمشي بحياء وخجل محتشمة غير متبرجة، فإن الحياء يعتبر هو الصفة البارزة في المرأة، ويعتبر الحياء -كذلك- من أخص خصائص أمة الإسلام، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً). ولما سأل عليه الصلاة والسلام ابنته فاطمة رضي الله عنها عن أحسن ما تكون المرأة. قالت: (أن لا ترى الرجال ولا يرونها). فالحياء صفة لازمة للمرأة دائماً وأبداً حتى قبل الإسلام {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، فليست تمشي في وسط الطريق، وليست تمشي متبرجة، وليست تمشي وقد فقدت أهم مقومات المرأة وهو الحياء، وليست تمشي متبخترة متبرجة متطيبة تفتن الرجال، لكنها تمشي على استحياء، ثم تقول لموسى عليه السلام بأدب وحياء: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]. ثم يسير معها موسى عليه الصلاة والسلام، ويظهر بعد ذلك أدب الرجال وحياؤهم كما ظهر في النساء، فكانت هذه الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فرأى أن الريح سوف ترفع ثوبها لتكشف شيئاً من ساقيها، فقال: أنا أسير أمامك وأنتِ تسيرين خلفي وتدليني الطريق يميناً أو شمالاً. ففهمت هذه المرأة أن هذا الرجل أمين إضافة إلى أنه رجل قوي، فالقوة شاهدتها في موسى عليه الصلاة والسلام حينما زاحم الرجال وغلب أشداء الرجال بقوته الجسمية، ورفع الغطاء الذي يوضع على البئر ليسقي لهاتين البنتين، أما الأمانة فقد رأتها منه حينما جعلها تسير وراءه بدل أن تسير أمامه حتى لا تكشف الريح ثوبها فيرى شيئاً من بدنها، فلما جاءت إلى أبيها قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وهكذا ربى الله عز وجل موسى عليه السلام ليكون رسولاً إلى أعظم طاغية وطئ الأرض وأشد جبار عرفه التاريخ. وبناءً على ذلك لابد لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين -سواءٌ الولاية الكبرى أو ما دونها، حتى رعاية الغنم- لابد له من أن يتسم بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، أما القوة فتتمثل في قول الحق وقوة الجسد وقوة العقل، أما الأمانة فتتمثل في التقى والصلاح والاستقامة، وإذا فقدت القوة والأمانة ضاعت الدولة، وتجرأ عليها أعداؤها، وأصبحت عرضة للدمار والسلب والنهب؛ لأن قيادتها غير حكيمة وغير أمينة، فالولايات الكبرى والسلطة العامة لا تنقاد إلا للرجل الصالح القوي الأمين، فالقوة قوة العقل والتفكير وقوة الجسد والقوة في قول الحق ودحر الباطل، والأمانة معناها أن يخلص في قيادة هذه الأمة، وإذا لم تتوافر هذه الصفات في الولاة وانتشرت الفوضى في أوساط الرعية وعمت البلبلة وسيطر الظلم كانت العاقبة الحرمان من الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). ولذلك لا عجب من أن يكون أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، الذي يحكم في الناس بشرع الله عز وجل، ويرفض كل ما يتنافى مع شرع الله عز وجل، ويعتبر الولاية مسئولية عظيمة ينبغي أن يقوم بها على أكمل وجه، وأنها تكليف لا تشريف، ويعتبرها عبئاً ثقيلاً كما اعتبرها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما بويع له بالخلافة صعد المنبر وقال خطبة علم من خلالها القادة إلى يوم القيامة مدى عِظم مسئولية الخلافة التي تحملوها، فقال في مستهل خلافته: (أيها الناس! إني قد وليت عليكم وليست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) ثم يبين ميزان العدل في الأرض، وهي الميزة التي لابد من أن يتصف بها كل من ولي أمراً من أمور المسلمين فقال: (القوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). هنا تبرز القيادة الصحيحة التي تنطلق من الوحي ومن مشكاة النبوة، والتي تعتبر مضرب المثل في التواضع، والحرص على العدالة، والتزام التقوى، وإدارة شئون الحكم طبقاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فيرون أن الخلافة عبئاً وأمانة يقومون على أداء مهامها بما يرضي الله سبحانه وتعالى. أما الذي يعتبر أمر المسلمين غنيمة وفرصة للتمتع والتكبر والغطرسة فقد خان الأمانة، وعرض نفسه يوم القيامة للخزي والندامة، ويعتبر ذلك علامة من علامات الساعة، وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). فإذا كان أمر المسلمين بأيدي الفسقة والمارقين من الدين فمعنى هذا حلول النكبات المتتابعة على الأمة، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، وذكر من هذه الخصال: (إذا ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) فإذا كان ذلك حينئذٍ يقول عليه الصلاة والسلام: (فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع) أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي. ومعنى ذلك أن النكبات سوف تتابع على هذه الأمة إذا كان زعيم القوم أرذلهم وساد القبيلة فاسقهم. إذاً لابد في كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين من أن يكون قوياً أميناً، ابتداءً من رعاية الغنم التي هي مهنة موسى عليه الصلاة والسلام بادئ ذي بدء إلى رعاية العالم، وما أكثر ما ينطلق رعاة الغنم ليكونوا هم قادة العالم، فكثيراً ما يربي الله عز وجل أنبياءه على رعي الغنم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). فمعنى ذلك أن رعاية الغنم هي البداية لقيادة الأمم، فإذا كانت رعاية الغنم تحتاج إلى القوة والأمانة فمن باب أولى رعاية البشر، حتى يطبق شرع الله في الأرض، ولذلك جعل الله تعالى صفات من ولاه أمراً من أمور المسلمين ومكن له في الأرض إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نجد أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما طلب شيئاً من حكم مصر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فالحفظ والعلم والقوة والأمانة هي الصفات التي يجب أن يتصف بها كل من يتولى أمراً من أمور المسلمين.

قبسات من حياة موسى عليه السلام أجيرا

قبسات من حياة موسى عليه السلام أجيراً ولما علم رجل مدين أن موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بالقوة والأمانة اتفق معه على أن يكون راعياً للغنم مدة ثماني سنين، وإن أتم عشراً فذلك فضل من موسى عليه الصلاة والسلام وليس بواجب، أما الأجرة فإنه يزوجه إحدى ابنتيه. وليس عجيباً أن يكون مهر هذه البنت خدمة تساوي عشر سنوات أو ثماني سنوات؛ لأنها امرأة صالحة، وحينما تضطر إلى الخروج تخرج على استحياء، وحينما تريد أن تكلم الرجال للحاجة والضرورة إنما تكلمهم على استحياء، ولا تسقي حتى يصدر الرعاء، ومن هنا ندرك الفرق الشاسع بين المرأة الساقطة والمرأة الكريمة، فالمرأة الساقطة لا تساوي شيئاً في مهرها، ولذلك لا عجب حينما نسمع أن المرأة في بريطانيا التي سقطت في أوحال الرذيلة أصبحت لا تساوي جنيهاً إسترلينياً في مهرها، وأن المرأة في البلاد المحافظة يبذل في سبيل الحصول عليها الشيء الكثير، فحينما تكون هذه المرأة كريمة محافظة على دينها وأخلاقها فإنها تستحق أعظم مهر، ولا يعني ذلك أن الأمة يجب أن تغالي في المهور بمقدار تمسك المرأة بدينها، بل إن الأمة في عصرنا الحاضر بصفة خاصة مطالبة بتيسير تكاليف الزواج وتقليل المهور، وذلك لتعدد وتنوع الوسائل التي تهدف إلى إبعاد الشباب عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، ونشر الفاحشة في أوساطهم، فهناك الإعلام المدمر، وهناك المجلات والصحف السقاطة، وهناك الرفقة المنحرفة، ومن أنجع الحلول لتخليص الشباب من ذلك هو تحصينهم بالزواج. وكثيراً ما يشتكي العمال من أصحاب العمل الذين يهضمون حقوقهم، ولربما لا يؤدون رواتبهم وأجورهم، ولربما ينهبون عرقهم، ولربما يستغلون ضعفهم كونهم في بلاد غير بلادهم وفي غربة، ثم يؤدي ذلك إلى ظلم عريض وشر مستطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وليس معنى ذلك أعطاء الأجير أجره وهو في حال العرق، ولكن المقصود هو المبادرة في إعطاء الأجير أجره، وعدم ظلمه بتأخير الأجر الذي يستحقه، وقد جاء الوعيد العظيم من الله تبارك وتعالى فيمن ظلم أجيره بأخذ شيء من حقوقه، جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله عز وجل: (إن الله عز وجل يقول: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) وذكر منهم (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره). إن الشريعة الإسلامية كفلت حقوق العمال كاملة غير منقوصة، بخلاف الشيوعية التي تدعي المحافظة على حقوق العمال، فالإسلام يأمر بأن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ويأمر صاحب العمل أن لا يهضم هذا الأجير شيئاً من حقه، كما أن صاحب العمل يطالب الأجير نفسه أن يؤدي الحق الذي التزم به، ولذلك الله تعالى يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص:29] أي أن موسى عليه الصلاة والسلام التزم لرجل مدين بالوفاء بحقه كما التزم رجل مدين بأداء أجره، فسلم له زوجته التي اتفق معه على أن يكون مهرها خدمة عشر سنين. فيجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ على هذه العقود التي تبرمها، سيما حينما يشهدون الله عز وجل عليها، ولذلك لما أبرم العقد بين رجل مدين وبين موسى عليه السلام أشهد الله عز وجل على هذا العقد فقال: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28]، فأصبح الوفاء بهذا العقد أمراً لازماً لكلا الطرفين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. إذاً معنى ذلك أن نظام العمل وحقوق العمال وأحكام الإجارة والاستئجار وأداء الأجور كل ذلك موجود في الشريعة الإسلامية، وليس الدين الإسلامي محصوراً في العبادات فحسب كما يظنه طائفة من الناس الذين لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فقد ابتلي عصرنا الحاضر بمن يسمون بالعلمانيين قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهم في الحقيقة لا يستحقون هذه التسمية، حيث إنهم ينسبون أنفسهم إلى العلم، وهم أجهل الناس بتعاليم الإسلام وتشريعاته، ويريد العلمانيون إقصاء الشريعة الإسلامية عن جميع مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وحصر الدين في العبادة، وشعارهم في ذلك: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا المعنى الذي يصرح به العلمانيون ليس قائماً في الحقيقة، فهم لم يتركوا الإسلام ليكون منهج عبادة، بل هو مطارد داخل دور العبادة، وكذلك داخل مساجد المسلمين، لا يتنفس أحدهم إلا وتحصى عليه أنفاسه في كثير من الأحيان. والإسلام جاء ليكون منهج حياة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وتعبدياً، ولا يمكن أن يصلح حال المجتمع وتستقيم أوضاعه إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في كل صغيرة وكبيرة، وفي كافة مجالات الحياة المختلفة، فدين الإسلام منهج حياة متكامل، ولذلك تجد أن آيات القرآن الكريم حينما تتحدث عن النواحي الاجتماعية والعلاقات الزوجية فإنه يتخلل ذلك الحديث عن العبادة، فمثلاً: في سورة البقرة تحدثت بعض آياتها عن أحكام تتعلق بالزوجة مع زوجها، ثم تخلل ذلك الحث على عبادة من العبادات، قال الله تعالى: ((وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [البقرة:237] ثم قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238 - 239]، ثم تعود الآيات مرة أخرى للحديث عن الحياة الاجتماعية والأحكام المتعلقة بين الزوجين {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]. ونجد أن القرآن الكريم يتحدث أيضاً عن السياسة، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، ويتحدث ويحذر من الحكم بغير ما أنزل الله فيقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. ويتحدث كذلك عن الأنظمة الاقتصادية فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. فهذا يدل دلالة واضحة على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وأنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. وبعد الانتهاء من استعراض حياة موسى عليه الصلاة والسلام قبل النبوة نقول: إن على الأمة الإسلامية أن تأخذ من هذه القصص العظة والعبرة، وأن تتخذ منها منهج حياة؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أوردها من أجل ذلك، وحتى لا تقع هذه الأمة فيما وقعت فيه الأمم السابقة التي تنكبت عن المنهج الصحيح الذي رسمه الله عز وجل لها، ثم كانت العاقبة العذاب والنكال والخسارة والبوار، فإن في أخبار الأمم ما يكفي للعظة والعبرة {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. والقوى المادية التي تعلقت بها تلك الأمم من دون الله عز وجل ما استطاعت أن تحميها قيد أنملة من عذاب الله عز وجل حينما نزل، ولذلك الله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، فعلينا وعلى ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل أمور المسلمين العامة والخاصة، وعلى كل فرد من أفراد هذه الأمة أن نتقي الله، فإن العاقل من اتعظ بغيره، وإن لله عز وجل سنناً لا تتخلف {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا وسيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أصناف البشر

أصناف البشر تعج الحياة بأصناف شتى من البشر، فمنهم من ملؤه الشر والكفر والنفاق، ومنهم من ملؤه الخير والصلاح والإيمان، وبينهما أصناف أخرى، وقد ذكر الله في كتابه أحد عشر صنفاً من هؤلاء، وهم في الأصل ينقسمون إلى قسمين: فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، لكن لما كان هناك تفاوت في درجات الجنة، وتباين في دركات النار وجدت هذه الأصناف الكثيرة، وكل صنف له ما يميزه عن غيره، والواجب على المسلم أن يكون من أهل الخير والصلاح والإيمان.

حكمة تصنيف البشر

حكمة تصنيف البشر الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله الذي فاوت بين عقول البشر، فترتب على هذا التفاوت في العقول تفاوت في السعي والمقاصد، وجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! اقتضت حكمة الله عز وجل أن يخلق الجنة والنار، وأن يخلق لكل واحدة منهما أهلاً، يخلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يعمر هذه الحياة بالمخلوقات، ويعطيهم من العقول والأدلة ما على مثله يؤمن البشر، كما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يقوم صراع عنيف منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، ابتداءً من الساعة التي أهبط الله عز وجل فيها آدم من الجنة، وقال: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وما زالت هذه العداوة بين إبليس وذريته وبين آدم وذريته باقية وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبناءً على هذه العداوة، وبناءً على تلك الحكمة الربانية كان الناس أصنافاً من البشر، وكان الناس معادن، وكانوا كالأرض التي يعيشون عليها: تربة تمسك الماء وتنبت الكلأ، وينفع الله بها الناس، وتربة تمسك الماء فتنفع الناس في شربهم، وتربة هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء. ثم أقام الله عز وجل الحجة على كل البشر؛ بحيث لا تبقى حجة لأحد على الله عز وجل، ومن هنا قسم القرآن الناس إلى أحد عشر قسماً، وإن كانوا في الأصل قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن لما كان هناك تفاوت في درجات الخير وفي درجات الجنة، وهناك تفاوت أيضاً في مراتب الشر ودركات العذاب؛ قسم الله عز وجل هؤلاء البشر -كما تدل آيات القرآن- إلى أحد عشر قسماً، وكل واحد من هذه الأقسام الأحد عشر يقول الله عز وجل فيها: (وَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)، وإذا جاءت: (وَمِنَ النَّاسِ)، (فَمِنَ النَّاسِ)، (وَمِنْهُمْ)، (فَمِنْهُمْ)؛ فإنما تعني أنواع البشر، بخلاف ما ورد في سورة التوبة؛ فإن كل آية وردت في سورة التوبة فيها {وَمِنْهُمْ} [التوبة:49]-وهي في أربعة مواضع- فالمقصود بها المنافقون فقط، أما ما سواها في القرآن فإنها تعني أقسام الناس جميعاً. وحينما نمر مروراً عابراً على هذه الأقسام الأحد عشر -ولعل بعضها يدخل في بعض- نجد العجائب في خلق الله، ونجد التفاوت في هؤلاء البشر، فمنهم من يعيش في القمة، ومنهم من يعيش في أسفل دركة من دركات هذه الحياة، ولذلك فإن المؤمن وهو يسمع أخبار القوم عليه أن يختار أفضل المراتب وأعلى المنازل، من أجل أن يكون في أعلاها يوم القيامة، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الصنف الأول: المنافقون من البشر وصفاتهم

الصنف الأول: المنافقون من البشر وصفاتهم لقد تحدثت أوائل سورة البقرة عن نوع واحد فقط من هذه الأنواع الأحد عشر، وهم المنافقون؛ لأن المنافقين ذكروا في ثلاث عشرة آية في سورة البقرة، وذلك بعد أن ذكر الله عز وجل صفات المؤمنين في أول السورة، ثم ذكر صفات الكافرين في آيتين، ثم ذكر بعد ذلك في ثلاث عشرة آية صفات المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10]، ومن ثَم نريد أن نعرف معنى النفاق الذي احتوى هذا النوع الأول من هذه الأنواع. النفاق لغة: هو إخفاء الأمر، وفي الاصطلاح الشرعي: إظهار الإيمان وإبطان الكفر. والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق عملي، ونفاق اعتقادي، والنفاق الاعتقادي هو الأعظم والأفظع -نعوذ بالله من شره- وهو الذي يقول الله عز وجل عن أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء:145 - 146]، وهؤلاء يبطنون في قلوبهم الكفر، ويظهرون الإيمان أمام الناس. أما النفاق العملي: فهو الذي يتصف بالصفات الأربع أو بواحدة منها: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر)، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن النفاق لا يوجد إلا في فترات متقطعة من فترات التاريخ، وهي فترات عِزَّ الإسلام، فإذا كان الإسلام عزيزاً في زمن ما أو في بلد من البلاد وجد النفاق؛ لأن أصحابه يهدفون من ورائه إلى حماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم من المسلمين، ولذلك فما وجد النفاق في مكة وإنما وجد في المدينة يوم أعز الله الإسلام وكانت له دولة. ولقائل أن يقول: إذا كان هذا حقاً؛ فهل يوجد النفاق في أيامنا الحاضرة ونحن نرى أن الخير أصبح مغموراً في عالمنا اليوم، وفي حياة الناس ودنياهم؟ وهل للنفاق مكان في أيامنا الحاضرة؟ نقول: نعم، يوجد النفاق في أماكن يظهر فيها الخير، وكلما برزت بلد من بلاد الله بنوع من أنواع الخير وجد النفاق، إلا أن النفاق يأخذ مع مرور الأيام طابعاً جديداً، ويختلف ويتأقلم بحسب البيئات من حوله، وبحسب العصور والأيام.

خداعهم لله وللمؤمنين

خداعهم لله وللمؤمنين إذا أردنا أن نعرف صفات هؤلاء المنافقين؛ فعلينا أن نقرأ هذه الآيات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:8 - 9]، وهذه أولى صفاتهم، فهم يخادعون الله، أي: يظنون أنهم يخدعون الله لكنهم لا يستطيعون ذلك، ويخادعون المؤمنين بحيث يظهرون لهم مظهر الخير والصدق، وأنهم من أنصار هذا الدين، وأنهم يريدون الخير بالمرأة -مثلاً- كما هي شعارات أنصار المرأة من أصحاب حقوق المرأة الذين يحافظون على حرية المرأة -كما يقولون- لكن في الحقيقة كل واحد من هؤلاء يريد أن تتفسخ المرأة وتنحل؛ ليصطادوها في الماء العكر، ولتصبح في متناول أيديهم، ولذلك لا تعجب أن تكون هناك جمعيات ومؤسسات ومنظمات تزعم أنها تدافع عن حقوق المرأة، فإن هذا الأمر مبطن، فإنهم يريدون فساداً في الأرض بحيث لا يقف أي حاجز من الحواجز أمام شهواتهم ورغباتهم، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9]، فلو قرأت كتاباً واحداً من كتبهم، أو مما كتبته صحيفة لهم أو مجلة لقلت: هذا يحكي لنا عصر عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، أو أحد من الصالحين، لكن قلبه يغلي حقداً على الإسلام، ولكنه لا يملك شيئاً ليخرج الناس من إطار الإيمان والفضيلة والخير إلا أن يسلك هذا المسلك. قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وهذه أيضاً صفة من صفاتهم، أي: أن عندهم شكاً، وزادهم الله شكاً بسبب الشك الأول؛ لأن كل معصية يفعلها الإنسان إنما هي جزاء معصية سابقة.

إفسادهم في الأرض بدعوى الإصلاح

إفسادهم في الأرض بدعوى الإصلاح أيضاً من صفاتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، هم يقولون: إنهم مصلحون، وهم في الحقيقة مفسدون، وحتى إذا دعوا إلى الإصلاح ونهوا عن الإفساد، قالوا: هذا هو الإصلاح، ولذلك لا تعجبوا إذا قرأتم صحف ومجلات كثير من العالم الإسلامي ثم وجدتم هؤلاء المفسدين يخرجون بثياب المصلحين، ولا تعجبوا إذا رأيتموهم يزعمون الإصلاح؛ فإن هذا هو منهجهم منذ خلق الله البشرية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والله تعالى يحكم عليهم بأنهم مفسدون: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].

استهزاؤهم وسخريتهم بالمؤمنين

استهزاؤهم وسخريتهم بالمؤمنين ومن صفاتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13]، يقولون: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13]، يحتقرون عباد الله، ويرون أن الإيمان سفه، والدين تخلف، والأخذ بأهداف الدين رجعية، ولذلك يقولون: هؤلاء سفهاء، وهذا قد وجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استكبر قوم كثر عن الدخول في الإسلام، وقالوا للفقراء: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، هل يمكن لـ بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وفقراء المسلمين أن يسبقوهم؟ نقول: نعم؛ لأن الله عز وجل إذا أراد الهداية لأحد من الناس جعله موضعاً للهداية، ولذلك فإنهم دائماً يسمون المسلمين سفهاء، ويضحكون ويسخرون منهم، ويسخرون من شكلهم وملابسهم ولحاهم إلخ. وعلى هذا فإنهم دائماً يسخرون من المؤمنين ويسمونهم سفهاء، ولكن الله تعالى يقول: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13].

أنهم أصحاب وجهين

أنهم أصحاب وجهين من صفاتهم: أنهم إذا كانوا مع المؤمنين كان لهم وجه، وإذا كانوا مع إخوانهم المنحرفين كان لهم وجه آخر؛ لأنهم يقابلون الناس بوجهين، وهم شر الناس يوم القيامة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14]، أي: من شياطين الإنس، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، نسخر من هؤلاء، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].

تحين الفرص للإيقاع بالمسلمين

تحين الفرص للإيقاع بالمسلمين هذا النوع من أصناف البشر يتحين الفرص، فلا تكاد تحين فرصة أو تسنح مناسبة إلا ويظهر ما فيهم من بلاء، ولذلك كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويصومون، وربما يجاهدون، لكنهم إذا رأوا أن الفرصة لغير المسلمين قامت تتكشف أخبارهم وتظهر مشكلتهم، ولذلك لا نستغرب ما حدث منهم يوم الأحزاب يوم ظنوا أن المسلمين قد انكشفوا، وجاء الأحزاب من كل جانب؛ فإذا بالمنافقين ينضمون إلى أعداء الإسلام من الخارج، ويضمون صوتهم إلى أصواتهم.

الصنف الثاني: اللاهثون وراء الدنيا

الصنف الثاني: اللاهثون وراء الدنيا النوع الثاني من أنوع هؤلاء البشر كما قص القرآن علينا أخبارهم: هم الذين يقول الله عز وجل عنهم لما ذكر أحكام الحج، وذكر الناس وتفاوتهم: قال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، هؤلاء القوم ليسوا بمنافقين، ولكنهم كفار غير مقنعين؛ بل هم مكشوفون، فليس لهم هدف إلا الدنيا، ولا يريدون إلا الدنيا، ويسعون كل سعيهم في سبيل الدنيا الدنيا هي همهم الوحيد؛ فمن أجلها يحبون، ومن أجلها يبغضون، ومن أجلها يوالون، ومن أجلها يعادون، وإيمانهم بالآخرة -إن كان هناك إيمان- ضعيف لا يمكن أن يقف على رجليه مع حبهم للدنيا، وحتى إذا سألوا الله تعالى لا يسألونه إلا الدنيا، فأحدهم: {يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، أي: آتنا في الدنيا حظاً ونصيباً، وليس له حظ في الآخرة؛ لا في دعائه ولا في عمله ولا في رجائه، ولا فيما عند الله عز وجل. هؤلاء نجدهم اليوم أيضاً يكثرون بين الناس، ونجد أن أحدهم وإن كان له شيء من الهدف في الآخرة؛ لكنه يضرب بهذا الهدف عرض الحائط إذا تعارضت مصالحه المادية مع الدينية، فنجد أن هناك أقواماً ليسوا أعداءً للإسلام، ولا يحملون الحقد للإسلام كما يحمله غيرهم، ولكنهم يعتبرون هذا الدين شيئاً كمالياً، فإذا تعارضت مصالحهم المادية مع دينهم ضربوا بمصالحهم الدينية عرض الحائط، واتجهوا إلى الدنيا يصلحونها ويعمرونها، ولو أدى ذلك إلى خراب حياتهم الآخرة! هؤلاء الناس لا يريدون إلا الدنيا، والله تعالى أخبرنا بأن هؤلاء ليس لهم نصيب ولا خلاق في الآخرة، ولذلك فإن الله تعالى قد أخبرنا أنهم يأخذون نصيبهم كاملاً في الدنيا، فيعطون الصحة والعافية والمال والولد والجاه والمركز، جزاء ما يقدمونه في دنياهم من الأعمال التي لم تكن على قاعدة الإيمان والنية الخالصة الصادقة، فالله تعالى يقول عنهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]، وإذا كان منهم من يبني المساجد أو المدارس أو المستشفيات أو المراكز أو القناطر أو الترع وينفع عباد الله، لكنه على غير هدف، وعلى غير الإيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل لهم حسناتهم في الدنيا ويعطيهم الصحة والعافية والمال والولد؛ لأن الله تعالى كما يقول عن نفسه: {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].

الصنف الثالث: عمار الدنيا والآخرة

الصنف الثالث: عُمار الدنيا والآخرة النوع الثالث من أنواع البشر: نوع جاء بعد هؤلاء مباشرة في سورة البقرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:201 - 202]، هذا النوع من البشر يعمرون الدنيا، لكن يضعونها في أكفهم، ويعمرون الآخرة ويضعونها في قلوبهم، ويعلمون علم اليقين أن الدنيا جسر ومعبر للحياة الآخرة، ويعلمون أن الإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، وأن الكون لا يمكن أن يستمر وجوده إلا بعمارة هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإنهم يعمرون الدنيا والآخرة، لكنهم يعمرون الدنيا لهدف محدود للدنيا نفسها، ويعمرون الآخرة من أجل رضا الله عز وجل، ولذلك فإنهم إذا دعوا الله عز وجل يسألونه الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهم يسألون الله تعالى الدنيا والآخرة، ولكنهم يعضون بأنيابهم على الحياة الآخرة فلا يقدمون عليها أي شيء, وإذا تعارضت مصالحهم المادية مع دينهم فإنهم يضربون بمصالحهم المادية عرض الحائط ليحتفظوا بدينهم؛ لأن هذا الدين هو الذي من أجله خلقوا، ومن أجله استعبدهم الله عز وجل به. هذا النوع الثالث هو الذي يجب أن يكون عليه الناس أجمعون؛ لأن الإسلام كما يكره الروحانية المنحرفة الموغلة؛ يكره أيضاً المادية المفرطة التي لا تؤمن بالأديان، ولذلك نحن نعيش الآن بين طرفي نقيض في أيامنا الحاضرة: الشيوعية الإلحادية المادية التي تنكر كل القيم والروحانيات، ولا تعترف بواحدة منها، فهذه نحن نرفضها؛ لأننا أمة خلقنا لهدف؛ ولأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالحياة الآخرة، وبالأديان، وبالرسول، وباليوم الآخر، أما الشيوعية فلا تؤمن بشيء من ذلك، فنحن نرفض الشيوعية ونعتبرها كفراً وإلحاداً، ونشكر الله سبحانه وتعالى أن هدانا بفضله. وعلى الطرف الثاني من النقيض: الصوفية الموغلة في الروحانية، والتي لا تعطي الجسم شيئاً من حقه، وإنما تعطى الروح وحدها، وهذه أيضاً نحن نرفضها، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: بين طرفي نقيض، وهذه الوسطية سواء كانت في جغرافية الأمة الإسلامية، أو أخلاقها، أو عاداتها، أو عباداتها، أو سلوكها، تبرز دائماً. وإذا نظرنا إلى الإسلام في أي مجال من المجالات وجدناه دائماً يتوسط بين طرفي نقيض، فمثلاً: يعيش الآن نظامان اقتصاديان في العالم: نظام يسمى: الرأسمالي، ومعنى الرأسمالي بمعناه الاصطلاحي لا اللغوي: أن نكسب المال من الحلال أو الحرام، وأن ننمي الربا، وألا يكون في أموالنا حق للسائل والمحروم، وليس هناك أي واجب في هذا المال، بل على الإنسان أن يسعى لكسب هذا المال من طرق الحرام أو الحلال، وعليه أيضاً أن يبخل بهذا المال بحيث لا ينفقه في أي وجه من وجوه الخير، هذه الرأسمالية بمفهومها الاصطلاحي، يقابلها في الطرف الآخر نظام كافر آخر يسمى: الاشتراكية، النظام الذي يريد أن يبتز أموال الأغنياء لا من أجل أن يرفع من مستوى الفقراء، ولكن من أجل مصالح وفوائد أخرى من أجل تثبيت عروش تهتز بأهلها من تحتهم، ولذلك فإن الله عز وجل جعلنا أمة وسطاً؛ فلا نحن ندين بالاشتراكية التي تظلم الناس وتأخذ أموالهم، ولا بالرأسمالية التي تكسب الأموال من الحلال أو الحرام، ولا تعترف بحقوق الغير أو الفقراء هذا هو المنهج القويم. وقوله: (وسطاً) يحتمل معنيين أيضاً: بمعنى: العدول، وبمعنى: تتوسطون بين الأمم في كل حالة من الحالات، فنحن نشكر الله على ذلك. أما الذين يريدون أن يحولوا الإسلام إلى روحانية ورهبانية ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان؛ فإن هؤلاء رأيهم مرفوض؛ لأن هذا الدين لا يكون إلا بالروح وبالجسد، ونحن أيضاً نتوسط بين أعدائنا، فالشيوعية تذيب الفرد في سبيل الدولة، والرأسمالية تذيب الدولة في سبيل الفرد، أما نحن فالإسلام دين يعترف بالدولة ويعترف بالفرد، ويعطي كل واحد منهما حقه، ولذلك فإنه يحارب الرهبانية، ويقول الله عز وجل عن النصارى الذين انتحلوا الرهبانية وما فرضها الله تعالى عليهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ثم يقول بعد ذلك الله تعالى: {إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، يعني: هم فعلوها ابتغاء رضوان الله، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، ولذلك حرم الإسلام الرهبانية، فالإسلام ليس دين الكهنوت ولا الرهبانية، ولكنه دين يتوسط بين الروح والجسد؛ فيعطي الإنسان حريته؛ بل يفرض عليه أن يسعى للبحث عن الرزق الحلال، ثم أيضاً يأمره بأن يستقيم على دين الله عز وجل في آنٍ واحد، ولذلك يقول الله عز وجل على لسان أهل الخير من قوم قارون الذين وعظوه فقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:76 - 77]، فهم ما قالوا له: اتجه للآخرة فقط، ولكن قالوا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. ولما جاء ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله في السر فأخبروا بعمله، فقال واحد منهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، يعني: كل الليل أجعله في عبادة، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، يريدون الرهبانية والانقطاع للعبادة، فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم بخبرهم؟ لم يغضب غضباً كغضبه في ذلك اليوم، فقام وخطب وقال: (أيها الناس! أما بعد: فوالله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، هذه هي الحياة التي يجب أن نسعى لها، وليس معنى ذلك أن نقسم الحياة إلى قسمين: للدنيا وللآخرة، لا؛ بل نعمر الدنيا بقدر حياتنا فيها، ونعمر الآخرة بقدر مقامنا الطويل فيها، ومن هنا فلا نقدم مصلحة من مصالح الدنيا على هدف من أهداف الآخرة، وإذا كان أمام الإنسان أمراً من الأمور المحرمة التي يكسب فيها المال؛ فإنه يتصور أنه ما خلق لهذه الدنيا، وحينئذٍ يترك هذا الحرام ويكتفي بالحلال، وهذا كله تخلقه الحياة التي يتوسط فيها بين عمارة الدنيا وعمارة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الصنف: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:201 - 202]، هؤلاء هم الذين يدركون نصيباً؛ بخلاف من ذكر قبلهم فإن نصيبهم يضيع؛ لأنه أراد الدنيا وأخذ نصيبه من الدنيا، فانتهى أمره وأعطاه الله كل حقوقه في الدنيا، أعطاه صحة وعافية ومالاً وولداً ومركزاً وملكاً وسلطة، أما الثاني فإنه أراد الآخرة؛ فادخر له جزاؤه إلى الحياة الآخرة.

الصنف الرابع: من يتخذ الدين مطية للإفساد في الأرض

الصنف الرابع: من يتخذ الدين مطية للإفساد في الأرض عن النوع الرابع من أنواع البشر جاءت هذه الآيات لتصفهم مباشرة، يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:206]. هذا النوع من البشر له كلام معسول يعجب الناس، وإذا تحدث يأخذ بألباب الناس، وإذا تكلم عن الإسلام بدأ يمدحه، ويصفه بأنه دين الحياة والرقي والتقدم، وإذا كان له مطلب من مطالب الدنيا اتخذ الدين مطية، وبدأ يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الصالح المصلح، فإذا ظفر ببغيته، وحصل على مراده، وأدرك أمنيته؛ ضرب بدين الله تعالى عرض الحائط، لماذا؟ لأن الهدف قد انتهى، والمهمة قد تحققت، ولذلك فإنه: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، على اختلاف بين المفسرين في معنى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فقيل: أي: حديثه عن الدين، وقيل: حديثه عن الدنيا فقط، وعلى كل فإن الرأي الأول أولى؛ لأنه قال بعد ذلك: (تَوَلَّى) أي: أعرض وانتهت مهمتة، كما اختلف علماء التفسير في معنى: (تَوَلَّى)، فقال بعضهم: إذا ولي منصباً من مناصب المسلمين، فما دام يهدف إلى هذا المنصب؛ فإنه يعد الناس ويمنيهم وسيفعل وسيفعل، وسيعيد عصر الخلفاء الراشدين، لكنه إذا ظفر بمراده ضرب بدين الله عز وجل عرض الحائط، وأصبح أكبر عدو للإسلام، أو انتهى من مهمته، وحصل على بغيته، بعدها سعى في الأرض فساداً: {لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل} [البقرة:205]. هذا أخطر أنواع البشر، وهو في أخبث المنازل؛ لأنه يخدع الناس حتى يوصلوه إلى مركزه ومطلبه، ويبذلون له كل غال ونفيس في سبيل إيصاله إلى أن يتولى أمراً من أمورهم، فإذا به يضرب بهم عرض الحائط، وإذا به يتحداهم ويتحدى دينهم وأخلاقهم وفضائلهم. وهذا النوع كثير في حياة الناس، ولو نظرنا إلى كثير من زعماء العالم الإسلامي الذين كانوا يعدون ويمنون، ويقولون: سنفعل وسنصلح، حتى إذا صعد أحدهم واعتلى على الكرسي إذا به العدو اللدود لدين الله عز وجل ولأوليائه، ومن هنا امتلأت السجون بالأبرياء، وتحولت السجون إلى معتقلات في أكثر العالم الإسلامي، فالأبرياء الذين يعيشون في معتقلات الطغاة والظلمة في أيامنا الحاضرة يساوون آلاف الأضعاف بالنسبة للمجرمين الذين يعيشون في السجون العادية، لماذا؟ لأن هؤلاء إذا تولى أحدهم قلب ظهر المجن على أولياء الله، وأصبح عدواً لدين الله عز وجل، ولذلك أخبر الله عز وجل أن هؤلاء يهلكون الحرث والنسل -نعوذ بالله- وذلك بأن يفرضوا من الفساد والطغيان والانحراف في الأرض ما يكون سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك تنقطع الأمطار، وتتوقف الخيرات بأسباب هؤلاء، فيهلك الحرث -أي: الزرع- ويهلك النسل والمواشي وحتى البشر بأسباب هؤلاء. ولو نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي اليوم لوجدناه يعيش هذه الحياة الدامية التي لا يستطيع قلم أن يصفها أو لسان أن يتحدث عنها، فلا نسمع عبر الأثير من الأخبار إلا المجازر والقتل والدماء بمئات الآلاف، لم هذا؟ لأن كثيراً من هؤلاء السفهاء الذين تولوا مناصب العالم الإسلامي كانوا سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك بمقدار ما يتولى السفهاء الأمور بمقدار ما تنحط الدنيا، وتنحرف وتسوء أحوال العالم الإسلامي. أيها الإخوة! إننا حينما نسمع مثلاً عن أخبار لبنان أو العراق أو إيران أو العالم، لا نسمع إلا ما يدمي القلب، وعلى هذا نقول: إن هذه عقوبة الله عز وجل أنزلها بهؤلاء القوم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، والله تعالى يقول عن هؤلاء: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، كيف نعرف هذا النوع من البشر؟ نعرفهم بصفة ذكرها الله عز وجل بعد ذلك، قف أمام واحد منهم وقل له: اتق الله، فسيقول لك: أنا أتقي الله؟! هذا ينتظره السجن والقتل والعقوبات والويلات والمصائب أولى به، لا يريد أن يقال له: اتق الله، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، إذاً: لا يلين قلب هذا وجسمه القاسي ورأسه الصلب إلا نار جهنم، فهي التي ستذيبه وتقضي عليه؛ {فحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. اذهب إلى هؤلاء الطغاة في أكثر العالم الإسلامي وقل لأحدهم: اتق الله، وانظر ما سيفعله بك، وحينئذ تعرف الحكمة والمعجزة لهذا القرآن العظيم لما ذكر أن من صفات هؤلاء إذا قيل لأحدهم: اتق الله، غضب، وما امتلأت السجون والمعتقلات في أيامنا الحاضرة في هذا العالم الإسلامي إلا لأن المسلمين الأتقياء يأتون إلى هؤلاء ويقولون لهم: اتقوا الله، ولأن المسلمين يريدون الإصلاح في الأرض، وأولئك يريدون الإفساد فيها، فيأخذونهم أخذاً شديداً، ولكن هؤلاء ينتظرهم موعد بينهم وبين هؤلاء المؤمنين المظلومين يوم يقف الجميع بين يدي أحكم الحاكمين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اسمعوا أخبار شمال أفريقيا والشام، وابحثوا عن السجون، لقد أصبح المسلم في تلك البلاد لا يستطيع أن يؤدي أبسط شعائر الدين، فضلاً عن أن يقول لذلك الطاغية: اتق الله، فكيف به لو قال له: اتق الله، وهو يظن أنه أتقى الناس، وهو في قلبه وقرارة نفسه يؤمن بأنه هو الخليفة المصلح، فيسمى بأمير المؤمنين، ويسمون أنفسهم بالمصلحين، وهم شر أعداء الله تعالى. إذاً: نعرف كيف أن الله عز وجل أعلمنا عن هذا النوع من البشر، ونشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك، فنحن هنا نعيش في خير، ويتخطف الناس من حولنا، ونسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا قادتنا بالإسلام، وأن يهديهم للاستقامة، وأن يجعلهم يأخذون بأسبابها.

الصنف الخامس: البائعون أنفسهم لله وابتغاء مرضاته

الصنف الخامس: البائعون أنفسهم لله وابتغاء مرضاته هذا النوع هو الذي بلغ الذروة في الاستقامة والصلاح، في مقابل الذين يفسدون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، وأمر بطاعة الله، تكبر وتغطرس، وشمخ أنفه، وعلا برأسه، بالرغم من هذا هناك قوم في ذروة الاستقامة، من هؤلاء القوم؟ هؤلاء القوم هم الذين يشرون أنفسهم -أي: يبيعونها لله عز وجل- بينما أولئك يبيعون أنفسهم على الشيطان، ولا يرحمون أنفسهم، ولا يرحمون الأمة التي يعيشون معها، هؤلاء يقابلهم قوم يشرون أنفسهم لله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207]، أي: يبيع نفسه، كلما جاءت (يشري) بدون التاء فمعناها البيع، وليس الشراء، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]. نزلت هذه الآية في رجل من المؤمنين قصته عجيبة، هذا الرجل هو صهيب الرومي رضي الله عنه، فقد كان من المؤمنين الأتقياء الفقراء المظلومين في مكة، ولما أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان صهيب الرومي رضي الله عنه من أثرى أهل مكة، ما الذي فعله صهيب؟ أخذ أمواله ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف له المشركون في الطريق، وقالوا: يا صهيب! أنت الرجل الدخيل فينا، أتيت من بلاد الروم رجلاً فقيراً، وإذا بك اليوم تحمل هذه الأموال الطائلة، والله لا نتركك أبداً، فقال: وماذا تريدون مني؟ قالوا: نريد كل أموالك، فقال: هذه كل أموالي خذوها، ودعوني ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: الآن فاذهب، فلما وصل إلى المدينة وجدهم يتلون هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، فإذا بالمسلمين يقابلونه في الطريق ويهنئونه بهذه البيعة على الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن هؤلاء، ويقول له: (ربح البيع أبا يحيى). إن الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله موجودون في كل عصر، وهم يبيعون أنفسهم وأموالهم وحتى راحتهم، ويعيشون ولو في قلق في هذه الحياة من أجل أن يظهر دين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يدخلون ضمن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، ولذلك أخبر الله تعالى أن هؤلاء باعوا أنفسهم وأموالهم على الله بالجنة، كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]، ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة وقال: (يا رسول الله! ما لنا؟ قال: الجنة، فقال: يا رسول الله! ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل)، يعني: لا نريد ثمناً غير هذا. ولذلك فإن من المؤمنين اليوم عدداً كثيراً -والحمد لله- باعوا أنفسهم على الله عز وجل، وقدموا أنفسهم ولو غضب أعداء الله ولو غضب الطغاة، وقدموا دماءهم في سبيل الله عز وجل من أجل أن يظهر دين الله ولو حصل ما حصل. ولذلك فما وقف الطغاة في الأرض مشدوهين أمام قوم أكثر من هؤلاء؛ لأن هؤلاء هم الذين لا يبالون بالموت، ولا بكل ما يخسرون من متاع الحياة الدنيا في ذات الله عز وجل، وفي سبيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.

الصنف السادس: المجادلون في الله وشرعه

الصنف السادس: المجادلون في الله وشرعه هذا النوع مذكور في سورة الحج، يقول الله عز وجل عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ)، أي: يخاصم في وجود الله، ونجد اليوم أقواماً يناقشون الناس: هل الله تعالى موجود أو غير موجود؟! وما كان ذلك موجوداً في تاريخ العالم إلا في فترات متقطعة؛ كعصر فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى لهدف استعباد الأمة؛ لأن الله تعالى يقول عنه وهو يكشف مؤامرته: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: جحدوا بها ظلماً وعلواً. أو في فترات كفترة الشيوعية المعاصرة -عليها لعنة الله وعلى مؤسسيها إلى يوم القيامة- الذين ينكرون الخالق سبحانه وتعالى، والأديان والكتب السماوية والبعث؛ من أجل أن يستولوا على هذا العالم، ولذلك فإنا نجد أقواماً ممن يحسبون على الإسلام في أيامنا الحاضرة يجادلون في وجود الله عز وجل، ولربما يجادلون في وحدانيته، كأصحاب القبور والوثنيات الذين سلمت بلادنا -والحمد لله- منهم؛ لأن بلادنا ما زالت تعيش وتتمتع بدعوة سلفية، وستبقى بإذن الله إلى يوم القيامة، وكذلك يجادلون في أسماء الله وصفاته، ولم يكفهم أن يجادلوا في دين الله، بل تطاولوا ليجادلوا في الله عز وجل بغير علم، وإن كانوا يحملون شهادات الدكتوراه وما فوق ذلك وما دون ذلك، لكنهم أجهل الناس بدين الله عز وجل. وهل من المعقول أن نجد من يحمل هذه الشهادات العملاقة وهو لا يجيد قراءة سورة الفاتحة، أو لا يعرف أقصر السور، أو لا يعرف من دين الله عز وجل شيئاً؟! ولربما يحفظ من الأغاني أكثر مما يحفظه من دين الله عز وجل، ويعرف عنها أكثر مما يعرفه من دين الله، ومع ذلك نجد أن هذا يجادل في دين الله، فإذا كتب في الصحف فكأنه أكبر العلماء، فيتكلم مرة على الحجاب، ويبدي رأيه فيه، وكأن له رأياً، أو كأن الحجاب ما زال موضع الدراسة بين الناس، ثم يتكلم مرة أخرى على الحدود، ويقول: وحشية وقسوة، حتى كتب أحدهم وقال: أيتها الفتاة! طالبي رب العالمين، وخاصمي رب العالمين! كيف يضفي الليل على وجه القمر؟! والله لقد قرأناه في صحيفة في بلد إسلامي، وعوقبت هذه الصحيفة وأوقفت، ولكن صاحب هذا المقال ما رأينا له أي عقوبة، يجادلون في الله ويعتبرون الحجاب والسمت الإسلامي الذي مَنَّ الله به علينا وعلى نسائنا تخلفاً وتقوقعاً ورجعية. يجادلون في الله بغير علم، ولو كان عندهم علم لاستطعنا أن نناقشهم، ولكن علمهم أكبر ظني أن كثيراً منهم أخذوه من بلاد الغرب مشوهاً، مخلوطاً بين الإسلام والوثنية والجاهلية، ولذلك فليس عندهم علم في دين الله، وإذا بدأ يناقش ويجادل فإنه يجادل في الله بغير علم، ومثل هذا يحار العاقل في أمره. (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مريد)، العجيب أنه لا يتبع شيطاناً واحداً؛ بل إذا جاء شيطان وتكلم عن الحجاب تبعه في أمر الحجاب، وإذا جاء آخر بنقد أحكام دين الله نجده يتبعه في هذا الأمر، وإذا جاء ثالث ليحبذ قوانين البشر وآراء الرجال اتبعه، فمن العجيب أنه لا يتبع شيطاناً واحداً وإنما يتبع كل شيطان مريد، نعوذ بالله منه! إذاً: فهو يميل لكل شيطان، ويعيش في قافلة الشياطين، سواء كان في ذلك شياطين الإنس وشياطين الجن؛ لأننا نعلم يقيناً أن الشياطين ينقسمون إلى قسمين: شياطين الإنس، وشياطين الجن، وكلاهما قال الله عز وجل عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وشياطين الإنس أخطر على الناس من شياطين الجن؛ لأن شيطان الجن تتخلص منه بالاستعاذة بالله منه، أما هذا الشيطان فإنك لا تتخلص منه بالاستعاذة، وإنما تتخلص منه بأن تقضي على مبدأ هؤلاء، وأن تحاربهم بكل ما أوتيت من قوة. ومع الأسف فإن هؤلاء الشياطين بدءوا الآن ينشئون من أبناء جلدتنا، كان الشياطين وأعداء الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أسماؤهم: أبو لهب وأبو جهل وأبي بن خلف، فإذا بالشياطين في أيامنا الحاضرة أسماؤهم: عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد، فكانت المصيبة أكبر، وكان البلاء أخطر وأشد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن اليمان: (يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقال حذيفة: صفهم لنا يا رسول الله؟ فقال: هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، (من جلدتنا)، أي: يحملون هويات إسلامية، وولدوا في بلاد الإسلام، ولا يمنع من ذلك أن يكونوا تربوا هنا أو هناك في بلاد غسلت أدمغتهم، (ويتكلمون بألسنتنا) باللغة العربية الفصحى. فهؤلاء أخطر على الإسلام من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج، ولذلك يقول أعداء الإسلام: إنكم لن تستطيعوا أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا في غصن من أغصانها، ولعل هذا هو مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، وهؤلاء الشياطين من البشر الذين يتبعون الشياطين من أوليائهم يوحون إليهم، فهم أعداء للإسلام، وكلما سمعوا مقالة أو حديثاً عن الإسلام اكفهرت وجوههم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، ولذلك نجدهم يحملون الحقد على الإسلام، ويأخذون من شياطين الإنس ما يغوونهم به ويقذفونه في المجتمعات الإسلامية، فانتشر السفور في بلاد المسلمين، وانتشرت الخلاعة، وانتشر الربا والزنا والفواحش والخمور على أيدي هؤلاء الشياطين الذين يتبعون كل شيطان مريد {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4].

الصنف السابع: المتكبرون المتغطرسون

الصنف السابع: المتكبرون المتغطرسون هذا النوع السابع من أنواع البشر مذكور أيضاً في سورة الحج بعد من سبقهم، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9]، هذا النوع من البشر يجادلون في الله أيضاً، وأيضاً ليس لديهم علم ولا إدراك، وأحدهم لا يستطيع أن يعرف كيف يضبط الصلاة، أو كيف يؤدي العبادة، ومع ذلك يجادل في الله بغير علم ولا هدى، ليس عنده علم ويقين يستطيع أن يجادل به، وليس عنده هدى من الله؛ لأنه ضال، (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)، ليس عنده حجة ولا كتاب يستدل به، ما هي صفة هؤلاء؟ (ثَانِيَ عِطْفِهِ)، متكبر متغطرس، هذه صفة هؤلاء: أنهم متكبرون متغطرسون متكبرون على الله، حتى إن أحداً منهم لا يريد أن يركع لله عز وجل ركعة، أو يحني ظهره، أو يضع وجهه على الأرض، وهو أيضاً متكبر على خلق الله عز وجل؛ يحتقر المؤمنين، ويضحك منهم ويسخر بهم انظر إلى لحية فلان، وانظر إلى ثوب فلان القصير، وانظر حتى رأينا السخرية في دين الله عز وجل قد بلغت ذروتها في أيامنا الحاضرة، ورأينا الآباء يسخرون بأبنائهم -نعوذ بالله- في بعض الأحيان، ويقول: إن ابنه هذا موسوس، وهذا فيه بلاء! يا أخي! أما تريد أن يكون لك هذا الولد لتقر عينك به في الدنيا والآخرة؟! وإذا وضعت في قبرك وانقطعت أعمالك تكون لك أعمال صالحة ترجو ثوابها عند الله عز وجل يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، ثمرة تدر عليك مدى الحياة، ولذلك وجدنا الكثير من الآباء يضغطون على أبنائهم في أيامنا الحاضرة بدعوى الخشية أن يكونوا مثل فلان أو فلان من الموسوسين، وأخشى على هؤلاء من الردة، والله تعالى قد أخبرنا بأن هؤلاء الذين يطعنون في دين الله ليسوا كفرة فحسب بل هم أئمة الكفر، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)، ولذلك رأينا هذه السخرية تحكي لنا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]. هذا الجدال الذي أدى إلى الكبرياء والغطرسة؛ فأصبح يرى نفسه كالجبل، ويرى الناس تحت قدمه كالذر، وهذا من أخطر الأمور التي ابتلي بها البشر.

الصنف الثامن: من يعبد الله على حرف

الصنف الثامن: من يعبد الله على حرف هذا النوع من أنواع البشر -نعوذ بالله- وإن كان الإيمان وصل إلى قلوبهم لكنه ما استقر فيها، أقوام ورثوا هذا الدين من آبائهم وأجدادهم، ولم يصل هذا الدين إلى سويداء قلوبهم، بل أخذوا هذا الدين بالتقليد أو بالوراثة أو بالبيئة، لكن هذا الدين ما تمكن من القلب، وهذا الإيمان مثله سرعان ما يتلاشى ويزول إذا أصابته أية حادثة أو مصيبة، أو ابتلي بأية فتنة. يقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، أصل الحرف في اللغة: الطرف، عندما تصعد إلى طرف الجبل فهذا يسمى حرف الجبل، ولما تصعد إلى الرمال العالية ما بين المرتفع والمنحدر يسمى هذا حرفاً، أي: كأنه على طرف، يوشك أن يسقط في أي لحظة -نعوذ بالله- فهو يعيش على طرف سكين، على أمر حاد، وسرعان ما يسقط هذا الذي يعبد الله على حرف، لماذا؟ لأنه ما فهم هذا الدين فهماً حقيقياً، إبراهيم عليه السلام وهو أقوى الناس إيماناً قال الله عنه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، هو يبحث عن الله، وليس في الله تعالى شك، وليس إبراهيم ممن يخفى عليه ربه سبحانه وتعالى، ولكنه يريد أن يعلم الناس كيف يعرفون الله عز وجل حق المعرفة؛ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً فقال: هذا ربي، فلما أفل وغاب الكوكب، قال: لا أحب الآفلين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:77 - 79]، هذا الإيمان الذي وجد نتيجة التفكير في قدرة الله عز وجل، وفي عظمة الله عز وجل، وفي ملكوت الله عز وجل هو الإيمان الثابت، هو الذي لما حاجه قومه قال: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، حتى إنه لما قذف في النار التي ما كان لها نظير في الدنيا، وقال الله لها: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ويأتيه جبريل في هذه اللحظة، ويقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا. هذا هو الإيمان الحق الذي نريد أن نبحث عنه، لا نريد أن نأخذ الإيمان بالتقليد ولا بالوراثة فقط، وإن كنا مطالبين بأن نتبع آباءنا على خير، لكن نحن مطالبون بأن ننظر في قدرة وعظمة ومخلوقات الله عز وجل، وحينئذٍ يثبت الإيمان، ويقر في مكان رصين فلا يتعثر ولا يزول، لاسيما ونحن نعيش اليوم فترة ما مر تاريخ الإنسانية بأعظم منها، وإن كنا لا نتناسى فيه الصحوة الإسلامية ونشكر الله عز وجل عليها، لكننا نعيش فترة فيها من البلاء والفتنة والاضطراب والتقلب ما لم يوجد في تاريخ البشرية جمعاء. فترة أخبرنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها: (فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمنا ًويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، ثم يقول عنها: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله وسنتي). إذاً: هذه الفترة تمتاز بالتقلب في حياة الناس، والطريق الثابت الذي نضمن فيه -بإذن الله عز وجل- الثبات بحيث نموت على الإسلام وندرك حسن الخاتمة، ونستجيب لقول الله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، الطريق الثابت هو أن نأخذ هذا الدين عن اقتناع، ومحبة ورغبة، وأن نتمسك بهذا الكتاب؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170]، ويقول: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، أي: لا بضعف، حينئذٍ نسلم بإذن الله عز وجل من التقلب والأهواء والفتن. ولذلك أخبرنا الله تعالى عن هذا النوع من البشر بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]، وكان لهذا نظائر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثير من الأعراب يدخلون في الإسلام، فإذا أصابتهم سنة كسب وخير وأمطار، وولدت أغنامهم، وكثرت ألبانهم؛ ثبتوا على دين الله عز وجل، وإن أصابتهم ضراء بحيث أصابهم الجدب، وقَلت الأمطار، وقل النبات؛ قالوا: هذا دين لا يصلح، اخترنا هذا الدين فأصبنا بهذه النكبات؛ فتركوه، لكن نحن الآن نلاقي من الفتن ما هو أعظم من ذلك، فالسجون الآن مليئة بكثير من المؤمنين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، إذ قالوا: ربنا الله، لكن أترى أن هؤلاء المؤمنين سيصمدون وسيقفون معتزين بدينهم أمام هذه الفتن أم سيرجعون من منتصف الطريق؟ أنا أرى أن الكثير من الناس يضعف أمام هذه الفتن، نرى كثيراً من إخواننا الوافدين من البلاد المجاورة اليوم ملتحياً، وغداً نراه غير ملتحٍ، لماذا؟ أين ذهبت؟ قال: بلدي فيها فتنة، وإذا ما ذهبت إليها فقد أعاقب على هذه اللحية، فأصبحنا لا نملك من دين الله عز وجل ولا حتى مظاهر شعائر هذا الدين، وأصبحنا نخاف من أعداء الله عز وجل أكثر من خوفنا من الله عز وجل! هل يستطيع أولئك الأعداء أن يقدموا الأجل أو يؤخروه؟ لا والذي نفسي بيده لا يستطيعون ذلك، هل يستطيعون أن يزيدوا في الرزق أو ينقصوه؟ لا والله، ولكنه الخوف من خلق الله عز وجل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب). وعلى هذا فإني أقول: إذا كنا نعيش عصر الفتنة، ونحن لا ننكر مواقف الطغاة من المؤمنين في أيامنا الحاضرة، لكننا نقول: إذا أخذنا هذا الإيمان عن اقتناع، وأخذنا هذا الكتاب الذي بأيدينا بقوة، وعاهدنا الله عز وجل على العمل به؛ فلن يضيرنا ما فعلوا، ويقول قائلنا بلسان حاله أو بلسان مقاله لله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب يجب أن نقول هذا الكلام ونخاطب به الله عز وجل، لا أن نخاطب به مخلوقاً من المخلوقين، فيكون إيماننا صلباً، ونستطيع أن نقف به أمام هذه الفتن، وأمام هذه الشدائد، أما ذلك الإيمان الذي يعبد الإنسان فيه ربه على حرف فنعوذ بالله منه، هذا الإيمان لا يمكن أن يقف على قدميه فضلاً عن أن يعيش في أيامنا الحاضرة بالذات؛ لأن أيامنا أيام فتن وتقلب وأهواء ومصالح، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يجهر حتى بأمور دينه، حتى لقد سمعنا أن أقواماً لا يستطيعون الذهاب إلى المسجد في صلاة الفجر أو في أكثر الصلوات في بعض البلاد المجاورة؛ لأن أعداء الله سيأخذونهم إذا وجدوهم يذهبون إلى المسجد، ولا أظن أن هناك فتنة مرت بالمسلمين أعظم من هذه، ولا حتى في عهد التتار والصليبيين والمغول وغيرهم من العالم المتوحش، يأخذون الناس لأنهم يؤمنون بالله عز وجل! وليس هناك حل لنا أمام هذه الفتن إلا أن نعبد الله على قاعدة صلبة، لا على حرف، وإذا عبدنا الله عز وجل على قاعدة صلبة فإن الله تعالى يثبت أقدام المؤمنين على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما إذا عبد الناس ربهم على حرف فأصبحوا يأخذون من هذا الدين ما سهل، وإذا صعب عليهم الأمر تركوه؛ فلن ينالوا ذلك الثبات من الله عز وجل.

الصنف التاسع والعاشر: من يصبر على الفتنة في الدين ومن لا يصبر

الصنف التاسع والعاشر: من يصبر على الفتنة في الدين ومن لا يصبر النوع التاسع والعاشر من أنواع هؤلاء البشر مذكور في سورة العنكبوت، يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]. هذه الآيات من أول سورة العنكبوت لها قصة عجيبة جداً: هي أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنق الإسلام، ولكن أمه كانت تقول له: يا بني! أتترك دين آبائك وأجدادك؟! والله لا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بدين محمد! -نعوذ بالله- وهذه أكبر فتنة تأتيه من أقرب الناس إليه، فينظر إلى أمه ونفسها تتقعقع من الجوع والعطش، ويرى الموت ينتزعها، أيأخذ بعاطفته أم بعقله؟ إن أخذ بالعاطفة ترك دينه، وإن أخذ بالعقل نازعته عاطفته، فماذا يعمل؟ بقي فترة من الزمن يراودها علها أن تأكل وتشرب، ولكن تغلب العقل على العاطفة؛ لأن هؤلاء رباهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: اسمعي يا أماه! والله لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي! فماذا فعلت؟ أكلت وبقيت، وأنزل الله عز وجل فيه صدر سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:1 - 3]، يعني أن الفتنة ليست خاصة بهذه الأمة فقط، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:3 - 6]، ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8]، ثم قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10]، كما أوذي هذا الرجل الصحابي الجليل في أمه {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]. وهذه الفتنة في أيامنا الحاضرة أصلب وأقسى وأعنت، فيفتن الرجل اليوم في دينه، ويؤذى في نفسه وأهله.

الصنف الحادي عشر: من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله

الصنف الحادي عشر: من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله هذا النوع مذكور في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]. الحقيقة أن هذا النوع من البشر أيضاً عجيب أمره، فهو يشتري لهو الحديث بماله، ويبذل فيه ثمناً غالياً نفسياً، واختلف أهل التفسير في المراد بلهو الحديث، إلا أن أكثر ما أميل إليه هو قول عبد الله بن مسعود: (والله إنه الغناء، والله إنه الغناء، والله إنه الغناء: هو لهو الحديث)، ولعل هذا الرأي يكون وجيهاً حينما نرى كيف يشترى في أيامنا الحاضرة لهو الحديث، فنرى أن لهو الحديث يباع بأثمان باهضة، لو نظرنا مثلاً كم تبذل دول العالم الإسلامي على التلفزيون وأفلامه، وقلنا: هل ما يبذل على الأفلام وعلى الأجهزة التي تشترى في البيوت، والأشرطة التي تباع بأثمان باهضة، وأفلام الفيديو التي تفسد الأخلاق والمروءة والرجولة، وتقضي على البيوت، وما أشبه ذلك من الأغاني، هل ما ينفق على هذه أكثر، أم ما ينفق على الجهاد في سبيل الله؟! والله إن الجهاد في سبيل الله في أفغانستان لا يأخذ معشار ما ينفق في دولة واحدة على لهو الحديث، ولو نظرنا بكم تشترى الأفلام في دولة من دول العالم الإسلامي لوجدنا ما ينفق على الجهاد في أفغانستان التي تختطف فيها يومياً أرواح آلاف الشهداء، والتي هي فاصل بين دخول الشيوعية في بلاد المسلمين أو عدم دخولها، والتي يقف فيها الأفغان أمام أعتى قوة؛ لوجدنا أن ما يصرف لا يساوي معشار ما تنفقه دولة واحدة على لهو الحديث، ولذلك نفهم معنى قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]. هل تصدقون أن هناك حفلات ساهرة فاسدة منحرفة لا يدخلها الناس إلا ببطاقة بعشرات الدولارات؟! ولقد حز في نفسي حينما رأيت سهرة ما في بلاد إسلامية على رأس عيد السنة، ولا أكتمكم أن هذا كان هنا في القصيم، وكانت قيمة التذكرة بخمسين ريالاً! وأن هناك عرضاً بموسيقى، وهذه الموسيقى من سيعرضها؟ سيعرضها نصارى يظنون أنهم يحيون عيد الميلاد، ولا أدري ماذا يوجد مع هذه الأشياء! ولولا أن الله تعالى قيض لإنكارها بعض الصالحين والمصلحين والمسئولين فوقفوا أمامها لحدثت، وأظنها نشرت سراً، وكان سيدخلها آلاف من الرجال والنساء ليستمعوا إلى هذه الحفلات الماجنة المنحرفة الضالة، ويشترون لهو الحديث بهذا المال، قلت حينها: سبحان الله! صدق الله العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]. قصة أخرى: زرت إحدى القرى في منطقة جازان التي يقولون: إنها أفقر المناطق، فزرت أمير القرية، فقلت: أهذه أكبر قرية؟ قال: نعم، قلت: أريد أن تدلني على أفقر بيت في هذه القرية، فدلني على بيت فيه عجوز، وقال: هذه أفقر امرأة في جازان، وجازان معروفة بأن الحياة فيها من أبسط المناطق في المملكة التي امتن الله عليها بهذه الخيرات، فأول ما قابلني في هذا المدخل تلفزيون ملون عند الباب، فقلت: سبحان الله! صدق الله العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]، قلت: ماذا تملك هذه؟ قال: لا شيء، وكل الناس يتصدقون عليها بأكلها، ولا تملك شيئاً أبداً. أصبح الناس الآن يشترون لهو الحديث، ولهو الحديث هذا لا نخسر عليه المال فقط، بل نخسر عليه ما هو أكبر من ذلك: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فقد ضل كثير من الناس على أيدي هذه الوسائل الحديثة المنحرفة التي جاءت بالرقص والغناء واللهو والموسيقى والمسرحيات الماجنة والمصائب، سواء كان ذلك عن طريق التلفاز أو الفيديو أو الإذاعة أو الصحف والمجلات والصور الفاتنة، ولذلك ندرك معنى قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]. أيها الإخوان! هذه منازل ومراتب، وهؤلاء هم أنواع البشركما وزعهم الله عز وجل، فأي مرتبة تريد أن تختارها أيها الأخ المسلم وأنت تنتظر الوقوف بين يدي الله عز وجل، وأمامك القبر والحساب والجنة والنار والصراط والميزان أمامك مواقف تدع الحليم حيران، ويشيب منها الولدان، فما عليك يا أخي إلا أن تتقي الله عز وجل في نفسك وبيتك وأمانتك وأهلك وذريتك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. أقول قولي هذا وأستغفر الله ولي ولكم، ولا أظن أن واحداً منكم أكثر مني ذنباً وأعظم تقصيراً، ولكني أستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الشيوعية والاشتراكية وبطلان القول بالاشتراكية الإسلامية

الفرق بين الشيوعية والاشتراكية وبطلان القول بالاشتراكية الإسلامية Q ما الفرق بين الشيوعية والاشتراكية؟ وما رأيكم فيمن يقول: نريد تحقيق الاشتراكية الإسلامية؟ A الشيوعية والاشتراكية منبعهما واحد، ولكن الأولى أوسع من الثانية كما يقولون، فالأولى تنكر الخالق، والأديان، وتلغي الملكية الفردية، والاشتراكية جزء منها كما تزعم، والشيوعية تلغي نظام الأسرة، وتريد أن تحول الإنسان إلى حظيرة من الحيوانات، لا يعرف فيها الرجل أولاده ولا الولد أباه إلى غير ذلك، ولا تؤمن باليوم الآخر، ولا بالرسل ولا بالكتب السماوية إلى غير ذلك، ومبدؤها الأول: لا إله، والحياة مادة. سبحان الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! أما الاشتراكية فإنها تعتبر فرعاً من هذه ووسيلة لها، فإذا أرادوا أن يلطفوا الموضوع قالوا: اشتراكية، وإلا فإن هذه من جنس تلك، والاشتراكية لا تكون إلا في الأموال، ولكنها في البلاد الشيوعية تكون في الأموال والأسر وكل شيء كما يخططون لها، إلا أن كل هذا يتنافى مع الفطرة. وعلى كل فإن الله تعالى جمع لنا بين الشيوعية والاشتراكية التي يزعمونها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، فإن أكل أموال الناس بالباطل داخل في الصد عن سبيل الله تعالى، وهذا داخل في ذاك. أما بالنسبة للاشتراكية الإسلامية؛ فالإسلام ليس فيه اشتراكية، إنما الإسلام: حكم قائم عظيم سبق كل هذه المذاهب وهذه الأفكار، وهو بريء من الاشتراكية؛ لأن الاشتراكية تأخذ أموال الناس بدون إرادتهم، أما الإسلام فإنه يدعوهم إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى، والبذل، ويأخذ جزءاً بسيطاً من أموال الناس ليردها إلى الفقراء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، وعلى هذا فإنه لا اشتراكية في الإسلام، ولكن في الإسلام نظام وحكم قائم يضمن لنا سعادة الفرد والجماعة، ويغنينا عن الاشتراكية وعن كل هذه المذاهب، وهو ضمان الفقراء عن طريق الزكاة والنفقة الواجبة أو المستحبة، أو عن طريق الكفارات، وما أشبه ذلك مما وضعه الله تعالى للإحسان للفقراء.

حكم قول: نعتذر إلى الله ثم منكم

حكم قول: نعتذر إلى الله ثم منكم Q ما رأي الشيخ في قول مقدم المحاضرة: نعتذر إلى الله ثم منكم، هل ذلك مشروع أو صحيح؟ وهل ذلك من الاحتياط الواجب للخوف من الشرك الأصغر؟ A هذا كلام طيب، يعني: الاعتذار من الله سبحانه وتعالى، ومعناه: نخشى أن نكون عصيناه، أما الاعتذار منكم، فأظن أن هذا ليس فيه شيء أبداً إن شاء الله.

حكم جر الثوب وإسباله

حكم جر الثوب وإسباله Q نرى كثيراً من الناس يجر ثوبه تحت كعبيه، وإذا ناقشته في ذلك احتج عليك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (إنك لست ممن يجره خيلاء)، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ A هذا الوضع له ثلاث حالات: الأول: جره خيلاء، وهذا -نعوذ بالله- فيه وعيد شديد، قال عليه الصلاة والسلام: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، وقال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، وهذه أخبث المراحل أن يجره خيلاء، وأن يصل إلى الأرض ويخط في الأرض ويقصد به الخيلاء، هذا لا ينظر الله إليه، وأخاف أن عباداته مردودة عليه، حتى إذا صلى وهو يجره فأخشى على صلاته هذه ما دام أن الله تعالى لا ينظر إليه. الثاني: لا يجره ولكنه لا يصل إلى الأرض ولا يقصد به الخيلاء، وإنما ينزل عن الكعبين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار). الثالث: لا يريد جره، ولا جره، وإنما نزل منه بدون إرادة، مثلاً: لبس ثوباً مفاجأة فوجده طويلاً، ولا يتمكن في هذه اللحظة أن يرفعه، أو لبس مشلحاً أو ما أشبه ذلك فوجده طويلاً، أو لبس إزاراً مسترخياً، فهذا هو الذي يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم مع حال أبي بكر حينما قال: (إن إزاري يسترخي يا رسول الله! قال: إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذا لا شيء فيه؛ لأنه ما قصد الخيلاء ولا الإسبال.

التحذير من مجالسة رفقاء السوء

التحذير من مجالسة رفقاء السوء Q لي أخ له رفقاء فاسدون وصالحون، ويجلس مع هؤلاء ويرتكب المعاصي والآثام، ويجلس مع هؤلاء ويفعل الخير ويحضر المحاضرات معهم، وهم لا يعرفون عن أصدقائه الأشرار أي شيء، فماذا يجب علي أن أفعله؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً. A هذا الوضع خطير، وأخشى أن يدخل تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] الآية، وكونه يختار قرناء سوء وقرناء صالحين هذا تناقض وازدواجية في حياة هذا الإنسان، فنقول له: اتق الله، واحذر قرناء السوء، وعليك بالرجال الصالحين الذين تستفيد من حياتهم، وأخشى أن يفسد أولئك المنحرفون عليك أكثر مما يصلحه هؤلاء المصلحون، وعليك أن تحذرهم كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقارنة أصحاب السوء؛ فإنهم كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة.

حكم سماع الغناء في الخفية

حكم سماع الغناء في الخفية Q ما رأي فضيلتكم فيمن يسمع الغناء بالخفاء، ويظهر أنه لا يسمعه؟ وهل يعتبر هذا من النفاق العملي أو الاعتقادي؟ A هذا في الحقيقة ليس نفاقاً عملياً ولا اعتقادياً؛ لأن النفاق الاعتقادي: هو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، والنفاق العملي: هو الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (آية المنافق ثلاث)، ولكن نقول: يخشى أن يدخل في المخادعة؛ لأن استماع الأغاني محرم، خصوصاً أصوات النساء، أو التغزل بالنساء والتشبيب بهن، فنقول: أنت عاصٍ، فعليك أن تتقي الله، وأن يكون مظهرك كمخبرك كلاهما صالحاً.

الاعتكاف ليس من الرهبانية في شيء

الاعتكاف ليس من الرهبانية في شيء Q ذكرت في محاضرتك أن الإسلام لا يقبل الرهبنة، فما الرد على من يقول طعناً في الإسلام: إن الاعتكاف من الرهبنة؟ A الاعتكاف ليس من الرهبنة، لكن لو أن واحداً من الناس اعتكف مدى الحياة؛ خشينا أن يكون ذلك من باب الرهبنة، أما أن يعتكف مدة من الزمن منقطعاً للعبادة فهذه سنة، والرهبنة تكون في أمور ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، أما الاعتكاف فإنه سنة، أشار الله عز وجل إليها بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، والاعتكاف فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه، فهو من العبادة، لكن لو أن واحداً من الناس أراد أن ينقطع للعبادة مدى الحياة في المسجد ولا يخرج منه، ويقول: إن هذا هو الزهد، عندها نقول: هذا هو الإحداث في الدين.

خطر الرأسمالية على اقتصاد المسلمين

خطر الرأسمالية على اقتصاد المسلمين Q نرجو من فضيلتكم توضيح خطر دعوة الرأسمالية على الإسلام والمسلمين؟ A الرأسمالية لها معنيان: معنى اصطلاحي ومعنى لغوي، المعنى اللغوي معنى محمود: وهو أن يكون للإنسان رأس مال، والله تعالى أباح لنا أن نتخذ من الأموال ما يكون حلالاً، ونؤدي حقوق هذا المال، لكن الرأسمالية لها معنى اصطلاحي مخيف، وهو: أن تأخذ المال من الحلال والحرام، وليس هناك شيء اسمه ربا محرم، ولا أضعاف مضاعفة محرمة، أو حقوق واجبة، أو زكاة. هذه هي الرأسمالية في معناها الحاضر، ومعروف أنها عدوة للإسلام، وهي التي نشرت الربا في بلاد المسلمين، وفتحت له البنوك في بلادهم، ولا تؤدي حقوق هذا المال. هذه هي الناحية الخطيرة في الرأسمالية في معناها الاصطلاحي لا في معناها اللغوي، أما معناها اللغوي: فإن الله تعالى أباح للإنسان أن يتخذ من المال كل ما يكسبه من الحلال، لكن عليه أن يؤدي حقوقه، ولذلك قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] الآية، ويقول العلماء: كل مال أديت زكاته فليس بكنز، ولو كان أكثر ما يكون، وكل مال منعت زكاته فهو كنز، ولو كان مالاً قليلاً.

حكم العمل في مواطن الفتن والتبرج

حكم العمل في مواطن الفتن والتبرج Q هل يجوز للرجل أن يعمل في مكان يوجد به كثير من النساء الأجنبيات المتبرجات كالمستشفى مثلاً؟ A العمل أصله مباح، لكن البعد عن مواطن الريبة والفتنة أمر مطلوب وواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك نقول: اعمل في أي مجال، لكن عليك وأنت تعمل في أي مجال من المجالات أن تنكر المنكر بقدر ما تستطيع؛ لأنك مسئول عن إنكار هذا المنكر، وكون الصالحين يخالطون الناس الذين فيهم شيء من البلاء أحسن إذا أمنوا على أنفسهم من الفتنة، وعليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويدلوا الناس إلى طريق الخير.

حكم الأخذ بالأعراف القبلية في التزويج

حكم الأخذ بالأعراف القبلية في التزويج Q هل العصبية القبلية جائزة؟ وما حكم من يعمل بها، كمن يقول: لا أزوجك ابنتي لأنك غير قبيلي، مع أنه مشهود للرجل بالديانة والفضل والخير؟ A العصبية القبلية بهذا الشكل نظام اجتماعي، وليست من الدين في شيء، والدين لا يفرق بين القبيلي وغيره، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وفي الحديث: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وغير القبيلي ليس له ذنب، فهو يجتمع مع القبيلي في آدم عليه السلام وفي حواء، وهما من ذرية من حمل الله تعالى مع نوح، ولكن لما صار هذا نظاماً اجتماعياً بين الناس فنقول للناس: من الأفضل أن تأخذوا بذلك؛ لأن رفض هذا النظام يؤدي إلى بلاء وفتنة ومشاكل، فلو أن واحداً من هؤلاء تزوج من غيره فأخشى أن تقوم هناك فتنة بينه وبين أهله وذويه، ولذلك نقول: تلافياً للمشاكل وحتى تنحل هذه المشكلة بإذن الله على ضوء الإسلام فالأولى ألا نخرج عليها خروجاً كاملاً، لكن الأصل ليس هناك هذه التسميات؛ لأن هؤلاء بشر وكلهم يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].

نصيحة لمن أسلم على يديه أناس كانوا كفارا

نصيحة لمن أسلم على يديه أناس كانوا كفاراً Q نريد توجيه نصيحة لمن أسلم على يديه أحد الأجانب الذين يدينون بغير دين الإسلام؟ A هذه فضيلة كبيرة؛ لأن: (من دعا إلى هدى فله مثل أجر من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، فمن أسلم على يديه أحد من غير المسلمين فليشكر الله على هذه النعمة؛ لأنه قد غرس غرساً يبقى له بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة، ولذلك فإنه يلزمه في مثل هذه الحالة أن يتعاهد هذا الغرس، ويتفقده، ويقدم له النصح، ويقدم له الأمور التي تمكنه من دينه؛ لأننا نرى اليوم كثيراً ممن يدخلون في الإسلام يخرجون بطريقة غير مباشرة، وعلى هذا فإننا نقول: نحاول أن نثبت الإيمان في قلوب هؤلاء، وألا نقبل منهم أن يدخلوا في الإسلام إلا عن اقتناع؛ لأنهم لو دخلوه عن غير اقتناع ثم خرجوا منه أصبحوا مرتدين، والمرتد له حكم خاص.

الحكمة في إنكار المنكر والصبر عليه

الحكمة في إنكار المنكر والصبر عليه Q من المعروف أن النهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولكن ما الحكم إذا كان النهي عن منكر يترتب عليه ضرر على الشخص سواء في ماله أو بدنه أو معاملته، خاصة إذا كان هؤلاء الذين ينهون عن المنكر من الأقارب، وقد يوجد هذا حواجز فيما بينهم وبين هذا الشخص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إلى آخر الحديث؟ A يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ولكننا نستطيع أن ننكر المنكر ونتحمل في سبيل إنكار المنكر أشياء كثيرة، والناس يختلفون، هناك من يستطيع أن يتحمل، وهناك من لا يستطيع أن يتحمل، فنقول: الناس مطالبون بأن ينكروا المنكر، ويبذلوا الثمن في سبيل إنكار هذا المنكر، ويتحملوا المسئولية تجاه إنكار المنكر؛ لأن هذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، لكن لو كان هذا المنكر يترتب على إنكاره على الإنسان في نفسه أشياء خطيرة لا يستطيع أن يتحملها، فنقول: لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن عليه أن يتقي الله تعالى ما استطاع، فإذا كان عنده الإيمان القوي الذي يؤهله لأن يتحمل في سبيل هذا الأمر كل ما يلاقيه، فنحن نطالبه بذلك، أما إذا كان ضعيف الإيمان فنسأل الله تعالى أن يتجاوز عنه في إنكاره بقدر ما يستطيع، أما إذا كان يقيم حواجز بينه وبين أقاربه فنقول: عليه أن يستعمل الحكمة، وإذا استعمل الحكمة فلن تقوم هذه الحواجز بينه وبين أهله وأقاربه وذويه، ولكن إذا كان أولئك يكرهون إنكار المنكر بأي وسيلة، فنقول: يجب أن تقوم الحواجز بينه وبين أهله وأقاربه، خصوصاً إذا كان منكراً كبيراً؛ لأن هؤلاء ليسوا منه وليس منهم.

حكم رقص النساء في الأعراس

حكم رقص النساء في الأعراس Q ما حكم الرقص في الأعراس أمام النساء؟ A إذا كانت الراقصة امرأة، وفي معزل عن الرجال، وليس هناك أشياء مثيرة أو محركة للشهوة، فأرجو أن يكون هذا الأمر أسهل؛ لأن الدف ما دام قد أبيح للنساء في أيام الزواج، فأتوقع أن هذا تابع لذلك، ولكن الاحتياط هو البعد عن هذه الأمور كلها، أما إذا كانت عن مقربه من الرجال، أو يظهر الصوت للرجال، أو كانت هناك صور أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كله من الأمور المحرمة.

حكم من أحرم بالحج ولم يحج

حكم من أحرم بالحج ولم يحج Q امرأة كبيرة في السن نوت الحج، وأحرمت من الميقات، فسمعت بالفتنة؛ فعدلت عن الحج ورجعت إلى مدينتها دون حج، فهل عليها إثم؟ A نعم عليها إثم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، والحج والعمرة يختلفان عن كل العبادات: أن الإنسان إذا بدأ بالنفل أصبح النفل واجباً، ولذلك نقول: هذه ما زالت محرمة، ما دامت قد عقدت النية، وتعدت الميقات وهي محرمة، وعليها أن تحج في العام القادم، والأولى قبل أن ترجع أن تذبح ذبيحة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وما دامت قد منعت، مع أنها في الحقيقة ظنت أنها منعت، ولذلك نقول: هي خافت فهي آثمة، وعليها أن تعتبر نفسها الآن محرمة، وعليها أن تحج في العام القادم.

حكم من حاضت قبل طواف الوداع في العمرة

حكم من حاضت قبل طواف الوداع في العمرة Q ما حكم من أتتها العادة قبل أن تطوف طواف الوداع أثناء العمرة؟ وهل تعتبر عمرتها صحيحة أم لا؟ A أكثر العلماء يرون أن العمرة ليس لها طواف وداع، وعلى كل لو فرضنا أن طواف الوداع واجب فإنه يسقط بالحيض كما في الحج مثلاً، فإن طواف الوداع فيه واجب، فإذا حاضت المرأة سقط عنها طواف الوداع.

التحذير من معاكسة النساء والنظر إليهن

التحذير من معاكسة النساء والنظر إليهن Q كثير من الناس اليوم يشاهد النساء في الأسواق، وخاصة الشباب، ويجلسون في أماكن النساء حتى يضايقوهن، فما حكم من فعل ذلك؟ A هذا فيه إثم بينه وبينه الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والجلوس في الطرقات، فقال رجل: يا رسول الله! ما لنا في المجالس من بد، فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله! قال: كف الأذى، وغض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وعلى هذا نقول: الجلوس في الطرقات لهدف التفرج على النساء والنظر إليهن هذا من الأمور المنهي عنها التي لا تجوز، وإذا جلس الإنسان في الطرقات لضرورة أو لحاجة فإن عليه أن يغض بصره، كما ندعو أيضاً النساء ألا يتبرجن، وألا يخرجن إلا لحاجة؛ لأن الله تعالى يقول لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فإن من الإثم ما نشاهده من خروج كثير من الفتيات في أيامنا الحاضرة، والذهاب للدكاكين والخياطين والبقالين وغير ذلك، بحيث نرى هذه المرأة قد تخلو مع واحد منهم تكلمه، وربما تكلمه بسر، وربما تدخل رأسها داخل الدكان أو جسمها، وهذا كله من الأمور الخطيرة، وندعو الشباب أيضاً إلى أن يبتعدوا عن مواطن الفتنة؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

خطر الطعن في فتاوى العلماء وردها

خطر الطعن في فتاوى العلماء وردها Q انتشر في عصرنا الحاضر إنكار كثير من الناس لكل ما يسمع من فتاوى العلماء إذا كان لم يسمع بها من قبل، ويقول: هذا تشدد، وليست عنده جرأة أن يسأل شيخاً من المشايخ عما يجهل، ولكن يسأل أصدقاءه أو عامة الناس، أرجو من فضيلتكم التحدث عن هذه النقطة؟ A الحقيقة أن كثيراً من الذين يجهلون تعاليم الإسلام وأخذوا الدين بالوراثة، إذا سمعوا فتوى عالم من علماء المسلمين موثوق يستنكرونها أو ينكرونها، والمسلم يجب عليه أن يبحث عن الحق ولو كان مع من كان، وإذا كان من علمائنا المجتهدين -والحمد لله- في أيامنا الحاضرة من بدءوا يعطون الناس الآراء الصحيحة الممحصة التي تعتمد على الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الذين يطعنون في فتاوى هؤلاء العلماء خاطئون، وواقعون في خطر، ولذلك أقول: إذا كان هذا العالم موثوقاً في دينه وأمانته وعلمه؛ فعليك -إذا لم تكن من أهل الاجتهاد- أن تقبل هذا العلم من هذا الرجل الذي هيأه الله عز وجل من أجل أن يدلك على طريق الحق.

من أسباب كثرة الطلاق

من أسباب كثرة الطلاق Q كثر اليوم الطلاق، فبعض الناس يطلقون زوجاتهم بدون أي سبب، ويقول لها: لا تدخلي بيتي بعد اليوم، وبعضهم يتركونها في بيوتهم أو بيت أهلها ولا يطلقونها ولا يعطونها حقاً من الحقوق، نرجو من فضيلتكم توضيح هذه النقطة؟ A أما كثرة الطلاق فلا أظنه -والحمد لله- كثر الآن؛ بل أصبح كثير من الناس يدخل مع زوجته على بصيرة، ولكن ربما يكثر الطلاق في بعض المناطق أو عند بعض الفئات الذين لا يطلعون الزوج على شيء من أخبار الزوجة أو من شكل الزوجة، ولذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أحرى أن يؤدم بينهما، فإذا دخل على غير بصيرة أخشى أن تكون الكراهية، لكن إذا دخل على بصيرة فإنه يتوقع أن يؤدم بينهما. وعلى كل فإذا نزلنا مع سؤال الأخ بأنه قد كثر الطلاق فلا بد أن له أسبابه، وعلينا أن نتقيها، وأخشى أن تكون من أهم أسبابه: عدم معرفة المرأة للرجل، أو عدم معرفة الرجل للمرأة، أو أن هناك مطامع أخرى قد تغري المرأة بحيث تتمرد على الرجل، وعلى كل فإنه إذا كان أيضاً هناك ظلم من الزوج للزوجة فإن هذا الظلم لا مكان له في دين الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وعالجنا المشاكل الزوجية بطريق الحكمين، وإذا لم تفلح كل الحلول فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].

حكم هجر الزوجة وتفضيل بعض الأبناء وخروج الدم من الحامل

حكم هجر الزوجة وتفضيل بعض الأبناء وخروج الدم من الحامل Q ما جزاء من هجر زوجته، أو فضل أحد أبنائه على الآخرين؟ وما الحكم إذا كانت المرأة حاملاً وخرج منها سائل، فهل يجب عليها الغسل للصلاة أم لا؟ A أما بالنسبة لمن هجر زوجته فلا يجوز الهجر إلا كما أمر الله عز وجل: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] أي: بالنسبة للناشز، أما الهجران بدون سبب فإن هذا ظلم للمرأة، كما أن الميل إلى إحدى الزوجات دون الأخرى يعتبر أيضاً ظلماً آخر، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، ولا يجوز الهجر إلا على سبيل التأديب، وإذا كانت المرأة ناشزاً؛ فإن الله تعالى قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، ولكن هذا الهجر أيضاً له حدود. أما بالنسبة للعدل بين الأولاد فإنه أمر واجب، ولا يجوز لأحد أن يفضل بين أولاده؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق، وإخوة يوسف عليه السلام وهم أنبياء نعرف ماذا حدث بينهم لما فضل يعقوب عليه السلام يوسف على إخوته، كادوا له كيداً، فكانت الفتنة الكبيرة التي نقرؤها في سورة يوسف. أما بالنسبة للسائل فإنه إذا كان في أيام الحمل فليس هذا بدم عادة، إذا كانت ممن لا تأتيها العادة في أيام الحمل فإنه لا أثر له، لكن إذا كان من الاستحاضة -ولا أظن الاستحاضة تأتي في أيام الحمل- فإن عليها أن تغتسل لكل صلاة إذا كان هذا السائل دماً، أما إذا كان غير ذلك فإنها تتوضأ. وبالنسبة للتفرقة بين الأولاد فهو يكثر في أيامنا الحاضرة تفضيل بعض الأولاد على بعض، وهذا يؤدي إلى بلاء وفتنة ومصيبة، ولذلك النعمان بن بشير رضي الله عنه لما جاء أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أنه أعطى النعمان عطية ما أعطاها أحد إخوانه؛ غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)، فنقول: يجب العدل والتسوية بين الأولاد، اللهم إلا في أمور يتطلبها بعضهم دون البعض، كالزواج مثلاً فمن بلغ الزواج يزوجه، ومن كبر سنه ويحتاج إلى سيارة يعطيه سيارة، أما إذا كانوا متساوين في السن وفي المرحلة وكل شيء فتجب التسوية بينهم.

حكم من حج ولم يرم الجمرات

حكم من حج ولم يرم الجمرات Q حججت ولكني لم أرم الجمرة، وكان لذلك عذري؛ لأن معي طفلة أحملها وليس معي إلا والد الطفلة، وقد سألت عن حكم ذلك فقالوا: هذا جائز، وبعضهم قال: لا يجوز الحج إلا بالرجم، فما حكم ذلك؟ A إذا كانت ما رمت الجمرة أبداً فإنها تركت واجباً من واجبات الحج؛ لأن الرمي واجب، فنقول: عليها دم مقابل هذا الرمي الذي تركته، يذبح في الحرم ويوزع على فقراء الحرم (فدية)، أما إذا كانت وكلت أحداً ورمى عنها فإن هذا يكفي إن شاء الله.

حكم المسافر إذا مات قبل أن يصلي وهو في سفره

حكم المسافر إذا مات قبل أن يصلي وهو في سفره Q إذا كان السفر مسافة تسعمائة كيلو، وصلينا المغرب مع العشاء جمع تأخير -وقدر الله وما شاء فعل- وتوفي أحدنا قبل أن نصلي صلاة المغرب والعشاء، فهل يحاسب على تقصيره؟ وما هو الدليل جزاك الله خيراً؟ A ما دام الوقت فيه سعة فأرجو -إن شاء الله- أن هذا الإنسان ليس عليه لوم، إنما الذي يلام من يخرج عليه الوقت، فإذا خرج الوقت فيلام الإنسان الذي أخر الصلاة عن الوقت، أما ما دام الوقت باقياً فلا شيء على هذا الذي مات -إن شاء الله- ما دام الوقت لم ينته بعد، ولكن الأولى الصلاة في أول وقتها، فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة في أول وقتها.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

حكم صلاة المنفرد خلف الصف Q دخلت المسجد ولم أجد لي مكاناً لأدخل في الصف، فصليت منفرداً، فهل فعلي صحيح؟ A لا تجوز صلاة المنفرد خلف الصف كما جاء في الحديث، لكن إذا كانت هناك ضرورة وخشي فوات الركعة، ولم يدخل أحد؛ فإنه يصلي منفرداً؛ لقصة أبي بكرة رضي الله عنه، فإنه كبر ومشى وهو راكع، وعلى كلٍ فإنه إذا كانت هناك فرجة في الصف تتسع له وتركها فصلاته غير صحيحة وعليه أن يعيد الصلاة، فإن من صلى فرداً خلف الصف وفي الصف مكان له فصلاته غير صحيحة، وعليه أن يعيدها، أما إذا لم يكن هناك مكان في الصف فصلاته إن شاء الله صحيحة، ولا يحتاج إلى أن يجر أحداً معه.

حكم انتقال الرضاع بالمصاهرة

حكم انتقال الرضاع بالمصاهرة Q صديق لي رضع من زوجة والدي رضاعاً تاماً، هل هذا الولد يكون عماً لبناتي؟ وهل يجوز أن يكون محرماً لهن؟ A انتقال الرضاع بالمصاهرة موضع اختلاف، أنا لا أستطيع أن أفتي فيه؛ لأن الرضاع يحرم كما يحرم النسب، إلا في موضوع المصاهرة فهذا مختلف فيه، أي: هل ينتقل الرضاع بالمصاهرة كما ينتقل بالنسب؟ اختلف فيه العلماء، وأنا لا أفتي فيه.

حكم رفع اليدين في الدعاء وقراءة الفاتحة على الأموات

حكم رفع اليدين في الدعاء وقراءة الفاتحة على الأموات Q ما حكم رفع اليدين أثناء الدعاء؟ وما حكم قراءة الفاتحة على الأموات؟ A رفع اليدين في الدعاء مستحب، إلا في حالة واحدة في خطبة الجمعة، إذا بدأ الخطيب يدعو فالمؤمَّن لا يرفع يديه في مثل هذه الحالة، إلا في الاستغاثة والاستسقاء كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في غير هذه الحالة كالوتر مثلاً، أو بعد الصلوات الفرائض بشرط ألا يداوم على ذلك، أو بعد النوافل بلا مداومة؛ فلا بأس، فالرفع في الدعاء سنة. وأما قراءة الفاتحة للأموات فلم يفعلها السلف الصالح ومن بعدهم، فقراءتها على الأموات بدعة في الدين.

خمس خصال نعوذ بالله منها

خمس خصال نعوذ بالله منها إن سبب تكالب الأعداء على المسلمين، وحلول النكبات، وانتشار الأزمات، هو مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى، والوقوع في المحرمات التي حذرنا الله سبحانه وتعالى منها، وقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خمس خصال مهلكة، متى وجدت في أمة من الأمم كانت نذير شر وهلاك، وقد وقعت هذه الأمة في هذه الخصال، فحل بها ما وعد الله من الهلاك والدمار، ولن يرفع الله تعالى عنها ذلك حتى تراجع دينها.

الوقوع في المحرمات سبب حلول النكبات

الوقوع في المحرمات سبب حلول النكبات الحمد لله رب العالمين، نحمده حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشكره شكراً يليق بنعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: جاء في حديث صحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). حلت بالأمم الإسلامية اليوم النكبات والأزمات وذلك بسبب مخالفة أمر الله عز وجل رب البريات، ولا تغتروا بالكافرين الذين أملى الله عز وجل لهم في الحياة الدنيا، وعجل لهم خيراتهم في الحياة الدنيا وأما في الآخرة فليس لهم إلا النار. لكننا نتوجه إلى المسلمين سواء منهم من كان في مأمن من هذه البلايا والمصائب، أو من قد حلت بأرضه، فليس هناك سبيل إلى الخلاص منها إلا بالعودة إلى الله عز وجل.

عاقبة انتشار فاحشة الزنا في المجتمع

عاقبة انتشار فاحشة الزنا في المجتمع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم من الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم). فانتشار فاحشة الزنا من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى خراب البيوت، وسقوط الأمم، والقضاء على تاريخ الدول. وإذا أردتم دليلاً على ذلك فاقرءوا كتاب الله، واقرءوا تاريخ الأمم حينما مالت إلى اللهو وإلى اللعب وإلى المجون والإسراف والترف، وانظروا كيف كان مصيرها؟ أخذها الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، يقول سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:45 - 47] أي: ينقصهم شيئاً فشيئاً حتى لا تبقى نعمة واحدة بأيديهم. وفاحشة الزنا وللأسف الشديد أصبحت منتشرة في جل بلاد الإسلام، لا فرق بينها وبين البلاد الكافرة، يسر لها كل الطرق، وذلل من أجلها كل الوسائل، وفي الأخير فتحت بيوتاً للدعارة جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من الناس، ترعاها عيون الدول التي تنتسب إلى الإسلام وتحسب على الأمة الإسلامية، وهذا شيء يشاهده من يسيح في أرض الله الواسعة؛ وما ذلك إلا لأن الطرق كلها قد مهدت لتلك الفاحشة، ولأن الوسائل كلها قد ذللت، فأصبح ذلك الإنسان الفارغ الذي لم تربِّه أيدٍ مخلصة أمينة يبحث عن الفاحشة وعن الجريمة، فأصبح لهؤلاء المفسدين في الأرض الذين جعلوا همهم الإفساد وإتلاف الأخلاق والانغماس في الرذائل بيوت تستهلك هذه الطاقة البشرية المنحرفة. إنها فتنة في الأرض وفساد عريض، العشق في نظر أولئك خير من الزواج، والزواج في نظر طائفة منهم تخلف، فكانت النتيجة أن انتشر الفساد في الأرض وأصبح عريضاً. إضافة إلى أن الذين تولوا أمر المسلمين نسوا خشية الله عز وجل، وغفلوا عن الوقوف بين يديه، ففتحوا باب الرذيلة على مصراعيه لكل داخل. لقد مهدت السبل لجريمة الزنا في كل بلدان العالم الإسلامي، من رقص وغناء، وأفلام هابطة، ولهو ولعب، ومسابح مختلطة، وتفسخ وتبرج، وصحف منحرفة، ومجلات ساقطة تبدأ من صورة الغلاف وهي تعرض جمال المرأة ومفاتنها إلى آخر صفحة من صفحاتها، كل ذلك يعتبر في الحقيقة تمهيداً للفاحشة. والله سبحانه وتعالى يريد منا أن نسير على الجادة المستقيمة، وأمرنا أن نجتنب كل الوسائل والطرق التي توقع المرء في الفاحشة والرذيلة، من لهو ولعب محرم، وغناء وموسيقى ورقص، فكل هذه الأشياء يجب على المسلم أن يتجنبها وأن يغض بصره حتى يحصن فرجه، أما إذا أطلق المرء لبصره العنان والنظر إلى المحرمات فإنه لا محالة سيقع في الفاحشة والرذيلة، وينطلق في المحرمات بدلاً من أن يشبع رغبته فيما أباح الله عز وجل. لقد أصبح الأمر خطيراً، والشر مستطيراً والبلاء كبيراً، ولقد وصلت الأفلام الهابطة الساقطة إلى قعر بيوت المسلمين، فصارت تبث سمومها في أوساط الشباب والفتيات، إن ما يحل في بيوت أعداء الله يحل قريباً في جل بيوت المسلمين، وإن هذه الأفلام التي تتحدث عن العشق والغرام وتحرك الشهوات الكامنة تريد أن تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعاً منحلاً حينما يستجيب لهذه الدواعي المنحرفة، والتي أصبحت اليوم في متناول الناس أجمعين. فعلى الدولة والآباء والعلماء والعقلاء مسئولية هؤلاء الشباب حتى لا ينفلت الزمام، وحينئذ يعض من أهمل أصابع الندم، وهيهات أن ينفع الندم، فأنتم كلكم مسئولون بين يدي الله عز وجل عن دين الله، فاحفظوا هذه الأمانة، واحذروا أن تنتشر الفواحش، وحينما تنتشر الفواحش فإن الله عز وجل سوف يرفع يده عن هؤلاء الناس، وإن أقل ما يمكن أن يحدث أن تنتشر الأمراض التي لم تكن في أسلافنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الإيدز والسيلان والزهري وحتى كثير من الأمراض التي لا ترتبط بهذا النوع الجنسي كالسكر وارتفاع ضغط الدم وغير ذلك، لم يكن آباؤنا يشكون من هذه الأمراض، وبالرغم مما يقدمه الطب الحديث في هذه الأيام المعاصرة إلا أن الطب قد أظهر عجزه في علاج هذه الأوبئة وهذه الأمراض الفتاكة؛ لأن الله عز وجل قد أنزل عقوبته بهؤلاء الناس إن لم يعودوا إلى الله عز وجل، ويرجعوا إلى رشدهم وإلى صوابهم. إن خروج المرأة من بيتها متبرجة إلى الأسواق والمحلات التجارية، واختلاطها بالرجال في القاعات الدراسية والوظائف وغيرها، يدل دلالة واضحة على أن الفتن قد عمت وطمت في هذه الأمة، فعلى العقلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أن يتداركوا ذلك، وكذلك على ولاة أمور المسلمين القيام بهذا الواجب، فإن الله عز وجل امتدحهم إذا قاموا بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. إن المعصية إذا انتشرت في الأرض، وكشفت النقاب عن نفسها، وأصبحت واضحة في وضح النهار، ثم لا تجد منكراً من هؤلاء الناس، إذا كان ذلك فإن الأمر خطير، إن إنكار المنكر واجب على كل واحد من المسلمين بقدر ما آتاه الله عز وجل من مكانة وسلطة، إما بيده إن كان مسئولاً، وإما بلسانه إن كان محتسباً ومتطوعاً، وإما بقلبه حينما يكون في مجتمع يختلف عن مجتمعنا الذي نعيش فيه، ولم نصل بعد والحمد لله في هذا البلد الطيب إلى إنكار المنكر بالقلب. أما إذا أبى الناس إلا أن تتبرج النساء، وإلا أن تظهر مفاتنها، وإلا أن تذهب إلى الأسواق لتعرض جسدها أمام الشباب الذي يشتكي ألم العزوبة، فإن الفتنة الكبرى تكون وراء ذلك، ولذلك قدّم الله سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في الزنا فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وإن تقديم المرأة على الرجل في مثل هذه المناسبة ليدل دلالة واضحة على أن المرأة هي أكثر من يملك زمام هذه الفتنة. فعلينا جميعاً أن نحارب كل الوسائل الداعية إلى الرذيلة، وأن نحمي بيوتنا وأسرنا من خطر الأفلام التي تحرك الغرائز، وتثير الشهوة الكامنة، وعلينا أن نيسر الزواج، فإن الزواج هو سبيل العفة والطهارة. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فحينما ترون شاباً لا يستطيع أن يقوم بتكاليف الزواج ومؤنه، تعاونوا على البر والتقوى وقدموا من أموالكم ما تسدون به حاجة هؤلاء الشباب؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يعفهم بطريق الحلال حتى لا يقعوا في الحرام. وعلينا كذلك تربية بناتنا وزوجاتنا وأهلينا على الحياء، فإن لكل أمة خلقاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن خلق هذه الأمة الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك أمة أو عبداً من خلقه نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً. وعلينا أيضاً أن نربي أسرنا وبناتنا على طاعة الله، وأن نحذر مكائد الأعداء، فإنهم يريدون أن نضل السبيل {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فعلى المسلمين أن لا ينخدعوا بالدعايات المضللة التي تصل إليهم بواسطة الصحف، أو المجلات، أو الإذاعة، أو التلفاز، أو الكتاب، أو بأي وسيلة من الوسائل المقروءة أو المرئية، وكونوا على ثقة من دينكم، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

الآثار المترتبة على منع الزكاة

الآثار المترتبة على منع الزكاة يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) كم يستسقي الناس، وكم يستغيثون الله عز وجل ويطلبون منه المطر، بل نرى الجدب قد ضرب أطنابه في الأرض، وسبب ذلك أن الأمة الإسلامية فرطت في دينها، وضيعت كثيراً من أوامر ربها سبحانه وتعالى. لقد أصبحت أرقام الأموال لدى طائفة من الناس خيالية لدرجة أنك قد تعجز عن إحصائها، ولكن مع الأسف نجد أن الكثير منهم امتنعوا من إخراج زكاة أموالهم، بل رأينا كثيراً من تلك الأموال تذهب في معصية الله عز وجل، وفيما لا يرضي الله في وقت يقول الإحصاء: إن مائتين وخمسين مليوناً من أبناء المسلمين في أفريقيا يهددهم الموت والجوع، وكذلك إخواننا في أفغانستان بحاجة ماسة للطعام والشراب والسلاح الذي يقاتلون به، فهم يقاتلون ويصارعون الشيوعية الملحدة التي تنكر الخالق سبحانه وتعالى، وتنكر الأديان، وتنكر كل المبادئ، وتقول بلسان الحال وبلسان المقال: (لا إله والحياة مادة)، إنهم لا يريدون أرضاً صحراء كأفغانستان، بل ولا يريدون حتى أرضاً فيها خيرات، وإنما يريدون أن نضل السبيل {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. وبالرغم من هذا كله نجد أن هذه الزكاة قد بخل بها كثير من الناس، بل أخرج طائفة منهم تلك الأموال في غير مخارجها الصحيحة، فلا تصل إلى إخواننا في أفريقيا الذين هم تحت مسئولية الأمة الإسلامية، ولا إلى إخواننا في أفغانستان الذين يصارعون أعتى قوة في أرض الله عز وجل، وحينما يبخل الناس بالزكاة فإن الله تعالى يمنع المطر، ولربما يظن ظان أن المطر إنما هو وسيلة لإنبات العشب، ولكن المطر حقيقة هو وسيلة لحياة هذا الإنسان {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]. إن امتناع القطر من السماء سببه الذنوب والسيئات، وأعظم هذه الذنوب وتلك السيئات التي كانت سبباً في حبس المطر حتى أجدبت الأرض هو منع إخراج الزكاة، فعلينا أن نصلح أحوالنا حتى يغير الله ما بنا؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إذا منع الناس زكاة أموالهم منع الله عز وجل عنهم القطر من السماء، ولولا رحمة الله عز وجل بهؤلاء البهائم ما أُمطرت الأرض أبداً، وعلينا أن لا ننخدع بدول الكفر التي تتمتع بزينة الحياة الدنيا، والتي تمطر ليلاً ونهاراً؛ لأن هذه حسناتهم عجلت لهم، ولأن الله عز وجل يقول عنهم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]، ولكن علينا أن نعرف حق الله في هذا المال، فهو حق معلوم للسائل والمحروم، وليخش الذين لا يؤدون هذه الزكاة من يوم يؤتى بهذا المال ثم يصفح صفائح من نار، ثم يحمى عليها في نار جهنم، ثم تكوى بها الجباه والجلود والظهور في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت. ويقول الله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180].

معنى نقص المكيال والميزان وعاقبته

معنى نقص المكيال والميزان وعاقبته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان)، المراد بنقص الميزان والمكيال إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم. وإن العبد في تصرفاته ومعاملاته المالية محكوم بضوابط الشريعة، فما أبيح له منها فعله وما منعه الشرع تعين عليه تركه، فما على العبد إلا الرضا والقناعة بما أعطاه الله تبارك وتعالى، والاكتفاء بحلاله عن حرامه، وقصر النظر على الموجود من غير تطلع إلى ما عند الناس. وأما تطفيف المكيال والميزان من أجل الحصول على متاع زائل فإنه من أعظم الأسباب الموجبة لعقوبات الدنيا والآخرة كتفشي المجاعة وظلم الولاة لرعاياهم، وقد حذر شعيب عليه السلام قومه من الشرك بالله وبخس المكاييل والموازين، فقد كان قومه يغشون في المعاملات وينقصون الناس أشياءهم، وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم، والأرزاق المتنوعة، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم، ولكنهم أبوا ذلك فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

عاقبة نقض عهد الله وعهد رسوله

عاقبة نقض عهد الله وعهد رسوله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم)، ولقد نقض المسلمون عهودهم مع الله عز وجل ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، فتركوا ما أمرهم الله به وارتكبوا ما نهاهم الله عنه، ثم كانت النتيجة الحتمية، والخاتمة السيئة: (سلط الله عليهم عدواً من غيرهم)، أي: من غير الأمة الإسلامية، (فيأخذ بعض ما في أيديهم)، إذا أردت دليلاً على هذا الواقع المرير فتصفح خارطة العالم الإسلامي، أين فلسطين؟ وأين الأندلس؟ وأين كثيراً من البلاد التي أصبحت الآن في قبضة العدو، وما بقي منها فيكاد أن يكون تحت سيطرة العدو إلا ما شاء الله. وإنا لنخاف أن يأتي ذلك اليوم الذي يأخذ العدو كل ما في أيدينا، ويصبح هؤلاء المسلمون أسرى بسبب سيئاتهم وإعراضهم عن الله عز وجل.

النتيجة الحتمية لمن لم يحكم الشريعة الإسلامية

النتيجة الحتمية لمن لم يحكم الشريعة الإسلامية ثم يقول بعد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). أما الحكم بغير ما أنزل الله فقد عم وطم، جل العالم الإسلامي تحكمه قوانين البشر وآراء الرجال، ويعتبرون شرع الله تخلفاً ورجعية ووحشية ولا يصلح لهذه العصور المتطورة، يقولون: إن كتاب الله وسنة رسول الله كانت صالحة في عصر الخيمة والبعير، لكنه لا يصلح في عصر المركبات الفضائية، لقد جدت أشياء لا يحيط بها الإسلام علماً، فلابد من آراء الرجال التي تواكب متطلبات العصر. أما النتيجة فهي مؤكدة لا شك فيها، فجعل الله بأسهم بينهم، ولذلك فإن من يحاول لمَّ شتات هذا العالم الإسلامي إنما يحاول مستحيلاً، وأيم الله عز وجل لن تجتمع هذه الأمة إلا على دين الحق، ولن تجتمع إلا على كلمة التوحيد، ولن تتوحد إلا على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبغير ذلك فلا يمكن أبداً؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]، وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن دين الله عز وجل، حتى يرجع هؤلاء الناس إلى دين الله عز وجل. فما دامت أئمتهم تحكم بغير ما أنزل الله فسيبقى بأسهم بينهم، ولربما تكون بداية النهاية، ويدمر بعضهم بعضاً بسبب هذا الخلاف الذي نشأ عن إعراض هؤلاء جميعاً عن دين الله عز وجل، والله تعالى ذكر أن من أنواع العقوبات التي ينزلها بالأمة أن يجعل بأسهم بينهم شديداً فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، ولذلك فإن الذين يقتلون اليوم بأسلحة المؤمنين أضعاف أضعاف الذين يقتلون بأسلحة الكافرين، والذين يلقون ربهم على أيدي الطغاة والمتجبرين والمعتدين في الأرض ممن يحسبون على الأمة الإسلامية أضعاف أضعاف الذين يلقون مصيرهم في ساحات المعركة مع الأعداء. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دين العدل

دين العدل إن دين الإسلام هو دين العدل، فما أنزل الله القرآن إلا للعدل، وما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلا بالعدل، وسنته صلى الله عليه وسلم مليئة بالأمثلة والمواقف المبينة لعدله بين الناس؛ ولذا كانت هذه الصفة بارزة في صحابته وخصوصاً الخلفاء الراشدين، فهم أخذوا العدل منه وتربوا على يديه ونشروه في ربوع الأرض، ثم تلاهم على ذلك التابعون من السلف الصالحين، فكم من أمة من أمم الكفر أسلمت لما رأت من عدل المسلمين الفاتحين.

سبب نزول آيات العدل من سورة النساء

سبب نزول آيات العدل من سورة النساء إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، والمصطفى من خلقه صلى الله عليه وعلى آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: لربما تكون هذه بداية حلقة لأحاديث متكررة إن شاء الله طيلة إجازة الربيع هنا في جدة، وسيكون الدرس الآخر القادم إن شاء الله مساء السبت ليلة الأحد في مسجد الأمير متعب، ولربما تتواصل الحلقات إن شاء الله، ونرجو الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وحلقاتنا سوف تتعرض لدروس من كتاب الله عز وجل، ذلك أن القرآن هو مصدر حياة البشرية، وأن القرآن كما أخبر الله عز وجل عنه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وأن الله عز وجل ما فرط فيه من شيء، ولذلك فسوف نختار إن شاء الله دروساً من كتاب الله، كل درس منها يهتم بجانب من جوانب حياة الناس الاجتماعية، وما أكثر الاعوجاج في دنيانا اليوم لدى كثير من الناس، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم وإخواننا المسلمين نتخلق بخلق القرآن الذي هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روي عن عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن). أما الفصل الذي سوف أختاره لكم هذه الليلة فهي آيات في سورة النساء تقرر قواعد العدل في الأمة، وهذه القاعدة -قاعدة العدل- هي من أكبر الأمور وأهمها التي لا تستغني عنها الأمة، أمر مهم لا تستغني عنه أمة الإسلام، لاسيما في عصر الجور والظلم والطغيان التي سيطرت على عقول كثير من الناس، وهذه الآيات التي تتحدث عن العدل حتى مع الكافر ضد المسلم؛ لأن الآيات مضمونها رجل ينتسب إلى الإسلام فعل جريمة، فألصق الجريمة برجل يهودي، واستشهد قومه من المنسوبين إلى الإسلام فشهدوا ضد اليهودي، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد اليهودي، لولا أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بصدق الخبر، وأن الجريمة لم يفعلها اليهودي وإنما فعلها رجل ينتسب للإسلام هو أبو طعيمة بشر بن أبيرق الذي تبين في الأخير أنه من المنافقين حسب سياق القصة، وأن إخوته وأبناء عمه الذين شهدوا معه زوراً وبهتاناً أيضاً هم من المنافقين. القصة: رجل منافق يدعى بشر بن أبيرق أبو طعيمة سرق ذات يوم درعاً فأخفاه عند يهودي من اليهود في المدينة، ثم جاء الطلب إلى بيت المنافق، فأنكر وجود الدرع عنده، وألصق التهمة باليهودي، فجيء باليهودي وشهد عليه أبناء عم بشر بن أبيرق، فشهدوا أن بشراً لم يسرق، وأن الذي سرق هو اليهودي، بالرغم من أن السارق هو المنافق بشر بن أبيرق، وأن اليهودي كان بريئاً من السرقة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قطع يد اليهودي، فأنزل الله قرآناً يبرئ فيه اليهودي. ومن هنا نعرف أيها الإخوة! كيف أن الإسلام يقر قواعد العدل حتى لمصلحة يهودي ضد مسلم؛ من أجل أن يفهم الناس حقيقة العدل، وأن العدل يجب أن يدخل في الحكم مهما كان هذا الحكم، حتى لو كان بين مسلم ويهودي كما يأتينا من قصص غير هذه القصة. المهم أنزل الله عز وجل القرآن فبرأ اليهودي، وألصق التهمة بصاحبها المنافق، أما هذا المنافق نعوذ بالله فما زادته هذه القصة إلا بعداً عن الله، هرب من المدينة مرتداً عن الإسلام، ولجأ إلى مكة بسبب فضيحة القرآن له، وانضم إلى معسكر المشركين في مكة، ثم أراد الله عز وجل له سوء الخاتمة فنقب ذات يوم بيتاً من البيوت في مكة، فسقط عليه الجدار فمات مرتداً عن الإسلام نسأل الله العافية؛ فخسر الدنيا والآخرة. هذا هو مصير الظالمين الذين يلصقون التهم بالأبرياء، تكون نهايتهم الردة عن الإسلام، والموت شر ميتة وهو يمارس اللصوصية، أقرأ عليكم الآيات، ثم نعود بعد ذلك إليها بشيء من التفصيل، ثم بعد ذلك نستطيع أن نفهم حقيقة العدل في الإسلام. يقول الله عز وجل في سورة النساء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا} [النساء:105]، الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موجه لنا أيضاً نحن؛ لأن كل شيء يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم هو موجه لنا أيضاً، حتى نقر قواعد العدل في هذه الحياة. {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:105 - 112]. ثم يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا * لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:113 - 115]، هذا الذي ارتد عن الإسلام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:115 - 116]. هذا درس لا يجوز للمسلم أن يغفل عنه أو ينساه أبداً، والعجيب كما قلت لكم: أن هذه الآيات تدافع عن رجل يهودي، فأي دين يستطيع أن يدافع عن أعدائه أشد من هذا الدفاع؟! حتى لقد كان فيه اللوم العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رجل يهودي كاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده حسب ما قامت عليه البينة الظاهرة، لولا أن الله عز وجل وجه القصة إلى مجراها الحقيقي بدل أن كانت في مجراها غير الحقيقي. هذه هي القصة وهذا هو سبب نزولها، ونعود إلى الآيات بشيء من التفصيل لنعود بعد ذلك إلى قواعد العدل التي يجب أن تطبق في الأمة بأي حال من الأحوال.

تفسير آيات العدل من سورة النساء

تفسير آيات العدل من سورة النساء

قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق)

قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، أي: يا محمد (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، لا برأيك. إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يحكم برأيه فهل يجوز لفاجر جبار عنيد أن يأتي في مثل عصرنا الحاضر لينحي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بين الناس برأيه أو بآراء الرجال وبقوانين البشر؟! لا يمكن هذا بأي حال من الأحوال، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، أي: بما وجهك الله إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حتى في أحاديثه الشريفة التي سماها الله عز وجل الحكمة ليست رأياً له، وإنما هي بوحي من الله عز وجل، ولذلك فإن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله عز وجل، لكن هذا وحي هو كلام الله عز وجل مباشرة، وذاك وحي جعله الله عز وجل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس بلسانه، أما الجميع فكلاهما وحي من الله عز وجل، ولذلك لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم برأيه في أي أمر من الأمور، وإذا حكم برأيه فإنه يقول للناس: أعينوني برأيكم، كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم بدر في اختيار المكان وكما هو موقف الحباب بن المنذر، وكما كان قبل ذلك حينما كان يستشير المهاجرين والأنصار، وغيرها قصص كثيرة، حتى لقد عاتبه الله عز وجل في كثير من هذه القصص كقصة ابن أم مكتوم حينما أعرض عن الأعمى وما أشبه ذلك من الأمور، حتى قال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:35] حتى يصل العتاب من الله عز وجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا المستوى. إذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى أي واحد من البشر يأتي وهو معرض للخطأ والزلل أن يعترف بخطئه، ثم إذا كان هذا بالنسبة لحكم الله عز وجل لا بد أن ينفذه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله لا برأي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يحق لواحد من البشر أن يحكم هذا العالم، بل لا يمكن لهذا العالم أن يخضع لغير حكم الله عز وجل، ولذلك فإن من أعرض عن حكم الله عز وجل فهو طاغوت، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، وأي شعب وأي أمة تتحاكم إلى قوانين الرجال وآراء البشر فهي أمة زائغة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. إذاً: لا بد أن يكون الحكم بما أنزل الله عز وجل لا برأي أحد من الرجال أياً كان هذا الرجل، ولو كان محمداً صلى الله عليه وسلم. (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، المخاصمة على الخائن تسبب لعنة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (لعن الله من آوى محدثاً)، ما معنى آوى محدثاً؟ أي: غطى على حدثه ومصيبته، وعلى جرمه وذنبه؛ حتى يضيع هذا الجرم أو لربما يلتصق هذا بإنسان بريء كما هو في هذه القصة، ولذلك قد تأخذ الحمية إنساناً بسبب قرابة أو بسبب عداوة ليدافع عن مجرم أو ليلصق التهمة ببريء، وهنا تأتي المصيبة التي تحدث عنها القرآن في مثل هذه الآيات: (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، فالمخاصمة عن الخونة، والمدافعة عنهم، والثناء عليهم، وتبرئة ساحتهم أمر خطير جداً لا يجوز لواحد من المسلمين أن يقدم عليه.

قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما)

قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً) هنا يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)؛ لأن الذنب صفة من صفات البشر يتعرض له كل الناس، إلا أن ذنب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب لا يقرون عليه، فإن الله عز وجل يوحي إليهم بتصحيح الخطأ الذي ربما يحدث من نبي من الأنبياء. فالذنب ملازم لهذا الإنسان في كل حالة من حالاته، ولذلك يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ). تعال معي يا أخي إلى واحد من الناس اليوم، لو قيل له: اتق الله، فإنه ربما يغضب، لو قيل له: لا تفعل كذا أصلح كذا لا تفسد كذا اتق الله في كذا قال: أنا يقال لي: اتق الله! أنا يقال لي: استغفر الله! أنا يقال لي: لا تفعل! فلربما تأخذه العزة بالإثم فيبطش بطشاً عظيماً. هنا يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، أي قل: أستغفر الله، والاستغفار كما نعرف أنه سبيل ينقل الإنسان من الذنب إلى الطاعة، ومن المعصية إلى الاستقامة، ولذلك فإن الله عز وجل يقبل توبة الإنسان واستغفاره، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليران على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة)، إذاً: كيف لا يستغفر الله إنسان من عامة الناس؟!

قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)

قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) قوله: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ)، الرسول صلى الله عليه وسلم ما جادل عنه، وإنما الذي جادل عنه أبناء عمه وإخوته من المنافقين من آل أبيرق الذين برءوا ساحته، فقدموا متهماً غير المتهم الحقيقي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ربما تعجل في الحكم أو في قبول الدعوى ضد اليهودي قبل أن يتثبت في هذا الأمر. فالله تعالى قال: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، يعني: أنت عملت ذنباً عظيماً، ومن نعمة الله عز وجل عليك أنك ما قطعت يد اليهودي، ولو قطعت يد اليهودي لأقدمت على أمر عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وهنا يقول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:107] أصحاب الخيانة لا تجادل ولا تدافع عنهم، وهذا موجه لأي واحد منا ربما يقع أخوه أو ابنه أو ابن عمه أو أبوه أو قريبه في جريمة أو في ذنب، ثم تأخذه الغيرة على النسب ليقوم مدافعاً عن هذا المجرم ويقول: هذا أخي! وهذا ابني! وهذا أبي! وهذا ابن عمي بريء! ويبذل قصارى جهوده في سبيل تبرئة ساحة هذا المجرم وهو مجرم، فهذا أمر عظيم جداً لاسيما أن هذا الذنب قد يلصق بإنسان بريء وحينئذ يكون الجرم مضاعفاً ومكرراً كما كاد أن يحصل في قصة ابن أبيرق.

قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله)

قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ)، ما هو السبب؟ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) فهذه صفة المنافقين، المنافق أمام الناس كأنه عابد ناسك، لكنه أمام الله فاجر طاغوت نعوذ بالله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)، أي: جلسوا جلسة في الليل كما يجلس المجرمون الآن يخططون، وهؤلاء لا يخططون فقط من أجل تبرئة أبي طعيمة، وإنما يخططون للإطاحة بالإسلام. هذا منهج المنافقين دائماً وأبداً في ذلك العصر وفي هذا العصر وإلى يوم القيامة؛ لأنهم يريدون أن يوقعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حرج حينما يقطع يد اليهودي، ولو قطع الرسول صلى الله عليه وسلم يد اليهودي لكانت المصيبة أكبر، ولكان اليهود يتهمون هذا الدين بأنه دين جائر حيث يسرق فلان وتقطع يد فلان اليهودي! لكن الله عز وجل يكشف مؤامرات المنافقين. وفي يومنا هذا تجدون المنافقين حينما يخططون ويرتبون، ويجلسون الليالي الطوال يشتغلون في الظلام بخبث من أجل الإضرار بالأمة الإسلامية والإطاحة بها، نجد أن الله عز وجل بلطفه وكرمه دائماً يكشف لنا هذه المؤامرات؛ لأن سنة الله في هذه الحياة: (ولا يفلح الظالمون). ولذلك فإن الله عز وجل كشف هذه المؤامرة فقال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:106 - 108]، هل يتصور هذا الإنسان أن الله تعالى معه في كل حالة من حالاته، وأي عمل يقدم عليه خيراً كان أو شراً فإن الله تعالى معه ومطلع عليه؟ لا بد أن يعرف هذا الإنسان يقيناً أن الله تعالى معه، وأنه يراقب تصرفاته: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61]، فالله تعالى مطلع وضع شهوداً في هذه الأرض، فالأرض تحدث أخبارها، والملائكة الكرام الكاتبون يعلمون ما تفعلون، وجوارح هذا الإنسان أيضاً تشهد على هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:20] أي: النار، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:20 - 21].

قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)

قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) قوله: {هَاأَنْتُمْ} [النساء:109]، اتجه الله سبحانه وتعالى إلى شهود الزور نعوذ بالله! وهم أظلم الناس، وشر الناس من ظلم الناس للناس. وشهود الزور: هم الذين يشهدون زوراً وبهتاناً ليوقعوا هذا الدين في حرج، وليخلصوا المجرم، ولينقلوا الحق إلى غير صاحبه، وهؤلاء يعملون أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور! ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور!)، يقول أبو بكرة: (فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، من شدة علامات الغضب التي برزت على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، أنت الآن تدافع عنه أمام السلطة، لكن يوم القيامة من يجادل عن هذا إذا وقف بين يدي الله عز وجل؟! أنت وإن جادلت عنهم في الحياة الدنيا فإنك لا تستطيع أن تجادل عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ لأن الأمر مكشوف وواضح ليس عليه غبار، وليس فيه سر: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، كل الأمور مكشوفة، ولذلك يقول الله تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: عن هؤلاء المجرمين: (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، من يتوكل على أمرهم؟! وكل إنسان يوم القيامة كما أنه مكشوف أمره هو أيضاً مشغول بنفسه، لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فضلاً عن أن يدافع عن غيره؛ لأن الله تعالى يقول عن ذلك الموقف: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، وهنا يقول الله تعالى: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، استفهام إنكاري؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يجادل عنهم يوم القيامة، ممكن أن يجادل في الدنيا وممكن أن يذهب المجرم إلى القاضي يدافع عن مجرم آخر، يمكن أن يذهب شاهد الزور ليشهد أن مال فلان لفلان ولربما يحلف؛ لأنه لا يخشى الله عز وجل، ولربما يستطيع أن يخلصه بوساطة، وإن كان مجرماً قد أفسد وعاث في الأرض فساداً يستطيع أن يدافع عنه بواسطة أو بجاه، ولربما يكتفي برفع سماعة الهاتف ليقول: أخرجوا فلاناً من السجن، وهو أكبر المجرمين في الأرض، لكن تعال يوم القيامة حينما يقف الجميع بين يدي الله عز وجل، من يجادل عن هذا المجرم؟ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، يعني: وأشكالهم ونظراءهم وجلساءهم {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23]، هنا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109]، إذاً: يا أخي! لا تجادل عن مجرم، لا تلصق التهمة ببريء، دع المجرم يأخذ نصيبه من العقوبة في هذه الحياة الدنيا، لعل هذه العقوبة تخفف عنه عذاب الله عز وجل يوم القيامة، دع السارق حتى تقطع يده، حتى يكون عظة وعبرة، ولعل الله أن يتجاوز عنه سرقته يوم القيامة، دع الزاني يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يتجاوز عنه هذا الذنب يوم القيامة، دع قاطع الطريق يقام عليه الحد، دع شارب الخمر يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يخفف عنهم العقوبة يوم القيامة، أما أن يأتي رجل يلبس ثياب الصلاح والتقى؛ ليجادل عن مجرم، أو ليشهد مع مجرم، ولربما تدفعه الغيرة والحمية أو القرابة أو العداوة لمن يشهد عليه، فإن هناك موقفاً بين يدي الله عز وجل لا يستطيع فيه أحد أن يجادل عن أحد؛ لأن الله تعالى يجرد كل واحد من سلطته يوم القيامة ويقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]. ثم باب التوبة مفتوح، إذاً لا حاجة إلى اللف والدوران ما دام باب التوبة مفتوحاً، وله أجلان: أجل لكل واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم ما لم تحضر ساعة الموت، فباب التوبة مفتوح، والله عز وجل يقول عن هذا الأجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17] ولفظة (عَلَى) تدل على الوجوب فأوجب الله تعالى على نفسه: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، أن يتوب عليهم، والجهالة ليس معناها الجهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ، وإنما معنى (بِجَهَالَةٍ)، أي: في غفلة، ومعنى (مِنْ قَرِيبٍ) ليس معناه: بسرعة، وإنما معناه: ما قبل الموت، فإن ما قبل الموت قريب، والله تعالى يقول في الآية الثانية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء:18]، ما معنى (من قَرِيبٍ) ما قبل الموت، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أو: (ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، أتعرفون معنى الغرغرة؟ الغرغرة: أن تقرب الروح من الخروج لتودع هذا الجسد في هذه الحياة. إذاً: الأجل طويل لكل واحد، لكن الإنسان لا يسوف؛ لأن الموت قريب جداً من هذا الإنسان قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]. الأجل الثاني للتوبة بالنسبة لعامة الناس: هو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، وهي آخر آية من آيات الساعة، ولذلك يقول الله تعالى عنها: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، أي: تطلع الشمس من مغربها {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].

قوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه)

قوله تعالى: (ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه) إذاً: معنى ذلك أن باب التوبة مفتوح في هذه الحياة، ولذلك يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، السوء: معناه السيئات عموماً، (يَظْلِمِ نَفْسَهُ) معناه: الشرك بالله سبحانه وتعالى، يعني: حتى الشرك بالله وهو أعظم الذنوب، وإذا كان الشرك بالله يغفره الله عز وجل فليس عجيباً أن يغفر الله عز وجل ما دون ذلك، والذنب الثاني بعد الشرك بالله هو الربا، الربا الذي أصبح الآن سهلاً تناوله عند كثير من الناس، يعلن بنك الرياض المساهمة فيتسابق الناس إلى المساهمة في بنك الرياض، أتدرون ما هو بنك الرياض وأي بنك من البنوك؟ هو الحرب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يغركم يا إخوان أنكم ترونها قد فتحت أبوابها أمام الناس، هي حرب لله هي أعظم ذنب بعد الشرك بالله عز وجل، أعظم من الزنا، وأعظم من المخدرات التي تحارب الآن بكل الوسائل، وأعظم من اللواط، وأعظم من المسكرات، وأعظم من السرقات، لكنها لا تحارب كما تحارب هذه الذنوب، لكن الله عز وجل توعد عليها بعقاب شديد. الربا أصبح الآن مغرياً يسيل له لعاب الناس وفي يوم من الأيام أعلن أحد البنوك فأصبح الريال يساوي أربعين ريالاً، إذاً ليس غريباً أن يقدم الناس على الربا إلا من عنده وازع إيماني؛ لأن هذه هي الفتنة التي يقول الله عز وجل عنها: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ بنو إسرائيل أراد الله عز وجل أن يختبرهم كما نختبر الآن بأرباح البنوك والشركات التي تربح بسرعة، فأعطشهم الله عز وجل، وأجرى لهم نهراً بارداً، وقال: لا تشربوا من هذا النهر إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليل منهم. إذاً: لا تعجبوا حينما ترون كثيراً من الناس وقعوا في الربا، ومن لم يأكل الربا أصابه من غباره، بنو إسرائيل حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، وفتنهم، وجعل السمك في يوم السبت يطفو على سطح البحر، ويختفي بقية أيام الأسبوع، لكن بنو إسرائيل أعقل من كفرة أو من فجرة أو من عصاة هذا العصر، ما صادوا يوم السبت لكن استعملوا الحيلة، فصاروا يضعون الشباك يوم الجمعة ويرفعونها يوم الأحد، فهي تكون مملوءة بالأسماك، كما يفعل الناس في حيل البنوك الآن وحيل الربا ما تشاهدونه. المهم يا إخوتي! إذا رأيتم هذه الأرباح الهائلة فاعرفوا أن وراءها طالباً، فأحذركم من الربا، وأنا تعرضت لهذا الموضوع؛ لأنه موضوع الساعة، أما حديثنا عن مغفرة الذنوب فإن الله عز وجل يتجاوز عن كل الذنوب حينما يصدق الإنسان بالتوبة: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) أي: سيئة أياً كانت هذه السيئة (أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ)، وهو الشرك بالله عز وجل (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، من نعمة الله أن قال: ثم يستغفر، ولم يقل: فيستغفر، فالفاء للسرعة وثم للتراخي، ولذلك حتى لو مضى على هذا الذنب مدة من الزمن فالمهم أن يتوب بصدق وأن يبادر إلى التوبة والإنابة بعزيمة صادقة، وأن يرد المظالم فيترك الربا إذا كان كسب مالاً من الربا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، فقط رأس المال، أما الربح فليس لك: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، الله تعالى قريب لكن بشرط أن يصدق هذا الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه)

قوله تعالى: (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه) قوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)، الإنسان لا يكسب الإثم إلا على نفسه، فالسيئة يجني ثمارها يوم يقف بين يدي الله عز وجل، لكن هناك سيئات تجر على المجتمع وبالاً أيضاً، ولا يتعارض ذلك مع هذه الآية: (فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)؛ لأن الأصل أن السيئة تكون على نفس الإنسان، لكن لا يمنع أن يكون لها آثار تتعدى للمجتمع؛ لأنه صح في الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا)

قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً) لكن المشكلة أكبر من ذلك، حين يجني إنسان سيئة ويبرئ نفسه منها، ويلصقها بإنسان آخر: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112]. الخطيئة: هي التي يفعلها الإنسان وهو يشك بأنها خطيئة، لكن الإثم هو الذي يفعله الإنسان ويعرف أنه إثم، وسواء كانت خطيئة يشك الإنسان في حرمتها أو إثماً يجزم بحرمته فإن عليه أن يعترف، وليس معنى ذلك أن كل من فعل ذنباً عليه أن يقدم نفسه للمحكمة أو للسلطة، فإن باب التوبة مفتوح، فإذا تاب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فإن الله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 - 55]. فالذنوب على نوعين: هناك ذنوب بين الإنسان وبين ربه سبحانه وتعالى، وهذا يكفي في التوبة أن يتوب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، دون أن يكشف نفسه أمام الناس، بل إنه إذا وصل إلى درجة المجاهرة بالذنب فإن الذنب يكون عظيماً، ولذلك جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين إلا المجاهرون) على روايتين. فالذنب إذا كان بينك وبين ربك سبحانه وتعالى فبادر بالتوبة، وثق بأن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه إذا صدقت في التوبة، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17]، و (عَلَى) هنا تدل على الوجوب، فالله تعالى أوجبها على نفسه ولم يوجبها عليه أحد غيره، بشرط أن تستوفي هذه التوبة شروطها من الإقلاع عن الذنب والعزم على أن لا يعود، وأن يندم على ما مضى، لكن هناك ذنب ومثل هذا الذنب قصة ماعز رضي الله عنه، فـ ماعز رضي الله عنه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خيار الصحابة، زنا ذات يوم فاعترف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى أن لا يعترف ماعز، وإنما يتوب بينه وبين ربه، فكان يعرض عنه وماعز يتابعه ويقول: يا رسول الله! زنيت زنيت أربع مرات، ويسأله الرسول صلى الله عليه وسلم لعله أن يتراجع: (لعلك قبلت، لعلك غمزت، ماذا فعلت؟ فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: أبك جنون؟)، كل ذلك من أجل أن ينصرف ماعز. إذاً: التوبة بين الإنسان وبين ربه، لا حاجة إلى أن تقام عليه الحدود إذا كان هذا الذنب لا يمس أحداً من الناس، لكن حينما يكون الذنب بين الإنسان والإنسان فهو من ديوان لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهنا لا بد في التوبة من رد المظالم إلى أصحابها قبل أن ترد يوم القيامة إن كان هناك مال يرد، وإن كان هناك عرض يستحل إلى غير ذلك. لكن إذا فعل هذا الذنب وزيادة على إصراره على هذا الذنب ألصقه بغيره، سرق وقال: فلان سرق، زنا نعوذ بالله، وقال: فلان زنا، قتل وقال: فلان قتل، فهذا هو أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ولذلك أخرها الله تعالى وقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112]، يتهم به إنساناً ليس هو فاعل الذنب، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)، (بهتاناً) وهو إلصاقه بغيره، (وإثماً) خطأ عظيماً ومبيناً. إذاً: لا بد لفاعل الذنب في مثل هذه الحال أن يعترف لاسيما إذا كان سيؤخذ البريء بدلاً منه، وأشد من ذلك حينما تقوم بينات وشهادات زور تبرئ المجرم لتلصق الجريمة بإنسان آخر: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته)

قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته) ثم يتوجه الله عز وجل بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه أن يتأنى في الأمور، ولولا أن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل أمراً عظيماً يشوه به الإسلام، ويصبح حجر عثرة في طريق الإسلام أمام اليهود وأيضاً يضر بإنسان بريء. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ) يا محمد (وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ) شهود الزور، (طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)، أي: عن الحكم الصحيح (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) الأصل أنهم سيضرون بأنفسهم، لكن يضلونك أنت لو أقدمت على قطع يد الرجل اليهودي البريء، وإن كان يهودياً من أبناء القردة والخنازير، لكن يكفي أنه إنسان بريء من هذه السرقة، لو أقدمت لكان الأمر عظيماً، مع أن اليهود هم أشد وألد أعداء الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، وألد أعداء الإسلام، ومع ذلك يدافع الله عز وجل عنهم من أجل أن يقر قواعد العدل في هذه الحياة. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) يعني: يرتكبون الذنب العظيم؛ لأن هذا من أكبر الكبائر وهو شهادة الزور: (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ)، في الأصل أنت لا تتضرر، هم يتضررون، لكن أنت أيضاً تصبح عرضة لليهود حينما تقطع يد اليهودي بدون ما جرم. (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). ثم قال الله تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، (الْكِتَابَ): القرآن، (الْحِكْمَةَ): السنة، وهذا هو معنى قولنا: إن السنة وحي آخر جاء من عند الله نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ). انظر يا أخي! إلى التربية من عند الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أي المواقف أفضل هذا الكلام أم ما يقوله الصوفية في أيامنا الحاضرة الذين يقولون: إن محمداً هو أول المخلوقات! محمد ليس له ظل! محمد خلق من نور! كل الأنبياء خلقت من نور محمد! الله تعالى يوقع الرسول صلى الله عليه وسلم موقع العدل أي: أنت رسول ونبي لكنك بدون هذا الوحي لا تعرف شيئاً من ذلك، هكذا الله عز وجل يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوقعه أفضل موقع (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)، فأنت لا تعلم الكتاب ولا الحكمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً، ولكن الله عز وجل رفعه فوق العلماء، وجعل العلماء يستقون علمهم من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فضل من الله عز وجل، وليس عيباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون أمياً، بل هو فضل وشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل أكرمه، ولذلك لا يتسرب الشك إلى هذا القرآن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً كما قال عز وجل في سورة العنكبوت: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، إذاً: لا يمكن أن يرتابوا بعدما عرفوا أنك أمي، وأن الله عز وجل علمك ما لم تكن تعلم، حتى وجد في عصرنا الحاضر من يقول: محمد ليس أمياً، ويظنون أنهم في هذا الأمر يرفعون قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عز وجل أنه أمي: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157]، وهنا يقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فما كان يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، لكن أصبح العلماء يستقون من علمه صلى الله عليه وسلم. إذاً: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كفر به صلى الله عليه وسلم، وكفر بالقرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، وما تشاهدونه من البدع والخرافات التي أحدثها الناس، ويظنون أنهم بها يرفعون من قيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره إنهم ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالله العظيم لو بعث فينا اليوم محمد صلى الله عليه وسلم لقطع رءوس قوم غلوا فيه كما غلت النصارى في المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام، ولو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فينا اليوم لقاتل هؤلاء الذين يطرونه ويرفعونه إلى درجة الألوهية قبل أن يقاتل الشيوعيين والملاحدة الذين ينكرون الخالق وينكرون الرسول صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة! ليست محبة الرسول صلى الله عليه وسلم محبة عاطفة لكنها محبة متابعة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، ليست كمحبة الزوجة والأولاد محبة عاطفة إنما هي محبة متابعة، ونقول لمن ادعى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: تعال نحن وإياك نحتكم إلى شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل أنت حينما تريد أن تغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ هل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يشدون الرحال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رجب كما يفعل كثير من الناس اليوم، ويحدثون شيئاً يسمونه الرجبية؟! ما هي هذه الرجبية؟! نحن لا نعبد الله عز وجل إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله أن لا نعبد الله إلا بما شرع. هل شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لنا الرجبية؟ هل شرع لنا أعياد ميلاد؟ يا أخي! قف عند سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتكون أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما محبة الغلو والإطراء فالرسول صلى الله عليه وسلم يرفضها، لما قال له رجل: (يا رسول الله! ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟). إذاً: أيها الإخوة! المسألة تحتاج إلى وقوف عند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا تكون المسألة عواطف وشهوات نبتعد فيها كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)، هل يعتبر هذا سباً للرسول صلى الله عليه وسلم من الله سبحانه وتعالى؟ لا، هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أنه علمه ما لم يكن يعلم، ولو كان يعلم قبل النبوة لأصبح موضع شك عند القوم، لكن العجيب عند القوم أنه رجل أمي، وأصبح معلم البشرية كلها إلى يوم القيامة، (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).

قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم)

قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) ثم تحدث الله عز وجل عن كشف مؤامرة، كان المنافقون يجلسون بالليل حتى دبروا مؤامرة قصة أبي طعيمة، فالله تعالى مطلع على جلساتهم في الظلام؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت الظلام فقال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114]. المناجاة التي كانوا يتناجونها في السر ليدبروا المؤامرة ضد اليهودي وليلصقوا المشقة والعنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه النجوى أمرها خطير، فالنجوى -وهي الكلام السري الخفي- لا تجوز إلا في ثلاثة أشياء: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)، أن يحث الناس على البذل في سبيل الله وعلى الإحسان إلى الفقراء والمساكين وما أكثرهم اليوم! أو يأمر بالمعروف إذا رأى الناس عطلوا واجباً من واجبات هذا الدين، أو يصلح بين اثنين بينهما خلاف وشقاق، وخلافهما وشقاقهما يؤدي إلى ضياع دينهما (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). ثم تعود الآيات مرة أخرى إلى ابن أبيرق الذي انتهت حياته بالردة، وسقط عليه جدار في مكة وهو ينقبه ليسرق مرة أخرى، فيموت مرتداً عقوبة على ما فعل في المدينة؛ لأن الله عز وجل يقول: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، فالمعاصي يجر بعضها بعضاً، فانتهت المعصية وإلصاق التهمة ببريء إلى الردة عن الإسلام، ثم الموت وهو مرتد، وصار حطباً لجهنم.

قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى)

قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى) ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115]. ما معنى (يُشَاقِقِ)؟ أي: يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم في شق وهو في شق آخر، أي: يسير في طريق غير الطريق التي سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: نور قلبي يا نور السماوات والأرض! يا أول المخلوقات! يا من خلق من نور! لكنه في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق آخر، هذا هو الذي شاقق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن ادعى المحبة فإنها محبة عاطفية، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، فدين الإسلام وضح لهؤلاء الناس كل طريق. هل تظنون أن الله عز وجل الذي بعث لنا الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلمنا كيف ندخل الحمام وكيف نخرج، وكيف نلبس النعل والثوب؛ أتظنون أنه يعجز عن تعليمنا أصول ديننا؟ فيعلمنا أن هناك رجبية في ليلة سبعة وعشرين من رجب، يذهب الناس إلى مكة والمدينة يحيون ليلة المعراج كما يقولون، وليلة المولد يحيونها، وما فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وعلي، وكذا غيرها من الأمور والعبادات التي أصبح الدين بها مطاطاً الآن في نظر الناس، مع أن الدين مقفل قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. هل من المعقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيف ندخل الحمام لا يعلمنا كيف نعبد الله بأمور تمس العقيدة وأصول الدين؟! إذاً: هذا مستحيل، ولذلك نقول لمن سلك غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحدث عبادة ولو كانت عبادة ترضي الله في الظاهر أجمع علماء المسلمين على أن الأصل في العبادات التحريم، وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث أية عبادة إلا إذا شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فعلها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، الذين قال عنهم الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)، متى كان أبو بكر وعمر يأتون من المدينة إلى مكة في ليلة سبعة وعشرين من رجب؟! ومتى كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يحيون ليلة الميلاد إلى غير ذلك من الأمور التي أحدثها الناس اليوم؟ الفرق بعيد يا إخوتي والله بين الناس وبين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي مات وتركنا عليها، وهي: محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. يقول الله عز وجل عن البدعة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والله لو كان راكعاً ساجداً لله عز وجل بالليل والنهار صائماً طيلة النهار، ما دام أنه يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، أمة الإجابة ليس أمة الدعوة، أمة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، كلها في النار إلا واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، قيل: (من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). إذاً: يا أخي! أنت لست بحاجة إلى أن تذهب بعيداً، انظر أي عبادة أحدثها الناس اليوم، اعرضها على فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة من بعده، إن كانوا فعلوها فهي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، احملها على رأسك، وإن لم يفعلوها ولو كانت عبادة في ظاهر الأمر فارفضها؛ لأن اثنتين وسبعين فرقة من أمة الدعوة والإجابة كلها في النار، وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. المسألة يا إخوتي ليست مسألة أذواق، كلما أعجبنا شيء قلنا: هذه بدعة حسنة، ما هي البدعة الحسنة؟ أين موقع البدعة الحسنة في دين الله؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل جمعة على المنبر: (ألا إن كل محدثة في دين الله بدعة! ألا أن كل بدعة ضلالة! ألا أن كل ضلالة في النار)، متى كانت هناك بدعة حسنة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة)؟! ليست هناك بدعة حسنة. إذاً: العبادات يا إخوتي دائرة مقفلة، أقفلها الحبيب عليه الصلاة والسلام ليلة عرفة في حجة الوداع، في آخر آية نزلت من القرآن: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فأي عبادة تحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يجمع عليها الخلفاء الراشدون الأربعة فإننا نعتبرها بدعة، وليست عبادة ولو كانت صلاة وصياماً وطاعة، فمن قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم رجباً؟ إذاً نقول: حتى العبادات التي ترهق الإنسان وظاهرها الصلاح، ما دام أنه ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الخلفاء الراشدون من بعده فنعتبرها ضلالة، وكل ضلالة في النار ولو كانت عبادة، وكم من عابد أحدث في دين الله عز وجل فهو يحاسب عن ذلك يوم القيامة. يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، القرآن واضح والسنة واضحة: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)، نوجهه الطريق التي يريد في الدنيا، وفي الآخرة (نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) يقول الله تعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)، ما صلة الآية الأولى بالثانية؟ كل من وقع في البدعة وقع في الشرك، فالمسألة تبدأ من بدعة وتنتهي بشرك، والله يا إخوان من خلال جولة في العالم الإسلامي رأينا كيف تتطور البدعة حتى تصل إلى شرك، ففهمنا هاتين الآيتين بجوار بعضهما: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساء مصيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:115 - 116]. فالبدعة يعاقب عليها الإنسان بالشرك، ولذلك جاءت آية الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116]، بجوار آية البدع ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرفنا يقيناً كيف تنتقل البدعة بالإنسان إلى الشرك، اليوم بدعة حسنة! غداً هذه والله أحسن عبادة جاءت في مخ هذا الإنسان! فيخرج سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضع مكانها بدعة، حتى رأينا أن بعض المجتمعات لا يعرفون شيئاً من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والله يا إخوان رأيت ناساً يصومون رجباً ولا يصلون في بعض البلاد الإسلامية المجاورة. يصوم شهر رجب ويلحقه بشعبان، وصيام شعبان سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورمضان ركن من أركان الإسلام، لكنه يأتي برجب، فنقول: من أين أتاكم شهر رجب؟ لا يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صيام رجب، نجد بعضهم لا يصلي ولا يركع لله عز وجل ركعة، وهذا عجيب! إذاً: لما دخلت بدعة لا بد أن تخرج سنة، بل لا بد أن تخرج واجباً، بل لا بد أن يخرج ركن من أركان الإسلام مقابل هذه البدعة نعوذ بالله، ولذلك الذين وقعوا في البدع وقعوا بعد ذلك في الشرك بالله عز وجل، فعبدت القبور، وحج إليها الناس. صدقوني يا إخوان! حينما أقول لكم: عبدت القبور لا نبالغ، أكبر رقم قياسي للأوثان التي عبدت من دون الله عز وجل في آخر يوم من أيام الوثنية في مكة يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً لمكة، فكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، فكم يوجد من صنم الآن في العالم الإسلامي؟ تقول الإحصائيات: يوجد الآن عشرون ألف ضريح يعبد من دون الله كلما بعد الناس عن عصر النبوة دخلت البدعة، وكلما دخلت البدع في دين الله عز وجل أخرجت السنن، وكلما أخرجت السنن أوجدت فراغاً نعوذ بالله! عشرون ألف ضريح رأيت كثيراً منها بعيني هاتين يحج إليها الناس، الطواف حولها مدة أربع وعشرين ساعة لا يتوقف، حتى أن بعضها عنده سدنة يقول للناس: شوطاً واحداً فقط، لماذا؟! لأن الوقت لا يتسع، ولأن الزحام شديد، وممكن يطوف سبعة أشواط إذا كان له أهمية في المجتمع، لكن لعامة الناس ليس هناك إلا شوط واحد من شدة الزحام، والله يراق حولها من الدموع أكثر مما يراق حول الكعبة المشرفة، والله إن الذين يتمسحون بها ويقدمون لها النذور والقرابين أكثر من الذين يطوفون حول الكعبة في أيام الزحام، اقسمها على عشرين ألف ضريح في العالم، اضربها في عشرين ألف مرة في العالم، إذاً: أين العالم الإسلامي يا إخوة؟ العالم الإسلامي كثير منهم ضل الطريق؛ لأن البدع بدأت تدخل، ويقولون: هذه بدعة حسنة هذه بدعة حسنة حتى أصبح الناس في حيرة من هذا الدين، والله يا إخوان زرت بعض هذه الأضرحة لأرى بعيني، فجئت قبل الفجر بساعتين فما استطعت أن أدخل من شدة زحام السيارات والباصات التي تنقل الحجاج من أقطار باكستان إلى ضريح من الأضرحة، فهذا واحد فقط من عشرين ألف ضريح. إذاً لا تعجبوا أيها الإخوة! حينما يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:115 - 116].

دين الإسلام يقوم على العدل

دين الإسلام يقوم على العدل هنا نستطيع أن نرجع إلى صلب الموضوع بعدما أنهينا الحديث عن الآيات بشيء من التفصيل لنقول لكم: دين الإسلام يقوم على العدل، والعدل هو الميزان الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7]، والعدل: هو حكم الله عز وجل، فقد حرم الظلم على نفسه وحرمه بين الخلائق، وبهذا العدل ينتشر الإسلام في الأمم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل مع نفسه

رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل مع نفسه ولذلك نجد في قصص كثيرة كيف يهتم رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بهذا العدل، ولو أدى ذلك إلى أمور ليست لمصلحة الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم على نفسه بالعدل، ما كان يرى لنفسه أمراً يختص به، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). (أيم الله) يعني: والله، متى كان هذا الكلام؟ حينما سرقت امرأة من بني مخزوم، من أشراف أهل مكة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يقطع يدها، فجاء خيار أهل مكة إلى أسامة ين زيد حب الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: قدموه ليكون شفيعاً، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشفع في حد من حدود الله)، لماذا؟ لأن الحد إذا ما أقيم على الناس كافة لا تستقيم هذه الحياة، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمه على نفسه، ذات يوم في غزوة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف، فـ سواد بن غزية كان متقدماً قليلاً على الصف، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومسح بطنه بشيء من القوة ليرجع، قال: أوجعتني يا رسول الله! أتظنون الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هذا سبني أدخلوه السجن؟ لا، كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطن نفسه وقال: خذ يا أعرابي حقك، وذلك أمام الناس في الحال، ما قال: خذوه هذا يسب الزعيم، فقام سواد بن غزية رضي الله عنه وقبل بطن رسول الله، قالوا له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: والله لقد علمت أنها ساعة ربما تكون هي الأخيرة في حياتي، وأريد أن تكون آخر حياتي مباشرة جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظروا يا إخوان إلى الإيمان! يعرف أنه قادم إلى الجنة فيقول: أريد أن ألصق شفتي بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ألقى الله عز وجل. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول على المنبر: (إن رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) هل تظنون أن الناس سيقولون: لا، أنت أعدل الناس، ما فيك اعوجاج؟! بل قام أعرابي بدوي فشهر سيفه وقال: (يا عمر! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه).

علي بن أبي طالب يختصم مع يهودي في درع له

علي بن أبي طالب يختصم مع يهودي في درع له أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد فقد درعه ذات يوم، وهو راجع من غزوة صفين، فذكر له أن درعه عند رجل يهودي، فقال لليهودي بلباقة وهو أمير المؤمنين: هذا درعي، قال اليهودي: بل هو درعي أنا، قال علي بن أبي طالب: نذهب أنا وأنت إلى القاضي، فذهب الاثنان إلى القاضي شريح رحمه الله، فجلس علي واليهودي على كرسيين متساويين أمام القاضي شريح، فقال القاضي شريح: هل لك بينة يا أبا الحسن؟ فغضب علي رضي الله عنه وقال: لماذا تكنيني ولا تكني اليهودي؟ لا بد أن تعدل حتى في الكنية، قل: يا علي، قال: هل لك بينة؟ قال: والله ما عندي بينة، فقال: الدرع لليهودي، مع أنه لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن البينات حسب الظواهر أنه لليهودي وليس عند علي بينة. فاليهودي خجل وتعجب من هذا الحكم، كيف يجلس اليهودي مع علي بن أبي طالب أمير المؤمنين على كرسيين متساويين؟! فقام اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أنها أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين ووجدته قد سقط منك، فقال علي رضي الله عنه: أما وقد اعترفت وأسلمت فإن الدرع لك. ما الذي دعا اليهودي إلى أن يعتنق دين الإسلام؟! الذي دعا اليهودي إلى أن يعتنق الإسلام هو العدل الذي طبق.

عمر بن الخطاب وعدله مع جبلة بن الأيهم

عمر بن الخطاب وعدله مع جبلة بن الأيهم أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان له موقف لا ينسى، كتب إليه رجل من كبار ملوك غسان يدعى جبلة بن الأيهم قال: يا أمير المؤمنين! أنا اعتنقت الإسلام أنا وقومي وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأستأذنك في العمرة، فرحب به عمر بن الخطاب وفرح به فرح شديداً. فجاء هذا الموكب العظيم من بلاد الشام إلى مكة، وكان يطوف حول الكعبة جبلة بن الأيهم ومعه خمسمائة من الحرس الذين اعتنقوا الإسلام معه، وبدون إرادة كان هناك رجل من فقراء المسلمين يطوف خلف جبلة بن الإيهم وهو من فزارة، وكان جبلة ما زال حديث عهد بجاهلية فكان يجر رداءه وراءه بعظمة الملوك، فوطئ الفزاري رداء جبلة بن الأيهم فسقط الإزار؛ فالتفت جبلة فلطم الفزاري لطمة فانهدم حاجبه، كيف تطأ ردائي وأنا ملك من ملوك العرب؟ فذهب الفزاري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين! انظر ماذا فعل بي جبلة قال: جيئوني بـ جبلة، ما قال عمر جبلة هذا مسلم جديد اتركه يا أخي! نحن ندفع ديتك من بيت المال، ثم قال لـ جبلة: أأنت ضربت هذا الرجل؟ قال: نعم، قال: القصاص، الآن أهدم حاجبك. إنه العدل! قال: يا أمير المؤمنين! أنا ملك وهو سوقة؟ قال: ليس عندنا في الإسلام ملك وسوقة، الناس كلهم سواء، قال: يا أمير المؤمنين! والله لو نفذت لأتنصرن، قال: والله لو تنصرت لقطعت عنقك لأنك مرتد عن الإسلام، كل هذا المكسب نسيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أجل أن يقر قواعد الأمن في بلاد المسلمين، وفي أرض المسلمين، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فرصة ثلاثة أيام أفكر في أمري، قال: لك ثلاثة أيام إما أن ترضي الفزاري، وإما أن أهدم حاجبك، بعد ثلاثة أيام هرب الرجل في الليل هو ومن معه مرتدين عن الإسلام إلى بلاد الشام مرة ثانية، ورجعوا نصارى نعوذ بالله، ما قال عمر: يا ليتني كسبت جبلة بن الأيهم! كيف أهدده بالقصاص وهو رجل من ملوك العرب؟! خسرنا خمسمائة دخلوا في الإسلام ثم خرجوا منه، وإنما شكر الله عمر بن الخطاب أن وفقه إلى أن يقيم العدل في بلاد المسلمين. نختم الحديث أيها الإخوة؛ لأني أخشى أن تكون هناك بعض الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

وجوب التوبة من كل الذنوب

وجوب التوبة من كل الذنوب Q هل التوبة تكون من المعصية التي يجب فيها حد من حدود الله التي أوجبها في كتابه، أم أن التوبة تكون من الصغائر فقط؟ A التوبة تكون من كل الذنوب حتى الشرك؛ لأن الشرك بالله عز وجل أعظم من الذنوب التي فيها حدود، فالتوبة لكل الذنوب إلا حقوق الناس فإنه يشترط فيها مع التوبة رد المظالم، أما إذا كانت حقوقاً لله عز وجل فيكفى فيها الندم، ونحن نعرف قصة ماعز رضي الله عنه الذي زنا واعترف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رجموه هرب رضي الله عنه لما وجد من ألم الحجارة، فلحقوه ورجموه حتى مات رضي الله عنه، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه!) إذا كان الإنسان قبل أن يعترف تقبل توبته فأولى أيضاً إذا تراجع عن اعترافه، لكن التوبة على نوعين: توبة في الدنيا وتوبة في الآخرة، أما توبة الدنيا فإنها لا تقبل في الأمور التي فيها حدود إذا كان فيها تهديد لأمن الناس، ولذلك يقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34]، فقاطع الطريق الذي يهدد أمن الناس إذا تاب قبل أن نقدر عليه تقبل توبته، لكن إذا تاب بعد أن نقدر عليه فإنها لا تقبل توبته، ومعنى: أنه لا تقبل عند الناس أي: أنه يقام عليه الحد، فقاطع الطريق إذا عثرنا عليه وأمسكناه قبل أن يتوب فإننا لا بد أن نقيم عليه حد قاطع الطريق، وهو قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. وعلى هذا نستطيع أن نقسم التوبة إلى ثلاثة أقسام: توبة لا تقبل إلا بأداء الحقوق وهي حقوق الناس، وتوبة تقبل لكن قبل أن نقدر على صاحبها كقاطع الطريق إذا تاب وأعلن توبته، ورجع إلى الله تعالى قبل أن نمسكه، فنعتبره تاب حقيقة ونقبل توبته، أما إذا تاب بعد أن نمسكه فلا بد أن نقيم عليه الحد، وعلى هذا نقسم التوبة إلى توبة في الدنيا، وتوبة في الآخرة، أما بالنسبة إلى توبة الآخرة فهي لكل الناس، فإذا تاب الإنسان تاب الله عز وجل عليه إذا صدق في التوبة. أما توبة الدنيا فإن هناك ذنوباً لا تقبل فيها التوبة بالنسبة للدنيا أي: بالنسبة للعقوبات، ولذلك يقول الفقهاء: لا تقبل توبة من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو سب الدين الإسلامي، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وليس معناه أنهم يدخلون النار وإن تابوا إلى الله عز وجل، بل المعنى أننا لا نقبل توبتهم نحن في الدنيا، فإذا وجدنا من يسب الله عز وجل، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسب دين الإسلام كالعلمانيين الذين يقولون: دين الإسلام لا يصلح للحياة، هؤلاء لا نقبل توبتهم في الدنيا، وإنما نقيم عليهم العقوبة ونترك آخرتهم لله عز وجل، وإلا فالأصل أن تقبل التوبة من كل الذنوب بشرط رد المظالم التي عند المذنبين إلى أصحابها.

حكم من اقترض نقودا من البنك وبنى بها ثم أراد أن يتوب

حكم من اقترض نقوداً من البنك وبنى بها ثم أراد أن يتوب Q لقد اشتريت بيتاً، واقترضت بعض النقود من أحد البنوك قبل فترة من الزمن، والآن تبت إلى الله، فما حكم ذلك، علماً بأنني ساكن في ذلك البيت، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟ A والله يا أخي! إذا كنت فعلت هذا الأمر بجهل فإنك معذور بالجهل، لكن لا أظن الناس يفعلون هذا الأمر بجهل، وأظنك يا أخي أخطأت في الأول ورجعت إلى الله عز وجل، لكنك لو أردت أن ترد الحق إلى البنك فإنك لا ترد إلا الأصل؛ لأنه ليس له إلا الأصل، أما إذا كنت قد أديت هذا الأمر ودفعت الأصل مع الزيادة فليس أمامك الآن إلا أن تتوب إلى الله عز وجل وتستغفر، ولا تعود إلى الربا مرة أخرى، فإن الربا حرب لله ولرسوله.

حكم العمرة في شهر رجب

حكم العمرة في شهر رجب Q البعض من الناس يفضلون العمرة في شهر رجب عن الأشهر الأخرى، فهل في هذا خطأ، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A أنا قلت لكم: الأصل في العبادات وفي توقيتها وتحديد شكلها هو شرع الله عز وجل، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله أن لا نعبد الله إلا بما شرع، وعلى هذا فإن من أوقع العمرة في رجب إن كان جاء بدافع شهر رجب، ومخصصاً شهر رجب لهذا الأمر فهو مبتدع؛ لأن شهر رجب لم يرد في فضل العمرة فيه أي دليل، ولم يرد في أي شهر من الشهور إلا في شهر رمضان كما جاء في الحديث عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) أو تعدل حجة معي، أما ما سواه من الشهور فليس فيها وقت محدد للعمرة لا في شهر رجب ولا في شهر ربيع الأول الذي وافق مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا غير ذلك، فمن جاء معتمراً في شهر رجب؛ لأنه وافق فرصة له كإجازة الربيع أو ما أشبه ذلك أو لأي سبب من الأسباب فلا شيء عليه، لكن من جاء معتمراً في شهر رجب يقصد شهر رجب فهو مبتدع، فعليه أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وأن لا يخصص للعمرة وقتاً معيناً، فإن العمرة جائزة في كل السنة. أما شهر رجب فكونه يختاره لأنه موعد الإسراء والمعراج بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا وإن كان له أهمية لكنه ما ورد دليل على تخصيص هذه الفترة بنوع من أنواع العبادات، كليلة النصف من شعبان التي يتخذها بعض الناس وقتاً للعبادة لم يرد فيها دليل، وكما هو يوافق يوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذه عبادات ما شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون العمرة دائماً وأبداً، ولم يرد دليل إلا في شهر رمضان كما قلت لكم.

حكم إهداء قراءة القرآن للميت

حكم إهداء قراءة القرآن للميت Q ما حكم اجتماع جماعة من الناس لقراءة القرآن، وعند الانتهاء يهدون ثواب ما قرءوه إلى الأموات؟ A أما بالنسبة للاجتماع لقراءة القرآن فهذا طيب قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة)، إلى غير ذلك. أما إهداء الثواب للميت فقد اختلف العلماء فيه، وأفضل وأعدل الآراء التي أعتقد إن شاء الله أنها خير أنهم قسموا العبادات إلى قسمين: عبادات مالية، وعبادات بدنية، أما العبادات المالية كالصدقة وألحقوا بها الحج؛ لأن فيه دليلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه العبادات إذا أهداها للميت فلعله أن يستفيد منها الميت، يعني: كأن تتصدق أو تحج أو تعتمر فقد وردت أدلة في إهدائها للميت، أما العبادات البدنية الأخرى فإنه لم يرد فيها دليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، كل إنسان له سعي يحاسب عن سعيه يوم القيامة. وعلى هذا فإن من أهدى القرآن لميت لم يرد الدليل في ذلك فقد يدخل في البدع ولكن نقول: يا أخي! إذا ختمت القرآن فادع للميت؛ لأن الإنسان له عند ختم القرآن دعوة مستجابة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير من أن تهدي له هذه الختمة، أما إهداء الختمة فإنها عمل بدني محض لا يوجد دليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم على جواز إهدائه، فالأولى ترك ذلك، أما الأعمال المالية والحج والعمرة والطواف فهذه أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تصل إلى الميت ويستفيد منها، وقد وردت أدلة في ذلك.

حكم التعامل مع شركة التأمين

حكم التعامل مع شركة التأمين Q تحدثت عن معصية الربا، ولكن يجري الآن التسويق عن التأمين سواء داخل المكاتب أو في الشركات، السؤال: هل من كلمة حول التأمين على الحياة التأمين على المنازل التأمين على السيارات وغيرها، والتأمين على الحوادث؟ A أما بالنسبة للربا فتحدثنا عنه بما يكفي إن شاء الله، أما بالنسبة للتأمين فهو باطل من عدة وجوه أولاً: هو عدم ثقة بالله عز وجل، لماذا هذا الإنسان بدل أن يعتمد على شركة تأمين لا يعتمد على الله سبحانه وتعالى، وأن يحسن الظن بالله عز وجل؟! والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)، لماذا تؤمن على حياتك وتؤمن على منزلك وعلى سيارتك؟ فهذا هو فقد ثقة بالله عز وجل. ثانياً: هو من الميسر الذي يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، والميسر مأخوذ من اليسر، فكل مال يحصل عليه الإنسان بيسر وسهولة هو نوع من الميسر، كيف يكون التأمين ميسراً؟ نعم، أنا قد أدفع طول عمري لشركة التأمين على بيتي أو على سيارتي ولا أحتاج منهم قرشاً واحداً في يوم من الأيام، إذاً بم يستحلون هذا المال الذي دفعته لهم طول عمري أو في سنوات معدودة؟ ثم بعد ذلك لا أستفيد منهم مرة واحدة، وقد يكون العكس، قد لا يدفع إلا مالاً قليلاً لهم ثم تصيب هذا الإنسان نكبة في سيارته أو في بيته أو في نفسه فيدفعون الدية وحينئذ يكون قد ظلمهم هو بدل أن كانوا ظلموه في الحالة الأولى، حيث أخذ منهم أكثر مما أخذوا منه، والميسر دائماً هو كل مال يؤخذ بيسر وسهولة دون أن يكون مقابله مشقة أو تعب يقدمه هذا الإنسان، وعلى هذا فإن القمار والمقامرة أمر محرم، إذاً: هذا التأمين وشركات التأمين إما أن تأخذ أموال الناس ولا تعطيهم مقابل ذلك حينما لا تصيبهم نكبة، وإما أن تعطيهم أكثر مما أخذت منهم فيكونون ظلموا هذه الشركة إذاً: هو مبني على الغرر، وكل معاملة بنيت على الغرر فإنها معاملة محرمة لاغية باطلة.

حكم الصيام في رجب وشعبان

حكم الصيام في رجب وشعبان Q هل الصيام في بعض أيام شهر رجب وشعبان أو تقديم بين يدي رمضان صيام، هل هناك ما يرغب في ذلك أم أن هذا بدعة؟ A علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم مواقيت الصيام المسنونة، فمثلاً ثلاثة أيام من كل شهر، فلو صام الإنسان ثلاثة أيام من شهر رجب نقول: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صام الإثنين والخميس من شهر رجب قلنا: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صام شهر رجب كله قلنا: هذه هي البدعة، ما هو الدليل على بدعيته؟ الرسول صلى الله عليه وسلم ما ورد أنه صام أبداً شهر رجب كله، أنت أحدثت شيئاً في دين الله ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فعله الخلفاء الراشدون، لكن لو صمت شهر شعبان كله قلنا: هذا طيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على صيام شعبان، ولو صمت ستة أيام من شوال قلنا: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صمت مثلاً يوم عرفة فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد فيها دليل، ولو صمت العشر الأول من ذي الحجة فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد فيها دليل، لو صمت يوم التاسع والعاشر من محرم، قلنا: هذه سنته صلى الله عليه وسلم، ورد فيها دليل، ولو صمت يوماً وأفطرت يوماً طول حياتك قلنا أيضاً هذا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صيام داود، لكن تصوم شهر رجب ما هو دليلك؟ لم يرد من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تخصيص شهر رجب بالصيام، ولذلك فإني أنصح أي إنسان يعذب نفسه بهذا الصيام أنه فعل شيئاً ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: هو غير متابع للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو متبع أهواءً أو متبع طريقة ورثها من آبائه وأجداده أو من مجتمعه، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]. إذاً نقول: يا أخي! اتق الله حتى العبادات التي ترهق فيها نفسك وتتقرب فيها إلى الله لا بد أن تتحرى فيها متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنها بدعة وكل بدعة ضلالة.

بيان معنى (وشهد شاهد من أهلها)

بيان معنى (وشهد شاهد من أهلها) Q لقد استمعت لشريط لك بعنوان: عبر من قصة يوسف عليه السلام، ولقد ذكرت في تلك المحاضرة الشخص الذي شهد على امرأة العزيز والذي قال الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26]، فالسؤال هو: هل هو طفل رضيع الذي شهد بذلك؟ A نعم الذي ورد في الأثر أنه طفل رضيع، ولذلك تعتبر آية ومعجزة ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في الحديث أنه ما تكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: صاحب جريج، وصاحب يوسف، وصاحب الأخدود الذي قال لأمه لما وقفت على حافة الأخدود: يا أماه! اقدمي ولا تقاعسي إنك على الحق المبين، والرابع هو عيسى عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين تكلموا في المهد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كيف وأين يتربى الرجال؟ [1]

كيف وأين يتربى الرجال؟ [1] لقد خلق الله الخلق وجعلهم ذكوراً وإناثاً، وميز الذكور عن الإناث بصفات خَلْقية، وهناك صنف من الذكور تميزوا بأخلاق وقيم، وصفات وشيم، رفعتهم رتبة على بني جنسهم من الذكور، وهم الذين سماهم الله رجالاً، وهؤلاء الرجال لا يمكن أن يصيروا كذلك، إلا إذا تربوا في المساجد التي هي مصانع الرجال، ومنها يتخرج الأبطال.

تربية الرجال في القرآن (سورة النور أنموذجا)

تربية الرجال في القرآن (سورة النور أنموذجاً) الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده؛ فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وصلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين. أما بعد: قبل الشروع في الحديث عن مواطن تربية الرجال أو عن مصانع الرجال، نستعرض آيات من كتاب الله عز وجل أشارت إلى هذا الموضوع بإسهاب، وبينت الجانب السلبي والإيجابي بالنسبة لتربية الرجال. يقول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:35 - 36]. تحدثت الآية الأولى عن نور الله في قلب المؤمن، وكيف ينمو ويترعرع هذا النور، وما شبهه بالنسبة لما يشاهده البشر في عالم الكون، وإن كان طائفة من العلماء قد ذهبوا في تفسير هذه الآية إلى أن المراد هنا: نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، وصفة من صفاته، لكن ذلك بعيد؛ لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يشبه أي شيء من المخلوقات، فالذي أميل إليه في هذه الآية: أن المراد بهذا النور المذكور هو نور الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن. وقد جاءت هذه الآية بعد إسهاب طويل، وشرح مفصل عن الفاحشة، وعن أسبابها ووسائلها، وقطع الطرق الموصلة إليها، ابتداء من أول سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، إلى آخر آية من المقطع الأول من هذه السورة: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]. وأنت ترى في الآية التي هي المطلع للسورة ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا))، والآية التي هي الخاتمة لهذا الجزء من هذه السورة: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ))، وما بين هاتين الآيتين، تربية عظيمة على الأخلاق والفضيلة، ومحاربة فريدة للرذيلة وفاحشة الزنا التي هي أعظم الفواحش التي يفعلها الناس فيما بينهم! وقد تحدثت الآيات بإيجاز بسيط عن الحدود، ثم عن الحديث عن الفاحشة، وعدم إنكار هذا الحديث، وعدم وجود رادع يقابل هذا الحديث، ثم تحدثت بعد ذلك عن الاختلاط الذي أصبح الآن لوثة عصرية! ثم تحدثت -بعد ذلك- عن النظر وعن غض البصر، ثم تحدثت بعد ذلك عن الزواج الذي يعتبر الحصن الحصين لهذا الإنسان، فحينما يتزوج يكون في مأمن -بإذن الله عز وجل- من هذه الفاحشة. فهذه تربية خلقية عظيمة، ومهما بذل المربون، وعلماء الاجتماع والأخلاق، فلا يمكن أن يصلوا إلى جزء منها.

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض) يقول تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، المراد بالنور هنا: نور الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن، أي: أن الذين لا يتأثرون بهذه المغريات التي تسبب الفاحشة والجريمة في المجتمع، هم الذين عصم الله عز وجل قلوبهم بالنور، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وهذا يؤيد هذا المعنى الذي اخترناه؛ لأن نور الله لا يشبه بمخلوق من المخلوقات، ويؤيد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (القلوب أربعة -ثم ذكر من هذه القلوب- قلب فيه مثل السراج يزهر)، ويقصد بذلك عليه الصلاة والسلام نور الإيمان. ونتعرض بإيجاز لمعنى هذه الآية التي هي آية النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}؛ حتى نصل إلى ما نريد. {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: نوره في قلب المؤمن. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] المشكاة: هي الكوة في الجدار التي لا تنفذ من الخلف، وتعكس الضوء إلى الأمام. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] المراد بالمصباح: السراج. {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] الزجاج هو الأجسام الشفافة التي تشف عما وراءها، وتعكس الضوء بقوة. {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] الكوكب الدري: هو النجم المضيء في السماء، مأخوذ من الدَرّ: وهو الدفع، أو من الدُرّ: وهو اللمعان. ثم يقول الله عز وجل في وصف هذا السراج: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: ليست بالشرقية فحسب، وليست بالغربية فحسب، بل هي شرقية غربية، أي: أن هذه الزيتونة تصيبها الشمس وقت الشروق وتصيبها وقت الغروب؛ فيكون أصفى لزيتها وأنقى له، وحينئذٍ يكاد هذا الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار. يقول الله عز وجل: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور السراج، مع نور الكوة التي تعكس الضوء، مع نور الزجاجة، مع نور زيت هذه الزيتونة الذي يكاد أن يضيء ولو لم تمسسه نار!

الإسلام دين الوسطية والاعتدال

الإسلام دين الوسطية والاعتدال بعض علماء العصر ذهبوا في تفسير هذه الآية مذهباً آخر، فقالوا: هذا يحكي الملة المحمدية، فإنها ليست بشرقية وليست بغربية، لا تستمد منهجها من الشرق ولا من الغرب، ولكنها تستمد منهجها من الله عز وجل، ولربما يصلح هذا المعنى، خصوصاً في هذه الفترة التي شعر العالم الإسلامي فيها بالتبعية إما للشرق أو للغرب، ودين الإسلام -كما نعرف عن كل مناهجه وجزئياته وكلياته- دين وسط بين طرفي نقيض، فإذا كانت هذه الأنظمة المعاصرة تميل إما إلى اليمين أو إلى اليسار -كما اصطلح عليه علماء العصر- فإن ملة محمد صلى الله عليه وسلم ملة قائمة بذاتها ليست بالشرقية وليست بالغربية، وإنما هي ملة معتدلة بين طرفي نقيض، وهذا شيء مشاهد في دين الله عز وجل الذي هو دين الإسلام، فإنه لا يخضع للشرق ولا للغرب، كما أنه يكون دائماً وسطاً بين أنظمة الشرق وأنظمة الغرب. على سبيل المثال: الغرب لم يضع نظاماً للمال أبداً! بل أطلق الحرية لهذا الإنسان، فله أن يكسب المال من الحلال أو من الحرام، من الربا أو من أي طريق آخر، وليس في المال حقوق ولا نفقات، ولا واجبات ولا زكاة. وجاء الشرق بملة مضادة لهذه الملة فقال: إن المال ليس ملكاً لهذا الإنسان بمفرده، وإنما هو ملك للدولة ولجميع الناس. وكلاهما انحرف وأخطأ، فإن الله عز وجل هو الذي أباح الملكية الفردية لهذا الإنسان، وجعل ذلك مطلباً من مطالب هذا الإنسان، وشرع قيوداً لكسب المال ولإنفاق المال. وأيضاً: نجد أن الصوفية المعاصرة تقدس الروح وتهتم بها، وتهمل الجسد، وتقابلها الشيوعية الملحدة، فهي تقدس الجسد، وتهمل الروح، وأما الإسلام فإنه يعتني بالروح والجسد معاً، ويتوازن في معاملتهما. وعلى هذا فقس في جميع الأنظمة القائمة، ولذلك فإن ملة الإسلام ليست شرقية ولا غربية وإنما هي دين وسط؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، سواء كانت في الجغرافية، أو في الأفكار، أو في العبادات، أو في المعاملات، أو في أي شيء.

أين يتربى الرجال؟

أين يتربى الرجال؟ هذا القلب الذي اتصف بهذه الصفات المذكورة في الآية، ضرب الله عز وجل له المثل بأقوى نور عرفه الإنسان وقت نزول الآية، والله تعالى لا يخاطب الناس بما لا يعلمون، فلا يعدو علم الإنسان -قديماً- بالنسبة للأضواء اللامعة من أن يرى سراجاً في كوة غير نافذة، وعليه زجاجة، وهذه الزجاجة لامعة مضيئة تعكس الضوء كاملاً، ويوقد هذا السراج من زيتونة لا شرقية ولا غربية. هذا الخبر يثير تساؤلاً في نفس الإنسان، لا سيما من يبحث عن الحق، وهو أن هذا قلب طاهر وعظيم! فأين يوجد هذا القلب؟ وأين يتربى هذا القلب؟ وأين ينشأ؟ وأين يولد؟ وأين مكانه؟ والجواب في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ومن هنا نعرف كيف يتربى الرجال؟ وأين يتربى الرجال؟ وأين يولد الرجال؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] , وعلى هذا يقول المفسرون في قول الله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ)) أنها متعلقة بـ (يوقد)، وفي قراءة سبعية: (توقد)، أي: هذا النور يوقد في بيوت أمر الله عز وجل أن ترفع وتُعظم وتقام وتنظف وتطهر، وهي المساجد على رأي جمهور العلماء. وعلى هذا: فإن المساجد هي مكان ولادة هذا النور، ونشأة هذا الإيمان، وتربية هؤلاء الرجال، ولعل ذلك يقابل ما مر في أول الآية حينما ذكر الله عز وجل الفاحشة، ومواطنها، وأسبابها، ووسائلها، ومقتضياتها، من النظر الحرام، والاختلاط الحرام، والحديث عن الجريمة والفاحشة الذي يسهل الوصول إليها، ويجعلها مألوفة تقبلها الآذان، ثم تتحدث عنها الألسن وتلوكها، ثم يصدق الفرج ذلك أو يكذبه؛ لعل هذا النور الذي ذكره الله عز وجل في المساجد يقابل تلك المواطن التي تنتشر فيها الفاحشة، وعلى هذا فإن من أراد التحصين لنفسه ولأمته ولنشئه، فعليه أن يربي هذا النشء في المسجد، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، قال بعض المفسرين: (في بيوت) هي: متعلقة بـ (يسبح)، أي: يسبح له في بيوت رجال. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي: أمر وأوجب، ووصى وفرض؛ ولذلك فإن بناء المساجد أمر مرغب فيه، سواء في الآيات أو في الأحاديث النبوية، كما في الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، وهذه المساجد هي بيوت الله عز وجل، ويجب أن تصان من كل ما لا يليق بها من الكلام الحرام، والعمل الحرام، وأحاديث الدنيا، وما أشبه ذلك مما يجب أن تنزه عنه المساجد. وحينما تكون المساجد بهذا المستوى وهذا القدر فإنها تربي هؤلاء الرجال؛ ولذلك يقول الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ)، والمراد بالغدو أول النهار، والمراد بالآصال آخر النهار، أي أن المؤمنين في مداومة واستمرار على طاعة الله وذكره وتسبيحه؛ ولذلك فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل قلبه معلق بالمساجد)، أي: دائماً ينتظر الصلاة، ويلازم المساجد، ويراقب مواعيد الصلاة والأذان، فقلبه معلق بالمسجد دائماً، كلما انتهى من صلاة ينتظر الصلاة الأخرى؛ فهذا من السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أي: في يوم القيامة.

معاني الرجولة وصفات الرجال

معاني الرجولة وصفات الرجال تبين من الآية أن المقصود بـ (رجال) أهل المساجد، ومن يتربون في المساجد، وكلمة (رجال) لم ترد في القرآن العظيم إلا في ثلاثة مواضع، وكل موضع من هذه المواضع يدل على الثناء. الموضع الأول: في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]. الثاني: في قول الله تعالى عن الأنبياء الذين هم صفوة البشرية: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]. الثالث: عند ذكر المجاهدين في سبيل الله، وهم الذين حققوا البيعة بينهم وبين الله عز وجل؛ فسماهم الله تعالى رجالاً، فقال: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].

الرجال المستكملون سمات الرجولة

الرجال المستكملون سمات الرجولة كلمة (رجال) تعطينا معنيين اثنين: المعنى الأول: الذكورة، أي: أنهم ليسوا بنساء، فإن الرجل خلاف المرأة، والرجل يقابل المرأة والمرأة تقابل الرجل، وهذا هو المتبادر إلى أذهان كل الناس؛ مثل أن نقول: صلاة الجماعة واجبة على الرجال وليست بواجبة على النساء. المعنى الثاني: وهو المعنى الأعظم والأشمل، وهو أن الرجال هم الذين يحققون ويثبتون معنى الرجولة الحقة، فليس كل ذكر يكون رجلاً، فكم من الذكور من تنازل عن رجولته؟ وكم من الذكور من لم يصل بعد إلى دور الرجال؟! لأن كلمة (رجال) في الآيات الثلاث التي ذكرناها تعني الذين اكتملت فيهم سمات الرجولة وصفات الرجال، وحققوا معنى الرجولة، فهم الرجال حقاً! وهذا الشيء يشاهده الخاصة والعامة، فإذا أعجبك ولدك قلت له: أنت رجل؛ مع أنك تعرف أنه رجل، لكنك في الحقيقة تقصد بقولك له: رجل، أي: حققت معنى الرجولة، واكتملت فيك صفات الرجال. وعلى هذا فإنك إذا أردت أن تمدح أحد الناس، فإنك تقول: فلان رجل! مع أن الناس يعرفون أنه رجل وليس بأنثى، لكنك تقصد بذلك أن صفات الرجال قد توافرت فيه، وهذا هو المعنى المقصود في هذه الآية، فليس معنى (رجال) ذكوراً، ولكن معناها: رجال استوفوا كل صفات الرجال، واستكملوا كل أخلاق الرجال، فهم أبعد الناس عن الأنوثة!

ترفع الرجال عن التخنث والتشبه بالنساء

ترفع الرجال عن التخنث والتشبه بالنساء فهذه الكلمة لا يستحقها إلا أهل المساجد وعباد الله عز وجل، ونأسف جداً لأن كثيراً من أشباه الرجال لم يصلوا إلى الرجولة الحقيقية بعد، بل هم لا يفكرون في ذلك ولا يريدونه، وهذا شيء نشاهده في أوساط (أشباه الرجال!)، ممن تحولوا عن رجولتهم في عصرنا هذا، فأصبحوا يسابقون البنات إلى الموضات، حتى لبسوا الذهب والحرير، وضيقوا ملابسهم، وغيروا مشيتهم، ولبسوا الشعر الصناعي، ولربما يرققون أصواتهم كالمرأة، وهذا يعتبر حدثاً عجيباً في تاريخ البشرية، وإن كان قد ورد أن هؤلاء أشباه الرجال سوف يأتون في زمن متأخر كما ورد في أثر أنا لا أعرف صحته، لكن له شاهد من الواقع. عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم عما يحدث في آخر الزمان، فاستغرب عمر ما سيحدث؛ لأنه شيء لا يقبله العقل لولا أنه خبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! ترك القوم الطريق) أي: سيتركون الطريق (وخدمهم أبناء فارس -ونحن نقول الآن: وبنات فارس- وتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها، يتأولون كتاب الله، يقولون: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف:32])، وهذا أمر نشاهده في الواقع، فإن الذين نزلوا عن مستوى الرجولة يتأولون ذلك، وهم في كثير من الأحيان قد لا يعرفون من القرآن إلا هذه الآية، فيقولون: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}، فهؤلاء يجب أن نلغيهم من قائمة الرجال! لكن لا ندري أين نضعهم؟! لأنهم لم يصلوا بعد إلى الأنوثة المكتملة! وهؤلاء أمرهم أعجب من أن تترجل المرأة، ولو أن المرأة أرادت أن تتشبه بالرجل، ما كان ذلك كتشبه الرجل بالمرأة؛ لأن المرأة تريد أن تعلو درجة! فإن الله عز وجل يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، مما يدل على أن الرجل أعلى درجة من المرأة، لكن حينما يريد الرجل أن يهبط إلى هذه الدرجة، يصبح الأمر عجيباً وغريباً، ولذلك يقول الشاعر: وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب أي: أن المرأة عندما تترجل، فليس هذا بعجيب، لكن الرجل أو الشاب حينما يتأنث يصبح الأمر عجيباً؛ إذ كيف يتنازل عن حق من حقوقه، وميزة من ميزاته التي اختصه الله بها؟! المهم أن كلمة (الرجال) تعطينا هذا المعنى المكتمل، وتعطينا هذه الحقيقة الواضحة، ولذا فإن أي إنسان -بعد أن يفهم معنى كلمة رجال وما يتميزون به- يتطلع إلى المواطن التي يتربى فيها هؤلاء الرجال، حتى لا يكون من أشباه النساء، وحتى يكون من الرجال الذين اكتملت رجولتهم وتمت شخصيتهم فلم يتنازلوا عن شيء منها أبداً، بل هم يتطلعون إلى مستوىً أعلى، فلو تيسر لهم أن يكونوا فوق مستوى الرجال فلن يبخلوا على أنفسهم بالتقدم!

المساجد مواطن تربية الرجال

المساجد مواطن تربية الرجال ننتقل إلى الموطن الذي يتربى فيه الرجال، والله عز وجل قد ذكر أين يتربى الرجال فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. ومن هنا نعرف أن النور الذي ذكره الله عز وجل هو النور الذي اهتدى به هؤلاء الرجال، فعرفوا الله عز وجل به، وعرفوا مكانتهم في هذه الحياة، وعرفوا وزنهم وقيمتهم؛ لذلك فهم لا يبغون بها حولاً، ولا يرغبون عنها بدلاً. هؤلاء الرجال الذين نشئوا في المسجد، فهم من أبناء المساجد، وقلوبهم معلقة بالمساجد، يتصفون بثلاث صفات: أولاً: هم يسبحون الله عز وجل في كل حال من أحوالهم، ويعظمون الله كما يليق بجلاله وعظمته. ثانياً: هم رجال.

لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعة الله

لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعة الله ثالثاً: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ومن العجيب أن لهم تجارة، وأن لهم أموالاً، وأن لهم مصالح، لكن هذه المصالح، وهذه الأموال التي بأيدي هؤلاء الرجال الذين عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان؛ لم تلههم، فهم لم يضعوا هذا المال وهذه المصالح في قلوبهم كما يضعها (أشباه الرجال) لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون خشية الله عز وجل ومراقبته ومحبته في سويداء القلوب. إذاً: هم رجال ليسوا عالة على غيرهم، كما يظن بعض الناس أن معنى قوله تعالى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] أنه ليست لهم تجارة، وليس لهم بيع، وليست لهم مصالح دنيوية، لا. فالمسلم مطالب أن يعمر الحياة، وأن يعمل للحياة، وألا يكون عالة على غيره، وأن يكون عضواً فعالاً في هذا المجتمع، وأن يقدم الخدمات لنفسه ولأهله وذويه ولأمته، وأن يكون عنصراً نشيطاً حياً، لكن يجب عليه ألا يضع شيئاً من ذلك في قلبه! بل يجب أن يفرغ قلبه لخشية الله عز وجل وللحياة الآخرة، وعليه أن يضع هذه الأشياء في يده. هذا هو المعنى المفهوم من قوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولهم دكاكين، ولهم مصانع، ولهم متاجر، ولهم أعمال، لكن هذه الأشياء كلها يعتبرونها وسيلة وليست بغاية، أما لو انزووا في زاوية من زوايا الحياة، وأصبحوا عالة على المجتمع، وأصبح غيرهم ينفق عليهم، وأصبحوا يتركون دفة الحياة يديرها من لا خلاق له ولا دين له، فإن هذا سوف يُحدث خللاً في المجتمع، فينتشر الفساد، وتنتشر المعاملات المحرمة كالربا، وتفسد الحياة كما هو حاصل في عصرنا الحاضر في بعض الأماكن. هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولهم بيع، والدليل على ذلك: أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ذات يوم بالسوق، وكان الناس قد فتحوا دكاكينهم يبيعون ويشترون، فإذا بالمنادي ينادي: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان أحدهم قد رفع الميزان بيده لكي يزن البضاعة، فرمى بالميزان على الأرض، وأغلق الدكان، ومشى إلى المسجد، فقال الصحابي: انظر يا أخي! هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل فيهم: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).

ليسوا عالة على غيرهم في الحياة

ليسوا عالة على غيرهم في الحياة أما الذين يقبعون في زاوية من زوايا الحياة، ويصبحون عالة على غيرهم، ويظنون أن الدين رهبانية وانزواء! وأنه لا يسمح للمسلم بأن يزاول أي مهنة من المهن، أو أي صنعة من الصنعائع! حتى ظن بعض الناس أن شيئاً من هذه الصناعات يؤثر على السمعة وعلى الشرف؛ إذا اتجه الناس هذا الاتجاه، فإنهم قد خالفوا الشرع واتجهوا خلاف الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه! (جاء ثلاثة نفر إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لإحدى زوجاته: ماذا يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر؟ فأخبرتهم بعمله في السر، وأنه يعمل للدنيا وللآخرة، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء! فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالة هؤلاء غضب غضباً شديداً، ثم صعد المنبر وقال: أيها الناس! أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقد ذكر الله في القرآن الكريم قصة الرجال العقلاء العلماء الذين كانوا يوجهون النصائح إلى قارون، وهو الرجل الذي تنكر لله عز وجل، ونسي النعمة والمنعم! فكانوا يوجهون له النصائح بأن يستغل هذه الثروة وهذا المال فيما يرضي الله عز وجل، فكان من نصائحهم: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قال بعض المفسرين: أي: خذ من الدنيا بنصيب، لكن لا تجعل الدنيا أكبر همك. وهذه الوصية التي يجب أن نقدمها دائماً لمن أراد أن يصل إلى مصاف الرجال. إذاً: هذه هي الصفة الثالثة من صفات هؤلاء الرجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، فيشتغل للدنيا ويشتغل للآخرة، لكن عليه أن يضع كل واحدة في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى، وبحيث لا ترتفع إحداهما على كفة الأخرى.

خشية هؤلاء الرجال وخوفهم من يوم القيامة

خشية هؤلاء الرجال وخوفهم من يوم القيامة هؤلاء الرجال أهل الصلاح والاستقامة، عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وعبدوه حق العبادة، وكان المتوقع لمثل هؤلاء أن يطمئنوا ولا يخافوا؛ لأن الخوف يجب أن يكون من قوم يعيثون في الأرض فساداً، ويدمرون الأفكار والأخلاق، لكن العجب أن هؤلاء الذين هم في طاعة مستمرة لله عز وجل، وقد وصلوا إلى درجة الرجال، وشغلوا حياتهم بتسبيح الله عز وجل، وكانت لهم تجارة؛ وضعوها في أكفهم، وقدموا خشية الله على كل المصالح الدنيوية؛ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار! ومن هنا على المسلم أن يأخذ درساً من هؤلاء، فمهما بلغ من الصلاح والتقى والإيمان والخشية لله عز وجل وتطبيق أوامر الله، فيجب عليه أن يكون خائفاً دائماً، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم). وجاء في الأثر: من فعل الذنب وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي! المؤمن مهما يقدم من الطاعات والحسنات والخير، فإن عليه أن يكون خائفاً على الدوام، لا لأن الله عز وجل سوف يهضمه شيئاً من عمله، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:112]، ولكنه يخشى من سوء الخاتمة يخشى ألا يتقبل الله عز وجل منه هذا العمل يخشى الرياء أو السمعة وغيرهما من مفسدات الأعمال يخشى ألا يكون قد أدى كل الواجب الذي أوجبه الله عز وجل عليه؛ لذلك فهو من الذين: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]. يوم القيامة يوم عظيم يجعل الولدان شيباً، يقول الله عز وجل عن الصالحين: {يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7]، ويقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]؛ ولذلك فإن هؤلاء لا يلامون أن يخافوا؛ لأنه يوم تقفز فيه القلوب عن مواطنها من شدة الخوف إلى الحناجر، وهو يوم يرتفع فيه البصر من شدة الذعر والخوف إلى أعلى الرأس، وكأنه قد تحول من مكانه من شدة الخوف! وهذا الشيء نشاهده حينما نخاف من أي أمر من الأمور المخيفة، أما أولئك فإنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، تتقلب فيه القلوب؛ لأن القلوب ترى أشياء لم تكن تراها في الدنيا، وتتيقن منها، والأبصار تشاهد أشياء لم تكن تشاهدها في الدنيا، إنما كانت توصف لها وصفاً. فالقلوب تتقلب، أي: تؤمن بأشياء ما كانت تؤمن بها من قبل، وهذه قلوب الملاحدة وأهل الشك، وكذلك الأبصار تشاهد أشياء ما كانت تراها في الدنيا، بل كانت تسمع عنها، فانقلب القلب إلى إدراك أشياء ما كان يدركها من قبل، وانقلب البصر إلى رؤية أشياء لم يكن يراها من قبل. فالخوف صفة من صفات الرجال، وقد ورد وصفهم بالخوف في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، لما سمعت عائشة رضي الله عنها هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون الفواحش فيخافون؟ قال: لا، بل هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخشون ألا يتقبل الله ذلك منهم). إذا كان هؤلاء المؤمنون يخافون -وهم في غاية الإيمان والتقى والصلاح والاستقامة- فمن باب أولى أن يخاف أولئك المفسدون في الأرض من أصحاب الجرائم والكفر والإلحاد والطغيان والكبرياء، الذين ساموا المسلمين سوء العذاب، والذين طعنوا في دين الله، وشوهوا دين الإسلام أمام ضعاف الإيمان، وصالوا وجالوا وأفسدوا، وفعلوا ما فعلوا من الفواحش، وتركوا ما تركوا من الواجبات، لكنهم في غمرة الحياة الدنيا، ولذة العيش ومتاع الحياة؛ أصبحوا آمنين مطمئنين، ولكنهم سوف يخافون حينما يأمن الصالحون، وحينما ينجي الله المؤمنين من الفزع الأكبر {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، يومئذ يخاف أولئك ويطمئن هؤلاء. هذه هي صفات هؤلاء الرجال: يسبحون، وهم رجال اشتملوا على معنى الرجولة، (ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وأيضاً: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).

هؤلاء الرجال يعبدون الله رغبا ورهبا ومحبة

هؤلاء الرجال يعبدون الله رغباً ورهباً ومحبة نعود مرة أخرى إلى قوله تعالى: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) لنستعرض رأي طائفة من غلاة الصوفية في أيامنا الحاضرة: غلاة الصوفية يقولون: نحن لا نعبد الله خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته! ولا نبالي بالجنة ولا بالنار، وإنما نعبد الله محبة لله! وبعضهم يقول: إني أذوب في محبة الله! وهذا ليس هو الاعتقاد الصحيح، فهو كذب وافتراء، فأنا وأنت وكل مؤمن يجب أن نعبد الله محبة له، وخوفاً من عذابه، وطمعاً في جنته، وهؤلاء صفوة الرجال يقول الله عز وجل عنهم: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]. بل إن هناك أفضل من هؤلاء، وهم المرسلون عليهم الصلاة والسلام لما ذكر الله عز وجل بعضهم بأسمائهم وصفاتهم في سورة الأنبياء قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. إذاً: الإنسان يعبد ربه محبة له، وخوفاً من عذابه، وطمعاً في جنته. والله لولا جنة الله التي نرجوها وعذاب الله الذي نحذره ونخافه ما كنا بهذا المستوى، لكننا نعبد الله عز وجل محبة ورغبة ورهبة، وهذا هو منهج المؤمنين، (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).

التربية بعيدا عن المسجد سبب الانحراف

التربية بعيداً عن المسجد سبب الانحراف الرجال لا يتربون إلا في المسجد، المسجد الذي يتعاهد الطفل منذ بداية تمييزه، منذ سن السابعة: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع)، الطفل حين يختلط بالصالحين، ويأخذ من أخلاقهم وسلوكهم، ويحضر مجالس العلم، ويعرف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ويعرف دين الإسلام بالأدلة، ويعرف كيف يعبد ربه، وكيف يخشى الله سبحانه وتعالى، ويجلس في حلق القرآن يقرأ ويتلو كتاب الله ويحفظه؛ حينئذٍ سوف يخرج رجلاً. أما تربيته على خلاف هذه التربية فهذا هو ما أحدث الخلل في هذه الأمة الإسلامية، فالآن يتربى كثير من أبناء المسلمين بعيداً عن المساجد، لا يعرف أحدهم الطريق الموصلة إلى المسجد، ولربما لا يصلي إلا صلاة الجمعة أو بعض الصلوات! ولربما لا يدخل المسجد إلا حينما يموت فيقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة! هذا واقع مشاهد لا أحد ينكره، لكن الخطر سيكون قبل أن يقف هؤلاء الناس للحساب بين يدي الله عز وجل، والنتيجة خطيرة في الدنيا قبل الآخرة. هؤلاء الذين يتربون بعيداً عن المسجد، قد يتربون بين الأفلام والمواخير، ومراكز الشراب والبارات، والمحرمات، والعاهرات، والرقص، والغناء، لا نريد أن نستعرض هذه كلها، لكن أولئك هم الذين أصبحوا الآن يفسدون في الأرض هم الذين أصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين هم الذين يسعون الآن ليجروا عاراً على أمتهم لا ينسى إلى يوم القيامة هم الذين سوف يحلون قومهم دار البوار هم الذين يصفون هذا الإسلام بالتأخر، والرجعية، والتخلف، وأن هذه الأمة متخلفة، ويصفون المرأة المسلمة بالتأخر والتخلف، وينادونها إلى التحرر، ويزعمون أنهم أصحاب حقوقها، والمدافعون عنها وعن حريتها، والله يعلم أنهم لا يريدون بذلك إلا سوءاً وفساداً، يريدون أن تنحل المرأة وتنحرف؛ ليصطادوها في الماء العكر، ولتصبح لقمة سائغة بين أيديهم. هم ينادون بهذه الحرية الكافرة الملحدة الآثمة الغاشمة في وقت أصبح فيه أعداء الإسلام الكفرة قد سئموا من أوضاعهم المنحرفة، فصاروا ينادون المرأة في بلادهم بأن تعود إلى الحشمة والكرامة والمحافظة! فهؤلاء جاءوا ليبدءوا من حيث ينتهي الناس، هؤلاء هم الذين تربوا بعيداً عن المسجد. ولربما تطور الأمر بالنسبة لهم، فنسمع من أخبارهم ما يدمي القلب ويذيبه كمداً كالطعن في الإسلام، لا يكفيهم أن تتحرر المرأة -كما يزعمون- أو أن تنحرف، بل لا يقر لهم قرار إلا وهم يرون الأمة الإسلامية تعيش في المؤخرة، ولا يكفيهم هذا التخلف وهذا التقهقر الذي أصاب الأمة الإسلامية، وهذا النوع من البشر قد يتجرءون على دين الإسلام فيكونون من أئمة الكفر الذين أمر الله عز وجل بأن نقاتلهم في أي مكان نجدهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]. ولربما يتجرءون أكثر من ذلك فيطعنون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أخبار الحداثيين منا ببعيد، ولربما يتجرءون على الله عز وجل فيقولون كلاماً لا ينبغي لمسلم أن يقوله حتى على سبيل الحكاية! فلماذا هذا كله؟ لأنهم ليسوا من الرجال الذين تربوا في أحضان المسجد، وعرفوا الله عز وجل، بل لربما أن الرقابة الأبوية أو ما فوق الأبوية قد تساهلت في تربية هؤلاء، أو لربما أن هؤلاء غسلت أدمغتهم في بلاد الشرق أو بلاد الغرب، ونجح أعداء الإسلام في إفساد هؤلاء، فأرادوا أن يحققوا الفكرة التي تدور في أذهانهم، وهم يقولون: إنكم لا تستطيعون قطع شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها!! ويقصدون بهذه الكلمة: ربوا من أبناء المسلمين من يقوم بهدم الإسلام! لكننا مطمئنون على شجرة الإسلام، وهذه الخفافيش والصراصير لن تؤثر فيها أبداً؛ لأن هذا نور الله عز وجل ودين الله الذي سوف يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونحن مطمئنون إلى وعد الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لكننا خائفون على الأمة من أن يتسلم شيئاً من مقاليد الأمور فيها نوع من هؤلاء الذين لا يعتبرون أشباه رجال، ولكنهم دون ذلك!

تحقق حديث حذيفة بن اليمان في الفتن

تحقق حديث حذيفة بن اليمان في الفتن روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حديثاً عجيباً أراه اليوم يتحقق في هؤلاء الذين يحسبون على الإسلام، ويحملون الأسماء الإسلامية: أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وسعد وسعيد، وهم أكبر عدو وألد عدو للإسلام! ولو كان الإسلام يحارب كما في الجاهلية الأولى بـ أبي جهل وأبي لهب لكان الأمر سهلاً! لكنه يحارب بهؤلاء الذين يحملون الهويات الإسلامية، والأسماء الإسلامية، وتربوا في بيوت المسلمين، وهم من أسر إسلامية عريقة، ومع ذلك فهم أخطر على الإسلام من أبي جهل وأبي لهب في وقتهم، وأخطر على الإسلام من أعداء الإسلام الذين يأتون من الخارج!! يقول حذيفة: (كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: قوم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا) كيف ذلك؟ لو أردنا الآن أن نحصر ما كتبه المتمسلمون أو المنسوبون إلى الإسلام في الصحف وفي المجلات وفي المؤلفات من الطعن في الإسلام، ثم ننظر ما كتبه الأعداء الذين يأتون من الخارج، لوجدنا أن الأول أضعاف مضاعفة بالنسبة للثاني! بل وجدنا ممن يعتز بكفره وبجاهليته من غير المسلمين، من يثني على الإسلام! مع أننا لا نحتاج إلى ثنائهم، حتى قال برنارد شو: إن محمداً لو بعث اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة!! فهذه كلمة يقولها رجل كافر يهودي، وتلك مقالات يقولها أناس يحسبون على الإسلام. فالأمر خطير، والمصيبة داخل البيت! ولو كان العدو من الخارج لكان من السهل أن تحمى البلاد بالحصون، وأن يقف كل مسلم أمام داره ليحمي هذا البيت، ولكن المصيبة كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند فهذا مثل ضربناه لقوم يحسبون ويعدون من الرجال وما هم برجال! وقوم أيضاً يحسبون على الإسلام والإسلام منهم براء! وإنني لا أنسى حينما سمعت رجلاً ممن يعيش في أقرب المرافق المقدسة يقول مقالته المشهورة: منذ نزول سورة تبت ووجود الهاشمي -يقصد محمداً صلى الله عليه وسلم- أصبح العالم في تأخر! ثم يثني على أم جميل زوجة أبي لهب إلى غير ذلك.

أثر المسجد في تخريج الرجال

أثر المسجد في تخريج الرجال لا نريد أن نطيل الكلام حول الذين لم يتربوا في المسجد؛ لأنكم سمعتم كثيراً من أخبارهم، لكن المهم: لماذا وصلوا إلى هذا المستوى؟ لأنهم ليسوا من الرجال الذين تربوا في المساجد، فلو تعلقت قلوبهم بالمساجد لأصبحوا رجالاً بكل ما تعنيه الكلمة، ولما كانوا على هذا المستوى. فأين أبناء المساجد؟ وأين الرجال الذين يتربون في المساجد؟ هم موجودون والحمد لله، وهم هؤلاء الشباب الذين تتمثل فيهم الصحوة الإسلامية، ونعتز بهم، والذين هم مثل يحتذى به -والحمد لله- في صلاحهم واستقامتهم؛ هؤلاء هم أبناء المساجد، وهم الرجال الذين يقول الله عز وجل عنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، وإذا أردت أن تجد برهاناً على ما أقول فاذهب إلى ساحة أفغانستان، والله لقد رأيت هذه الساحة فعجبت كثيراً! وقلت: أين ذهبت العصبيات القومية والإقليمية والشعوبية؟ فإنك لا تجد جنسية من جنسيات البلاد الإسلامية إلا وتجدها في تلك الساحة! حتى أبناء النعيم أبناء هذه البلاد ودول الخليج الذين عاشوا بين الثلاجات والمكيفات، والذين كان الناس يظنون أنهم لا يستطيعون تحمل مثل تلك المسئوليات، ووعورة الطريق، وشظف العيش، والحر والبرد، إلى غير ذلك تراهم يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، وإذا أردت دليلاً على ذلك فاسأل الخطوط السعودية: كم يسافر يومياً من هنا إلى أرض أفغانستان؟! سأذكر لكم قصة شاب من هذه البلدة الطيبة -عنيزة- لا يتجاوز عمره العشرين، ذهب إلى هناك، واستبسل حتى استشهد وهو يقول: الله أكبر! فلم يكمل كلمة: الله أكبر حتى جاءته شظية وهو يطوق مطار جلال آباد حتى اقتلعت رأسه! فجاءني أخوه، وظننت أن أخاه سوف يقول لي: كيف غررتم بأخي؟ فإذا به يقول: أبشرك أن أخي استشهد؛ فقلت: الحمد لله رب العالمين. فقال: وأنا سوف أذهب لأستشهد هناك، قلت: لا يا أخي! المصيبة جديدة، انتظر، قال: سأقدم الآن كل ما أملك من مالي في سبيل الله حتى يأذن الله لي بالذهاب لأكون شهيداً هناك. الشاهد أن هذه تربية المساجد، وأما تلك فهي تربية غير المساجد. والله إن من ذهب إلى تلك البلاد يرى العجب العجاب! ويرى شباب المسلمين يتسابقون إلى الحراسة في وقت الثلوج التي يتجمد فيها الإنسان قطعة من الثلج على رءوس الجبال في ظلام الليل بين العدو الحاقد الذي يريد أن يقضي على هذه الأمة لو تمكن من ذلك! ومع ذلك يتسابقون إلى الشهادة وإلى الجهاد وإلى الحراسة؛ لأنهم تربوا في المسجد؛ ولأنهم قد تحملوا هذه المسئولية، وأدركوها من خلال المسجد، فكان ذلك الإيمان -الذي ولد في المسجد وترعرع في المسجد- كما أخبر الله عز وجل: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35]، فمن خلال الزيت الذي أشعل في هذا السراج أصبحوا لا شرقيين ولا غربيين، ولكنهم أمة مسلمة؛ ولذا خاب ظن الذين يظنون أنهم قد وضعوا حواجز سياسية، وطبيعية وإقليمية، وشعوبية، وقومية بين المسلمين، وأنهم قد قطّعوا أوصال المسلمين، وحولوا الأمة الإسلامية إلى دويلات، هؤلاء الذين يظنون أنهم قد غرسوا حب القومية والشعوبية في نفوس هؤلاء الشباب؛ خاب ظنهم وهم يتتبعون أخبار أفغانستان، وكيف ينفر شباب الأمة العربية والإسلامية خفافاً وثقالاً يجاهدون في سبيل الله مع العجم الذين لا تربطهم بهم رابطة نسب ولا رابطة وطن، ولكن تربطهم بهم رابطة الدين والعقيدة. هذا دليل من الواقع، وهذا نموذج من الواقع بالنسبة لرجال المساجد.

رسالة المسجد في عهد السلف

رسالة المسجد في عهد السلف لو رجعنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا ما هو أعجب من ذلك! نجد رجالاً رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وعرفوا رسالة المسجد، لكن رسالة المسجد في أيامنا الحاضرة عند كثير من الناس أن تصلي وتخرج، وإذا تأخرت قليلاً سوف يغلق عليك المسجد، وبعد الصلاة ببضع دقائق تجد المسجد مغلقاً. هذه ليست رسالة المسجد، بل رسالة المسجد أن يكون المسجد قطب رحى الحياة، وأن يكون المسجد كل شيء كما كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية، وكان مجلس شورى، وكان مسجد عبادة، وكان مقر اعتكاف، وكان ملتقىً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كان الرجل من الغرباء يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فيعقل بعيره عند باب المسجد، ثم يدخل فكأنه دخل في قاعدة عسكرية لا يخرج منها إلا وقد علم كل أمور دينه ودنياه، وعرف كيف يحارب عدوه؟ هذا هو المسجد الذي يتربى فيه الرجال؛ ولذلك فإن لنا أملاً في الله عز وجل أن يؤدي المسجد هذه الرسالة، لاسيما ونحن نرى حلق الذكر ومجالس العلم بدأت تعود إلى المساجد. ولو تأملنا في سير السلف من الصحابة ومن بعدهم لرأينا كيف كان أثر المسجد في تخريج الرجال، ولأخذنا درساً لا ينسى من أولئك الرجال الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. فهذا أسامة بن زيد حينما كان عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة، يجهزه الرسول صلى الله عليه وسلم ليقود جيشاً إلى بلاد الشام في أحلك عصور الإسلام وأشدها وأخطرها! وفي هذا الجيش كبار الصحابة كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة! وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير هذا الجيش، ويحقق معجزة في فترة من أشد فترات تاريخ الأمة الإسلامية اضطراباً، وهي أيام الردة.

نماذج من رجال المساجد

نماذج من رجال المساجد خبيب بن عدي رضي الله عنه وقع أسيراً في أيدي المشركين، وفرح المشركون كثيراً حينما وقع خبيب في الأسر؛ لأنهم يريدون أن يتلذذوا ويتمتعوا بقتله، وتقطيع أجزائه، فخرجوا به خارج الحرم -احتراماً للحرم- ونصبوا له المشنقة، فبدءوا يساومونه على دينه، حتى قالوا له: أتود أن محمداً في مكانك هنا؟ قال: والله ما أود أن محمداً في مكانه تصيبه شوكة وأني في أهلي! وفشلت كل مساوماتهم معه، فرفعوه على المشنقة، وصاروا يمزقون جسده تمزيقاً، وهو لا ينصرف عن دينه، وكان يتوجه إلى الله عز وجل في أشد معاناته، ويقول: اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. فهذا نموذج من نماذج رجال المسجد. وهذا قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه كان من القادة في بلاد الشرق، وممن تربى في المسجد، وهو الذي فتح بلاد ما وراء النهر، وهي تشمل الآن مناطق كثيرة من بلاد أفغانستان وجزءاً من روسيا؛ سأل جنوده: أي بلد أمامي الآن؟ قالوا: بلاد الصين، قال: والله لا أرجع إلى بلدي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين، وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وآخذ الجزية! (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، فبلغ الخبر إلى ملك الصين، فأرسل تراباً وصحافاً من ذهب وأموالاً طائلة إلى قتيبة، وقال: هذه صحاف من الذهب فيها تربة يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه هي الجزية كل سنة تصل إلى قتيبة ولا يأتي إلى بلادنا. وهذا عقبة بن نافع بالجهة الغربية كان يسابق الشمس على مطالعها، ويفتح بلاد الله وينشر فيها الإسلام، يقول المؤرخون: لما وصل إلى القيروان، كانت غابة موحشة، وكان كل الفاتحين يرجعون دونها في تونس، فأراد أن يبني مدينة القيروان لتكون مركزاً للعالم الإسلامي في شمال إفريقيا، قيل له: أيها القائد يرحمك الله! هذه أرض يعجز عنها كل الفاتحين، فهي غابات موحشة مأسدة مخيفة، فوقف على حافة الغابة بإيمانه يخاطب الوحوش -مع أن الوحوش لا تفقه كلام الرجال، لكن الله سبحانه وتعالى قد يوقع رعب المؤمنين حتى في قلوب الوحوش- فقال: أيتها الوحوش! نحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لننشر الإسلام هنا، يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها وتخلي الغابة لـ عقبة بن نافع. وبعد أن بنى مدينة القيروان واصل سيره ليقف بقدمي فرسه على المحيط الأطلسي ويقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً من البشر لخضته إليه بفرسي هذه! ثم بعد ذلك يرجع بعد أن أوصل الفتح الإسلامي إلى تلك البلاد. ليس غريباً أن يربي المسجد مثل هؤلاء، ومثل خالد بن الوليد، ومثل أبي عبيدة بن الجراح، وغيرهم من الرجال، كما أنه ليس غريباً أيضاً أن تربي المواخير ودور الدعارة والفساد هؤلاء الذين أصبحوا يقودون أممهم إلى الهاوية وإلى الدمار! إذاً: ليس هناك سبيل إلى صلاح هذه الأمة إلا أن ترجع إلى المسجد، وتربي أبناءها في المسجد، وتعاد للمسجد رسالته التي سلبت منه، ويستعيد مهمته الكبرى التي أنيطت به، وإلا فإن الأمر خطير؛ ولذلك فنحن نتطلع دائماً وأبداً إلى هؤلاء الرجال الذين يقول الله عز وجل عنهم: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37].

أثر الابتعاد عن المسجد

أثر الابتعاد عن المسجد نلقي نظرة عابرة إلى النوع الآخر، فبعد أن عرفنا الرجال وموطنهم، ومواقع وجودهم، وأماكن تربيتهم، ثم عرفنا بعد ذلك المثل الذي ضربه الله عز وجل لهؤلاء؛ ننظر بعد ذلك إلى نوعين من البشر، ليسوا من الرجال، وهذان النوعان أحدهما بحسن نية أو بسوء نية فعل ما فعل، وهو يزعم الإسلام، وهو إما أن يكون منافقاً أو متستراً، وإما أن يكون مرتداً وهو لا يدري أنه مرتد، وإما أن يكون علمانياً يريد أن يجعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ويريد أن يتستر بهذا الدين، فيصلي ويصوم ويحج، لكنه أبعد الناس عن الإسلام، ويطعن في الإسلام وهو يزعم الإسلام: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، أو لعله قد التبس عليه الأمر، فظن أن الدين لا يتعدى المسجد والعبادة، وأن الحياة يجب أن تسير بغير الدين. لقد ضرب الله عز وجل لهؤلاء مثلاً بعد ذكر الرجال ومواطنهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] لهم أعمال صالحة لكنها {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39]. حينما يسير الإنسان في شدة الحر في الصحراء الواسعة المستوية القيعة يرى أمامه إذا عطش شيئاً يتسرب بين السماء والأرض وكأنه واد يسيل ماء، وهو عطشان، ويريد أن يبحث عن الماء؛ فيركض وراء هذا الذي يظنه ماءً وهو ليس بماء وإنما هو سراب، وكلما دنا منه ابتعد هذا السراب حتى يهلك دونه. فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن يظن أنه يحسن صنعاً وهو يسيء صنعاً، وإن من هؤلاء من أحدثوا في دين الله ما لم يشرعه الله، وأصبحوا يعبدون الله على غير بصيرة وعلى غير المنهج القويم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، ويدخلون في هذا الدين البدع التي يسمونها حسنة! فكلما أدخلوا في دين الله بدعة خرجت منه سنة لتحل محلها هذه البدعة؛ لأن المجال محدود، حتى يصل بهم ذلك إلى الشرك بالله عز وجل، فقد عبدت القبور، وطاف بها الناس، وتمسحوا بها، فهؤلاء داخلون في هذه الآية دخولاً أولياً، فتكون أعمالهم: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39]؛ لأن العمل لا يقبل عند الله عز وجل إلا بثلاثة شروط: إيمان، وإخلاص، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ فإن معنى لا إله إلا الله: الإيمان والإخلاص، ومعنى محمد رسول الله: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: هؤلاء الذين يريدون أن يدخلوا في دين الله عز وجل كل ما أعجبهم، الإسلام منهم براء؛ فدين الله كامل قبل أن يأتي هؤلاء منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، آخر آية من القرآن أنزلها الله عز وجل على قول بعض المفسرين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، أما أن يصبح هذا الدين وعاءً يتسع لكل ما أعجب الإنسان من عبادة فلا، يقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، والأصل في العبادات الحظر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

حكم العمل الصالح بدون إيمان

حكم العمل الصالح بدون إيمان هناك نوع آخر من البشر وهم الذين يقول الله عز وجل فيهم: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، يؤدون الطاعات لكن بغير هدف الإيمان، يتصدق أحدهم فيقول: هذه عاطفة، ويساعد الفقير فيقول: هذه إنسانية، وهكذا ويسمون هذه الأشياء بأسماء جذابة، لكن قلوبهم خراب من الإيمان؛ فلذلك أصبحت أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، ولكن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فهذه الأعمال -بالرغم من أنها فاسدة- ما دامت تنفع الناس فلها وزن عند الله عز وجل، لكن وزنها في الدنيا لا في الآخرة؛ ولذلك فإن صاحبها لا يغادر الدنيا حتى يأخذ جزاءه كاملاً، ويقدم على الله عز وجل بدون حسنات، ولذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أي: بعمل الآخرة، {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، أي: في الحياة الدنيا، {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، أي: في الحياة الدنيا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16]؛ لأن العمل غير صحيح؛ فهو غير مقبول، مادمت تنفق بدافع إنسانية، وتنفق بدافع رياء وسمعة؛ وليثني عليك الناس، ولذلك فإن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل شجاع استشهد في سبيل الله، ورجل عالم بذل العلم، ورجل صاحب مال كان ينفق في كل طرق الخير، لكن لما فسدت النية، وفسد القصد؛ صاروا أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي) هناك نوع آخر يعرف أنه يسيء صنعاً، ولا زال يراكم سيئات خلف سيئات، ومظالم وطغياناً وكفراً وترك واجبات، وكلما عن في نفسه معصية من المعاصي فعلها، حتى يصبح كما وصفه الله عز وجل بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]. لو أن واحداً منا نزل في بحر عميق لجي -كثير الماء- ثم كانت هناك أمواج تضرب الماء فتحركه لتخفي ضوء الشمس، وكان فوق هذه الأمواج أمواج ثانية تتضارب فتخفي ضوء الشمس، ثم فوق ذلك سحاب يحول بين الشمس وبين البحر؛ فإن هذا الإنسان في قعر البحر لا يستطيع أن ينظر إلى أقرب الأعضاء إليه وهي يده إذا أخرج يده لم يكد يراها فضلاً عن رؤيتها. هذا المثل ضربه الله عز وجل لأصحاب الكبائر والسيئات والكفر والطغيان، الذين يجعلون حياتهم من أولها إلى آخرها سيئات تتعاقب، ومعاصي وآثاماً وإجراماً يركب بعضها على بعض حتى يصبح هذا القلب مظلماً، فيكون خلاف القلب الذي تربى في المسجد، وخلاف القلب الذي عرف الله عز وجل حق المعرفة، فإذا كان قلب ذلك الإنسان يشبه سراجاً في كوة غير نافذة في الجدار، وعلى السراج زجاجة، والزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد مصباحها من زيتونة ليست بشرقية ولا غربية؛ فيكون القلب مضيئاً، أما ذلك القلب فكأنه يعيش في قعر بحر عميق، فيه أمواج، وفيه ظلمات، وفوق هذا سحب تحجب عنه الشمس، فالفرق بعيد بين هؤلاء وأولئك! أولئك أهل المساجد المؤمنون الصالحون الأتقياء، وهؤلاء الكفرة الفجرة الذين يجدون حسابهم عند الله عز وجل.

قوله سبحانه: (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)

قوله سبحانه: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ختم الله عز وجل هذا المقطع من هذه السورة بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، حتى لا يظن الناس أن النور يكتسب بالذكاء أو يكتسب بالأمجاد، فذاك ابن الأكرمين يجب أن يكون أقرب الناس إلى الله، لا، هذه منة من الله عز وجل، وفضل يعطيه الله عز وجل من يشاء من عباده، وليس في ذلك دليل للجبرية الذين يقولون: الإنسان مجبور على أعماله! لا. فالإنسان له إرادة، لكن مادام الله عز وجل لم يمنح هذا الإنسان نوراً، فلا يمكن أن يحصل على النور، ولو كان ابن الأكرمين، ولو كان من قريش! فهذا النور ما اهتدى إليه أبو جهل، ولا أبو لهب، ولا أبو طالب، واهتدى إليه بلال، وصهيب، وعمار وفقراء المسلمين؛ لأن هذا النور يمنحه الله عز وجل لمن يشاء من عباده؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). المسجد هو قطب رحى الحياة، ومن أراد لنفسه ولذريته الصلاح والاستقامة، ليكونوا رجال المستقبل، وليكونوا بُناة المستقبل المشرق؛ فعليه أن يربيهم في المسجد، في حلق الذكر، ومجالس العلم، حتى يخالطوا الصالحين، ويؤدوا الواجبات. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف وأين يتربى الرجال؟ [2]

كيف وأين يتربى الرجال؟ [2]

ذكر كلمة (رجال) في القرآن الكريم

ذكر كلمة (رجال) في القرآن الكريم Q ذكرتم أن كلمة (رجال) لم ترد في القرآن إلا ثلاث مرات! وذكرتم الآيات، مع العلم بوجود آيات أخرى مثل قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وقوله تعالى أيضاً: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، وغيرها من الآيات! فما تعليقكم؟ A أحسنت! أولاً: آية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} المقصود بالرجال هنا: الذكور، وإن كانت تعطي المعنى الآخر أيضاً؛ لأن الرجل الصحيح هو الذي لا يسلم القوامة لغيره، فأنا نسيت ذكرها. وأما الآية الثانية: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، فقد ذكرتها، وهي الآية الثالثة، وأنا أتراجع عن قولي: إن كلمة (رجال) لم تذكر إلا ثلاث مرات في القرآن، وقد كنت لا أتذكر غيرها. وعلى كل إذا كان قد وردت في القرآن كلمة (رجال) في غير هذه المواضع، أو في الحديث، فهي لا تدل إلا على نوع من الرجال الذين أخذوا هذه الصفة واستغرقوا ما فيها من معنى؛ لأن (أل) في كلمة (الرجال) للاستغراق. وكلمة (رجال) في تلك المواضع الثلاثة في القرآن المراد بها الذين استكملوا صفات الرجال، ولم يكتفوا بالذكورية التي تفرق بين الرجل والمرأة فقط.

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) Q ألم يرد في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ َالأَرْضِ} [النور:35] أي: هادي السماوات والأرض؟ A هناك تفاسير كثيرة، وفي بعض القراءات: (الله نَوَّرَ السماوات والأرض)، ولا أمانع أن يكون المراد به نور الله عز وجل حقيقة، لكن ما تنور به هو موضع الإشكال، مع أن القاعدة: أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور؛ فيكون النور الثاني هو النور الأول، الأول هو: (الله نور السماوات) والثاني هو: (مثل نوره) فالأولى أن يكون قوله: (مثل نوره) يرجع إلى النور الأول لوجود الضمير، والنور الأول يصلح أن يكون لله عز وجل، بمعنى أنه اسم من أسماء الله؛ لأن من أسماء الله عز وجل النور، والثانية لا تصلح؛ لأن فيها تشبيه، والتشبيه لا يليق بجلال الله. وأما قراءة: (الله نَوَّرَ السموات والأرض)، فهي تؤيد أن المراد بالنور: النور المخلوق لا النور الذي هو اسم من أسماء الله عز وجل؛ لأن الله تعالى نورها بهذه الأشياء المضيئة. وعلى كل حال فالمعنيان ذكرهما المفسرون، لكن قوله الله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ) ذكر فيه التشبيه، وقد أشارت إليه الآية الثانية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وبجمع الآية الثانية بالآية الأولى يلزم أن يكون المراد نور الإيمان؛ لأن نور الإيمان يكون في بيوت أذن الله أن ترفع.

صون المساجد عما لا يليق بها من أمور الدنيا

صون المساجد عما لا يليق بها من أمور الدنيا Q كثر الحديث في أمور الدنيا في المساجد، فما توجيهكم؟ A هذا من الخطأ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المساجد: أنها لا تصلح لشيء من ذلك، إنما هي لذكر الله والصلاة والتسبيح، ونحو ذلك، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من علامات الساعة أن ترتفع الأصوات في المساجد، وإذا كانت المساجد موضع حديث الناس في أخذهم، وعطائهم، ومصالحهم، وبيعهم، وشرائهم؛ فإن هذا من الخطأ، ويجب أن تصان المساجد عن كل ما لا يليق بها، كالحديث في أمور الدنيا، ويجب أن تكون كما قال الله عز وجل: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37]، يجب أن تكون المساجد للعبادة، لكن يجب أن تكون المساجد منطلقاً للحياة، بشرط ألا تكون للبيع وللشراء، ولأمور الدنيا. وكما ذكرنا أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مركزاً عسكرياً يدرب فيه الرجال، وكان أيضاً سجنٌ، وكان أيضاً مأوىً لفقراء المسلمين، وكان أيضاً مكاناً لحل كل مشاكل المسلمين، وكان أيضاً مركزاً لحكم الأمة الإسلامية، فقد كان مركز الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المسجد؛ ولذلك فإن العلماء يقولون: يجب أن تصان المساجد من كل ما يشينها، فلا تنشد فيها الأشعار، ولا تنشد فيها الضالة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا وجدنا أحداً ينشد ضالته في المسجد أن نقول له: (لا ردها الله عليك). وأيضاً: يمنع الصبيان الذين لا يتورعون من احترام المساجد من دخولها، كما ورد في الأثر: جنبوا صبيانكم مساجدكم، والمقصود بالصبيان هنا من هم دون التمييز ممن لم يؤمروا بالصلاة، خصوصاً أن الصبي لا يتنزه من نجاسة، ولا يعرف حقيقة النجاسة. واختلف العلماء هل النوم في المسجد يتنافى مع قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]؟ وهناك أدلة تدل على أن النوم في المسجد لا بأس به، كما كان أهل الصفة ليس لهم مكان إلا المسجد، وهناك من يمنع إلا في حال الضرورة والحاجة.

أحوال المجاهدين في أفغانستان والمصادر الموثوقة لتلقي الأخبار

أحوال المجاهدين في أفغانستان والمصادر الموثوقة لتلقي الأخبار Q ما هي المصادر التي نستقي منها الأخبار عن أفغانستان، خاصة ونحن لا نثق ببعض وسائل الإعلام؟ وما هي أوضاع المسلمين في أفغانستان في هذا الوقت؟ حبذا أن تتحدث عن بعض كراماتهم، وبعض ما شاهدت هناك؟ A أولاً: إعلام العالم الإسلامي كله يلام؛ لأنه لم يعط أفغانستان ما تستحق، فإننا نرى أموراً تافهة توضع لها صفحات خاصة، وصفحات أخرى للفن وغيره، وتصل أخبار العالم والسلفادور إلى الناس في كل يوم، لكن أخبار أفغانستان أصبح كثير من المسلمين لا يرى منها إلا القليل، وأخبار مختصرة وفي زوايا خاصة، وهذا خطأ، حيث لم يعط إخواننا الأفغان ما يستحقون من عناية وتعظيم. أما بالنسبة للمصادر التي نعتمد عليها في نقل أخبار إخواننا في أفغانستان فتكاد أن تنحصر في مصدرين: المصدر الأول: المجلات التي يصدرونها هم، وقد بلغت الآن سبع أو ثمان مجلات والحمد لله، وكلها منتشرة في العالم الإسلامي، وتنقل الأحداث بالخبر وبالصورة إلى غير ذلك. المصدر الثاني: الإخوة القادمون من هناك، فإنهم ينقلون الأخبار طرية، وهذا -والحمد لله- يتكرر دائماً وباستمرار. وعلى كل حال فإن قضية أفغانستان قضية كبيرة، وسيعلم الناس نبأها بعد حين! بل قد رأى كثير من الناس آثارها، فلقد أحدثت خللاً في صفوف العدو وفي أنظمتهم وفي أوضاعهم، إخواننا الذين يسكنون في داخل روسيا يبلغون خمسين مليوناً من المسلمين! لم يفكروا أن يأخذوا حريتهم إلا في هذه الأيام، وقد أُعطوا شيئاً من الحرية خوفاً من أن يتحركوا كما تحرك الإخوة الأفغان! لا سيما وأن الحدود إليهم مفتوحة، ولنا إخوة يبلغون مائة مليون في الصين الشعبية، كانوا محرومين من بناء المساجد والمدارس، وما كان لهم أي وزن في هذا العالم، ولم يكن أحد يطالب بحقوقهم، والآن -والحمد لله- بدءوا يبنون المساجد، ويفتحون المداس، ويأخذون شيئاً من حريتهم وإن كان شيئاً قليلاً. أيضاً: ما حدث في فلسطين يعتبر ثمرة ونتيجة مما حدث في أفغانستان. ومن المبشرات أيضاً: أنه من المتوقع حدوث ما هو أكبر من ذلك في إريتريا التي مضت عليها مدة من الزمن في وضع لا تحسد عليه، والجبهات المنحرفة تفعل الأفاعيل في الإريتريين أكبر مما كان يتوقع الإريتريون أن تفعله بهم أثيوبيا الكافرة! وعموماً: فإن قضية أفغانستان لها آثار طيبة إن شاء الله، وستكون الثمرة قيام دولة إسلامية على الجهاد في سبيل الله، يتفيأ ظلالها كل فرد من المسلمين المستضعفين، وكما يلجئون إلى بلادنا هذه الآمنة المطمئنة -ولله الحمد- سوف يلجئون إلى تلك البلاد التي تقوم على الجهاد في سبيل الله. أما الكرامات فأنا لا أريد أن يعتمد الناس عليها، فالمسلم يجب عليه أن يدخل ساحة الجهاد وهو يعرف أنه سيواجه عدواً قد أملى الله سبحانه وتعالى له، وأعطاه من القوة المادية ما قد يفتك به وبغيره -وإن كنا لا ننكر الكرامات- فالكرامات ربما تزيد في مثل هذه الفترة التي طغت فيها المادية، وقلت فيها الروحانية، والكرامات موجودة، لكنا لا نريد استعراض الكرامات التي ذكرها المجاهدون، وألفوا فيها كتباً أو ترد في مجلات المجاهدين، إنما سأذكر لكم كرامة واحدة، وكلكم ترونها وأنتم هنا، وهي أن عدداً قليلاً في عدده وفي سلاحه وفي مستواه الثقافي -بل في كل مستوياته- استطاع أن يدوخ أكبر أمة في التاريخ المعاصر يبلغ سكانها ثلاثمائة مليون لا تصنع إلا آلات الدمار ووسائل القتال!! ولقد رأيت العدو بعيني في ذلك المكان يظهر أنه في الليل مستيقظ يخشى أن يداهمه المجاهدون، فكانت طلقات النار لا تهدأ دقيقة واحدة، فلما سألنا: ما هو السر في ذلك؟ قالوا: يثبتون أنهم صاحون حتى لا يهجم عليهم المجاهدون في سبيل الله، وهذه نعتبرها أكبر كرامة في الحقيقة؛ فمتى كان هذا العدد القليل يفكر أنه سيقضي على أكبر قوة عاتية في الأرض، ما تركت وسيلة من وسائل الدمار إلا واستعملتها في أفغانستان، حتى أنهم استخدموا أسلحة لم يستخدموها في الحروب العالمية، هناك الكمندوز الذين رباهم الروس من أبناء الزنا واللقطاء لم يستعملوهم في الحرب العالمية، واستعملوهم في حرب أفغانستان! وهم قوم كالوحوش لا يعرفون أسرة، ولا يعرفون أباً، ولا أماً، ولا زوجة، ولا أطفالاً، أبوهم الدولة، وقد تربوا على الدماء، ودربوا سنين طويلة على أفتك أنواع الأسلحة، ومع ذلك -والحمد لله- أطاح بهم المجاهدون من أبناء العرب والمسلمين الذي عاشوا هنا وهناك. فهذه تعتبر أكبر كرامة أن تُستذل هذه الدولة التي تزعم زعامة العالم في مثل هذه الأيام، ثم تضعف أمام هذا العدد القليل من هؤلاء الرجال الذي يفقدون أبسط أنواع الأسلحة، والله المستعان!

الجهاد في أفغانستان ليس قائما على المصالح

الجهاد في أفغانستان ليس قائماً على المصالح Q هناك من يقول: إن الجهاد الأفغاني قائم على مصالح، وليس قائماً على الجهاد الإسلامي! ويذكر بعض الإخوة أنه يوجد فئات متشددة في أفغانستان كما تزعم بعض وسائل الإعلام، ومنهم المعتدل، فما رأيكم في ذلك؟ A أولاً: كلمة (مصالح) من يفكر أن في جبال أفغانستان مصالح؟ حتى روسيا حينما تفكر بأفغانستان لا تريد مصالح، وإنما تريد أن تتخذ من أفغانستان جسراً تعبر به إلى الباكستان، ثم تتخذ الباكستان جسراً آخر، وتعبر به لا إلى المياه الدافئة كما يقول بعض المحللين؛ لأن المياه الدافئة ليست هدفاً، الهدف هي هذه المقدسات التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحميها ويحفظها، والله تعالى كشف هذه المؤامرة فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. إذاً: ليس هناك مصالح في أفغانستان، لا للمجاهدين ولا لغير المجاهدين، فهي أرض قاحلة صحراء جبال موحشة مخيفة! ليس فيها أي شيء من هذه المصالح، وإنما هو الجهاد في سبيل الله، ومنذ أمد بعيد، منذ أن انتهت الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا، ما سمعت مثلهم في أفغانستان! ولو كانت القضية قضية مصالح فلماذا يأتي رجل من بلاد المغرب ويقطع آلاف الأميال ليذهب إلى أفغانستان، وكذلك من الدول الأخرى مثل دول الخليج وغيرها من دول الرخاء؟ فليست المصالح موجودة هناك، بل إنهم يتركون المصالح ويذهبون إلى هناك، فترى الشباب يتسابقون إلى الشهادة. وبالنسبة للأفغان أنفسهم فليست لهم مصالح، ولو أرادوا أن يعيشوا في باكستان أو في أي دولة إسلامية لعاشوا مرفوعي الرءوس؛ لأن أكثرهم عندهم إمكانات ثقافية تؤهلهم للعيش كما يعيش سائر الناس. إذاً: ليس هناك مصالح سوى السعي لرضا الله عز وجل، وكسب الشهادة، وإقامة الدولة الإسلامية، وليست هناك مصلحة أخرى، ومن ظن غير ذلك فإما أن يكون جاهلاً أو هو عدو للإسلام!! أما بالنسبة لوجود أطراف مختلفة، فنعم! هناك أطراف مختلفة، فهناك السلفيون في الدرجة الأولى، وهناك أناس لا نرضى عن شيء من سلوكهم بالنسبة للعقيدة، وهناك أناس كثيرون معتدلون. وعلى كل حال: فإن كل هذه الأطراف لا تتهم أبداً، فكلها تسعى لتحارب كفراً وإلحاداً؛ لأن العدو المشترك يقول: لا إله والحياة مادة، وما دام العدو بهذا المستوى فنحن نتغافل عن بعض الأشياء ولا ننساها ونتركها، ولكن نقول: لربما تستقر الدولة الإسلامية -إن شاء الله تعالى- فيتفقد كل إنسان أحواله، وإن كنا نتمنى أن يبدأ السير من أول نقطة على منهج كتاب الله وسنة رسوله، لكن هذا هو ما نرجوه فيما بينهم.

واجب المسلمين تجاه إخوانهم في فلسطين

واجب المسلمين تجاه إخوانهم في فلسطين Q ما واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في فلسطين؟ ونرجو أن تحدثنا عن جهادهم بشكل مختصر؟ A في الحقيقية: ليست كابل بأحب إلينا من القدس! ولا أحد ينكر ذلك، وقد يظن البعض حينما نكثر الكلام عن أفغانستان ولا نتحدث عن القدس أن عندنا شيئاً من التحيز. والواقع أن ما حدث في أفغانستان شد انتباه الناس، وما حدث في فلسطين في السنين الأخيرة، هو ثمرة من ثمرات الجهاد الأفغاني فلا أحد ينكر ذلك، والجهاد الذي قام الآن في إريتريا هو ثمرة من ثمرات الجهاد في أفغانستان، وستكون هناك ثمار كثيرة إن شاء الله. الجهاد الفلسطيني جهاد مقدس، ويجب أن يكون له موقع عظيم في قلوبنا قبل أي مكان آخر؛ لأن هذه هي الأرض التي بارك الله عز وجل فيها، وهي مهبط الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان إخواننا الفلسطينيون لا يملكون القاعدة والمنطلق، ولا يستطيعون أن يحملوا السلاح بحرية كاملة، فلا ندري كيف يستطيعون قتال عدوهم بالحجارة، والعدو يملك أكبر وسائل الدمار والحرب! لكنا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفيق إخوانهم المسلمون المجاورون لهم، فيعطوهم المكان والمنطلق؛ ليفعلوا كما فعل إخواننا في أفغانستان.

الجهاد في إرتيريا

الجهاد في إرتيريا Q ماذا عن الجهاد في إريتريا، نرجو أن تحدثنا عن بوادر هذا الجهاد، وعن منطلقه الإسلامي؟ A في الواقع أن إريتريا بالرغم من قربها منا، إلا أننا نجهل كثيراً من أوضاعها، والذي أعرفه -فقط- عن إريتريا: أنها دولة صغيرة، ضعيفة، هزيلة، استضعفتها أثيوبيا فاستولت عليها لتكون وسيلة لوصولها إلى البحر الأحمر! ومنذ قرابة ثلاثين عاماً وهي تعيش تحت الحكم الإثيوبي والاستعمار الكافر، نام المسلمون وتركوا هذا الأمر مدة طويلة من الزمن! فقام مجموعة من النصارى وغيرهم من أشباههم، وكونوا ما يسمى بالجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية نسمع عنها أخباراً لا تسر الصديق. وكانت هناك دول ساهمت في ذلك كإريتريا والعراق وغيرها من الدول التي أرسلت جماعات، وما ندري ما نقول عن هذه الجماعات، المهم أن علماء المسلمين من إريتريا والصالحين والأتقياء تنبهوا إلى أن قضية إريتريا لا يحلها إلا الإسلام، ولا يقضي على العدو إلا الإسلام، فعلمت أخيراً أن علماء المسلمين تجمعوا في بعض البلاد المجاورة هناك -كالسودان وغيرها- وقد بدءوا يفكرون في إعلان الجهاد في سبيل الله، وهم الآن يستأذنون من الدول التي يعيشون فيها لتسمح لهم بالجهاد في سبيل الله، ولو قام الجهاد في سبيل الله لحلت المشكلة إن شاء الله.

التوفيق بين التربية داخل المسجد واحتياجات العصر

التوفيق بين التربية داخل المسجد واحتياجات العصر Q كيف تكون التربية داخل المسجد؟ وهل هي في حضور الجماعات أم ماذا؟ وكيف يكون ذلك والعالم الإسلامي يحتاج الآن إلى معارف وعلوم شتى لا يمكن أن تكون داخل المسجد؟ وأنتم قد ذكرتم أن السلف تربوا داخل المسجد ونشروا الإسلام من داخل المسجد؟ A المسجد من أوله إلى آخره مركز تربية؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نختار السن المناسبة لتربية الطفل، وهي التي ذكر علماء التربية أنها من سن السابعة، فنأمره بالصلاة، ومعنى ذلك أننا نذهب به إلى المسجد ليتربى هناك، والمسجد سواء كان في حضور صلاة الجماعة، أو في اللقاء بالصالحين، أو في تلاوة وتعلم القرآن، أو في التسبيح ومعرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، أو في حلق الذكر ومجالس العلم، فهذا كله يعتبر تربية. ونحن حينما نتحدث عن التربية في المسجد لا نريد أن نحصر العلوم كلها في المسجد، وإن كنا نتمنى أن يكون المسجد منطلقاً لكل علوم الإسلام وعلوم الدين والدنيا، لكنا نقول في أيامنا الحاضرة: لا يلزم أن يكون المسجد وحده هو المنطلق، بل يجب أن يكون هو المنطلق الأول! ونحن لا نقول للناس: ابقوا في المسجد، واتركوا طلب العلم، والكسب، والتحصيل، ولكنا نقول: خذوا من المسجد بالنصيب الأكبر، ونافسوا الناس على أمور الدنيا بحدود، وادخلوا الكليات العلمية: كالطب، والهندسة، وغير ذلك، لكن يجب أن تكون قلوبكم معلقة بالمساجد دائماً، واحذروا أن تضيعوا صلاة من الصلوات الخمس في المسجد؛ لتكون تربيتكم مرتبطة بهذا المسجد، أما أن نقول للناس: يجب أن تكون الجامعات والكليات كلها داخل المساجد، فهذا لا يلزم، وإنما الذي يلزم هو أن يكون للمسجد أوفر نصيب، أما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت هناك دور للعلم سوى المساجد، فكان المسجد يؤدي الدور الكامل، سواء من ناحية التربية العسكرية، أو التربية الدينية، أو ما أشبه ذلك. المهم! أن المسجد له دور عظيم، ودوره ما زال باقياً، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لا يمنع أن يساهم الإنسان في أي جانب من جوانب الحياة الأخرى.

خطر انتشار اللهجة العامية وترك اللغة العربية

خطر انتشار اللهجة العامية وترك اللغة العربية Q زادت في العشرين السنة الماضية الكتابة والنشر في الصحف والمجلات العامة وغيرها باللهجة العامية في المملكة، واليوم يعقد لها ندوات ومحاضرات، فما أثر هذا على الإسلام؟ A هذا خطير على الإسلام؛ لأن محاربة اللغة العربية تعتبر محاربة للإسلام، واللغة العربية هي لغة القرآن، ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب الذين بلغوا دعوة الإسلام إلى العالم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، وطالب الله عز وجل العرب -بصفة خاصة- والمسلمين -بصفة عامة- أن يبلغوا دعوة الإسلام، وأعداء الإسلام الذين يطعنون في الإسلام لا يتركون جانباً من جوانب حرب الإسلام إلا ويتطرقون له، ويأخذون منه بنصيب، فكان من أهم الجوانب التي دعوا إليها الشعر الحر! والدعوة إلى العامية، وما أشبه ذلك. وليس عجيباً أن تعقد لها مؤتمرات وندوات، والشعر الحر يجد رواجاً، ويحمل رموزاً تنذر بخطر، فإن خلال الرماد وميض نار، وعلى هذا أقول: إن محاربة اللغة العربية يعتبر محاربة للإسلام، وإن الدعوة إلى العامية تعتبر محاربة للغة العربية، والله المستعان.

دين الإسلام شامل لجميع جوانب الحياة

دين الإسلام شامل لجميع جوانب الحياة Q ما هو الرد على هذا التساؤل: المتدينون في أغلبهم درجوا على جعل الإسلام عاماً لجميع جوانب الحياة والحضارة، وهذا أدى إلى الطعن في الإسلام من قبل الكفار والمنافقين؟ A دين الإسلام دين عالمي، ومنهجه منهج حياة متكاملة، يقول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]. ولذلك فإن دين الإسلام دين عالمي حضاري، فيه: منهج حياة، واقتصاد، وسياسة، وأخلاق، واجتماع، إلى غير ذلك، فقد ربى أمة فهمت هذا كله من الإسلام، ثم درج المسلمون على ذلك مدة طويلة من الزمن، ويعتبرون الإسلام هو مصدر الحضارة، والقرآن هو مصدر الرقي والتقدم، ولم يطرقوا جانباً من جوانب الحياة إلا بهدي من كتاب الله عز وجل، والله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: للطريقة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. هذا فهم المسلمين في القديم وفي الحديث، ثم أراد أعداء الإسلام أن يطعنوا في الإسلام ويفصلوا الإسلام عن الحياة، وجاءوا بما يسمونه بالعلمانية التي يقولون فيها: ما لله لله وما لقيصر لقيصر! هذه كلمة قيلت قبل الإسلام، لكنها لا تصلح للإسلام؛ لأن الإسلام منهج حياة متكاملة، يقول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فليس هناك شيء لله وشيء لقيصر، بل الأمر كله لله عز وجل، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، وعلى هذا نقول: إن الدعوى التي تزعم أن توسيع مسئولية الإسلام هي التي سببت الطعن في الإسلام أو الخروج عن الإسلام باعتبار أنه تعدى الحدود! دعوى خاطئة. نقول: لا، فهذه كلها في حدود الإسلام، والله عز وجل هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن القوانين والأنظمة، وسأضرب لكم مثلاً: هناك آيات في القرآن تتحدث عن العبادات ثم تتحدث عن العشرة الزوجية وأنظمة الحياة، كما تجدونها في آخر الجزء الثاني من سورة البقرة، حيث ذكر الله تعالى العبادات ثم ذكر بعدها الأنظمة، ثم يذكر العبادات، ثم يعود مرة أخرى إلى الأنظمة، ليعلم الناس أن الإسلام نظام حياة، حينما يتكلم عن العلاقات الزوجية يقول الله تعالى بعد ذلك: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:238 - 239]، إلى غير ذلك، ثم يذكر الله عز وجل مرة أخرى أحكام العلاقات الإنسانية. وهناك آية في القرآن قسمت إلى ثلاثة أقسام، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، وآخر الآية: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]. فهذه الآية أول ما نزل أولها، ثم نزل بعد ذلك آخر جزء منها: (فَمَنْ اضْطُرَّ)، وأما وسط هذه الآية فإنه نزل في آخر ما نزل من الإسلام في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تشطر تلك الآية وتوضع هذه الآية في وسطها؛ حتى يعلم الناس أن الإسلام ليس منهج عبادة فقط، بل هو منهج حياة متكاملة، ولذلك جمع بين العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق والأنظمة، وعلى هذا نقول للذين يزعمون أن توسيع دائرة الإسلام هو الذي أدى إلى ضياع بعض المسلمين، وانحرافهم عن الدين: ليس الأمر كذلك، بل هذا هو الذي زاد المسلمين ثقة بدينهم وبربهم وبكتاب ربهم سبحانه وتعالى، أما الذي حرفهم عن التمسك بالدين فهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.

نبذة عن حياة الشيخ عبد الله الجلالي

نبذة عن حياة الشيخ عبد الله الجلالي Q هلا ذكرتم لنا نبذة مختصرة عن حياتكم؟ A أنا أخوكم: عبد الله الجلالي، تخرجت من كلية الشريعة في عام (1381هـ)، ودرست في المعاهد العلمية، ودرست بعض الدراسات العليا في الأزهر، وكنت أدرس في السنوات الماضية في جامعة الإمام، لكن هذه السنة ما سمحوا لي، وما أدري ما هو السبب؟!

موقف الإسلام من العلمانية

موقف الإسلام من العلمانية Q تحدثت قبل قليل عن العلمانية، فما موقفنا منهم؟ A موقفنا منهم العداء، فهؤلاء العلمانيون هم أعداء دين الله عز وجل؛ لأنهم يريدون أن يحصروا الدين في المسجد، ولا يخرجوه للحياة، ويقولون: الدين يجب أن يبقى في المسجد، ويدير الحياة الدينية فقط، ويقال: هذا مطوع، أو هذا من رجال الدين -كما هو حال النصارى- وإلى غير ذلك. وإذا أراد الإنسان الخروج عن هذا النطاق اعتبروه متعدياً للحدود، فهؤلاء هم أعداء الله عز وجل، وهؤلاء اتهموا دين الله بأنه دين قاصر لا يصلح للحياة، ونشأ عن ذلك شرع القوانين الوضعية التي صاروا يحكّمون فيها البشر؛ لأنهم يرون أن شرع الله لا يصلح إلا في عهد الخيمة والبعير، أما في عهد الطائرة والصاروخ والمركبة الفضائية إل، فلا يصلح هذا الدين، ويقولون: قد استنفد أغراضه، فهؤلاء لم يتركوا الدين حتى في المسجد، فلما حصرهم المسجد بدءوا يطاردونه داخل المسجد. وعلى كل حال نقول: يجب أن يكون موقفنا منهم أنهم مرتدون؛ لأنهم يرون أن شرع الله لا يصلح للحياة، ويرون أن شرع الله لا يمكن أن يتدخل في أمور الدنيا، وأن شرع الله قاصر وحكم الله لا يصلح لحل مشاكل البشر!! والله تعالى حكم عليهم بالردة والكفر فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وقال في سورة النور: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50]، فهؤلاء الذين لم يريدوا لشرع الله عز وجل أن يخرج من المسجد، بل لا يريدونه أن يبقى حتى في المسجد؛ مرتدون، ولا يجوز أن نعتبرهم في حساب المسلمين، وكلمة علمانية في بعض الأحيان يلطفونها، لكنهم يكلون كل شيء للعلم، أما دين الله عز وجل فإنه يجب أن يكون خاصاً بالطقوس والتعبدات والسلوك والأخلاق والفضائل! ولذلك لا يسمح العلمانيون للخطيب أو المتحدث أن يتحدث في أمور الدين في بعض الدول الإسلامية التي تبنت العلمانية، وسأضرب لكم مثلاً في واحدة منها: أندونيسيا كادت أن تحكمها الشيوعية فترة من الزمن ثم تغيرت المعايير، فحكمها نوع آخر من الكفر وهو العلمانية، ولو ذهبت إلى أندونيسيا لرأيت العجب العجاب! تخرج إلى الشارع فترى الأمة متفسخة منحلة! ثم تدخل إلى المسجد فترى هذه الأمة المتفسخة تدخل المسجد، وتصلي النساء في مساجد خاصة في مؤخر المساجد، ثم تخرج هذه الأمة إلى الشارع فتعود إلى تفسخها وإلى خلاعتها، والله يعلم ما وراء ذلك. فهذه كلها من نتائج العلمانية، ولذلك أقول: إن دين الله عز وجل دين كامل لا يهمل أي جانب من جوانب الحياة كما قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فما دامت هذه الأشياء داخل السماوات والأرض؛ فيجب أن يكون الحكم فيها لله، ويجب أن يكون التصرف فيها لله عز وجل، فالعلمانية مرفوضة شرعاً وعقلاً.

حكم لبس خاتم الفضة

حكم لبس خاتم الفضة Q هل يجوز لبس خاتم الفضة؟ A لبسه جائز، بل هو أقرب ما يكون إلى السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، وإذا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم -وإن كان فقط من عاداته الخاصة لا من التعبدات- فهو أقرب إلى السنة منه إلى الجواز، أما خاتم الذهب فهو محرم بلا خلاف بين العلماء، وقد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمرة يضعها الإنسان في يده، وخاتم الذهب يستعمله الآن بعض الرجال، وأنا أحذر هؤلاء من هذا العمل.

متى يجوز الجمع والقصر للمسافر؟

متى يجوز الجمع والقصر للمسافر؟ Q من خرج من مدينته يريد النزهة خارج المدينة لمدة ثلاثة أيام، وعلى بعد ثمانين كيلو متر، فهل يجوز له جمع الصلاة وقصرها؟ A الشرع لم يحدد مدة في السفر، ولا حدد مسافة، والعلماء اختلفوا في المسافة، لكن الذي يظهر أنه ليست هناك مسافة محددة، فله أن يقصر إذا لم ينو الإقامة الطويلة، فإن بعض العلماء يرى أن ما يسمى سفراً عرفاً يعطى حكم السفر دون أن يحدده بالمسافة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد بالمسافة ولا بالوقت، فنعرف حد السفر بحسب العرف بين الناس، فإذا كان يعتبر عند الناس سفراً فإنه يأخذ كل أحكام السفر من الفطر والقصر والجمع والمسح على الخفين لمدة ثلاثة أيام إلى غير ذلك. أما الجمع فيرى بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع إلا إذا كان على ظهر مسير؛ لأن الجمع من أجل التيسير للمسافر بدل أن ينزل مرتين ليصلي الظهر والعصر، ينزل مرة واحدة فيصليهما جميعاً في آن واحد، فالأحوط ألا يجمع الإنسان وإن كان يقصر، إلا إذا كان ماشياً في الطريق.

الإسلام منهج حياة متكاملة

الإسلام منهج حياة متكاملة Q الحركات الدينية حولت الدين إلى فكر سياسي أيديولوجي من خلال الطرح لعدد من الآراء والأفكار من قبل بعض الكتاب من أمثال: سيد قطب، والمودودي، والنبهاني وغيرهم، فطرح هؤلاء أفكاراً في: السياسة، والاقتصاد، والاجتماع وغيرها، ووضعوا الحدود والفواصل بين النساء والرجال، وانطلاقاً من أن هذه الأفكار لا تعدو كونها مجرد اجتهادات شخصية من هذا وذاك، أفلا يحق لكل ذي رأي مناقشة هذه الآراء والأفكار من أجل تقويمها؟ A نعم يحق لأي إنسان ذلك، لكن الحقيقة أن دين الإسلام دين حركي وليس ديناً خاملاً، وعلى هذا نقول: إن الإسلام منهج سياسة واقتصاد وأخلاق، وليس عجيباً أن يتجه المودودي، والندوي، وسيد قطب، وكل هؤلاء يرحمهم الله تعالى ليبينوا للناس أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأن الإسلام يرفض كل حكم غير حكم الله عز وجل، ويرفض كل حاكم لا يحكم بشرع الله عز وجل، هذا هو منهج الإسلام الصحيح، وهؤلاء لم يجتهدوا من عند أنفسهم، وإنما أخذوا هذا المسار وهذا المنهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومعاملاته للناس، فالقرآن منهج سياسة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]، ومنهج شورى، ومنهج حياة، والإسلام منهج اقتصاد: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]، فشرع الزكاة، وشرع الواجبات، وحدد طرقاً مباحة لكسب المال، وحرم الطرق المضرة، والإسلام منهج أخلاق وفضيلة، واقرءوا إن شئتم سورة النور في نصفها الأول وستجدون كيف اهتم الإسلام بالأخلاق الفاضلة. والإسلام نظام اجتماعي عالمي لا يساويه أي نظام، واقرءوا ما ورد من حقوق الوالدين وصلة الرحم وحقوق الجوار إلى غير ذلك، وبعد ذلك كله، هل يليق بأي واحد من الناس أن يظن أن الإسلام ليس منهج حياة متكاملة؟! هؤلاء الكتاب الذين أبرزوا صورة الإسلام الحقيقية يعتبرون قد اجتهدوا أو سلكوا مسلكاً أيديولوجياً كما يقال، والناس والعلماء يختلفون على مستويات متعددة ومختلفة في فهم حقيقة الإسلام، وهؤلاء يعتقد أنهم عاشوا في فترة بين الجاهلية والإيمان، وهذه الفترة استطاعت أن تعطيهم هذه الدروس، فهم عاشوا في فترة بين أمتين، وعاشوا مخضرمين بين الفترة التي نشأت فيها القوانين والأنظمة، وتمرد فيها كثير من الناس على شرع الله عز وجل، فكانوا -بحق- مجتهدين، لكنهم مجتهدون بمقدار ما فهموا من كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نقول: الإسلام دين حركي، ومنهج حياة متكاملة، ومن ظن غير ذلك فإن عليه أن يراجع فهمه أو إيمانه.

خطر القنوات ووسائل الإعلام على تربية الناشئة

خطر القنوات ووسائل الإعلام على تربية الناشئة Q ماذا عن تربية الأبناء في ظل هذا الإعلام؟ وما رأيكم فيما سمع عن نية إطلاق قمر صناعي يبث في الخليج وغيرها من المناطق؟ A الحقيقة أن العلم الحديث جر آثاراً سيئة بمقدار ما جاء بحسنات، فالعلم الذي نقل الأفكار من الشرق إلى الغرب بواسطة التسجيل والمذياع والوسائل الأخرى، هو الذي جاء أيضاً بهذه الوسائل التي لها أخطار كبيرة على الناشئة، بل إنه أحدث ازدواجية في نفوس طائفة من الشباب والأطفال الذين لا يدرون أيصدقون ما يجدون من اللهو واللعب بجوار ما يسمعون من الخير والحكمة؟! أهذا المقصود أم ذاك؟! ولربما يخرج هذا الطفل وهو لا يميز بين النافع والضار، والحلال والحرام، والخطر والمفيد. وعلى كل حال فإن وسائل الإعلام أخطارها معروفة، لأنكم أدركتموها، ودور كل واحد منا أن يتقي الله عز وجل في أمانته، وأن يحول بين أهله وذريته وبين الوسائل التي أصبحت تجر كثيراً من الأخطار على الناشئة. أما بالنسبة للقمر الصناعي فهو سيأتي بجديد من الأخطار بلا شك، لكننا نقول من جهة أخرى: وسائل النقل التي تنقل الناس أصبحت الآن متوافرة، وتصوروا كم نسافر يومياً من البلاد الإسلامية المحافظة إلى البلاد التي لا ترعى إلاً ولا ذمة في دين الله، آلاف الشباب يومياً يسافرون؛ حتى انتشرت المخدرات والمحرمات بسبب هؤلاء، ولربما انتقل شيء من الأمراض والأوبئة التي جاءوا بها من تلك البلاد. المهم أن هذا سيضيف شيئاً جديداً، بحيث يصبح الإنسان الذي كان لا يشاهد من وسائل الإعلام إلا ما يخضع لشيء من الرقابة، التي ما أدت دورها، سوف يأتي يوم من الأيام وبإمكانه أن يشاهد كل شيء، والسبيل للنجاة لا يخلو من أحد أمرين: الأمر الأول: هو الحق، الثاني: فيه بعض الحل للمشكلة. أما الأول: فهو أن يكون المؤمن قوياً في شخصيته، يحرس بيته وأهله وأسرته بالإيمان، ولا يسمح لأي شر أن يتسرب إلى بيته. أما الشيء الآخر: فهو -على الأقل- أن يراقب هذه الأشياء، وأن يحاول أن يخفف من مصائبها لعل الله سبحانه وتعالى أن يقيه من هذه الفتن. 0 وأول ذلك وآخره هو أن نربي الناشئة على طاعة الله عز وجل؛ حتى يستطيعوا أن يعرفوا النافع من الضار، إضافة إلى ما نقدمه من الحيلولة بينهم وبين هذه الوسائل القديمة أو الجديدة.

معنى قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن)

معنى قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) Q قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، هل معناها: الأمر بالحجاب، وأن كشف الوجه للمرأة غير جائز؟ A انقسم العلماء في فهم هذه الآية على فريقين: بعضهم يقولون بوجوب الحجاب كاملاً، وأنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها ولا يديها، وهذا يمثل رأياً لبعض العلماء. يقول بعضهم: تدني الحجاب على وجهها فلا يظهر شيء من ذلك، وبعضهم استثنى عيناً واحدة لتنظر فيها، وهؤلاء لهم مأخذ من هذه الآية، لكن الآية الأخرى أوضح استدلالاً، وهي قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] قالوا: إن الخمار -وهو ما يغطى به الرأس- لا يمكن أن يصل إلى الجيب إلا ماراً بالوجه. والرأي الآخر يرى أنه لا بأس بكشف الوجه والكفين، وهو رأي طائفة من العلماء، إلا أنهم مجمعون -الأولون والآخرون- على أن كشف الوجه واليدين إذا كان يؤدي إلى الفتنة فإن ذلك لا يجوز، والفتنة لا شك أنها موجودة؛ لأن الوجه هو موضع الفتنة، وعلى هذا يكاد يكون العلماء متفقين على تغطية الوجه؛ لأن الفتنة ستلازم كشف الوجه. والذين يقولون بعدم تغطية الوجه يقولون في معنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: تدني من الجانب الأيمن فتغطي شيئاً من الخد، ومن الجانب الأيسر فتغطي شيئاً من الخد، ولا يمنع أن يخرج شيء من الوجه؛ لأن الله تعالى ما قال: تحتجب وإنما قال: يدنين، والإدناء معناه: التقريب لا التغطية. على كل حال، هذا مأخذ بعيد، والأدلة كثيرة على تغطية الوجه والكفين، وأن المرأة لا يجوز أن يرى منها أي شيء من بدنها، وعلماء المسلمين أجمعوا على أنه في حال الفتنة لا يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من وجهها، والفتنة تلازم الوجه؛ لأن الوجه هو موضع الفتنة، فالعينان والأنف والفم والخدان وكل مراكز الجمال تتجسد وتجتمع في الوجه. وعلى كلٍ فإن الاحتياط واجب، بل هو الأمر اللازم، وهو الحجاب الكامل، وهو حجاب المرأة المسلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يأتي نساء في آخر الزمان كاسيات عاريات، ومعنى كاسيات عاريات أي: تخرج شيئاً من بدنها وإن كانت قد كست شيئاً من جسدها، والحجاب هو الذي يعلم المرأة الحياء، والحياء هو خلق هذه الأمة كما جاء في الحديث: (إن لكل أمة خلقاً، وإن خلق هذه الأمة الحياء) والمرأة إذا أخرجت وجهها تعتبر هذه هي المرحلة الأولى بالنسبة لما سيحدث بعدها، فبإخراج الوجه يخرج ما بعده، ويقل الحياء، فلربما تكشف عن شعرها بعد ذلك، أو عن نحرها، أو عن ذراعيها، أو عن ساقيها، وهذا هو ما حدث بالفعل، فإن العالم الإسلامي ما انتشر فيه هذا التبرج إلا بعد ما كشفت المرأة وجهها، والذين يطالبون المرأة بكشف الوجه لا أظن أنهم سوف يقفون عند هذا الحد، بل إنهم يعتبرون هذا هو المرحلة الأولى، والخطوة التي يبدءون وينطلقون منها. والله المستعان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اتقوا ربكم

اتقوا ربكم شرع الله عز وجل للناس شرائع، وحد لهم حدوداً، وعظم سبحانه تلك الشرائع والحدود، وأمر باحترامها والمحافظة عليها، وتوعد من تعداها بالوعيد الشديد، كما شرع الله سبحانه وتعالى التوبة لمن تعدى شيئاً من هذه الحدود، وبين شروط ومقومات هذه التوبة.

تعظيم حدود الله وشرائعه

تعظيم حدود الله وشرائعه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! هذه هي الحلقة الثانية من سورة النساء، ابتداءً من قول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] إلى آخر الثمن. وقد تبين لنا من حدود الله عز وجل في الثمن الأول من هذه السورة أمور عظيمة هي من حدود الله سبحانه وتعالى التي أمر الله سبحانه وتعالى باحترامها والمحافظة عليها في هذه الآية، من تلك الحدود: صلة الرحم، والمحافظة على حقوق الأيتام، وحقوق النساء ومهورهن؛ حتى لا يتلاعب بهن الإنسان، ومن تلك الحدود: احترام تشريع الله عز وجل حينما أباح للرجل أكثر من زوجة؛ محافظة على المجتمع من الانهيار والفساد والتفكك، ومن حدود الله عز وجل: حفظ أموال الناس وأموال الدولة؛ بحيث لا تصبح بأيدي السفهاء يتلاعبون بها، وذلك في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، ومن حدود الله: أحكام المواريث التي لم نتعرض لها؛ لأنها تحتاج إلى بحث خاص. هذه الحدود عظمها الله عز وجل فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء:13]، والإشارة بالتاء مع اللام -لام البعد- مع كاف الخطاب يدل على عظمة المشار إليه وعلى أهميته. والحدود معناها: الحواجز، أي: الأمور العظام التي وضعت حاجزاً أمام النفس البشرية لا تتعداها؛ لأنها من أوامر الله سبحانه وتعالى. ثم أخبر الله عز وجل أن هذه الحدود من التزم بها، ووقف عندها، ولم يتعداها؛ فإنه مطيع لله ولرسوله، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]؛ فالذين يتبعون حدود الله وأوامره، ويقفون عند نواهيه، ويلتزمون بحدوده فلا يتعدونها، ويعصون في ذلك نفوسهم والشيطان، ويطيعون أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، هم الذين يستحقون هذه الجنة التي تجري من تحتها الأنهار. أما النوع الثاني: فهم الذين يريدون أن يتجاوزوا حدود الله في مثل هذه الأوامر وغيرها؛ فيقطعون الرحم، ويعترضون على حكم الله عز وجل الذي أباح للرجل أربع نساء، أو لا يقفون عند حدود الله في معاملة النساء والعدل بينهن، أو لا يقفون عند حدود الله في حقوق اليتامى، أو الأموال، أو المواريث، فيقول الله عز وجل عن هؤلاء: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14]، هذه هي عقوبة الذي يتعدى حدود الله، وتلك للذين يلتزمون بحدود الله ويقفون عندها.

حد الزنا وأحكامه في الإسلام

حد الزنا وأحكامه في الإسلام ذكر الله عز وجل بعد ذلك شيئاً من الحدود، بعد أن أمر بالالتزام والوقوف عند حدوده سبحانه وتعالى، فذكر أمر النساء اللاتي يقعن في الفاحشة، فكما عظم الله عز وجل أمر النساء، وأمر بعشرتهن، والإحسان إليهن، وإتيانهن حقوقهن، هنا عظم الفاحشة وهي: فاحشة الزنا، والعجيب أن أمور الزنا والفواحش دائماً يبدأ فيها بالنساء قبل الرجال، وليست الفاحشة مقصورة على المرأة؛ بل لا تكون إلا بين الرجل والمرأة، ولكن لما كانت المرأة أعظم شناعة، وأشد قبحاً، وأعظم خطراً؛ فإن الله تعالى يقدم في مثل هذه الأمور المرأة على الرجل، كما قدمها في سورة النور في قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فقدم الزانية على الزاني، وهنا قدم حكم النساء أيضاً على حكم الرجال فقال سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15].

حد الزنا المنسوخ

حد الزنا المنسوخ وهذه من الآيات المنسوخة حكماً، فقد كان في أول الإسلام وقبل أن تنزل الحدود، وقبل أن تشرع، بما في ذلك حد الزنا الذي يقول الله عز وجل عنه في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ويقول في سورة الأحزاب في آية منسوخة اللفظ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وهناك أحاديث صحيحة وردت برجم الزاني المحصن، وجلد وتغريب الزاني والزانية غير المحصنين، فقبل أن ينزل ذلكم الحكم كان الأمر كما ذكر الله عز وجل هنا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15]، والمراد بالفاحشة هنا: فاحشة الزنا على رأي جمهور علماء التفسير، وإن كانت قد فسرت عند طائفة منهم بفاحشة الخطأ، أي: الفحش في القول بالنسبة لمعاملة الرجل للمرأة، لكن الفاحشة حينما تذكر مطلقة إنما يراد بها فاحشة الزنا، ويؤيدها الحديث الذي سوف نذكره إن شاء الله. إذاً: المراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا، وهذا في أول الإسلام، فقد أمر الله عز وجل أن نستشهد على المرأة إذا وجدناها تمارس فاحشة الزنا أربعة من الشهود، وإن كان قد نسخ لفظ هذه الآية وحكمها، لكنه بقي الاحتفاظ بالشهود الأربعة، فنجد هنا الأربعة الشهود، ونجد في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ثم يذكر الله عز وجل الأربعة الشهود: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. ثم يذكر بعد ذلك آية الملاعنة؛ حيث خفف الله عز وجل عن الزوج حينما يشك في صلاح زوجته واستقامتها، وحينما يجد عندها -نسأل الله العافية والسلامة- رجلاً في فعل الحرام؛ فإنه يكلف بأربعة أيمان بدل أربعة شهود، وعلى هذا فإن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون شهادة واضحة على فعل الرجل أو فعل المرأة الفاحشة، وحينئذٍ يقام الحد. ويكفي عن هؤلاء الشهود الأربعة أربعة اعترافات، كما حصل من ماعز بن مالك رضي الله عنه حين وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قالها ثانيةً، وثالثة، حتى إذا كررها في الرابعة قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ هل فعلت كذا) إلخ، ثم أقام عليه الحد. وهنا ذكر الله عز وجل حتى في الآية المنسوخة أن الحكم يكون بأربعة شهود، فقال: (فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، أي: أربعة شهود عدول، و (منكم) الضمير يعود إلى المسلمين، وعلى هذا فإنها لا تقبل شهادة الكافر، كما لا تقبل شهادة الفاسق؛ فالكافر لا تقبل شهادته في حدود الله عز وجل، كما أن الفاسق الذي عرف منه فسق وتعدٍ لحدود الله عز وجل لا تقبل شهادته، فإن الضمير في قوله: (منكم) يعود إلى المسلمين العدول. قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا} [النساء:15]، أي: شهدوا بأنها فعلت الفاحشة، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، هذه الآية -كما قلت لكم- منسوخة بما في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وبالأحاديث الصحيحة في رجم الزاني، وقد كان ذلك في أول الإسلام، فقد أمر المسلمون أن يعاملوا الزانيات بأن يمسكوهن في البيوت، وأن يؤذوا الرجال، كما في الآية الثانية، حتى نزلت آيات الحدود، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (قد جعل الله لهن سبيلاً)، إشارة إلى قول الله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، فتكون هذه الآية منسوخة بآية النور وبالأحاديث الصحيحة.

حد الزنا المحكم غير المنسوخ

حد الزنا المحكم غير المنسوخ وعلى هذا فإن الأذى والحبس في البيوت كان في أول الإسلام، أما وقد استقر الحد فإن عقوبة الزاني إن كان ثيباً محصناً أن يجلد ويرجم. واختلف العلماء في الجلد، واتفقوا على الرجم إذا كان محصناً، والمحصن: هو من وطئ زوجته المسلمة بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن المحصن الذي عرف قدر نعمة الغيرة على المحارم، والذي قد أتم الله عز وجل عليه النعمة الحلال، ثم يجنح إلى الحرام؛ فإن عقوبته أن يرجم، أما البكر من الرجال والنساء فإن عقوبتهما الجلد مائة جلدة، مع التغريب سنة. واختلف العلماء أيضاً بالنسبة لجلد المحصن قبل الرجم، فقالت به طائفة كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكما هو رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى عن الرجل والمرأة: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء:16]، أي: يأتيان فاحشة الزنا، والضمير في (منكم) أي: من المسلمين، والخطاب دائماً يعود للمسلمين، مع أن عقوبة الزاني وردت في الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن كما في قصة اليهوديين. {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16]، المراد بالأذى: التعيير واللوم والعتاب والتشنيع والسب، {فَإِنْ تَابَا} [النساء:16]، أي: رجعا إلى الله عز وجل، {وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، ودائماً تقرن التوبة بالإصلاح، أي: أن التوبة التي لا تقترن بعمل صالح قد تكون توبة غير صحيحة. ولذلك يكلف العبد إذا تاب إلى الله عز وجل أن يصلح العمل، كما قال الله عز وجل في سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، ولذلك كلما فعل الإنسان سيئة فعليه أن يعمل بجوارها حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، وعلى هذا فإن الإصلاح أمر مطلوب كما أن التوبة أمر مطلوب، والدليل على صدق التوبة وحسنها هو: إصلاح العمل، ولذلك على من وقع في معصية من معاصي الله ثم تاب ورجع إلى الله عز وجل أن يكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنه. ولما تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك، ثم أنزل الله عز وجل توبته في سورة التوبة: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى آخر الآيات، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن من توبتي -أي: من شكر نعمة الله علي بالتوبة- أن أنخلع من مالي كله لله عز وجل، فقال له عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك). وعلى هذا فإن من صمم وعزم على التوبة، وصدق في توبته إلى الله عز وجل؛ فإن عليه أن يصلح العمل، وأن يبادر بالإكثار من الصالحات من نوافل العبادة، إضافة إلى فرائض العبادة، ولكن لا يبدأ بالنوافل ويضيع الفرائض، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). قال تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، أي: بالنسبة للأذى؛ لأن الله تعالى قبل التوبة، ولأن الناس عليهم أن يقبلوا هذه التوبة، ولأنه لم تنزل هناك حدود في هذا الأمر قبل سورة النور. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]، وكلمة (كان) إذا جاءت في لغة العرب معناها: مضى وانتهى، لكنها إذا جاءت بالنسبة لله عز وجل وأسمائه وصفاته فإنها تدل على الاستمرار والدوام، أي: ولا يزال الله عز وجل تواباً يقبل التوبة، (رحيماً)، أي: يرحم عباده فيقبل توبتهم.

التوبة حقيقتها ووقتها

التوبة حقيقتها ووقتها بعد ذلك ذكر الله تعالى التوبة الحقيقية: ما هي؟ وما وقتها؟ وما شكلها؟ قال الله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17]، و (إنما) هنا للحصر، والتوبة معناها: قبول التوبة من الله عز وجل، واختلف العلماء بالنسبة لتفسير كلمة (على)؛ لأن (على) تدل على الوجوب، فيقول بعض المفسرين: إن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه، أي: أن يقبل توبة من تاب إليه، بدليل قوله تعالى: (على الله)، ولم يقل: (من الله)؛ فـ (على) تدل على الوجوب، وليس هناك شيء واجب على الله عز وجل، ولكن لكرمه وإحسانه، وليطمئن ذلك العاصي الذي انغمس في الرذيلة والمعصية إلى ذقنه أن يطمع في الله عز وجل، وألا يقنط من روحه، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ)، فـ (على) وإن كانت للوجوب لكن وجوبها من الله عز وجل للعبد شيء أوجبه على نفسه سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن هذه الآية تعتبر أرجى الآيات بالنسبة لقبول التوبة من الله عز وجل على العبد؛ لأن الله تعالى فرضها وأوجبها على نفسه. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن؟ {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، ولعل أحداً من الناس حينما يسمع (بجهالة) ويسمع (من قريب) لربما ييأس بعض من انغمس طوال عمره في معصية الله عز وجل، وهو على علم ويقين من أنه عصى الله سبحانه متعمداً، لكننا نطمئنك بأن قوله تعالى: (بجهالة) ليس معناه بجهل، فحتى من عصى الله بعلم؛ فإن الله عز وجل يقبل توبته كما وعد. ولا يجوز أن نفسر الجهالة بالجهل؛ لأن الجاهل غير مؤاخذ، فكل من جهل ذنباً فلا تسجل عليه المعصية، وإنما المراد بالجهالة أي: في أيام الجهل والغفلة، والضياع، والسفه، والشباب والصبوة في أيام مضت غفل فيها عن الله عز وجل، فأصبح كأنه جاهل؛ لأنه يعيش عصرا ًجاهلياً؛ وعلى هذا فليطمئن الذي أمضى عمره كله أو جله في معصية الله عز وجل، ثم أقبل على ربه سبحانه وتعالى؛ فليبشر بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه سبحانه وتعالى أن يقبل هذه التوبة. أما في قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فقد يظن بعض الناس أنه لابد إذا فعل الذنب أن يقول في الحال: تبت، ويتوب حقيقة، وإلا فإن التوبة لا تقبل، وهذا فهم خاطئ؛ فإن المراد بالقريب في مثل هذه الآية: ما قبل الموت، فما قبل الموت كله يعتبر قريباً وإن طال الزمن على المعصية، بشرط: أن يكون هذا الإنسان دائماً وأبداً على وجل، وأن يحرص على المبادرة، وألا يهمل ويسوف في التوبة؛ لأن البعيد قد يكون قريباً، ولأن الناس يعيشون في مثل هذا الزمن الذي نعيشه يفاجئون بالموت مفاجأة وعلى غير استعداد، فقد كان آباؤنا وأجدادنا لا يموتون غالباً إلا على فراش الموت، بعد أن يمضوا مدة من الزمن تكون لهم معذرة وتنبيهاً، أما وقد أصبح الرجل يخرج من بيته فلا يرجع، ويقوم ولا يقعد، ولا يستطيع أن يرقد؛ فإن عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر يفاجأ فيه الناس بالأجل على غير استعداد في كثير من الأحيان. ولو عملنا إحصائيات للذين يموتون على الفرش، أو الذين يموتون في حوادث السيارات أو السكتات القلبية، أو الموت المفاجئ جملة؛ لوجدنا أن الأخير أكثر بكثير من النوع الأول، مما يفرض على هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة والإنابة، لكن معنى قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل الآية التي بعدها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]. إذاً: فهمنا من الآية الثانية أن المراد بالقرب هو ما قبل الموت، فلو أمضيت حياتك كلها في معصية الله عز وجل ثم تبت قبل الموت، فنعتبرك قد من الله عز وجل عليك فأمهلك فتبت من قريب، ولكن لا تظنن أن استمرارك على المعصية هو خير لك، بل هو مخاطرة في حسن الخاتمة، فلربما يدركك سوء الخاتمة. (فَأُوْلَئِكَ) أي: الذين يعملون السوء بجهالة في فترة جهل وانصراف وإعراض وسفه، ويتوبون من قريب، {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:17]، ولذلك جاء التعظيم لهم في قوله تعالى: (أولئك)؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وعلى هذا فإن الله عز وجل قد يمن على العاصي بأن يقلب كل سيئة عملها في أيام جهله -إذا صدقت توبته- إلى حسنة، كما قال في سورة الفرقان: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، أما هنا فيقول الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:17]، أي: يقبل توبتهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17]، يضع الأمور في مواضعها. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، في تلك الساعة لا تقبل التوبة، ولذلك جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والمراد بالغرغرة: أن يضع الإنسان في حلقه ماءً يرجه رجاً، لكن المراد بالغرغرة هنا: أن تصل الروح إلى آخر مرحلة من مراحل الجسم، ولا يبقى إلا أن تخرج، كأنه يغرغر بالماء، ويغرغر بروحه؛ لأنها تريد الخروج، أو إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهذا هو الأجل النهائي الذي لا تقبل فيه التوبة؛ لأن الإنسان في ساعة الموت يرى ملائكة الرحمة ويرى ملائكة العذاب، ويرى مقعده من الجنة ويرى مقعده من النار، ولذلك فإنه يكشف عنه الحجاب في تلك الساعة، وحينئذ لا تقبل التوبة. أما التوبة العامة فقد وضع الله عز وجل لها أجلاً أيضاً، وهو: طلوع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها آخر علامة من علامات الساعة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها. إذاً: هناك أجل لأي واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهناك أجل لكل الناس: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، أي: يوم تطلع الشمس من مغربها، {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، الآن لا تقبل التوبة، ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] لما قال هذا الكلام قال الله تعالى له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] الآن تتوب؟! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة النور التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، وقد أخبر الله عز وجل عن قوم أنهم لا يتوبون إلا حينما يحضر الأجل: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]، ففي مثل هذه الساعة لا تقبل التوبة، والله تعالى يقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57]، إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].

حرمة إرث النساء في الإسلام

حرمة إرث النساء في الإسلام بعد ذلك لما ذكر الله تعالى التوبة، وحث عليها، وذكر موعدها الذي تقبل فيه والذي لا تقبل فيه، عادت الآيات مرة أخرى تبين أشياء من حدود الله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى عن هذه الحدود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]. يدعي أقوام في عالمنا اليوم أنهم أنصار المرأة، وأنهم يدافعون عن حقوق المرأة، ويتهمون دين الله عز وجل الحق بأنه هضم المرأة حقها، أو نقصها شيئاً من حقها، وهنا يذكر الله تعالى شيئاً من حقوق المرأة كان مهضوماً في كل الجاهليات، وحتى في جاهلية اليوم المعاصرة هو مهضوم هضمت هذه المرأة فأصبحت لا شيء في نظر تلك الجاهليات. وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق أولاده من غيرها، فأيهم سبق الآخر ووضع عليها رداءً كان أحق بها؛ إن شاء ملكها، وإن شاء تزوجها، وإن شاء زوجها، وهي زوجة أبيه، وهذا لا شك أنه محرم من عدة جوانب: الجانب الأول: أنه إهانة للمرأة. الجانب الثاني: أن فيه نكاحاً لزوجة الأب، والله تعالى حرم من المحرمات -التي سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى- زوجة الأب كما حرم الأم، ووضعها مع الأم في آية واحدة. إذاً: هذه العادة من عادات الجاهلية وهي أن يتسابق أولاد الميت من غيرها إليها، فأيهم وضع عليها الرداء كان أحق بها، وإن استطاعت أن تهرب قبل أن يضع أحد منهم الرداء كانت حرة، فأنزل الله عز وجل تحرير هذه المرأة، فلا يحق لأحد أن يتسلط عليها، أو أن يضع عليها الرداء، أو يتملكها، أو يكون أحق بها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، أي: مكرهين لهن، وليس معنى ذلك: أنه بواسطة غير الإكراه له أن يرثها، لكن ذلك حكاية واقع؛ لأنهم يعملون ذلك كرهاً. (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ) أي: تتملكونهن، وهذه الآية تعرضت لتحرير المرأة من أن تورث هي، وقد مرت بنا آية تعرضت لحق المرأة في الميراث في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، وعرفنا أن سبب نزول تلك الآية: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون المرأة، وإنما يورثون الرجل فقط، إضافة إلى أنهم يرثون المرأة كما يورث سائر المتاع، فالله عز وجل حرم أن تورث المرأة من زوجها؛ فإنما هي إنسان حر كالرجل، وحرم أن تمنع من ميراث زوجها أو أحد أقاربها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، إذاً: هي لا تورث بل ترث كما يرث الرجال، ولها في كل صغير وكبير مما خلفه الميت حق، حتى لو كانت الإبرة أو ما كان أقل من ذلك.

حرمة عضل النساء ومنعهن من الزواج

حرمة عضل النساء ومنعهن من الزواج قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19]، والمراد بالعضل هنا: المنع من الزواج، وهذا الخطاب ربما يكون موجهاً إلى أولياء النساء، فقد حرم الله عز وجل على ولي المرأة أن يعضلها، ومعنى: (يعضلها)، أي: يمنعها من الزواج، فإن الزواج يعتبر حصناً منيعاً للرجل والمرأة، وربما يتسلط بعض الأولياء خصوصاً إذا كانوا من الآباء الذين لهم سلطة أكبر على منع هذه البنت من الزواج بعد أن تبلغ سن الزواج؛ فتكون المصيبة العظمى، ويكون البلاء والفتنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). وربما تكون هناك مطامع مادية يطمع فيها ذلك الأب، كأن تكون ذات مرتب، أو لها دخل أو مال، فلا يريد أن يزوجها من أجل أن يتمتع ويستفيد من مالها، وهذا هو العضل الذي حرمه الله عز وجل في قوله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقال في سورة البقرة: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]. وتلك الآية لها سبب: أن رجلاً طلق زوجته، وبعد مدة من الزمن فكر في إعادتها إليه والعقد عليها مرة أخرى؛ لأنه بعد انتهاء العدة لابد من عقد جديد إذا لم تكن الطلقة الثالثة، فاتفق الزوج والزوجة، ورفض الأب، فأنزل الله تعالى تلك الآية في سورة البقرة، أما هذه الآية فإنها عامة في ابتداء أو إعادة الزواج، ولذلك لا يحل للولي أياً كان حتى لو كان الأب أن يعضل موليته، أو يعضل الأب ابنته ويمنعها من الزواج؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، والعضل معناه: المنع بقوة. وعلى هذا يقول فقهاء المسلمين: إن المرأة إذا بلغت سن الزواج وتقدم إليها من يخطبها، وتبين أن وليها قد عضلها -ولو كان الأب- ومنعها من الزواج بدون سبب، وكان ذلك الخاطب كفؤاً؛ فإن للحاكم أن يزوجها دون إذن أبيها؛ لأن الله تعالى حرم العضل، فإذا عضل وصمم على العضل لأي مصلحة من مصالحه الخاصة فإن ذلك ليس له، إلا إذا كان ذلك الخاطب غير كفء. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقد يكون هذا الخطاب للأزواج، فقد يكره الزوج الزوجة ويصمم على أن يحتفظ بها من أجل أن يأخذ منها شيئاً من المال، فيحبسها وهو يكرهها حتى تفتدي وتطلب الطلاق بنفسها منه ابتداءً، فتقدم المال من أجل أن يأخذ بعض أو كل ما آتاها وهو المهر، وهذا أيضاً من الأعمال المحرمة، فإذا بدأت الكراهية من الزوج فإنه يحرم عليه أن يأخذ منها شيئاً، أو يعضلها حتى تقدم شيئاً من المال افتداءً لها، بخلاف ما إذا كرهته هي؛ فإن ذلك موجود حكمه في سورة البقرة؛ فله أن يأخذ منها المهر، كما في قصة صاحب الحديقة. يقول الله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، أي: لتأخذوا بعض أو كل المهر أو أكثره حينما تطلب منه الفداء، وهو عوض الخلع، فقد يمسكها ليضرها، وهذا من الأمور التي حرمها الله عز وجل، وقد أخبر الله تعالى أنه لو آتاها قنطاراً ثم فكر في طلاقها بدون أن يكون السبب من عندها؛ فإنه يحرم عليه أن يأخذ منه شيئاً، ولو كان شيئاً قليلاً. يقول الله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) أيها الأزواج، أي: بعض المهر، حتى تفتدي لتتخلص من مشكلة ذلك الزوج الذي كرهها هو، وهو الذي فكر في طلاقها دون أن تكون منها رغبة هي، فإنه في مثل هذه الحال لا يجوز له أن يعضلها أو يأخذ شيئاً مما أعطاها. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]، فإذا فعلت الفاحشة؛ سواءً كانت فاحشة الزنا التي هي أعظم الذنوب؛ فله أن يؤذيها من أجل أن تفتدي ليسترجع حقه؛ لأنها هي التي أفسدت عليه فراشه، أو كانت الفاحشة فاحشة الأذى أيضاً، وهي ما دون فاحشة الجريمة، بأن تكون بذيئة اللسان، مؤذية كارهة له؛ فله أن يطلب منها الفداء، كما في سورة البقرة.

وجوب معاشرة النساء بالمعروف

وجوب معاشرة النساء بالمعروف يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أي: كما أن المرأة مطالبة بأن تحسن العشرة للزوج؛ فإن الزوج أيضاً مطالب بأن يحسن عشرة الزوجة، وهذا الإحسان بالمعروف، أي: بما جرت به العادة وبالعرف، فلا يجوز له أن يترفع عليها، أو يؤذيها، أو يقصر في حقها أو في نفقتها، أو حتى في زيه ولباسه، وحينما يسيء في معاملتها من ناحية النظافة أو ما أشبه ذلك، فإن عليه لها حقاً كما أن له عليها حقاً، ولذلك يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين هي لي). وعلى هذا فإن الزوج مطالب بالعشرة من جميع النواحي، فإذا كلمها يكلمها بأدب واحترام، كما أنها مطالبة أيضاً بذلك، وإذا لزمت النفقة فإن عليه أن ينفق بما يناسب مقام هذه المرأة، وإذا أخطأت فإن عليه أن يتحمل شيئاً من الخطأ، وإذا أحسنت إليه فإن عليه أن يقابل هذا الإحسان بإحسان مثله، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، أما الذين يسيئون إلى المرأة ويمتهنونها ويحتقرونها ويذلونها، فإنهم قد عصوا الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

الندب إلى احتمال المرأة والصبر عليها إذا كرهها الرجل

الندب إلى احتمال المرأة والصبر عليها إذا كرهها الرجل قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: كره الزوج الزوجة، ويريد فراقها، فالله عز وجل يأمره أن يتأنى في الأمور وألا يستعجل، فقد يكره هذه المرأة لسوء معاملتها، لكن فيها خير كثير لا يعرفه عنها، وقد يكرهها لشكلها أو لقلة جمالها، فالله عز وجل يقول له: انتظر، فربما تأتي بولد صالح يعجبك فينسيك ما ينقصها من جمال، وربما يكرهها في نسبها، أو في قلة ذات يدها، أو في أي أمر من الأمور التي يكره الرجال النساء بسببها؛ فإن الله عز وجل يأمر هذا الرجل بالتأني وألا يتسرع في فراق هذه المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولذلك صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يؤذيها أو لا يفارقها- إن كره منها خلقاً رضي منها آخر). وقد يبتلى بعض الرجال بامرأة فاقدة الجمال، أو أي مقوم من مقومات العشرة الزوجية؛ فيكرهها من أول ليلة يدخل بها، فإن كان عاقلاً فإن عليه أن يتبع أمر الله عز وجل، وينتظر لعل الله عز وجل أن يأدم بينهما، وأن ييسر منها خيراً، أو يهب له منها أبناءً صالحين، وقد يتسرع بعض الرجال فيفارقها من أول وهلة، وهذا هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يبغض شيئين: الطلاق، والإكثار من الطعام، وقد أباحهما الله عز وجل، كما جاء في الحديث: (إن الله لا يبغض شيئاً أعطاه إلا هذين الأمرين). وعلى هذا فإن الطلاق يهدم البيوت، ويشرد الأسرة والأطفال، وربما يسبب العقد النفسية عند الأطفال، ويفسد العلاقة بين أهل الزوج والزوجة، وبين الزوج والزوجة، والمرأة المطلقة -غالباً- في المجتمع تكون امرأة سائبة يندر أن يقدم عليها أحد من الرجال، ولذلك يكره الله عز وجل الطلاق، ويعالج الحياة الزوجية بعدة أمور، ومن أمور المعالجة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]. وقد أمر قبل ذلك سبحانه وتعالى بأن يؤدب هذه المرأة قبل أن يفارقها، {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، وقبل ذلك يأمرنا الله عز وجل أن نتحمل كما قال في هذه الآية: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]. إذاً نقول: أي امرأة تكرهها لسبب من الأسباب ولسلبية من السلبيات فإن فيها من الإيجابيات ما فيه مصلحتك، فعليك أن تنظر إليها بالعينين الاثنتين كاملتين، لا تنظر إليها بعين السيئات وإنما بعين الحسنات، فقد تكون غير جميلة لكنها ذات خلق حسن ونسب ودين، وقد تفقد واحداً من هذه الأشياء لكن فيها أمور سوف تعجبك مستقبلاً، حيث يهب الله عز وجل لك منها أبناءً صالحين، لكن حينما تكون منحرفة في دينها وتعجز عن تقويمها؛ فإن لك الحق في رفضها فوراً حتى لا تفسد عليك بيتك وفراشك. (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا)، و (عسى) إذا جاءت من عند الله عز وجل فليست للترجي كما هو في معناها اللغوي، لكن معناها: التحري والتوقع، أي: إن كرهتموهن فحري بكم أن تكرهوا شيئاً لكن فيه خير كثير، وهذا الخير الكثير لم تعثروا عليه بعد، فلا تتسرع في مفارقة امرأة تكرهها في جمالها، أو نسبها، أو بذاءتها، أو أي أمر من أمورها، وعليك ألا تتسرع حتى لا تقدم على الطلاق الذي هو حلال يبغضه الله عز وجل. ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الخير كثير، لكنك لا تتوقعه؛ لأنك لا تنظر إلا إلى أمور سطحية، أما الله عز وجل فإنه يعلم ما تخفيه هذه القلوب، وما تكنه الضمائر، كما أنه تعالى يعلم ما في المستقبل، كما يعلم ما في الحاضر.

حرمة أخذ المهر من المرأة إذا طلقها الرجل

حرمة أخذ المهر من المرأة إذا طلقها الرجل إذا صمم الرجل على طلاق امرأته برغبته هو لا برغبتها هي، وقد أعطاها من المال الشيء الكثير؛ فإنه يحرم عليه أن يأخذ منها فلساً أو قرشاً أو درهماً أو ديناراً، ما دام هو الذي كرهها ولم تكرهه هي، وهو الذي رغب في فراقها ولم ترغب هي في فراقه، وبذل لها ما بذل من المال فإن عليه أن يتأنى، فإذا عزم على ذلك؛ فإن عليه ألا يأخذ مما آتاها شيئاً، بل عليه أن يمتعها، والتمتيع: هو شيء من المال يعطى للمرأة المطلقة عند الطلاق إذا كان الرجل هو الذي كرهها، وهذا المال من أجل إرضائها وجبر خاطرها، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الأمر: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:20]، والمراد بالزوج هنا: الزوجة، وكلمة (زوج) تطلق على الذكر والأنثى، فإذا عزم الإنسان على تطليق زوجته ليستبدلها بزوجة أخرى، أو لا يريد أن يستبدلها إنما يريد أن يطلقها، وإنما ذكر هذا على مجرى الغالب؛ لأن من يريد أن يطلق لا بد أن يتزوج غالباً غيرها، فسماه الله تعالى استبدالاً، أي: بحيث يطلق الأولى؛ لأنه يكرهها في دينها أو خلقها أو أي أمر من أمورها، فإذا أراد أن يستبدل زوجاً مكان زوج وقد أعطى السابقة قنطاراً، والقنطار: هو مبلغ ووزن كبير من الذهب، فلو أعطيتها المال العظيم فلا يجوز لك أن تأخذ من هذا المال شيئاً أبداً. (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ) أي: التي تريدون تطليقها، (قِنطَارًا) أي: مالاً عظيماً من الذهب، (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، أي: حرام عليكم أن تأخذوا منه شيئاً، ولذلك يتلاعب طائفة من الرجال بحقوق النساء، فيتمتع بالمرأة ما شاء أن يتمتع بها، حتى إذا أراد أن يفارقها ليأتي بزوجة جديدة ضيق على المسكينة السابقة من أجل أن تكرهه، من أجل أن تقدم له شيئاً من المال لتفتدي نفسها بهذا المال، فالله تعالى حرم هذا الأمر تحريماً عظيماً وقال: (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، وهذا من المال المحرم الذي لا يحل للزوج ما دام هو الذي كره المرأة ولم تكرهه المرأة، أما إذا كرهته المرأة فله أن يطالبها بالمهر أو أكثر أو أقل، وأن يتمسك بها حتى تدفع ذلك، وخير له أن يعفو عن كل ما أعطاها؛ لأنه: (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً)، كما جاء في الحديث. (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، حتى لو كان شيئاً قليلاً، فلو دفعت لها مائة ألف ريال، وأردت أن تأخذ ريالاً واحداً، فإن هذا الريال حرام عليك ما دمت أنت الذي عزفت عنها، وأنت الذي لم ترغب في البقاء معها. ثم يعظم الله تعالى هذا الأمر ويقول: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] أي: هل تأخذونه؟! وهذا استفهام إنكاري لتعظيم هذا الأمر، والمراد بالبهتان: الظلم، والإثم معناه: الذنب، أي: أخذ هذا المال بعد هذا التمتع بهذه المرأة، وبعد الخلوة بها، أخذ هذا المهر أمره عظيم عند الله، وأخذه يعتبر بهتاناً عظيماً.

مشروعية تخفيف المهور

مشروعية تخفيف المهور أخذ العلماء من هذه الآية: جواز تعظيم المهور والمغالاة في المهور، ولكن في اعتقادي أن هذه الآية ليست دليلاً على المغالاة في المهور؛ لأن قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20]، ليس معناه: أن هناك من النساء من تعطى قنطاراً من الذهب؛ لأن القنطار من الذهب يساوي مالاً عظيماً، وإن كان يجوز أن يكون المهر كثيراً، لكن الأفضل هو تخفيف المهور، فالمبالغة في المهور لها سلبيات عظيمة، وأهم سلبياتها: عدم البركة بين الزوجين؛ لأنه من كانت أقل مهراً كانت أكثر بركة، كما صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقلهن مئونة أكثرهن بركة)، وهذا شيء نشاهده، فالذين يبذلون الملايين من الريالات للمرأة غير أكفاء كما يتصورون هم وكما هو حقيقة؛ لأنهم لو كانوا أكفاء لهذه المرأة لما بالغوا في هذا المهر. الأمر الثاني: أن كثرة المهر هي التي تسلب البركة في هذا الزواج، فقد أجمع علماء المسلمين على أفضلية تخفيف المهور، لكن اختلفوا في جواز الزواج بالمهور الكبيرة، فأخذ طائفة من العلماء من هذه الآية جواز المغالاة في المهور، وهناك من بذل مهوراً في السابق وفي اللاحق، والأصل هو التخفيف. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب، ففكر أن يحدد المهور ذات يوم، فصار يخطب على المنبر ويقول: أيها الناس! خففوا المهور، لا تغالوا في المهور، فقامت امرأة عجوز وقالت: يا أمير المؤمنين! أتحرمنا شيئاً أعطانا الله عز وجل إياه، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20]؟ فقال عمر: أخطأ عمر وأصابت امرأة، كل الناس أصابوا إلا عمر. وبالرغم من أن عمر رضي الله عنه حينما كان يريد أن يخفف المهور إنما هو لمصلحة الأمة، لكننا نستطيع أن نأخذ من هذا نتيجة: أن بعض العلم قد يخفى على الأكابر ويعلمه الأصاغر، كما أن ولي الأمر عليه أن يقف عند حدود الله عز وجل حينما تبلغه من أي إنسان كائناً من كان، ولو كان دونه في المستوى والعلم والسياسة، فإن هذه المرأة استطاعت أن توقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الثاني من الخلفاء الراشدين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). فكون امرأة تقول: أخطأت يا عمر! وهو يخطب على المنبر، يعطينا دليلاً على أن ولي الأمر مهما كان مركزه في هذه الحياة؛ فإن عليه أن يقبل النصيحة إذا أسديت إليه من أي واحد كائناً من كان، فإن كانت حقاً فعليه أن يقبلها، وإن كانت باطلاً فإن عليه أن يناقش صاحب هذا الباطل، وإذا قيل له: اتق الله! ولم يقبل هذه النصيحة، فعليه خطر، ولا خير في الناس إن لم يقولوا له: اتق الله، ولا خير له إن لم يقبلها من هؤلاء الناس، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (كل الناس أصابوا إلا عمر). وعلى هذا نقول: إن تخفيف المهور هو الأفضل، وإن ذكر الله عز وجل القنطار ليس معناه: أن هناك من يدفع لها من النساء قنطار من الذهب، وإنما ذلك من باب المبالغة، والمعنى: ولو كان المال عظيماً فلا تأخذ منه شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وليس هناك بيت يساوي مفحص القطاة، أي: مربض القطاة، ولا أحد يستطيع أن يصلي في مربض القطاة، وإنما ذلك من باب الحد الأدنى وهذا على الحد الأعلى، أي: ولو كان مالاً كثيراً. وعلى كل أيها الإخوة! مصلحة الأمة أن تخفف المهور، وأن يتزوج الشباب العزاب والعوانس اللاتي يبلغن سناً متأخرة داخل البيوت، وخطر على الأمة أن يعزف شبابها عن الزواج، وخطر على الأمة أن تعزف نساؤها أو تتعلق بالتعليم أو بالوظيفة عن الزواج، وحينئذ يحدث خلل في المجتمع لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل.

أسباب تحريم أخذ المهر من المرأة بعد طلاقها

أسباب تحريم أخذ المهر من المرأة بعد طلاقها ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]. (وكيف): هذا استفهام إنكاري، وقوله تعالى: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يبين أن هذا أمر عظيم، أن تفضي إليك المرأة بجسدها وتفضي إليها بجسدك، وتحصل هذه العلاقة بينك وبينها وتلك الثقة، ثم تسلب منها المهر مرة ثانية! ولذلك اختلف العلماء في معنى الإفضاء، فقال بعضهم: أن يكشف وجهها، كما جاء في الحديث: (إذا كشف وجهها ونظر إليها؛ فقد وجب المهر). وقيل: المراد بالإفضاء: أن تنزع ثيابها وينظر إلى عورتها، فهل يستطيع أحد أن يتزوج امرأة ثم ينظر إلى داخل جسدها، ثم يفكر هو دون رغبة منها هي في طلاقها، ثم بعد ذلك يقول: أعطيني هذا المهر بعد هذا النظر، وبعد الميثاق الغليظ الذي أخذته هذه المرأة على هذا الرجل وهو عقد النكاح؟! وقيل: مجرد النظر إليها. وقال بعضهم: هو الخلوة. وقال بعضهم: هو الجماع، فإذا جامعها يستقر الأمر. ولكن الأولى أن نقول: هو الخلوة؛ لأنه إذا خلا بها وأغلقت الأبواب بينه وبين الناس معها فقد أفضى إليها، وحينئذ يحرم عليه أن يأخذ المهر إذا كان الطلاق برغبته هو. والإفضاء مأخوذ من الفوضى؛ لأن الفوضى معناها: اختلاط الأمر، نقول: يعيش العالم في فوضى، أي: في اختلاط من الأمر، والمراد بالإفضاء: الفوضى، أي: خلوه بها وخلوها به بحيث لا يكون بينهما أمر حاجز. (وَأَخَذْنَ)، أي: أخذت النساء منكم، (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، والميثاق الغليظ -والله أعلم- المراد به عقد النكاح، فإنه ميثاق غليظ، كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بعهد الله)، وعلى هذا فإن هذا الميثاق الغليظ قول الولي: زوجتك هذه المرأة، فتقول: قبلت، هذا ميثاق غليظ يزيل كل الحواجز بين هذا الرجل وتلك المرأة، ثم إذا بهذا الرجل الذي أفضى إليها ويرغب في زواج امرأة أخرى بدلها، ويعزف عنها، ولربما أنه تمتع بها، ولربما أنها أنجبت له من الأولاد ما أنجبت، ثم إذا به يريد أن يأخذ هذا المهر بعد أن تمتع بهذه المرأة مقابل هذا المهر، فهذا أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

تحريم نكاح زوجة الأب

تحريم نكاح زوجة الأب ثم يذكر الله عز وجل أيضاً شيئاً من حدوده في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، ذكرنا في الآية السابقة أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات الزوج يتسابق أولاده من غيرها إليها، فأيهم وضع الرداء عليها كان أحق بها، أو يطؤها أو يملكها أو يزوجها، المهم يكون حراً في التصرف فيها، فلما حرم الله عز وجل هذا الأمر على الناس وكان موجوداً في الجاهلية، بدءوا يعقدون على زوجات الآباء، ويقول: أنا لا آخذها بالقوة وإنما آخذها بالعقد، والعقد حرام في مثل هذه الحال؛ لأن زوجة الأب كالأم لا يجوز للابن أن يقربها؛ لأنها من محارمه، فلما فعل القوم ما فعلوا بأن بدءوا يعقدون على زوجات آبائهم بدلاً من كانوا يرثونهن ميراثاً؛ أنزل الله عز وجل هذه الآية التي تحرم حتى العقد على زوجة الأب. وكيف يقدم إنسان على زوجة أبيه؟! هذا مقت شديد، وإثم عظيم، وقد كان ذلك أيضاً موجوداً في الجاهلية، ولذلك يقول الله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا)، أي: لا تتزوجوا، والمراد بالنكاح هنا العقد، (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: ما عقد عليها الأب وتزوجها، (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه؛ لأنه كان في أمر الجاهلية، أما بعد أن نزلت هذه الآية فإنه يحرم على أي واحد منكم أن يتزوج زوجة أبيه؛ لأن زوجة أبيه بمنزلة أمه. (إنه كان فاحشة)، كالزنا، (ومقتاً)، ممقوت عند الله عز وجل، وممقوت أيضاً في أذواق الناس، فإن الأذواق البريئة النزيهة الطاهرة لا تقدم على مثل هذا العمل؛ بل هي تمقته وتسبه، وبطبيعة الإنسان البشرية أن ينفر من زوجة أبيه كما ينفر بفطرته عن أمه؛ لأن كل واحدة منهما تعتبر فراشاً لأبيه، فهو ممقوت، ولذلك كانوا يسمون في الجاهلية الولد الذي ينشأ عن زواج الولد بزوجة أبيه: الولد المقيت أو الممقوت. (وَسَاءَ سَبِيلًا)، أي: سبيلاً سيئة وفرجاً حراماً، كيف يقدم عليها هذا الإنسان بعد أن أقدم عليها أبوه؟!

المحرمات من النساء بالنسب والرضاعة والمصاهرة

المحرمات من النساء بالنسب والرضاعة والمصاهرة يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخر الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية سبع محرمات بالنسب وسبع محرمات بالرضاعة والمصاهرة، وبعض هؤلاء محرمة إلى الأبد كالمحرمات في النسب، وهناك جزء محرمات إلى وقت محدد كالجمع بين الأختين، فإذا طلق إحداهما تحل له الأخرى بعد انتهاء العدة. يقول الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)، الأم: هي كل من انتسب إليها الإنسان بولادة، سواء كانت أماً أو جدة أو جدة جدة، وسواء كان ذلك من قبل الأم أو الأب، أو من قبل الرضاعة، أو ما أشبه ذلك. (وَبَنَاتُكُمْ)، والبنت تشمل جميع البنات من انتسبت إليه بأبوة؛ سواء كانت من بناته، أو بنات بناته، أو بنات أولاده إلى ما لا نهاية. (وَأَخَوَاتُكُمْ)، والأخوات كل من شاركته في أب، أو أم، أو في الاثنين جميعاً، سواءً كانت الأخت لأب، أو لأم، أو شقيقة، أو كانت أختاً من الرضاعة. (وَعَمَّاتُكُمْ)، وهي كل من انتسبت إلى أبيه بأخوة، أو إلى جده وأجداده بأخوة؛ سواء كان أجداده من قبل الأب أو من قبل الأم، فهؤلاء كلهن يعتبرن من العمات، فلا يجوز الزواج بواحدة منهن. (وَخَالاتُكُمْ) الخالات كل من انتسبت إلى أمه بأخوة، أو جدته أو جداته، فإنها تدخل في هذا الأمر. (وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)، بنات الأخ: هي كل من انتسبت إلى أخيها بنسب أو رضاع وبناتها وإن نزلن، وكذلك بنات الإخوة. (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، الأم وأمها وجداتها، كل هؤلاء يحرمن على هذا الرجل الذي رضع من واحدة منهن. (وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَة)، الأخت من الرضاعة سواء كانت قريبة أو بعيدة، فكل من أرضعتك أمها أو رضعت هي من أمك فإنها تحرم عليك. (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ)، والمراد بأم المرأة: الأم المباشرة أم زوجتك وجدتها، سواء كانت من قبل الأم أو الأب، فكل ذلك داخل في هذا التحريم. (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)، الربيبة: هي بنت الزوجة، وسميت بنت الزوجة ربيبة؛ لأن الزوج يربيها في حجره، والمراد بالحجر: وسط الثوب، أي: يضعها كما يضع أولاده، وجمهور العلماء على أن هذا القيد لا مفهوم له، فسواء عاشت في حجره أو بعيدة عنه ما دامت بنتاً لزوجته، سواء كانت قبل أن يتزوج بها أو بعد أن فارقها وتزوجت برجل آخر فأنجبت بنتاً، فإنها تعتبر ربيبة له، وهي محرم من محارمه تحرم عليه، ولا يجوز له أن يتزوج بها، إلا الظاهرية فإن طائفة منهم اشترطوا أن يكون قد رباها ذلك الزوج وعاشت عنده، لكن هذا القيد في الحقيقة لا مفهوم له، وهذا القيد لا أثر له، سواء كانت في حجره أو لا؛ بل لو كانت من زوج تزوج أمها بعده؛ فإذا طلق امرأة وتزوجت رجلاً بعده فأنجبت بنتاً، فإن هذه البنت تعتبر ربيبة له وإن لم يرها، فتعتبر ربيبة تحرم عليه، وتعتبر من محارمه؛ لأنها بنت زوجته. {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فإذا كانت بنت زوجة لم تدخل بها أنت فإنها تحل لك، وعلى هذا فإن العقد على الأم لا يحرم البنت، بخلاف العقد على البنت فإنه يحرم الأم عند جمهور العلماء، فإذا عقد رجل على امرأة ولم يدخل بها لم تحرم بنتها عليه؛ لأنها لا تعتبر ربيبة؛ لأنه لم يدخل بالأم؛ لأن الله تعالى يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، والمراد بالدخول هنا: الجماع أو الخلوة، فإذا خلا بالأم أو وطئها فإن البنت تعتبر ربيبة بالنسبة له، وتحرم عليه، وتعتبر من محارمه، أما لو عقد على الأم فقط ولم يدخل بها ولم يخل بها؛ فإن هذه الربيبة لا تعتبر ربيبة بالنسبة له، فيجوز له أن يتزوجها وإن كان قد عقد على أمها؛ لأنه لم يدخل بها؛ لأن الله تعالى يقول: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، أما لو عقد على البنت فجمهور العلماء على أنها لا تحل الأم ولو لم يدخل بالبنت؛ لأن أم الزوجة تحرم منذ أن يعقد على ابنتها، أما بنت الزوجة فإنها لا تحرم -التي هي الربيبة- إلا إذا دخل بأمها؛ لأن الله تعالى هنا يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، ما دامت المسألة فقط عقداً بدون دخول فيجوز له أن يتزوج بنت الزوجة؛ لأنها لا تسمى ربيبة في مثل هذه الحال. كذلك من المحرمات: حلائل الأبناء، قال تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والحليلة: هي الزوجة، وسميت الزوجة حليلة؛ لأنها تحل وترتحل مع زوجها متى حل وارتحل، أو من الحلال، والمراد بها هنا زوجة الابن، فإذا تزوج ابنك امرأة وطلقها فقد أصبحت هذه المرأة حراماً عليك، وأصبحت من محارمها وهي من محارمك. لكن هذا القيد في قوله تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، ما مفهوم هذا القيد؟ يقول العلماء: إنما هذا لنفي أولاد التبني، فقد كان هناك في الجاهلية إذا أعجب الرجل طفل تبناه ونسب إليه، حتى حرمه الله عز وجل بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فأصبح التبني محرماً، وعلى هذا فإن زوجة الابن بالتبني يجوز لمن تبناه أن يتزوجها، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة من تبناه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، حتى يثبت للناس أن زوجة الابن بالتبني لا تحرم على الأب، ولذلك يقول الله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37]. وهنا يقول: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والمراد بالأولاد: أولادك أنت وأولاد أبنائك وبناتك؛ إذ كل هؤلاء داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، فزوجات هؤلاء يعتبرن محارم للأب؛ فلا يتحجبن عنه، ولا زوجة ابن ابنه ولا زوجة ابن بنته، كلهن يعتبرن من المحارم، وتعتبر هذه المرأة حراماً عليه إذا طلقها ذلك الابن. بقي الخلاف في الأولاد من الرضاعة: هل الأولاد من الرضاعة تعتبر زوجاتهم محارم؟ اختلف العلماء في ذلك، فبعض العلماء أخذ من قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، إخراج الأولاد من الرضاعة، فزوجاتهم لا يعتبرن محارم للآباء من الرضاعة، وعلى هذا يجوز التزوج بهن، لكن من باب الاحتياط، وهو رأي طائفة من العلماء: أن الأولاد من الرضاعة كالأولاد من النسب، وأن زوجاتهم تعتبر محارم للأب من الرضاعة، وهذا هو الاختيار. وأقل ما يكون في هذا الأمر لو تحجبت عنه ألا يتزوجها، وعلى هذا يصبح أولاد الرضاعة كأولاد النسب في هذا الأمر؛ لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وعلى هذا فإن هذه القاعدة تعتبر في كل نسب تنتقل بمثله من الرضاعة، فالأولاد وأولاد الأولاد والآباء والأبناء من النسب ينتقل هذا الحكم بالنسبة لهم من الرضاعة، وهؤلاء اللاتي حرمن بالنسب ينتقل الأمر فيهن كالعمة والخالة والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت وبنت الأخ وهكذا ينتقل الأمر، وكذلك زوجة الابن من الرضاعة تعتبر حراماً على الأب. قال تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، كانوا في الجاهلية يتزوج أحدهم أختين شقيقتين أو لأب أو لأم، وفي الإسلام حرم الله عز وجل الجمع بين الأختين، وهذا هو النكاح المحرم إلى أمد، فأخت الزوجة محرمة حتى تطلق هذه الزوجة السابقة وتنتهي عدتها، ولذلك الرجل يلزم بالعدة في حالتين: الحالة الأولى: إذا كانت معه أربع زوجات وطلق الرابعة، فلا يجوز له أن يتزوج حتى تنتهي عدة الرابعة، ويعتبر شريكاً لها في هذه العدة. الحالة الثانية: إذا كان قد طلق زوجته وأراد أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها؛ فإنه لا يجوز له أن يتزوج الثانية حتى تنتهي عدة الأولى، واختلف العلماء في الطلاق البائن، أما الطلاق الرجعي فاتفق علماء المسلمين على أن من تزوج زوجة خامسة قبل أن تنتهي عدة الرابعة والطلاق رجعي بأن هذا قد أقدم على عمل محرم، وأن هذا يشبه الزنا، وكذلك الجمع بين الأختين حتى تنتهي عدة السابقة، فإذا انتهت عدة السابقة فله أن يتزوج أختها. وعلى هذا فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، سواء كان بنسب أو برضاع، على رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا)، أي: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين. (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، أي: لكن ما قد سلف في الزمان السابق في الجاهلية فأنتم مسامحون فيه، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم عدم العدل بين النساء في الجماع

حكم عدم العدل بين النساء في الجماع Q ما حكم الشرع فيمن لديه زوجتان يعدل بينهما إلا في الجماع؛ لأنه لا يستطيعه مع أحدهما لأسباب، رغم أنه يحاول ولكن دون جدوى، أي: لا يطيق ذلك، لكنه في الأمور الأخرى يعطيها كامل حقها؟ A ذلك داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا عدلي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)، فمسألة الجماع والشهوة وهذه الأمور الخاصة بالنساء التي لا يطيقها الرجل فلا يؤاخذ فيها، ولكن عليه ألا يهجرها هجراً كاملاً، أما بالنسبة للمبيت والنفقة وما أشبه ذلك من الأمور والعشرة فيجب عليه أن يعدل بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل)، أما بالنسبة لمحبة القلب والجماع وما أشبه ذلك من الأمور التي يغلب عليها الإنسان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

حكم إعطاء الزوجة باقي المهر إذا طلقها الرجل

حكم إعطاء الزوجة باقي المهر إذا طلقها الرجل Q تزوجت بمبلغ خمسين ألف ريال، ودفعت منها أربعين ألفاً، وبقيت عشرة آلاف، وقد طلقت الزوجة، فهل يلزمني دفع المبلغ الباقي؟ A نعم، يلزمك؛ لأن الوفاء بشروط الزواج أعظم أنواع الوفاء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج)، فما دمت قد التزمت لها بهذا المبلغ، وأنت الذي طلقتها بإرادتك لا بإرادتها هي؛ فعليك أن تعطيها كل حقوقها، وتزيد نفقة العدة على العشرة الآلاف، والتمتيع أمر مطلوب ومحبوب.

حكم امتناع الأب من تزويج ابنته بحجة إتمام الدراسة

حكم امتناع الأب من تزويج ابنته بحجة إتمام الدراسة Q ما قولك عن الرجل التي تخطب ابنته ويرفض بحجة إكمال الدراسة، حتى ولو بقي عليها القليل؟ وكثير من الناس يقول: الأب أدرى بمصلحة ابنته في إكمال الدراسة؟ A الحقيقة أن الزواج عبادة لله عز وجل، وعمارة للكون، وعفة للمجتمع، فهو غاية، أما التعليم فإنه وسيلة، والغاية تقدم على الوسيلة، وليس معنى ذلك أن نهون من شأن التعليم، ولكن التعليم الذي لا يقف عند حد ولا مرحلة، بل ويضيع فترة الزواج، ويضيع على الفتاة أغلى فترات عمرها، هذا أمر نعتبره جناية على المرأة، وعلى هذا فإننا نقول لذلك الأب: أخطأت يا أخي! فيمكن أن تزوجها ويمكنها ذلك الزوج من مواصلة الدراسة، لاسيما إذا كانت هذه الدراسة تتعدى حدود الحاجة، فإذا كانت هذه البنت لا تريد أن تتزوج حتى تحصل على آخر مرحلة من مراحل التعليم فربما تذهب زهرة شبابها، وأنتم تدركون أن المرأة فترتها للولادة وللتمتع محدودة أقل من الرجل، ولربما أنها تطمع في العمل والوظيفة حينما تكمل هذه الدراسة. ولذلك فإني أقول: بادر يا أخي! بتزويج ابنتك، وخصوصاً إذا كانت لها الرغبة هي في ذلك، وإذا كان عندها من الطموح ما يرغبها في مواصلة الدراسة فإن عليها أن تتفاهم مع ذلك الزوج حتى تكمل الدراسة، أما أن تعطل النساء داخل البيوت حتى تكمل أعلى مرحلة في التعليم، ثم يتلو ذلك أن تعمل مدة من الزمن؛ فإن هذا يعتبر في الحقيقة جناية على المرأة، وجناية على المجتمع.

حكم الخلوة بالمخطوبة

حكم الخلوة بالمخطوبة Q أنا شاب ملتزم والحمد لله، وخطبت بنتاً من عائلة معروفة، ولكن هذه العائلة نساؤهم لا يتحجبن، وقالوا لي: البنت تريد أن تتكلم معك وتتحدث وتخرج وتمزح معك، ووالدي يؤيدهم على عملهم هذا، ويقول لي: هذه خطيبتك ولابد أن تفعل ذلك معها، فما رأيكم؟ A أما بالنسبة لعدم تحجب هذه العائلة فليست عائلة محافظة، خصوصاً في بلادنا هنا -والحمد لله- أن أي امرأة لا تتحجب لا نعتبرها من عائلة محافظة، وربما يكون ذلك في بعض البلاد الأخرى، فقد تكون محافظة وتكشف الوجه والكفين أخذاً برأي له احترامه، لكنه لا يجوز في حال الفتنة، والفتنة ملازمة للمرأة. أما أن يصل الأمر إلى أن يمزح معها وينفرد بها، فإن هذا من الأمور المحرمة؛ لأنها ليست زوجة له، وبعد العقد يكون ذلك، أما قبل العقد فإنه لا يكون ذلك، و (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). ولكني أنصح ذلك الأخ الخاطب الذي وصل الأمر بالنسبة له إلى أن يطلب منه إلى أن يخلو معها أو يمزح معها أو تمزح معه، أن ينصرف عن هذه المرأة؛ لأنها امرأة عندها شيء من الانحراف.

حكم صلة مطلقة الأب المتوفى

حكم صلة مطلقة الأب المتوفى Q رجل تزوج امرأة ثم طلقها، وبعد ذلك توفي عنها، يسأل ابنه ويقول: هل علي أن أصلها وتكون من صلة الرحم؟ A نعم، إن كانت زوجة أبيك فإنها تعتبر من محارمك، ولو طلقها أبوك ولو مات عنها، فتبقى هذه المحرمية مدى الحياة؛ لأنها محرمة عليك، والمحرمية مربوطة بتحريم الزواج، فكلما كان الزواج محرماً بين رجل وامرأة فإن المحرمية تعتبر باقية، فهي من محارمك وصلتها طيبة؛ لأنها من صلة أبيك.

حكم من جامع امرأة في الظلام يظنها زوجته

حكم من جامع امرأة في الظلام يظنها زوجته Q إذا أتى رجل إلى بيته وظن أن زوجته في البيت، فجامع امرأة وهو لا يدري أنها زوجته بحجة الظلام، أو أنه لم يرها جيداً في الظلام، ثم تبين أنها غير زوجته، فما الحكم؟ A يا أخي! هذا لا يقع، لكن لو حدث هذا بدون إرادة، إذا كانت هي عالمة فإنها زانية، أما بالنسبة له إذا كان غير عالم فإنه يعتبر وطئاً بشبهة، لكن هذا لا يقع أبداً إلا في أمور مدبرة مسبقاً؛ لأن الجماع له مقدمات، والإنسان يستقبل زوجته ويراها وينظر إليها وتنظر إليه، فلا يبدأ الأمر هكذا مباشرة.

حكم من أسقط جنينا عمره شهران

حكم من أسقط جنيناً عمره شهران Q أنا شاب متزوج وسبق لي أن زنيت وأنا متزوج، وحملت مني، وبعد شهرين طلبت منها أن تسقطه، وفعلاً حصل الإسقاط، والآن بعد التوبة والندم على ما فات ماذا يجب علي: هل أصوم شهرين كفارة لقتله، أو ماذا أفعل؟ A هذا الذنب عظيم، زنا وقتل نفس! لكن لعل قتل النفس التي لم تتجاوز شهرين أمره أسهل، فأعتقد أن مثل هذا لا يوجب الكفارة؛ لأن الطفل في حدود شهرين لم يكمل فيه خلق الإنسان، ولم تنفخ فيه الروح، أما الذنب فإنه عظيم جداً، وعليك أن تصدق في هذه التوبة، وأن تكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنك، كما أن على المرأة أن تفعل شيئاً من ذلك هي أيضاً.

حكم كشف المرأة شيئا من بدنها للطبيب للضرورة

حكم كشف المرأة شيئاً من بدنها للطبيب للضرورة Q أنا امرأة متزوجة من أحد الشباب الملتزمين، ولكنني مريضة بمرض في القلب، وزوجي يمنعني من العلاج عند الدكتور الأخصائي الذي في المستشفى، وهو الذي يشرف على علاجي، بحجة أنه رجل وسوف يكشف عورتي، علماً بأنه سمح له بمرافقتي عند دخول الدكتور علي، مع العلم بأن مرضي نادر ولا توجد دكتورة متخصصة فيه، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟ A أما إذا لم توجد طبيبة فإنه يجوز لمثل هذه المرأة أن تكشف للطبيب، خصوصاً أن مرض القلب لا يصل إلى حد العورة المغلظة، وإنما يصل إلى كشف شيء من الجسد، لكني أرجو من المسئولين في هذه الدولة في وزارة الصحة أن يتقوا الله عز وجل، فإن كل الناس يتذمرون من إدخال نسائهم على الرجال، وأعظم من هذا في أمراض النساء الداخلية، وفي حالات الولادة، وصدقوني يا إخوتي! أن أكثر مستشفيات الولادة يتولى التوليد فيهن رجال، ونحن في بلد والحمد لله عندنا من الخير والنعمة والرخاء ما نستطيع أن نجذب فيه كل طبيبات العالم، علماً أن الطبيبات في العالم يساوين الأطباء أو يزدن. وعلى هذا فإني أقول لوزير الصحة ولكل مسئول في وزارة الصحة: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى قد ائتمنكم على عورات هؤلاء النساء، وإن أكثر الذين يولدون أو يعالجون أمراض النساء والولادة من الرجال، وهذه مسئولية عظيمة يتقلدها كل مسئول في الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع. أما أنت يا أختي السائلة! فيجوز لك في مثل هذا الحالة أن تقنعي الزوج، وعليه أن يقتنع ما دامت ليست هناك أخصائية، والمسألة وصلت إلى حد الضرورة، وليس هناك كشف للعورة المغلظة، وإنما هو فقط للصدر وما حوله، ففي مثل هذه الظروف يتسامح في هذا الأمر عند الضرورة، ويتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل وزير الصحة وكل مسئول في هذه الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع.

حكم مصافحة بنات الخال والعم

حكم مصافحة بنات الخال والعم Q أنا شاب ملتزم وعندي أقرباء لا يتحجبون، فإذا أردت أن أزور خالتي أو عمتي خرجن إلي بناتهن، ويصافحنني ويتكلمن معي، ويكشفن وجوههن عندي، فما أستطيع أن أفعل شيئاً، وإذا لم أزرهم هل أكون قاطعاً للرحم؟ A بنات الخالة والخال وبنات العمة والعم لسن من المحارم، وعلى هذا فلا تجوز مصافحتهن، ولا يجوز أن يكشفن الوجوه ما دام لم يكن هناك رضاع ولا نسب يبيح كشف الوجه، فليست هناك محرمية، وأعظم من ذلك إذا كانت هناك خلوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت). فعلى هذا أقول: لا يجوز لك يا أخي! أن تصافحهن، ولا أن تنظر إلى وجوههن، وتحرم عليك الخلوة بهن تحريماً مغلظاً.

الجمع بين حديث: (لو لم تذنبوا) وبين آيات الوعيد

الجمع بين حديث: (لو لم تذنبوا) وبين آيات الوعيد Q كيف نوفق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون) الحديث، ومن الآيات الواردة في الزنا والربا والأقوال الفاحشة وغيرها؟ A بالنسبة للحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)، أي: أن فطرة البشر أنهم معرضون للذنب، وليس معنى ذلك: أن الذنب قربة لله عز وجل، وإنما هذه فطرة بشرية؛ لأن الله تعالى جرت سنته في هذه الحياة أن يكون هناك مذنبون، وأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، والحكمة تتعطل لو أن الناس كلهم يعيشون حياة ملائكية، ولذلك فتح الله تعالى باب التوبة. أما الآيات والأحاديث في عقوبات المذنبين، وفي تحريم الذنوب؛ فهي باقية على طبيعتها ولا إشكال فيها، إنما سنة الله أن يبقى في هذا العالم من يذنب ويعصي ويطيع. والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الولاء والبراء

الولاء والبراء الولاء والبراء أصل من أصول الدين، فيجب على المسلم أن يؤمن به، وأن يطبقه في واقعه وحياته، فيوالي أولياء الله ويحبهم، ويعادي أعداء الله ويبغضهم، فمن كان كذلك فقد استكمل الإيمان، ومن لم يكن كذلك بأن والى أعداء الله، أو عادى أولياء الله، فإنه على خطر عظيم، وهو إلى النفاق والريبة أقرب منه إلى الإيمان.

وجوب تميز الأمة الإسلامية بهويتها

وجوب تميز الأمة الإسلامية بهويتها قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:51 - 59]. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! هذا هو موقف الأمة الإسلامية من أعدائها، والأمة الإسلامية أمة ذات عقيدة جاءت من عند الله ناسخة لكل الأديان، وحيث إن هذه العقيدة أُنزل فيها أعظم وأحسن كتاب أنزل إلينا من ربنا، فإن الأمة الإسلامية يجب أن تكون لها شخصية مستقلة تنفرد بها، ولا تذوب في الأمم، لاسيما من أعدائها الكافرين، وهذه الآيات التي سمعتموها حدد الله عز وجل فيها موقف المسلمين من جميع فئات الكفر: من أهل الكتاب اليهود والنصارى، ومن المشركين الوثنيين، ومن المنافقين، ومن المرتدين من المسلمين المارقين عن الإسلام. ولذلك فإن هذه الآيات حددت موقف المسلم من كل هذه الفئات، فلا تظنوا أن موقفنا واضح مع اليهود والنصارى أو مع الوثنيين فقط، لكن حتى مع المنافقين العلمانيين والمندسين في صفوف الأمة الإسلامية والمرتدين عن الإسلام، قال عز وجل: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، حتى لو كان يحمل في جيبه الهوية الإسلامية، ولو كان يعيش في بيت مسلم ومن أبوين مسلمين، لابد أن يناله نصيبه من هذا الولاء والبراء إذا انحرف عن دين الله عز وجل.

الولاء والبراء من أصول العقيدة الإسلامية

الولاء والبراء من أصول العقيدة الإسلامية والولاء والبراء أمرهما عظيم في دين الإسلام، فليسا من الفروع كما يظن بعض الناس، لكنهما من أصول العقيدة؛ فقد يرتد المسلم -نعوذ بالله- ويخرج من الإسلام بسبب ولائه وبرائه، ولذلك فإن الولاء بين المسلمين والكافرين أو بين المسلم والكافر أمر خطير جداً، وسوف نذكر شيئاً من معاني هذه الآيات مع التعليق، فالولاء أمره خطير، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وكيف كان أوثق عرى الإيمان؟ A لأنه يمس أصل العقيدة وأصل الدين، لا الفروع.

تحريم ولاية المسلمين للكافرين

تحريم ولاية المسلمين للكافرين يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. هنا حرم الله عز وجل الولاية بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، والمراد بالولاية: المحبة والاعتماد والتعلق والركون والضعف أمام هؤلاء من اليهود والنصارى، فبعض الناس اليوم يعتبرون اليهود والنصارى والكفرة والوثنيين والمارقين من الدين هم المخلصين في أعمالهم، وينبذون المسلمين الذين يُحصى عددهم في أيامنا الحاضرة بأكثر من ألف مليون مسلم، وكثير منهم يموتون جوعاً وهم بحاجة إلى أموال المسلمين، فهنا يحذر الله عز وجل الأمة الإسلامية فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، أي: ركناً تركنون إليه وتعتمدون عليه.

ولاء اليهود والنصارى بعضهم لبعض

ولاء اليهود والنصارى بعضهم لبعض ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، أي: بعض اليهود أولياء بعض من اليهود، وبعض النصارى أولياء بعض من النصارى، ويمكن أن يقال: (بعضهم) يرجع إلى اليهود والنصارى، و: (أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: من اليهود والنصارى، على خلاف بين علماء المسلمين: هل هناك ولاء عميق بين اليهود والنصارى، مع أن الله تعالى قال: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145]، أم أن اليهود والنصارى فرقة واحدة؟ وهم يرجعون إلى أصل واحد؛ لأنكم تعرفون في تاريخ الأديان أن النصارى فرقة من اليهود؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام حينما بعث إلى اليهود آمن به من آمن فسموا أنفسهم نصارى، فكان الذين اتبعوا عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود هم النصارى، والذين بقوا على دينهم ورفضوا ملة عيسى عليه الصلاة والسلام هم اليهود، لكن بالرغم من أن هناك صلة في النسب ولربما أن هناك عداءً في الأصل لكنهم يتفقون في حرب الإسلام، وصحيح أنه ربما تكون بينهم بعض الفوارق وبعض الحساسيات فيما بينهم، أي: فيما بين اليهود والنصارى، لكنهم يتفقون على حرب الإسلام، ولذلك لهم مواقف سجلها التاريخ اشتركت فيها جميع فئات الكفر، سواء كان ذلك في غزوة الأحزاب، أو كان ذلك في الحروب الصليبية، فنصارى العرب وضعوا أيديهم في أيدي نصارى الغرب، وفتحوا لهم البوابة التي هي لبنان، والتي هي دائماً مدخل البلاء والفتن على بلاد المسلمين، فتحوا تلك البوابة فجاءت هذه الأعداد الهائلة والسيل الكاسح من النصارى من بلاد الغرب، ونفذوا إلى المسلمين من جهة لبنان، واتخذوا من النصارى العرب جسراً للعبور إلى بلادهم، ولذلك نعتبر نصارى العرب هم أخبث أنواع النصارى؛ لأنهم يعيشون في بلاد الإسلام ولا يرعوون ولا يرجعون؛ ولأن قوميتهم ووطنيتهم التي يزعمونها لم تغن عنهم شيئاً. يقول الله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، أي: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، واليهود والنصارى أيضاً أولياء بعض حينما يريدون أن يتفقوا على حرب الإسلام، وإن وجد بينهم ما وجد من شيء من الخلافات السياسية أو المذهبية أو ما أشبه ذلك فإنما هي وقتيه، لكن حينما يكون الأمر في حرب الإسلام فإنهم أولياء بعض، كما أخبر الله عز وجل. ولذلك في الحروب الأخيرة في حرب المسلمين مع أعدائهم نجد أن فئات الكفر كلها تتفق في صف واحد، فلم يبق هناك إلا معسكران: معسكر الإسلام ومعسكر الكفر، ومعسكر الكفر تلتقي فيه حتى الشيوعية وما يسمى بالوفاق الدولي الذي سقطت فيه الشيوعية من أجل أن تنضم إلى المعسكر الغربي من أجل حرب الإسلام، وهذا في الحقيقة أكبر دليل يوضح لنا قول الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وكان بعض الناس يظن أن الكفر ملل، لكن الحقيقة أن الكفر ملة واحدة، لا تختلف يهوديته عن نصرانيته عن شيوعيته عن وثنيته عن علمانيته عن نفاقه عن أي بلاء من أنواع هذا البلاء. ولذلك حكم الله تعالى بأن بعضهم أولياء بعض، والله تعالى هو أصدق الحاكمين وأصدق القائلين، ولذلك يجب علينا أن نقبل هذا الحكم حتى لا نغتر بنوع من أنواع الكافرين، فابتسامة النصارى في وجوه المسلمين ربما تخدعهم، فأصبح النصارى في نظر طائفة كثيرة من الناس أنهم إخوة للمسلمين، وأنهم يعطفون على الأمة الإسلامية، أما اليهود فإنهم يحاربون الإسلام.

حقيقة مواقف النصارى من المسلمين

حقيقة مواقف النصارى من المسلمين الحقيقة أن مواقف النصارى في الحروب الصليبية أعظم بكثير من مواقف اليهود في الأيام الحاضرة، بالرغم من أن اليهود والنصارى كلهم ملة واحدة، لكن اليهود والوثنيين أعدى وأقسى في حرب الإسلام، كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]، وبعض الناس يفهم هذه الآية خطأً، ويظن أن هذه الآية تثني على النصارى وتقول: إن النصارى قريبون من الإسلام، وليس كذلك؛ فهذه الآية لا تثني على النصارى، وإنما تبين أن عداوة اليهود أخطر من عداوة النصارى، وإلا فعداوة اليهود والنصارى كلها ثابتة لا شك فيها؛ لأن الله قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} [المائدة:82]، فالمسألة مسالة تفاضل في شدة العداوة وخفتها. إذاً: العداوة بالمفهوم موجودة من اليهود والنصارى على حد سواء، لكنها في اليهود أشد وأقسى، علماً أن هذه الآية: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] نزلت في مناسبة، حتى لا يظن بعض الناس أنها هي صفة دائمة للنصارى، وأنهم دائماً يتعاطفون مع الإسلام؛ بل هم أعداء للإسلام، فالآية نزلت في مناسبة اعتناق النجاشي رضي الله عنه الإسلام، وكان من زعماء النصارى في الحبشة، وبكى حينما سمع القرآن، فأنزل الله تعالى في حقه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] الآية، صحيح أن القاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعداوة موجودة في اليهود والنصارى، لكنها بالنسبة لليهود أشد، أما النصارى فعندهم عداوة وحقد شديد على الإسلام، لكن حقد اليهود أشد من حقد النصارى على الإسلام. ولذلك ينخدع بعض المسلمين بالابتسامة التي يشاهدونها من بعض هؤلاء النصارى، لاسيما حينما يأتون إلى بلاد الإسلام، ولاسيما بلاد الإسلام المحافظة كبلادنا هذه؛ حيث نجد أنهم يبرزون كأنهم مخلصون، وكأنهم يريدون أن يقدموا خدمة، وهذا في الحقيقة أكبر دليل على حقدهم على الإسلام؛ لأنهم لا يستطيعون أن يدخلوا بلاد الإسلام، ولا أن يعيشوا مع المسلمين إلا من هذا الجانب حينما يظهرون الولاء، وحينما يظهرون العطف والرقة مع المسلمين، وهؤلاء ابتسامتهم تتغير حينما تتغير المعايير في يوم من الأيام، فقد ابتسم نصارى لبنان قبل الحروب الصليبية في وجوه المسلمين مدة طويلة من الزمن، حتى إذا جاء موعدهم مع نصارى الغرب كانوا هم أكبر معول يهدم في بلاد الإسلام، وهكذا قبل ذلك في بلاد الأندلس؛ فحينما فتح المسلمون بلاد الأندلس وتركوا الجبال الوعرة -وهي ما تسمى بجبال البرتغال في أيامنا الحاضرة- احتقاراً لشأنها، خضع النصارى لحكم الإسلام، وصاروا يشعرون بالولاء، ويشعرون المسلمين بالطاعة واللين، إلى أن تمكنوا من رقاب المسلمين فانقضوا على الأمة الإسلامية، فسقطت الأندلس وقامت دولتا أسبانيا والبرتغال. وهكذا هي دائماً مواقف الكافرين أياً كانوا يهوداً أو نصارى، فلا تغتروا بالابتسامة؛ فإن الله تعالى يقول: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8]. إذاً: المسألة هي مسألة إرضاء بالأفواه، أما الأصل فإن اليهود والنصارى كلهم أعداء للإسلام، ويكفينا دليلاً هذا الدليل الواضح: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فهذا حكم الله، والله تعالى هو الذي خلق القلوب، وخلق البشر، وخلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو سبحانه وتعالى الذي يقول لنا: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). إذاً: ليس هناك عداء بين اليهود والنصارى، فلا تغتروا أيها المسلمون! حينما ترون النصارى يتقربون إلى الإسلام، وأعمالهم لا تخفى عليكم الآن، فهم الذين يسومون المسلمين سوء العذاب في كل بلاد المسلمين، هم الذين يسعون الآن من أجل أن ينحرف أبناء المسلمين، كما قال عز وجل: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وأعمالهم لا تحتاج إلى كثير من التفصيل فهي معروفة. إذاً: على المسلمين أن يراجعوا تاريخ هذه الأمة من النصارى؛ حتى لا يغتروا بهم ولا يتخذوهم بطانة، فقد امتلأت بلاد المسلمين بالنصارى، لكن الظروف السياسية لا تسمح لليهود، أما بالنسبة للنصارى فقد امتلأت بلاد المسلمين بالنصارى؛ بل وامتلأت بيوت المسلمين بالنصارى، فمن يصدق أن الأسر الإسلامية أصبحت الآن تأتي بخادمات من بلاد النصارى والوثنيين، كبلاد الفلبين التي هي أحقد بلاد تذبح المسلمين هناك كالغنم، فيؤتى من هناك مربيات ومربون من أبناء النصارى يربون أبناء المسلمين على غير الفطرة! فعلى المسلمين أن يراجعوا تاريخ هذه الأمة، فالله تعالى هنا يقول: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).

حكم تولي اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار

حكم تولي اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ثم يأتي وعيد أشد: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فهذه ردة عن الإسلام، وهذا دليل على أن تولي اليهود والنصارى، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، والثقة بهم وتوليتهم مقاليد الأمور إنما هو ردة عن الإسلام بنص القرآن: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ)، والضمير في: (مِنْكُمْ) يعود إلى المسلمين، وقوله: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يعود إلى اليهود والنصارى، أي: إذا توليت اليهود والنصارى واعتمدت عليهم واتخذتهم بطانة من دون المؤمنين فأنت منهم، فأنت يهودي أو نصراني، فهذا نص القرآن لا يحتمل التأويل، فعلى المسلم أن يراجع حياته مع هؤلاء القوم؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ما هو السبب؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. فالذي ظلم نفسه هو الذي ربط نفسه بعجلة اليهود والنصارى، واتخذهم بطانة، وجاء بهم إلى بلاد المسلمين، وكثر سوادهم في بلاد المسلمين، وولاهم مقاليد الأمور، وهذا خطر شديد جداً، فعلى الأمة الإسلامية أن تعود إلى ربها حتى لا تقع في الردة، فالله تعالى يقول: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وأكد ذلك بقوله: (فَإِنَّهُ)؛ لأن كلمة (إن) لفظ من ألفاظ التأكيد، حتى لا يظن أحد أن الأمر ملتبس، بل هو مؤكد بـ (إن)، وقوله: (فَإِنَّهُ)، أي: الذي يتولى هؤلاء، (مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ولاء المنافقين لليهود والنصارى

ولاء المنافقين لليهود والنصارى لما نزلت هذه الآية كان المنافقون في المدينة -مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم- يعايشون المسلمين، ويندسون في صفوف المسلمين، واليهود كانوا موجودين في المدينة، واليهود يعتبرون أنفسهم أكثر أهل المدينة في ذلك العصر، وفيهم ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وهي من أكبر قبائل اليهود في المدينة، لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لعنه الله -كما يقول ذلك أيضاً المنافقون في أيامنا الحاضرة- قال: نحن لا نثق بمحمد، فمحمد ليس ركناً نعتمد عليه، نريد أن نعقد حلفاً مع بني قريظة وبني النضير، نخشى أن تصيبنا دائرة! ومعنى هذا الكلام: أنه يقول: نحن في المدينة مهددون بعدما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقول: نريد أن نعقد حلفاً مع اليهود، ونريد أن نربط أنفسنا باليهود، ولو كان الله يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} [المائدة:51]، فهو يقول: لا، سنتخذ اليهود أولياء؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة، فيهجم علينا أحد من أعدائنا من الخارج، فنستعين بهؤلاء اليهود، ولما قال هذه المقالة الخبيثة التي يقولها اليوم كثير من الناس، الذين لا يثقون بالله عز وجل، ولا يثقون بقوة الله ولا بنصر الله، ويقولون: نريد أن نعقد حلفاً مع أولئك القوم؛ لأننا نخشى أن يهجم علينا أحد من جيراننا أو من الأباعد، فنعقد مع هؤلاء حلفاً أو صلحاً أو هدنة أو تعاوناً أو ما أشبه ذلك؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة. والله تعالى أنزل قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة في ابن أبي، ومن سار على شاكلته من الذين يشعرون بالضعف، ولا يعتمدون على الله عز وجل في أمورهم، ثم على أنفسهم بعد ذلك، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52]، أي: نفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، أي: يسارعون في اليهود، وربما في اليهود أو في النصارى، فهذا ابن أبي يقول: أنا أعقد حلفاً مع اليهود؛ أخشى أن تصيبني دائرة. قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52]، أي: نفاق، {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، وانتبه يا أخي! إلى قوله: (فِيهِم)، ولم يقل: (إليهم)، والفرق بين (إليهم) و (فيهم) بعيد جداً، فـ (إليهم) تعني: يذهبون إليهم ويعقدون معهم صلحاً، لكن (فيهم) أي: يدخلون في وسطهم، فكأن هؤلاء ما اكتفوا بأن يعقدوا معهم حلفاً، وإنما اعتبروا أنفسهم جزءاً منهم، ولذلك ارتدوا عن الإسلام؛ لأنهم دخلوا في وسط اليهود، وأصبحوا -أي: المنافقون- يهوداً مثلهم؛ لأنهم يخشون أن تصيبهم دائرة، ولذلك قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، ولم يقل: إليهم، لماذا؟ لأنهم: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، أي: نخاف أن يهجم علينا أحد أو أن تصيبنا مصيبة ونحن ما استعددنا للقتال، وما عندنا إمكانات ولا عندنا أسلحة ولا تدريب، فنريد أن نعقد الحلف مع اليهود؛ حتى لو هجم علينا أحد من خارج المدينة نستطيع أن ندافعه بهؤلاء اليهود باعتبارهم داخل المدينة، فقال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، عسى من الله واجبة. وعسى في اللغة العربية تأتي بمعنى الترجي، لكنها من الله عز وجل ليست بهذا المعنى، وإنما (عسى) بمعنى: حري وقريب أن يأتي فتح من الله عز وجل، والمراد بالفتح: عز الإسلام وظهور الأمة الإسلامية، واستعداد الأمة الإسلامية لعدوها في أنفسها واعتمادها على أنفسها بعد الله عز وجل، وهذا يعني قرب ظهور الإسلام في الأرض، وبذلك يفشل عبد الله بن أبي لعنه الله ومن على شاكلته من المنافقين، ويتحطم اليهود أمام قوى المسلمين، وهذا هو الذي حدث بعد مدة وجيزة، فلم تمض سنوات قصيرة إلا وقد تحطمت كل فئات الكفر الثلاث المسيطرة على المدينة، فكلها تحطمت تحت أقدام المسلمين، حتى كان آخرهم بني قريظة الذين حكَّم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن يقتل كل رجل بالغ، وتسبى النساء والذرية، وتصير أرضهم ملكاً للمسلمين. إذاً: هذا تحقيق لخبر الله عز وجل؛ لأن (عسى) وإن كان أصلها في اللغة العربية للترجي، لكنها إذا جاءت من عند الله فمعناها التحقق والتأكد، أي: حري ومؤكد أنه سوف يأتي يوم يندم فيه كل إنسان يربط نفسه بعجلة الكافرين ويخشى أن تصيبه دائرة، وذلك حينما يأتي نصر من عند الله عز وجل، وإذا جاء نصر من عند الله يصبح هؤلاء القوم على ما أسروا من النفاق حينما ربطوا أنفسهم بالكافرين: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. وظهر الإسلام والحمد لله، وأصبح اليهود عبيداً يباعون ويشترون ويشغلون قسراً في بلاد المسلمين، وصارت أراضيهم ملكاً للمسلمين في المدينة وخيبر، وتحقق هذا الوعد، ويتحقق هذا الوعد دائماً وأبداً، ويعود الكافرون أذلة أمام المسلمين حينما يصدق المسلمون مع الله عز وجل، أما حينما يشعر المسلمون بالذلة والمهانة وهم في بلادهم وفي أرضهم، ويستخدمون عدوهم ليدافع عنهم وهم عاجزون، فهذا هو العار الذي يصيب الأمة الإسلامية في أيام تخلفها. أما الله عز وجل فقد حكم بأنه سوف يظهر هذا الإسلام بالرغم من الذلة التي يشعر بها المسلمون في يوم من الأيام، فسوف يظهر هذا الإسلام، ويندم الذين كانوا بالأمس يعتمدون على غير المسلمين من دون الله عز وجل. وقوله: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)، أي: ظهور الإسلام، (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)، أي: أمر لا يعلمه الناس، فقد تكون العلامات والأدلة تدل على أن المسلمين متخلفون، سواء كان في الصناعة أو في الإنتاج أو في التكتيك العسكري أو في التجنيد أو ما أشبه ذلك، لكن الله عز وجل له جنود السماوات والأرض، فعليهم أن يتجهوا إلى الله عز وجل، وأن يرتبطوا بالله عز وجل، وحينئذ يأتي أمر من عنده لا يعلمه الناس، وبعد ذلك إذا جاء أمر الله تتغير وجهة نظر أولئك الذين كانوا يريدون أن يربطوا أنفسهم بعجلة الكافرين ويقولون: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)، وحينئذٍ (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ).

التحذير من حسن الظن بالكافرين

التحذير من حسن الظن بالكافرين هكذا يعلمنا الله عز وجل كيف نحسن الظن به سبحانه وتعالى، أما أن نسيء الظن بالله عز وجل، وأما أن نحسن الظن بأعدائنا ونعتمد على أعدائنا فهذا لا يجوز، وقد أصبحت بلاد المسلمين الآن مرتعاً لكل كافر وطاغوت من طواغيت البشر ومن شذاذ العالم، وأصبحت بلاد المسلمين يرفع هؤلاء الكفار رءوسهم بها، ولربما يخفض كثير من المسلمين رءوسهم في بلاد المسلمين؛ بل لربما يخفض العلماء والدعاة والمصلحون رءوسهم في بلاد المسلمين، في وقت نجد أن شذاذ العالم والكفرة والمارقين من كل بلاد العالم يجوبون خلال الديار قد رفعوا رءوسهم في بلاد المسلمين! وهذه هي المصيبة، وهذه هي البلية، وهذه كلها ترجع إلى سوء الظن بالله عز وجل وحسن الظن بالكافرين، فحسن الظن بالكافرين جعلهم يعتمدون على غير الله عز وجل وعلى غير المؤمنين، ويتخذون بطانة من دون المؤمنين، وسوء الظن بالله عز وجل جعلهم لا يعتمدون على شيء من أمر الله سبحانه وتعالى، فتنكب المسلمون كثيراً عن دين الله عز وجل، وربطوا أنفسهم في عجلة الكافرين، وهؤلاء الكافرون بالرغم من أنهم ربما يمدون يد العون للأمة الإسلامية لمصالح مؤقتة، لكنهم يحملون الحقد الدفين على هذه الأمة، وهذا هو الشيء الذي يجب أن نؤمن به، ويجب أن نأخذه من كتاب الله عز وجل مباشرة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].

ولاء العلمانيين والقوميين ونحوهم للكافرين

ولاء العلمانيين والقوميين ونحوهم للكافرين وبعد ذلك ربما تنضم جبهات تزعم أنها على الإسلام إلى الكافرين؛ لتقول للكافرين: اضربوا الإسلام ونحن معكم! فسيأتي اليوم الذي تكون فيه القوة للأمة الإسلامية، وحينئذٍ يوجد المنافقون، لكن قد توجد فئات أخرى تشبه المنافقين من القوميين والعلمانيين والملاحدة والمتربصين والانتهازيين، إلى غير ذلك من الألقاب الجديدة، وهؤلاء هم لا يبالون بالأمة الإسلامية، ولا ينافقون، لكنهم يندسون في المجتمع الإسلامي ويقولون للكفار: افعلوا ما شئتم في الأمة الإسلامية فنحن معكم، وربما يربيهم الكفار في بلادهم، ثم يدسونهم في المجتمعات الإسلامية؛ ليخربوا صف الأمة الإسلامية، ولينتهزوا الفرص التي يجب أن تتحد فيها الأمة الإسلامية، فيتحرك أولئك كالجرذان كما رأينا في العام الماضي؛ فحينما انشغلت الدولة في حرب ألد أعدائها، وحينما كشر العدو عن أنيابه في عدة مناطق من بلاد المسلمين ضد هذه الدولة؛ نجد أن هؤلاء الفجرة تحركوا ليربكوا نظام الدولة، ومن أجل أن يستغلوا هذه الفرصة، ومن أجل أن يشوهوا سمعة المسلمين والدعاة إلى الله عز وجل، فهؤلاء لا يخفون على الله عز وجل، ولا يخفون أيضاً على المؤمنين. ولذلك الله تعالى يكشفهم هنا فيقول: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}، وهم على ثقة من إيمانهم ودينهم بالله عز وجل، أي: المؤمنون يقولون للكفار: {أَهَؤُلاءِ} [المائدة:53]، أي: يشيرون إلى المنافقين أو المندسين في صفوف المسلمين، الذين استعملهم الكفار لضرب الأمة الإسلامية من أبناء الجلدة، وقد يكونون من أبناء الجلدة، وغالباً يكون المنافقون هم من أبناء الجلدة؛ لأنهم يندسون في المجتمع من أجل أن يفسدوا الصف، وهم الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: بأنهم سوف يأتون في آخر الزمان وهم قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا -أي: باللغة العربية الفصحى- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فهؤلاء الدعاة يبرزون في نقط وفي مواقع سوداء من تاريخ الأمة الإسلامية، وكلما شعروا بضعف الأمة الإسلامية أو بضعف الدعاة، أو كلما توقفت الدعوة نشطوا هم من الجانب الآخر، كما شاهدتموهم في العام الماضي، فهؤلاء المؤمنون يستهينون بهم، اسمعوا ماذا يقولون عنهم: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: للكافرين، (أَهَؤُلاءِ)، وهذا من باب التحقير: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:53]، أي: تعتمدون أيها الكفار! على هؤلاء الذين حلفوا يميناً مغلظة بأنهم سوف يتعاونون معكم ضد الإسلام وضد الأمة الإسلامية، وهؤلاء لا خير فيهم، ولا قيمة لهم، ولا نقيم لهم وزناً ولو كانوا من أبناء المسلمين، ولو كانوا يتسلمون مناصب مهمة في بلاد المسلمين، فهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة، وسوف يكونون هم الضحية الأولى -إن شاء الله- حينما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده. وقوله: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ)، أي: كانوا يتظاهرون بالخير، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، أي: يغلظون الأيمان المتكررة، (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)، أي: ضدنا نحن المؤمنين، (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، أي: لا خير فيهم، وسقطت أعمالهم وبطلت. واختلف المفسرون في قوله تعالى: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، أهي من كلام المؤمنين أم من كلام الله عز وجل؟ فيُحتمل أنها من كلام المؤمنين يتهمون ويقولون للكفار: إن من تعاون معكم من أبناء جلدتنا من المنافقين المندسين في الصفوف الإسلامية هؤلاء لا قيمة لهم ولا وزن، ثم أيضاً هم مرتدون عن الإسلام؛ لأن معنى (حَبِطَتْ) أي: بطلت بسبب أنهم ارتدوا عن الإسلام. وقوله سبحانه: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]، لأنهم خسروا الدنيا وخسروا الآخرة، خسروا قومهم فانضموا إلى معسكر العدو، وخسروا الآخرة لأنهم ارتدوا عن دين الإسلام، فأصبحوا حطباً لجهنم، والعياذ بالله! هذا هو موقفنا مع الانتهازيين ومع العلمانيين ومع المتمسلمين، الذين يندسون في صفوف المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين؛ موقفنا معهم واضح كموقفنا مع اليهود والنصارى وجميع فئات الكفر، فموقفنا مع اليهود والنصارى أننا نقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، ولا نتولاهم ونركن إليهم، ولا نعتمد عليهم في أمر من الأمور، وموقفنا مع هؤلاء المحسوبين على الإسلام والذين يندسون في صفوف المسلمين من المخربين، موقفنا معهم الاستهزاء والسخرية، وأنهم لا خير فيهم، والدليل أنهم لا خير فيهم: أنهم يخربون على أنفسهم وعلى أبناء جلدتهم، ثم أيضاً هم مرتدون عن الإسلام بانضمامهم إلى الكافرين.

وعد الله تعالى بنصر الإسلام وتمكين أهله

وعد الله تعالى بنصر الإسلام وتمكين أهله بعد ذلك يقول الله تعالى للعالم الإسلامي كله: لا تخافوا على الإسلام، فالإسلام دين الله ظاهر، وحتى لو قدر أنه وجد من أبناء المسلمين من المنافقين وأشباههم الذين يزعمون الإسلام، وهم أبعد عن الإسلام مما بين المشرق والمغرب، لو وجد هؤلاء فلا تخافوا منهم؛ لأن لله جنود السموات والأرض، فلو ارتد من ارتد من المسلمين عن الإسلام فأصبحوا حرباً ضد الإسلام؛ فإن لله خلقاً لا تعلمونهم أنتم، وهؤلاء الخلق سوف يأتون في الفترة التي توجد فيها الردة عن الإسلام. والله إن هذه الآية كأنها تخاطب أهل هذا الزمان الذي نحن نعيش فيه؛ فإننا نرى في هذا الزمان قوماً ارتدوا عن الإسلام، وما ارتدوا عن الإسلام فأصبحوا يهوداً أو نصارى فقط؛ لكنهم أصبحوا شوكة تؤذي الأمة الإسلامية، وأصبحوا حجر عثرة في تاريخ الأمة الإسلامية، ووالله يا إخوان! إن الإسلام يُحارب في أيامنا الحاضرة بهم أكثر من أن يحارب باليهود والنصارى، ولا أكتمكم سراً حينما نقرأ عن رجل يقال له: محمد يقول: إن محمد الهاشمي وسورة (تبت) هي سبب تأخر المسلمين! فهذا رجل اسمه محمد، وفي نفس الوقت نقرأ في تاريخ اليهود الذين هم أحقد الناس على الإسلام أن رجلاً يُدعى برنارد يهودي يقول: لو بُعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة! قارن يا أخي! بين محمد وبين برنارد، محمد رجل مسلم من أهل المدينة، وبرنارد رجل يهودي من الحاقدين على الإسلام، وبرنارد يقول: لو بعث محمد اليوم لحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجاناً من القهوة. يعني: يستطيع أن يحل مشاكل العالم كلها وهو يشرب فنجاناً من القهوة. إذاً: لو ارتد من ارتد من المسلمين عن دين الله فلا تخافوا على هذا الدين؛ فإن هذا الدين تكفل الله عز وجل بحفظه، وتكفل برعايته حتى يسلمه كل جيل إلى الجيل الذي بعده؛ لأنه آخر دين في هذه الحياة؛ ولأن رسالته آخر رسالة؛ ولأن كتابه أشرف وآخر كتاب، فسيبقى هذا الدين، ولو ارتد كل العالم الإسلامي عن الإسلام؛ فإن لله قوماً سوف يوجدون في هذه الفترة التي تُوجد فيها الردة. وتعال معي يا أخي! إلى العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، قبل سنوات كانت التخمينات الضائعة الضالة تقول حتى للمسلم: فلان وفلان وفلان سوف يهلكون عن الوجود وينتهي الإسلام عن هذه الأرض، والله لقد كنا نسمع هذا الكلام يا إخوان! حتى المفسدون في الأرض كانوا إذا جاءوا بأفلام قيل لهم: متى هذه الأفلام؟ قالوا: ما جاء موعدها حتى الآن؛ انتظروا موعدها قريباً سيأتي؛ ومعنى ذلك: أنه سينحرف العالم الإسلامي، وتنحرف البلاد التي تطبق الإسلام! وهذه الأفلام ستطبق حتى هنا، وكان هنا أقوام يأتون بأفلام ما وصلنا إليها حتى الآن، ولا وصلت إلينا والحمد لله، فإذا قيل لهم: متى تنشر هذه الأفلام؟ يقولون: ما جاء وقتها، بقي عليها وقت قصير، ويتصورون أن الإسلام انتهى من هذه الحياة وبقي فلان وفلان في هذا العالم الإسلامي ينتهون وبعد ذلك تعود هذه الأرض كفراً بواحاً. لكن ما الذي حدث يا إخوان؟! في العشر السنوات الأخيرة التي كانت تقال هذه المقالات، وكانت تؤلمنا حينما نسمعها، ولولا ثقتنا بالله عز وجل وبدين الله سبحانه وتعالى لكنا نصدق بهذه الأخبار فنخاف على الأمة الإسلامية، لكن اليقين بالله عز وجل يطمئننا على هذا الدين فنقول: إن الله عز وجل يقول: {َلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:7]، ويقول: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]، ويقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ويقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. هذه الآيات تتردد أمام مخيلتنا دائماً وأبداً، فنثق بوعد الله عز وجل، فإذا بنا -والحمد لله- نعيش اليوم صحوة إسلامية جعلت السقف يخر عليهم من فوقهم، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أعني المتربصين بالإسلام الذين ينتظرون نهاية الإسلام في سنوات قريبة، فإن عاقبتهم كما قال الله عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26]، فنشأت ناشئة -والحمد لله- إسلامية وشباب إسلامي متدين متمسك بدينه، نشئوا على إسلام ليس متطرفاً كما يقولون عنه، وليس أصولياً، اللهم إلا إذا كانت الأصولية في معناها الصحيح وهو: أنه يرجع إلى الأصل في دينه، وليس متزمتاً، وليس منحرفاً، وليس متشدداً، ولكنه شباب يعيش إسلام الفطرة، لكن لما بعد الناس مدة طويلة من الزمن عن الفطرة الصحيحة ظنوا أن هذا الشباب متهور، وأنه متطرف، وما هو بمتهور ولا متطرف، فإذا به يأتي هذا الشباب، وأرجو أن يكون هذا هو وعد الله عز وجل في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. إذاً: من هنا نطمئن على دين الله عز وجل، لا نخاف على الإسلام؛ فالإسلام يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولا نخاف على الأمة الإسلامية إذا تمسكت بدينها؛ فإن الله تعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. إذاً: هذا الوعد يطمئننا على هذه الأمة الإسلامية، أما الإسلام فنحن مطمئنون عليه اطمئناناً كاملاً.

إذا ترك المسلمون دينهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه

إذا ترك المسلمون دينهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ما هو الطريق لو انحرف العالم الإسلامي كله عن دينه؟ الطريق: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وهذا هو الواقع، فلما تنكرت الأمة كثيراً للإسلام في أيامنا الحاضرة، وظن طائفة من الناس من ضعاف الإيمان أن الإسلام قد استنفذ أغراضه، وأنه سوف يخلي هذه الحياة؛ ليكون البديل هي الملل المنحرفة الكافرة، وخرج دعاة الباطل من الخارج ومن الداخل، وتضافرت الجهود، وانتشر الطغيان والفساد في الأرض، ولكن في هذه الفترة وجد هؤلاء القوم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]. ولذلك يبين الله عز وجل أن الخير لا يأتي إلا إذا استحكمت حلقات اليأس والمصائب، فالخير لا يأتي إلى الناس إلا حينما يكاد الخير أن يودع الأرض، ويكاد الشر أن يسيطر على كل الحياة، كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ومن هنا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54]، أي: من يخرج عن دين الإسلام ويظن أن الإسلام سيضيع إذا خرج عنه، ولكن لو خرج كل الناس عن الإسلام {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].

صفات القوم الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه

صفات القوم الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه لقد ذكر الله عز وجل لهؤلاء القوم ست صفات، لابد لأي واحد منا يريد أن يكون جندياً من جنود الله عز وجل أن يسجل نفسه في هذه القائمة، وأن يتسم بالصفات الست التي ذكرها الله عز وجل هنا، وهذه الصفات هي: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ست صفات لابد أن يتصف بها هؤلاء القوم الذين هم بديل عن القوم الذين تنكروا لدين الإسلام، وهؤلاء هم الذين سوف يمثلون الصحوة الإسلامية الصحيحة، وهؤلاء هم الذين سوف يقضي الله عز وجل بهم على هؤلاء المفسدين في الأرض. الصفة الأولى: (يُحِبُّهُمْ)، ومحبة الله عز وجل تتطلب الطاعة المطلقة التي لا ترتبط بقيد ولا شرط أبداً لله عز وجل ولرسوله. الصفة الثانية: (وَيُحِبُّونَهُ)، ومن محبتهم لله عز وجل أنهم آثروا دين الله سبحانه وتعالى على أي ملة، وعلى أي منهج، ولربما تقدم لهم إغراءات في هذا السبيل يسيل لها لعاب كثير من الناس، لكنهم يرفضونها، ويقول قائلهم بلسان الحال وبلسان المقال في جانب الله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب فهم يتمثلون بهذا الأمر، وحينئذ يحبهم الله عز وجل، ويحبونه سبحانه وتعالى، ومن محبتهم له سبحانه وتعالى أنهم يتفانون في سبيل الدفاع عن دين الله عز وجل، وهب أن أحدهم لقي الله عز وجل في سبيل هذا الدين إنما لقي الله بأجله لا بأجل إنسان آخر؛ فإن الله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. الصفة الثالثة: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، والذلة معناها: الخضوع، فهو يخضع للمؤمنين ويرق ويلين، فإذا أراد أن يتعامل مع مسلم مع مؤمن مع تقي تجده أرق من القطن؛ فحينما يريد أن يتعامل مع هؤلاء المسلمين يخضع لهم، ويحبهم، ويقدم لهم الطاعة في طاعة الله عز وجل، لكن حينما يريد أن يتعامل مع الكافرين يكون عزيزاً. الصفة الرابعة: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أقوياء، والعزة معناها: القوة، فهو يتعامل مع المسلمين بلين وسهولة، ويتعامل مع أعدائه بخشونة وقوة، وليس معنى ذلك أنه يظلم الكافرين، فإن الله عز وجل حرم علينا أن نظلم كافراً إذا كان مستأمناً في بلاد المسلمين، ولذلك يقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، وأنتم تعرفون كيف يتعامل الإسلام مع الكافر إذا كان يريد أن يعيش في بلاد المسلمين مستأمناً معاهداً، لا يتدخل في أمور المسلمين، وأصبح المسلمون مضطرين إلى بقائه في بلاد المسلمين، لاسيما إذا جاء ليدرس الإسلام ليدخل في الإسلام، فإنه يجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ عليه، ولا يُؤذى، لكنه لا يرفع رأسه في بلاد المسلمين، فلو رفع رأسه في بلاد المسلمين يجب أن يقمع حتى لا يتولى منصباً حساساً، كما هو الآن في كثير من بلاد المسلمين أو في جل بلاد المسلمين؛ حيث يتولون مناصب حساسة، فوالله لقد رأيناهم يا إخواني! يسومون المسلمين سوء العذاب حينما يتولى أحد منهم منصباً من المناصب، لاسيما نصارى العرب الذين تمكن طائفة منهم من بعض المناصب، فأصبحوا في بلاد المسلمين يذلون الأمة الإسلامية، ويتحكمون في مصير وأرزاق المسلمين. لكن الحقيقة أنه يجب أن تكون هذه العزة ليست على حساب الكافر الذي لا يحارب الإسلام؛ بل يجب أن تكون هذه العزة قوة في المسلم حينما يريد هذا الكافر أن يتمرد في بلاد المسلمين، أو أن يعلو في بلاد المسلمين، أو أن يرفع رأسه، فالله تعالى يقول: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أقوياء على الكافرين. الصفة الخامسة: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: يبذلون الجهد من أجل إعزاز دين الله، إذا تطلب الموقف أن يحمل السلاح في وجوه الكافرين حينما تكون الحرب بين المسلمين وبين الكافرين فإنه أسرع الناس إلى حمل السلاح، وإذا تطلب الموقف الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة فهو أسبق الناس إلى الدعوة إلى الله عز وجل، وإذا تطلب الموقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه هو الجندي من جنود الله عز وجل يستميت في سبيل الدفاع عن محارم الله عز وجل وعن محارم المسلمين. الصفة السادسة: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)؛ لأن المشكلة التي تعترض كثيراً من الدعاة أو كثيراً من المصلحين أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هي خوف لومة لائم، فبعض الناس يظن أن رزقه بيد البشر، وينسى أن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وبعض الناس يظن أن حياته بيد البشر، وينسى أن الله تعالى يقول: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، ويقول: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وبعض الناس يظن أن مصيره بأيدي البشر فيخاف، أما المؤمن الحق فإنه لا يخاف لومة لائم. وكلمة (لومة) كافية في المعنى، فما فائدة (لائم) في قوله: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)؟ أي: كائناً من كان هذا اللائم، ومهما كان مستواه، ومهما كان مركزه في هذه الحياة، فهم لا يخافون منه؛ لأنهم يعرفون أن كل شيء بيد الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). إذاً: يجب عن المسلم ألا يخاف لومة لائم حينما تنتهك محارم الله عز وجل، فيغضب لله عز وجل غضبة لا يمكن أن تقف هذه الغضبة حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، والمياه إلى مجاريها، أما أن يساوم في دين الله فهذا هو الأمر الخطير في حياة البشر، ولذلك أخبر الله تعالى بأن هناك مؤمنين لكنهم مؤمنون يرجعون من منتصف الطريق فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}، أي: أذى الناس، {كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10]، يقول الله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]. إذاً: هؤلاء الذين يرجعون من منتصف الطريق لا يصلحون لمثل هذه الحياة التي يرتد فيها أقوام عن الإسلام، ويتقدم أقوام يدافعون عن دين الله عز وجل وعن الأمة الإسلامية، يقول الله فيهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، أما إذا كانوا يخافون لومة لائم فإنهم لا يدركون محبة الله عز وجل؛ لأن هذا يعني عدم الثقة بوعد الله عز وجل، وعدم الاعتماد على وعده سبحانه وتعالى. إذاً: المسلم لا يخاف في الله لومة لائم، فلو تنكرت كل الدنيا في وجهه وهو يعرف أنه على طريق مستقيم فلا يبالي ولا يتوقف، وهذا بخلاف ذلك الذي يعبد الله -نعوذ بالله- على حرف وعلى طرف بين الإيمان والكفر: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]. إذاً: هذه الصفات الست هي: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ويمكن أن نضيف إلى هذه الصفات الست صفة سابعة وهي: الاجتماع على كلمة الحق لقوله: (بقوم)، فالله تعالى لم يقل: أفراد؛ لأن العمل الفردي في سبيل الدفاع عن هذا الدين ربما يصعب على المسلم، لكن العمل الجماعي من أجل رفعة هذا الدين، ومن أجل حماية هذا الدين من المفسدين في الأرض لابد منه، ولابد أن يتولى ذلك قوم، وهم الذين أشار الله عز وجل إليهم في سورة آل عمران بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران:104]، أي: لا أفراد، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، ودائماً الإسلام يخاطب المجموعة، ويريد أن تكون الأمة مجموعة لا متفرقة.

فضل الله عز وجل لا يكتسب بالمجد ولا بالنسب

فضل الله عز وجل لا يكتسب بالمجد ولا بالنسب يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]، وهذا لا يكتسب بالنسب ولا بالأمجاد ولا بالآباء ولا بالذكاء، إنما هذا فضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا تتعجبوا يا إخوان! إذا صدقناكم القول وقلنا: إن أبناء العلماء في أيامنا الحاضرة هم أقل الناس في هذه الساحة دخولاً في قوله سبحانه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، ووالله يا إخوان! لقد وجد في أيامنا الحاضرة من أبناء الفسقة والمدمنين للخمور وأصحاب السجون من يدافع عن هذا الإسلام أكثر مما وجد في أبناء العلماء وأبناء الصالحين، فالمسألة ليست متوارثة، وليست تكتسب بالآباء والأمجاد وبالأصول، وإنما تكتسب بفضل من الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

من هو الذي يجب أن نواليه؟

من هو الذي يجب أن نواليه؟ إذاً: من هو الولي الذي يجب أن نربط أنفسنا به، وأن نحبه، وأن نعطيه الولاء الكامل بعد الله عز وجل وبعد رسوله عليه الصلاة والسلام؟ A هو المؤمن التقي، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، فلا بد للمسلم ألا يركن إلا إلى المؤمنين. ولما حرم الله عز وجل على الأمة الإسلامية أن تركن إلى الكفار أياً كان هؤلاء الكفار: يهوداً أو نصارى أو وثنيين أو ملاحدة أو لا دينيين أو علمانيين، أو متمردين على الإسلام أو مرتدين؛ بين من هو الذي يجب أن يكون له الولاء بين المسلم والمسلم، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]. إذاً: من أراد أن يتولى وأن يتخذ بطانة وأن يتخذ أحباباً وجلساء وإخواناً يحبهم في الله عز وجل بعد الله ورسوله فهم المؤمنون؛ فالولاية يجب أن تكون لله ولرسوله وللمؤمنين، أما الكفار فإنهم يفسدون على الإنسان دينه. وهل سمعتم بقصة القوم الذين دخلوا في الإسلام وهم كثيرون، ثم إذا بهم يُحاربون من قبل جلسائهم، كـ عقبة بن أبي معيط الذي بصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عياذاً بالله! فإنه حينما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام وحضر مائدته عيره قومه وقالوا: يا عقبة! والله لا نكلمك أبداً حتى تطأ على عنق محمد، وتبصق في وجهه، وتعلن ردتك عن الإسلام، ففعل ذلك البعيد ما طلبوا منه، فأنزل الله عز وجل فيه قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29]، ثم قال الله عز وجل: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، فهذا بسبب المجالسة. وأبو طالب في آخر ساعة من حياته لو قال: لا إله إلا الله لأصبح من أهل الجنة، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشقيق أبيه، يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه في ضحضاح من نار، وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه في ساعة احتضاره وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فالتفت إلى جلسائه يميناً وشمالاً فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! قال: هو على ملة عبد المطلب - نعوذ بالله -، فخرجت روحه وهو يقول: على ملة عبد المطلب)، فحرم الله عز وجل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].

صلة الدين مقدمة على صلة القرابة والنسب

صلة الدين مقدمة على صلة القرابة والنسب فالمسألة ليست مسألة قرابة، صحيح أن القرابة محترمة، وأن الرحم أمر الله عز وجل بصلتها، وأمر ببر الوالدين والإحسان إلى الأقارب والعشيرة، لكن ذلك حينما يكون الدين واحداً، أما حينما يتفرق الناس في دينهم فإن الله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، وهذا وعيد شديد على من ربط نفسه بغير المؤمنين. وهذا نوح عليه السلام يسأل الله عز وجل نجاة ابنه لما رفض أن يركب السفينة، وأن يدخل في دين نوح عليه الصلاة والسلام فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، فقال الله عز وجل له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]. وإبراهيم لما كان يستغفر لأبيه منعه الله تعالى من ذلك وبين عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وقال لنا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. إذاً: هذا هو الذي يربطنا بالناس أو يحل الرباط بيننا وبين الناس، ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! فالرسول صلى الله عليه وسلم كانت بطانته بلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وغيرهم رضي الله عنهم، وكانوا قد جاءوا من بلدان بعيدة عن بلاد العرب، لكن أين أبو جهل وأبو لهب أقاربه؟! قال الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. فالمسألة ليست مسألة قرابة، وإنما هي مسألة إيمان؛ فهو الذي يربطنا بالصالحين، أو يفرق بيننا وبين الفاسقين أياً كانت درجتهم في القرابة، ولذلك يقول الله تعالى: (إِنَّمَا)، و (إنما) للحصر، أي: ليس هناك ولاية إلا من هذا الطريق، ومن أراد أن يضع ولاية بينه وبين إنسان أياً كان هذا الإنسان حتى لو كان أقرب الناس منه فعليه أن يراجع هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] فقط.

حرمة موالاة الكافرين بأي نوع من أنواع الولاية

حرمة موالاة الكافرين بأي نوع من أنواع الولاية أما الكفار فلا تجوز أن تكون بيننا وبينهم ولاية أو محبة أو عشرة أو أخوة، أو أي علاقة من العلاقات التي تربط بين البشر فيما بينهم، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، حتى لو كان ركوناً بسيطاً؛ بل حتى لو كان ميلاً، فإن الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الكافرين: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، ففي هذه الآية: أولاً: أن هذا رسول الله. ثانياً: كون الركون شيئاً قليلاً. ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فكر في الركون إليهم من أجل أن يدافع عن الإسلام فقط، وإنما يريد أن يكسبهم إلى الإسلام، ومع ذلك قال الله تعالى له: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا} [الإسراء:74 - 75]، يعني: لو فعلت ذلك يا محمد! وركنت إليهم ولو شيئاً قليلاً، {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75]، يعني: عاقبناك في الدنيا عقوبة مضاعفة، وعاقبناك في الآخرة عقوبة مضاعفة. إذاً: المسألة مسألة عقيدة، فالصلة بالكفار وبالمؤمنين مسألة عقيدة، وليست مسألة فرعية، وإنما هي عقيدة تخرج الإنسان من دائرة الدين أو تدخله في دائرة الدين، وهنا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، ليس فقط الذين آمنوا باللسان، بل حتى المؤمن الذي لا تربطنا به علاقة إلا إذا طبق هذا الدين تطبيقاً حقيقياً.

صفات المؤمنين الذين تجب ولايتهم

صفات المؤمنين الذين تجب ولايتهم يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فلابد من تطبيق تعاليم الإسلام، وأن يكون ذلك الذي نربط أنفسنا به مطبقاً لهذا الإيمان ومقيماً لتعاليم هذا الدين، فمن صفاته: أنه يقيم الصلاة، فغير المصلي مرتد عن الإسلام، ولا تجوز ولايته بأي حال من الأحوال، وقد لعن الله عز وجل بني إسرائيل مع بعضهم حينما كان بينهم ولاء على غير هذا المبدأ، وإن كان أحدهم ينهى الآخر عن المنكر، لكن ما كان ليفارقه؛ بل كان هو جليسه وأكيله وشريبه وهو يجده على المنكر، فالله تعالى يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79]. ثم قال بعد ذلك: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80]، فالتولي لعن فيه اليهود لما تولوا كفاراً تمردوا على دين اليهود. إذاً: نقول: ما رأيك يا أخي! في الأمة الإسلامية لو تمردت أو ربطت أنفسها بمن تمرد على دين الإسلام؟ تكون المصيبة أكبر؛ لأن دين الإسلام له احترام أكثر من الأديان كلها، فالله تعالى يقول: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهو مهيمن على كل الأديان، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين الذين يجب أن تكون الولاية بيننا وبينهم وثيقة: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، حتى ولدك يا أخي! إذا وجدته لا يصلي -وهذه ردة عن الإسلام عند جمهور العلماء- فليس من أوليائك؛ بل يجب عليك أن تحاربه، وإذا عجزت عن إصلاح هذا الولد -لاسيما إن كنت فرطت في أيام شبابه وطفولته- فلا يجوز لك أن تواليه بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، وحتى الصلاة وحدها لا تكفي؛ بل لابد أن تكون صلاة قيمة مستقيمة كاملة، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، فإن عدم إتيان الزكاة أيضاً خطر، (وَهُمْ رَاكِعُونَ)، أي: وهم خاضعون لله عز وجل. إذاً: من لم يخضع لله ولا لدينه سبحانه وتعالى فإننا لا نقبله لأن يكون ولياً لنا أياً كان، حتى لو زعم الإسلام، ولو كان من أبناء المسلمين الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويحملون الهوية الإسلامية في جيوبهم، فهؤلاء ما دمنا نرى تصرفاتهم تناقض الإسلام فليسوا بأولياء، ولا تجوز موالاتهم في أي حال من الأحوال، وإنما الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

حزب الله تعالى هم الغالبون

حزب الله تعالى هم الغالبون ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وفي هذا إشارة إلى أول الآيات، فأول الآيات تقول: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52]، أي: يشعر بعض المسلمين بالضعف في بعض الأحيان، لاسيما إذا أهملوا الأمر ولم يستعدوا لقتال العدو، فيربطون أنفسهم بالكافرين خوفاً من عدو، فالله تعالى هنا يبين في هذه الآية أن الغلبة إنما هي للمؤمنين، ولو كان العدد قليلاً، ولو كان العدو كثيراً، وإن كان الأصل أنه يجب الاستعداد للعدو، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، لكن حينما لا يكون هذا التكافؤ، فيجب على الأمة الإسلامية مهما قل عددها وعدتها، ومهما شعرت بالضعف يجب عليها أن تشعر بالقوة؛ لأنها تستمد القوة من الله عز وجل؛ ولأن قلوب الخلائق ونواصي الخلائق في قبضة الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا يجوز للمسلم أن يخاف من عدوه أبداً؛ فإن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ)، أي: جماعة الله، (هُمُ الْغَالِبُونَ)، أي: أن الذين يرتبطون بالله عز وجل مباشرة، ويعتمدون على الله في كل أمورهم هم الغالبون، ولو كانوا قلة في العدد أو في العتاد، فالله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، ويقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْن} [الأنفال:65]، فالأمة الإسلامية لا تقاس بعدوها من الناحية العَددية أو العُددية، وإنما تقاس بعدوها من ناحية الإيمان وتطبيق هذا الدين أو عدم تطبيقه، فبمقدار ما تطبق من دين الله عز وجل يكون نصيبها من النصر، فجند الله عز وجل هم الغالبون.

تحريم موالاة المستهزئين بدين الله عز وجل

تحريم موالاة المستهزئين بدين الله عز وجل ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57]، إنه تعبير عجيب! فقوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) أي: منكم أنتم، فالمسألة ليست مسألة يهود ونصارى، وإنما المسألة مسألة خروج عن هذا الدين؛ سواء كان هذا الخارج عن الدين انتسب إلى دين سماوي منسوخ كاليهود والنصارى، أو انتسب إلى ملة منحرفة ككفرة هذا العصر الذين لا ينتسبون إلى مبدأ ولا إلى دين، فهناك ملاحدة لا دينيون، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يؤمنون بالأديان، ولا بالبعث بعد الموت، ولا بالمرسلين، ويسخرون أيضاً من الدين والعياذ بالله! وهؤلاء أيضاً هم عدو لنا أخطر من عدونا من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:57]. فهم يهزءون بالدين والعياذ بالله! ويقول أحدهم ساخراً: انظر إلى لحية فلان! انظر إلى ثوبه القصير! انظر كيف يصلي ويضع يديه على صدره! وهذه كلها يا أخي! من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غفل عنها الناس مدة من الزمن، ويأبى الله إلا أن تعود هذه السنة في هذا العصر المظلم، ولذلك نجد هذا الطعن في الدين يكثر في أيامنا الحاضرة، فيصل إلى درجة خطيرة جداً! والله تعالى حكم على الذين يسخرون من الدين بأنهم أئمة الكفر فقال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، ولم يقل: كفرة، وإنما قال: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]؛ لأنهم قادة الكفرة، {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]، أو (لا إيمان لهم) في قراءتين سبعيتين. إذاً: القضية قضية كفر، وليست قضية يهود أو نصارى فقط؛ بل ومن ينتسب إلى الإسلام أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} [المائدة:57]، فالذين أوتوا الكتاب من قبل هم كفار أيضاً؛ لأن دينهم منسوخ، وقوله: (وَالْكُفَّارَ) أي: من بعدكم وممن كان فيكم، فهؤلاء هم الكفار حقيقة؛ لأنهم كفروا نعمة الله عز وجل بعدما رأوا الدين والخير والنور، وصار حالهم كما قال الله عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]، وما هؤلاء المرتدون عن دين الإسلام المارقون عن الدين إلا هؤلاء الذين يقول الله عز وجل عنهم -والله أعلم بأسرار كتابه- أنهم هم الكفار بعد ذكره لليهود والنصارى. قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:57 - 58]، فاليهود والنصارى والمشركون كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نادى للصلاة، يقولون: (قاموا لا قاموا)! وهم يسخرون من المسلمين حين يصلون في المسجد الحرام، فإذا بدءوا يصلون بدءوا يضحكون ويسخرون منهم. ومن أبناء المسلمين الآن من يفعل ما هو أكبر من ذلك، ومن يسخر من هذا الدين، ويسخر من أبيه وأمه ومنهجه ومجتمعه، لاسيما الشباب الذين انفتحوا فجأة واحدة، والذين انطلقوا في هذا العالم بعدما كانوا مضبوطين في مجتمع خاص. إذاً: المسألة خطيرة أيها الإخوة! فهؤلاء الذين يسخرون علامتهم أنهم يسخرون من الصلاة. وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي: إذا سمعوا الأذان: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58]، وليس معناه: أنهم ليس لهم عقول؛ بل لهم عقول، لكن هذه العقول ما استعملت فيما خلقت له، بل استعملت في غير ذلك؛ فبعضهم قد يكون أذكى الناس في العلوم التي يبرز فيها الذكاء، لكن عقله محدود لا يؤمن إلا بالمحسوسات، كما أخبر الله عز وجل عن هؤلاء بقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]. أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا والأمة الإسلامية -ولا نقول: الإسلام؛ لأن الإسلام محفوظ- من كيد الكائدين، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو الوثنيين أو العلمانيين أو المندسين في صفوف المسلمين، والله المستعان: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم موالاة الكفار بحجة أنهم قد يقفون مع المسلمين أحيانا

حكم موالاة الكفار بحجة أنهم قد يقفون مع المسلمين أحياناً Q فضيلة الشيخ! ما هو موقفنا من بعض جهلة المسلمين الذين يقولون عندما نناقشهم في مسألة الولاء والبراء: إن الكفار قد ناصرونا ووقفوا معنا، بعكس بعض المسلمين الذين وقفوا ضدنا، فكيف نجيبهم، وجزاكم الله خيراً؟ الجوب: نقول: وهذه من الفتنة؛ فإن الأمة الإسلامية حينما تحتاج إلى عدوها لتنتصر به في وقت نجد أن أقرب الناس قد خذلها تُعتبر من الفتنة، فالله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: هل تتحملون هذه الفتنة؟ فنقول: هذه من الفتنة، لكن بالرغم من ذلك تأكدوا أن أعداء الإسلام لا يمكن أن يمدوا لنا يد العون حباً ولا ولاءً، وإنما لمصالح أخرى، لكن ذلك لا يجوز أن يكون سبيلاً للمحبة، فالمحبة لا سبيل إليها مع الكفار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، والله تعالى حرم الموادة، لكنه ترك المودة، فالمودة تغلب الإنسان، فهي قهرية بدون إرادة، أما الموادة -وهي: تبادل المحبة- فهذه هي الخطيرة، ولذلك يقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة:22]، فالموادة غير المودة، فالموادة: هي تبادل المحبة وإظهارها، أما المودة: فإنها شيء فطري، وهي خطيرة، اللهم إلا إذا كانت موافقة للفطرة؛ كأن يكون لأبوين كافرين.

الموقف من وجود الكفار في جزيرة العرب

الموقف من وجود الكفار في جزيرة العرب Q ما موقف العلماء وطلبة العلم والمسلمين عامة من كثرة النصارى والشيوعيين والوثنيين في جزيرة العرب، علماً بأنهم كثير في هذه البلاد لا كثرهم الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)؟ الجوب: الحقيقة أن هذه أيضاً من الفتن الكبرى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، وليس المعنى أنهم لا يجتمعون؛ لأنه لو كان المعنى: لا يجتمعون فسيكون خبراً، وقوله: (لا يجتمعْ) إنشاء، أي: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وعلى هذا نقول: إن هذه من الفتن، والأمة الإسلامية حقيقة ليست بحاجة إلى هؤلاء الكفار، ولنا أمل في الله عز وجل أن يوفق المسئولين إلى أن يقللوا سواد هؤلاء في بلاد المسلمين، أو أن يقضوا عليهم نهائياً، أما وجودهم فهو فتنة، وهذا هو ما نشكوه إلى الله عز وجل، ولا نستطيع أن نقول في ذلك أكثر من ذلك.

حكم الملابس التي تحمل صورا لمدن وأشخاص غير مسلمين

حكم الملابس التي تحمل صوراً لمدن وأشخاص غير مسلمين Q نجد في الأسواق كثيراً من الملابس قد كتب عليها أسماء مدن غربية، أو تحمل صوراً لأشخاص من الكفار، وهذه الملابس غالباً ما تكون ملابس أطفال أو نساء، فهل في هذه الملابس إذا استخدمها أهل بيوتنا نوع من الولاء للكفرة، مع العلم أن بعض الأطفال قد يلبس هذه الملابس ويسأل عما كتب عليها من كتابات، فإذا أخبرته باسم هذه المدينة أو باسم هذا الشخص فإنه يجد تكبراً في نفسه، أو يكبر في عينه ذلك الشخص، علماً أن كثيراً من ملابس الأطفال لا تخلو من الصور، فماذا تنصحونا وجزاكم الله خيراً؟ A البحث يشمل أمرين: الأمر الأول: الصور، وهذا محرم، لاسيما أنها صور رسوم باليد، وهذه لا خلاف بين علماء المسلمين في تحريمها، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهتك الصورة بحيث تقطع إلى قطعتين، فهذا أمر منهي عنه إذا كانت صورة ترسم باليد، وهذا هو الواقع بالنسبة للصور التي توجد في الملابس. أما الأمر الآخر: فهو ضعف في الشخصية الإسلامية تجاه الكفار، وهذا أمر أخطر من الأول، ولذلك فإن تربية الأطفال وإن ميول النساء إلى اقتناء هذه الصور، أو الاعتزاز بها من صور غير المسلمين أمر خطير، والأمة الإسلامية مطالبة -لا نقول: بأن تضع صور أبطال الإسلام في ملابسها- ولكن بأن تهتك هذه الصور، وأن تقاطعها، ولا تشتريها، وحينما تقاطع فإنها لن تنتشر في أسواق المسلمين، وإنما تنتشر في أسواق المسلمين حينما لا تكون هناك مقاطعة، وهذا دليل أكيد على ضعف شخصية الأمة الإسلامية.

حكم المداينة مع الكفار

حكم المداينة مع الكفار Q أنا موظف في أحدى الدوائر الحكومية، ولدينا الكثير من الجنسيات ومن الديانات الأخرى، وأنا أقوم أحياناً بإقراض هؤلاء الموظفين من المال، وهذه الديانات منها النصارى والمجوس والهندوس، أفتوني جزاكم الله خيراً؟ A أما بالنسبة للإحسان فالله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، والمراد بالبر: الإحسان إليهم، فحينما يفتقر في بلاد المسلمين رجل كافر فالأمة الإسلامية لا تُنهى أن تحسن إلى هذا الرجل الكافر، كما كان يفعل ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته، أما أن يصل الأمر إلى ولاء ومحبة وتبادل هدايا أو أقراض وقضاء حاجات وذوبان مع هؤلاء فذلك لا يجوز، أما إذا كان الأمر فقط مجرد إحسان تستطيع من خلال هذا الإحسان أن تجذبه إلى الإسلام، وأن تحبب له دين الإسلام، فهذا أمر طيب ولا بأس به، أما أن تريد أن تذوب حتى لا تفرق بين مسلم وكافر وثنياً أو يهودياً أو نصرانياً فهذا هو الأمر الخطير. لكن يجب أن يكون السؤال: لماذا بلاد المسلمين ولماذا الدوائر الحكومية يكون فيها الوثنيون واليهود والنصارى؟! فهناك مليار من المسلمين أكثرهم يموتون جوعاً في بلاد البنغال وغيرها، فلماذا لا تكون العمالة من بلاد المسلمين؟! فمثلاً: التمريض الآن لا نكاد أن نجد فيه خمسة في المائة مسلمات، مع أن هناك في بلاد الفلبين اثني عشر مليوناً من المسلمين، ولكن كم رأينا من المسلمات الممرضات أو من المسلمين الممرضين من يؤتى به إلى هنا؟ فالسؤال يجب أن يقال: لماذا هؤلاء يكثرون في دوائر الحكومة؟! ولماذا هؤلاء يكثرون في العمالة وفي المؤسسات؟! ولماذا لا يستبدل هؤلاء بالمسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]؟! ولماذا نكثر سوادهم ونعطيهم أموال المسلمين، وبأموال المسلمين يُذبح المسلمون في الهند وُيذبح المسلمون في الفلبين وفي مناطق كثيرة؟! فهذا السؤال يجب أن يكون دائماً أمام أي واحد من المسلمين ليجيب عليه، ويجب على العالم الإسلامي أن يرجع إلى هذا الدين الصحيح حتى لا يعتمد على غير المسلمين بعد الله عز وجل.

حكم قول (سيستر) للممرضات الكافرات

حكم قول (سيستر) للممرضات الكافرات Q كثير من النساء وكذلك الرجال ينادون الممرضات اللواتي يعملن في المستشفيات بقولهم: (سيستر)، بمعنى: يا أخت! فما هو الحكم من حيث الولاء والبراء، مع العلم أنهن كافرات، وقد تساهل كثير من الناس في ذلك، وفقكم الله؟ A الحقيقة أن هذه من الأخطاء الشائعة الكبيرة، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فليس الكافر أخاً للمسلم، وعلى هذا نقول: يجب أن تُستبدل هذه الكلمة ما دمنا مجبرين على أن نعيش مع هؤلاء ونحتاج إليهم بكلمات لا تدل على الولاء ولا على المحبة، وإنما تكون كلمات فقط كافية للنداء.

حكم تأجير البيوت وغيرها للكفار

حكم تأجير البيوت وغيرها للكفار Q هل يجوز أن أؤجر بيتي على غير مسلم؟ وإذا كان عندي مستأجر غير مسلم فهل أخرجه أم ماذا، وجزاكم الله خيراً؟ A التعامل مع غير المسلمين الذين لا يحاربون الإسلام أمر جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند يهودي، لكن حينما يكون المسلم بحاجة إلى بيتك أو بحاجة إلى مالك أو إلى أمر من أمورك فهو أحق بهذا الأمر، لكن هذا الكافر ما دام قد سُمح له بالبقاء في بلاد المسلمين فإن استطعت ألا يكون قريباً منك فافعل، أما إذا كان هذا البيت ملاصقاً لك أو ملاصقاً لأسرة مسلمة فلا تفعل ذلك؛ حتى لا يؤثر على هؤلاء المسلمين، وأما إذا كان في منأى عن البلد ولا يختلط بالمسلمين فلعل ذلك يجوز، وذلك كأمر ضروري فقط، وإلا فالأصل أن الإنسان يجب ألا يتعاون مع هؤلاء في أي أمر من الأمور.

حكم الإعجاب بالكفار، وأثر ذلك على الدين والأخلاق

حكم الإعجاب بالكفار، وأثر ذلك على الدين والأخلاق Q نلاحظ في هذا الزمان أن كثيراً من المسلمين -هداهم الله- وخاصة الشباب الذين درسوا في بلاد الغرب قد أعجبوا بأخلاق أولئك القوم من الغرب والشرق؛ حتى إننا نسمع كثيراً أن فلاناً من الناس يتحدث عن هؤلاء الكفرة، بل ويصفهم بالمحافظة على الوعد ودقتهم في ذلك، وفي المقابل نجده يقارن ذلك بحال المسلمين، وأن معظمهم لا يهتم بالوفاء بالوعد وغير ذلك، وأنهم همج، فما تعليقكم على ذلك؟ الجوب: الحقيقة أن الإعجاب بالكافرين هو أكبر سبيل للذوبان في أخلاقهم وسلوكهم، ولذلك فإن الثناء عليهم لا يجوز، ويقابل ويصطحب هذا الثناء سب المسلمين، فالذين يأتون بالعمالة الكافرة إذا قيل لهم: اتقوا الله، يقولون: هؤلاء يصدقون بالوعد، والمسلمون خونة، والمسلمون يضيعون الوقت في الصلاة وفي الصيام! نعوذ بالله! وهذا الأمر خطير جداً، ولربما يكون هناك شيء من الصحة أن هؤلاء الكفار قد يوفون بالوعد وغير ذلك، والسر في ذلك يرجع إلى أنهم يشعرون بالنقص، فهم يريدون أن يكملوا، لاسيما إذا أرادوا أن يحرفوا الأمة الإسلامية، فإنهم من خلال هذه الأخلاق يستطيعون أن يؤثروا على الأمة الإسلامية، إضافة إلى أن الكافر قد انتهى منه الشيطان، فلماذا يأمره بإخلاف الوعد أو بالخيانة أو ما أشبه ذلك؟ وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب، كما جاء في الأثر؟ وعلى كل: أيها الإخوة! إن كانت هناك بعض الصفات صحيحة بالنسبة لهؤلاء فيجب عدم الاهتمام بها؛ لأن الإسلام فوق ذلك كله، وإن كانت الأمة الإسلامية مطالبة بالوفاء بالعهد وبجميع مكارم الأخلاق، أما أن تكون هذه الصفة من صفات الكفار، أو الذين ذهبوا إلى بلد الكفار وصاروا يشرحون أوضاعهم ويبينونها للناس هنا إنما يريدون أن يبثوا دعاية لهؤلاء الكافرين، وهؤلاء لا خير فيهم، فننصح الإخوة أن يتعاملوا بمثل هذا التعامل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الثناء على من لا يستحقون الثناء من أولئك الذين طردهم الله عز وجل من رحمته.

أهمية اعتزاز المسلم بدينه

أهمية اعتزاز المسلم بدينه Q حبذا لو أشرتم إلى عزة المسلم، وأن النصر للمسلمين، وما ذاك إلا لبعث الهمة في قلوب المسلمين؛ لتنطفئ نار التعلق والاتكال على الكافرين؟ A ما علينا إلا أن نقرأ القرآن بتفهم وتدبر فسنجد كيف أن الله عز وجل يعد المسلمين بالفرج والنصر، كما قال عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، إلى غير ذلك من الآيات، لكن الشيطان يخوف أولياءه؛ فإذا ضعف الإيمان في ذهن واحد من الناس وفي عقل واحد من الناس بدأ الشيطان يخوفه بأعداء الله عز وجل، أما الأمر الذي يجب أن نتأكد منه فهو أن النصر بيد الله وليس بيد البشر، وأن الله عز وجل يؤتيه من يشاء، كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وعلى هذا فإن الاعتماد على ما في أيدي الكافرين وأعداء الإسلام إنما هو ذلة ومهانة، وما في يد الله عز وجل هو الأمر الحق.

الفرق بين الحب والبغض في الله وبين الولاء والبراء

الفرق بين الحب والبغض في الله وبين الولاء والبراء Q هل الحب والبغض في الله هو نفسه الولاء والبراء، أي: أنهما لفظان لمعنىً واحد، أم أن المعنى يختلف؟ A نعم هما لفظان متباينا اللفظ، لكنهما متفقان في المعنى، فالحب في الله معناه: الولاء، والبغض في الله معناه: البراء من الكافرين ومن الفسقة المجرمين. والولاء والبراء والحب والبغض في الله سبحانه وتعالى هو أن الإنسان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ويكره الإنسان من أجل بعده عن دين الله عز وجل، هذا هو معنى الولاء والبراء، ومعنى الحب والبغض في الله سبحانه وتعالى، والأولان هما اللذان جاءا في القرآن في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وهكذا البغض أيضاً.

حكم طاعة الأخ الذي يأمر بمعصية

حكم طاعة الأخ الذي يأمر بمعصية Q فضيلة الشيخ! أخي يمنعني عن حضور بعض المحاضرات، وكذلك يمنعني من الخروج مع الناس الذين نحسبهم والله حسيبهم من الصالحين، بل ويحذرني منهم، مع العلم أنه غير محافظ على الصلاة، بل ولا يبالي بكثير من المعاصي التي يقترفها، فما هي الطريقة التي أستطيع أن أوجهه أو أتخلص من كلامه لي؟ A هذا ليست له طاعة؛ لأمرين: الأمر الأول: أنه منحرف بفطرته وبطبيعته. الأمر الثاني: أنه هو بنفسه يأمر في غير طاعة الله عز وجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فإن حضور مجالس الذكر، والخروج مع الإخوة الصالحين الذين تأنس بهم وتطمئن إليهم وتستفيد من أخلاقهم وسلوكهم، إنما هو عبادة، وما دام الأمر عبادة فلا طاعة لهذا الأخ، لاسيما وأنه منحرف، وعلى هذا نقول: عليك أن تعصيه في مثل هذه الأمور أياً كان هذا الإنسان ما دام ذلك في طاعة الله عز وجل، أما هو فيجب عليك أن تحذره ما دام لا يحافظ على الصلاة ولا على طاعة الله تعالى، وما دام يتعاطى أشياء من المحرمات.

حكم موالاة عصاة المؤمنين

حكم موالاة عصاة المؤمنين Q ما حكم موالاة عصاة المؤمنين؟ A إذا كانت المعصية صغيرة فلا بأس في موالاتهم مع النصيحة، أما إذا وصلت إلى درجة الكبائر فعليك أن تنصحهم مرة بعد أخرى، فإذا عجزت فعليك أن تقاطعهم، وأن تبتعد عنهم، وهذا هو الهجر الذي أمر الله عز وجل به، والذين قال فيهم الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، وعلى هذا فإننا نقول: تجب مقاطعة هؤلاء، لكن يجب أن تقدم النصيحة من حين لآخر إلى هؤلاء؛ لعل الله أن يهديهم، فإذا عرفت أنهم لا يستفيدون أو أنك ربما تتأثر بمجالستهم فعليك أن تبتعد عنهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الغربة

الغربة لقد بدأ الإسلام غريباً، ثم انتهت تلك الغربة بأن نصر الله عز وجل دينه، وأعلى كلمته، وأيد أولياءه، وذلك حين صبر المسلمون، وجاهدوا في سبيل الله، وضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الدين، وفي هذه الأيام نشهد غربة عظيمة مستحكمة كالأولى، وقد تكون أشد وأقسى، ولن تنتهي هذه الغربة إلا إذا سلكنا طريق الغرباء الأولين، وحينئذ سنظفر بما ظفروا به، ويكون النصر والسؤدد حليفنا بإذن الله مولانا.

تعريف الغربة وواجب المسلم تجاهها

تعريف الغربة وواجب المسلم تجاهها الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله، حكم بالعزة له ولرسوله وللمؤمنين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الإخوة في الله! إن الحديث عن الغربة حديث يؤلم القلب ويجرح النفس، لكنه حديث عن الواقع، ولذلك فإن المسلم لا يجوز له أن يكون نصيبه من هذا الدين هو التلاوم والتباكي على الواقع المرير الذي يعيشه العالم الإسلامي؛ لأن ذلك لن يحول بين الناس وبين عقوبة الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، وذكر بعد ذلك ما حل بهم من النكال والعذاب حيث قال: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15]. فالتلاوم لا يغني من الله شيئاً، ولكن المسلم مطالب في أن ينظر في الواقع، ثم عليه أن يغير في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه وفي الناس أجمعين؛ لأنه تحمل هذه الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقه. أما الحديث عن الغربة بمعناها اللغوي، فمعنى الغربة: أن يكون الشيء غير مألوف في مكانه أو في زمانه، ولذلك فإن غربة الإسلام معناها: أن يكون الإسلام غير مألوف في مكانه أو في أرضه أو في زمانه في فترة من الفترات، ولذلك فإن منطلقنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)، وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية أخرى: (الذين يصلحون ما أفسد الناس)، ولذلك فإن حديثنا عن هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيكون الحديث في هذا الموضوع مكوناً من خمسة منطلقات: المنطلق الأول: الغربة الأولى. المنطلق الثاني: موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة. المنطلق الثالث: كيفية اجتياز سلفنا الصالح لهذه الغربة. المنطلق الرابع: شدة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة. المنطلق الخامس: كيف نجتاز هذه الغربة؟

الغربة الأولى

الغربة الأولى أما الحديث عن الغربة الأولى فهو حديث يتكرر في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السيرة، فحينما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والسلف الصالح المهديين؛ نجد غربة الإسلام واضحة، خصوصاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول خلافة الخلفاء الراشدين، هذه الغربة نجدها ماثلة منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بدعوة الإسلام سراً، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من المسلمين الأوائل، حتى إذا أعلن دعوة الإسلام بعد نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] حينها صعد على الصفا ونادى بطون قريش: يا بني فلان! ويا بني فلان! ويا بني فلان! حتى إذا اجتمعوا حوله قال لهم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن عيراً من وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما عهدنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). ومنذ تلك اللحظة قامت المعركة بين الإسلام وبين الجاهلية، المسلمون يريدون أن يجهروا بكلمة التوحيد؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل، واتباعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر قد ألف عبادة الأوثان والأصنام، فقامت المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جانب، وبين الكفر بجميع ملله وأشكاله من جانب آخر، ولقد أوذي المسلمون في تلك الفترة أذىً شديداً، عبر عنها القرآن العظيم في مواقع كثيرة من كتاب الله، تجد ذلك في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ففي تلك المرحلة يستبطئ الرسول والمؤمنون معه النصر ويستعجلون النصر؛ لأن الأمر قد وصل بهم إلى درجة لا تطاق. وعبر عنها القرآن في موضع آخر بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. وفي موضع ثالث: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]. وفي موضع رابع: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. وفي موضع خامس يقول الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، إلى آخر الآيات التي نزلت في مناسبة واحدة. وعلى كل فقد صور القرآن لنا المستوى الذي وصل إليه المؤمنون في تلك الفترة التي جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وهذه الصور تتكرر مع كل رسول مع أمته حينما يجهر بدعوته. وهذه الغربة تطورت حتى صورها لنا حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة ما كنا نجده من أعدائنا -يعني: في مكة- فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه -يعني: يقسم قسمين- ولقد كان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه). ويتحقق هذا الوعد في تلك الفترة العصيبة الحالكة من تاريخ الإسلام، ولقد وعد صلى الله عليه وسلم أن ينطلق الإنسان في الجزيرة العربية لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولقد كان الصحابة يصدقون وعد الله ووعد رسوله، فكانوا ينتظرون هذا الوعد وهم في أشد ظروف الحياة.

موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة

موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة لقد بلغ الأذى بالمؤمنين في تلك الفترة وفي تلك الغربة ما لا تطيقه الجبال الرواسي، بل لقد كان المؤمنون أقوى من الجبال؛ لأن الله تعالى يقول عنهم: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، أي: وما كان مكر الماكرين لتزول منه الجبال، والمراد بالجبال الصحابة رضي الله عنهم.

صور من صبر الصحابة على تعذيب المشركين وأذاهم لهم

صور من صبر الصحابة على تعذيب المشركين وأذاهم لهم من صور التعذيب والأذى الذي حصل للصحابة: ما وقع لـ بلال رضي الله عنه، فقد كان المشركون يخرجون بـ بلال بن رباح رضي الله عنه في شدة الحر إلى بطحاء مكة المحرقة، فيبطح على بطنه، ثم يأتون بالحجارة الحارة فتوضع على ظهره، ويقول له سادته: لا نزيل عنك هذا العذاب حتى تكفر بمحمد، فلا يزيد على أن يقول: أحد أحد، أحد أحد، لا يصرفه ذلك عن دينه. ولقد أتي بـ عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبيه وجميع الأسرة، فوقعوا تحت عذاب المشركين في تلك الفترة، ولقد مات طائفة منهم تحت العذاب، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر بهم فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). ثم بعد ذلك يفكر المسلمون بالهجرة، وكان من بين المهاجرين الأتقياء صهيب الرومي رضي الله عنه، فيأخذ شيئاً من ماله ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعترض المشركون سبيله ويقولون له: يا صهيب! أنت رجل صانع فينا، أتيتنا فقيراً وأنت اليوم تملك هذه الأموال، فيقول لهم: وماذا تريدون مني وألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نريد منك أن تدلنا على كل أموالك، فيقول: هذه أموالي كلها، خذوها واتركوني ألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيسلمهم كل ما يملك؛ فراراً بدينه ولحوقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل إلى المدينة المنورة حتى يسمع المسلمين يتلون فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ويبشره الرسول صلى الله عليه وسلم بما نزل في شأنه وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي} [البقرة:207]، أي: يبيع {نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] هذه الآية نزلت في صهيب رضي الله عنه؛ لأنه باع نفسه لله عز وجل بكل ما يملك من أموال الحياة الدنيا.

صور من الأذى الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة

صور من الأذى الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة يتطور الأمر ويصل العذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة، فيقاسي من آلام العذاب ما لم يقاسه أحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل الأذى ويمسح الدم عن وجهه بسبب جراحات قومه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ويسيل الدم من عقبه وتكسر ثنيتاه، وتجرح وجنته، ويقول المجرم أبو جهل عليه لعنة الله إلى يوم القيامة ذات يوم: إذا رأيتم محمداً يصلي فأخبروني، حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة نادوه: يا أبا الحكم! هذا محمد يصلي، فيأتي ويقبل عليه ثم يدبر ثم يقبل عليه ثم يدبر، يريد أن يطأ على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ماذا جرى لك؟ فقال: والله لقد رأيت بيني وبينه فحلاً قد فغر فاه يريد أن يأكلني. ثم بعد ذلك ينزل الله تعالى في شأنه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10]. ثم بعد ذلك يتطور الأمر فيلاقي من أهله وذويه عليه الصلاة والسلام كل جفاء، فيبصق في وجهه أبي بن خلف عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وقصته معروفة: حينما دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائدة طعام ذات يوم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر طعامه حتى يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته، ثم يلومه المشركون من قرناء السوء وأصحابه وجلسائه ويقولون: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! والله لا نكلمك أبداً حتى تذهب وترتد عن الإسلام وتبصق في وجه محمد، ثم يذهب فيبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرتد عن الإسلام، ويرد الله تعالى بصاقه إلى وجه أبي، فتصبح علامة فيه إلى أن مات. هكذا تتطور الغربة وتزيد الغربة قسوة أن يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحارب المؤمنون معه من أهلهم وذويهم، وكما يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند وعلى هذا فقد قامت كل المساومات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتنازل عن دعوته، ولكنه يرفض كل هذه المساومات، ويقول لعمه الذي كان مندوب هذه المساومة: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

كيفية اجتياز السلف الصالح للغربة الأولى

كيفية اجتياز السلف الصالح للغربة الأولى هذه هي المرحلة الأولى لغربة الإسلام؛ تصوروا قسوتها أيها الإخوان! وأنتم تعيشون اليوم غربة أخرى تزيد قسوة وضراوة على هذه الغربة في كثير من أحيانها، لكن كيف استطاع المؤمنون الأوائل أن يجتازوا تلك الغربة وأن يصلوا إلى ساحل النجاة والأمان؛ ليرتفع دين الله عز وجل وينتشر في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ بأي شيء استطاعوا أن يجتازوا تلك الغربة؟ لقد شمر القوم عن سواعد الجد، وعاهدوا الله عز وجل على الجهاد، ورفضوا كل الإغراءات والمساومات التي عساها أن تصرف اليوم كثيراً من الناس عن اجتياز غربتنا اليوم، لقد تركوا الوطن والأهل والعشيرة حينما فرض عليهم ذلك، وكانوا يتمنون تلك الساعة التي ينتقلون فيها إلى المدينة؛ ليقيموا دولة الإسلام، ولو خرجوا من أموالهم وأهليهم وكل ما يتمتعون به، لقد خرجوا وتركوا الوطن، وتحول الأغنياء إلى فقراء، وتركوا كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا وزينتها، تركوه في مكة وانتقلوا بإيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. لقد أعلن الصحابة الجهاد في سبيل الله، وأبرموا العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد، حينما أنزل الله عز وجل هذه الوثيقة التزموا بها، فوقعوا عليها وصدقوا الله ما عاهدوه عليه، هذه الوثيقة نقرؤها في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، بل لقد فرح المسلمون بهذه البيعة، حتى قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ما لنا إذا قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والمؤمنون من ورائه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل). لقد فرحوا بهذه البيعة التي لها ثمن ومثمن وبائع ومشتر: أما البائع فهو المؤمن، وأما المشتري فهو الله عز وجل، وأما الثمن فهو النفس والمال، وأما المثمن فهو الجنة، ولقد صدق الله عز وجل هذه الوثيقة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عذر في ألا يفي بهذه البيعة. إخوتي في الله! هكذا اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وشمروا عن سواعد الجد، وتحملوا الأذى في سبيل الله، وتركوا الأهل والوطن والعشيرة، وصدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:22 - 24]. هكذا أيها الإخوان! يجتاز المؤمن الأمور الصعبة؛ لأن الأمور الصعبة لا يمكن أن يجتازها الناس بالنوم والراحة والمتاع والدعة؛ لأن الجنة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غالية نفيسة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج)، أي: مشى بالليل، والمراد بالإدلاج هنا: السعي الحثيث إلى الآخرة، (ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

نصر الله تعالى للمؤمنين وتمكينه لهم بعد تلك الغربة

نصر الله تعالى للمؤمنين وتمكينه لهم بعد تلك الغربة لقد اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وقدموا كل ما يملكون من نفس ونفيس، لقد قدموا الأرواح لله عز وجل، فدخلوا المعركة وهم يحملون أرواحهم على أكفهم، ابتغاء مرضات الله عز وجل، وطلباً للشهادة والجنة، لقد صدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، ولم ينكثوا ولم ينقضوا ذلك العهد، فأعطاهم الله عز وجل سعادة الدنيا والآخرة، وكان جهالهم يقولون في يوم من الأيام: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، والله عز وجل جعلهم يتخطفون من أرضهم؛ ليكونوا قادة العالم وسادة الحياة الدنيا، بعد أن قدموا عشرات الآلاف من القتلى والشهداء في سبيل الله عز وجل، فهذه بلدة واحدة -وهي بلاد الشام- لم يستطع المسلمون أن ينشروا الإسلام فيها إلا بعد أن قدموا خمسة وعشرين ألف شهيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الثمن وإن كان كثيراً لكنه ثمن قليل بالنسبة لعزة الإسلام وقيام دولة الإسلام، ولذلك فقد كانت النتيجة مشرفة، وكان الأمر واضحاً، وكانت العزة -كما وعد الله عز وجل- لله ولرسوله وللمؤمنين. لقد شعر المسلمون بالعزة، ولقد تفيئوا ظلال هذه العزة وهم في عنفوان حياتهم، بعد أن أصبحت دولة الإسلام ترفرف أعلامها على عالم عظيم من أرجاء هذا الأرض، فامتدت دولة الإسلام من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى ما يقرب من باريس اليوم شمالاً، إلى أكثر هذا العالم جنوباً؛ لأن المسلمين صدقوا بوعدهم لله عز وجل فصدقهم الله عز وجل وعده، الذي سطره في سورة النور في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55]، وكأن هذه إشارة إلى الغربة الجديدة، {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

تأييد الله عز وجل للمؤمنين بالكرامات وخوارق العادات

تأييد الله عز وجل للمؤمنين بالكرامات وخوارق العادات أيها الإخوان! لا تعجبوا حينما تقرءون في التاريخ خوارق للعادة! لا تعجبوا حينما تقرءون في تاريخ الإسلام أن نواميس الحياة وأنظمة الدنيا قد انقادت للمؤمنين الذين صدقوا في وعدهم لله عز وجل! لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون أن سعد بن أبي وقاص في أيام عنفوان الدولة الإسلامية يتجمد له نهر دجلة ويعبر عليه، حينما انتهت معركة القادسية، وأراد أن ينتقل إلى المدائن عاصمة الفرس لم يكن لديه في ذلك الوقت سفن ولا قوارب يعبر فيها هذا النهر، فيسأل قومه: ماذا يقع أمامنا؟ فيقولون: المدائن والقصر الأبيض الذي يسكنه يزدجرد، فيقول: والله لأعبرن على هذا الماء ولو على ظهور الخيل، فيتجمد نهر دجلة ويعبر من القادسية إلى المدائن، ويقبلون على أهل المدائن فيظن أهل المدائن أن هؤلاء شياطين وقد أقبلوا عليهم، فيقولون: جاءكم الشياطين -بلغتهم الخاصة- فيتركون المدائن، ويدخل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصر المدائن القصر الأبيض -الذي هرب منه يزدجرد - وهو يتلو قول الله عز وجل: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28]. لم يدخل بنشوة الطرب والغناء تتقدمه الراقصات والمغنيات، كما يفعله الذين يزعمون بأنهم من الفاتحين في أيامنا الحاضرة، وإنما يعترف لله عز وجل بالفضل والنعمة، وهو يردد أن هذه نعمة الله عز وجل. لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون عبر التاريخ أن عقبة بن نافع رضي الله عنه، وهو يفتح في شمال أفريقيه في أيام عز الإسلام وذروته أيام دولة بني أمية، فيقبل على بلاد تونس الحالية ويريد أن يبني قاعدة للإسلام هناك، ثم يسأل: ما هذا المكان الذي يقع أمامنا؟ فيقولون: أيها القائد يرحمك الله! إنها غابة القيروان التي عجز الفاتحون كلهم عنها؛ لأنها مقر للوحوش الكاسرة المفترسة، فيقف عقبة بن نافع رضي الله عنه ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لنشر الإسلام هنا. تصوروا أن الوحوش قد سمعت هذه المقالة، وأن الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قد ألهمها ما يقول عقبة. يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخرج من الغابة، فيدخل عقبة بن نافع الغابة ويقيم فيها مدينة القيروان؛ لتكون مركزاً للمسلمين في شمال أفريقيا. ثم يواصل البطل المسلم سيره حتى وصل إلى حافة المحيط وقال: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضت إليهم على فرسي هذه. ولم تكن قد اكتشفت الأمريكتان في ذلك الوقت بعد. ثم أيضاً لا تعجبوا حينما نسمع قصة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه، وهو يفتح بلاد ما وراء النهر، وقد أقبل على بلاد الصين بعد أن فتح لنا هذه المنطقة الواسعة التي تجتاحها الشيوعية في أيامنا الحاضرة -نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم لتعود لهم قوتهم الأولى- فيسأل قتيبة: ماذا يقع أمامنا من البلاد؟ فيقولون: بلاد الصين، فيقول: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بقدميَّ هاتين أرض الصين، وحتى أضع وسام المسلمين على أهل الصين، فيصل الخبر إلى ملك الصين وما يقوله قتيبة، فيخاف ملك الصين من المسلمين، فيقول: هذه تربة في صحاف من الذهب، اذهبوا بها إلى قتيبة وهو في مكانه ليطأها وليبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة ليضع عليهم قتيبة وسام المسلمين، وهذه الجزية ندفعها كل عام لـ قتيبة ولا يدخل إلى بلادنا. هكذا ينصر المسلمون بالرعب حينما يصدقون مع الله عز وجل. أيها الإخوان! أما سمعتم حينما امتدت دولة الإسلام تسابق الشمس على مطالعها؛ وذلك عندما رفع هارون الرشيد -أحد خلفاء دولة بني العباس- رأسه إلى السماء ليخاطب قطعة من السحاب تمر من فوق رأسه ويقول: أيتها السحابة! أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين. وذلك لأن هذه السحابة ستمطر في أي بقعة من بلاد الإسلام الواسعة. هكذا بلغت دولة الإسلام، وهكذا امتدت.

عودة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة

عودة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة يدور الزمان دورته، ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على المتاع والراحة والدعة، ولا يستيقظون إلا وهم في غربة أقسى من تلك الغربة الأولى، ينام المسلمون حينما أتتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها وهي راغمة، وحينما يغرق طائفة من المسلمين بالمتاع الحلال أو بالمتاع المشتبه، وما يدريك لعلهم قد غرقوا في كثير من المتاع الحرام. ثم رفع الله عز وجل يده عن هؤلاء الناس بعد أن كانت دولة الإسلام تمتد من الصين إلى المحيط الأطلسي، وهي دولة واحدة يحكمها رجل واحد، يسير فيها المسلم مرفوع الرأس، لا تستوقفه إدارة جوازات تسأل عن هويته، ولا تستوقفه مراكز شرطة وأمن تسأل عن إقامته أو عن جواز سفره أو عن جنسيته، أما المسلم اليوم فيعيش في دولة صغيرة من مائة دولة أو أكثر في أيامنا الحاضرة في هذه المساحة؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11]. ومن هنا تمزقت الدولة الإسلامية على أيدي أعداء المسلمين الذين يتربصون بهم الدوائر، ليتحقق في المسلمين قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102 - 103] إنها دروس وعبر يرويها لنا التاريخ. ومن هنا فقد المسلمون كثيراً من بلادهم، بل لقد أصبحت مواطن الإسلام الأولى الآن تهتز عروشها في كثير من البلاد الإسلامية تحت أصحابها؛ لأن الله عز وجل قد عاقب هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين أصبحوا قد تجرد كثير منهم عن دينه، واتجهوا إلى الشرق والغرب في أفكارهم وفي مللهم، وفي أحكامهم وفي تشريعهم، فالله عز وجل عاقبهم، ولذلك تسمعون أخبار هذا العالم عبر الأثير وفي الصحف وفي المجلات، وهذا العالم قد غرق في دمه إلى الركب، تسمعون أخبار لبنان، وتسمعون ما يحدث في العراق وما يحدث في إيران، وما يحدث في مناطق كثيرة من بلاد الله عز وجل الواسعة؛ لأن هؤلاء قد عصوا الله عز وجل؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروي عن ربه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني). هذه الفتن تحل قريباً من دارنا، ولنا في ذلك عظة وعبرة، فليس بيننا وبين الله عز وجل عهد ولا ميثاق، فعلينا يا إخوتي! أن نستقيم على دين الله عز وجل، وأن نناصح القادة والمسئولين، وأن نقول لهم: اتقوا الله عز وجل، فإن ما يحدث قريباً منا ليس منا ببعيد، فعلينا أن نخشى الله. لقد عادت الغربة في واقع المسلمين، فنجد أن هذه الغربة لم تترك جانباً من جوانب الحياة عند المسلمين إلا وأثرت فيه، لقد غزت المسلمين في اقتصادهم وفي أخلاقهم وفي أنظمتهم الاجتماعية وفي سلوكهم وفي رجالهم وفي نسائهم وفي حكامهم وفي شعوبهم، وكما تكونون يولى عليكم.

مظاهر الغربة في هذا الزمان

مظاهر الغربة في هذا الزمان

انتشار الربا بين المسلمين

انتشار الربا بين المسلمين إن كل ما كان في جاهلية الأمس عاد في جاهلية اليوم، فنجد أن الربا الذي كان بالأمس نظاماً من أنظمة الجاهلية قد عاد اليوم بجميع أشكاله وأنواعه: ربا الفضل، وربا النسيئة. في البنوك يدفعون مائة ريال ليأخذوا مائة وعشرة، يحاربون الله عز وجل علناً، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة قيل لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب) أي: حارب الله عز وجل، ومن يستطيع أن يحارب الله؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. وهناك ربا الحيل المكشوفة، كأن يقولوا: خذ هذه الكمية من الخام أو من الأرز وبعه في الحال، ثم خذ ثمنه، ثم اخرج بضع دقائق وائت بشيء من المال، فهذه حيل مكشوفة تلف بلفائف كاذبة، كأنهم يخادعون الله عز وجل وهو خادعهم. كذلك ربا الصاغة الذين يبيعون ويشترون الذهب بالكلام وبالتلفون وبدون نقد. وكذلك ربا العينة الذين يبيعون الشيء بثمن مؤجل ثم يشترونه بأقل منه حالاً. كل أنواع الربا واقعة، حتى ربا الأضعاف المضاعفة الذي هو أخبث أنواع ربا الجاهلية، الذي يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:130]، وربا الأضعاف المضاعفة: هو أن يعطي إنسان إنساناً مالاً بزيادة، حتى إذا حل الدين قال: إما أن تسدد وإما أن نزيد، وهذا هو ما تستعمله البنوك في أيامنا الحاضرة علناً وفي وضح النهار، ويسجل في الدفاتر، ويستحق هؤلاء الذين يسجلونه لعنة الله ولعنة رسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء)، وهذا من الحيل المكشوفة بحيث إذا حل الدين ولم تسدده يوجله عليك ويزيد. هؤلاء يتلاعبون بحرمات الله عز وجل وحدوده، ويظنون أنهم يخادعون الله تعالى فيها والله خادعهم. هذا الربا أصبح نظاماً اقتصادياً، وبدل أن يسمى رباً سمي: اقتصاداً، وأصبحت الحياة في مفهوم عالمنا اليوم لا تقوم إلا على هذا النظام الاقتصادي الربوي؛ لأن كل المعايير قد تغيرت، فسمي الربا اقتصاداً، وسمي النفاق مجاملة، وسمي الكذب دبلوماسية، وسميت الخمر مشروبات روحية، وسمي الغناء والرقص فناً، يريدون أن يجملوا هذه الأشياء بهذه الأسماء، فنقول: وإن غيرت الأسماء فلن تتغير هذه المسميات.

انتشار الرشوة

انتشار الرشوة أيها الإخوان! إن هذه الغربة حلت في سويداء أنظمتنا كلها، حيث انتشرت الرشوة التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الراشي والمرتشي والواسطة، واستخف كثير من الناس بالأيمان وبشهادة الزور في سبيل مصالح مادية، وأكلت الأموال بطرق حرام متشتتة ومتعددة، تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان كلهم يأكلون فيه الربا).

تفكك الأسر والمجتمعات

تفكك الأسر والمجتمعات لقد حلت هذه الغربة في أنظمتنا الاجتماعية فتقطعت أوصال الأسر، وأصبح العقوق منتشراً بين كثير من الناس، وقطعت الرحم بسبب مصالح مادية تافهة؛ بل لقد عاد الجار في كثير من الأحيان لا يعرف من هو جاره، وتمضي سنون وهو لا يعرف جاره؛ لأن جاره في الغالب لا يحضر الصلاة في المسجد، فيعيش سنين طويلة لا يرى في المسجد مرة واحدة، ولربما لا يدخل المسجد إلا حينما يقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة، نسأل الله العافية! تقطعت الأوصال الاجتماعية بين الناس، وحلت هذه الغربة في الأنظمة الاجتماعية، فأصبح الأمر خطيراً.

تفسخ الأخلاق وانتشار الرذيلة

تفسخ الأخلاق وانتشار الرذيلة لقد حلت هذه الغربة في الأخلاق، حيث غزت هذه الغربة أنظمة الأخلاق؛ بل لقد تعمقت في هذه الأخلاق، فتفسخت المرأة وتبرجت وأخرجت كثيراً من مفاتنها، وصارت النساء الكافرات تجوب خلال الديار الإسلامية طولاً وعرضاً، لا يستطيع أحد من المسلمين أن يرفع رأساً وأن يقول: إن هذه امرأة يجب أن تقف عند حدودها، إلا ما شاء الله. لقد تبرجت المرأة المسلمة تقليداً للمرأة الكافرة، وأظهرت مفاتنها، وانتشر الفساد في البر والبحر، وانتشر الفساد أيضاً حتى في الجو يا إخوان! في الجو وعلى متن الهواء وعلى بعد آلاف الأمتار من الأرض يعصى الله عز وجل، حيث توضع نساء في الطائرات متبرجات أعظم من تبرج الجاهلية الأولى، تخرج سيقانها وركبها وشعرها وعضدها ونحرها وتقصد الركاب، وأهل الجاهلية الأولى قد كانوا خيراً منا في هذه الناحية، فقد كانوا إذا ركبوا في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، يقول عز وجل عنهم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، ونحن على متن الهواء تعرض الأفلام الفاضحة الهابطة، والله لقد رأيت بعيني أفلاماً كلها جنس تعرض والناس بين السماء والأرض معلقين برحمة الله عز وجل، والمشركون وهم على الماء يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدة. إذاً: جاهلية اليوم أخطر وأخبث من جاهلية الأمس، فجاهلية الأمس كانوا يعرفون الله عز وجل في وقت الشدة ويغفلون عنه في وقت الرخاء، وفي أيامنا الحاضرة يغفل عنه كثير من المسلمين في أيام الرخاء والشدة. ثم إن المرأة قد قام لها أناس يطالبون بحقوقها وبحريتها، ولم يكتفوا بما وصلت إليه اليوم، فهاهم اليوم يقولون: نريد من المرأة أن تقود السيارة، ويقولون في الغد: نريد من هذه المرأة أن تأخذ كل ما يأخذه الرجل، وأن تختلط بالرجل في المعمل، وفي المكتب، وفي السوق، وفي المدرسة، وفي كل أمر من الأمور، هذه مطالب لا يقف أعداء الإسلام عند حد فيها، وهم الآن يتربصون بنا الدوائر، ويظنون أن دولة الإسلام شمس تكاد أن تأفل اليوم، فهم ينتظرون ساعة الصفر التي يعلنون فيها ما في قلوبهم من غل، ولكن الله عز وجل يقول: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. ولقد كانوا ينتظرون زوال فلان وفلان من الناس الذين هم حجر عثرة في سبيل تقدمهم كما يزعمون، ولكن خر عليهم السقف من فوقهم، ونجد والحمد لله في كل العالم اليوم صحوة إسلامية، تبين أن دولة الإسلام قد عادت كل العودة، وأن الغربة بدأت الآن ترتحل من أرض الله الواسعة لتترك مكانها لدين الإسلام. هذه الصحوة الإسلامية التي يتمتع بها شبابنا اليوم وفتياتنا، والذين يرفضون كل هذه التقاليد، ويرفضون كل تلك السموم، ويريدون أن تكون العزة لله عز وجل بحق، ويريدون أن تعود دولة الإسلام كما كانت في أيامها السابقة، ونسأل الله أن يحقق الخير على أيديهم. إخوتي في الله! إن غربة الإسلام اليوم قاسية، لكن لا نتناسى هذه الصحوة الإسلامية التي -والحمد لله- تعيش معنا اليوم ونعيش معها، ونسأل الله أن يثبت أقدامها، وأن يرزقها الاتزان والصبر والتحمل، لكن بالرغم من ذلك كله فما زلنا نعيش هذه الغربة، نعيشها في أخلاق الناس اليوم، وإني لأعجب كل العجب أن تصل هذه الغربة إلى أعماق رجولة الرجال، فقد رأينا كثيراً أو طائفة من الشباب يتنازلون حتى عن رجولتهم، وما كان ذلك في غربة الأمس؛ بل لقد كان العربي يعتز برجولته بالأمس بالرغم من أنه رجل جاهلي، ولكننا في أيامنا الحاضرة نجد كثيراً من الشباب بدءوا يتنازلون عن رجولتهم، يتأنثون كما تتأنث النساء، ويزاحمون النساء على موضاتهن وأشكالهن وصفاتهن في الابتسامة وفي الضحكة وفي الصوت وفي ضيق الملابس وفي شفافية الملابس، وربما يلبسون شيئاً من الذهب! وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سأله عمر عما سيحدث، فقال: (يا عمر! ترك القوم الطريق وخدمهم أبناء فارس) انظروا إلى أبناء فارس الآن، هم الذين يقودون السيارات ببناتنا ويذهبون بهن إلى المدرسة وإلى الأسواق في كثير من الأسر؛ بل وبنات فارس الآن تعيش في قعر بيوت المسلمين من الفلبين ومن كوريا ومن كل بلاد الكفر، وبلاد الإسلام التي قد فقدت الإسلام الصحيح، وهب أنهم مسلمون ما داموا غير محارم لهؤلاء النساء فهذا عار وهذه مصيبة. وكذلك عندما يتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها، يتأولون كتاب الله، حيث يرددون قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32]. أيها الإخوان! في جاهلية الأمس كان الرجل يعتبر أن من عرف اسم ابنته أو اسم أخته أو سمع صوتها عاراً، ويقول قائلهم: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم واليوم تسمعون وترون بأعينكم أخبار هؤلاء النساء إلا من رحم الله.

طرق ووسائل اجتياز المسلمين للغربة التي يعيشونها

طرق ووسائل اجتياز المسلمين للغربة التي يعيشونها إن جاهلية اليوم أخبث بكثير من جاهلية الأمس، وغربة اليوم أقسى بكثير من غربة الأمس، وإذا كان في غربة الأمس يحارب الإسلام بـ أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف، فإن في جاهلية اليوم يحارب الإسلام بعبد الله وعبد الرحمن وأحمد ومحمد، تحقيقاً لوعد أعداء الإسلام الذين قال قائلهم: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها. إن الذين يظنون أنهم سيحكمون المسلمين بقوة الحديد والنار مخطئون؛ لأن الإيمان أقوى من الحديد والنار، وإذا أردتم شاهداً على ذلك فانظروا إلى أفغانستان، لقد قدموا أكثر من مليون من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، ومع ذلك ما لان القوم بقوة الحديد والنار؛ بل يقاتلون الأعداء بالحجارة وأعداؤهم يقاتلونهم بالمواد السامة وبأحدث أنواع الأسلحة. الإيمان أقوى من الحديد والنار، والذين يريدون أن يطوعوا المؤمنين بالترف والميوعة والفساد والمعصية مخطئون؛ لأن هذه الشعوب ستستيقظ في يوم من الأيام فلا تقبل هذا الترف ولا تقبل هذه الميوعة ولا تقبل هذا المتاع، لكن كيف نجتاز هذه الغربة التي نعيشها اليوم؟ وبأي شيء نستطيع أن نحكم هذا العالم؟ نحكمه بدين الله عز وجل، وحينئذ تمشي هذه الشعوب وتسير وراءنا بحق، وهكذا يستطيع القادة أن يحكموا العالم الإسلامي، ولذلك فإن التاريخ أكبر شاهد على ما نقول، فما استطاع أحد أن يحكم هذا العالم، وأن يذلل هذه الصعاب، وأن يجعل هذه البوادي وهذه الصحاري مدناً إلا حينما دعاها إلى دين الله عز وجل، ولعلنا نجد في سيرة الملك عبد العزيز رحمة الله عليه أكبر دليل على ذلك، فإنه ما استطاع أن يطوع هذه البوادي الجافة الجافية إلا بدين الله عز وجل، ولذلك فنحن نقول لخلفه من بعده: إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا هذا العالم إلا بدين الله عز وجل، فنوصيكم بالثبات على دين الله عز وجل، وبتحكيم شرع الله عز وجل، ومن هنا نستطيع أن نجتازه هذه الغربة التي نعيشها اليوم. ثم أيضاً بالجهاد في سبيل الله نستطيع أن نجتاز هذه الغربة كما اجتازها سلفنا الصالح؛ وذلك حينما أعلنوا الجهاد في سبيل الله، وجعلوا حياتهم كلها في مرضاة الله عز وجل. أسأل الله تعالى أن يثبت الأقدام، وأن يرزقنا الاستقامة حتى نجتاز هذه الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها: (فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من هذه الفتن، وأن يرزقنا القوة والصلابة في الدين، حتى نكون من المؤمنين الأقوياء من أجل أن نجتاز هذه الغربة، وحينئذ فإن الخير أمامنا بإذن الله كما كان أمام أسلافنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً) Q أليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أنه سوف يعود إلى قوته وعزته الأولى كما كان ضعيفاً في بدايته، وذلك أننا نشاهد ولله الحمد الصحوة الإسلامية لدى الشباب اليوم؟ A بالنسبة لمعنى الحديث هو لا يدل على أنه سيعود إلى قوة أخرى، وإنما يدل الحديث على ثلاث مراحل: غربة، ثم عودة القوة للإسلام، ثم غربة، وهذه المراحل الثلاث كلها مرت وعاشها الناس، لكن القوة الثانية في الغربة الثانية وإن لم يتعرض لها الحديث في لفظه وفي منطوقه لكنه تعرض لها في مفهومه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء) يدل على أن الغربة الثانية لها رجال، كما أن للغربة الأولى رجالاً اجتازوها. وعلى هذا فإن هؤلاء الرجال سيرجعون للإسلام عزته وقوته مرة أخرى، ومن هنا نستطيع أن نأخذ أن القوة الثانية بعد الغربة الثانية ستأتي على أيدي هؤلاء الغرباء الذين يجتازون الغربة الثانية، وعلى كل فإن هذه قد بدأت الآن بوادرها تظهر، كما يلاحظ في الصحوة الإسلامية الموجودة في أيامنا الحاضرة، التي سيكون فيها إن شاء الله خير كثير، وأيضاً قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سيعود إلى عزته وقوته في أحاديث كثيرة، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود ويختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، هذه أدلة على قوة الإسلام وعزته. وعلى هذا فإن الغربة الثانية لها قوم يجتازونها، فيصلون بالإسلام إلى مرحلة القوة مرة أخرى.

طرق إصلاح الأهل والأقارب

طرق إصلاح الأهل والأقارب Q أنا شاب ملتزم ولله الحمد، أسأل الله لنا ولكم الثبات على ذلك، ولكنني أريد إصلاح أهلي وأقاربي، فكيف السبيل لذلك؟ وما هو أول شيء أبدأ به؟ جزاكم الله خيراً. A أما السبيل فهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وهذه الآية وإن كانت نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله، لكن حكمها باق إلى يوم القيامة، فالإنسان أول ما يبدأ بأهله وأولاده وأهل بيته وأسرته، ثم يتوسع حتى يصل إلى كافة المجتمع، والسبيل إلى هذا الأمر هو استعمال طرق الدعوة الصحيحة، وأهمها: الحكمة، ومعاملة الأهل باللين والإحسان إليهم؛ حتى تستطيع أن تملك قلوبهم، ثم بعد ذلك توطن هذه الدعوة وتزيل الجفوة التي بينك وبينهم بإذن الله تعالى من هذا المنطلق. ثم أيضاً عليك أن تبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كانت في بيتك أو في أهلك معاصٍ كبيرة فعليك قبل ذلك أن تقوي الإيمان في قلوب هؤلاء الأهل؛ لأنك حينما تقوي الإيمان ستزول هذه المعاصي وهذه الأشياء الممقوتة فيهم بطبيعتها؛ لأن ما حدث في بيوت المسلمين من المعاصي اليوم بسبب ضعف في الإيمان، وبسبب ضعف في اليقين، وبسبب ضعف في تصورهم لحقيقة هذا الدين وللحياة الآخرة، فعليك يا أخي! أن تقوي الإيمان، وأن تقوي اليقين في قلوبهم، وحينئذ بإذن الله ستستطيع أن تزيل ذلك بالتدريج.

حقيقة ظهور الصحوة الإسلامية

حقيقة ظهور الصحوة الإسلامية Q نرى في هذه السنوات الأخيرة أن كثيراً من شباب اليوم -ولله الحمد والمنة- قد التزموا بدينهم، فبماذا تفسر هذه الصحوة؟ A هذه الصحوة لم تأت فلتة، وإنما هي وعد من الله سبحانه وتعالى وعدنا بها حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وأخبرنا بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأخبرنا الله عز وجل بأن الأيام يداولها بين الناس، فبمقدار ما نرى مما نكره سنرى ما يسرنا بإذن الله تعالى. وهذه الصحوة ليست وليدة عمل كبير، وإن كان هناك عمل، لكن هذه الصحوة وجدت في فترة استقرار وفترة خمول في كثير من الأحيان، وهذا دليل على أن دين الله سبحانه وتعالى ظاهر، سواء دعا الناس إليه واجتهدوا في العمل له أو لم يجتهدوا. علماً بأن هذه الصحوة والحمد لله لها خطباء استطاعوا أن يؤثروا على الناس، ولها موجهون ولها مربون. إذاً: هذه إرادة غالبة لله سبحانه وتعالى، حيث ظهرت الصحوة في هذه الفترة التي خاف فيها كثير من الناس على ضياع دين الله، والله عز وجل أعلمهم بدليل من الواقع يلمسونه بأعينهم ويشاهدونه بأن هذا الدين سينتصر، ورغم هذه الجفوة الشديدة التي أصيب بها المسلمون, ورغم هذا التسلط الشديد الذي مني به المسلمون على أيدي قادة كثيرين من العالم الإسلامي؛ ومع ذلك كله وجدت هذه الصحوة وفرضت نفسها في هذه البلاد الإسلامية والحمد لله؛ ولذلك لا تسافر إلى أي بلد من بلاد الله الواسعة -حتى في بلاد الكفر- إلا وتجد هذه الصحوة، بحيث لو ذهبت إلى أمريكا ستجد هذه الصحوة والحمد لله، وستجد كثيراً من شباب المسلمين يتمتعون بهذه الصحوة، نسأل الله تعالى أن يحفظهم، ولذلك فإنا لا نفسرها التفسير الحقيقي إلا أن الله أراد أن يظهر دينه، وأراد أن يعطينا درساً بأن هذا الدين باق، وأنه سيتغلب على كل الصعوبات وعلى كل المشاكل وعلى كل التحديات التي توجد في أيامنا اليوم.

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم) Q قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أرجو شرح هذه الآية؟ A شرح هذه الآية يحتاج إلى ليال، لكن ممكن أن نشرحها بإشارة يسيرة، يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55] قوله: (مِنْكُمْ) خطاب للمسلمين خاصة، وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى له ثلاثة شروط وفيه ثلاث نتائج، إذا وفى المسلمون بالشروط الثلاثة حصلت النتائج الثلاث: الشرط الأول: (آمَنُوا). الشرط الثاني: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). الشرط الثالث: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وكلمة: (شَيْئًا) في اللغة العربية نكرة جاءت في سياق النفي، والنكرة إذا جاءت في سياق النفي تعم، أي: باللات والعزة ومناة وهبل ونائلة وإساف، لكن يوجد الآن فلان وفلان من الناس يعبدون من دون الله في كثير من العالم الإسلامي، يوجد زعماء وضعوا أنفسهم مشرعين للبشر ويطيعهم الناس، حيث تركوا أوامر الله سبحانه وتعالى وتحاكموا إلى شرع هؤلاء الرجال. إذاً: هؤلاء الناس الذين يعبدون من دون الله من الشيء الذي قال الله عز وجل فيه: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. كذلك توجد الآن القبور التي تعبد من دون الله في كثير من البلاد الإسلامية، كذلك الدنيا تعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك المال يعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك الوظيفة تعبد من دون الله، بحيث تجد الشخص يتنازل عن دينه، حتى لا يحرم من وظيفته، ولو حلت عليه لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي ما دامت هناك وظيفة وما دام له مرتب، وما دام يستفيد من ذلك مادياً، هذا كله يخشى أن يكون داخلاً في الشرك الذي يقول الله عز وجل فيه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. أما النتائج التي وعدها الله تعالى لهؤلاء الذين اتصفوا بالشروط الثلاثة فهي: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)، أي: تكون لهم الخلافة والقيادة في الأرض، ولذلك لما حقق سلفنا الصالح هذه الصفات تحققت لهم هذه النتيجة، فاستخلفهم الله تعالى، فكانت لهم الخلافة ولهم القيادة. وكذلك من النتائج: أن يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، ومن النتائج: أن يبدلهم الله عز وجل بعد خوفهم أمناً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الاستقامة

الاستقامة الاستقامة على دين الله تعالى تعني الالتزام به وعدم الانحراف عنه طرفة عين، وهي سبب من أسباب النجاة من عذاب الله تعالى وغضبه في الدنيا والآخرة، فمن استقام على دين الله ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن زاغ عن الصراط المستقيم أضله الله تعالى، وأهلكه في الدنيا والآخرة، وللاستقامة أسباب لابد منها لمن أرادها: كالصبر، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.

الاستقامة على دين الله من أسباب النجاة من عذاب الله وغضبه

الاستقامة على دين الله من أسباب النجاة من عذاب الله وغضبه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونشكره، ونثني عليه الخير كله ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: فأيها الإخوة! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع القلوب على طاعته كما جمعنا في هذا المكان المبارك، وأن يجمعنا جميعاً في مستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. موضوع هذا الدرس هو: الاستقامة، وما أحوج المسلمين اليوم إلى الاستقامة والثبات على المنهج الصحيح، قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:112 - 117]. إنّ هذه الآيات تلزم المسلمين بستة أوامر من أوامر الله عز وجل، وهي سبب السلامة والعافية من غضب الله تعالى وعقابه، وقد جاءت هذه الآيات في ختام سورة هود، وما أدراك ما سورة هود! إنها السورة العظيمة التي تحدثت عن هلاك كثير من الأمم، ولقد شيبت ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (شبت يا رسول الله! فقال: شيبتني هود وأخواتها) أي: وأخواتها من السور التي تتحدث عن مصارع الظالمين، ونهاية المجرمين والمفسدين في الأرض. وكان آخر هؤلاء الظالمين آل فرعون، فاتبعوا فرعون في طغيانه وظلمه ودعواه أنه رب العالمين، فأهلكه الله عز وجل في عنفوان قوته وملكه الذي كان يفتخر به ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ولذلك قضى الله تعالى بأخذ هؤلاء الطغاة، {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:97 - 98]. قال الله تعالى بعد ذكره أخبار هذه الأمم التي أهلكها في سورة هود التي تضمنت -كغيرها- أحسن القصص: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] إذاً: فطريق السلامة طريق واحدة، وليس هناك طريق أخرى للسلامة من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، هذه الطريق هي: الاستقامة على دين الله. وإنّ ما أصاب تلك الأمم من سخط الله عز وجل وأليم عقابه إنما كان سبب ذلك أنهم لم يستقيموا على دين الله ومنهجه، فإذا كنت -يا محمد- تريد السلامة لك ولأمتك فاستقم كما أمرت، وإذا كنت -أيها الأخ المسلم- تريد العافية من عذاب الله فاستقم كما أمرت، ومن هنا نعرف أن هذه العناصر الستة التي احتوتها هذه الآيات تبدأ بالاستقامة.

معنى الاستقامة وفضلها ولوازمها

معنى الاستقامة وفضلها ولوازمها الاستقامة معناها: عدم الانحراف عن المنهج الصحيح، فإن الله تعالى -بحكمته- قد رسم لكل مخلوق في هذه الحياة -بما في ذلك الإنسان- طريقاً معتدلة مستوية لا انحراف فيها، قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، ومن حاد عن هذه الطريق التي رسمها القرآن فإنه يسلك طرقاً متعددة منحرفة كلها تنتهي إلى النار؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) رسم خطاً مستقيماً وقال: (هذا صراط الله ينتهي إلى الجنة، ورسم عن يمينه وشماله طرقاً منحرفة وقال: هذه السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها سدل مرخاة، فإذا أراد أحد أن يفتح طريقاً من هذه الطرق قال له منادٍ: يا عبد الله! لا تفتح، فإنك إن تفتح تلج إلى يوم القيامة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا الطريق المستقيم طريق واضح لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولكن ربما يكون هناك غبش على العيون، أو التباس في العقول؛ فيضل هذا الإنسان عن الطريق المعتدلة إلى طرق منحرفة، فحينئذٍ لا يلوم إلا نفسه، أما الأصل فهو الاستقامة، وهي المحجة البيضاء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وما ترك شاردة ولا واردة، ولا صغيرة ولا كبيرة يحتاج إليها هذا الإنسان في دينه إلا وقد وضحها.

الدعوة إلى الله من لوازم الاستقامة

الدعوة إلى الله من لوازم الاستقامة إنّ الاستقامة هي الثبات، والثبات: هو لزوم الطريق، وأهم شيء في لزوم هذا الطريق: الدعوة إلى الله عز وجل، فمن لم يقم بهذا الواجب فما استقام على هذا الطريق؛ ولذا يندر أن تذكر الاستقامة في القرآن إلا وتذكر معها الدعوة إلى الله تعالى، كما قال تعالى في سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} [الشورى:15]، فقدم الدعوة على الاستقامة، وهنا قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وقال في آخرها: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، ثم قال بعدها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:34]. ومن هنا نعرف صلة الدعوة إلى الله عز وجل بالاستقامة، وأنها صلة وثيقة، وأن من فرط في الدعوة إلى الله عز وجل، وترك أمر المسلمين يلتبس عليهم، وغفل عن هذا الواجب المقدس الذي هو ميراث المرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ فإنه ما استقام حق الاستقامة، ما دام أنّه يستطيع أن يبلغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعل.

الاستقرار من لوازم الاستقامة

الاستقرار من لوازم الاستقامة اعلم أنّه لابد في الاستقامة من الاستقرار، وذلك بأن يثبّت الإنسان أقدامه على هذا الطريق؛ لأن في هذا الطريق مزالق، ولأن في هذا الطريق عقبات، ولأن في هذا الطريق أموراً تكرهها النفوس البشرية بطبيعتها، فلابد من الثبات على هذا المنهج، وأهم ما في هذا المنهج: الدعوة إلى الله عز وجل.

الاستقامة هي المخرج من الفتن

الاستقامة هي المخرج من الفتن لقد كثرت في عصرنا الحاضر التقلبات والاتجاهات، وظهرت أفكار جديدة لم تُعهد من قبل، تسربت هذه الأفكار إلى المسلمين وكأنها جزء من هذا الدين، وقد يتباكى أصحابها على الإسلام في الظاهر، ويلفون هذا الجرائم وهذه الأفكار المنحرفة بلفائف ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، ثم يغتر كثير من الناس بهذه الدعايات، لاسيما إذا كان أصحاب هذه الدعايات من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. إذاً: فما هو المخرج؟ المخرج قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من ميزة آخر زمان هذه الأمة أن تكثر الأهواء والفتن، وأن يكون لهذه الفتن آثار في حياة الناس، وهذه الآثار تبرز في استقامة هؤلاء الناس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) وقال: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: وما المخرج منها يا رسول لله؟ قال: كتاب الله وسنتي). وهذه الفتن التي نعيشها اليوم هي -والله- كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الفتنة قال المرء: هذه مهلكتي، فإذا جاء ما بعدها قال: تلك أهون من هذه. والخلاص منها يكون بالاستقامة على دين الله، فإنّ الدين واضح، والمحجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك. وقد نلاحظ في حياة الناس هذا التقلب في كثير من الأحيان، ولا يكاد الإنسان يسر بأن فلاناً من الناس قد استقام على دين الله بعد أن كان منحرفاً، إلا ويفاجأ -في بعض الأحيان- بأنّ فلاناً قد انحرف عن هذا الدين؛ لنشاط دعاة الباطل، وضعف دعاة الحق، ولوجود بيئة متلوثة في العالم الإسلامي كله، وهذه البيئة المتلوثة فيها من الفتن ما قد يؤثر على عقول كثير من أبناء المسلمين. إنّ المؤمن مطالب بالاستقامة والثبات على الحق ولو انحرف كل الناس، بحيث لا يرتبط هذا المرء بغيره من الناس ارتباطاً يجعله ينحرف معهم، وإنما يرتبط بهم ارتباطاً يجعله يستقيم معهم إذا استقاموا، فإذا انحرفوا لزم المنهج الصحيح ولو لم تكن الدنيا معه بل ضده، ويتمثل بقول الشاعر في حق الله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

الاستقامة سبب للنجاة والسلامة في الدنيا والآخرة

الاستقامة سبب للنجاة والسلامة في الدنيا والآخرة إنّ الاستقامة والثبات عليها أمر لا مناص منه للمؤمن، خصوصاً في زمن التقلبات والأهواء والفتن، وفي زمن المساومة على دين الله تعالى في كثير من الأحيان من قبل كثير من المسلمين، تلك المساومة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس، ولكن المسلم حقاً لا يمكن أن يرجع من منتصف الطريق، بل يكمل هذا المشوار إلى ربه وإلى الدار الآخرة، وهذه الاستقامة هي أفضل سلاح يستطيع المؤمن من خلاله أن يتخطى هذه العقبات التي تقف في طريقه وتعترض سبيله، وحينئذٍ لا يضره من خالفه ولا من خذله حتى يأتي أمر الله تعالى. هذه الاستقامة هي التي تؤمن الإنسان في ساعة الموت، كما أنها تؤمنه في هذه الحياة الدنيا، فإذا كان مستقيماً على المنهج الصحيح لا يغير ولا يبدل، ولا يقبل المساومة، ولا يقبل أي منهج غير هذا المنهج الذي اقتنع به، وعرف أنه هو المنهج الصحيح الذي جاء به المرسلون من عند الله عز وجل؛ فإنّه يبشر في ساعة الموت بجزاء هذه الاستقامة، فتنزل عليه ملائكة تبشره في ساعة الاحتضار حينما تلتف الساق بالساق، وحينما تكون رجل في الدنيا ورجل في الآخرة، وحينما يريد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مدبراً عن الحياة الدنيا، ومقبلاً على الله عز وجل والدار الآخرة، في ساعة رهيبة يفكر فيها الإنسان فيما أمامه من مخاوف: من حياة البرزخ وما فيها من الأهوال والمخاوف، والقبر وضمته، وسؤال الملكين، وما بعد حياة البرزخ من الصحف التي تسجل فيها الأعمال، والموازين التي توزن فيها الأعمال، والصراط والأمور الهائلة في ذلك الموقف. وهو أيضاً يتصور هذه الحياة الدنيا وما فيها من أهل ومتاع، ويريد أن يودعه، فمن استقام على دين الله فإنه في ذلك الموقف الرهيب تنزل عليه الملائكة مبشرة له، كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:30 - 31] أي: كنا معكم، وكنا -بأمر من الله عز وجل- نثبتكم، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31]، هذا جزاء الاستقامة، وإذا ثبّت الله عز وجل الإنسان في الحياة الدنيا ثبته في ساعة الموت، وثبته حينما يريد العبور على الصراط الدحض المزلة، الذي ورد وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف، ويغطيه دخان جهنم. فالمستقيم يثبته الله على الإيمان، فلا تستطيع هذه الفتن العاصفة، وهذه الأهواء المضلة، وهذا الزمان المغبر المخيف المرهق أن تغير مبدأ هذا المسلم الذي عرف الله عز وجل، واقتنع بهذا المبدأ، ورضي بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، ويثبته الله عز وجل في المواقف العصيبة.

الاستقامة هي أخذ الدين من جميع جوانبه دون استثناء

الاستقامة هي أخذ الدين من جميع جوانبه دون استثناء إن الاستقامة التي يطالب الله عز وجل الناس جميعاً أن يثبتوا عليها بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} [الشورى:15] هي أخذ الدين من جميع جوانبه، لا أن يتتبع المرء ما سهل عليه أو وافق هواه؛ لأننا حينما نأخذ من هذا الدين ما رق ولان، ومن هذه الأحكام ما سهل، ومن هذه العبادة ما تيسر، ونترك ما شق على النفوس؛ لم نكن مستقيمين، ولكن الاستقامة أن يأخذ بهذا الدين في المنشط والمكره، وأن يثبت على هذا المبدأ ولو تخلف عنه الناس أجمعون، فهو يسير على هذا المبدأ القويم ويستقيم عليه حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) أي: أنّه يطلب من الله أن يستقيم على هذا الدين، وتقول له عائشة في ذلك: (كيف تخاف على نفسك يا رسول الله؟! قال: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).

الاستقامة المحمودة هي التي تكون حتى الممات

الاستقامة المحمودة هي التي تكون حتى الممات لقد زلت القدم بأقوام كانوا على منهج قويم، وكانوا على حال مشرفة، لكن الله تعالى كتب لهم الشقاوة في الخاتمة، وكل ميسر لما خلق له، فمن خلق للسعادة مات عليها، نسأل الله ذلك! ومن خلق للشقاوة وللنار فإنه يموت على الشقاوة، ولو كانت حياته كلها في طاعة الله عز وجل، والعبرة بالخواتيم، الله تعالى يقول: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال يعقوب عليه السلام حينما حضرته الوفاة: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فالعبرة هنا على ساعة الموت لا على مدة الحياة، وهذا هو معنى الاستقامة؛ لذا لا تعتبر الاستقامة استقامة إلا مع حسن الخاتمة.

الاستقامة أمر وسط بلا إفراط ولا تفريط

الاستقامة أمر وسط بلا إفراط ولا تفريط نستطيع من خلال كلمة (فاستقم) أن نأخذ معنىً آخر وهو: أن دين الإسلام دين وسط بين طرفي نقيض دائماً وأبداً، فإذا نظرت إلى الأفكار العصرية والأفكار القديمة والمذاهب والملل وجدت أنها على طرفي نقيض دائماً، فجانب إلى اليمين وجانب إلى الشمال، والإسلام وتعاليمه يمثل جانب الوسط، وهو جانب الاستقامة، وإليك بعض الأمثلة على ذلك: فهناك جانب يقدس الروح ويهمل الجسد، وهو منهج الصوفية، ويقابله جانب آخر يقدس الجسد ويهمل الروح، وهو عالم المادية الطائشة في أيامنا الحاضرة، بينما نجد أن الإسلام يستقيم في معاملة الاثنين جميعاً، فلا يهمل الروح ولا يهمل الجسد، ولكنه يربي الروح والجسد، فيعطي الروح حقها، لكن لا يكون ذلك على حساب الجسد، ويعطي الجسد حقه ولا يكون ذلك على حساب الروح، فلا هو بالصوفية الموغلة التي لا ترعى حقاً للجسد، ولا هو بالمادية المنحرفة التي لا تعطي الروح شيئاً من حقها. وفي جانب الاقتصاد نجد أن في عالمنا نظامين كافرين: نظاماً يسمى بالشيوعية الاشتراكية، يبتز أموال الناس لا للفقراء، ويقابله في الطرف الآخر نظام آخر، وهو الرأسمالية في مفهومه العصري، لا يبالي من أين يكسب المال ولو كان عن طريق الربا أو المحرمات، المهم أن يكون هناك مال، ولا يحترم هذا المال، ولا يعتبر فيه حقاً للسائل والمحروم من الزكاة وغيرها. ونجد في الوسط دين الإسلام، فهو ملة وسط، فلا هو بالذي يأخذ أموال الناس بغير حق، ولا هو بالذي يجعل الأمر مفتوحاً لهذا الإنسان أن يكسب المال متى شاء ومن أي طريق شاء، إذاً فهو الطريق الوسط المستقيم. وفي باب المعتقد نجد المعطلة والمشبهة على طرفي نقيض، ونجد أن الجانب الوسط هو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه من غير تشبيه ولا تعطيل، وهكذا دائماً نجد الإسلام ديناً وسطاً مستقيماً بين طرفي نقيض، وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، ومنهجكم منهج الوسط، فلا هو بالجانب المنحرف ذات اليمين، ولا هو بالجانب المنحرف ذات الشمال.

الاستقامة كما أمر الله لا كما تشتهيه الأنفس

الاستقامة كما أمر الله لا كما تشتهيه الأنفس إن هذه الأمة مطالبة بأن تسير على هذا المنهج القويم: (فاستقم كما أمرت)، وهذه الاستقامة مقيدة هنا بقوله تعالى: (كما أمرت)، فهل هناك استقامة منحرفة؟! نعم، فقد تكون الاستقامة في الظاهر، لكنها منحرفة وليست كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له حرية في أن يختار طريق الاستقامة؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: (كما أمرت). أيها الإخوان! إن من يسير في العالم الإسلامي سيرى أقواماً أحدثوا عبادات لو نظرت إليهم من أول وهلة لقلت: هؤلاء هم عبّاد الله في الأرض، وإذا نظرت إليهم بعين البصيرة وجدت أنهم من أبعد الناس عن دين الله عز وجل، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، والعجيب أنها عاملة خاشعة ناصبة تقية -في الظاهر- لكنها تصلى ناراً حامية!! لأنها لا تسير على المنهج الصحيح الذي جاء من عند الله عز وجل، يحدثون في دين الله، ويشرعون لأنفسهم من العبادات ما لم يأذن به الله، وكلما أعجبتهم عبادة قالوا: هذه بدعة حسنة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة)، فليس هناك في الإسلام بدعة حسنة، وقد تطورت هذه البدع إلى أن وصلت إلى درجة الشرك بالله عز وجل، فتعبد الأصنام الآن من خلال ما يسمونها بالبدعة الحسنة! لقد رأينا أُناساً يسجدون للقبور، وقد ولوا ظهورهم صوب الكعبة، ووجوههم -وهم ساجدون لغير الله عز وجل- صوب القبور والأضرحة، يعبدون أناساً قد صاروا تراباً، ويسجدون لهم من دون الله عز وجل، وحينئذٍ نعرف أن الشرك قد عاد على أشده، فإنّ أكبر مرحلة وصل إليها الشرك في آخر أيام الشرك يوم فتح مكة، وهي آخر لحظة من لحظات الشرك، وكان عدد الأصنام ستين وثلاثمائة صنماً تعبد من دون الله، وقد كسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى الأمر، وأما في وقتنا الحاضر فإنّ الإحصائيات تقول: إن في العالم الإسلامي أكثر من عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله. وقد رأيت أنا بعضها؛ فيها حجاج من جميع بلاد العالم، ويحجون إليها أكثر ممن يحج إلى الكعبة المشرفة، والطواف حولها أكثر من الطواف حول الكعبة المشرفة، وتراهم يريقون الدموع في ذلك الموقف، ويتوسلون، ويدعون، ويخشعون، ويذبحون ويريقون من الدماء أكثر مما يفعله المسلمون في أيام منى! فقلت: سبحان الله! لقد عاد الشرك الآن على أشده، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تلك الغربة ستعود أعنف مما كانت، وبلادنا هذه -والحمد لله- لا تعرف الشرك بهذا المعنى، فقد حماها الله سبحانه وتعالى من هذا الشرك بدعوة سلفية صالحة، نسأل الله أن يثبتنا على التوحيد، لكن نريد أن نصلح ما دون ذلك. والخلاصة -أيها الإخوة- في قول الله تعالى: (كما أمرت): ألّا تستقيم كما يروق لك، حتى رسول الله وخاتم الأنبياء وخير المرسلين، قال له ربه: استقم كما أمرت، أي: لا كما تريد، ولا كما يحلو لك. إن الاستقامة لها قيود وشروط، والعبادة لها ضوابط، وقد أكمل الله تعالى هذا الدين بحيث لا يصبح أُلعوبةً لبعض المسلمين يزيد فيه وينقص، ويتهم الله عز وجل بعدم إكمال هذا الدين، وهو الذي يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم تبيين هذا الدين، وهو الذي يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها).

الطغيان من أسباب الهلاك والعذاب

الطغيان من أسباب الهلاك والعذاب الأمر الثاني من هذه الأوامر: (ولا تطغوا)، والطغيان في اللغة العربية معناه: تجاوز الحد، سواء كان ذلك في العبادة أو في المعصية، فتجاوز الحد في المعصية يعتبر طغياناً في الأرض، فالمتجبرون الذين يسومون الناس سوء العذاب، والذين يريدون أن تخضع لهم هذه الشعوب على غير منهج الله عز وجل، هم طغاة البشر.

خطر الطغيان والغلو في جانب العبادة

خطر الطغيان والغلو في جانب العبادة هناك طغيان في العبادة، والمراد به: تجاوز الحد، أي: كونوا وسطاً؛ ولا تتعدوا هذه الحدود ولو كان ذلك في أمر العبادة؛ ولذلك فكل أوامر الإسلام مضبوطة ببداية ونهاية، وبحدود وحواجز؛ لئلا يفكر أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، فإنّ من زاد في شرع الله فإجرامه أكبر مِن إجرام مَن نقص منه؛ لأن من نقص من شرع الله فهو عاصٍ، وأما من زاد فيه فإنه يضع نفسه في مقام الربوبية التي لا تجوز لأحد إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهذا هو الطغيان، ولهذا فإن أوامر الإسلام محدودة: خمس صلوات لا نزيد عليها كفرائض، وصيام رمضان لا نزيد عليه، حتى إنّ من صام اليوم الذي يشك فيه قبل رمضان فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد يوماً قبله ونعتبره من رمضان، ولو كان ذلك اليوم يوم شك على سبيل الاحتياط فيه، ولا يجوز أن نصوم يوم العيد؛ لأنه يزيد في رمضان، وهكذا كل العبادات تجدها قد رُسم لها طريق بداية ونهاية وحدود، بحيث لا يستطيع أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، ولذا قال الله تعالى: (ولا تطغوا) أي: لا تتجاوزوا الحدود في هذا الأمر، فإن الإفراط أخطر على حياة المسلم من التفريط. جاء ثلاثة نفر إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله، فذكر لهم عمله، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم: (أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد -أي: يصلي كل الليل- وقال الثاني: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، -أي: يريد أن يتبتل وينقطع عن العبادة- فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم غضب غضباً لم يغضب مثله، وقال: أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). إذاً: فالإفراط وتجاوز الحد والطغيان في العبادة أمر لا يقل خطراً عن أمر التقصير في العبادة، بل يزيد خطره على ذلك. وهنا ننبه على أمر يقع فيه كثير من الناس وهو: أنّ كثيراً من شباب المسلمين -الآن- حينما يتجهون إلى الله عز وجل فإنهم يوصفون بالتطرف، أو يوصفون بالتشدد، وما هذا الأمر بتشدد في الحقيقة، إنما هو دين، لكن لما غفل الناس عن هذا الدين مدة طويلة من الزمن، وهدى الله عز وجل هذه الشبيبة المسلمة؛ ظن كثير من الناس أن هذا تجاوز وتعدٍّ للحدود، فصاروا يسمونه تطرفاً، ومرة أخرى يسمونه وسواساً، وحيناً يسمونه شدة في الدين إلى آخر ذلك، حتى إنهم يسمونه في بعض الأحيان رجعية وتخلفاً، وهذا حقيقته الطعن في الدين، وهذا هو ما يحدث بالنسبة لمن يسنون الشرائع الأرضية، والقوانين البشرية، فإنهم يقولون: هذا الدين لا يصلح لهذه الحياة، إذاً لابد أن يأتوا بقوانين وآراء الرجال، ويضلون الأمة عن الطريق المستقيم {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].

الركون إلى الظالمين من أسباب الهلاك والعذاب

الركون إلى الظالمين من أسباب الهلاك والعذاب قال تعالى في الأمر الثالث: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، اعلم أنّ كلمة (الظلم) تأتي في الشرع على ثلاثة معانٍ: فتأتي بمعنى: التعدي على حقوق الناس، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم من الأرض قيد شبر) الحديث، وتأتي بمعنى: الشرك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وتأتي بمعنى: المعصية؛ صغيرة كانت أم كبيرة، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، فلها معان متعددة؛ ولذلك فإن الظالم -بكل معانيه- لا يجوز لأحد أن يتعاون معه، أو يركن إليه، أو يجالسه، أو يشاربه، أو يعاونه في أي أمر من الأمور، فمن عاونه مسته النار. إنّ الميل إلى الظالمين يسبب مس النار والإحراق في نار جهنم، فكيف بالظالم نفسه الذي يتعدى على حرمات المسلمين وأموالهم وحرياتهم وحقوقهم وأعراضهم، وغير ذلك؟!! فالأمر خطير جداً، ولذلك فإن هذه الآية: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) تحذر المسلمين من أن يميلوا إلى طغاة البشر أو أن يتعاونوا معهم، كما تحذر المسلمين من أن يميلوا إلى الكافرين، وتحذرهم أيضاً من مخالطة الفسقة والعصاة؛ لأن ذلك يسبب فسقاً وعدواناً في الأرض؛ ولذا فإن الله عز وجل عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم حينما فكر تفكيراً بعيداً في أن يجذب القوم إلى الإسلام عن طريق الميل القليل إليهم؛ كأن يخصص لهم مجلساً، أو أن يلين مع كفار قريش من أجل أن يجذبهم إلى الطريق المستقيم، يقول الله تعالى له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، فالركون شيء قليل، والعذاب مضاعف في الحياة الدنيا وبعد الموت، مع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم!! إنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم -وهو خير البرية المبلغ من عند الله- عندما فكر في أن يركن إليهم شيئاً قليلاً، هدده الله تعالى بالعقوبة ضعف الحياة وضعف الممات، إذاً فماذا نقول في ركون المسلمين إلى الكافرين هذا الركون الطويل العريض، حتى أصبح بعضهم يسب الإسلام من خلال أخلاق هؤلاء الكافرين، ويسب المسلمين تصنعاً لهؤلاء الكافرين، بسبب ابتسامتهم في وجوهنا، ويقول هذا المسلم الخائن: الكفرة خير من هؤلاء؟! كلمات نسمعها دائماً وأبداً، ولربما يزيد الأمر خطورة حينما يصل إلى درجة محبة هؤلاء. إذاً: فالأمر خطير، الله تعالى يقول: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا} [الإسراء:74 - 75]، والتنوين في (إذاً) يسمى بتنوين العوض، والمعنى: إذاً لو ركنت إليهم شيئاً قليلاً {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75]، أي: عاقبناك عقاباً شديداً مضاعفاً في الحياة الدنيا وبعد الموت.

ضرورة استقلال الشخصية الإسلامية وعدم ركونها إلى غيرها

ضرورة استقلال الشخصية الإسلامية وعدم ركونها إلى غيرها لقد أمر الله سبحانه وتعالى الشخصية الإسلامية أن تستقل عن غيرها، وأمر المسلمين ألا يستعينوا بالكافرين، وألا يركنوا إليهم وألا يميلوا إليهم، وألا تكون هناك محبة أو موالاة لهم، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وهم الكفرة {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، يعني: لا تواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباً لك، وانظر إلى امتثال ذلك في حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما تبرأ من أبيه لأنه رجل كافر، قال تعالى عنه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يلومه الله تعالى أن مال قليلاً إلى ابنه الكافر: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، ثم يقول: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فيعتبرها نوح عليه الصلاة والسلام ذنباً عظيماً اقترفه في جنب الله فيقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ينزل الله عز وجل في عمه أبي لهب قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، وأدنى النبي عليه الصلاة والسلام الأباعد من الرجال، وأبعد الأقارب؛ لأن أولئك الأقارب الذين أبعدهم أعداء لله ولرسوله، ولأن أولئك الخيار الذين أدناهم من أولياء الله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. ولما أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] قال المنافق عبد الله ابن أُبي بن سلول لعنه الله: نريد أن نعقد حلفاً مع اليهود؛ فإنا نخشى أن تصيبنا دائرة، يعني: نخاف من أيام الدنيا فنستعين بهم على نوائب الحياة، مع أنهم يسكنون المنطقة التي يعيش فيها المسلمون، فينزل الله تعالى آية أخرى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52] أي: المنافقين {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] أي: في ولاية الكافرين، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] فما هو الحل؟ الحل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]. إذاً: فالركون إلى الكافرين محبةً وموالاةً أمر خطير جداً، قال الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، فإن العقوبة شديدة وليست هينة، فالمس هنا معناه: الإحراق بالنار.

خطورة مجالسة الفسقة والعصاة والركون إليهم

خطورة مجالسة الفسقة والعصاة والركون إليهم مجالسة الفسقة والعصاة أمر خطير جداً؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ويقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، وكم يسخر أعداء الإسلام من هذا الدين، ويضحكون من المتدينين، وكم يتفكه كثير من أصحاب المجالس -وإن كانوا من المنسوبين إلى الإسلام- بالدين والمتدينين، حتى إذا ذهب أحدهم إلى أهله انقلبوا فكهين! فيضحك مع زوجته قائلاً: والله! ابن فلان من الناس كأنه مصاب بعقله، أراه قد قصر ثوبه، وأرخى لحيته! كذا يسخر من دين الله عز وجل، وربما يقول: فلان أصيب بالوسواس. حتى ربما يسخر من ولده حينما هدى الله سبحانه وتعالى أبناء المسلمين إلى الفطرة في أيامنا الحاضرة، وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، ولكن هذه السخرية وهذا الضحك تنقلب رأساً على عقب في يوم القيامة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، فيطلعون عليهم وهم في نار جهنم، ويأتي دور المؤمنين في الضحك، فيضحكون منهم. أيها الإخوة! إنّ من البلاء مخالطةَ الظلمة ومجالستهم، والاطمئنان والركونَ إليهم، والله تعالى يقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود:113]، ولذلك فإن المسلم مطالب ألاّ يركن إلى الكافرين، أي: لا يتخذ ركناً يعتمد عليه بعد الله إلا في المؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ} [المائدة:55]، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4]، ولا يركن إلى الفسقة وإن كانوا مسلمين.

اتخاذ بطانة الشر من الركون إلى الظالمين

اتخاذ بطانة الشر من الركون إلى الظالمين الركون معناه: أن تتخذ هذا الرجل أو هذا الإنسان كالركن تعتمد عليه كما تعتمد على الجدار أو على الركن، أي: فتتخذ هذا الرجل الكافر أو الفاسق أو الظالم أو الطاغية ركناً تعتمد عليه من دون المؤمنين، وهذا هو الخطر، وهذه هي البطانة التي حذر الله عز وجل من اتخاذها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] أي: من غيركم ممن لا يوافقكم في دينكم وعقيدتكم، فإنّ اتخاذهم بطانة أمر خطير جداً؛ ولهذا فإن كثيراً ممن وقعوا في سخط الله عز وجل إنما وقعوا في ذلك بسبب هذه البطانة، ولم يوفقوا إلى جلساء صالحين، ولعل السر في ذلك: أنهم أعرضوا عن شرع الله عز وجل، فقيض الله تعالى لهم هذه البطانة، وهذا ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، سواء كان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي: لا يتركه حتى يكبَّه في نار جهنم. فالأمر خطير، يقول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، فمصاحبة الفسقة أمر خطير، يذهب بالإنسان مذاهب خطيرة، فهؤلاء الفسقة ربما يفسدون على الرجل الصالح -الذي لم يحسن اختيار الجلساء- صلاحه ودينه، فلا يدعوه حتى يخرجوه من الملة، ولذلك فإن المسلم مطالب بألّا يخالط إلا الأتقياء، وألّا يأكل طعامه إلا الصالحون، وألّا يأنس إلا بأولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن رغب عن هذا المنهج فإنه على خطر، ويكون من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؛ فتمسه النار، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود:113] أي: ليس لكم أي ولي من الأولياء، و (من) هنا زائدة للتأكيد، والمعنى: أن هؤلاء الذين ركنتم إليهم لا يستطيعون أن يدفعوا عنكم ضراً أو يجلبوا لكم نفعاً، أياً كان هذا النفع وأياً كان هذا الضر؛ لأن دخول (من) في هذا المكان بعد النفي تفيد العموم المطلق، والمعنى: أي ولي اعتمدتم عليه غير الله، فإن هذا الذي اعتمدتم عليه ليس ولياً يركن إليه، وإنما هو عدو لهذا الذي ركن إليه. ولذلك يقول الله تعال: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود:113] أي: لا يستطيع ذلك أن ينصركم من دون الله، ولذا شبّه الله تعالى الذين اعتمدوا على غيره، وركنوا إلى غير الركن الشديد، واتخذوا بطانة من غير المؤمنين؛ شبههم بالعنكبوت حينما تبني لها بيتاً تدافع به عن نفسها، وتتحصن به في وقت الشدائد، فلا يستطيع هذا البيت أن يحمي هذه العنكبوت، فهؤلاء أشبه ما يكونون ببيت العنكبوت، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وقد جاءت هذه الآية بعدما أخبر الله عز وجل بأنه أهلك الأمم الذين اتخذوا بطانة من غير المؤمنين، وصرفوا العبادة لغير الله، وظنوا أن هذه الآلهة تدفع عنهم ضراً أو تجلب لهم نفعاً، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:40 - 41].

وجوب الركون إلى الله تعالى دائما وأبدا

وجوب الركون إلى الله تعالى دائماً وأبداً يجب على المسلم أن يركن إلى الله عز وجل دائماً وأبداً، في حال الشدة وفي حال الرخاء، ولا ينسى ربّه في حال الرخاء فيتخلى الله عز وجل عنه في وقت الشدة؛ بل عليه أن يتعرف إلى الله في وقت الرخاء حتى يعرفه في الشدة، وأخطر الأمور كلها: أن يَنسى الله في وقت الرخاء وفي وقت الشدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ويقول سبحانه وتعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، فما دام أنهم اتقوا الله في أيام الرخاء ينجيهم الله عز وجل في وقت الشدة في الأمور المخيفة التي لا يستطيعون أن يدفعوها عن أنفسهم، وإنما يدفعها الله عز وجل بمقدار ما تقربوا إليه في وقت الرخاء واتقوه.

خطر تقليد الآباء والأجداد في الدين

خطر تقليد الآباء والأجداد في الدين أيها الإخوة! إن من أخطر الأمور أن يميل المسلم إلى الكافر، أو أن يأخذ دينه من غير المنهج الصحيح، وذلك حينما يقلد الآباء والأجداد، ولذلك فإن حال الكافرين الأولين، وكذلك المشركين في أيامنا الحاضرة: {وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [البقرة:170] أي: ما وجدنا، فقال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] أي: لو كان الآباء قد ضلوا الطريق فإن الأبناء سيضلون الطريق؛ بسبب تمسكهم بمنهج آبائهم ولو كان آباؤهم على غير الدين والمنهج الصحيح!! وهذا هو السبب في انحراف كثير من الناس، وهو الذي جعل لجهنم ملأها، وهو الذي جعل الكبر يملأ قلوب وعقول أولئك الناس الذين لا يريدون أن يتبعوا المنهج الصحيح، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه الآباء والأجداد، حتى لو كان الآباء والأجداد لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

خطر موالاة الكافرين

خطر موالاة الكافرين إنّ المسلم مطالب بألّا يعتمد إلّا على الله عز وجل، وألّا يركن إلا إلى المؤمنين، وألا يتخذ البطانة إلا من المؤمنين، وألّا يوالي الكافرين؛ فإن موالاتهم أمر خطير يجب على المسلم أن يحذره، وأن يعلم أن أعداء الإسلام وإن ابتسموا في وجوه القوم فقلوبهم مملوءة حقداً على هؤلاء الناس، كما قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8]، فكم ابتسموا في وجوه الناس وفي وجوه المسلمين ثم قلبوا لهم ظهر المجن في لحظة سريعة. فمن الذي يجوب خلال ديار المسلمين اليوم، وينشر الفساد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل في بلاد المسلمين؟! ومن الذي استولى على بلاد المسلمين مائة وسبعين عاماً والدماء تجري كالأنهار؟! حتى نصارى العرب لم تغن عنهم قوميتهم من دون الله عز وجل شيئاً، فهم الذين فتحوا الباب للصليبيين حينما قدموا عن طريق لبنان، وهذا يشهد به التاريخ. الرابطة هي رابطة العقيدة، والأخوة هي الأخوة في الله عز وجل، وهي أوثق عرى الإيمان، لكن الله تعالى يقول لنا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فإذا كانت المسألة مسألة عدل وإنصاف فحينئذٍ لا يجوز للمسلم أن يميل مع المسلم ضد الكافر إذا كان الحق لغير المسلم.

الصلاة من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعقابه

الصلاة من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعقابه قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] إنّ الصلاة على طرف نقيض مما سبق من الركون إلى الكافرين؛ لأن الصلاة ركون إلى الله عز وجل، واستمداد للقوة من الله سبحانه وتعالى مباشرة، وتتجدد وتتكرر كل يوم خمس مرات، فكلما ضعف اليقين في قلب هذا الإنسان، أو ضعفت قوته وخارت؛ فإنه يرتبط بالله عز وجل، ويقف بين يديه؛ ليستمد منه العون والتوفيق، فيخشع بين يدي الله خمس مرات، وينحني له، ويضع جبهته خضوعاً لله عز وجل، ويتوسل إلى الله عز وجل بآياته، ويعظم الله بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، وهذه أفضل العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى. ولذلك لما ذكر الله تعالى موالاة الكافرين بيّن كيف يجب أن تكون الموالاة له وحده فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، وطرفا النهار: صلاة الفجر وصلاة المغرب والعشاء، أو صلاة الفجر والمغرب، (وزلفاً من الليل) هي صلاة العشاء، وتدخل صلاة الظهر وصلاة العصر في الطرف الثاني من النهار، فالمراد هنا بالصلاة: الصلوات الخمس التي هي أعظم فريضة شرعها الله على عباده، وقد فرضت فوق السماء السابعة، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله، وهي آخر ما يفقد من هذه الأمة، وأي أمة تُفقد فيها الصلاة فلا حظَّ لها في هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). لقد غفل بعض المسلمين عن أولادهم فارتدوا عن الإسلام حينما تركوا هذه الصلاة المكتوبة، وهذا أمر خطير جداً، ليس الأمر مجرد معصية فحسب، ولكنه يتعداها إلى درجة الكفر والردة عن الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة!

الصلاة طهارة من الذنوب الآثام

الصلاة طهارة من الذنوب الآثام إنّ الصلاة صلة بين العبد وربه سبحانه وتعالى، وتطهر الإنسان من الآثام كنهر غمرٍ بباب أحدنا يغتسل منه خمس مرات كل يوم فهل يبقى من درنه شيء؟ وقد نزلت هذه الآية في رجل من الصحابة رضي الله عنه فعل ذنباً، وهو أنه قبل امرأة، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عملت ذنباً عظيماً، قبلت امرأة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلس، فأنزل الله تعالى في حقه وفي حق جميع المسلمين إلى يوم القيامة لتكفير صغائر الذنوب: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فلما نزلت هذه الآية تلاها صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل، فقال: يا رسول الله! ألي خاصة أم لجميع الأمة؟ قال: بل لجميع أمتي)، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لنا هذه الصلاة العظيمة التي يكفر الله عز وجل بها هذه السيئات التي يقترفها الإنسان في حين غفلة، أو في حين انحراف، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].

خطر السهو عن الصلاة وتأخيرها عن وقتها

خطر السهو عن الصلاة وتأخيرها عن وقتها الصلاة أمرها عظيم، وشأنها خطير، وقد يتأخر عنها الإنسان بعض الوقت، فيؤدي ذلك إلى أن يتساهل في مواقيتها؛ بحيث يصليها في غير وقتها، فيكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60]، فإذا كان هذا الأمر في تأخير الصلاة عن وقتها، فكيف بتركها كلية؟! نعوذ بالله من ذلك! وقال الله عز وجل في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، والويل هو العذاب الشديد، فإذا كان العذاب الشديد للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، فما هو مصير الذين لا يركعون لله ركعة واحدة، ولا يعرفون الطريق إلى المسجد إلا حينما يقدّمون جنازة يصلي عليه المسلمون؟! نسأل الله السلامة والعافية! وهذا كثير فيمن ينتسب إلى الإسلام في أيامنا الحاضرة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة.

أهمية الصلاة ووجوب إقامتها على كل حال

أهمية الصلاة ووجوب إقامتها على كل حال أيها الإخوة! إنّ الصلاة هي رأس العبادات البدنية، وقد فرضها الله عز وجل من فوق السماء السابعة، بينما كل شرائع الإسلام فرضت على الأرض؛ ليعرف هذا الإنسان أهمية هذه الصلاة التي لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتركها في أي حال من أحواله، حتى في ساعة المعركة والنفوس تختطف، والرءوس تقطع، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، ولو كنت تركض على الأقدام فلابد أن تصلي، ولو كنت على البعير أو على الدابة، لا تترك هذه الصلاة أبداً في ساعة المعركة ولو كنت على أي وسيلة من وسائل القتال، لابد أن تؤدي هذه الصلاة، ولا تسقط حتى في حال المرض، فإذا كان الصيام يؤخر في حال المرض كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، والحج يؤخر إلّا لمن استطاع إليه سبيلاً، لكن الصلاة يقول صلى الله عليه وسلم فيها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو أن يومئ إيماءً، أو يحرك عينيه حركة، فلابد أن يشعر أن هذه الصلاة فريضة، وشعيرة عظيمة، لا تسقط بأي حال من الأحوال ما دامت الروح في الجسد. ولذلك لا تتعجبوا أيها الإخوة! حينما يقول الله تعالى في وسط هذه الأوامر العامة: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ)، وكلمة (أقم) لها معنى غير معنى (صل)، فمعنى (صل) أي: أدَّ الصلاة، لكن معنى: (أقم) أي: ائت بها مستقيمة كاملة غير ناقصة.

الصلاة تكفر صغائر الذنوب

الصلاة تكفر صغائر الذنوب قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، كم يقترف الناس من السيئات التي قد يشعرون بها أو لا يشعرون. فأعطاهم الله عز وجل هذه الصلاة العظيمة التي تكفر عنهم هذه الصغائر، وأما الكبائر فتحتاج إلى توبة، وهذه التوبة بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، هذا بالنسبة إلى عامة الناس، وأما بالنسبة لخاصة الناس -أي: لكل واحد من الناس- فما دامت هذه الروح في ذلك الجسد فباب التوبة مفتوح إلى قبل الموت {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17]، فقوله تعالى: (من قريب) أي: قبل الموت، فلا يفرط الإنسان في هذا العمر، ولا يمهل، ولا يغتر بالصحة والعافية والقوة والشباب، لا يؤخر التوبة فقد يهجم عليه الموت على غرة فلا يستطيع أن يستعتب، ويقول وهو في حسرات الموت وفي سكرات الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، فيقال له: {كَلَّا} [المؤمنون:100] أي: لا ترجع أبداً، يقول الله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].

خطر ترك الصلاة

خطر ترك الصلاة أيها الإخوان! إن ترك الصلاة ردة عن الإسلام، يقول العلماء: من ترك الصلاة فإنه كافر مرتد، وإذا كان في عصمته امرأة مسلمة فإنه يجب أن يفرق بينهما؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، ويقول بعض العلماء: إنّ الأولاد الذين يولدون في فترة عدم صلاته موضع شك هل هم أولاد شرعيون أم هم غير شرعيين؟! ويقولون: لا يكفن، ولا يغسل، ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا يصلى عليه، ولا يدخل المسجد، فالأمر خطير يا إخوان! وكثير من الذين يتركون الصلوات الخمس، أو يتركون بعضها يغفلون عن هذا الأمر الخطير، ويغفلون عن هذه المسئوليات الكبيرة، ويصبح أولادهم موضع شك بالنسبة لإلصاقهم بهم من الناحية الشرعية، ويفرّق بينهم وبين زوجاتهم، فالمراد أنّ حياتهم تتغير تغيراً كاملاً، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يجعلنا وإياكم وذرياتنا ممن يقيم الصلاة، ويخشى الله سبحانه وتعالى.

فضل الصلاة مع الجماعة

فضل الصلاة مع الجماعة ومن مظاهر الاستقامة: إقامة الصلاة، وهي أعظم وأهم مظهر من مظاهر الاستقامة على دين الله تعالى، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، بل إن من ترك الصلاة مع الجماعة فإنّه يخاطر بدينه، فتراه يسمع المنادي يقول له: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكأنه لا يسمع، فإذا جاء يوم القيامة قيل له: اسجد لله ما دمت لم تسجد، فلا يستطيع السجود؛ لأن الظهر يعود طبقاً واحداً، فينكب على وجهه في نار جهنم، وهذا هو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا} [القلم:42 - 43] أي: في الدنيا {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]، إنّهم معافون الأجساد، ومع ذلك لا يستجيبون، والمنادي ينادي من جانب داره كل يوم خمس مرات: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يرفعون لذلك رأساً، ولا يقيمون له وزناً، فيكشف عن ساق يوم القيامة، ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصف المجتمع الإسلامي الذي عاشه: (إن الله عز وجل شرع لنبيكم سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، والصلاة في البيت تؤدي إلى ترك الصلاة نهائياً؛ لأنه عصى الله تعالى، والله يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، قال: (ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم). ثم يقول عن مجتمعه: (ولقد رأيتنا -ونحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: في المسجد- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل منا يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) أي: أنه لا يستطيع المشي، فيحمله اثنان حتى يقيمانه في الصف، مع أن صلاة الجماعة غير واجبة عليه، لكنه لا يريد أن يتخلف عن الصلاة مع المسلمين.

بيان أهمية الصبر وأنه من لوازم الاستقامة

بيان أهمية الصبر وأنه من لوازم الاستقامة يقول تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] أي عبادة من العبادات لابد أن يكون من أهم مقوماتها الصبر، والصبر معناه: حبس النفس، وعدم الشكوى. والاستقامة تحتاج إلى صبر؛ لأن الإنسان ربما يكون في مجتمع يرهقه أن يكون مثل هذا الرجل الصالح فيهم، فيضايق؛ فلابد له من الصبر، وقد يفسد المجتمع فتحتاج الاستقامة إلى شيء كثير من الصبر والمصابرة، ودائماً الصبر هو طريق الفوز بسعادة الدنيا والآخرة. إن الركون إلى الكافرين قد تفرضه بعض الظروف على المسلم، فهو مطالب أن يصبّر نفسه حتى لا يركن إلى الكافرين، والصلاة تحتاج إلى صبر؛ لأنها عبادة تتكرر كل يوم خمس مرات، ولا يطيقها إلا الصابرون الذين يصبرون أنفسهم على طاعة الله وعن محارم الله، وهكذا يكون الصبر دائماً هو طريق الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعذابه

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب النجاة من غضب الله تعالى وعذابه يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116]، أي: لم يكن في الأمم السابقة من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلاً، وهؤلاء القليل لو تتبعتهم لوجدتهم هم الذين ينقذون أنفسهم وينقذون العالم من عذاب الله عز وجل؛ ولذلك إذا أنزل الله تعالى العقوبة فإنه لا يسلم منها إلا الذين ينهون عن السوء، (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) أي: فهلا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ) أي: لم يكن فيمن قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض، فلا تكونوا مثلهم فيعاقبكم الله كما عاقبهم، ولكن كونوا ممن ينهى عن الفساد في الأرض؛ لأن ذلك هو سبب سلامة العالم صالحهم وفاسقهم، وهو سفينة النجاة، فإذا تُركت هذه السفينة يعبث بها السفهاء، ونام العقلاء عن ذلك، واستطابوا العيش الرغيد، ولم يفكروا في أن يغيروا شيئاً من الأوضاع التي ألفها الناس؛ لأنهم يريدون أن يعايشوا هذا المجتمع معايشة سليمة خالية من التنغيص، ولو كان ذلك على حساب الدين، ولو كان ذلك على حساب بقاء الأمم وهلاكها؛ كان ذلك سبب هلاك وفناء هذا العالم. (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) أي: لم يكن هناك من ينهى عن الفساد إلّا قلة، وهؤلاء القلة هم الذين أنجاهم الله عز وجل، وهم المرسلون ومن آمن بالمرسلين. ثم قال الله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]، فالله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، ولم يقع في تاريخ البشرية أن الله تعالى أهلك أمة مصلحة، ولكن أهلك المفسدين، وأهلك معهم الذين يسكتون عن الفساد في الأرض، أما المصلحون فإذا وُجِدوا في الأرض فإنهم يكونون من الأمم التي ينجيها الله عز وجل. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يؤذى المصلحون في الأرض؟ ولما يتعرض المصلحون في الأرض من الذين يدعون إلى الله تعالى، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر للأذى، وهم سبب بقاء هذا العالم، وسبب بقاء هذه الدول التي وجد فيها المصلحون؟!! إن وجود هؤلاء المصلحين في أمة أو في دولة هو علامة على بقائها.

صلاح الأمم بوجود المصلحين وهلاكها بفقدهم

صلاح الأمم بوجود المصلحين وهلاكها بفقدهم إنّ المصلحين إذا فُقدوا من الأرض، أو تهاونوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الجو يخلو للمفسدين ليعثوا في الأرض فساداً، وإذا كان الأمر كذلك فإنه بداية النهاية، وهو سبب دمار العالم، ولذلك نقول للناس: اتقوا الله وكونوا من المصلحين، ونقول: إن الله تعالى مدح المصلحين ولم يمدح الصالحين، فالصالح بنفسه الذي لا يصلح أوضاع الناس قد لا يخلص نفسه من عذاب الله عز وجل، فضلاً أن يخلص غيره؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، فكون أهلها صالحين لا يكفي، بل لابد أن يكون أهلها مصلحين، فإذا وجد المصلحون فهم علامة بقاء هذه الأمة، ومع ذلك فإني أعجب كل العجب كيف يكافَح المصلحون في الأرض؟! وكيف توجه لهم التهم؟! وكيف يوجه لهم الأذى؟! وكيف تشل حركة الدعوة إلى الله؟! وكيف تشل حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم سبب بقاء هذا العالم؟!! واعلم أنه بمقدار ما يكون في الأمة من المصلحين يكون نصيبها من الخلود والبقاء في الأرض، ونقصد بالخلود طول العمر، وبمقدار ما يُفْقَدُ هؤلاء المصلحون تكون هذه الأمة هينة، ولا يبالي الله عز وجل بها أبداً، وتسقط من عين الله تعالى. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المصلحين، وأن يوفق للأمة الإسلامية قادة رشداء، وأن يهيئ لها أمراً رشيداً يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يجعل ولاة أمرنا وولاة أمر المسلمين كافة من الذين قال فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فاستمسك بالذي أوحي إليك

فاستمسك بالذي أوحي إليك القرآن الكريم فيه صلاح الفرد والمجتمع، وفيه صلاح البشرية جمعاء، من تمسك به ساد، ودانت له العباد والبلاد، ومن حكم به عدل، ومن قال به سُمع لقوله، ومن تخلق به كُسيَ ثوب المهابة والوقار، وانصرف عنه كل شر وعار، به تُنقذ البشرية من الضياع والضلال، ومن التنازع والاقتتال، ومن كل سوء ووبال، وبه تنشرح الصدور، وتمتلئ بالفرح والحبور، وتزول عنها الهموم والغموم، ولا يقربها الشيطان المرجوم؛ فيجب على أمة الإسلام أن تتمسك به، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تسعى جاهدةً في أن تسقي بقية الأمم الأخرى من هذا المعين الصافي.

أمر الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بالاستمساك بالقرآن

أمر الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بالاستمساك بالقرآن نحمد الله تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الحديث في هذه الليلة عن عظمة هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله تعالى حجة لهذه الأمة أو حجة عليها، والله تعالى يقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44]. أما قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ) فإنه يختلف عن قوله تعالى: فأمسك؛ لأن الإمساك أقل من الاستمساك، والاستمساك معناه: العض عليه بالنواجذ، وأخذه بقوة، كما قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. والله عز وجل أمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وأمر هذه الأمة عامة أن تستمسك بهذا القرآن، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تحمله حملاً يختلف عن حمل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل؛ ذلك أن هذا القرآن العظيم هو خاتم الكتب السماوية، وأن حامله محمداً صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وخاتم الأنبياء، وأن أمة القرآن هي آخر الأمم، فهي مسئولة عن حمل هذا القرآن وتبليغه للعالم أجمع في أرجاء الدنيا، وذلك جيلاً بعد جيل. إذاً: هي مسئولية عظيمة، فيلزم هذه الأمة أن تستمسك به استمساكاً قوياً متيناً؛ حتى لا ينفلت منها. والصراط المستقيم في قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، فدين الإسلام صراط مستقيم يبدأ في الدنيا، وينتهي في الجنة، كما قال سبحانه وتعالى عنه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وأنت يا أخي المسلم! في كل ركعة من صلواتك الخمس ونوافلك تسأل الله عز وجل أن يهديك هذا الصراط المستقيم الذي هو طريق الإسلام، وهو الطريق الذي يوصل إلى الجنة، فتقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] وهم المسلمون، أي: ليس بصراط اليهود المغضوب عليهم، ولا النصارى الضالين. إذاً: من استمسك بهذا القرآن فهو على صراط مستقيم.

القرآن الكريم شرف لهذه الأمة وتبليغه مسئوليتها

القرآن الكريم شرف لهذه الأمة وتبليغه مسئوليتها لقد بين الله عز وجل في الآية الثانية أن القرآن العظيم شرف لهذه الأمة من جانب، وهو -أيضاً- مسئولية عظيمة من الجانب الآخر فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، فهذه نعمة، أما المسئولية فبينها تعالى في قوله: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. والمراد (بالذكر) هنا: الشرف على أصح أقوال المفسرين، فهذا القرآن شرف لهذه الأمة.

تشريف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام والقرآن

تشريف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام والقرآن كانت هذه الأمة قبل هذا الكتاب العظيم أمة تعيش في غي وضلال، قد أهملها التاريخ، وانزوت بين جبال مكة ووهادها وفيما حولها إلى أن بُعث فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، ظن العرب أنهم سوف يتخطفون من أرضهم، وأنهم سيكونون لقمة سائغة للعالم حينما يستقلون بهذا الدين الجديد: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، فإذا بهم يتخطفون من أرضهم ليكونوا قادة العالم، وذلك حينما أخذوا بهذا الدين، فكان فيهم من يرفع رأسه إلى السماء كـ هارون الرشيد ويخاطب السحابة وهو في بغداد ليقول لها: أيتها السحابة! أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين. وذلك لأن الأرض أصبح أكثر أهلها يعيش تحت ظل هذا الدين، وكان فيهم قتيبة بن مسلم القائد الأموي، فقد كان في بلاد ما وراء النهر يفتح البلاد، ويسأل قومه حين وقف على مشارف الصين: أي بلدة أمامنا؟ فيقولون له: يرحمك الله أيها القائد! هذه بلاد الصين، فيقول رحمة الله عليه: والله لا أرجع من هذه الأرض إلى بلدي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين، وأضع الوسام -يعني: وسام المسلمين- على الصينيين، وأفرض عليهم الجزية. فوصل الخبر إلى ملك الصين فقال: قولوا لـ قتيبة يبقى في مكانه، ثم أرسل إليه بتربة أرض الصين وقال: هذه تربة الصين في صحاف من ذهب ليطأها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أربعة من أولادي يضع عليهم الوسام، وسام المسلمين، وهذه هي الجزية، وسوف تصل إليه في مكانه في كل عام. هنا يتخطف المسلمون من أرضهم ليكونوا قادة العالم، وليقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه وهو في بلاد شمال أفريقيا ينشر الإسلام، ويفتح البلاد، فوقف على حافة غابة القيروان -وهي غابة موحشة وأرض مسبعة- حين أراد أن يبني مدينة القيروان الحالية في تونس لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فقال له أهل البلاد: يرحمك الله يا عقبة! كل الفاتحين يرجعون دون هذه الغابة؛ لأنها أرض مسبعة، فقال: والله لا أرجع حتى أبني فيها مدينة تكون مقراً للمسلمين هنا، ثم وقف رحمة الله عليه على حافة الغابة وخاطب سباعها ووحوشها قائلاً: أيتها السباع! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام، فقال شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة تخليها لـ عقبة بن نافع ليبني فيها مدينة القيروان. ثم يواصل السير إلى أن يصل إلى بلاد المغرب، ثم إلى المحيط الأطلسي ليغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله الذي لا إله غيره! لو أعلم أن وراء هذا الماء -أي: ماء المحيط الأطلسي- أقواماً لخضته على فرسي هذه إليهم. هكذا حصل المسلمون على الشرف، والذين اعتنقوا هذا الدين أدركوا هذا الشرف الذي يقول الله عز وجل عنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف، ولذلك فإن الله عز وجل أكرم من أكرم من صناديد العرب وغيرهم بهذا الدين، ونقلهم نقلة عظيمة من عالم إلى عالم أعظم، فأصبح أهل مكة وأهل المدينة وأصبح العرب بصفة عامة هم قادة العالم، وهذا من الشرف الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة حينما أخذت بهذا الدين، ثم ما زال هذا الشرف تتوارثه أجيال إثر أجيال في هذا العالم وعلى هذا الكوكب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال أمة إثر أمة تملك زمام الأمور، وتستقر لها الأوضاع، وتسود العالم، وتثبت عروشها بمقدار ما تأخذ من هذا الدين، وبمقدار ما تتمسك به، وبمقدار ما تستنير به من نهج كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا الشرف وهذا الذكر الذي أشار الله عز وجل إليه في هذه الآية ليس لجيل من الأجيال، ولا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحسب؛ بل هو شرف وذكر لكل من رفع راية الإسلام، واستنار بنور القرآن.

مسئولية تبليغ هذا الدين إلى جميع الأمم

مسئولية تبليغ هذا الدين إلى جميع الأمم وكما أن هذا الدين شرف فهو أيضاً مسئولية، فإن الله عز وجل قد شرف العرب داخل الجزيرة العربية وخارجها بهذا القرآن، وهو أيضاً قد حملها مسئولية لم تتحملها أمة من الأمم قبل هذه الأمة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى عن هذه المسئولية: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، وقال في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أي: كما أُخرج اليهود والنصارى والأمم قبلهم لأنفسهم؛ فإن هذه الأمة أخرجت للناس ولم تخرج لنفسها فحسب، ولذلك فإن مسئوليتها عظيمة جداً أمام الله عز وجل يوم القيامة، فليعِ كل مسلم -حسب موقعه في هذه الحياة، وحسب قدرته وإمكانياته- عظمة المسئولية (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). ولربما تسأل الأمم قبل الأنبياء، بل لابد من ذلك؛ لأن الله تعالى قدم سؤال الأمم على سؤال الأنبياء فقال سبحانه وتعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: الأمم {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، فكما أن المرسلين تحملوا مسئولية، فإن الأمم أيضاً تتحمل مسئولية لاسيما في أمة الإسلام التي يقول الله عز وجل عنها: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فهي لم تخرج لنفسها وإنما أخرجت للناس. وأيضاً: فإن أمة الإسلام قد أعطيت من الميزات ما لم تعطه أمة من الأمم، فهي آخر الأمم، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يأخذ بحلقة الجنة، وأمته أكثر الأمم دخولاً الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين؛ فلا نبي بعده، وأعطي خمساً لم تعطها أمة من الأمم، كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعطيت خمساً لم تعطها أمة قبلي). وعلى هذا فإن مسئولية هذه الأمة عظيمة، وكما أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن أنها أمة مشرفة، وأمة مكرمة؛ أخبر كذلك أنها أمة ذات مسئولية كبيرة، وذات عبء ثقيل، وهذه المسئولية سوف يسأل عنها كل واحد حسب موقعه في هذه الحياة: الملوك والقادة والرؤساء عليهم مسئولية؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، ومن دونهم ممن يتحملون مسئولية الأمم هم أيضاً يتحملون هذه المسئولية، وهم داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) بمقدار ما لهم من السلطة، وأنا وأنت يا أخي! وكل واحد من المسلمين أيضاً على ثغر من ثغور الإسلام؛ لأن أي أحد منا يؤمن إيماناً لا يخالطه شك أنه لن يبعث في هذه الأمة نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولن ينزل عليها كتاب بعد القرآن، ولن تنزل عليها ملائكة من السماء تدعو إلى الله عز وجل، ولكنها المسئولية التي أحيطت بعنق كل واحد منا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. إن الذين يموتون على الكفر في أيامنا الحاضرة سوف نسأل عنهم بين يدي الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ولن يبعث رسول بعده صلى الله عليه وسلم، ولكن أمته هي التي تحمل هذه الرسالة، فهؤلاء سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مئات الآلاف، وكان عدد الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ومع ذلك لا نجد قبورهم في مكة والمدينة إلا قليلاً، فأين قبورهم؟ لقد تفرقت قبورهم في الأرض؛ لأنهم خرجوا يرفعون راية الإسلام وينشرون هذا الدين، ويبينون للناس طريق الجنة، ولذلك فإن قبورهم في كل مكان من الأرض، ثم بعد ذلك ارتفعت راية الإسلام بفضل الله عز وجل، ثم بسبب جهود سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين حثوا الخطى، وضربوا آباط الإبل حتى نشروا الإسلام في هذه الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. هذه مسئولية يجب أن يفهمها كل الناس حتى يكون هناك شعور بالواجب.

آثار غفلة المسلمين عن دين الله عز وجل

آثار غفلة المسلمين عن دين الله عز وجل لقد غفل الناس كثيراً في أيامنا الحاضرة عن دين الله عز جل، ثم كان لهذه الغفلة آثارها الخطيرة والتي منها:

ظهور الوثنية من جديد في بلاد الإسلام

ظهور الوثنية من جديد في بلاد الإسلام انتشار الشر والوثنية في بلاد المسلمين، وحصل مروق من الدين في طائفة من المسلمين، ولقد كانت عبادة الأوثان في يوم من الأيام في أوج انتشارها، ومع ذلك لم تزد الأصنام عن ستين وثلاثمائة صنماً فقط، وقد كسرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم بسيفه يوم الفتح حينما دخل مكة فاتحاً وهو يتلو قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، وهذا أرقى وأبعد ما وصلت إليه الوثنية في آخر أيامها، ولكن في أيامنا الحاضرة تقول الإحصائيات الرسمية: إن في العالم الإسلامي اليوم أكثر من عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، وهذه الأضرحة هي عبارة عن قبور لأولياء صالحين أو غيرهم تنصب فوقها الأضرحة التي تناطح السحاب، ثم يأتي ضعاف الإيمان والعقول يتمسحون بها، ويطوفون بها، ويذبحون لها الذبائح، ويتقربون إليها بالقرابين، حتى لقد رأينا بعضاً منها يطوف حوله أقوام كثر، ولا يسمح في بعض الأحيان والمناسبات للطائفين حولها إلا بشوط واحد فقط بسبب كثرة الزحام!! والمسلمون في غفلة عما يحدث في هذا العالم، وبلدنا هذه -والحمد لله- أرض التوحيد والعقيدة، وأرض الوحي، والأرض التي عاش فيها خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، قد حفظها الله عز وجل من هذه الأمور، ولكن أين المسئولية التي يقول الله عز وجل عنها: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]؟ ولو انطلق أهل هذه البلاد -أرض التوحيد والعقيدة والإيمان والنور- إلى أرجاء العالم يبلغون دعوة الله تعالى، وينشرون دين التوحيد مرة أخرى من جديد؛ لما كان يوجد في العالم عشرون ألف ضريح تعبد من دون الله تعالى (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).

خروج المستضعفين من المسلمين من دين الله

خروج المستضعفين من المسلمين من دين الله هنالك أمم في الأدغال، وفي الغابات، وفي مخيمات المهاجرين المسلمين الضعفاء، يكفرون وينصرون ويمرقون من دينهم على أيدي المنصرين، والمسلمون كثير منهم في نوم عميق، يتفننون في بناء المساكن واقتناء المراكب الوثيرة والمتاع القليل، وأمم كثيرة تموت على الكفر، وأمم أخرى تمرق من الدين بسبب التنصير، حتى إنه في دولة إسلامية يسكنها ما يزيد عن مائة وستين مليوناً من المسلمين، نقص منهم ما يزيد على اثني عشر مليوناً الله أعلم بمصيرهم، ولربما أن كثيراً منهم قد ارتد عن الإسلام، وما ذاك إلا بسبب غفلة المسلمين عنهم، وعدم الشعور بالمسئولية تجاههم. أما أعداء الإسلام فعلى الرغم من أنهم لم يتحملوا هذه المسئولية، إلا أنهم يحثون الخطى في أرض المسلمين لينصروا المسلمين، حتى لقد رأينا في دولة إندونيسيا وحدها -وهي الدولة المسلمة التي يوجد فيها أكثر عدد من المسلمين- أكثر من مائة مطار للتنصير، وما يزيد عن مائة وخمسين طائرة مجهزة بكل الوسائل؛ وذلك لدعوة المسلمين إلى النصرانية. إذاً: لا تعجب من أن يتنصر فيها ما يزيد عن اثني عشر مليوناً من المسلمين، ويتركوا دينهم. فالمسئولية كبيرة، وحمل هذا القرآن في مجاهل أفريقيا وفي العالم كله هي مسئولية العلماء والدول الإسلامية، وكل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

القرآن الكريم شرف ومسئولية

القرآن الكريم شرف ومسئولية أيها الأخ الكريم! لقد أخبر الله تعالى أن القرآن شرف، وأخبر أيضاً بأنه مسئولية عظيمة تحملها هذه الأمة، وسوف تسأل عنها يوم القيامة، فما موقفي وموقفك يا أخي المسلم! بين يدي الله عز وجل يوم القيامة حينما يحضر الملايين من البشر ممن مات على غير ملة التوحيد والإسلام، فيقولون: يا رب! ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيسأل الله عز وجل هذه الأمة: هل بلغتم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم؟ و A أن كثيراً منهم لم يقم بهذا الدور، حتى أصبح المسلمون يعيشون في فتنة في كل العالم الإسلامي، وأصبحت للمسلمين في كل أرض قضية ومشكلة، وبلغ عدد المهاجرين من ديارهم عشرات الملايين، وعدد الذين يهددهم الجوع والفقر والمسغبة من المسلمين مئات الملايين، والمسلمون -والحمد لله- يملكون أكبر ثروة موجودة على وجه الأرض، هذه الثروات التي هي أيضاً مسئولية ثانية سوف نسأل عنها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة. إذاً: يا أخي المسلم! كما أن القرآن شرف لي ولك وللعالم كله، وبصفة خاصة للذين أنزله الله عز وجل بلغتهم فقال سبحانه وتعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] أي: بلغة قومه ليبين لهم، فشرفنا الله عز وجل نحن العرب بصفة عامة، وأهل الجزيرة بصفة خاصة، بأن أنزل القرآن بلغتنا، فأصبحنا نفهمه فهماً جيداً دون كلفة أو مشقة، فهو أيضاً مسئولية حملنا الله أمر تبليغها؛ حتى يفهم العالم كله هذا الدين. واعلم أن ما يحدث من عداء لهذا الدين من قِبَل أعداء الإسلام إنما هو بسبب تفريط هذه الأمة، وضعفها في تبليغ هذه الرسالة. أيها الإخوة الكرام! إن هذا القرآن العظيم قد أعجز الله فيه أرباب البلاغة والفصاحة، ولو ترجمناه -أي: نقلناه- بلغات هذا العالم، وفهم الآخرون حقيقته؛ لما وجدنا من يعادي هذا الدين؛ لأنه دين يوافق الفطرة، ودين لا يقبل الله عز وجل يوم القيامة سواه، ولو أفهمنا هذا العالم حقيقة هذا الدين، وعلمناهم هذا الكتاب العظيم الذي أنزل علينا وعليهم، ومنهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وعلم العالمون كلهم أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما هو رحمة لكل العالم كما قال الله عز وجل عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؛ لأنه ينقذهم من النار ويدخلهم الجنة، لو علم العالم هذه الحقيقة لما انتفخ الكفر في أيامنا الحاضرة، ولما شعر المسلمون في كثير من أرجاء هذا العالم بالضعف والذلة. ولا أزال أتذكر كلمة لأخٍ لنا في الإسلام، وهو أمريكي، كان يتحدث في أحد المساجد ذات يوم، فكان يخاطب الحاضرين ويقول لهم: السلام عليكم أيها الظالمون! أنتم ظلمة أيها المسلمون. ويقول: نحن الأمريكان صنعنا الطيارة والسيارة، وصنعنا الثلاجة والغسالة وجميع وسائل الراحة، وأرسلناها لكم؛ لأنها كل ما نملك، وهي ثروتنا، ولربما تتمتعون بها أكثر مما نتمتع بها نحن، أما أنتم أيها المسلمون! فلديكم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، وفيكم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وما بلغتمونا دعوة الإسلام في أمريكا، ولقد مات أبي وجدي وأمي وجدتي وكثير من الناس على غير الملة، إذاً أنتم ظلمتمونا حينما لم تبلغونا دعوة الإسلام. ثم يستطرد هذا الأخ الكريم ويقول: بلغونا دعوة الإسلام، فليس الإسلام ملكاً لكم أيها العرب -أو أيها المسلمون- ولكنه للعالم كله، فبلغوا دعوة الإسلام في بلادنا، ثم قال بعد ذلك: قفوا! نحن لا نحتاج إلى تبليغكم، فإن الإسلام ينتشر عندنا في أمريكا أكثر مما ينتشر في البلاد الأخرى؛ لأن الأمريكان يقول: بدءوا يتعقلون ويفكرون في الأمور، فصاروا يدخلون في دين الله، حتى بلغ عدد المسلمين في أمريكا أكثر من عشرين مليوناً في أيامنا الحاضرة، ثم قال: نريد منكم شيئاً واحداً فقط، وهو ألا تكون هناك ازدواجية في بلادنا بسببكم، فنحن بدأنا ننشر الإسلام في أمريكا ونقول: إن الإسلام يحرم الخمر والزنا والخنزير وكل المحرمات، فيرون بعض أبنائكم الذين جاءوا من بلاد العرب يفعلون هذه الأشياء، فلا يصدقوننا في أن الإسلام يحرم هذه الأشياء، فامنعوا عنا أبناءكم؛ فإن ذلك أفضل دعوة تقدمونها لنا. هكذا يتحدث هذا الأخ الكريم، نسأل الله لنا وله الثبات ولأمة الإسلام كلها.

وجوب التضحية والجهاد في سبيل تبليغ هذا الدين

وجوب التضحية والجهاد في سبيل تبليغ هذا الدين أيها الأخ الكريم! إن تبليغ دعوة الإسلام شرف من جانب، ومسئولية من الجانب الأخر، وهذه المسئولية ثقيلة؛ لأن لها متطلبات، فهي تحتاج إلى سفر طويل وصبر ومصابرة، وتحتاج إلى جهود مضنية، كما أنها قد تضطر المسلمين في يوم من الأيام إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى الوفاء بالبيعة التي أبرمها المسلم المؤمن مع الله عز وجل في سورة التوبة، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]. فهي يا أخي الكريم! مسئولية عظيمة تنتهي بأن تقدم نفسك ومالك ودمك من أجل هذا الدين، وفاء بالبيعة التي أبرمتها مع الله عز وجل في التوراة والإنجيل والقرآن، أي: في كل الكتب السماوية صُدِّقت هذه البيعة، فأصبحت أمراً لا بد منه، لا سيما في مثل هذه الظروف التي نعيشها، والتي لا أعتقد أنه مرّ في تاريخ البشرية أقسى منها على الأمة الإسلامية عبر التاريخ الطويل، وسوف أذكر لكم بعض الأمثلة: هل تصدق يا أخي! أن بعض الأيام تمر -بل أكثر الأيام- ويقتل في بلاد إسلامية صغيرة كطاجاكستان أكثر من عشرة آلاف مسلم! ويفعل مثل هذا العمل أو أكثر منه -مع انتهاك الأعراض وامتهان الأمة الإسلامية- في البوسنة والهرسك! وهل تصدق يا أخي! أن المسلمين في جنوب الفلبين يزيدون على ثلاثة عشر مليوناً، ورغم ذلك فلا أعتقد أن أحداً -إلا الندرة القليلة- يعرف شيئاً من أوضاعهم، أو فكر في زيارتهم ومواساتهم، علماً بأنهم يطبقون تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة في كثير من أحيانهم، ومع ذلك فإنهم مطوقون في تلك المنطقة بأكثر من مائة ألف صليبي حاقد على الإسلام. وتعال معي إلى ما يحدث في كشمير وفي الحبشة وفي إريتريا وفي فلسطين وفي كل مكان من الأرض، والمسلمون في غفلة، والله تعالى يقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء:75]، فالقتال في سبيل المستضعفين من المسلمين أمر كالقتال في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل أمرنا بأن ندافع عن المستضعفين والمستذلين في الأرض من أبناء هذه الأمة، فهو أمر مطلوب كالجهاد في سبيل الله، فكما أنك مطالب بأن تفتح الطريق، وتزيل العقبات من طريق هذه الأمة إلى الله عز وجل وإلى دينها، وتقدم النفس والمال والروح من أجل أن ينتشر وينتصر هذا الدين؛ فأنت أيضاً مطالب بالدفاع عن الأمة المسلمة المستضعفة التي استرخص الآخرون دمها في أيامنا الحاضرة، بينما لو اعتدى إنسان على يهودي أو نصراني في أي مكان من الأرض لقامت الدنيا ولم تقعد، ولعلكم تعرفون سبب دخول الاستعمار الإنجليزي حينما دخل إلى مصر، فقد كان سببه: أن رجلاً إنجليزياً كان يصطاد، فلحقه الفلاحون دفاعاً عن مزارعهم، فهرب وهلك في الصحراء، فكان ذلك سبباً في دخول الاستعمار الإنجليزي الذي أهلك مصر إهلاكاً لمدة طويلة من الزمن؛ لأن رجلاً إنجليزياً واحداً مات من حر الشمس حينما هرب من الفلاحين الذين طاردوه دفاعاً عن مزارعهم. ومكث الاستعمار الإنجليزي مدة طويلة أذل فيها مصر المسلمة، وغير فيها كثيراً من مجرى تاريخها، من أجل رجل واحد! فمن للملايين من المسلمين الذين يموتون اليوم؟! فقد مات ملايين المسلمين على أيدي الشيوعيين الحاقدين في روسيا أيام الحكم الشيوعي للبلاد الإسلامية فيما يسمى بآسيا الوسطى، وما زالت المجازر بعشرات الآلاف يومياً في بلاد المسلمين على أيدي الجيش الروسي الحاقد إلى يومنا هذا! وفي إريتريا قتل في يوم واحد عشرة آلاف من المسلمين، ولو قتل في ذلك اليوم عشرة آلاف كلب، أو عشرة آلاف قط لقامت جمعية الرفق بالحيوان تحتج على ذلك؛ بل لو قتل يهودي واحد أو نصراني واحد لكان ما كان. إذاً: فالمسئولية عظيمة، وهي تبدأ من التربية والدعوة إلى الله، وتنتهي بالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

نصر الله تعالى لعباده كائن لا محالة

نصر الله تعالى لعباده كائن لا محالة أيها الأخ الكريم! إن هذا القرآن يطالبك أن تفي بالبيعة التي بينك وبين الله عز وجل، وحينئذ تكون من المؤمنين؛ لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم، و (ال) هنا للاستغراق، وليست لنوع واحد من المؤمنين، وإنما هي لجميع المؤمنين، فكل من آمن بالله عز وجل سوف يتحمل مسئولية هذه البيعة، وسوف يطالب بالوفاء بهذه البيعة، هذا جانب يجب أن نفهمه حتى لا نظن أن الدين سهل ميسر؛ بل هو سهل ميسر في الحقيقة ولكنه يحتاج إلى جهد، وإلى بذل للطاقة؛ لأنه دين عزيز على كل واحد من المسلمين؛ ولذلك أخبر الله تعالى في هذا القرآن أن طريق الجنة طريق وعرة، وأن فيها عقبات وزلازل وخوفاً وذعراً، وأن فيها اضطراباً، حتى قال الرسول: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟! وحتى قال المؤمنون أيضاً: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟! وكما قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]. فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد جاء نصر الله، قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، حتى لا ييأس المؤمنون من نصر الله سبحانه وتعالى.

لابد من ظهور هذا الدين مهما حاربه الأعداء

لابد من ظهور هذا الدين مهما حاربه الأعداء إن هذا الدين لابد أن يظهر رغم أنف كل حاقد، ولو نام المسلمون أجمعون عن هذا الدين لأتى الله عز وجل بأقوام يرفعون راية الإسلام، ولذلك يقول الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، والمراد بالدين هنا كل المعتقدات، ويقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا أدخله الله عز وجل هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به أهل طاعته، وذلاً يذل به أهل معصيته). ولذلك نرى في وقتٍ تكالب فيه الأعداء على الأمة الإسلامية من كل جانب، وأحيطت الأمة الإسلامية بكل عدو، بل وتحرك الأعداء من الداخل كما تحرك الأعداء من الخارج، وتحرك الأعداء من أبناء الأمة ممن مرق من الدين وهو يحسب على الإسلام، ويحمل الهوية الإسلامية، وينطق باللغة العربية! فبدءوا ينخرون في هذا الدين، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين! وبالرغم من ذلك كله، وبالرغم من اتحاد العالم كله حول راية واحدة لمحاربة هذا الدين؛ يظهر هذا الدين بقدرة قادر سبحانه وتعالى! مما يدل على أصالة هذا الدين، ومما يدل على أن هذا الدين سوف يظهر ويؤكده قول الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]. فنرى الصحوة الإسلامية قد انتشرت، وليس الأمر كما يقول أعداء الإسلام: إنها جاءت في غير موعدها؛ بل نحن متأكدون أنها جاءت في موعدها المحدد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فبالرغم من أن العالم كله يتكالب على الأمة الإسلامية رأينا الإسلام يظهر في أيامنا الحاضرة والحمد لله، والشباب يقبلون على هذا الدين، والصحوة الإسلامية العارمة تظهر يوماً بعد يوم رغم أنوف الحاقدين، وتزيد وتتضخم، ويصلب عودها، وتقوى قاعدتها وتتسع والحمد لله، بالرغم من أن هناك أقواماً كانوا يظنون أنها فترة وجيزة حتى يستنفد الدين أغراضه ويخلو المكان -كما يعتقد هؤلاء الذين في قلوبهم مرض- لملة أخرى. إن الشيوعية التي حكمت كثيراً من العالم ثلاثة أرباع قرن من الزمان سقطت في لحظة واحدة؛ لأن الله عز وجل يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18].

شمولية دين الإسلام لكل مناحي الحياة

شمولية دين الإسلام لكل مناحي الحياة إن هذا الدين الذي شرفك الله به يا أخي! وذلك القرآن الذي أكرمني وأكرمك الله عز وجل به مسئولية عظيمة، فلا تظنن أنه منهج عبادة فحسب؛ بل هو في كل شيء، كما قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. إذاً: حينما يقول لك أعداء الإسلام: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!! فقل لهم: كذبتم؛ بل لله ما في السماوات والأرض، وهذا الدين منهج حياة كاملة، وجاء هذا القرآن ليهدي البشرية إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها، ولذلك أشرنا آنفاً كيف تطور العالم حينما أخذ بهذا الدين، فصار الجيش الإسلامي ينصر بالرعب مسيرة شهر، وكانت الحصون تتساقط وتندك حينما تقبل عليها جيوش الأمة الإسلامية التي هتافها: الله أكبر، ولله الحمد. فهذا الدين منهج حياة متكامل، نعمت به البشرية عبر القرون الماضية في ظل الدول الإسلامية التي تمسكت به، فكانت لها القيادة والسيادة والسلطة على العالم، وكان الناس يأتون إليها يبايعونها على الإسلام، ويدخلون في دين الله أفواجاً. فهو منهج حياة متكامل لا يفرق بين العبادة والمعاملة والسلوك والأخلاق، لا كما يقول العلمانيون عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة: إنما هو منهج عبادة فقط ولا يتدخل في شئون الحياة الأخرى؛ لا نظام الحكم، ولا الأنظمة الاقتصادية، ولا السلوك والأخلاق، ولا غير ذلك، إنما هو عبادة، فإذا أردت هذا الدين فعليك أن تبحث عنه في المسجد، وليس لك أن تبحث عنه في مجلس الشورى -كما يقولون- أو في البرلمان، أو في مجلس الأمة!! ويا ليتهم تركوا هذا الدين في المسجد غير مطارد! ولكنهم يطاردونه ويتابعونه في المسجد، وتحصى فيه أنفاس الدعاة والمصلحين في جل العالم الإسلامي. إذاً: هم لم يعطوه الحرية حتى في المسجد، ولو أعطوه الحرية في المسجد لاستطاع أن ينقل الناس من الركود إلى الخير والسعادة، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه سوف يحقق ذلك بإذن الله عز وجل رغم أنوف الحاقدين.

لا فرق بين العبادات والمعاملات في دين الإسلام

لا فرق بين العبادات والمعاملات في دين الإسلام أيها الإخوة! إن هذا القرآن منهج حياة، فكما أنه يأمر بالصلاة والصيام والحج والزكاة والعبادة، فهو أيضاً ينظم الحياة الاجتماعية وفق منهج قويم متماسك، حتى رأينا بعض الآيات لا تفرق بين العبادة وبين التعامل الأسري، اقرأ إن شئت في سورة البقرة حينما تحدث الله عز وجل عن العلاقات الزوجية ثم قال بعدها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238 - 239]، ثم عاد مرة أخرى بعد أن أدخل آيات العبادات بين آيات التعامل بين أفراد الأسرة، فتحدث عن العلاقات مرة أخرى فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]. إذاً: لا فرق بين آيات الصلاة وآيات المعاملة؛ بل إن هناك آية واحدة نزلت مرتين، فنزلت الآية التي في سورة المائدة تتحدث عن المحرمات، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، هكذا نزلت الآية في أول الإسلام في بداية تشريع الأحكام، ثم نزل جزء آخر في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره يقرر حقوق الإنسان، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله عز وجل أن تشطر الآية السابقة وأن يدخل هذا الجزء في وسطها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فكان تتمة الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]. ومن هنا فإننا نتأكد أن القرآن ليس منهج عبادة فحسب، وليس في المسجد فقط، ولكنه في المسجد والسوق والبرلمان ومجلس الوزراء والمحكمة والبيت، وفي كل حالة من حالات الإنسان، فهو تبيان لكل شيء كما أخبر سبحانه وتعالى. إذاً: يا أخي الكريم! يجب أن نفهم هذه القضية؛ حتى لا نخدع في عصر الدعاية المسمومة، والأفكار المشبوهة، والحرب الباردة التي فشلت، ولكنها ما زالت تطارد المسلم في كل حالة من حالاته، وتريد منه أن يمرق وأن يخرج من دينه دين الإسلام، ولكن الله تعالى غالب على أمره.

الحكم بما أنزل الله من دين الإسلام

الحكم بما أنزل الله من دين الإسلام ثم أيضاً يا أخي المسلم! يجب أن تفهم أن الإسلام الذي شرع الصلاة هو الذي أمر بالحكم بما أنزل الله عز وجل، لا فرق بين واحد منهما، فكما أن الصلاة -وهي الركن الأعظم بعد الشهادتين- من تركها فقد كفر، فكذلك {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، لا فرق بين الأمرين. فهو منهج حكم لهذه الحياة وهذه الأمة لا يمكن أن تنضبط ولا يمكن أن تنقاد إلا لحكم الله عز وجل، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ولما جاء أقوام يحكمون شرع الله حسب مصالحهم، فإذا تعارض مع مصالحهم ضربوا بشرع الله عرض الحائط، قال الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} * {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} * {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48 - 50].

أهل الأهواء والشهوات وموقفهم من أحكام الدين

أهل الأهواء والشهوات وموقفهم من أحكام الدين إن المارقين اليوم من الإسلام يرفضون هذا الدين حينما يتعارض مع مصالحهم؛ لأن أهواءهم ومصالحهم التي تمليها عليهم الأهواء لا تقف عند حد ولا قيد، فهم يرفضون هذا الدين وهذا المنهج إذا تعارض مع مصالحهم، ولكن إذا كانت مصلحتهم من خلال هذا المنهج فإنهم يرجعون إليه، وسوف أضرب لكم أمثلة كثيرة وربما أنكم تعايشون كثيراً منها: فالعالم اليوم بأسره -إلا من حكم شرع الله- يرفض قتل القاتل، ويقول: هذا تخلف ورجعية ووحشية أن نقتل قاتلاً لنضيف إلى المقتول الأول مقتولاً ثانياً، لكن تعال معي يا أخي! حينما يريدون أن يثبتوا عرشاً لأحد منهم فإنهم يقتلون مئات البشر؛ بل ملايين البشر! وكم قتل في الحرب العالمية الأولى والثانية من البشر! فإن الدول التي تزعم أنها متحضرة، وتعتبر قتل القاتل تخلفاً، وأعظمها الدولة الكبيرة التي تفرض الآن سلطتها على العالم، فإنها في لحظة واحدة -منذ عشرات السنين قبل أن يتطور هذا العالم ويتوسع- قتلت ثمانين ألفاً من البشر الأبرياء في لحظة واحدة بالقنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان، حتى غيرت تلك القنبلة كثيراً من معالم تلك الأرض التي سقطت عليها، لماذا هذا؟ لأنهم يريدون أن يفرضوا سلطتهم، لكن لو قيل: هذا زانٍ محصن أفسد الأعراض، ودمر الحرث والنسل، والله عز وجل أمر بقتله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني) فإنهم يقولون: هذه وحشية، رجل فرغ شهوة من شهواته فقط، أتقبل بهذه الطريقة؟! وإذا ارتد رجل عن دينه ونريد أن نقيم عليه حد الردة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، ولكن لا أرى في العالم الإسلامي -اللهم إلا النادر القليل- من يقيم حد الردة، فلو قيل: هذا مرتد، لقيل: أنتم تحاربون الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد، بينما هم يقتلون -كما ترون وتسمعون- الآن ملايين البشر، ففي أفغانستان وحدها قتل في أيام الحكم الشيوعي ما يقرب من مليونين من المسلمين، مع أن هؤلاء لم يزنِ منهم واحد، ولم يقتل، ولم يرتد عن دينه، ولكنهم يقولون: ربنا الله، فأبيد هؤلاء من أجل أن تفرض الشيوعية في بلادهم. فأي ذلك أعظم هذا أو قتل مرتد يريد أن يشوه هذا الدين بعد أن هداه الله عز وجل للفطرة، فأصبح حرباً على هذا الدين، وقد يكون من أبناء المسلمين؟! وبعد ذلك يقال: إن قتل هذا وحشية وتخلف، أما قتل الملايين من البشر في سبل أخرى غير سبيل هذا الدين فيعتبر تقدماً وتطوراً وإنسانية. وكذلك قطع يد السارق، فالله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ويأتي ذلك الرجل الكافر الملحد ويقول: إن الله يريد أن نقطع أيدي الشعب!! وما علم ذلك الملحد أن هذه اليد التي تقطع سوف تؤمن الناس على نفوسهم وعلى أموالهم مدة طويلة من الزمن، حتى قال أحد الكتاب المسلمين: إن أربع أيد قطعت في العالم الإسلامي منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي العالم الإسلامي كله على امتداده من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتصور يا أخي! الأربع الأيدي هذه كم أمنت العالم الإسلامي في أرجائه المتباعدة على نفسه وعلى ماله وعلى أعراضه، وهكذا فقس.

دين الإسلام أمان للبشرية

دين الإسلام أمان للبشرية إذاً: نقول: هذا الدين هو أيضاً منهج أمنٍ لهذه الأمة، وحينما يجلد شارب الخمر إنما يحافظ على الأمن وعلى العقول، وحينما يجلد الزاني إنما يحافظ على الأعراض وعلى الأنساب، وحينما يجلد القاذف إنما يحافظ على السمعة، وحتى لا تكون الفاحشة ألعوبة يتحدث بها كل الناس بدون دليل، وحينما يقتل المرتد إنما يحافظ على المعتقدات حتى لا تتخذ لعبة، ولذلك فالإسلام يعطي غير المسلم حرية التفكير ليختار هذا الدين الجديد العظيم، لكنه حينما يدخل في هذا الإسلام ثم يريد أن يخرج منه نقول له: (من بدل دينه فاقتلوه). وهكذا نجد أن الإسلام يؤمن هذا الإنسان على حياته وعلى عقله وعلى جسده وعلى سمعته وعلى معتقده وعلى ماله، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] إنما يريد الله عز وجل بذلك -والله أعلم بمراده- أن يؤمن هذه الأمة حتى تنطلق في هذه الأرض لا تخشى إلا الله عز وجل؛ ولذلك أمر بعقوبة المحاربين وهكذا. إن البشرية جميعاً بحاجة إلى هذا القرآن لتحكمه من أجل أن تأمن وتطمئن، والعالم الذي قدم أكثر من ثلاثين مليوناً من البشر في الحربين العالميتين يريد أن يؤمن نفسه، ومع ذلك لم يستطع أن يحقق لنفسه الأمن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا إلى هذا الدين في أرجاء هذا العالم إنما أراد الأمان لهذا العالم، ولذلك الله تعالى يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقوله تعالى: (فِي الأَرْضِ) أي: في كل الأرض، ولذلك يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: جئنا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو متوسد بردة له تحت الكعبة نائم، فأيقظه الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ -وهم يلقون ما يلقون من المشركين من الأذى- فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون). إذاً: الأمن جاء مع هذا الدين، والأمم التي تبحث عن الأمن في وسائل الدمار لم تحقق الأمن لنفسها ولا لغيرها، والأمم التي تريد أن ينام الناس على اللهو واللعب وعلى المحرمات من أجل أن يتخدروا لا تستطيع أن تكون آمنة؛ لأن هذه الشعوب لربما تستيقظ في ساعة من الزمن ولكن على الجماجم والأشلاء. فالأمن لا يتحقق إلا بتطبيق شرع الله عز وجل، وبتحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، كان العرب يقولون في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، وقال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أي: سعادة، فلو كان هناك رجل معتدٍ وقاتل ومتمرد، فهذا يقتل، وحينئذ تتحقق الحياة، وتحقق الرفاهية والأمن والطمأنينة لهذه الأمة.

لا يمكن تحقق الانضباط للأمم إلا بالإسلام

لا يمكن تحقق الانضباط للأمم إلا بالإسلام وعلى هذا فنقول: إن هذه الأمة لا يمكن أن تنضبط إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يحكمها بغير شرع الله عز وجل فإنه سوف يحدث هذه الفوضى التي عمت أرجاء العالم اليوم، فأصبح التمرد والخروج على السلطات المنحرفة، والقتل والنهب والفوضى والاضطرابات، كلها بسبب إعراض هؤلاء الناس عن شرع الله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124]، وذكر الله تعالى هو القرآن، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، له معيشة ضنك في هذه الدنيا، ويوم القيامة يحشر أعمى، ويسحب على وجهه في النار، لماذا؟ لأنه أعرض عن ذكر الله عز وجل، ولذلك فإن المعيشة الضنك لا تحتاج إلى طويل بحث اليوم، ونحن نشاهدها في عالمنا اليوم قد عمت أرجاء العالم، فقامت الاضطرابات والفوضى والقتل والنهب والسلب، وهذا جزء من المعيشة الضنك، إضافة إلى ما صار يشعر به ذلك الإنسان البعيد عن الله عز وجل، وعن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ضيق النفس، والحرج والمشقة التي لا يجد لها علاجاً، ولكن علاجها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، أي: السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة.

الإسلام منهج سياسة

الإسلام منهج سياسة إن هذا الدين منهج حكم، ومنهج حياة، ومنهج سياسة، وأي سياسة لا تقوم على هذا القرآن، ولا على هذا المنهج؛ فإنها سياسة ضالة، سياسة ممقوتة مرفوضة لا تصلح لقيادة هذه البشرية، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حكم بأنها معيشة ضنك؛ حتى يعود الناس كلهم إلى دين الله، وإلى المنهج الصحيح، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟! فقال: كتاب الله، وسنتي)، فهذا هو المخرج من هذه الفتن التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فلو حكم الإسلام العالم كله لكان كل التعامل وفق شرع الله عز وجل كما جاء في القرآن العظيم، وفي سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الناس يجدون الربا في بلادهم، ولا دور الربا التي أصبحت تناطح السحاب، وهي حرب لله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ثم التهديد {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].

الإسلام منهج إعلام مفيد هادف

الإسلام منهج إعلام مفيد هادف ولو كان شرع الله يحكم هذا العالم ما رأينا هذا الإعلام الذي أصبح يصل إلى عقر بيوت المسلمين من خلال الأطباق المعلقة فوق المباني وغيرها لنرى زبالات ونفايات العالم. فلو كانت هناك خشية لله عز وجل، وكان هذا القرآن هو الذي يحكم هذا العالم؛ لما رأينا المسلم يختلط بالكافر في كل أمر من أموره حتى لا تكاد -في كثير من بلاد المسلمين- أن تفرق بين المرأة المسلمة والمرأة الكافرة، زوجة المسلم وزوجة الكافر لا تكاد أن تفرق بينهما في كثير من الأحيان؛ بسبب التبرج والخلاعة وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثت خللاً في أخلاق الناس، وانتشرت الفواحش، وتلاها ظهور أمراض أصبحت تسابق الشمس على مطالعها في هذه الأرض، حتى سمعنا أن ملايين البشر أصيبوا بمرض الإيدز الذي يعتبر هلاكاً للعالم لو انتشر، نسأل الله العافية والسلامة. وهذا بسبب ما أحدثه هؤلاء الناس، وبسبب ما أحدثه ذلك الإعلام المنحرف في بلاد المسلمين من الفساد والانحراف، كل ذلك يرجع إلى الإعراض عن هذا الشرف العظيم الذي يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. وما يدريك يا أخي! لعلها المسئولية في الدنيا، والعقوبة التي دفع ثمنها كثير من المسلمين حينما تنكبوا عن شرع الله عز وجل.

الإسلام منهج اقتصاد متكامل

الإسلام منهج اقتصاد متكامل إن هذا القرآن منهج حياة في الاقتصاد، يعلمنا كيف نكسب المال؛ فلا نكسبه من الغش، ولا نكسبه من الربا: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ولا نكسبه من الخداع، ولا نكسبه من أي طريق محرم. وحينما نملَّك هذا المال نعتبره نعمة من نعم الله عز وجل سوف نسأل عنه يوم القيامة، فنؤدي حق هذا المال في الإنفاق، فلا نسرف {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، ثم نؤدي حقه من الزكاة {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، ثم أيضاً نعرف قدر هذا المال، وحق إخواننا المسلمين في العالم الذين يموت طائفة منهم جوعاً، وطائفة ترتد عن الإسلام بسبب المجاعات، وبسبب التضليل الذي يأتي بلقمة العيش وبالخبزة ويقدمها وعليها الصليب، وحينئذ يقدم دينه كله ذلك المسكين من المسلمين مقابل تلك اللقمة التي قدمت وقد رسم عليها الصليب، إذاً: هو مطالب بأن يرتد عن دينه مقابل ذلك، وكثير من المسلمين يملكون الثروة -والحمد لله- ولربما طائفة منهم لا يقدمون ما أوجب الله تعالى عليهم.

وجوب تطبيق القرآن والعمل به في كل شئون الحياة

وجوب تطبيق القرآن والعمل به في كل شئون الحياة أيها الأخ الكريم! إن هذا القرآن هو مصدر سعادة البشرية، وشرف لكل عصر وفي كل جيل، ولذلك فإننا في عصرنا الحاضر، وفي عصورنا السابقة، لا يمكن أن ندرك الشرف، ولا يمكن أن ننال السعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة إلا بمقدار استمساكنا بهذا القرآن الذي أوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

العمل بالقرآن في واقع النفس والأهل

العمل بالقرآن في واقع النفس والأهل وحينئذ على كل واحد منا أن يجسد هذا القرآن في واقعه وفي حياته، بحيث يبحث عن نفسه: ماذا أخذ من تعاليم هذا القرآن وماذا أبقى: صدق في المعاملة، وصدق في الحديث، وضبط للأمور كلها، وتطبيق كامل على النفس. ثم أيضاً عليه أن ينظر مرة أخرى في واقع أهله وبيته؛ علهم أن يكونوا قد نسوا شيئاً من أوامر الله عز وجل التي هي شرف لهذا البيت، وما يدريك لعل هذه البيوت التي غرق بعضها في كثير مما حرم الله عز وجل، لربما أن ذلك أنساها كثيراً مما كلفها الله عز وجل به، فغفل كثير من الناس عن تربية الأبناء والأهل، ونسوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، حينئذ يلزم هذا الإنسان نفسه، ويعاهد ربه سبحانه وتعالى على أن يطهر هذا البيت وينقيه؛ حتى لا يتحمل غداً المسئولية الكبرى التي لا يستطيع أن يتحملها بين يدي الله عز وجل حينما يوقفه الابن، وتوقفه البنت والزوجة والأخت وسائر أفراد الأسرة على شفير جهنم بين يدي الله عز وجل: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).

تبليغ القرآن للمجتمع كله

تبليغ القرآن للمجتمع كله وعلى المسلم -حينما يستنير بنور هذا القرآن، ويستظل بظله الوارف- أن يشعر بالمسئولية أيضاً تجاه المجتمع، وبواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذ يشمر عن ساعد الجد؛ حتى لا تغرق السفينة التي تكاد الآن أن تغرق حينما تضربها الأمواج من كل جانب، والعالم كله -أسفل السفينة وأعلاها- عليه أن يقوم بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ استجابة لقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. ثم حينما ينظر المسلم إلى دائرة أوسع، وإلى واجب أكبر، وهو ما فرضه الله عز وجل تجاه إخوانه المسلمين في العالم؛ فإنه يشمر عن ساعد الجد، فإن كان من أرباب العلم والمعرفة فعليه أن يبلغ الناس الدين الصحيح والعقيدة السليمة السلفية التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وحينئذ عليه أن يكون داعية خير، وإن كان من أصحاب السلطة والذين مكن الله عز وجل لهم في الأرض، فإن عليه أن يؤدي هذا الدور الذي يتناسب مع حاله ومركزه، وإن كان من عامة الناس، فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل أمر باق ما بقيت السماوات والأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال طائفة على الحق ظاهرة حتى يأتي أمر الله. أما الطريق فإن فيه عقبات، والمسلم لا يبالي، ومنهجه دائماً: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرابُ وهكذا يسير المسلم في طريقه إلى الله عز وجل لا يخشى على نفسه؛ لأن الآجال مقدرة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يخشى على ماله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، إنما هو أجل ومقدار للرزق، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها). أخي المسلم! لابد من العودة إلى كتاب الله عز وجل عودة حميدة، ولابد من الاستمساك لا مطلق التمسك، فإن الإمساك يختلف عن الاستمساك، فلابد أن نأخذ هذا الكتاب بقوة، ولابد أن نطبقه في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84]. وبعد: يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، نعم، لقد آن، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17]، فكما أن الله عز وجل يحيي الأرض بعد موتها فهو أيضاً يحيي القلوب بعد موتها وبعد غفلتها. أقول قولي هذا، ولا أعلم أحداً منكم أكثر تقصيراً وإساءة مني، ولكني أستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

دور المسلم تجاه المنكرات الموجودة وتجاه مخططات أعداء الإسلام

دور المسلم تجاه المنكرات الموجودة وتجاه مخططات أعداء الإسلام Q ما هو دور الشاب المسلم منا ذي الإمكانيات المحدودة تجاه كثير من المنكرات حوله -أي: في إنكارها- من جنس وربا وضياع للأوقات وهكذا؟ وأيضاً ما هو دوره تجاه تخطيط الأعداء لتدمير الإسلام والمسلمين؟ A بسم الله الرحمن الرحيم، دور المسلم العاجز تجاه المنكرات الموجودة في بلاد المسلمين، ودور المسلم تجاه المخططات التي دبرت للأمة الإسلامية كالآتي: أما الأول: فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). إذاً: فالمجال مفتوح حسب الاستطاعة، لا حسب الرغبة، وقد يكون عند الإنسان استطاعة ولكنه لا رغبة عنده لتحمل بعض المسئوليات، فنقول: إنكار المنكر حسب الاستطاعة: إن استطعت بيدك -إن كنت من أصحاب السلطة- فعلت، وإذا ما استطعت ولست من أهل السلطة فباللسان، وهذا يستطيعه كل أحد، وأما آخر شيء فهو بالقلب، وذلك إذا كان الإنسان في بلد لا يمكنه أن يقول لصاحب المنكر: هذا منكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وذلك أضعف الإيمان). وهذا للتدرج وليس للتخيير؛ لأن الإنكار باللسان مجال يقدر عليه كل الناس في بلاد المسلمين، وليس معنى الإنكار باللسان أن يكون بقسوة وعنف؛ بل قد يكون باللسان وبطريقة فيها لين، مثل أن تقول: يا أخي! اتق الله، هذا منكر، هذا محرم إلخ. أما بالنسبة للمخططات ضد الإسلام من أعداء المسلمين، فللمسلم تجاه ذلك أدوار كثيرة: أولاً: عليك أن تحصن نفسك من هذه المخططات والمكائد التي يدبرها أعداء المسلمين، وذلك بالعلم النافع؛ لأن العلم هو السلاح، وأيضاً تحصن بيتك ومن لك سلطة عليه، بحيث لا تسمح لهذه المنكرات أو لهذه المخططات أن تصل إليهم. ثم بعد ذلك يكون عليك دور أوسع وأكبر، وذلك بأن تسير في أرض الله سبحانه وتعالى تبين للناس طريق الحق وطريق الصواب، وتوضح وترسم مخططات الأعداء حسب استطاعتك، والله أعلم.

الطرق التي تبلغ بها دعوة الله عز وجل

الطرق التي تبلغ بها دعوة الله عز وجل Q ما هي الطرق التي يمكن للمسلم أن يبلغ بها دعوة الله عز وجل؟ الشيخ: الطرق التي يمكن للمسلم أن يبلغ بها دعوة الله عز وجل كثيرة، منها: وسائل الإعلام، فلو كان المسلمون الخلص يملكون وسائل الإعلام الموجودة لكانت هذه أفضل طريقة لتبليغ دعوة الله عز وجل، ولكن قد سحبت هذه الوسائل من المسلمين في كثير من الأحيان، حتى إن المساجد التي تعتبر أفضل وسيلة إعلامية يمكن أن تبلغ بها دعوة الله، أصبح المسلم -في كثير من الأحيان- لا يتمكن من استخدامها لتبليغ دعوة الله إلا في حدود ضيقة، فما دام الأمر كذلك فإن الوسائل غيرها -والحمد لله- كثيرة: كأن تسير في أرض الله فتطلع على أحوال إخوانك المسلمين، وأن تنشر العلم بالكتاب والشريط قدر استطاعتك، وأن تربي مجموعة من الشباب هنا أو هناك وترسلهم إلى بلادهم ليبلغوا دعوة الله عز وجل، وأن يكون لك لقاء مع بعض الراغبين في هذا الخير من أجل أن تبلغهم ليبلغوا بأي وسيلة من الوسائل؛ سواء كانت خطية أو مسموعة أو مقروءة أو ما أشبه ذلك. فالطرق ميسرة -والحمد لله- لتبليغ دعوة الله في أيامنا الحاضرة، ولكني أنصح أن يقوم بذلك جماعات من المهتمين بالعلم، أو ممن عندهم شيء من العلم يمكّنهم من تبليغ دعوة الله؛ لأن هناك أموراً بديهية وأموراً أولية نسيها كثير من المسلمين في بلاد المسلمين يمكن أن يبلغها، ولذلك كما قلت لكم: أن الشرك بالله عز وجل -الذي هو نقيض ما فطر الله الناس عليه من توحيد- عاد الآن إلى بلاد المسلمين مرة أخرى، وقلت لكم: الآن في بلاد المسلمين أكثر من عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، ولو وقف مسلم أمام هذه الأضرحة يقول للناس: يجب أن نعود إلى هذا المنهج الذي دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، بكلمات معقولة لبقة؛ لأمكن أن يؤثر، وأن يفيد في كثير من الأحيان. فيا أيها الأخ المسلم! الوسائل كثيرة، لكن عليك ألا تختار أسهلها، وإنما عليك أن تختار ما تستطيعه من هذه الوسائل.

وجوب تبليغ العلم وعدم كتمانه

وجوب تبليغ العلم وعدم كتمانه Q دار حوار بيني وبين أخ لي في الله وهو لديه علم يحتاجه كثير من الناس، ولكنه يكتم هذا العلم، وقد دار هذا الحوار حول قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} [البقرة:159]، فقال الرجل: أنا لم أكتم الناس العلم؛ لأن لديهم ما يقوِّمون به دينهم، وكل أمر دينهم واضح، فما الجواب لهذا ومثله؟ A هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى، ولكن القاعدة دائماً في القرآن: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد تنزل آية بمناسبة، أو في قوم معينين، ويكون حكمها لكل الناس إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: هذه الآية وأمثالها عامة في كل تبيين للحق للناس ولو كان نزولها في اليهود والنصارى، فيا أخي المسلم! لابد من تبليغ العلم، وأما قول الأخ: الناس قد عرفوا الحق، فنقول: نعم، عرفوا الحق والحمد لله، فقد أصبح الطالب الآن في المرحلة الابتدائية يستطيع أن يعرف الحلال والحرام والعبادة، لكن ربما تكون هناك أهواء وشهوات تحول بين الناس وبين تطبيق هذه الأمور، فأنت حينما تبينها لهم -وإن كانوا يعلمونها- فإنما تذكرهم بشيء قد نسوه أو غفلوا عنه، فالتبيين أمر مطلوب.

حكم إحياء ليلة النصف من شعبان

حكم إحياء ليلة النصف من شعبان Q هل لليلة النصف من شعبان فضيلتها الخاصة؟ وهل يجوز إحياء هذه الليلة وتخصيصها بالذكر والقرآن والذهاب إلى المسجد الحرام وغير ذلك؟ نرجو من فضيلتكم تفصيل القول في هذه المسألة. A ليلة النصف من شعبان ورد فيها دليل ضعيف: أن القرآن نزل فيها، لكن المؤكد أن القرآن نزل في رمضان، بدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:186]، فالرأي القائل بأن القرآن نزل في ليلة النصف من شعبان يعتبر غير صحيح. وحتى لو ورد فيها أفضلية، أو نزل فيها القرآن، فلم يرد لنا دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سلفنا الصالح أن ليلة النصف من شعبان -أو غيرها من الليالي التي لم يرد دليل في إحيائها- لها عبادة خاصة، ولذلك فإن من صام يوم النصف من شعبان لأنه اعتاد أن يصوم أيام البيض فهذه سنة، لكن لو خص يوم النصف من شعبان بصيام فإننا نعتبره مبتدعاً في دين الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار). إذاً: لم يرد في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم النصف من شعبان أي دليل، وعلى هذا فإن ليلة النصف من شعبان كسائر الليالي، ويوم النصف من شعبان كأي يوم من أيام النصف في الأشهر الأخرى، لا يجوز تخصيصه بعبادة، ونحن عندنا قاعدة: أن الأصل في العبادات هو التحريم، ولذلك لا يجوز لأي إنسان أن يحدث عبادة ليس عنده فيها دليل، بل إن من أحدث عبادة بدون دليل يكون أعظم عند الله عز وجل ممن ترك عبادة ورد فيها الدليل. أعني: لو أن واحداً أفطر يوم النصف من رمضان، وآخر أحيا ليلة النصف من شعبان بدون عبادة، نقول: الأول أقل خطراً من الثاني؛ لأن الأول عاص، وأما الثاني فمبتدع، والبدعة أعظم عند الله عز وجل من المعصية، ولذلك فإن أصحاب النار إذا ألقوا في النار يقولون لمن أغواهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: عن طريق الطاعة، أي: أغويتمونا بطاعات ما ورد عليها دليل من شرع الله سبحانه وتعالى. وعلى كل يا أخي! الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فنقول: ما دام أنه لم يرد دليل في تخصص ليلة النصف من شعبان بعبادة، أو ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليلة سبع وعشرين من رجب أو يومها، أو ما أشبه ذلك، ما دام لم يرد دليل فإن العبادة التي يحدثها الناس فيها تعتبر بدعة، وتعتبر ضلالة، وهي خطر أيضاً. فأدعو إخوتي المسلمين أن نتقيد جميعاً بأوامر الله عز وجل، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمل عملاً ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود عليه. فصوم يوم النصف من شعبان بصفة خاصة، إلا إذا جعله من أيام البيض أو من العبادات التي كان يعبد الله بها، وأحياء ليلة النصف من شعبان تعتبر من البدع التي هي ضلالة.

فضل صلاة الفجر وكيفية دعوة الآخرين للمحافظة عليها في جماعة

فضل صلاة الفجر وكيفية دعوة الآخرين للمحافظة عليها في جماعة Q كيف أدعو والدي إلى المحافظة على صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة حيث إني سلكت معه أنواعاً مختلفة من الدعوة، وأريد أن أستخدم معه أسلوب الجفاء، فماذا تقول في ذلك؟ وما دور الجار تجاه جاره من ناحية أخرى؟ A صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس؛ بدليل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، والمراد بـ (قُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر، وسماها الله تعالى قرآناً؛ لأنها تطول فيها القراءة، وهذا سنة، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] جاءت بالنص، أي: والزم قرآن الفجر، وهذا القطع يدل على أهمية صلاة الفجر، ولذلك فهي تعتبر أفضل الصلوات الخمس، وتلتقي فيها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولا تصعد ملائكة الليل حتى تنزل ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله). فعليك يا أخي! أن تعود نفسك وأهلك على المحافظة على صلاة الفجر، وعلى أن يصلي الذكور مع الجماعة. أما أبوك فقد لا تملك الأمر في إلزامه، ولكن عليك يا أخي! أن تعظه وتخوفه دائماً بالله تعالى، خصوصاً أن كثيراً من الذين يتخلفون عن صلاة الفجر في المسجد لربما يؤخرونها إلى ما بعد طلوع الشمس، وهذا خطر عظيم يدخلهم في الوعيد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، فحافظ يا أخي! على صلاة الفجر، واؤمر أباك وجيرانك وأولادك ومن تستطيع بذلك، ولكن بالأسلوب الذي يناسب كل واحد منهم.

حكم ابتداء الرافضي بالسلام ورده عليه

حكم ابتداء الرافضي بالسلام ورده عليه Q ما حكم الإسلام في رد السلام وإلقائه على الرافضة؟ A كلمة الرافضة كلمة عامة، فما نستطيع أن نقول: الرافضة كفرة، كما يُطلق ذلك طائفة من الناس؛ لأن الرافضة أنواع: فمن يعتقد منهم أن الرسالة ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ومن يؤله علياً رضي الله عنه فهو كافر، أما أن نطلق ونقول: الرافضة كلهم مارقون من الإسلام، فلا نستطيع أن نقول ذلك، وهو خطأ، ولذلك فإن الأصل أن يسلم على المسلم، ويرد عليه السلام، ما دام أنه لم يتبين شيء من أمره، حتى نتأكد من أن منهج هذا الإنسان بعينه هو الرفض.

حكم وضع العشب الأخضر على القبر بعد دفن الميت

حكم وضع العشب الأخضر على القبر بعد دفن الميت Q يوجد عندنا في مكة بدع، منها: أنه عندما يدفن الميت يوضع على قبره حزمة من العشب الأخضر، وعندما توجه النصيحة إليهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل هذا، وذلك عندما شق الجريدة في الحديث المعروف، وبعضهم يقول: إنما يوضع هذا لكي يمنع التراب عن الميت، فما قول العلماء؟ A البدع منتشرة في أكثر بلاد المسلمين، وبلادنا هذا -والحمد لله- أقل بلاد المسلمين بدعاً، لكن نحن لا نزكي أنفسنا؛ بل علينا إذا رأينا مثل هذا الأمر -ما دام أنه لم يرد فيه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم- أن ننهى عنه، ولكن يجب أن يكون بأسلوب رقيق. أما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخذ جريدة فشقها شقين، ووضع على كل قبر منهما جزءاً، فإن هذا في سبب معين، كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس، وكان الآخر لا يستنزه من البول)، ولا أدري هل تعتبر هذه حجة أو ليست بحجة، وأعتقد أنها لا تصلح حجة. وعلى كل حال: فإن الأصل في العبادات المنع إلا إذا ورد دليل، وتغليب جانب المنع في أمر العبادات أفضل من تغليب جانب الإباحة.

حكم الإفطار للمريض بفشل الكلى عند عملية الغسيل

حكم الإفطار للمريض بفشل الكلى عند عملية الغسيل Q رجل مصاب بفشل كلوي، ويغسل الدم يوماً بعد يوم، وهو يريد أن يصوم رمضان، فماذا عليه في اليوم الذي يفطر فيه؟ A نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد خفف عن المريض الصيام فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا الأخ يغسل الكلى فهو لا يستطيع الصوم؛ لأنه يوصل الماء إلى جوفه، وما أدري: هل الطريقة التي يغسل بها مفطرة أو غير مفطرة؟ ولكن الأقرب أنها مفطرة، فنقول: في ذلك اليوم الذي يغسل فيه، إذا كان يفطر بالغسيل ولا يحتاج إلى الطعام ضرورة أو الشراب، فإنه يكتفي بهذا الغسيل، ويكلف بقضاء ذلك اليوم الذي أفطر فيه، كما لو احتاج إلى إبرة مغذية؛ لأن الإبرة المغذية أيضاً تفطر، فلو احتاج إلى إبرة مغذية فإننا نقول له: تفطر ذلك اليوم إذا كنت مضطراً لها في النهار، وتصوم بدل ذلك اليوم يوماً آخر من أيام السنة. ثم نقول: إن أمكنه أن يغسل بالليل حتى لا يضطر إلى الفطر فهو أفضل، والله أعلم.

التحذير من خروج النساء إلى الأسواق متبرجات

التحذير من خروج النساء إلى الأسواق متبرجات Q فضيلة الشيخ! أدعوك إلى توجيه نصيحة إلى أخواتنا النساء اللاتي يخرجن إلى الأسواق وهن متبرجات ومتعطرات ليفتنّ من بالأسواق، وكذلك توجيه نصيحة للباعة الذين في الأسواق، وجزاك الله خيراً. A ما أشار إليه الأخ السائل من التبرج موجود -ومع الأسف- حتى في مكة التي فيها السيئة مضاعفة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فالله تعالى لا يؤاخذ على الإرادة إلا في مكة؛ مما يدل على أن المعصية في مكة أسوأ منها في أي مكان آخر. وعلى هذا نقول للأخوات المتبرجات: اتقين الله سبحانه وتعالى، فإن التبرج صفة من صفات الجاهلية الأولى، فعلى المرأة إذا اضطرت إلى الخروج أن تخرج محتشمة، ولا يجوز لها أن تتبرج. ثم أيضاً: أكبر من ذلك ما يشاهد من التبرج -في بعض الأحيان- حول الكعبة بين الطائفين، والملاصقة بين الرجال والنساء، والازدحام الشديد، فعلى المرأة أن تبتعد عن مواطن الزحام، وخصوصاً عند الحجر الأسود، فإننا نلاحظ عند الحجر الأسود زحاماً شديداً، علماً أن تقبيل الحجر الأسود سنة وليس بواجب، فكيف نسعى لفعل سنة يترتب عليها الوقوع في المحرم من زحام بين الرجال والنساء؟! فنقول للأخوات: اتقين الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي مكة بصفة خاصة؛ لأن السيئة فيها أعظم منها في أي مكان آخر؛ لا سيما حول الكعبة في حال عبادة الطواف أو الصلاة وما أشبه ذلك، ويجب الحجاب وستر الزينة، وأعظم الزينة هو الوجه، وقد أصبح السفور الآن شيئاً مألوفاً حتى حول الكعبة، والله المستعان. ثم أيضاً ننصح الإخوة الباعة أن يتقوا الله عز وجل في أمر محادثة النساء، أو استثارتهم لهن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي ربما يستعملها بعض الباعة فتكون سبباً في فساد عظيم، كما أن ذلك البائع مطالب أن يغض البصر، وأن يتقي الله عز وجل، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن تركها من أجل الله عز وجل أبدله الله تعالى إيماناً يجد لذته في قلبه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى.

حكم من ترك الصلاة فترة من الزمن لأنه كان مريضا

حكم من ترك الصلاة فترة من الزمن لأنه كان مريضاً Q رجل مات بمرض القلب وهو لم يصل منذ سنة بسبب هذا المرض، فما الحكم في تركه الصلاة لمدة سنة؟ A إذا كان تركها متعمداً فهو كافر مرتد، نسأل الله العافية والسلامة، ونخشى أن يكون مصير من يفعل ذلك إلى النار؛ لأن مرض القلب لا يمنع من الصلاة، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، فالمسألة ليست مسألة أن يصلي قائماً فقط، بل الأمر أوسع من ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو أن يشير الإنسان بعينيه إشارة إلى الصلاة. إذاً: هذه العبادة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأنه لا يوجد أحد لا يستطيع أن يصلي وهو على جنبه، أو وهو نائم، فنقول: تركه للصلاة إن كان جهلاً فنسأل الله أن يتجاوز عنه، وإن كان عمداً فنخاف عليه أن يكون قد ارتد عن الإسلام.

هيئات الإغاثة الإسلامية هيئات مأمونة للتبرع بالمال

هيئات الإغاثة الإسلامية هيئات مأمونة للتبرع بالمال Q ما قولك في هيئات الإغاثة كالهيئة العليا لجمع التبرعات للبوسنة والهرسك، وهيئة الإغاثة لجمع التبرعات للمسلمين، وهل هي محل ثقة حتى نتبرع لها بشيء من المال وجزاكم الله خيراً؟ A نعم هي محل ثقة، لكن أنا أفضل لمن كان عنده مال كثير أن يوصله بنفسه بدلاً من أن يسلمه للهيئات المتطوعة، ونحن لا نتهم هذه الهيئات، فهي موضع ثقة إن شاء الله، ونرجو أن يكون ما يصل إليها يصل بسرعة إلى الجهات التي وجه إليها هذا المال. لكن عليك يا أخي! إذا كنت تستطيع أن توصل هذا المال بنفسك فخير لك أن توصله بنفسك؛ حتى تكون أكثر طمأنينة. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مشاهد الآخرة في القرآن

مشاهد الآخرة في القرآن ذكر الله تعالى في كتابه الكريم صوراً من مشاهد يوم القيامة، وهي مشاهد شديدة الأهوال، عظيمة الفزع، ومن تلك المشاهد مشهد قرناء الدنيا حينما يلتقون في الآخرة، فإن كانوا من أهل الجنة فإنهم يفرحون بدخولها، ويذكرون نعمة الله عليهم، ويحمدونه أن أدخلهم الجنة، وإن كانوا من أهل النار فإنهم يلوم بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. وهناك مشاهد أخرى، كساعة الموت، والقدوم على الله، والبعث والنشور، والصراط والميزان، وشهادة أعضاء الإنسان عليه، وخراب هذا الكون وتدميره

كثرة الحديث عن الآخرة في القرآن الكريم

كثرة الحديث عن الآخرة في القرآن الكريم إخواني في الله! إن الحديث عن القيامة حديث مهم جداً؛ ذلك أنها كما قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]، ومن هذا المنطلق لابد أن يكون هناك حديث بين حين وآخر عن يوم القيامة، لاسيما إذا كان الحديث عن تصوير القرآن لتلك المشاهد والمواقف، وأنتم تعلمون أن القرآن جاء ليربط الدنيا بالآخرة، وليشد القلوب إلى الله وإلى الإيمان به، من أجل ذلك كان الحديث عن القيامة والحياة الآخرة طويلاً ممتداً في القرآن العظيم، ولعلنا نقول: إن السور المكية في أكثرها تتحدث عن مشاهد القيامة في القرآن إن لم تكن كلها، والآيات المكية أكثرها يركز على هذا الجانب، لا سيما أن هذه الأمة -أقصد أمة محمد- قد ابتليت بكثير من الذين استعملوا المقاييس المادية، سواء كان ذلك في ماضيها أو حاضرها، فقد قال قائلهم في القديم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وقال قائلهم في الحديث: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وليس هناك حياة آخرة، أو بداية أو نهاية. ومن هنا كانت الحياة الإنسانية منغصة بدعايتين: الأولى: عن قدم هذا العالم وعدم فنائه. أما القدم فإنه ادعى أن هذا الإنسان لم يوجد في فترة معينة، وإنما وجد نتيجة التفاعل الكيماوي والحيوي، كما تقول الشيوعية الملحدة، وكما يقول داروين ومن على شاكلته -عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة-: إن هذا الإنسان وجد نتيجة التعفن على هذه الأرض، ومعنى ذلك: أن الإنسان ولد كما تتولد الحشرات الضارة، كشيء من الطعام طال عليه الزمن فتولدت منه حشرات، فنمت هذه الحشرات حتى وصلت إلى قرد، ثم صارت إلى إنسان، وهاتان النظريتان نقضهما العلم، وهما: نظرية التفاعل الكيماوي والحيوي، ونظرية التطور، والله تعالى قد أخبرنا في القرآن كيف خلق هذا الإنسان. الثانية: أنكر كثير من القوم في القديم والحديث البعث بعد الموت، وأنكروا حياة البرزخ والحياة الآخرة، وقالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وعلى هذا فإن القرآن قد ركز -خصوصاً في الآيات المكية، أي: قبل أن يصل المسلمون ويقيموا دولتهم في المدينة- على هذا الجانب، كما ركز على جانب الوحدانية؛ لأن جانب البعث بعد الموت أمر ينكره القوم وقتئذٍ، فكانت أكثر وجُلّ السور والآيات المكية تتحدث عن هذا الموضوع، ولذلك لا تكاد تقرأ السورة من سور القرآن إلا وتجد فيها الحديث عن الحياة الآخرة والبعث والجنة والنار والحساب والصراط، وغير ذلك من الأمور التي تنتظر هذا الإنسان بعد حياته.

الرد على من ينكرون حياة البرزخ والحياة الآخرة

الرد على من ينكرون حياة البرزخ والحياة الآخرة إخواني في الله! قد لا تتسع بعض العقول لمثل هذه الأشياء، وقد يستعمل أقوام المقاييس المادية ويقولون: أين حياة البرزخ؟ ولو فتشنا عن أي إنسان في قبره لما وجدنا أن هناك منكراً ولا نكيراً، ولا أنه يسأل، ولا أنه يجيب، ولا وجدنا أي شيء من ذلك، ولو وضعنا جهازاً للتسجيل لما التقط هذا الجهاز أي شيء مما تقولون! يريدون بذلك أن يقيسوا الحياة الدنيا بالحياة الآخرة. والحقيقة أن هؤلاء الذين يقولون مثل هذه المقالات يرد عليهم من وجوه: الأول: أنهم لم يستطيعوا أن يعثروا على كثير من أسرار الحياة الدنيا، بل على جُلّ أسرارها، فكيف يفكرون أن يعثروا على أسرار الحياة الآخرة وحياة البرزخ؟! الأمر الثاني: أن الله عز وجل ألقى بيننا وبين حياة البرزخ وبين الحياة الآخرة هذا الستار المتين؛ بحيث يكون الابتلاء والامتحان، ولو كان الأمر مكشوفاً كما يريد هؤلاء لما حصلت الحكمة من هذا الامتحان، ولكن الله عز وجل يريد أن يمتحن العقول والإيمان.

الإيمان بالآخرة يجعل الحياة حياة طيبة

الإيمان بالآخرة يجعل الحياة حياة طيبة من هنا كان الإيمان بالحياة الآخرة صفة من صفات المؤمنين فقط، ولا يوفق لها إلا هم، ولذلك اعتبرها الله تعالى من الحياة الطيبة، أما حياة أولئك فإنها حياة بهيمية، فالحياة الطيبة هي التي تقضى بالإيمان بالحياة الآخرة، وبحياة البرزخ والبعث بعد الموت، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذه الحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. إن العالم الذي يعيش الآن في أمريكا وبلاد الغرب والشرق قد وصلوا إلى غاية الترف المادي، لكنهم ما وفقوا للحياة الطيبة؛ لأن الحياة الطيبة لا تكون في متاع الأجساد وإنما تكون في متاع الأرواح، ولذلك فالمؤمن مهما عاش في شظف من العيش، ولو كان في غياهب السجون، وتحت مطارق الأعداء يسام سوء العذاب، فإنه يعيش في ظل هذه الحياة الطيبة التي يقول الله عز وجل عنها: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ لأن الحياة الطيبة معناها: الإيمان، وتصور الحكمة من هذا الوجود، وإدراك أسرار هذا الكون، وإدراك النهاية، والإيمان بتلك النهاية التي تنتظر منذ البداية. يقول الله عز وجل أيضاً عن ذلك: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود:3]، أي: بالحياة الطيبة في ظل الإيمان، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، أي: في الحياة الآخرة. فلا نتعجب إذا سمعنا أخبار هذا العالم المتحضر حضارة مادية، ولكنه خال من كل الروحانيات، لا نتعجب إذا سمعنا أخباره عن الانتحار، وتأتينا إحصائيات الانتحار: بأنه في كل كذا من الدقائق تكون عملية انتحار، وفي كل فترة من الزمن تكون عملية قتل، لماذا؟ لأنهم فقدوا هذه الحياة الطيبة، ويعيشون في قلق وهم وغم، ولكن المؤمن -والحمد لله- مهما يلاقي في هذه الحياة؛ فإنه ينتظر حياة أفضل من هذه الحياة، بل يعتبر ما يصيبه من نصب وهم ومصائب في هذه الحياة الدنيا غنيمة يكسب بها أجراً عند الله سبحانه وتعالى في الحياة الآخرة، ولا يعيب نفسه، ولا يؤنب ضميره حينما يصيبه قدر من أقدار الله؛ لأنه يؤمن بالقدر، أما ذلك فإنه يندب حظه، ويندب نفسه: كيف فعلت كذا ولم أفعل كذا؟ لأنه لا يؤمن بالقضاء والقدر. وهكذا نعرف الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، ومن هنا يقول أحد الصالحين: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف. ويقول ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان، ولذة انتظار الحياة الآخرة، ولذة مناجاة الله عز وجل والوقوف بين يديه، وانتظار وعده، هكذا تكون جنة الدنيا، أما جنة الآخرة فإنها جزاء لتلك الجنة. إذاً: الحديث عن حياة البرزخ والآخرة حديث طويل جداً في القرآن.

مشاهد قرناء الدنيا في الآخرة

مشاهد قرناء الدنيا في الآخرة لعلنا لا نطيل في المقدمة، ولنتحدث عن مواقف من يوم القيامة، وسأختار لكم جزءاً منها يتعلق بالقرناء في الدنيا: ما موقف بعضهم من بعض في الحياة الآخرة؟ حتى لا نسيء اختيار الجلساء والقرناء، ومن أجل أن نختار الصالحين من عباد الله.

تبرؤ المتبوعين من أتباعهم في الآخرة

تبرؤ المتبوعين من أتباعهم في الآخرة من هذه المواقف والمشاهد في القيامة التي تتحدث عن الجلساء، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:165 - 167]، أي: يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167]. معنى هذه الآيات: أن الناس في هذه الدنيا أتباع ومتبوعون، والأتباع: هم غالب وعامة الناس، والمتبوعون: هم قادة الكفر والضلال والانحراف والإلحاد والمعصية؛ ففي الدنيا يؤيد بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم بعضاً إلى الانحراف والضلال والغواية، ويقولون لهم في الدنيا: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، ويزينون لهم طريق الفسق والفجور والمعصية والإثم والعدوان، حتى إذا كان الموقف الأكيد الصادق يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، يتبرأ المتبوعون من التابعين، فيتمنى التابعون أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليتبرءوا من أولئك كما تبرءوا منهم في ذلك الموقف، والله عز وجل يقطع أسباب العودة ويقول لهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167]، أي: لا الأتباع ولا المتبوعون. يقول الله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: فعلوا المعصية والكفر والشرك والعدوان، (إذ يرونَ العذاب)، أي: عذاب النار وهم على حافة جهنم، نسأل الله العافية! (أن القوة لله جميعاً)، ليس هناك ما يخلصهم إلا رحمة الله عز وجل، (وأن الله شديد العذاب)، أي: لا يستطيع المتبوعون أن يتحملوا هذا العذاب الشديد عن التابعين كما كانوا يزعمون ذلك في الحياة الدنيا. قال الله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، وفي قراءة بالعكس: (إذا تَبرأ الذين اتَبَعُوا من الذين اتُبعوا)، وكلا القراءتين تدل على أن العداوة قد قامت بين الصديق وصديقه، والخل وخليله على معصية الله، على الإثم والعدوان؛ بدأت العداوة وخرجت الآن، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ) أي: رأى التابع والمتبوع العذاب، (وتقطعت بهم الأسباب)، أي: ليس هناك وسيلة للخلاص، (وقال الذين اتبعوا)، أي: المساكين الذين ما استعملوا قوتهم العقلية ولا المعايير والمقاييس الحقيقية، وإنما كانوا في ذيل القافلة، ما دام هؤلاء مسئولون فهم يسيرون وراءهم دعاة الضلال يقودونهم إلى جهنم وهم يركضون وراءهم، دعاة الضلال يزينون لهم الخبيث وهم يركضون وراءهم، لماذا؟ لأن دعاة الضلال قد استغلوا كل وسائل الإعلام العالمي، فصاروا يخادعون الناس، فمرة يتكلمون على الإسلام بأنه تخلف ورجعية، ومرة يتكلمون عن الحجاب بأنه تقوقع وانحراف وتخلف، ومرة يتكلمون عن الحدود بأنها وحشية لا تصلح لهذا الزمان ومرة ومرة إلخ، حتى انخدع الناس بهذا السراب، فصاروا يسيرون معهم ويقدمونهم، ثم في ذلك اليوم يندمون على ما فعلوا في الحياة الدنيا. هذا مشهد من مشاهد القيامة كأننا نشاهده الآن أمام أعيننا، وكأننا نرى أمماً عظيمة تشبه السراب في كثرته وقلة أهميته تتبع أمماً أخرى كانت معها أدلة كاذبة، وكانت معها أقوام منحرفة؛ فيسير هؤلاء وراء أولئك، حتى إذا كان يوم القيامة، وبدت المعايير الحقيقية؛ حينها يتبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبَعوا، ويتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا ولو لحظة واحدة من أجل أن يتبرءوا من المتبوعين، ومن أجل أن يسيروا في فلك وخط المؤمنين المصلحين، ولكنهم لا يستطيعون ذلك في ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل حكم على من وصل إلى الحياة الآخرة ألا يعود الدنيا مرة أخرى، ولذلك يقطع الله تعالى أمل هؤلاء ويقول: (وما هم بخارجين من النار)، فيقطع آمالهم، ويثبت خلود هؤلاء وأولئك في النار.

نداءات الفريقين في الجنة والنار

نداءات الفريقين في الجنة والنار أخبر الله تعالى بنص الآيات أنه سوف يكون بين الفريقين نداءات ثلاثة: الأول: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، انظر يا أخي! إلى هذا النداء بما فيه من السخرية! كان المجرمون من قبل يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فإذا بالمعايير تنقلب، وإذا بالمقاييس تتغير؛ فيسخر المؤمنون في ذلك الوقت من أولئك الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، ماذا يقولون وهم في الجنة ما بين أنهارها وبساتينها وأشجارها يطلون على أهل النار؟ وإن كان المشوار طويلاً، لكن الله عز وجل بقدرته يوصل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وبغية هؤلاء إلى هؤلاء، فيقول أهل الجنة لأهل النار: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [لأعراف:44]، وهم يعرفون أنهم وجدوا ما وعدهم ربهم، فيقول أهل النار: نعم، وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، لماذا؟ لأن الله عز وجل قد أخبرنا خبر صدق في هذه الدنيا؛ فلابد أن يكون حقيقة في الآخرة. النداء الثاني: يأتي النداء الثاني من قوم بين الجنة والنار، وهم من على الأعراف، والأعراف كما يقول القرآن: مكان مرتفع، وهو في اللغة: المكان المرتفع أيضاً، وهؤلاء أقوام تخلصوا من النار لكن أعمالهم لم تؤهلهم بعد لدخول الجنة، فهم يقفون على الأعراف ينظرون إلى أهل الجنة وإلى أهل النار، ماذا يقول أهل الأعراف لأهل النار وأهل الجنة؟ قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:48]، جماعة يتألمون بلهب نار جهنم -نعوذ بالله- وقد كانوا في الدنيا معروفين بسيماهم، إذا مر الواحد صفقت له الجماهير، وفتحت له الطرق، لكن لم تخلصهم هذه السلطة ولا هذه المكانة من عذاب الله عز وجل، ولذلك فإن أصحاب الأعراف يسخرون منهم: أين الهيمنة في الدنيا؟ وأين تلك الموائد؟ وأين تلك الجماهير التي تفدي بالدم وبالروح؟ أين هي الآن؟ لم لا تخلصكم من عذاب الله؟ ماذا يقول أصحاب الأعراف؟ {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]، أين الجمع؟ أين المال العظيم؟ أين الكبرياء؟ أين العظمة؟ أين الحرس؟ أين الجيش؟ كل ذلك كما يقول الله عز وجل عنه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]، كما خرجت من بطن أمك بدون لباس قدمت على الله مرة أخرى بدون لباس، ليس هناك ثوب ولا سراويل؛ بل حفاة عراة غرل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يلتفتون إلى أصحاب الجنة فيقولون لأهل النار وهم ينظرون إلى أهل الجنة: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49]، كنتم في الدنيا تقولون: إنهم متطرفون، ومنحرفون، وضالون، وكنتم تودعونهم السجون، وتسلطون عليهم كل وسائل العذاب والدمار، وتضلونهم في الدنيا، انظروا إليهم الآن في الجنة: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)، كنتم في الدنيا تقولون: هؤلاء لا يستحقون الرحمة، قال لهم الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49]. إذاً: تغيرت المعايير، وأصبح الرجل الضعيف الذي كان في الدنيا مدفوعاً بالأبواب، نجده في ذلك اليوم قد أصبح رجلاً عظيماً عملاقاً، أصبح ينظر ويطل على أهل النار ويسخر منهم ينظر إلى أولئك الطغاة والمتكبرين والفسقة والعتاة، فيجدهم يتقلبون في نار جهنم ويلاقون الحسرة. النداء الثالث: ويأتي بعد ذلك من أهل النار، وهو المرحلة الأخيرة، فأهل النار وهم في أشد العذاب -نسأل الله لنا ولكم العافية وللمسلمين- لا يجدون سلطة ولا مكانة، ولا يفكرون في كراسيهم ولا مراكزهم ولا سلطانهم ولا أموالهم ولا قصورهم، وإنما يفكرون فقط في أحد شيئين: إما في شربة من الماء يسدون بها العطش الشديد، وإما في أي شيء من أشياء هذا النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، ولذلك يمدون أكف الذل والمهانة إلى أهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} [الأعراف:50]، لكن هل تظنون أن أهل الجنة الذين كانوا يعيشون معذبين تحت مطارق هؤلاء من أهل النار أنهم سيعطونهم شيئاً من الماء أو مما رزقهم الله؟ لا، لقد استهلكوا كل حسناتهم ونعيمهم، وعجلت لهم في الدنيا؛ فأصبحوا الآن يقاسون كل أنواع العذاب، ولذلك يرد عليهم أهل الجنة بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:50 - 51]. هكذا تصور لنا هذه الآيات في سورة الأعراف هذا الموقف العجيب، أمم في الدنيا تسير وراء أمم على غير بصيرة؛ فتجتمع جميعاً، وتكون كلها جثياً لنار جهنم، وأمم يخلصها الله عز وجل لا بعقليات كثيرة، وإنما بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فإذا بها تصبح في القمة في ذلك الوقت، وأمم في الدنيا كانت لها هيمنة ومكانة وسلطة وحشم وحرس، فإذا بها اليوم تقول لأصحاب الجنة وللفقراء المسلمين: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ)، فيردون عليهم بالرفض: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). إذاً: أيها الإخوان! هذا موقف ومشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، لا يجوز لنا أن نغفل عنه أو أن نتغافله؛ لأن مثل هذا الموقف نحتاج إليه دائماً، ونحن اليوم أحوج ما نكون إليه ونحن نعيش في أمة قد علا فيها الطغيان وانتفخ وعظم أمره، ونرى كثيراًَ من المؤمنين -الذين هم من خير عباد الله- يعيشون معذبين تحت مطارق الكافرين، ولكن المؤمن عليه أن يثبت في طريقه، ويصبر ويحتسب.

تلاوم الأتباع والمتبوعين في النار

تلاوم الأتباع والمتبوعين في النار في سورة الصافات موقف آخر يشبه هذا الموقف، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات:22]، معنى احشروهم أي: اجمعوهم بقوة، {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، أي: أشكالهم ونظراءهم ومن يشابههم في المبادئ والأفكار وما أشبه ذلك: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22 - 23]، من أصنام وآلهة وزعماء كانوا يشرعون لهم من دون الله، والمراد بالحشر: السوق بشدة، والجمع في مكان ضيق، بحيث يزدحم بعضهم مع بعض: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23]، أي: دلوهم إلى طريق جهنم، أيضاً: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، حتى قبل دخول النار هناك سؤال، ولكنه سؤال يختلف عن الأسئلة كلها، سؤال لا يحتاج إلى جواب؛ لأنه سؤال تبكيت وتوبيخ، وحينما يوبخ وهو على حافة جهنم يزيد الألم معه أكثر من ذلك، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25]، يعني: في الدنيا كنتم تتناصرون، وكان أحدكم إذا قام وأعلن الباطل وانتفخ باطله، طوقه أقرانه وناصروه، فإذا بكم اليوم لا تناصرون، وكل إنسان يستقل بنفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، لماذا لا تتناصرون اليوم؟ أين نصرتكم التي كانت في الدنيا؟ وأين دفاع بعضكم عن بعض؟ كان أحدهم إذا كتب عن سوء في صحيفة أو كتاب أو مجلة، فإذا بشياطين الإنس والجن كلها تتعاون في مساعدة هذا الباطل وفي الدفاع عنه، كان أحدهم في الدنيا يزعم أنه يفدي ذلك الإنسان بكل ما يؤتى من قوة، فإذا بكل واحد منهم الآن يستسلم، يقول الله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26]، أي: لا أحد يدافع عن أحد. بعد ذلك أخبرنا الله بأن هناك موقفين: فيقول عن الموقف الأول في تلك اللحظة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، انقسموا الآن إلى قسمين، فذهب أهل النار إلى النار، وذهب أهل الجنة إلى الجنة، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، وهذا تساؤل لوم وعتاب، كل واحد يلعن الآخر ويسب الآخر: أنت الذي أغويتني، أنت الذي كنت سبباً في شقائي إلى آخر ذلك، (قَالُوا)، أي: قال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28]، يقول الأتباع للمتبوعين: كنتم أيها المتبوعون تأتوننا عن اليمين، هم لم يقولوا لهم: اسلكوا معنا طريق جهنم، ولكن يقولون لهم: هذا هو طريق السعادة. هذا هو طريق الرقي والتقدم. أما إذا سلكتم ذلك الطريق فأنتم رجعيون متخلفون، اسلكوا معنا هذا الطريق السديد، ولربما يقول بعضهم لبعض: هذا هو الطريق في أمور تشبه الطريق الصحيح، وإذا نظرنا إلى باب البدع والخرافات والشرك نجد أن كثيراً من الناس اتبعوا آخرين في طريق يشبه طريق العبادة، لكنه في الحقيقة طريق مسدود، وليس طريقاً إلى الجنة، بل طريق إلى النار. ماذا يقول بعضهم لبعض وهم يتلاومون في جهنم؟ {قالوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، أي: عن طريق الطاعة لا عن طريق المعصية، ماذا يرد عليهم أولئك؟ {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29]، أي: أنتم ما كنتم مؤمنين أصلاً، أنتم ضالون ونحن ضالون، فضللنا جميعاً الطريق، {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]، أي: كلنا أصبحنا نذوق هذا العذاب جميعاًً.

تساؤل أهل الجنة في الجنة

تساؤل أهل الجنة في الجنة ومثل هذا التساؤل تساؤل آخر في الجنة تقصه علينا نفس الآيات في سورة الصافات أيضاً، يقول الله بعد ذلك: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} [الصافات:50] أهل الجنة وهم في الجنة، وذلك لما انتهى التساؤل بين أهل النار جاء التساؤل بين أهل الجنة، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، أي: أهل الجنة، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51]، يقول: في يوم من الأيام كان لي صديق، وانتبهوا في اختيار الأصدقاء! كان لي صديق مشيت معه مدة من الزمن، وكان يقول: لا يوجد بعث ولا جنة ولا نار ولا عذاب، ودعنا نمتع أنفسنا ونتمتع بشبابنا وشهوات الحياة، والعمر ينقضي والشهوة تنقضي. هكذا كان حاله مدة من الزمن، وحال هذا يشبه حال دعوات تقوم الآن في أيامنا الحاضرة. يقول بعضهم لبعض: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، فأراد الله وصف حال هذا الصديق الذي أغواه صديقه، فأراد الله الهداية للثاني حتى يتعظ من الأول، وقيض الله له رجالاً صالحين انتشلوه من هذا الموقف فأخذوه إلى طريق الجنة، ولذلك هو يعبر بنفسه عن هذا الموقف فيقول: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52]، أي: هل تصدق ببعث وجنة ونار؛ فهو ينكر هذه الأشياء كلها. بعد ذلك يقول لأصدقائه في الجنة الذين هداه الله على أيديهم، فذهبوا جميعاً إلى الجنة، يقول: ابحثوا لي عن هذا الصديق الذي كان في الدنيا يريد أن يغويني، ويريد أن يوردني المهالك، ويريد أن يكبني في النار، فصاروا يبحثون عنه وينظرون إليه من شرفات الجنة، فيجدوه يتقلب في نار جهنم -نعوذ بالله- فيطل عليه ويسخر منه، اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:51 - 54]، أي: أنه رأى ذلك الرجل الذي كاد أن يكون سبباً في شقائه في ذلك الموقف، رآه يتقلب في وسط جهنم، ماذا قال له؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56]، يا عدو الله! كدت أن تدخلني معك النار، لولا أن الله تعالى رحمني بلطفه وهدايته، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57] بأن هداني، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، لكنت مثلك اليوم، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58]، أنت في الدنيا تقول: ما نحن بميتين ولا بمبعوثين، والدنيا لا تنتهي، فالآن انتهت الدنيا وجاءت الحياة الآخرة، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، ثم يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60]، هذه هي البداية الصحيحة التي أنقذت مثل هؤلاء من عذاب أولئك. هذا موقف علينا أن نهتم به، لاسيما وأننا نبتلى اليوم بجلساء وأصدقاء أشقياء يوشكون أن يكونوا سبباً لدمار وهلاك كثير من الناس، إذا لم يهيئ الله عز وجل لهم أسباب الهداية، ويقيض الله عز وجل لهم جلساء صالحين فينقذونهم من مثل هذه المآزق التي تكاد أن تمزق كثيراً من الشباب اليوم شر ممزق.

شهادة الأعضاء على صاحبها يوم القيامة

شهادة الأعضاء على صاحبها يوم القيامة هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة أيضاً يصور لنا ما هو أعجب من ذلك!! يصور لنا هذا الإنسان وقد وقف على حافة جهنم، تشهد عليه أعضاؤه بكل أفعاله، حينئذ كيف يستطيع أن يتخلص من شهادة هذه الأعضاء، ويتعجب كيف تشهد هذه الأعضاء! ثم بعد ذلك يزيل الله تعالى هذا العجب بأنه ليس عجيباً أن تشهد الأعضاء؛ لأنك في الدنيا ما كنت تختفي عنها، بل كانت هي التي تمارس المعصية، وتزاول الإثم. يقول الله عز وجل عن هذا الموقف الرهيب من مواقف يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:19 - 20]، يعني: حتى إذا جاءوا جهنم ووقفوا على حافتها، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} [فصلت:20 - 21]، من باب التعجب: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21]، أي: وأنتم ستلاقون العذاب، {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]، ثم يرد الله تعالى عليهم فيقول: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت:22]، في الدنيا إذا أردتم فعل المعصية وممارسة الإثم ما كنتم تستترون وتختفون عن عين الله عز وجل، بل الله عز وجل كان يراقبكم، وما كنتم تستترون أيضاً عن أعضائكم؛ إذ هي التي كانت تمارس المعصية، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24]. هذا موقف يجدر بك أن تتصوره وأنت تمارس المعصية من معاصي الله عز وجل، أو وأنت تتخلف عن واجب من واجبات الله عز وجل التي افترضها الله عليك، وتصور أقرب حاسة وأدناها وأبسطها عندك أنها تشهد عليك، وحينئذٍ لا تستطيع أن تتخلص من شهادتها يوم القيامة ولا أن تمنعها؛ لأن الله تعالى يعلم هذه الأشياء قبل أن تعملها الجوارح.

قيام الساعة وأهوالها

قيام الساعة وأهوالها موقف آخر من مواقف يوم القيامة، يقول الله عز وجل عن هذا الموقف، وهو يصور لنا هذه الدنيا وهي في ضجة ورجة شديدة، وذلك حنيما تقوم الساعة وتتغير أنظمة هذا الكون، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، والزلزلة معناها: الرجة الشديدة، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} [الحج:2]، يعني: الساعة، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2]، من يتصور أن الأم وهي أشفق الناس بولدها تنشغل عنه بشيء من الأشياء؟! ولكن يوم القيامة لشدته ولهوله ولعظمته تذهل هذه الأم المرضعة عما أرضعت وهو ولدها! بل إذا كان ولدها في جوفها فإنها تضعه قبل أن تتم المدة لماذا؟ لأن عذاب الله شديد: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. أيها الإخوان! هذا الموقف الذي يصل إليه الناس وهم مرتبكون، وهم في أشد وأحلك وأصعب ساعات حياتهم، وهم يسمعون القيامة بآذانهم، ويشاهدونها بأعينهم، ويرون هذه الأمور التي تحدث، والتي لا تطيق الأسماع أن تسمعها، ولا الأبصار أن تدركها، يرونها رأي العين ويسمعونها سماعاً حقيقياً؛ لأن هذا وعد لا يمكن أن يتخلف أبداً.

ساعة الموت والقدوم على الله تعالى

ساعة الموت والقدوم على الله تعالى يشبه هذا الموقف أيضاً قول الله عز وجل وهو يصور لنا ساعة الموت، وساعة القدوم على الله عز وجل، وساعة الحساب في سورة (ق)، فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:16 - 19]، كأن الإنسان قد شرب خمراً؛ لأنه قد ذهب عقله، وفقد توازنه، ولذلك فإن الله عز وجل سمى ساعة الموت سكرة، فقال: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، أي: أنها شيء ثابت لابد منه أن يقع. ثم يقول الله عز وجل عن هذه السكرة وعن هذا الموت: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، يعني: مضى عمرك وأنت تحيد عن الموت، إذا قيل لك: إن في هذا الطريق خطراً سلكت طريقاً أخرى، حتى لا تقع في الخطر، وحتى لا يصيبك الموت، وإذا قيل لك: إن فيك مرضاً خبيثاً؛ ذهبت تعالج نفسك، ولا تلام على ذلك، وإذا قيل لك: إن هناك خطراً في مكان ما؛ هربت من هذا المكان، كنت تحيد، لكنك اليوم لا تحيد؛ لأن الموت قد حان أجله وجاء موعده؛ فأصبح لزاماً أن تتجرع كأس الموت، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). والموت بداية وليس نهاية، وإن كان الموت نهاية في نظر الملاحدة الماديين الذين ينكرون حياة الآخرة؛ فإنه في نظر المؤمنين بداية لا نهاية، ولذلك ذكر الله تعالى البداية مع هذه الصورة التي قد صورها الملاحدة فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:20]، أي: بدأت حياة أخرى، والصور أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملك ينتظر أن ينفخ فيه، فينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، ثم نفخة الفناء، ثم نفخة القيام من القبور. هذه النفخات الثلاث ذكرها الله تعالى في القرآن: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل:87]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وعلى هذا فإن الله عز وجل يقول: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:19] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:19 - 20]، اليوم الذي وعد الله عز وجل هؤلاء الناس. يروى أن عائشة رضي الله عنها لما حضرت أبا بكر الوفاة كانت عنده، فلما غشي عليه تمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أي: حشرجت الروح عند الخروج، فقال رضي الله عنه: يا ابنة الصديق! لا تقولي هكذا، ولكن قولي كما يقول الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21]، سائق يسوقها إلى المحشر من الملائكة، (وشهيد): يشهد على أعمالها، وقد كان في الدنيا يحصي أعمالها وحسناتها وسيئاتها، ولذلك فإنه يشهد عليها يوم القيامة، ماذا يقال له وهو في هذا الموقف الحرج الشديد؟ {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، كنت في الدنيا مشغولاً بمالك، وبعمائرك، وبسلطانك، وبمركزك، وبترفك ولهوك ولعبك ومعصيتك، كنت في غفلة فكشف عنك هذا الغطاء، فليس اليوم بينك وبين الحياة الآخرة إلا هذا الغطاء، وليس بينك وبين كشف هذا الغطاء إلا لحظة الموت؛ فإن لحظة الموت هي التي تنقلك نقلة بعيدة من الدنيا إلى الآخرة، وتزيل هذا الغطاء الذي قد وضع على وجهك؛ فأصبحت تسمع عن الحياة الآخرة لكنك لا تراها بعينيك، لكن اليوم أصبحت تراها؛ لأن بصرك اليوم حديد -حاداً قوي- فبصرك في الدنيا كان ضعيفاً لا ترى به الحياة الآخرة، لكن اليوم أصبح بصرك حاد فأصبحت ترى الحياة الآخرة، ما رأيك في هذا؟ بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين الملك: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]، يعني: هذه سيئات هذا الرجل وهذه حسناته، هذه أعماله أمام الله عز وجل في سجلات محفوظة. ثم يقول الله بعد ذلك: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24]، وألقيا بألف الاثنين، أو ألقيا معناها ألقين، وهذا التساؤل من الملائكة إلى الله عز وجل {فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، أول من يدخلون النار الذين يكفرون نعمة الله، ويجحدون حق الله، ويعاندون الله عز وجل ورسله وأنبياءه وأولياءه، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24 - 26]. بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين قرينه في الدنيا، سواء كان من شياطين الإنس أو شياطين الجن، يقول الله عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]، يعني: ما أنا الذي أضللته بل هو كان ضالاً بطبيعته، ثم يرد الله عز وجل عنهم جميعاً فيقول: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [قّ:28 - 31]. هذا أيضاً موقف لا يجوز لنا أن نغفل عنه، بل نتصوره؛ لأنه يصور لنا ساعة الموت وساعة القدوم والصحف التي سجلت لنا أو علينا.

خراب الكون واختلال نظامه

خراب الكون واختلال نظامه الموقف الأخير الذين نختم به هذا الحديث: موقف يصور لنا هذا العالم بنجومه وكواكبه وأفلاكه ونظامه ودقته وقد خرب هذا النظام كله لماذا؟ لأن هذا النظام متاع للحياة الدنيا، وحينما ينتقل الناس من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة يفسد هذا النظام كله ويتساقط. يعبر الله عز وجل عن هذا الموقف بقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:1 - 4]، ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة أخرى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4]، إلى آخر الآيات. هذا الأكوان أيها الإخوان! خلقت لمدة محددة، وحينما ينتهي وقتها فإن النجوم تتساقط على الأرض، ثم لنتصور هذه البحار وقد أشعلت وأصبحت ناراً تتلهب، ثم تصوروا هذه الأرض وقد مدت وأصبحت واسعة تتسع لهؤلاء الخلائق، منذ أن خلق الله هذا الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تصوروا هذه الأنظمة وقد تعطلت وتبدلت وتغيرت. ثم عليك يا أخي! أن ترجع لأمر واحد مهم، وهو أن تعتبر هذه الأشياء سبيلاً إلى الحياة السعيدة، وإلى تلكم السعادة. إخواني في الله! ربما يستعمل طائفة من الناس شيئاً من المقاييس المادية، وحينئذٍ تكون هذه المقاييس سبباً في ضلالهم وشقائهم، وحينئذٍ ينكرون الحياة الآخرة، فيخسرون الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، أما الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها، فإن هذا وعد الله عز وجل الذي لا يتغير. هذا أولاً. ثانياً: أن الحكمة تقتضي بأن تكون هناك حياة آخرة، وأن تكون هناك حياة برزخ، وأن تكون هناك جنة ونار، المنطق والعقل والحكمة كلها تقضي بذلك، وإلا فلا فائدة في هذا الوجود، والله عز وجل منزه عن العبث، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فالدنيا وما فيها من أنظمة، وما فيها من أدلة، كلها تدل على أن هذا الإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدى. وعلى ذلك فإنه لا يتصور وجود عاقل يبني قصراً ثم يدعه للجرذان تعبث فيه، وإنما لابد أن يصون هذا القصر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه الحياة الدنيا، وإنما خلقها لتكون وسيلة وجسراًَ وممراً للحياة الآخرة، فنملأ قلوبنا يا معشر الشباب! بالإيمان بتلك الحياة الآخرة، ولنتصور أنفسنا ونحن واقفون بين يدي الله عز وجل للحساب وهو يناقشنا ويحاسبنا، ونتصور حقيقة أن هذا الكون كله إنما خلق من أجلنا، وأننا خلقنا من أجل أمر عظيم ومهم، لذلك لا نغفل عن الحياة الآخرة، وما ضل ضال عن الطريق، ولا انحرف منحرف، ولا أخطأ مخطئ إلا لغفلته عن هذه الحياة الآخرة، وبمقدار ما يغفل الناس عن هذه الحياة الآخرة تكون المصائب التي لا تساويها مصائب، وبمقدار ما يؤمن الناس بهذه الحياة الآخرة، تعود المياه إلى مجاريها، ويكون الإنسان إنساناً طبيعياً محترماً ملتزماً متزناً. وإذا أردت دليلاً على ذلك: فانظر إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، وانظر إلى أعمالهم، الوحوش والله لا تستطيع أن تفعل مثل أفعالهم، لو نظرنا إلى ما يفعله الروس الشيوعيون الملاحدة في بلاد أفغانستان؛ لعرفنا أن الإيمان بالحياة الآخرة أمر ضروري لو لم يكن لوجب أن يكون، أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة والله لا تستطيع الوحوش الكاسرة أن تفعل مثل أفعالهم، لم يستطيعوا أن يبيدوا هذا الإنسان بالآلاف وبالمئات وبالملايين إلا لغفلتهم عن الإيمان بالحياة الآخرة وإنكارهم لها، ثم انظر يا أخي! إلى هؤلاء الذين قلدوا الملاحدة في إلحادهم؛ فأنكروا الخالق سبحانه وتعالى، وأنكروا نواميس كل هذه الحياة؛ انظروا إليهم ماذا يفعلون بالمؤمنين، ثم انظر أخرى إلى هؤلاء الطغاة المتجبرين الذين فقدوا هذا الإيمان. ومن هنا ندرك أن الإيمان لذة ومتعة، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً حتى يؤمن بالحياة الآخرة، لكنه حينما يغفل أو ينكر الحياة الآخرة، فإنه شر خلق الله؛ فهو شر من الحشرات والوحوش، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:55]، {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، ولذلك لا نستغرب هذه الأفاعيل التي تحدث من ظلم الناس اليوم على أيدي أولئك الكفرة الملاحدة؛ لأنهم بمقدار ما يغفلون ويبتعدون عن الإيمان بالحياة الآخرة تعود إليهم شيطانيتهم، وتعود إليهم وحشيتهم وأفعالهم التي ينكرها العقل والضمير. أسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا، وأن يحفظ إيماننا حتى نلقى الله عز وجل مؤمنين، كما أسأله سبحانه أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

ترتيب مواقف يوم القيامة

ترتيب مواقف يوم القيامة Q ما هو ترتيب مواقف يوم القيامة حسب ما ورد في الشرع؟ A يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} [الانشقاق:8 - 11] إلخ. يأتي بعد ذلك وزن الأعمال، هذه الأعمال التي في الصحف توزن، والوزن موقف من مواقف يوم القيامة ورد خبره في القرآن والسنة، يقول الله عز وجل عنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9]، ويقول الله عز وجل أيضاً عن الوزن: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7]، إلى آخر الآيات. ويأتي بعد الوزن الصراط، والصراط: جسر ممدود على متن جهنم، بعيد المدى، يعبر عليه الناس بقدر أعمالهم، ويعطى كل واحد منهم نوراً يسير به على هذا الصراط، فيؤمرون بالعبور على هذا الصراط، والعبور على الصراط معناه التنقية، أي: تمييز أهل النار من أهل الجنة، فمن وقع في النار فهو من أهل النار، ومن سلم حتى عبر هذا الصراط فهو من أهل الجنة، إلا إذا كان من أهل الأعراف الذين أشرت إليهم أولاً، وأهل الأعراف أيضاً مصيرهم إلى الجنة، كما تدل على ذلك الآيات؛ لأن كل من عبر على الصراط لا يمكن أن يرجع إلى النار أبداً. وقبل ذلك الحوض، والحوض لا يكون إلا للمؤمنين، ولا يرده إلا هم. هذه هي المواقف حسب ترتبيها كما يدل على ترتيبها الشرع، والله أعلم.

موقف الناس يوم القيامة

موقف الناس يوم القيامة Q أين يقف الناس يوم القيامة؟ A كل الناس يوم القيامة حينما يبعثهم الله عز وجل يحشرون ويصفون في مكان واحد وهو مكان الحساب، كما تدل عليه الأدلة، فيوقفون مدة من الزمن، وتدنو الشمس من الرءوس كما في الحديث، ويلجمهم العرق من شدة الحر، ثم بعد ذلك يستغيثون بالله عز وجل، ويطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم، فآخر من يشفع وتقبل شفاعته محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يكون بعد ذلك الحساب.

كلام الناس يوم القيامة

كلام الناس يوم القيامة Q ماذا يقول الناس يوم الجزاء أو القيامة؟ A بالنسبة لغير المؤمنين أثبت الله تعالى بأنهم لا يتكلمون قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38]، ولا يسألون أيضاً، ولا يطلب منهم الجواب عليها، وإن كان هناك أسئلة لكن لا يطلب منها لها جواب: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، ولذلك يقول الله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج:10]، وقال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، فليس هناك سؤال، وإذا كان هناك سؤال فإنه لا يراد له الجواب، وإنما هو سؤال توبيخ.

كيفية حشر الناس يوم القيامة

كيفية حشر الناس يوم القيامة Q كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ A معنى يحشر الناس، أي: يجمعون والحشر معناه: الجمع في اللغة والاصطلاح، يقول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38]، فهم يجمعون في مكان واحد كما تدل على ذلك الأدلة، ينفذهم الصوت ويسمعهم الداعي، وعلى هذا فإنهم يحشرون على طبقات كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، طبقة واقفون، وطبقة راقدون، وقوم -نسأل الله العافية- يسحبون على وجوههم، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يسحبون في النار على وجوههم، هذه طريقة الحشر تكون على ثلاث مراتب كما أخبر الحديث.

مكان الرسل يوم القيامة

مكان الرسل يوم القيامة Q أين يكون الرسل والأنبياء يوم القيامة؟ A بالنسبة للحشر فهم مع الناس، أما بالنسبة للصراط فقد ورد في الحديث أنهم يكونون على جنبتي الصراط ويتكلمون ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ويقولون: اللهم سلم سلم، هذا كلام الرسل، والرسول صلى الله عليه وسلم واقف يبحث عن أمته، ولذلك فإنه يقف على حوضه كما ورد في الحديث، ثم يأتي أقوام من أمته صلى الله عليه وسلم فيصرفون عن الحوض، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم)، وكل ذلك يدل على أن الرسل يكونون مع الناس، لكنهم يكونون في مقام الشفاعة لأممهم.

تنقية أهل الجنة عند القنطرة قبل دخول الجنة

تنقية أهل الجنة عند القنطرة قبل دخول الجنة Q قرأت في أحد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود ما يعرف بقنطرة، فما هي القنطرة؟ وهل هي بعد الصراط كما أشار الحديث؟ A هذه القنطرة يقولون: هي موضع للتنقية؛ لأن أهل الجنة قد تكون فيما بينهم حقوق لبعضهم، وكلهم يستحق دخول الجنة، أي: أن هذه الحقوق لا تحول بينهم وبين دخول الجنة، وعلى ذلك فإن هذه القنطرة تعتبر موضعاً للتنقية، بحيث يقتص لبعضهم من بعض قبل أن يدخلوا الجنة، وينقون قبل أن يدخلوا الجنة، فإذا نقوا وأخذ نصيب بعضهم من بعض، أذن للجميع من له أو عليه حقوق بدخول الجنة، لكن ذلك كله يكون في الحقوق التي لا تصل إلى إحباط الأعمال، وإنما هي حقوق محدودة، تنقى في هذه القنطرة التي تكون بين الجنة والنار، كما دلت على ذلك الأدلة.

أحوال أخبار الفاسقين في نصوص الشرع

أحوال أخبار الفاسقين في نصوص الشرع Q ذكر الله تعالى في كتابه أحوال المؤمنين الخلص، وأحوال الكافرين الخلص في الآخرة، لكننا لا نجد الكلام على الفاسقين من أهل الملة، فما هي الحكمة من ذلك؟ A لا؛ بل نجد أخبار الفاسقين، كما نجد أخبار الكافرين والمؤمنين، فالناس على ثلاث طبقات: طبقة مخلدة في نار جهنم: وهم الكافرون والمشركون، والذين يموتون على غير الملة، وطبقة في الجنة: وهم المؤمنون الموحدون الذين تخلصوا من المظالم والحقوق والمعاصي، وطبقة ثالثة: وهم المؤمنون الموحدون الذين لهم شيء من المعاصي، ذكر الله تعالى أخبارهم في القرآن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، وقد قال الله تعالى عنهم بعد ذلك: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، وذكر الله تعالى كثيراً من أخبار الذين يفعلون المعصية، لكن ذنوبهم تحت مشيئة الله تعالى وإرادته، فما داموا قد ماتوا على التوحيد وعلى ملة الإيمان بالله عز وجل وعليهم معاصٍ وحقوق، فهذه الحقوق إما أن تؤخذ حسنات مقابل هذه السيئات وهذه الحقوق، وإما أن تكون حقوقاً لله عز وجل، وإذا كانت حقوقاً لله عز وجل فإنها تبقى تحت مشيئة الله وإرادته، إن شاء عذب هؤلاء إذا كانت لهم الكبائر العظيمة، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، وأشار الله عز وجل إلى ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله تعالى: (ما دون ذلك)، أي: ما دون الكفر والشرك، وقوله تعالى: (لمن يشاء) أي: لمن أراد أن يعفو عنه، أما من لم يعف الله عز وجل عنه فإنه قد يعاقبه بمقدار ذنوبه، ثم يكون مصيره إلى الجنة.

المقصود بيوم القيامة

المقصود بيوم القيامة Q هل المقصود بيوم القيامة ما يحصل من التغيرات الكونية حال قيام الساعة، أم المقصود ما يقع من أحداث بعد نفخة البعث، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A الذي يظهر والله أعلم أن يوم القيامة يبدأ من الموت إلى ما لا نهاية له، كله يسمى يوم القيامة كما دلت الأدلة على ذلك، كما أنه يطلق على قيام الساعة التي هي لحظة بعث الإنسان تسمى: يوم القيامة، كما أنه يطلق على البعث ويسمى يوم القيامة والحياة الآخرة.

نصيحة لمن يسمع أهوال الآخرة فلا يخشع

نصيحة لمن يسمع أهوال الآخرة فلا يخشع Q من لا يتأثر بالحديث عن أهوال يوم القيامة، هل يكون عليه شيء من الذنب؟ وماذا تنصحه أن يعمل حتى يخشع قلبه لهذه الأهوال؟ A المؤمن بطبيعته إذا سمع مثل هذا الحديث، ومثل هذه المواقف، لابد أن يخشع، وإذا كان من الناس من ابتلي بأنه لا يخشع فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه إذا سمع ذكر يوم القيامة أن يتصور المواقف، لا أن تمر عليه فقط، بل لابد أن تنفذ إلى قلبه، فيصور نفسه وهو واقف بين يدي الله، وبين كفتي الميزان، وعلى حافة الصراط، ويسير على الصراط، ويخرج من قبره إلخ، يتصور هذه المواقف فيخشع قلبه لا محالة إذا تصور هذه المواقف، أما أن يسمعها كأخبار وكقصص؛ فإن هذه الأشياء قد لا تؤثر فيه.

كيف يجد الإنسان لذة الإيمان؟

كيف يجد الإنسان لذة الإيمان؟ Q كيف يجد الإنسان لذة الإيمان؟ فأنا شاب متدين ولا أزكي نفسي، ولكني لا أجد في الحقيقة اللذة التي أخبرت عنها، والجنة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الدنيا، مع العلم أنني أحاول جاهداً البحث عن هذه اللذة، ما هو الطريق الصحيح لهذه اللذة، حفظكم الله ورعاكم؟ A هذه اللذة لا تحتاج إلى بحث؛ لأنها مثل الإيمان، تصور يا أخي! حال اثنين: أحدهما يؤمن بالحياة الآخرة، والثاني لا يؤمن بالحياة الآخرة، وكل واحد منهم أصابته مصيبة، تجد أن الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة يعيش بقلق، لماذا أصابه هذا المرض؟ ولماذا أصابته هذه الفاقة؟ أما الثاني: فإن اللذة تبرز حينما يقول: الحمد لله ما دامت ما أصابتني هذه النعمة في الدنيا، وما دمت حرمتها في الدنيا فلن أحرم منها في الآخرة إن شاء الله، وما دامت أصابتني هذه المصيبة فأنا أحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى، هذه هي حقيقة المتعة واللذة. ولذلك قلت لكم: إن الأمم التي لا تؤمن بالحياة الآخرة هي التي لا تتخلص من مشاكل الحياة إلا بالانتحار، فأقول: إن لذة الإيمان أمر لا يحتاج إلى بحث وجهد، وإنما هو بطبيعته يبحث عن الإنسان، وحياة المؤمن دائماً يشعر فيها بهذه اللذة، لكن لو أن واحداً من الناس يعتبر نفسه مؤمناً ولكنه لا يشعر بهذه اللذة، فنقول له: يا أخي! عالج نفسك وعالج قلبك، أكثر من تلاوة القرآن، تتبع أخبار يوم القيامة وأخبار الحياة الآخرة، وابحث عنها وصورها أمامك، وحينئذٍ تجد هذه اللذة، وتجد لذة الخلود التي لا يشعر بها إلا المؤمنون، وأما غير المؤمنين فليس لهم خلود إلا في نار جهنم، أما المؤمنون فإنهم يشعرون بالخلود؛ لأن الموت لا يعتبرونه فناء أو نهاية، وإنما يعتبرونه بداية النعيم بالنسبة لهم، ومن هنا تبرز هذه اللذة في حياة المؤمن.

معنى قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)

معنى قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) Q قال تعالى في سورة غافر: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، فما هي الموتتان وما هي الحياتان؟ A هذه السورة لا يقال لها: الزُمُر، وإنما يقال: الزُمَر؛ لأن الزمَر جمع زمرة، والزمرة هي الجماعة، وقولهم: (أمتنا اثنتين) الموتة الأولى: في الرحم، والموتة الثانية في الدنيا، (وأحييتنا اثنتين) الحياة الأولى في الرحم حينما نفخ الله تعالى فيه الروح، والحياة الآخرة في البعث، ومع ذلك هم في الدنيا لا يعترفون إلا بموتتين وحياة واحدة، وينكرون حياة البعث، فالآن اعترفوا بحياة ثانية فقالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، ومعنى ذلك: أننا اعترفنا الآن بأن هناك بعثاً بعد الموت، هذا معنى الآية.

مقدار يوم القيامة

مقدار يوم القيامة Q سمعت من أحد الناس بأن طول يوم القيامة خمسون ألف سنة، فهل هذا صحيح أم لا، وجزاكم الله خيراً؟ A كيف يا أخي سمعت من الناس؟! نحن سمعنا من القرآن من الله سبحانه وتعالى: {في يوم كان مقداره أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] وغيرها من الآيات، لكن الخلاف: هل الطول في الزمن، أو الطول في الشدة؟ فإذا كان الطول في الزمن؛ فعلى ذلك ستكون ساعات هذا اليوم طويلة، ولكن والله أعلم أن المراد بالطول طول الشدة؛ لأن اليوم الشديد يصبح طويلاً، ولذلك سماه الله تعالى في القرآن: {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، كل هذه الأوصاف في وصف هذا اليوم، ولذلك الله تعالى ما قال: وإن يوماً عند ربك ألف سنة، بل قال: {كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47]، ولعل المراد هنا بالطول والله أعلم طول الشدة؛ لأنكم تلاحظون في الدنيا اليوم الذي تكونون فيه متمتعين تشعرون فيه بقصر هذا اليوم، واليوم الذي تكونون فيه في تعب ومشقة أو مرض يشعر الإنسان بطول هذا اليوم. فلعل المراد -والله أعلم- بالطول الطول المعنوي لا الحسي، ولذلك أخبر الله أن المؤمنين هذا اليوم لا يساوي عندهم إلا ساعات قصيرة، مثلما يقيلون في بيوتهم، ففي نصف النهار من أيام الدنيا يكونون قد وصلوا إلى منازلهم، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24]، ومعنى (مقيلاً): وقت القيلولة، وليس في الآخرة قيلولة، ولا في الجنة قيلولة، لكن مع ذلك معنى القيلولة: النوم وسط النهار، وليس هناك أيضاً نوم في الجنة؛ لأن متاع الجنة لا ينتهي أبداً، ولا ينقطع بنوم ولا بأي شيء آخر، لكن مع ذلك فهم -أي: أهل الجنة- في أقل من نصف النهار يصلون إلى منازلهم.

معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)

معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) Q قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، هل الآية معناها: أن المؤمن والكافر يدخلون جهنم، أم ماذا؟ A المراد بالورود هنا: المرور على الصراط، (وَإِنْ مِنْكُمْ) هذا قسم، فالله تعالى يقسم بأن كل الناس يردون جهنم، لكن المراد بالورود: هو المرور على الصراط بالنسبة للمؤمنين، أما بالنسبة لغير المؤمنين فإن الله تعالى قد أخبر فقال: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]، أي: يكونون حطباً في وسط جهنم، وعلى هذا فإن المراد بالورود هو المرور على الصراط وليس هناك آية تدل على أنه ليس هناك طريق للجنة إلا عن طريق الصراط، الذي قد مد على متن جهنم، فيمر المؤمنون كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو حبواً، وعلى هذا فإن المراد بالمرور هنا بلا خلاف: العبور على الصراط.

موقف الشاب الملتزم ممن يسخرون منه لالتزامه بالدين

موقف الشاب الملتزم ممن يسخرون منه لالتزامه بالدين Q بعض الناس يسخر من الشباب الملتزم وخاصة في أمر اللحية، فماذا تنصحون الشباب الملتزم أن يفعله إزاء ذلك؟ A إذا وصل الأمر إلى أن يسخر أحدهم من أحد في لحيته، فيكون شرفاً للمسخور به بنص القرآن، الله تعالى قد سمى المسخور به مؤمناً، وسمى الساخر مجرماً، سنة الله تعالى في الحياة قديمة وباقية إلى يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، انظر إلى لحيته! وانظر إلى ثيابه! أو إلى كذا، هذا كثيراً ما نسمعه في أيامنا الحاضرة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، كل واحد يغمز للآخر، يقول: انظر إليه! {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31]، حتى إذا دخل بيته بدأ يضحك ويقول: فلان طويلة لحيته قصيرة ثيابه! عجيب أمر فلان! حتى إنه ليخبر أهله ولا يكتفي بأصدقائه، {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:31 - 33]، ولكن إذا تغيرت المعايير يوم القيامة، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]، سمى الله تعالى هؤلاء المؤمنين، وسمى أولئك بالكفار نعوذ بالله. فالسخرية من المؤمنين بسبب إيمانهم خطر عظيم، نحذر من يفعل ذلك من فعله، خصوصاً إذا وصل إلى الطعن في الدين: رجعي متخلف أو ما أشبه؛ لأنه ليس طعناً في الشخص، وإنما هو طعن في دينه، ولذلك الله تعالى سمى الذين يطعنون في الدنيا أئمة الكفر فقال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة:12]، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)، وعلى هذا نقول: شرف لك يا أخي! أن يسخر بك الفسقة، وخطر عليك أن يكونوا مسرورين منك، فهم لا يخالفونك إلا إذا كنت على حق، ولا يوافقونك إلا إذا كنت على باطل، فلذلك يعتبر هذا شرفاً، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى.

حكم من أسلم ثم كفر ثم مات على الإسلام

حكم من أسلم ثم كفر ثم مات على الإسلام Q إنسان كان مسلماً ثم كفر، ثم رجع إلى إسلامه، فمات على ذلك، هل يكون مسلماً؟ وهل يحبط أجره قبل كفره؟ A الأعمال بالخواتيم، يقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، وعلى هذا فإن من آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ثم آمن، إن ختم له بالإيمان فنرجو له خيراً؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ولكننا نخشى على ذلك المتذبذب الذي لا يثبت على طريقة؛ نخشى عليه من سوء الخاتمة. وعلى كلٍ فإن الله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً} [الجاثية:21]، لا يمكن أن يستويان، لكن ذلك الذي ختم الله تعالى له بخاتمة الإيمان، نرجو له من الله المغفرة، وتتوقع له المغفرة؛ لأن الأعمال بالخواتيم.

حكم مشاهدة البرامج الإسلامية في التلفاز

حكم مشاهدة البرامج الإسلامية في التلفاز Q ما حكم مشاهدة البرامج الإسلامية في التلفزيون؟ A البرامج الإسلامية هي وغيرها لا نستطيع أن نقول فيها شيئاً، مشاهدة البرامج الإسلامية أمر طيب، ولكن خير للناس أن يأخذوا دينهم من مصدره الأصلي، لا من برامج مختلط خيرها بشرها؛ لأني أخشى أن تكون هذه البرامج إما مدسوس فيها شيء، أو تكون على الأقل ملوثة بما يحيط بها من مسرحيات وأغاني.

حكم محادثة النساء في التليفون

حكم محادثة النساء في التليفون Q ما حكم مكالمة النساء غير المحارم في التليفون؟ A إذا كان ليس فيه غزل أو رقة، أو أمور محظورة، فهذا لا بأس به، لا فرق بين أن تكلمها في التليفون، أو من خلف الباب، أو في أي حال من الأحوال، فهذا أمر لا بأس به، بشرط أن لا يصل إلى درجة الأمور المنهي عنها التي قد تحدث المرض في قلوب الناس، خصوصاً إذا كانت المرأة ترقق صوتها أو ما أشبه ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].

حكم استعمال عطور النساء للرجال والعكس

حكم استعمال عطور النساء للرجال والعكس Q هل يجوز استعمال عطور النساء للرجال والعكس؟ A نعم، العطر سواء، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يوم الجمعة إذا بكر ومس من طيب امرأته، فليس هناك عطر خاص بالمرأة، وليس هناك عطر خاص بالرجل، فالأمر مشترك.

كرامات الجهاد الأفغاني

كرامات الجهاد الأفغاني Q سمعنا عن بعض الكرامات في أفغانستان، نرجو من فضيلتكم أن تتحدث عن هذه الكرامات، ولكم جزيل الشكر؟ A الكرامة باقية إلى يوم القيامة في أولياء الله الصالحين، هذه لا نتساءل عنها، والمعجزة خاصة بالرسل، والكرامة في الصالحين باقية إلى يوم القيامة، وما يحدث في أفغانستان من الكرامات مما يتحدث عنه بعض الكتاب، أنا لا أقول: كله حقيقة، وإن كان هناك أشياء لا يقرها العقل، لكن أقول: لا شك أن جزءاً منها حقيقة، وذلك أن شعب أفغانستان شعب يستحق -بإذن الله- هذه الكرامات؛ لأنه لا يقاتل في سبيل قومية، ولا وطن ولا دم، ولا عرق أبداً، هذه الأشياء لا نسمع بها بين المجاهدين الأفغان كما نسمع بها بين الفئات الأخرى التي تزعم أنها تجاهد في سبيل الله، وعلى هذا فإني أقول: المجاهدون الأفغان يستحقون منا كل عناية وتقدير، وما يروى عنهم من بعض الكرامات التي تحدث بالنسبة لهم، نحن لا نستنكرها إذا كانت توافق العقل، أما إذا كانت لا توافق العقل فلسنا ملزمين بالتصديق بها. وعلى كلٍ فإننا نقول: إن بعض الكرامات تحدث حقيقية، كما يحدثنا أشخاص منهم بأنها تحدث، ولكن علينا أيضاً أن نستعمل عقولنا في جزء منها.

علاج الوساوس في الصلاة

علاج الوساوس في الصلاة Q إذا شرعت في الصلاة بدأت بي الوساوس من كل جانب، فأرجو أن تنصحني ماذا أفعل، وجزاكم الله خيراً؟ A هذه من الأمراض التي تصيب أكثر الناس إن لم تصب كل الناس، وعلى هذا فإني أقول: إن الشيطان حريص على إفساد أفضل عبادة يؤديها المسلم وهي الصلاة، ولذلك فإنه لا يتمكن من المسلم أكثر مما يتمكن منه وهو في وقت الصلاة، ولكن نقول: عليك أن تجاهد هذه الوساوس، وأن تتصور عظمة الموقف، وأنك تقف بين يدي الله عز وجل، وأنها فرصة قد لا تتاح لك مرة أخرى أن تقف فيها بين يدي الله عز وجل، فلا تضيعها في الوساوس، كما أن عليك أن تنتبه، وعليك أن تخبر عقلك، وبمقدار ما تزيد الوساوس تنقص الصلاة، وإن كانت الصلاة صحيحة إن شاء الله، وبمقدار ما تقل فإن الصلاة تكمل، وعلى هذا فإني أقول: علينا أن نحارب الوساوس ودائماً نخشع، وإذا أردنا أن ندخل في الصلاة فعلينا أن نجرد أذهاننا وعقولنا من مشاغل الحياة الدنيا حتى نتفرغ للصلاة.

انضباط الصحوة الإسلامية واستقامتها

انضباط الصحوة الإسلامية واستقامتها Q نلاحظ في الوقت الراهن كثرة الشباب المتدين، وهو ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ولكن مع الأسف الشديد تم التركيز على كثرة الكم لا على الكيف، فنجد الكثير من الشباب ينقصهم الكثير من أخلاق الشاب المسلم، فما هو الطريق الصحيح لإصلاح هذا الشباب المتدين، والمتقبل للموعظة والنصح؟ A أنا أخالف الأخ بأن الكم موجود والكيف موجود والحمد لله الآن، وأتوقع أن جل النوعية الموجودة -إن لم تكن كلها- من النوع الجيد، والدليل على ذلك: أن هذه الصحوة الإسلامية ما وجدت في فترة كانت الأمور فيها أبسط وأحسن من ذلك، وإنما وجدت في فترات حينما أصبح الحق لابد أن يظهر، ولذلك فإني أقول: إن هذه الصحوة -والحمد لله- طيبة سواء في كمها أو كيفها، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقها للانضباط والاستقامة والالتزام، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يحفظها من أعدائها، وأن يزيد في عددها، وأن يقوي شخصية هؤلاء الشباب الذين يتمتعون بهذه الشخصية. وهذه الصحوة الإسلامية والحمد لله ليست مقتصرة على بلد ما، فكل بلاد العالم نجد فيها هذه الصحوة، حتى في بلاد الكفر والإلحاد نجد أن كثيراً من المسلمين الذين كانوا قد انغمسوا في الرذائل في تلك البلاد، نجدهم الآن -والحمد لله- اتجهوا هذا الاتجاه الطيب المبارك، ونسأل الله لنا ولهم الثبات.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة Q ما حكم إذا كان الإنسان يصلى وذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ A لا أظن أن ذلك يصح، فالذي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآية رحمة سأل، وبآية عذاب استعاذ، وعلى هذا فإن الإنسان لا يزيد على ذلك؛ لأن الصلاة يجب أن يكون فيها القول محدوداً وفق الأوامر التي جاءت من عند الله سبحانه وتعالى ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإني أقول: لا نصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتنا وإنما بقلوبنا إذا ورد ذكره في الصلاة؛ لأننا نسمع أن قوماً إذا سمعوا قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] قالوا: وعليهم الصلاة والسلام، وأنا لا أرى أن يقولوا ذلك.

دعاة الضلال

دعاة الضلال Q من هم دعاة الضلال؟ A دعاة الضلال هم الذين يسعون لانحراف المسلمين عن الجادة المستقيمة، والذين يريدون أن يدخل الناس في نار جهنم، سواء كانوا من الكافرين أو من المسلمين الذين ينسبون إلى الإسلام والإسلام منهم براء، أو من الذين يفعلون هذه الأشياء بدون إرادة وبدون قصد، ولكنهم يحرفون الناس عن الطريق المستقيم، كل أولئك يسمون من دعاة الضلال.

ثمرات الإيمان بالآخرة

ثمرات الإيمان بالآخرة Q دائماً يذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخرة، فما هي ثمرات الإيمان بالآخرة حتى تجعل لها هذه الأهمية، علماً بأن هناك من يؤمن بها ولكن لا يرتدع عن المعاصي؟ A الإيمان بالله والإيمان بالحياة الآخرة متقاربان؛ لأن كل واحد منهما بيننا وبينه حجاب وستار، والإيمان بالمغيبات شيء واحد، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وقد يؤمنون بالله سبحانه وتعالى إيماناً ضعيفاً لكنهم لا يؤمنون بالآخرة، كما وجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم إذا سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ يقولون: الله، لكن لما كان إيمانهم بالله سبحانه وتعالى ضعيفاً لم يمكنهم ذلك من الإيمان بالحياة الآخرة. أما الإيمان بالحياة الآخرة فإن له من الأهمية بمقدار ما للإيمان بالله عز وجل من الأهمية؛ لأن الإنسان إذا آمن بالله ولم يؤمن بالحياة الآخرة، أصبح كما فعل المشركون الأولون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، وعلى هذا فلابد من الإيمان بالحياة الآخرة، والإيمان بالحياة الآخرة يعتبر هو الحاجز الطبيعي الحقيقي الذي يحول بين الإنسان وبين المعصية، وإذا كان هناك من يؤمن بالحياة الآخرة ولا يعمل للحياة الآخرة، فنقول: إيمانه كاذب؛ لأن الإيمان بالشيء يؤدي إلى الاستعداد له.

حكم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء

حكم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء Q رجل نظر إلى الأديان كلها، ويزعم أن جميع الأديان تجعل نهاية الإنسان في موته، وعندما نظر في الدين الإسلامي فإذا فيه الوعد والوعيد بعد الموت، فقال: سأعمل ما يوجبه الإسلام، وإن كان الذي أخبر به الرسل لا يوافقه؛ فلعلي أن أكون من أهل النعيم، فهل هذا يغني عن عذاب الله؟ A أولاً: كل الرسل يدعون إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وقالوا لأقوامهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، فيدعون إلى الإيمان بالحياة الآخرة، ودين الإسلام ليس هو فقط الدين الذي يدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، بل إن الإيمان بالحياة الآخرة فطرة، وأمر معقول لابد منه، وما فائدة هذا الوجود إذا لم تكن هناك حياة آخرة؟! ثانياً: أن ذلك الذي رفض الإيمان بالرسل وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم هو كافر مرتد؛ لأنه لا يكون الإنسان مؤمناً مسلماً إلا إذا آمن بالأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، الإيمان الضعيف كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: إن كان ما يقال عن الحياة الآخرة حق فأنا ما خسرت شيئاً، وإن كان غير حق فأنا لم أخسر شيئاً. هذا ليس إيماناً حقيقياً، الإيمان الحقيقي هو الذي أخبر الله عز وجل عنه كإيمان الصحابة ومن سار على نهجهم، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال؛ لأن الجبال لا تزول عن أماكنها، فإيمان المؤمنين لا يزول عن مكانه، وعلى هذا فنقول: المؤمن لا يقول: أنا أريد أن أعمل الصالحات؛ لأنه إن كانت هناك حياة آخرة فما تعبت، وإن لم تكن هناك حياة آخرة فأنا أيضاً ما خسرت، وأيضاً أكون ما خاطرت بنفسي، هذا في الحقيقة منطق من مناطق الضالين، أما المؤمن الحق فإنه يؤمن بالحياة الآخرة إيماناً كاملاً، وعلى هذا فإنه يعمل انطلاقاً من هذا الإيمان.

من صور مساعدة المجاهدين

من صور مساعدة المجاهدين Q المسلم عندما يسمع ويقرأ ما يقاسيه إخواننا المجاهدون الأفغان؛ فإنه يجد الألم والضيق في قلبه، ولا يدري ما الوسيلة المناسبة لمساعدتهم، وهل يكفي المساعدة بالمال أو يلزم الجهاد بالنفس؟ A الحقيقية أن شعوره بالضيق يدل على وجود الإيمان، وعلى هذا فإني أقول: إخوانك الذين يجاهدون في سبيل الله من الأفغان لهم حق عليك، فإذا كنت تستطيع أن تجاهد معهم بيدك وبجسدك، لكني أظن أنهم لا يحتاجون إلى شيء من فعلك ذلك، ولكن عليك أن تجاهد معهم بمالك، أو على الأقل بنقل أخبارهم، وبيان ما هم عليه من الحق، فإن هذا يعتبر نوعاً من الجهاد؛ لأني أرى أن كثيراً من الأفغان الآن يهضمون حقهم، ويقال عنهم أقاويل هم براء منها، وعلى هذا فإني أقول: نحن مطالبون بأن نساعد إخواننا في سبيل الله، والله تعالى قد أمرنا أن ننفر خفافاً وثقالاً لنجاهد في سبيل الله، ومن النفير: أن نقدم شيئاً من أموالنا، أو أن ندعو الناس إلى البذل في سبيل الله، ويكون ذلك من الجهاد في سبيل الله.

من أسباب تقوية الإيمان

من أسباب تقوية الإيمان Q نحن نؤمن بالله وبالدار الآخرة، ولكننا لا نزال نعصي الله عز وجل، فنتكبر ونعلم أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ونحب القرآن ولكن سماعنا للأناشيد أكثر وأرغب، ونحفظها ولا نحفظ القرآن، فما السبب وما الحل جزاكم الله خيراً؟ A إن المؤمن الذي يعمل الصالحات يستحق الجنة، والمؤمن الذي يكون عنده شيء من الأخطاء يكون تحت مشيئة الله وإرادته، ولكن ما ذكره الأخ لا أظن أنه حقيقة، فإن المؤمنين لا يتكبرون؛ فالكبر ليس من صفات المؤمنين، وما ذكره الأخ من أنهم يحفظون الأناشيد ولا يحفظون القرآن فهذا لا أقول: إنه حرام، ولكني أقول: يجب أيضاً أن نعدل من واقعنا فنحاول أن نحفظ القرآن، ولعل الأناشيد باعتبارها تأخذ في لب الإنسان ويأخذ صوتها بعقل هذا الإنسان، لعلها تكون أسهل في الحفظ، ولا يدل ذلك على انصراف هؤلاء عن القرآن، وإنما يدل على أن لدى هذا الإنسان شوق إلى الأناشيد، ولكن لا يمنع أن يكون عنده شوقاً للقرآن، فأدعو أيضاً الشباب إلى أن يحافظ، ويحاول حفظ ما يستطيع من القرآن خصوصاً في أيام شبابه، والله المستعان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسباب الاستقامة والانحراف

أسباب الاستقامة والانحراف إن أعظم كرامة لزوم الاستقامة، وهناك أسباب للاستمرار في طريق الاستقامة، وهي تعتبر كالسياج للمحافظة على السير في هذا الطريق المستقيم، كما أن هناك أسباباً تدعو للانحراف والعدول عن هذا الطريق، والتخلف عن السير في هذا السبيل المبارك، فعلى المسلم لزوم أسباب النجاة، والحذر من أسباب الهلاك.

الاستقامة هي الأصل في الفطرة الإنسانية

الاستقامة هي الأصل في الفطرة الإنسانية الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة. اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الاجتماع في بيوت الله على ذكر الله وطاعته يبث السرور في النفس والغبطة في القلب، وما ذلك بجديد على الحياة، فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه سوف يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نقول: إنه جديد هو أن الكثرة الساحقة والسواد الأعظم في مجالس الذكر هي من شباب المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الصحوة الإسلامية المباركة، وأن لها جذوراً ضاربة في أعماق الأرض، وأن هذه هي الثمرة التي كنا ننتظرها منذ أمد بعيد، فأقرّ الله عيوننا بتلك الوجوه الطيبة. ألا فليطمئن الناس على دين الله، بل إن دين الله عز وجل ليس بحاجة إلى الناس، ولكن الناس بحاجة إلى دين الله، وإن ما يحدث في هذه الأرض من انحرافات وانجرافات وراء التيارات إنما هو خلاف الفطرة، أما الفطرة فقد أخبر الله عز وجل بأنها هي التي ولدت مع هذا الإنسان، ولا تغيير لها أبداً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]. هكذا ولدت الفطرة مع الإنسان، والفطرة باقية ثابتة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]. إذاً نحن متفائلون، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإذا رأينا الخير في الشباب فلنعلم يقيناً أن الصحوة متزنة من جميع نواحيها، ولذلك فليفرح اليوم المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء. ولا نريد أن نذهب بعيداً عن موضوعنا الذي حددناه، فهو عن أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، ولنأخذ ذلك كله من قول الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]، ثم نأخذ بعد ذلك جزاء هذه الاستقامة، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، وفي الآخرة أيضاً يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. والاستقامة هي الالتزام، مِن (قام الشيء) بمعنى: اعتدل. والانحراف معناه الاعوجاج، وهذان دليلان على أن الأصل في الأشياء كلها الاستقامة، وأن الانحراف إنما هو حادث وطارئ، كما عرفنا من خلال الآية الأولى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]، كما أن الله عز وجل أشار إلى أن الاستقامة هي الأصل في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: على ملة واحدة {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] أي: فانحرفوا فبعث الله مبشرين ومنذرين. إذاً الاستقامة هي الأصل، والانحراف هو الذي يتنافى مع الفطرة ومع الأصل، ولذلك فإننا نقول: إن الذين يأخذون بهذا الحق وبهذا الدين هم الذين يسيرون على الطريق المستقيمة، لا شك ولا ريب في ذلك، وإن الذين ينحرفون عن هذه الطريق المستقيمة هم الذين تذهب بهم شياطين الإنس والجن هنا وهناك إلى مذاهب شتى. ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه: (قرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ثم خط خطاً طويلاً معتدلاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله. ثم خط عن يمينه وعن شماله طرقاً متعددة وقال: هذه هي السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سُتُر مرخاة، فإذا أوشك الإنسان أن يفتح واحداً من هذه السُتُر المرخاة ناداه مُنادٍ: ويحك -يا عبد الله- لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تَلِجْه، وإن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسباب الاستقامة

أسباب الاستقامة نحن لا نستغرب وجود الاستقامة في الناس، ولكننا نستنكر بشدة الانحراف الذي يحدث في هذه الأرض؛ لأنه خلاف الفطرة، وعلى هذا فإن للاستقامة أسباباً وللانحراف أسباباً، ولعل دنيا الناس اليوم امتلأت بأسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، وإن كان مما يخيف ضعاف الإيمان أن أسباب الانحراف أصبحت في واقع الناس وفي عالم الدنيا اليوم أكثر من أسباب الاستقامة، ولكننا مطمئنون لوعد الله عز وجل، فإنه هو الذي أخبرنا بأنه سيظهر هذا الدين على الدين كله، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: لا مانع من أن نطرق شيئاً مما نلمسه في واقع الناس اليوم من أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف.

التربية الصالحة

التربية الصالحة أولاً: التربية الصالحة. والتربية الصالحة تبدأ من اختيار الزوجة الصالحة؛ لأن الزوجة الصالحة تعتبر تربة طيبة لبذور صالحة، فإذا وضعنا هذه البذور الصالحة في تربة صالحة نضمن بإذن الله عز وجل وجود أولاد صالحين، ولذلك لا نعجب من اهتمام الإسلام باختيار الزوجة، فقد قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فاظفر بذات الدين) فيجب أن تكون التربة صالحة لتكون بيئة صالحة للذرية الصالحة. ثم بعد ذلك يأتي دور التربية ابتداءً من سن الطفولة التي يقول علماء النفس وعلماء الاجتماع عنها: إن السن السابعة هي السن المناسبة لتربية الأولاد في البيت وفي المسجد أيضاً. ويؤيدهم الحديث الصحيح: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع)، ثم لا يزال يلزم الرجل أن يتعاهد هذه الذرية تربية وإعداداً وتجهيزاً وإصلاحاً حتى يأتي سن العاشرة، فلا بد من أن يزيد في أمره لأولاده بالصلاة حتى يعيشوا مع الصالحين في المساجد، حتى إذا بلغ أحدهم الحلم فلا بد من أن يكون هناك المعيار الواضح بين الإيمان وبين الكفر. إذاً التربية الصالحة لا بد منها، وهذه التربية أول من يبدأ بها الأم، ثم الأب، ثم المدرسة، ثم الجهات الأخرى التي لها دور في إصلاح هذه الذرية، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (كل مولود يولد على الفطرة). إذاً أنت -أيها الأب- وأنتِ -أيتها الأم- لستما مسئولين عن أن توجدا الفطرة في قلب هذا الإنسان، ولكنكما مسئولان عن المحافظة على هذه الفطرة حتى لا تعتريها أشياء تخلّ بها، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: بسوء التربية. ثم إن هذه التربية أول من يستفيد منها ذلك الأب الذي ربى أولاده على طاعة الله، أو تلك الأم التي ربت أولادها على طاعة الله، وهذه الفائدة تكون في الدنيا بالبر والاستقامة والمحبة والتعاطف والتآلف، وفي حياة البرزخ يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) وتكون أيضاً في الحياة الآخرة، كما قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24]. بل إن الله عز وجل أخبرنا في آية أخرى أن الأب الصالح إذا خلف أولاداً صالحين صلاحهم لا يصل إلى درجة صلاح الآباء فإن الله بكرمه يرفع الأبناء درجة إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء درجة إلى مستوى الأبناء، وذلك من أجل أن تقرّ العين، ولا يكون هناك ظلم ولا هضم، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] يعني: ما نقصنا الآباء عملهم فأنزلناهم إلى درجة الأبناء، ولكن حتى لا يتعلق الولد بأولاده ولا يتعلق الولد بآبائه يرفع الله تعالى الولد، ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] حتى لا يقول أحد من الناس: إن أبي فلان الرجل الصالح، أو الرجل التقي، أو الرجل العالم. ولكن يجب أن يكون القائل هو الرجل الصالح، أو الرجل الورع، أو الرجل التقي. أيها الأخ الكريم! هذه هي نتيجة البر في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك نقول: يجب أن تتضافر كل الجهود، فالمدرسة تقوم بشيء من هذا الدور، والمعلم أمين ومسئول بين يدي الله عز وجل عن هذه الأمانة التي يقوم بتربيتها وإعدادها، والوسائل التي أصبحت الآن لها دور في انحراف الشباب أو استقامة الشباب ستتولى هذه المهمة، وسيُسأل بين يدي الله عز وجل من يقوم عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون عن الدور الذي تقوم به في تربية هؤلاء الأولاد أو في انحرافهم. كذلك وسائل الإعلام، ووسائل النشر، والأندية الرياضية إلى غير ذلك من الوسائل التي أصبحت الآن تسيطر على عقول الناس أكثر مما يسيطر عليها الأب والأم، كلها ستتحمل بمقدار ما تقدمه من نفع أو ضر توجهه إلى هذا المجتمع، وما يكون لذلك من نتائج طيبة أو نتائج سيئة. فالكل مسئول، والدولة بمقدار ما تستطيع أن تقدمه للمجتمع من وسائل هي مسئولة بين يدي الله عز وجل عما يحدث تحت ظلها من استقامة أو انحراف، وحينما يكون هناك أشياء تؤثر في الفطرة، أو يكون هناك دعاة للضلال يريدون أن يحرفوا الشباب والنشء عن منهجهم فإنه بمقدار ما يُعطَى هؤلاء الناس من الحرية المنحرفة فإن الله عز وجل سوف يسألهم يوم القيامة عن هذه المسئولية الكبرى. إذاً حينما نقول: (التربية) فإننا نعني أكبر وسيلة من وسائل الاستقامة، ونقول: كل من استطاع أن يقدم جهداً في سبيل استقامة الناس فإنه يؤجر بمقدار ما يقدمه من هذا الجهد، وكل من أراد أن يقدم ضرراً وانحرافاً إلى الناس في المجتمع فإنه سيتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل. ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) وكلمة (كلّ) تعطينا أن كل واحد من الناس بمقدار مكانه وموضعه في هذا الوجود وفي هذه الدنيا سيتحمل من هذه المسئولية بمقدار ما مكّنه الله عز وجل، ولذلك فإن الله تعال مدح ولاة أمر المسلمين الذين يستقيمون على دين الله فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. فهذا يعتبر هو العامل الأول من عوامل الاستقامة، وهو: التربية الصالحة.

التفكر في ملكوت السماوات والأرض

التفكر في ملكوت السماوات والأرض العامل الثاني: النظر في ملكوت السماوات والأرض. هذا النظر الذي ينشأ عنه إيمان كالجبل الأصم الثابت الذي لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه، وهناك فرق بين الإيمان الوراثي -الذي سنتحدث عنه إن شاء الله مع السلبيات- والإيمان الذي نشأ عن تفكير ورويةّ، وحينما نقول: (تفكير وروية) لا نقصد التفكير في ذات الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله، وإنما تفكير في قدرة الله عز وجل، وفي آثار صنعه الذي وضعه في هذا الوجود وفي هذا الكون حتى يكون ذلك سبيلاً للإيمان. هذا التفكير الذي يقول الله عز وجل عنه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101]، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، والله سبحانه وتعالى دائماً يخاطب العقول؛ لأن هذه العقول هي التي تنظر إلى هذه الأشياء نظرة تفكير، يقول الله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4]. هذا النظر في ملكوت السماوات والأرض هو الذي يعطي هذا الإنسان أكبر دليل على وجود خالق متصرف قادر واحد ليس معه متصرف أبداً، وحينئذٍ يرجع بنتيجة واحدة، وهي أنّه ليس في هذا الكون متصرف إلا الله عز وجل. ونضرب مثالاً لذلك: إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان يشك في الله تعالى أبداً، حتى في أيام صبوته وأيام شبابه قبل أن يكون رسولاً، ولكنه ينظر إلى هذا الكون العظيم نظرة تفكير ليثبت لهؤلاء الناس أنّه ليس في هذا الوجود من يستحق أن يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ثم يرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنتيجة حتمية، وهي أنه في ذات الله عز وجل لما صَلُبَ إيمانه وقوي جانبه أصبح يتحدى أقرب الناس منه، وهو أبوه الذي يعتبر ألصق الناس به، ومن منا يستطيع أن يكافح أباه إلى ما يكون مخالفه في دينه، وهو يتحدى العاطفة ويتحدى كل الأشياء التي تفرض عليه أن يسالم المجتمع. إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكر الله لنا قصته في سورة الأنعام، كما يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] إلى أي شيء انتهى به الأمر؟ قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:79] وتحدى كل ما يحيط به، حتى ذوي القربى الذين ظلمهم أشد مضاضة، كما يقول الشاعر: وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهندِ فأصبح يتحدى أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]. ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما أعطاه الله تعالى هذه الحجة على قومه أصبح إيمانه لا ينظر من خلاله إلى أي عذاب يحدث في هذا الوجود إلا كما ينظر الإنسان إلى وسيلة من وسائل المتعة. فلم يبال حتى أشعلت له نار، هذه النار -كما قال عنها المفسرون-: كانت ناراً عظيمة، سماها الله تعالى جحيماً، فكان الطير إذا مرّ من السماء فوق هذه النار يحترق وهو في السماء، وإبراهيم ينظر عليه الصلاة والسلام إلى هذه النار فيستهين بها؛ لأنها دون نار الحياة الآخرة، حتى إذا ألقي في النار أصبح ذلك الإيمان قد غير له نواميس الحياة وأنظمة الوجود، فأصبحت هذه النار بأمر الله عز وجل برداً وسلاماً على إبراهيم، وهكذا الإيمان يغير كل أنظمة هذه الحياة التي ربما تتعقد أمام عيني هذا الإنسان حينما ينظر إليها، ثم إذا بها تتحول إلى خلاف ما كان يتوقعه هذا الإنسان. فهذا مَثَل للنظر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك تجد فرقاً شاسعاً بين الإيمان الوراثي الذي يأخذه الإنسان عن أبيه وأمه وأسرته ومجتمعه وبيئته والإيمان الذي يكون وليد البحث والتفكير والقراءة والنظر في ملكوت السماوات والأرض، حينئذٍ يصبح هذا الإيمان كالجبل. فلا بد من هذا النوع من الإيمان، سيما في فترة الامتحان التي يعيشها العالم الإسلامي، أو الشبيبة الناشئة التي أصبحت الآن بين الجاهلية والإسلام، بين دواعي النفس والشهوات والمغريات العظيمة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس وبين داعي الإيمان والجنة الذي ينادي هؤلاء الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

حرية الكلمة

حرية الكلمة العامل الثالث من عوامل الاستقامة: حرية الكلمة. وماذا نقول عن حرية الكلمة؟ حرية الكلمة التي يجب أن يُفتح لها المجال، سيما في البلاد الإسلامية، ونحن لا نتخيل وجود حرية الكلمة كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخطب فيتكلم في تحديد المهور، فتقوم امرأة وتقول: يا أمير المؤمنين! كيف تحدد المهور والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20]. قد يكون هذا من الصعب بمكان، ومثله ما كان من عمر رضي الله عنه حينما كان يخطب فقال للناس: (اتقوا الله) فقام رجل فقال له: يا أمير المؤمنين! عليك ثوبان ولنا من ثوبٍ واحد! ومثله كذلك حين قال عمر رضي الله عنه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) وكان هذا في أول خطبة خطبها، فيقوم رجل في المسجد يهز سيفه ويقول: يا أمير المؤمنين! والله! لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه. فلم يقل رضي الله عنه: أين السلطات الأمنية؟! وإنما قال: (الحمد لله الذي جعل في هؤلاء الناس من يعدّل عمر بسيفه). إننا نعرف أن هذا شيء بعيد، وليس هو على الله عز وجل ببعيد، إلا أننا لا نريد أن يكون هناك فوضى، ولكن مقصودنا من حرية الكلمة أن ينطلق دعاة الإسلام بحرية؛ لأنهم أوثق من يؤتمن على دين الله عز وجل، ولأنهم أوثق من يؤتمن على الدولة المسلمة التي تطبق شرع الله عز وجل، ولأنهم يحافظون على العهد والميثاق وعلى صفقة اليد التي سلموها للسلطة الشرعية، ولذلك فإنهم لا يُتّهمون. نحن لا نريد حرية الكلمة لقوم يسبون الخالق سبحانه وتعالى أو يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يأتون برموز نحن لا نعرفها، فهذه تهدم الأخلاق وتهدم العقائد، كما أننا -أيضاً- لا نريد حرية الكلمة لقوم يصفون الحجاب بالتقوقع والتأخر والتخلف، ويقولون عن المجتمع المحافظ: إنه يتنفس برئة واحدة. لأن هؤلاء لو أحضرناهم على مائدة المناقشة الصحيحة لما استطاعوا أن يثبتوا دليلاً واحداً على ما يقولون، ولكننا نحن نثبت بالأدلة الكثيرة أن الإسلام هو الذي رفع المرأة ورفع الرجل وأوجد من المجتمع الإسلامي مجتمعاً حقيقياً. إذاً لا بد من حرية الدعوة، وهذه الحرية يجب أن تمنح للدعاة حتى لا يتحرك دعاة الباطل؛ لأن سنة الله عز وجل في هذه الحياة أنه لا بد من أن تكون هناك حركة، وهذه الحركة إما أن تكون بيد الصالحين المصلحين فتستقيم الأمم من ورائهم، وإما أن تكون بيد الفسقة فيضل الناس الطريق على أيدي هؤلاء. وحينما لا تكون هناك حرية للكلمة الصالحة ولا حرية للدعوة الصحيحة، وحينما لا يتمكن الخطباء أن يقولوا للناس: اتقوا الله بملء أفواههم، وحينما يكون في أفواه الناس والخطباء ما لا يستطيعون أن يبوحوا به، أو إذا بدأ أحدهم يتحدث فإنه يتحدث وكأنه في مزالق، حينما يكون ذلك فإنها لا تقوم الدعوة إلى الله عز وجل. ولذلك فإننا ننصح لمن يملك أمر المسلمين في كل مكان من الأرض أن يعطي الدعوة الإسلامية حريتها الكاملة حتى يختفي دعاة الباطل؛ لأن دعاة الباطل كالفئران، فحينما تسكن الحركة يتحركون، وكالخفافيش حينما يذهب الضوء تخرج في الظلام، لكن حينما تكون هناك دعوة إسلامية صحيحة على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تختفي تلك الفئران التي لا تخرج إلا حينما تهدأ الأوضاع، وتختفي تلك الخفافيش التي لا تخرج إلا في الظلام، وحينما يختفي النور فإن الظلام يخيّم على هذه الأرض، وحينئذ تكون الحركة للخفافيش وحدها في هذا الوجود، ويختفي دعاة الحق عن الساحة، وحينئذ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض. وعلى هذا فإن حرية الكلمة يجب أن تكون للمسلمين، ويجب أن تكون للدعاة، لكن يجب أن تكون منضبطة بحيث لا تمس أحداً لا يقف في طريقها، أما من وقف في طريق هذه الدعوة فإنها دعوة الله تعالى سائرة في الأرض ولو أسكتت في الأرض كلها، فلا بد من أن تمضي هذه الدعوة؛ لأن هذه الدعوة لا تستغني عنها البشرية أبداً، ولو أن أمة من الأمم عطّلت دعوة الله عز وجل لأصبح دعاة الباطل يقومون على قدم وساق، وحينئذٍ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض، وأخشى أن يكون أول من يقف في وجه هذه الدعوة هو أول من يتحمل مسئولية وثمن هذا الإسكات، بحيث يتحطم أمام هذه الدعوات الفاجرة؛ لأنها لا تريد الأخلاق ولا المبادئ ولا النظم ولا شرع الله عز وجل، ولا تؤمن بدولة تقوم على شرع الله عز وجل، فهي أكبر عدو لها، أما دعاة الحق فإنهم يحفظون هذا العهد الذي بينهم وبين الله عز وجل مع هؤلاء المسئولين. إذاً لا بد من أن يفسح المجال لدعوة الله عز وجل، وإذا فتح المجال لدعوة الله عز وجل فإن هذا العالم كله سوف ينضم إلى هذه الدعوة، وستتحطم تلك الأفكار وتلك المبادئ، وحينئذ يكون الدين كله لله عز وجل وحده.

الجليس الصالح

الجليس الصالح العامل الرابع من عوامل الاستقامة: الجليس الصالح. الجليس الصالح الذي شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كبائع المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما -على الأقل- أن تجد منه رائحة طيبة، هذا هو الجليس الذي أُمر كل واحد من المسلمين أن يحسن اختياره، وأخبر الله عز وجل بأن أي صديقين في الدنيا سيكونان عدوين يوم القيامة، إلا إذا كانت هذه الصداقة والصلة في الله عز وجل، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف:67]. والرجل الصالح قد يغتر بصديقه الفاسق أو الملحد أو المجرم أو المنافق فيأخذ من سلوكه وأخلاقه وانحرافه فينحرف معه، ولَكَمْ نرى في دنيا الناس اليوم من الشباب الصالحين الذين أساءوا اختيار الأصدقاء والجلساء فكان ذلك سبباً في انحرافهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) ونهى الله عز وجل عن موالاة الكافرين؛ لأن موالاة الكافرين سوف تحدث ذلك الانحراف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] إلى غير ذلك من الآيات. فالجليس الصالح هو الذي يصلح به جليسه ويطمئن إليه ويثق باستقامته وبخلقه ودينه وإيمانه, وحينئذٍ يكتسب منه استقامة إذا كان أقل منه استقامة.

العلم

العلم العامل الخامس: العلم. إنَّ لنا مأخذ على بعض أفراد هذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهو أن طائفة منهم لم يتزودوا بشيء من العلوم التي تنفعهم، لاسيما وأن هذه الصحوة عمت أصحاب العلم الشرعي وأصحاب العلوم الأخرى العصرية، وهذا كله خير، لكن المجال واسع لمن أراد أن يتعلم، فهناك المكتبات، وهناك العلماء، وهناك كل وسائل التعليم والإصلاح، فعلينا أن نأخذ بها، وحينما نقول: (العلم) لا نحصر ذلك على العلم الشرعي فقط. والله تعالى قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والأصل أن أول من يدخل في ذلك هم علماء شرع الله عز وجل، لكن ذلك لا يمنع أن يدخل في هذا الأمر العلماء العصريون الذين علموا شيئاً من علم الفلك، أو غاصوا في أعماق الأرض فعلموا شيئاً من علومها، أو اطّلعوا على أي نوع من العلوم في الهندسة أو في الطب أو في الكيمياء أو في أي شيء، كل هؤلاء في الحقيقة يُعتبرون علماء، وفي كل علم من هذه العلوم كنوز توصل هذا الإنسان إلى ربه عز وجل، وتعرفه بالله عز وجل، فالذين طاروا في الفضاء لو حكّموا عقولهم ونظروا نظرة مفكر متجرد لعرفوا الله عز وجل من خلال هذا الفضاء، والذين غاصوا إلى أعماق الأرض فرأوا شيئاً من مخلوقات الله عز وجل في هذا الوجود لو فكروا لعرفوا الله عز وجل حق المعرفة، والطبيب الذي يشرح هذا الجسم وينظر إلى العروق وإلى تلك الأجزاء أن كل واحد منها يؤدي دوراً لا يستطيع أن يؤديه جزء آخر يعرف الله عز وجل من خلال هذا العلم، وهكذا كل أصحاب الفنون يعرفون الله عز وجل. ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، ويقول عن العلوم العصرية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، ويقول عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21]. فهذه العلوم بجميع أنواعها تعتبر وسيلة من وسائل الإيمان بالله عز وجل، وطريقاً من أبرز طرق الإيمان ومعرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك نقول: إن العلم هو أكبر وسيلة للاستقامة، ونخصّ بصفة خاصة العلم الشرعي الذي يُعرفّ الإنسان بربه سبحانه وتعالى، فيعرف ربوبية الله عز وجل من خلال مخلوقاته وآياته الكونية، ويعرف وحدانية الله عز وجل من انتظام هذا الكون، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ويعرف الله عز وجل من خلال ما في نفسه من الآيات، وحينئذ يكون مؤمنا فّذاً يعرف الله عز وجل بآياته فيؤمن به حق الإيمان.

نظافة البيئة

نظافة البيئة من العوامل التي تسبب الاستقامة نظافة البيئة. والمراد بنظافة البيئة: أن لا تكون متلوثة بالمعاصي، ولربما يعيا علماء الاجتماع وعلماء التربية والمحبين للإصلاح والتوجيه والتربية بأن يقوموا بمهمتهم في بيئة متلوثة بالمعاصي والأقذار، ولذلك فإن المسلمين أُمروا بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر من أجل أن يكون ذلك طاعة لله سبحانه وتعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل أن يكون تنظيفاً للبيئة التي يعيش عليها المؤمنون حتى لا يتلوث إيمانهم بشيء من هذه المغريات أو شيء من هذه المحرمات. ولذلك فإن كثيراً من المربين في أيامنا لحاضرة يشكون من تلوث البيئة ومن الفساد المنتشر في المجتمعات البشرية، وهم يريدون أن يربوا هذا النشء تربية صالحة، ولربما يضطر بعضهم إلى أن ينفرد بمجموعة مدة من الزمن، ويعزلهم عن هذه البيئة الموبوءة، حتى يستطيع أن يربيهم وأن يعدهم إعداداً كاملاً. ولذلك لا بد من أن تكون هناك بيئة نظيفة لا تنتشر فيها الأغاني والمسرحيات والعشق والغرام والخيانات الزوجية، إلى غير ذلك من الأشياء التي انتشرت الآن من خلال هذه الأفلام المحرمة في حين غفلة من الرقابة، لا يجوز أن توجد هذه في بيئة يسعى من فيها من المصلحين إلى إصلاح هذا النشء وهذه الأمة، وحينما تنظف هذه البيئة وتصبح نقية طاهرة من هذه المعاصي حينئذٍ تكون جواً مناسباً لإصلاح هذا النشء وتربيته تربية صالحة.

تلاوة القرآن الكريم

تلاوة القرآن الكريم ومن أسباب الاستقامة: تلاوة كتاب الله عز وجل بتدبر وتفهم. والقرآن هو الذي يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ومعنى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: أصلح في الدنيا والآخرة. ولذلك فإن في تلاوة القرآن تعريفاً لهذا الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وربطاً له بالحياة الآخرة، وتنظيماً له -أيضاً- في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً تعريف بدين الله عز وجل تعريفاً حقاً حينما يتدبره هذا الإنسان تدبراً يتناسب مع عظمة هذا القرآن. ولذلك فإننا ندعو الشباب إلى حفظ القرآن ما داموا في أول الشباب، وحينما يعجزون عن هذا الأمر فإننا نطالبهم بأن يقرءوه قراءة صحيحة بتدبر وتفهم مع معرفة شيء من معاني هذا القرآن؛ لأن هذا القرآن هو الذي أنزله الله عز وجل ليكون شفاءً لما في الصدور وليكون وسيلة استقامة لهذه الأمة، وبمقدار إعراض الناس عن هذا القرآن تكون الشقاوة في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذا القرآن: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]. ولذلك فإننا نقول إن الفتن التي يعيشها الناس اليوم لا يخلصهم منها إلا الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه: (ستكون فتن. فقالوا: فما المخرج منها -وفي رواية: فما المخرج منها يا رسول الله-؟ فقال: كتاب الله وسنّتي) ويكفي أن الله تعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] أي: لا يضل في الدنيا عن الطريق المستقيمة، ولا يشقى في الآخرة بالنار والعذاب -والعياذ بالله-، وإنما يسير وفق خط مستقيم وطريق معتدل، لكنه حينما يعرض عن هذا القرآن فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا، وهذه المعيشة ليست معيشة الفقراء وهم يعيشون في الأكواخ أو في البيوت المتهدمة، أو يعيشون في غياهب السجون وهم يشعرون مع ذلك بلذة الإيمان، ليست هذه هي المعيشة الضنك وإنما المعيشة الضنك: هي التي يعيشها الإنسان داخل قلبه وإن كان في قصر منيف؛ لأن المعيشة الضنك داخل القلب لا على الجسد. ولذلك فقد أخبرنا الله تعالى بأن لذة الإيمان تعطي المؤمنين أكبر وسيلة للسرور في هذه الحياة الدنيا، وأخبرنا الله عز وجل بأن هؤلاء الظلمة الفسقة العصاة وإن كانوا في أعلى مكان في هذه الأرض وفي أعظم متاع فإنهم يعيشون في ضنك، أما أولئك المؤمنون وإن كانوا في غياهب السجون وإن كانوا في أكواخ متهدمة فإنهم يعيشون في لذة الإيمان، يقول الله تعالى عن هذه اللذة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وهذه الحياة الطيبة قد لا نشاهدها في بيته أو في أثاثه أو طعامه أو شرابه، وإنما هو يدركها في قلبه وهو يشعر بلذة الإيمان، ويقول الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]. إن لذة الإيمان هي اللذة التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.

تذكر الحياة الآخرة

تذكر الحياة الآخرة من عوامل الاستقامة: تذكر الحياة الآخرة. وتذكر الحياة الآخرة ينغص على الطغاة عيشهم ولذتهم, وإن كان كثير منهم في غفلة لا يفكر ولا يتذكر الحياة الآخرة، وكثير منهم -أيضاً- لا يؤمن بالحياة الآخرة مطلقاً، لكن المؤمنون حينما يتذكرون الحياة الآخرة وما أعد الله عز وجل للمؤمنين من سعادة خالدة لا تنقضي أبداً: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:108] يزيد ذلك في إيمانهم وفي إقبالهم على الله عز وجل وفي تمكنهم من دين الله سبحانه وتعالى وفي استقامتهم. ولذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نكثر دائماً من ذكر هاذم اللذات، وهو الموت، والقرآن في كثير من آياته يحدثنا عن الموت وعن الحياة الآخرة، وعن البعث، والنشور، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، وما أشبه ذلك من أمور الآخرة. ولذلك فإن المؤمن حينما تقع هذه الأشياء في سويداء قلبه ويؤمن بها إيماناً كاملاً وكأنه ماثل بين يدي الله عز وجل للحساب، أو كأنه على حافتي الصراط، أو كأنه بين كفتي الميزان، أو كأنه يأخذ صحيفته بيمينه، حينما يتذكر هذه المواقف تهون في طريقه هذه الحياة الدنيا، وحينئذ يكون ذلك سبباً من أسباب استقامته بإذن الله عز وجل.

التعرض للبلاء والمصائب والفتنة في الدين

التعرض للبلاء والمصائب والفتنة في الدين ومن عوامل الاستقامة: الضغط على المؤمنين. والحقيقة أن هذا السبب يصلح أن يكون عاملاً من عوامل الاستقامة، كما أنه قد يكون في بعض الأحيان عاملاً من عوامل الانحراف، فالمؤمن الحق حينما يتعرض للأذى في دينه ويُفتن في دينه وتفتح له السجون ويوجه له اللوم والعتاب والسخرية: انظروا إلى لحيته! انظروا إلى ثوبه القصير! انظروا إلى كذا، انظر إلى كذا، فالمؤمن لا يزيده ذلك إلا إيماناً بالله عز وجل، ويعرف أنه لولا أنه على حق لما كان يوجه إليه مثل هذا العتاب وهذا النقد؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]، ثم تتغير المعايير في الآخرة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:34 - 35]، والمسلم حينما يعيش حياة الضعط والإيذاء في دينه يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعرف أنه ما أوذي في دينه إلا لأن هذا الدين فيه قوة وفيه صلابة، ولذلك يقول الشاعر: لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ما كاد يُدرَى طيب عَرْفِ العودِ لو جئت بقطعة من العود الطيّب النفيس فشممته فإنك لن تشم له رائحة زكية طيبة حتى تشعل النار حوله وتضعه في هذه النار، فتخرج رائحة هذا العود أحسن ما كانت. ولذلك جعل الله تعالى هذه الفتن تمحيصاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، فإن الإيمان يضعف، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا المبدأ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: متى نصر الله؟! والمؤمنون وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم بأعينهم يقولون: متى نصر الله؟! هذه فتنة لم يحصل لها نظير أبداً في عالم الناس اليوم ولا ما قبل هذا اليوم، إلى درجة أن الرسل أنفسهم يستبطئون نصر الله عز وجل. ويقول سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، ثم يقسم الله جل جلاله فيقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]. ثم يتوجه مرة أخرى إلى هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين في دينهم، ولربما يصرفون طائفة من الناس عن دينهم بسبب هذه الفتن القاسية، وبسبب هذا الإيذاء العنيف الذي يوجهونه إلى المؤمنين، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، ثم إن هذه السورة تختم بمثل ما بدئت به: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وفي وسطها قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10] أي أن من الناس ضعاف الإيمان قوم لا يتحملون الفتن، فأحدهم يقول: أنا فررت من عذاب الآخرة إلى الجنة، وإذا كان في فراري هذا عذاب لي في الدنيا فأنا لا أتحمل -نعوذ بالله-، فأنا فررت من العذاب فكيف أوقع نفسي في عذاب الطغاة والمتجبرين! إذاً أتحمل عذاب الآخرة ولا أتحمل عذاب هؤلاء الطغاة؛ لأنه أمام عيني الآن. يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:10] أي: إذا أوذي من أجل الله عز وجل {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:10] أي: في الدنيا وعذاب الناس {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] في الآخرة. إذاً طريق الجنة ليس مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، طريق الجنة ليس معبداً وإن كان واضحاً، طريق الجنة فيه فتن، فما على هذا المسلم إلا أن يتحمل من أجل الله عز وجل وفي ذات الله، وحينئذٍ يستطيع أن يستحق الشهادة الكبرى من الله عز وجل بأنه من المجاهدين في الله عز وجل. فمن الأسباب هذه الفتن التي تعترض طريق بعض المؤمنين في سبيلهم وسيرهم إلى الله عز وجل، والمسلم يجتاز هذه المرحلة كما اجتازها أسلافه الأوائل رضي الله عنهم، الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أتوا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع في حفرة ثم ينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). فالفتن يجب أن يتحملها المسلم إذا كانت في ذات الله عز وجل، وإن كثيراً من إخواننا في العالم الإسلامي يلاقون هذه الفتن، فمنهم من يصبر ويحتسب، ومنهم من يرجع من منتصف الطريق فيكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف بين الإيمان والكفر {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

سؤال الله عز وجل الثبات

سؤال الله عز وجل الثبات كل ما ذكرنا كله يعتبر من أسباب الاستقامة، وآخر وأول سبب من أسباب الاستقامة هو سؤال الله عز وجل التثبيت. والتثبيت يكون بنصر دين الله عز وجل، فإن من نصر دين الله صادقاً ثبّت الله أقدامه عند الفتن والمحن، كما قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] والتثبيت هو الذي يجب على المسلم أن يسأله الله دائماً، فعلى المسلم أن يلح على الله بالدعاء أن يثبت قلبه على الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تنحرف به الفتن عن الطريق المستقيمة، والرسول صلى الله عليه وسلم خير البرية -وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هدى الله البشرية على يديه- كان كثيراً ما يقول: (اللهم! يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على طاعتك)، وقال: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله التثبيت فما على أي واحد منا إلا أن يسأل الله دائماً أن يثبته على هذا الدين وعلى هذا الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تؤثر فيه الفتن، وحتى لا يستطيع أحد أن يزيله من مكانه الذي ثبته الله تعالى عز وجل عليه، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] وتثبيت الحياة الدنيا هو أن لا يتراجع عن طريقه الذي هداه الله عز وجل إليه. وتثبيت الآخرة هو عند الموت وفي القبر، فالإنسان إذا ثبته الله تعالى في الحياة الدنيا على المنهج السليم أيضاً يثبته الله تعالى على المنهج السليم وهو في قبره، حينما يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ما علمك؟ فالمؤمن يثبته الله تعالى ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا الرجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأت كتاب الله وآمنت به. وهناك طائفة من الناس لربما يغترون بمستوى الإيمان الذي وصلوا إليه، أو بمقدار العمل الذي هُدوا إليه، فيصابون بالغرور -نعوذ بالله من الغرور-، ثم إذا بهذا الغرور يفسد عليهم دينهم ودنياهم، فإذا بهم ينقلبون رأساً على عقب، لأنهم لا يسألون الله عز وجل أن يثبتهم على دين الإسلام، وأخشى أن يكثر هذا النوع المتقلب الذي نشاهده في بعض الأحيان، فلا نكاد نُسرّ باستقامة فلان من الناس إلا ونفاجأ بانحرافه. ولذلك علينا دائماً أن نسأل الله عز وجل أن يثبت أقدامنا، فإن الأمة الإسلامية تعيش فترة لم يكن لها نظير في تاريخ البشرية أبداً، فترة يتجه فيها الناس إلى ربهم عز وجل، ثم إذا بالطغاة في جُلّ العالم يتجهون إلى صد هؤلاء الشباب عن دينهم، وإذا بمطارق الكافرين توجه إلى المؤمنين، وكل وسائل الدمار توجه إلى هؤلاء المؤمنين إلا ما شاء الله عز وجل، ولذلك نقول: نسأل الله تعالى أن يثبتنا وأن يثبت المسلمين على هذا الطريق المستقيم.

أسباب الانحراف

أسباب الانحراف

الجليس السيء

الجليس السيء كما أن للاستقامة أسباباً فإن للانحراف أسباباً أيضاً. فأهم أسباب الانحراف هو الجليس الفاسق أو الكافر، وكما عرفنا في أسباب الاستقامة الجليس الصالح بأنه مثل حامل المسك فإن الجليس الفاسق هو الذي شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير، ونافخ الكير لابد من أن ينالك منه أذى لو جلست عنده، (فإما أن يحرق ثيابك) بما يقدم لك من المعاصي، (وإما أن تجد منه رائحة خبيثة)، إذا لم يصل إلى درجة إحراق ثيابك. ولذلك نقول: إن هؤلاء الذين ضلوا الطريق على أيدي هؤلاء الفسقة حينما أساءوا اختيار الجلساء هؤلاء لا يلومون إلا أنفسهم، كما أننا نوجه كلمة إلى هؤلاء الآباء الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه الذرية التي ربما أن كثيراً منها لم يُميز بعد بين الحق والباطل، نلوم هؤلاء الآباء حينما لا ينظرون فيمن يجالس أبناءهم، وحينما لا يعرفون من يخالط هؤلاء الأبناء. فاحذر -أيها المسلم- من جلساء السوء، فإنهم ينتشرون في بلاد المسلمين كما يجري الشيطان من بني آدم مجرى الدم، بل إنهم هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولعل أكبر سبب من أسباب مقارنة هذا الشيطان الفاسق لهذا الرجل الصالح ليحرفه عن الطريق هو أن ذلك الصالح عشا عن ذكر الرحمن، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]. ولذلك ابتلي كثير ممن تولى أمر المسلمين بجلساء سوء وببطانة سوء بسبب إعراض أولئك عن دين الله عز وجل، والله تعالى يقول: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) [الزخرف:36] فهذا الشيطان لا يفارقه حتى يدخله النار، ثم إذا أدخله النار بدأ ذلك المقارن يتمنى أن لو لم يغتر بهذا الجليس الفاسق.

الاكتفاء بالتدين الوراثي

الاكتفاء بالتدين الوراثي ومن أسباب هذا الانحراف الاقتصار على التدين الوراثي. ومعنى التدين الوراثي أن يولد إنسان في بيئة متدينة، ولكن هذا الإنسان لم يفكر بعد في أصل دينه أو أوامر الله عز وجل وفي هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله عز وجل، لكنه وجد أباه يصلي فصار يصلي كما يصلي أبوه، ووجد أمه تصوم فهو يصوم كما تصوم أمه، وأهله يذكرون الله فهو يذكر الله مثلهم. تجد هذا النوع من الإيمان -الذي لم يتعمق في القلب ولم يصل إلى سويداء القلب- سريع التأثر وسريع الانحراف، ولذلك فإن كثيراً ممن عرفوا الله عز وجل من هذا الجانب، أو ممن تدينوا من هذه الناحية تجد أحدهم كثيراً ما يتغير ويتقلب، وإن لم يتغير أو يتقلب فإنه يصاب على أيدي هؤلاء المخربين الذين يفتنون الناس عند دينهم بكثير من الشكوك والفتن، ولربما ينتهي به المطاف -نسأل الله العافية- إلى أخطر انحراف، ولذلك فإن على هذا النوع من الشباب أن يعرف الله عز وجل من خلال آياته الكونية والتدبر في آيات القرآن الكريم.

الازدواجية في حياة الناس

الازدواجية في حياة الناس ومن الأسباب الخطيرة الازدواجية في حياة الناس. ومعنى الازدواجية: أن يكون في عالم الناس خير وشر اختلط أحدهما بالآخر، ولم يتميز الخير عن الشر، ولم يتميز الشر عن الخير، فيصبح الطفل الذي ولد في عصر الازدواجية -كعصرنا الذي نعيشه اليوم- إن لم تتداركه عناية الله عز وجل ولم تسعفه قدرة الله عز وجل، وإن لم يوجه توجيهاً صحيحاً فإنه حينما يكبر وينمو ويترعرع وقد ولدت في عقله وفي مخيلته أمور لا يميز فيها الخير من الشر، فيكون هذا النوع غالباً ممن أصيب بهذه الازدواجية. والحقيقة أن عصرنا الذي نعيشه اليوم فيه هذه الازدواجية، كما نرى أن فلاناً من الدعاة أو العلماء له ولد فاسق أو منحرف، والله أعلم بما يعمله، وفلان الذي هو من أصول عريقة طيبة أصبح يخالف هذه الأصول، وهكذا. حتى في البرامج التي يشاهدها الناس أصبح يختلط فيها الخير والشر، فهذه أغنية وذاك حديث، وهذه آيات قرآنية وتلك مسرحية، والنشء لا يعرف الخير من الشر، ولربما يقع في ذهنه أن كل ما يشاهده شر، فيخرج مجرماً يكره هذا الدين، أو ربما يبقى هذا كله خيراً في ذهنه وفي عقله، وحينئذ يصبح لا يميز بين الخير وبين الشر. ولذلك فإن هذه الازدواجية يجب أن يكون بجوارها رجال عقلاء يميزون لأطفالهم ولأبناء المسلمين الخير من الشر، حتى لا يختلط الخير بالشر؛ لأننا نرى في أيامنا الحاضرة اختلاطاً بين الخير والشر، فأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولهذا فإن الازدواجية تُكَوِّنُ شخصيتين متعارضتين في عقلية هذا الطفل، ثم ينشأ هذا الطفل وهو لا يميز بينهما، أو كلتاهما يعتبرهما فسقاً، أو كلتاهما يعتبرهما طاعة، ولربما يخرج وهو يظن أن الفسق طاعة أو أن الطاعة فسق، وحينئذ يصبح هذا الأمر خطيراً، فعلينا أن نحيط أبناءنا وشبابنا بحواجز منيعة عن هذه الازدواجية حتى لا تفسد عليهم دينهم وأخلاقهم.

سوء التربية

سوء التربية ومن أسباب الانحراف سوء التربية. فلَكَم رأينا في عالمنا اليوم من أبناء أهملهم الآباء وانشغلوا عنهم بحطام الحياة الدنيا وجمع هذه الغنائم التي أصبحت محط الأنظار، وغفلوا -أو تغافلوا- عن أغلى شيء في هذا الوجود، وهو هذه الذرية، فأصبح الأطفال يتولاهم مُربّ أو مربية، ولربما يذهب بهم بدل المدارس الإسلامية إلى مدارس يرعاها الفسقة أو الكفرة، فتنشأ الناشئة على الشر، والولي الذي يتحمل مسئوليتها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة. ولقد أمر الله عز وجل هذا الإنسان أن يربي ذريته وفق منهج صحيح حتى يجني ثمارهم في الدنيا وفي الآخرة، وكثيرٌ من الناس قد غفل عن أغلى شيء في هذا الوجود وهو الذرّية، فنشأت ذرية منفصلة حتى عن العواطف البشرية، بل عن العواطف التي أعطاها الله عز وجل للحيوان، فإن كثيراً من الآباء لا يرى ولده إلا نادراً، يربى في المحاضن، أو في رياض الأطفال، أو في غير ذلك، ثم إذا بهذا الطفل يخرج وهو لا يشعر بالعاطفة التي أعطاها الله عز وجل الحيوان. فأهم شيء في هذا الوجود هو هذه الذرية؛ فإن رسالة الإسلام التي حملها الله تعالى هذه الأمة التي هي أفضل أمة وخير أمة أخرجت للناس ورسالتها آخر الرسالات وكتابها آخر كتاب لابد من أن تكون فيها تربية طيبة لهؤلاء الأطفال حتى يتحملوا هذه المسئولية فينقلوها من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

نشاط دعاة الباطل

نشاط دعاة الباطل ومن أسباب الانحراف نشاط دعاة الباطل. والله المستعان على ذلك، فدعاة الباطل ينشطون في أيامنا الحاضرة، ونشاطهم يتكثف بمقدار بما يضعف المسلمون عن الدعوة إلى الله عز وجل كما قلنا سابقاً، وهؤلاء الدعاة نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين: القسم الأول: دعاة من الخارج يكرهون هذا الإسلام ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وكانوا يعملون ضد هذا الدين منذ أمد بعيد، ومنذ أن قامت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، ولكنهم خسئوا في طريقتهم حينما لجئوا إلى السلاح وحينما أرادوا أن يحاربوا الأمة الإسلامية بالقوة، وحينئذ عجزوا فقالوا: عليكم بالحرب الباردة -ويقصدون بهذه الحرب الباردة حرب الأفكار- ووجهوا كل الطاقات من أجل أن ينحرف أبناء المسلمين. ولكنهم خسئوا -أيضاً- ونحمد الله عز وجل على ذلك، وإن كانوا قد نجحوا في بعض المجالات فربوا على أعينهم شباباً من أبناء المسلمين، وقال قائلهم بلفظته الصريحة: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها. ويقصدون بذلك أن يربوا من أبناء الإسلام من يحارب الإسلام نفسه، ومن هنا قامت قائمة شنيعة فظيعة خبيثة ممقوتة، حيث أصبح الإسلام يحارب ببعض أبنائه، ولو كان الإسلام يحارب بـ أبي لهب وأبي جهل لكان الأمر أهون، لكن الإسلام في أيامنا الحاضرة أصبح يحارب بسعد وسعيد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وأحمد، فأصبحت المصيبة أكبر. لقد حققوا آمالهم في بعض هذا الأمر، ولكننا واثقون بإذن الله عز وجل أن الله تعالى سوف يتم نوره وسوف يظهر هذا الحق، وأن الله تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولذلك فإننا على ثقة تامة بأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا الإسلام أبداً، وإن بذلوا الجهود المضنية فإنهم لا يستطيعون ذلك، ولقد رأيت بعينيّ شباباً من أبناء أفريقيا رُبّوا في بلاد الغرب، وصاروا قسساً فأصبحوا يُنصّرون أبناء المسلمين، ولكنهم لم يكسبوا في مدة طويلة مع إنفاق أموال باهظة صرفت في هذا السبيل إلا النزر القليل، مثلاً: يأخذون طفلاً يربونه من أيام طفولته على النصرانية، ولقد رأيت بعينيّ تسعة من أبناء أريتريا ربوا في إيطاليا، فرجعوا قسساً فنصّروا -كما يقولون-: ثلاثة عشر ألفاً، ثم هداهم الله للفطرة، فردّوا إلى الإسلام أضعاف من نصّروهم، رأيتهم بعيني وهم الآن يعيشون في بلاد السودان. إذاً نحن مطمئنون، ولكننا نطالب الأمة الإسلامية بأن تكافح دعاة الباطل حتى لا تقوم لهم قائمة، وأن تبدأ بعبد الله وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأحمد قبل أن تبدأ بالبعيد؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]. وبعد ذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بمعجزته، وإن هذه المعجزة التي تتحقق اليوم في عالمنا وفي واقعنا قد حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر ثم جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه يا رسول الله! قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قال حذيفة فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). فهم من جلدتنا لم يأتوا من أوربا ولا من أمريكا، ولكنهم من أبناء المسلمين ولدوا على الفطرة وفي بيوت الفطرة وفي بلاد الفطرة، ولربما يكون منهم من ولد في البلاد المقدسة، ولربما يكون ممن ولد حول الكعبة المشرفة، أو حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين. إذاً هذه المعجزة تعطينا علماً حتى لا نفاجأ حينما نعلم بأن فلاناً وفلاناً من الناس يسعون لهدم الإسلام بأيديهم وأيدي الكافرين، إما من خلال الصحف، أو من خلال المجلات، أو من خلال الكتب، أو من خلال جلسات سرية أو علنية. ونحن نطالب المسئولين بأن يوجهوا كل العيون وكل الرقابة إلى هؤلاء، أما هؤلاء المؤمنون الذين يصعدون على المنابر ويقولون للناس: اتقوا الله فهؤلاء لا يحتاجون إلى مراقبة، والله الذي لا إله غيره إنهم مخلصون للدولة ما دامت تقيم شرع الله عز وجل، والله الذي لا إله هو إنهم يعتبرون في قلوبهم عقداً بينهم وبين الله عز وجل في الولاء للدولة التي تحكّم شرع الله عز وجل. إذاً يجب أن يعرف المسئولون كيف يكافحون الشر والفساد، ولا يجوز أن توجه الرقابة إلى المساجد؛ فإن المساجد لا ينشأ منها إلا الخير والإيمان؛ لأن الله عز وجل يقول عن هذه المساجد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] حينما ذكر الإيمان الذي هو: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] هذا هو الإيمان، لا يكون إلا في المساجد، فالمساجد لا تعطي الدنيا إلا الإيمان، ولا تعطي الحكومة إلا الولاء، ولا تعطي المسئولين إلا الطاعة حينما يستقيمون على دين الله عز وجل. أما أولئك الذين يستغلون وسائل الإعلام، والذين يطعنون في دين الله عز وجل وفي الله عز وجل، ويطعنون في محمد الهاشمي صلى الله عليه وسلم كما سمعنا شيئاً من أخبارهم، ويمدحون أم جميل أروى بنت حرب زوجة أبي لهب فهم الذين يجب أن توجه إليهم الرقابة، نقول هذا الكلام، ونتحمل مسئوليته، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك. أسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا على الإيمان حتى نلقى الله عز وجل لم ننقض العهد الذي بيننا وبينه غير مغيرين ولا مبدلين. كما نتوجه إلى الله عز وجل بأن يحفظ على الأمة الإسلامية دينها وأخلاقها، وأن يثبت أقدامها. كما نسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل أمرنا وأمر المسلمين كافة فيمن خافه واتقاه ونفذ أحكامه وأقام كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق حكومتنا ببطانة صالحة تدلها على الخير وتحذرها عن الشر. كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفق الأمة الإسلامية وقادتها إلى ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

خطر الازدواجية بين الخير والشر

خطر الازدواجية بين الخير والشر Q نرجو توضيح دور الآباء أو ما يمكن أن يفعله الآباء في سبيل تجنيب أبنائهم الازدواجية الخطيرة بين الخير والشر وعدم التفريق بينهما والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان؟ A بسم الله الرحمن الرحيم. هذه الازدواجية خطيرة جداً؛ لأن الشر والخير دائماً في هذه الحياة يتصارعان، وهذه سنة الله في هذه الحياة، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود:116]، وهذا دليل على أن الخير موجود والشر موجود في الأرض، لكن المعروف أن الفساد منعزل عن الخير والخير منعزل عن الشر، أما أن تكون ازدواجية بهذا الشكل فنفاجأ بإنسان نجده يمتاز بتدين وله أخلاق وله فضائل ثم نجده من جانب آخر له سيئات كبيرة فهذا نوع من الازدواجية، أو أشياء تصل إلى بيوت الناس من هذه الأفلام المحرمة فتقرن بين الخير والشر، ويختلط فيها الخير بالشر، فهذه أشياء يجب أن يميز كل واحد منها عن الآخر، وأنا ضد الذين يدعون إلى مزاحمة الشر بالخير، فأرى أن ينعزل الخير عن الشر، لكن حينما يكون ذلك فأنا أدعو الذين لهم سلطة أن يميزوا أحدهما عن الآخر، وإذا لم يكن ذلك فندعوا كل صاحب بيت إلى أن يميز أحدهما عن الآخر إن استطاع، وإن لم يستطع فإن عليه أن يجنب هذا البيت كل هذه الأشياء، وأن يقف سداً منيعاً على باب داره حتى لا تتسرب إليه هذه الأشياء فتوجد في نفوس أبنائه وذريته ونشئه هذا الخطر الشديد الذي أخشى منه أن يأتي يوم على هؤلاء الأطفال -حينما يختلط ذلك بعقولهم ودمائهم ولحمهم وعظامهم- لا يميزون فيه بين الخير والشر.

خطر الفساد في وسائل الإعلام

خطر الفساد في وسائل الإعلام Q أكثر ما تحصل الازدواجية ويختلط الخير بالشر في وسائل الإعلام، سواء أكانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية، فنريد توضيحاً أكبر لأولياء الأمور وما يقع عليهم من مسئولية تجاه هذه الوسائل، خاصة أنّا قد سمعنا كثيراً من علمائنا الذين نثق بعلمهم ودينهم أنهم يحرمون هذه الوسائل أشد التحريم لما فيها من الفساد؟ A حينما نتحدث عن الازدواجية فهي ليست خاصة بالوسائل المرئية، بل هي موجودة في المرئية وفي المسموعة وفي المقروءة وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إنك -يا أخي- حينما تشتري صحيفة أو مجلة تحتوي على هذا النوع فإنك حينما تضعها في بيتك ستوجد الفتنة بين أولادك، وحينما تأتي بوسائل تنشر لك هذه الأشياء فتخلط لك الخير بالشر وهي مرئية فإنها ستسبب لك هذا الخطر، وحينما تريد أن تقتني كتاباً في مكتبتك فعليك أن تحسن اختيار هذا الكتاب حتى لا يكون -أيضاً- من هذا النوع الذي نحذر منه.

نصر الله قريب

نصر الله قريب Q من أسباب الاستقامة نصر الله، فأرجو أن توضح لنا كيف ينصر الله عز وجل؟ A ليس من الأسباب نصر الله، ولكني أقول: إن نصر الله عز وجل هو الذي ننتظره، وهو الذي يخلص المسلمين من الفتن التي يعيشونها، والمراد بنصر الله سبحانه وتعالى ما يؤيد الله به أولياءه، سواءٌ أكان في المعركة مع العدو الكافر، أو مع العدو الحاقد الذي يلبس ثياب المسلمين ويحمل في جيبه الهوية الإسلامية، إن هذا هو النصر الذي ننتظره من الله سبحانه وتعالى.

ضرورة الأخذ بوسائل الثبات ودعوة المنتكسين

ضرورة الأخذ بوسائل الثبات ودعوة المنتكسين Q كان هناك شاب متدين، ثم ما لبث أن انتكس وكسب كثيراً من المعاصي، فنريد توجيهاً للشباب في هذا الأمر؟ A في الحديث (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء) ولذلك نحن إذا رأينا إنساناً منحرفاً فلن نيأس منه، كما أننا إذا رأينا إنساناً مستقيماً فلن نشهد له بالجنة حتى يموت على ملة الإسلام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك). ولذلك فإن علينا أن نقوم بعمل جاد لإرجاع مثل هذا الشاب إلى الحق، لاسيما أنه شاب رأى الحق بعينيه، وعاش معه فترة من الزمن وألفه، ولربما يكون تراجعه أيسر من كسب إنسان آخر جديد للاستقامة. ومن خلال ذلك -أيضاً- أقول: يجب أن يجدّ الدعاة في كسب هؤلاء الشباب الذين لم يوفقوا بعد إلى هذه الصحوة المباركة التي منّ الله بها على كثير من شباب المسلمين، فلا بد من النشاط في الدعوة، والحمد لله فإن الوسائل ميسرة الآن، والدعوة إلى الله عز وجل هي أفضل السبل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]. وأقول أيضاً للإخوة: احذروا أن يكون مصير أحد منا كمصير ذلك الشاب، ولربما يكون هذا الشاب مرت به ظروف قاسية، أو أنه أصابه شيء، فعلينا أن ندرس نفسية مثل هذا الشاب ومن على شاكلته، حتى ذلك السبب الذي كان سبباً لانحرافه، فنرده من حيث خرج، ثم -أيضاً- نستفيد من خلال هذا الأمر بحيث نستطيع أن نحصن -بإذن الله عز وجل- مجموعة أخرى من الشباب من الخطر في عصر الفتن.

جواز إعطاء المكافآت لمن يحفظون القرآن

جواز إعطاء المكافآت لمن يحفظون القرآن Q رجل عوّد أولاده على منح الجوائز لهم عند قيامهم بحفظ كتاب الله، ويريد أن يربطهم بالجزاء من الله لكي يكون عملهم خالصاً لوجه الله وليس لأجل المكافأة، فكيف يصنع؟ A الحقيقة أن هذه المكافأة والإغراءات طيبة جداً، وهذا من الجعل الذي جاء به الإسلام، ولذلك نرجو من الآباء أن يشجعوا الأبناء، ولو أدى ذلك إلى تمييز بعض الأبناء عن بعض في سبيل الاستقامة، دون أن يكون هناك شطط في الهبة؛ لأن الله تعالى حرم ذلك. وعلى هذا نقول: إذا عودت أبناءك على أن تشجعهم على الاستقامة بشيء من هذا المال أو بشيء من المتاع فلا مانع من أن تسير في هذا الطريق، ولا يمنع ذلك أن تفضل أحداً منهم على أحد -دون إفراط- في سبيل دعوتهم إلى الاستقامة، ولو أردت أن تنتقل من هذا الطريق إلى طريق أخرى بحيث تردهم إلى الحق دون أن تكون هناك إغراءات أو مكافآت فأيضاً هذا أمر سهل؛ لأنك حينما ترغبهم بهذا الدين وتبين لهم أن الجزاء من عند الله عز وجل أفضل بكثير من هذه الإغراءات المادية التي تقدمها لهم فإنهم في مثل هذه الحالة يقتنعون بإذن الله تعالى.

ضرورة اختيار الزوج الصالح

ضرورة اختيار الزوج الصالح Q رجل كانت له بنت صالحة، فزوجها رجلاً يشرب الخمر ويتهاون بالصلاة، فكيف تستطيع هذه المرأة أن تحسن تربية أبنائها؟ A الحقيقة أن هذه مشكلة يخطئ فيها كثير من الآباء، ولذلك أقول: من المؤسف أن طائفة من الآباء حينما يخطب منهم خاطب لا ينظر بعضهم إلا إلى جانب آخر، وهو إما المركز، وإما المال، وإما الشرف والنسب أو ما أشبه ذلك، وهذه بلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن نختار الزوج الصالح، فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). وهذه الفتنة وهذا الفساد العريض هو الذي يسأل عنه مثل هذا الأخ، ونحن كثيراً ما نفاجأ من خلال الاستفتاءات بالتلفون بما هو من هذا، مثل بنت زوجها أبوها رجلاً يشرب الخمر، وأخرى زوجها أبوها رجلاً لا يصلي، وهكذا. والحقيقة أن مثل هذا السؤال لا يجوز أن يكون في مثل هذا الوقت، وإنما يجب أن يكون في وقت الخطبة، فالله عز وجل جعلها أمانة في عنق هذا الأب لا يجوز أن يسلمها إلا لمن يستحق هذه الأمانة. ولذلك نقول: إذا كانت تعيش مع رجل لا يصلي فإن الحياة محرمة في مثل هذه الحال، ويجب عليها فوراً أن تطلب الفراق، بل يجب على الأب قبل ذلك أن يطلب الفراق، والمحكمة إذا بلغها مثل هذا الخبر لا بد من أن تطلّق إذا لم يطلّق ذلك الإنسان؛ لأن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تبقى في عصمة رجل كافر؛ لأن الله تعالى نهى عن الاستدامة فكيف الابتداء، فقال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن ترك الصلاة كفر وردّة عن الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: (فمن تركها فقد كفر). ولذلك أقول: إذا زوجت ابنتك -يا أخي- برجل يشرب الخمر أو لا يصلي فعليك أن تبادر بحل عقدة النكاح قبل أن يكون هناك ولد، لكننا نطالبك قبل ذلك أن تبحث عن هذا الرجل الخاطب قبل أن تزوجه ابنتك، وقبل أن تسلم له فلذة كبدك، وحينئذٍ سينجب لها أولاداً فَسَقة؛ لأن الفسق قد ينتقل مع هذه النطفة، خصوصاً بالنسبة لمدمن الخمر، نسأل الله العافية والسلامة.

حكم استخدام وسائل الترفيه للدعوة إلى الله

حكم استخدام وسائل الترفيه للدعوة إلى الله Q يستخدم بعض الدعاة طرقاً خاطئة للدعوة إلى الله، ومن ذلك ما يدعو إليه بعض الدعاة من استخدام ما يسمى بالأناشيد الإسلامية، أو اللعب بالكرة، أو المسرح، ويزعمون أن ذلك من وسائل الدعوة إلى الله، مع أنها في الواقع قد جرت كثيراً من الشباب إلى نوع انحراف وفساد وترك للقرآن وتفضيل لهذه الأمور على حفظ القرآن، بل على الصلاة، فما رأيكم؟ A أنا أخالف هذا الرأي، وأقول: هذه وسائل وليست غايات، فإن هذه الأناشيد الإسلامية التي امتلأت بها المكتبات الصوتية -والحمد لله- أغنت كثيراً من الناس عن الأغاني، مع أنها تحمل معاني فاضلة، وتثير حماس المؤمنين لدينهم. وكذلك ما أشار إليه الأخ السائل من الكرة، فنحن نقول: الكرة ليست لذاتها وإنما لغيرها؛ لأن كثيراً من الشباب أُشرب بحب الكرة وشيء من الترفيه واللعب، وما دامت تجذب لنا عدداً من هؤلاء الشباب فإننا نقول: إنها وسيلة طيبة لا مانع من أن يستخدمها الدعاة من أجل أن يجلبوا هؤلاء الشباب من مواقع معينة يقومون فيها بممارسة هذه الألعاب إلى مواقع أخرى نضمن فيها صلاح هؤلاء الشباب. فنقول: هذه وسائل وطرق طيبة ما دامت وسائل وليست غايات، وهذه المسرحيات التي أشار إليها السائل التي يعملها هؤلاء الشباب ويقدمونها لبعضهم من أجل أن يثبتوا فكرة معينة في أذهان هؤلاء الشباب، أو من أجل أن يشغلوهم عن مسرحيات أخرى فيها ضرر كبير، أو من أجل يأخذوا هذا الشاب ويجذبونه من حيث يرغب، هذه كلها وسائل طيبة ما دام الهدف من ورائها طيباً، والله أعلم.

تبرج النساء من أشد الفتن خطرا على المجتمع

تبرج النساء من أشد الفتن خطراً على المجتمع Q أحياناً يمر ببعض الشباب غفلة من كثرة تبرج النساء وعدم الاهتمام من الآباء بذلك، فيزداد الفساد، وتزداد الأمور شراً، فما قولكم؟ A الحقيقة أنني أعتبر التبرج من أخطر الأمراض التي تلوث البيئة، فمن أسباب الانحراف (تلويث البيئة)، ذلك أن الشهوة الجنسية البشرية التي ركبها الله في هذا الإنسان لها طاقة شديدة قد يندفع معها الإنسان ويتجرد من عقله وينطلق بعاطفته. ولذلك أقول إن التبرج من أخطر الأمور التي توجد الفاحشة في المجتمع، ومن أكبر الأمور التي تصرف طائفة من الشباب عن دينهم ومبدئهم، فهي من أعظم المغريات. والتبرج جعله الله تعالى سبباً من أسباب الزنا، ولذلك إذا قرأت سورة النور في نصفها الأول -حينما تكلم الله تعالى عن الزنا- ذكر من أسبابه (التبرج) فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31]. وقوله تعالى: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] يدل على أن هناك صلة وثيقة بين النظر وبين الفعل، وعلى هذا فإن التبرج من أخطر الأمور، وهو اليوم يبرز، ولعل بروزه مرتبط بهذه الصحوة الإسلامية، ذلك أن أعداء الإسلام الذين يكرهون الإسلام ويكرهون التوجّه إلى الله عز وجل، ويجدون أن هذه الصحوة الإسلامية عبئاً ثقيلاً عليهم أرادوا أن يبثوا هذا الفساد في هذا المجتمع، فيشجعون المرأة على التبرج. ولذلك لا نفاجأ عندما نرى كثيراً من صحف المسلمين تتكلم عن حقوق المرأة وحرية المرأة، وأن المجتمع نصفه معطل، أو لا يتنفس إلا برئة واحدة. إن الهدف من وراء ذلك هو كما قال الله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فهم لا يطالبون بحقوق المرأة حقاً، ولا يريدون حرية المرأة، بل هم أكبر عدو للمرأة، لكنهم يريدون أن تتبرج المرأة ليصطادوها في الماء العكر من جانب، ومن الجانب الآخر يفسدون هؤلاء الشباب الذين اتجهوا إلى الله عز وجل حينما تكون المرأة متبرجة. والله تعالى هو المستعان عليهم. ونقول للمرأة المسلمة: احذري أن تغتري بهذه الدعوة المضللة، فإن الله تعالى هو الذي أثبت حقوقك وحريتك، وكل شيء لك في كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

العلاقات الاجتماعية في الإسلام

العلاقات الاجتماعية في الإسلام ديننا الحنيف دين الكمال والشمول، فقد جاء بما فيه خير وصلاح البشرية جمعاء، ولا أدل على ذلك من اهتمام الإسلام بالعلاقات التي تكِّون المجتمع الواحد المتماسك والدولة المتماسكة؛ بدءاً من الأسرة، وانتهاءً بالأمة كلها، فقد جاء الإسلام بالعلاقات التي تربط الأسرة ببعضها، وتربط المجتمع ببعضه؛ حيث أمر الإسلام ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وبذل الإحسان، والعطف على المحتاج، والمؤاخاة بين المسلمين، وغير ذلك مما فيه صلاح الدنيا والآخرة.

صفات المجتمع المسلم

صفات المجتمع المسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكون مجتمعاً تسوده المحبة والإخاء في ذات الله تعالى، كما وصفهم سبحانه بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وكما وصفهم سبحانه وتعالى بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله هدى للعالمين، فكان مثلاً يقتدى به في أخلاقه وفي سلوكه، كما قال عز وجل عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فقد تربى على تلك الأخلاق التي رباه الله عليها، فقاد أمة استحقت قيادة هذا العالم، بسبب ما حباها الله فيه من محبة وإخاء وتعاطف. أيها الإخوة! إن الحديث عن العلاقات الاجتماعية في القرآن أو في الإسلام طويل، ويكفينا حينما نقرأ القرآن أننا نجد كثيراً من الصفات التي يدعونا الله عز وجل إلى الأخذ بها؛ حتى نكون مسلمين حقاً، ولعل الآيات التي في أول سورة البقرة ما يبين لنا صفات المجتمع المسلم، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5]، وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم تربية عالية للأمة الإسلامية، ولو قرأنا سورة الحجرات لوجدنا فيها كثيراً من الصفات الراقية التي يجب أن يتحلى بها المسلم؛ وحينئذ يكون مسلماً حقاً.

مفهوم العلاقات الاجتماعية

مفهوم العلاقات الاجتماعية أما المراد بالعلاقات: فهي الصلات التي تربط كل فرد من أفراد الأسرة، وكل أسرة بأسرة، وكل بلد ببلد، وفي آخر الدائرة تربط المسلم بالمسلم في أي مكان من الأرض، هذه هي العلاقة، والمجتمع معناه: مجموعة تلك الأسر التي تنتظم من أولئك الأفراد الذين رباهم الإسلام، فكوّنوا الأسرة المسلمة، وتكون من مجموع هذه الأسر المجتمع الإسلامي.

نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام

نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام قبل أن نتطرق إلى العلاقات الاجتماعية في الإسلام، نريد أن نلمح لمحة من المجتمع الجاهلي الذي سبق الإسلام، والذي كان إرهاصاً لميلاد دين جديد، حيث بلغ السيل الزبا، وحيث وصلت الأمة العربية في ذلك العصر إلى وضع هو دون مستوى الحيوان في كثير من أحيانه، فإن الحيوان لا يئد بنته، ولا يقتل ولده، ولكن هذه الصفات قد امتاز أو اشتهر بها المجتمع الجاهلي فيما قبل الإسلام، فكانت علاقة الأب بأولاده علاقة سيئة، وقد قص القرآن علينا أخبارها في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]. فكان الواحد منهم يشعر بالخجل حينما يبشر بأنه ولدت له بنت، فيسود وجهه أمام القوم، ثم يذهب إلى ابنته ليدسها في التراب -أي: ليدفنها- وهي حية، إلى أن جاء الإسلام فحاسب أولئك، وأفاد بأنهم يوم القيامة سيسألون عما فعلوا، كما قال عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، بل كانوا يقتلون حتى الأولاد الذكور في كثير من الأحيان، فإذا كان الرجل قليل ما في اليد -أي: ليس عنده مال- فإنه يقتل أولاده خشية الفقر، ويقول: إن ماله لا يكفي لأولاده؛ وهذا لأنهم فقدوا الاعتماد على الله أولاً؛ ولأنهم فقدوا العاطفة التي منحها الله عز وجل حتى للحيوان، فيخبر الله تعالى عنهم أنهم يقتلون أولادهم خشية الفقر، أو خشية الإملاق، ثم جاء الإسلام فأبدل هذه الخشية بالاعتماد على الله تعالى، وتكفل برزق الأبناء مع رزق الآباء، كما قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، بل قدم رزق الأولاد على رزق الآباء في آية أخرى فقال سبحانه: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وعلى هذا فلا يجوز في الإسلام أن يعتمد الإنسان على ماله أو على قوته، ولذا أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب أولئك الذين قتلوا أولادهم خشية الفقر. هذه هي العلاقة الجاهلية بين الأب وأولاده، وإن كان هناك من يتغنى بالأولاد، ويكمل التعطف عليهم، كما قال بعضهم: إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض لكن ذلك خلاف ما جاء من عادة النسبة لعادات الجاهلية، بل إن القرآن الكريم هو الذي أخبرنا بوضعهم مع أولادهم.

علاقة العرب مع بعضهم في الجاهلية

علاقة العرب مع بعضهم في الجاهلية أما بالنسبة لعلاقة العربي بالعربي فإنها على شقين: علاقة العربي بقبيلته، فيرى كل ما تفعله قبيلته حسناً، فعلاقته بها مبنية على الحمية الجاهلية وعنصريتها، وحالهم فيها كما قال الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا ولكنها بالنسبة للقبيلة الأخرى كانت أيضاً علاقة سيئة، ونحن نقرأ في التاريخ الجاهلي تلك الحروب الدامية التي خاضها العرب مع بعضهم في سبيل أشياء تافهة؛ لأنهم فقدوا الوازع، وفقدوا الضمير، وفقدوا الإنسانية، فأصبحوا أقل مستوى من الحيوان، فمثلاً: نجد أن حرب البسوس التي دامت ما يقرب من أربعين عاماً تطحن في العرب كان سببها تافهاً، وهكذا كانت كثير من الحروب التي كادت أن تكمل العرب، لولا أن الله تعالى تداركهم بالإسلام فأنزل هذا القرآن لينقذهم مما كانوا عليه، ولذلك فإن الله يأمرنا بشكر نعمته فيقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]، وعلى هذا فإننا نعتبر الإسلام نعمة كبرى من الله تعالى، لا على المسلمين فحسب؛ ولكن على العالم أجمع، فقد أخرجهم به من الظلمات إلى النور.

معاملة الجاهلية للزوجة

معاملة الجاهلية للزوجة أما بالنسبة للزوجة فلقد كان وضعها أسوأ من وضع الولد، ولقد كانت متاعاً ممتهناً لدى هؤلاء؛ بل لقد كانت تورث ولا ترث، فقد حرموها من الميراث، حتى جاء قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، فصاروا يورثون المرأة في الإسلام بعد نزول هذه الآية، وأما قبل ذلك فكانوا في الجاهلية يرثونها هي، فإذا مات الزوج فإن أكبر أولاده أو أقرب أولاده إليه يلقي عليها رداءً، فإذا وقع عليها الرداء يصير أحق بها من سائر إخوانه، ويتملكها ويتزوجها إذا لم تكن أماً له!!

تنظيم الإسلام للمجتمع المسلم وبناؤه للعلاقات الاجتماعية

تنظيم الإسلام للمجتمع المسلم وبناؤه للعلاقات الاجتماعية أيها الإخوان! أما عندما نتحدث عن الإسلام كيف يبني المجتمع المسلم؟ وكيف يبني علاقته؟ فإنه وضع أسساً يطالب المسلمون بتطبيقها، ولو طبقوها لقضوا على جميع مشاكلهم، ولأصبحوا كذلكم المجتمع المسلم الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، وبوحي من الله سبحانه وتعالى، ولو طبق المسلمون تلك القواعد التي جاء بها الإسلام لصنعوا مجتمعاً فريداً.

العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم

العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم ثم بعد ذلك يأتي الحق بين الحاكم والمحكوم، وهذا حق أيضاً جاء به الإسلام، فإقامة حكم الله في الأرض مطالب به كل المسلمين، وهذا يتطلب أن تقوم الخلافة لله عز وجل في الأرض، وأن يكون هناك من يرعى هذا الأمر من أمور المسلمين، وهذا الحاكم الذي يقوم بهذا الأمر له حق وعليه حق، أما الحق الذي عليه فهو أن يحكم هؤلاء الناس بحكم الله عز وجل، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه كافر مرتد. وعلى المسلمين أمر يقابل هذا الأمر، فعليهم الطاعة لهذا الحاكم في حدود طاعة الله تعالى، فإذا لم تكن هناك طاعة لله في طاعته فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

حق الضيف في الإسلام

حق الضيف في الإسلام ثم بعد ذلك يأتي حق الضيف في الإسلام، وهو حق محترم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (فليكرم ضيفه جائزته: يومه وليلته)، وهذا أقل حق في الضيافة، وأتمه ثلاثة أيام بلياليها.

العلاقات الزوجية في الإسلام

العلاقات الزوجية في الإسلام بعد ذلك يأتي دور العلاقات الزوجية في الإسلام، والعلاقات الزوجية في الإسلام متينة ومهمة؛ لأنها تبنى على ميثاق أخذه الله عز وجل على الرجال والنساء، كما أخذته النساء على الرجال، فإن الله تعالى قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]، وفي قراءة: (وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً)، وإذا مددنا (نا) فيكون الذي أخذ الميثاق على هؤلاء الرجال هو الله عز وجل، وإذا قلنا: (وأخذن) فهي نون النسوة. وعلى هذا فإن المرأة قد أخذت هذا الميثاق الغليظ على هذا الرجل، وهذا الميثاق الغليظ تجب المحافظة عليه، وحينئذٍ فإن للعلاقات الزوجية شروطها وآدابها؛ لتكون هذه العلاقة وثيقة ومتينة، وذلك حينما يكون الزواج بتراضٍ، ويا حبذا لو كان بنظر إلى المخطوبة! وهكذا توافر الصفات التي دعا إليها الإسلام، وحينئذٍ تبنى العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وإذا لم تبن على هذين الأمرين جميعاً فعلى الأقل على الرحمة، فإذا فقدت المودة فلن تفقد الرحمة، وأما حينما تفقد المودة وتفقد الرحمة فهناك وسائل يجب أن يسلكها الزوجان: من الإصلاح، والتغاضي عن العيوب، وحينما لا يمكن ذلك يأتي دور الحكمين، كما قال عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، وحينما لا يكون السبيل إلى ذلك يأتي دور الفراق: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130]. هذه العلاقة تستحق الوفاء بالشروط التي اشترطت بين الرجل والمرأة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، والمراد بالفروج: العلاقة الزوجية. ثم بعد ذلك تأتي العشرة وحسن العشرة، فيشعر الرجل بأن له مثلما عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ثم يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، ويقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، فالعشرة بالمعروف حق للزوجة، كما أنه حق للزوج على الزوجة، وهناك حق كبير للزوج على الزوجة أجمله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وذلك لما له عليها من الحقوق. وكذلك يجب للزوجة حسن المعاشرة، والعاطفة والمحبة من الرجل؛ حتى تكون المحبة والعاطفة متبادلة بين الطرفين.

حقوق الجار في الإسلام

حقوق الجار في الإسلام بعد ذلك تأتي حقوق أخرى كحق الجيران، وحق الجيران حق فرضه الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36]. ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)، ويقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، ويقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه)، أي: غدراته وخيانته. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت الحق للجار مهما كان هذا الجار، حتى ولو كان كافراً فإن له حق الجوار؛ فإن الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، أما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم ذو القرابة؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وله حق القرابة، وأما الذي له حقان فهو الجار المسلم؛ فله حق الجوار، وله حق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فهو الجار غير المسلم.

الإسلام وصلة الرحم

الإسلام وصلة الرحم ثم تأتي بعد ذلك صلة الرحم، والمراد بصلة الرحم: القرابة غير الوالدين، ولهم حق كبير أيضاً في الإسلام، ولذلك فإن الله تعالى لعن الذين يقطعون الرحم فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، والرحم هم: الإخوة وأبناؤهم، والأعمام وأبناؤهم، والأخوال والأقارب، سواء كانوا من طريق الأم، أو من طريق الأب والأجداد وإن علوا، فهؤلاء كلهم يدخلون في الرحم، ولذلك فإن قطيعة الرحم تعتبر من أكبر الآثام، وحقيقة صلة الرحم أن تصل من قطعك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).

أمر الإسلام للأبناء ببر آبائهم

أمر الإسلام للأبناء ببر آبائهم أما بالنسبة للجانب الآخر، وهو حق الآباء على الأبناء، وهو البر والإحسان، فقد أمر الله عز وجل وقضى وحكم بأن يبر هؤلاء الأبناء بأولئك الآباء، كما قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ومعنى القضاء هنا: الإيجاب، وإن كان هناك من يخرج عن هذا القضاء فإنه قضاء شرعي؛ لأنه أمر ووصى وأوجب، وليس معنى ذلك أنه قضى كوناً؛ لأنه وجد من خالف هذا الأمر. وكثيراً ما يقرن الله عز وجل حق الوالدين بحقه كما في هذه الآية، وكما في آيات أخر كقوله سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، والرسول صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في الجهاد في سبيل الله فقال له: (أحي والداك؟ فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). ومعنى البر بالنسبة للأبناء: أن يحسنوا علاقاتهم بآبائهم، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الطاعة في حدود طاعة الله تعالى، أما إذا كانت طاعة الوالدين أو أي مخلوق مخالفة لطاعة الله تعالى؛ فإنه لا طاعة حينئذٍ لمخلوق في معصية الخالق؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، ولقد نزلت هذه الآية حينما أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فغضبت أمه، وكانت على الكفر، فقالت: يا سعد! والله لا أكلمك أبداً، ولا آكل طعاماً حتى تكفر بمحمد! فصار يتودد إليها مرة بعد أخرى لتأكل الطعام، وهي مصرة، حتى كادت تخرج روحها من شدة الجوع، ولكنه لا يريد أن يترك دينه، فلما رآها على هذا الوضع قال: (يا أماه! والله لا أترك ديني، ولو كانت لك مائة نفس فخرجت كل واحدة بعد الأخرى ما تركت ديني، فإن شئت كلي، وإن شئت فلا تأكلي)! فحينئذٍ يئست منه فأكلت، فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، بعد أن قال في أول الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. وإهمال حق الوالدين خطر كبير، ولذلك فإن الله تعالى نهى عن التأفف في وجوههما فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، وإذا كان هناك من الآثام والمعاصي للوالدين أكثر من ذلك فإنه أكثر خطراً وأعظم إثماً.

أمر الإسلام بحسن تربية الأولاد

أمر الإسلام بحسن تربية الأولاد الإسلام يبني علاقة الأب مع أولاده على المحبة والعاطفة، ولكنه يبني العاطفة على أنها لا تطغى على العقل فتضيع التربية، وإنما يجب أن يكون العقل له قيمته، وهذه العاطفة لها قيمتها. ويبدأ ذلك من اختيار الزوجة الصالحة، واختيار الزوجة الصالحة سبب في صلاح هؤلاء الأولاد؛ لأنها هي التربة التي توضع فيها هذه البذور، وحينئذٍ فإن هذا الأب مطالب باختيار الزوجة الصالحة أولاً، ثم اختيار الاسم الحسن، ثم بالتربية بعد ذلك؛ بحيث لا يرفع سوطه عنهم أبداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نحل والد ولده أفضل من خلق حسن). ولهذا فإننا نجد تربية الأولاد تشغل جانباً وحيزاً كبيراً في القرآن العظيم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ثم يبين أن صفات المؤمنين أنهم يؤدبون أولادهم، ثم بعد ذلك يمدون أكف الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى بأن يصلح هذه الذرية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، ولكن ذلك يكون بعد العمل. ثم أيضاً نجد أن الله تعالى يتكفل بعد ذلك لهؤلاء الآباء الصالحين الذين بذروا بذوراً حسنة في هذه الأرض وفي المجتمع الإسلامي بأن يهب لهم الأولاد الصالحين. وحينما يحصل صلاح الأبناء وصلاح الآباء فإن الله تعالى يرفع الأبناء يوم القيامة درجة، ولا يخفض الآباء هذه الدرجة، فيرفع الأبناء حيث يصلون إلى درجة آبائهم، فتقر حينئذٍ عيونهم بهذه الذرية الصالحة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، أي: رفعناهم إلى درجة الآباء في الجنة، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]؛ لأن تنزيل الآباء عن الأبناء شيء من الظلم بالنسبة للبشر، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى ليست ظلماً؛ لأن الله عز وجل منزه عن الظلم، فهو يرفع الأبناء إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء إلى درجة الأبناء حينما يكون الأبناء أقل صلاحاً من الآباء. ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن السعادة وقرة العين إنما تكون حينما يصلح الآباء مع الأبناء، فيقول الله عز وجل: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، هذا إضافة إلى ما يناله الأب من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين، وما تناله الأم أيضاً من البر بالنسبة لهؤلاء الأولاد الصالحين. أما بالنسبة لحياة البرزخ فإن فيها سعادة لهذا الأب الذي يربي هؤلاء الأولاد؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له)، فحينئذ يكون الإسلام قد طالب الأبناء بالنسبة لآبائهم، أو الآباء بالنسبة لأبنائهم في هذا الجانب. ثم أيضاً على هؤلاء الآباء وعلى هذه الأمهات أن يكونوا عوناً لأبنائهم على البر، وذلك بحسن المعاملة والرقة وحسن العشرة والعدل، والعدل هو أكثر ما يحبب الآباء إلى الأبناء.

الزواج عقبات وحلول [1]

الزواج عقبات وحلول [1] من أعظم مصارف الزكاة في أيامنا الحاضرة مساعدة العزاب الذين يرغبون في الزواج، ليحفظوا دينهم وكرامتهم، لاسيما وكثير منهم لا يستطيع الزواج بسبب التكاليف الشاقة، فينبغي لأهل الثراء ألا ينسوا مساعدة هؤلاء العزاب، وحبذا أن يقام صندوق خيري لتزويج الشباب الصالح.

فضل الزواج

فضل الزواج بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا * وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:1 - 6]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، والحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، والشكر لله المتفضل بالحلال عن الحرام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق هؤلاء الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين. أما بعد: إخواني في الله! إن أعظم ما من الله به على المسلم هو الخلق الفاضل، وطهارة العرض، ونزاهة النفس، وإن أخطر ما منيت به البشرية في تاريخها الطويل هو الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولذلك فإن الله عز وجل أغير من يغار، وإنه ليغار أن يزني عبده أو تزني أمته، وقد شرع سبحانه وتعالى الزواج؛ ليكون منفذاًَ للمسلم إلى الحلال بدل الحرام، وسيكون حديثنا في هذه الليلة إن شاء الله عن الزواج وما أحدثه الناس فيه، وما فرطوا تجاه هذا الزواج فكان سبباً في ضلال كثير من الناس، وانحراف كثير من الأخلاق، والغفلة عن كثير من الأحكام التي تتعلق بهذا الأمر، وعن الهدف النبيل من شرعية الزواج. الزواج في اللغة العربية: ضد الإفراد، والزوج: ما يشكل رقمين. والزوج له ثلاثة إطلاقات في اللغة العربية: يطلق على الذكر، ويطلق على الأنثى، ويطلق على الاثنين مجتمعين، تقول: هذا زوج فلانة، وتقول: هذه زوج فلان، وتقول للاثنين مجتمعين: هذان زوج، كما يطلق الزوج على الشبيه والنظير، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، والمراد بإزواجهم هنا: أشكالهم. والزواج في معناه الاصطلاحي: هو قران الذكر بالأنثى، والزِّواج بكسر الزاي معناه: الفعل، أما بفتحها فمعناه المصدر. والزواج سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حث الله عز وجل عليه في قوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]، وسماه نكاحاً فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، ولم ترد كلمة نكاح إلا بمعنى العقد إلا على رأي بعض المفسرين في قول الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، فقد قالت طائفة: إن المراد به هنا الوطء، وجمهور المفسرين على أن المراد به العقد، ويترتب على ذلك أحكام كثيرة. وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزواج وأمر بالمبادرة إليه فقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة -أي: تكاليف الزواج- فليتزوج، ومن لم يستطع -أي: التكاليف- فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) أي: يحفظه من أن يقع في الحرام، ومعروف أن الصوم له هذه الفائدة. وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة). وقال: (إذا تزوج العبد فقد أكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر). والزواج من سنن المرسلين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعله أمراً لا تقوم الحياة إلا به، وكان المرسلون -وهم أسبق الناس إلى الفضائل- أكثر الناس أزواجاً، وأسرعهم إلى المبادرة بالزواج.

أهمية الزواج

أهمية الزواج هذا الموضوع يجب أن يلقى أهمية لدى كل الناس الذين يريدون العفة والطهارة، ولذلك نقول: إن من وراء الزواج حكماً عظيمة، ومن أهم هذه الحكم: صيانة المسلم وحفظ مائه الطاهر حتى لا يقع في حرام، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان، وجعل فيه الشهوة البشرية القهرية التي لا يمكن للإنسان أن يتخلص منها ذكراً كان أو امرأة، وهذه الشهوة هي سبب تكاثر بني آدم على الأرض، وهذه الشهوة لابد أن تنصرف إما في حلال أو حرام، فإذا انصرفت في حرام فذلك الزنا وما شابهه، وإذا انصرفت في حلال فذلك الزواج. الزواج المشروع يبنى به العش الطاهر، وتقوم به الأسرة الكريمة، وتتكون فيه المجتمعات الإسلامية الطاهرة، لذلك حينما نقرأ سورة النور في نصفها الأول إلى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] نجدها تهتم بهذا الجانب من جوانب الحياة. بل إن مما يلفت النظر في سورة النور سواء في مطلعها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] أو في منتصفها حينما انتهى الحديث عن الفاحشة والجريمة والزواج: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، ثم قال بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وما بين هاتين الآيتين: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) كله يتحدث عن العفة والطهارة وأسبابها، ونجد أنه بدأ بالحد الذي يوقف المجرم عند حده حتى لا يقع في الفاحشة، ثم عرج على حكم الحديث عن الفاحشة حتى لا تصبح مألوفة أمام الناس فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] إلى آخر الآيات، ولم يستثن من هذا الحكم إلا الزوج مع زوجته حينما يتهمها بالفاحشة فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور:6]، ثم انتقلت الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن الاختلاط بين الذكر والأنثى، ودخول البيوت دون استئذان وسلام، بحيث لا يتورع أحد عن أن يدخل بيت غيره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: تستأذنوا. ثم انتقلت بنا الآيات إلى النظر الحرام الذي هو سبب من أسباب الفاحشة، سواء في ذلك الرجل ينظر إلى المرأة أو المرأة تنظر بشهوة إلى الرجل، فإن النظر بحسب الفطرة البشرية يثير الشهوة؛ ولذلك ذكر الله تعالى النظر بجوار الفعل الحرام فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، ثم أمر المرأة بأن تتحفظ من أن ينظر إلى زينتها أحد من غير محارمها فيكون ذلك سبباً في الفاحشة، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] إلخ الآية. وكل هذا يعتبر سداً منيعاً لمنافذ الجريمة حتى لا تنتشر في مجتمع من المجتمعات. الشهوة فطر الله الناس عليها كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، ولابد أن يكون لها مصرف مباح، وإلا فسوف تتفرق في المجتمع فتحدث الفوضى والاضطراب، وتنشر الأمراض من الإيدز والسيلان والزهري وغيرها من الأمراض، وكذلك تنشر الأمراض الاجتماعية، وتوجد في المجتمع أولاداً غير شرعيين، وتسبب مشاكل وعقداً نفسية إلى غير ذلك. إن الإسلام دين واقعي لا يحرم الإنسان من شهوته، لكنه ينظم هذه الشهوة، ولا يحول بين الإنسان وبين الشهوة الحلال لكنه يوجهها الوجهة الطيبة الصالحة السليمة، فشرع الزواج، وكان الأمر بالزواج سداً لآخر منفذ من منافذ الفاحشة والجريمة، ولذلك نجد آخر مرحلة من مراحل العلاج: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]، ثم قال الله بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]؛ قال بعد ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35]، وما طبق تلك الأوامر فإنه يقذف الله عز وجل في قلبه هذا النور، فيصبح في خير وسعادة.

أهداف الزواج

أهداف الزواج

صرف الشهوة في الحلال

صرف الشهوة في الحلال من أهم أهداف الزواج: صرف الشهوة من الحرام إلى الحلال، وتنظيم هذه الشهوة، وصرف هذا الماء الطاهر إلى رحم طاهر، بدل أن يكون مبعثراً يهلك الحرث والنسل، فالزواج يعتبر أول وأهم طريق من طرق العفة والطهارة.

عمارة الكون

عمارة الكون من أهداف الزواج: عمارة هذا الكون، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، وهذا هدف من أهداف الزواج، فإن عمارة الكون وتكثير النسل وبث الخلق في هذه الأرض يتطلب هذا التزاوج بين الذكر والأنثى، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق الزواج، ولو لم يكن الزواج لانقطع نسل بني آدم على الأرض، ولذلك نوح عليه السلام لما أمره الله عز وجل أن يصنع السفينة ليهلك من في الأرض عقوبة ونكالاً أوحى إليه وقال: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]؛ ليبقى هذا الوجود على وجه الأرض، فمن أهم وأعظم أهداف الزواج أن يكثر النسل، وأن تنتشر البشرية، حتى يعبد الله عز وجل في هذه الأرض، وتكون هناك نطف طاهرة صالحة تقيم شرع الله في هذه الأرض.

السكن

السكن السكن، والمراد بالسكن: الراحة والطمأنينة، فالزوج يسكن إلى زوجته، والزوجة تسكن إلى زوجها كما قال الله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وكما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، والسكن معناه: الراحة والطمأنينة، ولذلك فإن الإنسان يرتاح كل الارتياح ويطمئن كل الطمأنينة حينما يأوى إلى زوجة صالحة يفضي إليها بأسراره، وتفضي إليه بأسرارها، يشكو إليها ما يجده من تعب ومشقة في هذه الحياة فتستقبل مشاكله كما تستقبل مشاكلها، ويتعاونا على حل هذه المشاكل، ويطمئن إليها وتطمئن إليه، وهذا هو معنى السكن الذي أشار الله عز وجل إليه في قوله: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).

التكافل الاجتماعي

التكافل الاجتماعي التكافل الاجتماعي، فإن الله سبحانه وتعالى قد ركب كل واحد من الجنسين على فطرة وعلى طبيعة وعلى جبلة، فأعطى الرجل قوة في عضلاته وفي عقله، وجعله ينطلق في هذه الأرض ليبحث عن الرزق الحلال، ثم أعطى المرأة نعومة ورقة في جسدها ليتمتع بها هذا الرجل؛ ولذلك قد أخطأ ملاحدة هذا العصر الذين يريدون أن يتخذوا من المرأة وسيلة للكسب كالرجل سواءً بسواء، ونحن ندرك أن فطرة الرجل تختلف عن فطرة المرأة، وأن فطرة المرأة تختلف عن فطرة الرجل، والله تعالى أسكن آدم وحواء الجنة، وحذرهما من الهبوط للأرض؛ لأن الهبوط للأرض يعني: الكدح في طلب العيش، ولكن الهبوط سيكون للاثنين، وسيكون الشقاء في طلب العيش لأحدهما فقط وهو الزوج، اسمعوا إلى بلاغة القرآن، يقول الله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: فتشقيا، وهذا يعطينا حكماً شرعياً عظيماً وهو أن الذي سوف يشقى في طلب العيش هو الرجل؛ فالهبوط للاثنين جميعاً، والشقاء في طلب العيش إنما يكون للرجل وحده، فالمرأة سكن، وهي تقوم بدور عظيم في تربية الأطفال، وتنظيم وتدبير البيت، وذلك لا يعني أن سعي المرأة لطلب العيش حرام عليها، وإنما يعني أن المطالب من أول وهلة بالبحث عن العيش الحلال والرزق الحلال هو الرجل، ولذلك أجمع علماء المسلمين على أن الرجل مطالب بالنفقة على الزوجة، وأنه هو الذي يجب عليه أن يسعى لطلب الرزق، والله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]. أما حينما تضطر المرأة لطلب العيش فهذا أمر لا شك في جوازه، لكنه في حدود، والرجل هو الذي يسعى في طلب العيش، والزوج بصفة خاصة مطالب بالنفقة على الزوجة طوعاً أو كرهاً؛ ولذلك يقول علماء الإسلام: إن الزوج لو عجز عن النفقة على الزوجة ولو كانت هي غنية تستطيع أن تنفق على نفسها فلها أن تطالبه بالطلاق، ولو طالبته بالطلاق لألزمه الشرع أن يطلقها أو ينفق عليها، ولو كان لديها مال كثير؛ لأنها لا تطالب بالنفقة من مالها، ولذلك فإن الزواج يوجد تكافلاً اجتماعياً بين الرجل والمرأة، ويلزم الزوج بالنفقة، ويحثه على السعي لطلب الرزق الحلال، وأول من يبدأ بالنفقة عليه هي الزوجة، حتى أنها تقدم على سائر الأقارب من الأهل والذرية، مما يدل على أهمية وقوة الصلات بين الرجل وبين المرأة في هذه الحياة.

ربط الأسر وتوثيق العلاقات الاجتماعية

ربط الأسر وتوثيق العلاقات الاجتماعية من فوائد الزواج: ربط الأسر وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين الناس، فلان يتزوج وهو من أسرة بعيدة بنت فلان، فتقوم هناك صلات وعلاقات وروابط بين فلان المتزوج وعشيرة فلانة المتزوج بها، ومن هنا تتقوى الرابطة بين المسلمين؛ ولذلك حرم الإسلام أن يتزوج كافر بمسلمة، وكره أن يتزوج مسلم بكتابية، وإن كان ذلك مباحاً إلا أن المسلمة أفضل، ولذلك جعل في الدرجة الثانية حتى تقوى الصلات بين المسلم والمسلم، وحتى تقوم هناك روابط وثيقة بين فئات الأمة وقبائلها؛ لتتحقق فيهم الأخوة والمساواة، ولتقوى الروابط الاجتماعية بين المسلمين، والله يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وحينئذ ينصهر بعضهم ببعض؛ فيزول التفاخر، ويقضى على المحن والضغائن.

من أحكام الزواج

من أحكام الزواج

أهمية اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة

أهمية اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة الزواج له أحكام، وله آداب، وله أخلاق، وله سلوك، وله واجبات، وله محرمات، وله مستحبات، وأهم أحكامه: اختيار الزوجين الصالحين، الزوج إذا أراد أن يتزوج عليه أن يبحث عن الزوجة الصالحة، والله تعالى يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والله عز وجل يقول أيضاً: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، (وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أي: لا تزوجوهم، ومعنى ذلك أن يختار الرجل الصالح. والزواج بالمشركة لا يجوز بأي حال من الأحوال، وقد يقول قائل: الله تعالى أباح الزواج باليهودية والنصرانية مع أن اليهود والنصارى مشركون، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وهذا شرك، فكيف أباح الإسلام الزواج باليهودية والنصرانية مع أن ذلك ممنوع بين الموحد والمشركة؟! نقول: اليهود والنصارى أصحاب كتب سماوية، والشرك طارئ عليهم، بخلاف الوثنيين والبوذيين وأصحاب الشرك والوثنيات، فإن الشرك فيهم صار عادة وطبيعة؛ لأنهم ليسوا أصحاب كتب سماوية، وعلى هذا فإنه يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، لكن الأولى ألا يتزوج إلا بمسلمة، أما العكس بأن يتزوج يهودي أو نصراني أو مشرك مسلمة فلا يجوز بحال من الأحوال. أثيرت قضية ذات يوم فقال بعض أعداء الإسلام من اليهود أو النصارى: لماذا الإسلام يترفع فيبيح للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، ولا يبيح لليهودي والنصراني أن يتزوجا مسلمة؟ والجواب واضح: المسلم يؤمن بدين اليهودية والنصرانية قبل التحريف، ويؤمن بنبي اليهود والنصارى عليهم الصلاة والسلام كموسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل، لذلك ليس غريباً أن يبيح للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية؛ لأنه لن يسب دينها؛ لأنه يعتبر الإيمان بدينها جزءاً من الإيمان بدينه، أما ذلك اليهودي البعيد أو النصراني البعيد فإنه لا يؤمن برسالة المرأة المسلمة التي هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فإنه معرض في كل حين أن يتناول دينها ونبيها وكتابها بالسب والطعن. المهم أن أهم ذلك هو اختيار الزوجة الصالحة، لا يكفي أن تكون مسلمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، تفكروا -أيها الإخوان- في حكمة التشريع العظيم حين قال: (دينه وخلقه)، نحن نعرف أناساً متدينين، لكنهم ليسوا على مستوى من الخلق، فلا يجوز أن نندفع لنزوج ذلك المتدين الذي لا يتمتع بالخلق الرفيع لنضحي بهذه الفتاة المسكينة البريئة، بل لابد من الدين والخلق. كذلك المرأة لا تنكح إلا الصالح من الرجال، فكما يطالب الرجل بأن يختار الصالحة هي أيضاً مطالبة بأن تختار الصالح، فالفاسق العاصي المجرم المدمن صاحب الكبائر نخطئ حينما نزوجه، ونعرض هذه الفتاة المسكينة البريئة الطيبة الطاهرة إلى فتنة عظيمة، فلربما يؤدي ذلك إلى أن تتفسخ عن دينها بسبب معاشرة هذا الرجل الفاسق، وأخطر من ذلك أناس يندفعون وراء المادة أو وراء النسب إذا كانوا من طلاب النسب الرفيع أو وراء المركز إذا كانوا من عباد المراكز أو إلى أي هدف من الأهداف المادية، ويتناسون أموراً عظيمة لا يسألون عنها في مثل هذه المناسبات العظيمة، على سبيل المثال: الصلاة، توجه إلي أسئلة كثيرة في التلفون، وأفاجأ كثيراً أن امرأة تقول: زوجني أبي فلاناً وهو لا يصلي! إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا مرتد عن الإسلام، اليهودي والنصراني خير منه؛ لأن اليهودي والنصراني يعتمد على دين سابق، وإن كان منسوخاً، لكن هذا مرتد عن الإسلام، هذا يجب أن يقتل فوراً إذا لم يتب ويعود إلى الله عز وجل؛ لأن ترك الصلاة يعتبر ردة عن الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، ويقول: (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث -وذكر منهم-: التارك لدينه، المفارق للجماعة). إذاً: أيها الإخوان! يجب أن ننتبه لهذا الخطر، الذي لا يصلي لا يزوج أبداً من النساء المسلمات، وإذا زوج فيعتبر العقد لاغياً وخطأً؛ لأنه تزويج لامرأة مسلمة برجل مرتد دون مستوى اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين. كذلك إذا ثبت لنا أنه لا يصلي بعد الزواج، فيجب أن نحول بينه وبين هذه المرأة المسلمة، ونطالبه بالطلاق فوراً أو يصلي ويعود إلى دينه، فإن أبى فإن على القاضي أو المسئول أن يطلقها منه قهراً؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، هذا أمر خطير أنبهكم عليه، فعند الخطبة حينما يتقدم إنسان عليك اسأله يا أخي عن دينه وصلاته وصلاحه واستقامته، أما أن تندفع وراء أمور تافهة كالمهر أو المال أو النسب أو المركز أو الكرسي أو الشهادة أو السمعة الظاهرة التي لا حقيقة لها فذلك أمر خطير. أمر آخر: الشباب الذين يتناولون المخدرات والمسكرات احذرهم أشد الحذر؛ لأن علماء النفس والتربية يقولون: إن إدمان الخمر أو المخدرات ينتقل بواسطة النطفة إلى الجنين، فيخرج هذا الجنين فيكون إما مدمناً للخمر أو مجنوناً أو معتوهاً أو يصرع أو مجرماً يفسد الحرث والنسل. أيها الإخوان! تأكدوا وتأنوا حينما يتقدم إليكم الناس، وتريدون أن تقدموا لهم فلذات أكبادكم، واختاروا الصالحين، فإن الرجل الصالح هو الكفء لهذه المرأة، وسيقوم بحقوقها خوفاً من الله عز وجل، ويراقب الله عز وجل في سره وعلانيته، وتنجب منه بإذن الله أولاداً صالحين يكونون قرة عين لك كما يكونون قرة عين لأبويهم، وأقل ما تستفيد من هذا الرجل الصالح أنه لن يؤذيها ولن يظلمها ولن يهضمها حقاً من حقوقها، إن رضيها أمسكها وإن كرهها طلقها بسلام دون مشاكل ودون خصام، هذا هو الغالب والكثير، أما الذين لا يحسنون اختيار الزوج أو اختيار الزوجة فإنهم يضعون بذوراً سيئة لهم، ولربما يعضون أصابع الندم ولات ساعة مندم.

التراضي

التراضي من أحكام الزواج: التراضي، فلا يجوز أن نكره رجلاً أو امرأة على الزواج دون رغبة، ونحن نعرف قصة المرأة التي خيرها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قالت: إن أباها أكرهها على زوج لا تريده، فخيرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلنا نأخذ من كلمة أكرهها أنه ألزمها برجل مكروه، وليس معنى ذلك أنه مكروه لديه، بل هو مكروه طبعاً لديها، والسر في هذا التأويل أن المرأة لا تحسن اختيار الزوج؛ لأن المرأة بعقليتها المحدودة وبتفكيرها البسيط لا تدرك مصلحتها كاملة، ولذلك فإني أقول: إن علينا أن نبذل الجهد في اختيار الرجل الصالح ثم نعرض الأمر على المرأة نفسها؛ لأنها هي صاحبة الحق، ثم نوجهها إلى الرجل الصالح، وإذا تقدم لها أكثر من واحد نعرض لها هذا العدد ثم نبين لها الذي نختاره لها انطلاقاً من الخير والفضيلة، لا من المحسوبيات الأخرى والأشياء التي لا تدوم ولا تثبت. لا يصلح أن تختار المرأة الرجل الفاسق، وتقول: لا أريد إلا هذا من الناس. فإن اختارته فإنه يسقط اختيارها؛ لأنها أصبحت لا تحسن الاختيار، وأصبحت لا تحسن أن تتصرف في أمرها، وأصبحت لا تحيط بمصلحتها، والرجل بحكم احتكاكه بالرجال، ومعرفته لأنواع الرجال هو الذي يختار لها، المهم أن يكون لها شيء من الاختيار، وأن يكون لها اختيار لكن بحدود، أما الإكراه بحيث تدس المرأة دساً على رجل لا تعرف عنه أي شيء من الأشياء فإن ذلك يعتبر إهانة للمرأة، ويعتبر إحياءً لمشاكل قد تتولد بعد مدة وجيزة من الزمن.

النظر إلى المخطوبة

النظر إلى المخطوبة من هذه الأحكام: النظر إلى المخطوبة، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي يريد أن يتزوج أن ينظر إلى مخطوبته، وهذا النظر يقع اليوم بين طرفي نقيض، هناك أمم أسرفت في هذا الأمر، وتعدت حدود الله تعالى، وجعلت للرجل أن يعيش مدة من الزمن مع المرأة في غيبة من أعين الناس، وهذا يوجد في البلاد التي تسير وفق نظام جاهلي، يمكن أن يعيش معها مدة من الزمن، وبعد ذلك يتم عقد القران! ولعل ذلك شبيه بما يحدث في بلاد الغرب الكافرة التي يحصل فيها اللقاء والمتعة وغير ذلك قبل أن يتم العقد، وهذا أمر خطير، وهذا من أكبر المحرمات. وهناك أناس لا يسمحون بأي نظر إلى المخطوبة، فتترتب عليه مفسدة غالباً؛ لأن الإنسان حينما يقدم على امرأة لا يعرف شيئاً من أخلاقها ولا من جمالها ولا من شكلها ثم بعد ذلك يفاجأ بها وقد اختلفت كثيراً عما في ذهنه وعما يتصوره بالنسبة لهذه المرأة؛ يؤدي ذلك إلى فساد الزواج، وهذا أيضاً يكثر، إلا أنه أقل خطورة من الأول.

الكفاءة في الدين

الكفاءة في الدين من هذه الأحكام: الكفاءة في الدين، فلا يتزوج المسلمة إلا مسلماً، ولا يتزوج المسلم إلا مسلمة أو كتابية، ويشترط أن تكون عفيفة طاهرة نقية، يطمئن إلى دينها وأخلاقها وسلوكها وفضائلها، ولربما فهم الناس عن هذه الكفاءة غير حقيقتها، فأصبح كثير من الناس لا يقيم وزناً للكفاءة الدينية، ويقيم وزناً للكفاءة الاجتماعية والنسبية، فوجد في المجتمع طبقتان في أيامنا الحاضرة، وظن بعض الناس أن هذه الطبقية جاء بها الدين، ومعاذ الله أن يأتي بها الدين! هذا خضيري وهذا قبيلي، هذا نسيب وهذا ليس بنسيب، ولربما توجد قبيلتان ويظن بعض الناس أن هذه أفضل من الأخرى، فيرى بعضهم أن هذه لا يمكن أن تزوج ذاك، وذاك لا يتزوج من هذه، وهذا خطأ، فمعيار الناس في دين الله واحد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وقوله: (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يعني: أن هذا الحكم جاء عن علم وخبرة، فالمسلمون طبقة واحدة، والكفاءة واحدة، ويكفي أن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى)، ولو استعرضنا كل هذا العالم وأردنا أن نرجعه إلى نسب واحد فلابد أن نرجعه إلى آدم وحواء، فليس هناك جنس ولد من أب وأم غير آدم وحواء. ولقد اهتم الناس بهذه الطبقية، وقسموا الناس إلى قسمين، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم غير ذلك، الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى الأباعد منه وأبعد الأقارب من خلال هذا الدين، ولذلك فإن المسلمين كلهم أمة واحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت خلاف ما يصنعه هؤلاء الناس، الرسول صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش وهي من صميم قريش بـ زيد بن حارثة، قد يقول قائل: إن زيد بن حارثة رجل عربي أصيل، نقول: نعم هو عربي أصيل، لكن طرأ عليه الرق مدة من الزمن، فأخذ أحكام الأرقاء، ومع ذلك تزوج زينب بنت جحش وهي من صميم قريش، وأيضاً هي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زد على ذلك أنه لما طلقها زيد بن حارثة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37]، وتوجد كثير من هذه القصص التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة، فـ بلال تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف وهي من صميم العرب، وبلال رضي الله عنه رجل من الحبشة، ولم يضره نسبه لما كان من الصالحين ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أظن أن أكثركم لا يوافقني على هذا الرأي، والحق أن هذا هو الأصل، لكن لو سألني سائل: هل أزوج أختي أو ابنتي التي ترجع إلى أصل أصيل برجل لا يعرف أصله؟ أقول: لا، إلا أن يتفق المجتمع كله على إلغاء هذه التفرقة فحينئذ أنا أوافق، وأتمنى أن يتفق المجتمع كله على إلغاء هذه التفرقة العنصرية؛ لأنها من بقايا الجاهلية، أما وهي الآن على أشدها فأنا أقول لأي إنسان يفكر أن يخرج على هذه القوانين وعلى هذه الأنظمة السائدة القبلية الموجودة الآن: لا تزوج إلا من كان من قبيلة معروفة؛ لأنه قد يقع من خلال هذه الأمور فساد في العلاقات الزوجية، فقد يترفع الرجل على زوجته بنسبه أو هي تترفع عليه بنسبها كما فعلت زينب بنت جحش رضي الله عنها مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، لكن لو كان ذلك نظاماً متأصلاً في المجتمع، وجعلناه نظاماً اجتماعياً، واتفق الناس عليه؛ فإن هذا هو المصلحة، وهذا هو الخير، وهذا هو الذي يتناسب مع منهج الإسلام الصحيح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). إذاً: الكفاءة الأصل فيها الكفاءة في الدين، أما الكفاءة في النسب فقد فرضتها علينا الظروف الاجتماعية التي نعيشها، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين حتى يعرفوا إلى أي أصل يرجعون، ويعرفوا من هو الكفء ومن هو غير الكفء.

الولي والشهود

الولي والشهود أيضاً من أحكام الزواج: الولي والشهود، والولي شرط من شروط النكاح، وكذلك الشهود، ويجب كذلك إعلان الزواج، وهذا يعتبر من مكملات الزواج، والولي لابد أن يراعى فيه المنهج الصحيح، فلا يزوج المرأة إلا أقرب أوليائها منها وهو الأب، وإن لم يكن الأب فالولد، وإن لم يكن الولد فالأخ الشقيق إلى غير ذلك حسب ترتيب العلماء لهذا الأمر، والشهود أيضاً لابد أن يكونوا عدولاً في هذا الأمر.

المهر

المهر ومن أحكامه: المهر، وهو: المال الذي يقدمه الزوج لهذه المرأة، وليس ثمناً، فإن المرأة إنسان حر لا تباع ولا تشترى، وإنما هي نفقة مقابل الاستمتاع بها، هذا هو معنى المهر في نظر الإسلام، لكن المهر أصبح في نظر كثير من الناس اليوم هو الثمن الباهض الذي يتحمله الزوج ليشتري به هذه المرأة من أبيها، وليتخذه ذلك الأب الشره وسادة يتوسد به ويتمتع به وكأنه مقابل النفقة التي قدمها لابنته مدى حياتها الأولى! هذا هو الفرق بين المهر في نظر الإسلام والمهر في نظر كثير من الناس، والحمد لله يوجد الصالحون الذين لا يقيمون وزناً لهذا المال، وهذا المهر في الحقيقة ليس للأب بل هو للمرأة، ولا يجوز للأب أن يأخذ منه درهماً واحداً إلا بإذنها، يقول الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] والخطاب للأزواج، وأيضاً الآباء يدخلون فيه حتى لا يتعرضوا لهذا المهر، والصدقات: جمع صداق، وهو المهر، ومعنى (نِحْلَةً) أي: هبة وعطية، ولا يجوز لأحد أن يأخذ له شيئاً من المهر إلا إذا طابت نفسها بشيء من ذلك {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]. وهؤلاء الذين يشترطون لأنفسهم من مهر المرأة آثمون، فيقول أحدهم: أنا أريد بيت، ابني يريد سيارة، أخوها الأصغر يريد كذا وكذا. حتى أصبح المهر ليس مهراً، وإنما هو ثمن باهض، وأصبح اليوم يبلغ مئات الآلاف، وأدبر الشباب عن الزواج بسبب هذا المهر الباهض، وهذه مصيبة أيها الإخوان، وهذا يعتبر نوعاً من السرقة واللصوصية، وأخذه من المرأة يعتبر سبباً لفشل الزواج، ومن خلال اطلاعي على كثير من المشاكل الزوجية أستطيع أقول لكم: إن (80 أو 90%) من المشاكل الزوجية تبدأ من هذا المهر الباهض، كيف؟ قد يقام الزواج في الفنادق الراقية، وينفق عليه عشرات الآلاف من أجل الموائد والخراف التي ترمى بعد ذلك للكلاب، وتدفع مئات الآلاف مقابل هذه المرأة المسكينة التي قد لا يصل إليها من هذا المهر إلا جزء بسيط من الحلي، ثم إذا بهذا الزوج يفكر بأي ثمن جاءت هذه المرأة، والله لقد كلفتهم مئات الآلاف، فتصير امرأة ثقيلة على نفسه، وربما الديون أصبحت ثقيلة عليه، وكلما رآها تذكر تلك الديون وتلك القروض وتلك الأموال التي بذلها، فتصبح عبئاً ثقيلاً في نفسه، ويتوقع كثيراً أن يطلقها حينما تضيق به الأرض ذرعاً، لاسيما حينما يطالبه أصحاب القروض وأصحاب الديون، وهذا يحدث كثيراً، وهب أنه قدم هذا المال الكثير من ماله، فإنه يتصور أنه بذل فيها مالاً كثيراً فيريد أن يستغل هذا المال ولو على سبيل إهانتها وإهانة أبيها وأمها. هذه نتيجة من نتائج المهر الذي يغالي فيه الناس، والمهر اليسير يزيد في البركة، فأي امرأة دخلت على زوجها بدون تعب ولا مشقة تكون محبوبة إلى نفسه، محببة إلى قلبه، ويجد أن بينه وبينها علاقات أخوية؛ لأنها لم تكلفه ذلك الثمن الباهض، ولم ير ذلك الأب قد صار يتمتع بذلك المال، ويشتري به قصراً أو يبني به بيتاً أو يحدث به مزرعة أو يلعب به، والمرأة هي التي تقاسي مشاكل ذلك المهر الذي تجاوز به الزوج الحدود، وأكثر ظني أنه لا يقدم المهر الكثير إلا الأناس الذين لا يرغبون في المجتمع، والذين يريدون أن يقيموا لهم قيمة من خلال هذا المال لا من خلال قيمتهم الاجتماعية، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى تخفيف المهر فقال: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة)، قلل المئونة وستجد البركة في ذلك، لا تطلب أيها الولي المال الكثير، ولا تطلبي أيها الأخت الراغبة في الزواج المال الكثير، وأنا أضمن البركة لكل هؤلاء الناس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك، وهو لا ينطق عن الهوى. من خلال هذا الشره ومن خلال هذا البذخ الذي أصيب به المسلمون في حين غفلة منهم عن دينهم، كثرت المشاكل الزوجية، وهذه ناحية خطيرة، وأخطر منها أن البنات عنسن في البيوت، وماذا فعل الشباب؟ الشباب على قسمين: شباب صالح يتحمل ويتصبر ويقاسي آلام العزوبة وينتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله قال لهم: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، هذا طالب لا يتقاضى إلا ثلاثمائة ريال، وذاك موظف لا يتقاضى إلا ألف ريال، أو هب أنه يتقاضى أموالاً كثيرة فهو بحاجة إلى أن يبني بيتاً، وأن يعد نفسه، فمتى يستطيع أن يجمع هذه الأموال الطائلة، الذي حدث أن هذا النوع الأول الصالح يعيش صابراً على أعصابه، لاسيما في عصر الفتنة التي نعيشها اليوم، من الإعلام الذي يعرض الفتن والنساء والصور والمجلات، وكلها تتعاون في هذه المهمة، ومع ذلك هو يتحمل ويعيش على أعصابه. وهناك شباب كثير وأظنهم السواد الأعظم بدءوا يتفلتون عن القيد، وصاروا يسافرون بالآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف يبحثون عن الفاحشة، وهم غير معذورين، ولكني متأكد أن الذين كانوا سبباً في غلاء المهور ورفعها وإيجاد هذه النظم الجائرة في المجتمع سوف يتحملون بمقدار ما يتحمله هذا الشقي الذي صار يبحث عن الجريمة، ويسافر للجريمة، ويطارد النساء في الأسواق ويغازلهن، سيتحمل هؤلاء الذين أوجدوا هذا الخلل الاجتماعي في هذا المجتمع كما يتحمله ذلكم الشقي الذي يبحث عن الجريمة، وكل واحد من هؤلاء الناس سيتحمل المسئولية أمام الله عز وجل. إخواني في الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يروي عن الله عز وجل أنه يقول: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل باع حراً فأكل ثمنه) إلخ، وأظن أن الذي يطلب هذه المبالغ الطائلة إنما يجعل هذه المبالغ ثمناً لهذه البنت، فكأنه باع حراً فأكل ثمنه، ويكون خصمه الله عز وجل يوم القيامة.

إقامة مشروع خيري لمساعدة الشباب على الزواج

إقامة مشروع خيري لمساعدة الشباب على الزواج إخواني في الله! لابد من تخفيف المهور، ومن خلال حياتي القصيرة في هذه المنطقة الطيبة المباركة أفاجأ بأسئلة أكثر ما تتحدث عن العادة السرية، هذه العادة السرية التي هي معصية وتعذيب للجسد وإرهاق له ومخاطرة بالعقل لا تحدث إلا في مجتمع قل فيه الزواج ولا شك، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، وأنت -أيها المتسبب- في غلاء هذه المهور أو المغالاة بهذه المهور مسئول بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، جاء في الأثر: أن الرجل إذا منع موليته -بنته أو أخته أو من له ولاية عليها- من الزواج، فوقعت في شيء فعليه إثمها. حينما تخرج إلى أي مكان فتقع في حرام أو تنظر نظرة حرام إلى شاب؛ لأن لديها من الغريزة كما لدى الرجال؛ فأنت مسئول بين يدي الله عز وجل عن هذا الأمر، إضافة إلى أن هذه الأمانة أنت مسئول أن تبحث عن كفئها وعن مكانها المناسب؛ ولذلك فإنك ستتحمل بين يدي الله عز وجل مسئوليتها يوم القيامة. هذا أمر لابد أن ننتبه له، أنا أسمع بأن هناك أموراً في هذه البلدة الطيبة المباركة، وفي هذا الجزء الكريم من بلدنا الطاهر، فلماذا يوجد هذا الأمر؟ أتريدون أن يذهب أبناؤنا إلى الفساد؟! اليوم يسافر من البلاد الطيبة الطاهرة يومياً آلاف الشباب بحثاً عن الفاحشة، وهب أنه ليس بحثاً عن الفاحشة، فسيقع كثير منهم في هذه الفاحشة، وهذا أمر خطير أيها الإخوان! وأنتم مسئولون عنه. أنا لا أدعو إلى تحديد المهور، وإن كان تحديد المهور أصبح أمراً مطلوباً في أيامنا الحاضرة، ولربما تكون الدولة والسلطة مسئولة عن تحديد المهور، وأشكر لإمارة هذه المنطقة جزاهم الله خيراً وعلى رأسها سمو الأمير؛ لأني أسمع أنه مهتم بهذه الناحية، لكني لن أتدخل في هذا الأمر، ولكن أقترح على إمارة المنطقة. أيها الإخوان! لابد أن يتعاون الآباء في تخفيف المهور، وأقترح أن يكون هناك صندوق للزواج يبذل فيه الأغنياء شيئاً من أموالهم؛ لأن ذلك من أفضل أبواب الزكاة، وفيه عفة وفيه إغناء عن الحرام، يكون هناك صندوق في هذه المدينة يشرف على العزاب ويدرس أحوالهم، ويقدم لكل واحد منهم مساعدة مالية إذا أراد أن يتزوج، وثبت أنه كفؤ، وأنه يحافظ على الصلوات الخمس في المساجد، وأنه رجل صالح، وأنه لا يستطيع تكاليف الزواج، وأنا مستعد أن أساهم في هذا الصندوق في كل سنة بعشرين ألف ريال، وأقترح أن يكون الشيخ محمد البشري جزاه الله خيراً أميناًً لهذا الصندوق؛ لأني أعرف أن هذا الرجل فيه خير، ويبذل في سبيل الله أموالاً كثيرة، وأرجو ألا يعتذر، كما أرجو أن يضاف إلى هذا الرجل الصالح محمد البشري أيضاً إخوان من الإخوة الذين يتعاونون معه ثم يقدمون خطابات ورسائل إلى إخوانهم أصحاب الأموال، وهذا الصندوق يشرف عليه إخوة من إخوانكم الصالحين من طلبة العلم، وأنا واثق بأن إمارة هذه المنطقة وعلى رأسها سمو الأمير خالد جزاه الله خيراً سوف يتبنى هذا الصندوق، وأنه سوف يدعمه وسوف يقويه؛ لأني أسمع من أخباره أنه مهتم في أمور الزواج وتحديد المهور. يبدأ التنظيم في الصندوق من هذه الليلة، ويعرض على إمارة المنطقة التي تهتم بهذا الجانب.

أهمية التعاون على تزويج الشباب

أهمية التعاون على تزويج الشباب نعود إلى موضوعنا أيها الإخوة! نقول: لابد أن تتضافر الجهود كلها في تزويج العزاب، وأعرف أن هناك مشاكل، ومن هذه المشاكل أن كثيراً من الرجال حينما يتقدم إليهم كفء يخطب ابنته قد لا يخبرها، وعدم إخباره إياها يعتبر خيانة لها إذا كان هذا الرجل كفئاً، أما إذا كان غير كفء فله الحق في ذلك، ولربما يقول بعضهم: لا أريد أن تخطب الصغرى وتبقى الكبرى، وهذا أيضاً ظلم للصغرى؛ لأن الله تعالى قد أعطى كل واحدة وكل واحد من هؤلاء الناس نصيباً في هذه الحياة، فحينما يتقدم فلان من الناس يريد فلانة وهو كفء لها وهي كفء له، فزوجها إياه، والذين أرادوا أن يبدءوا بالكبرى دائماً قبل الصغرى هم الذين بقيت بناتهم عوانس في بيوتهم؛ لأن الصغرى لحقت بالكبرى، ولحق بها من هو أصغر منها، حتى أصبح البيت مستودعاً لفتيات مظلومات يشتكين من العزوبة، ويردن عشاً صالحاً طاهراً، ويردن أن يتمتعن بالأطفال الذين هم ألذ وأشهى شيء في هذه الحياة خصوصاً بالنسبة للمرأة. كما ألفت الأنظار أيضاً إلى عدم الإسراف في الموائد، أنا من خلال دخولي القليل لقصور الأفراح أرى إسرافاً في الموائد وبذخاً، وهذا لا شك أنه على حساب الزوج والزوجة، وليس على حساب الأب، ولذلك الأب لا يبالي أن يذبح مائة من الخراف أو عشرين أو أقل أو أكثر ما دام أن ذلك ليس من ماله، وقد أشرت لكم إلى أن المال ليس له، وإنما المال للبنت، حتى وليمة الزواج لا يجوز له أن يزيد فيها عن المعقول إلا بإذنها هي؛ لأن المال مالها وليس مال الولي. أيها الإخوان! أبواب الزكاة ومصارف الزكاة ثمانية، وأظن أن أولاها في أيامنا الحاضرة هو مساعدة العزاب الذين يرغبون في الزواج؛ لأن أكثر الأبواب والحمد لله قد استغني عن كثير منها، فمثلاً الفقراء -والحمد لله- قلوا في بلادنا، والله! إن كثيراً من الفقراء في بلادنا لاسيما في المدن وفي مناطق معينة يملك قصراً أضخم من قصر رئيس دولة في بعض البلاد الإسلامية، وعنده من الأطعمة والخير الشيء الكثير، ولا أقول: إنه لا يوجد فقراء، وإن كنت أطالب إخواننا الأغنياء أن ينزلوا إلى أسافل الجبال ليجدوا هناك الفقراء، لكني أقول: إن الفقر نسبياً قد قل في بلادنا والحمد لله، وعدم في كثير من الأحيان، وأصبحت أكبر مشكلة أمام الناس هي موضوع تزويج هؤلاء العزاب. ومن تسبب في زواج شاب صالح بامرأة صالحة له أجر عند الله عز وجل بمقدار ما يتمتع أحدهما بالآخر مدى الحياة وبمقدار ما ينجبون من الأولاد الصالحين الذين يكونون سبباً في عمارة هذه الحياة عمارة صالحة. أدعو أصحاب الخير والثراء والجمعيات الخيرية التي تصل إليها أموالاً كثيرة والحمد لله من المحسنين أن يضعوا بنداً لمساعدة هؤلاء العزاب الذين هم بحاجة إلى الزواج؛ حتى يحفظوا أنفسهم وكرامتهم وطهارتهم، وقد نفذته كثير من الجمعيات الخيرية في بعض مناطق المملكة فرأينا خيراً كثيراً بسبب تبني هذا المشروع العظيم.

وجوب المعاشرة بالمعروف بين الزوجين

وجوب المعاشرة بالمعروف بين الزوجين بعد الزواج يجب على الزوج أن يحافظ على العشرة الزوجية بالمعروف، والله تعالى يقول عن العشرة الزوجية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، فالعشرة الزوجية أمر مطلوب، والذين يتعاملون مع زوجاتهم بشراسة أو بظلم أو بتعدي يهضمون المرأة حقها، ويظلمونها، وسيحاسبهم الله يوم القيامة على ذلك، إضافة إلى أنهم يشوهون سمعة المسلمين لأنهم يحسبون من المسلمين، والعشرة الطيبة تعني القيام بالنفقة، وطلاقة الوجه، ودماثة الخلق، وبذل كل ما في الوسع من أجل أن تكون الحياة سعيدة بين الزوج والزوجة، إضافة إلى تقديم السكن والنفقة والكسوة، والله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، ثم يعد الله عز وجل بالفرج: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، ويقول عن السكن: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6]، وكذلك الكسوة وكل ما تحتاجه هذه المرأة من أشيائها الضرورية والكمالية حسب نظام المجتمع، وحسب استطاعة هذا الإنسان، وحسب مستوى هذه المرأة في المجتمع، فلابد أن يقوم بهذا وإلا فإنه يعتبر مقصراً في حقها.

الزواج عقبات وحلول [2]

الزواج عقبات وحلول [2] للزواج في الإسلام منزلة عظيمة، ومرتبة كريمة، فهو نصف الدين، فبه يسلم المرء من شر الشهوة، فيصرفها في المكان الحلال، وبه بقاء النوع الإنساني، وبناء الأسرة والمجتمع، إلى غير ذلك من المصالح العديدة؛ ولذا فقد رغب الإسلام في الزواج، وأباح تعدد الزوجات، وشرع التيسير في الصداق؛ وبهذا يحصل الخير العظيم للأمة الإسلامية.

تعدد الزوجات في الإسلام

تعدد الزوجات في الإسلام نشير إلى شبهة يثيرها الناس في أيامنا الحاضرة تتعلق بالزواج، وهي تعدد الزوجات، فما حكم الله عز وجل في تعدد الزوجات؟ الله تعالى يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، في أيامنا الحاضرة يثير أعداء الإسلام والمثقفون ثقافة إلحادية أو غربية أو شرقية زوبعة حول تعدد الزوجات، ويقولون: هذا ظلم للمرأة، وإهانة للمرأة، لماذا الرجل يتزوج أربع نسوة، وليس للمرأة أن تتزوج إلا زوجاً واحداً؟! انظر إلى هذه العقلية! لو تزوجت المرأة أربعة أزواج، فهل تنجب في تلك الفترة أكثر من ولد واحد؟ لن تنجب إلا ولداً واحداً، ثم إذا أنجبت ولداً واحداً لمن يكون هذا الولد ولها أربعة أزواج؟! عقول مطموسة، أما الإسلام فإنه أباح للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة إلى أربع، وأرجو ألا تغضب النساء؛ لأن ذلك ليس من مصلحتها، وأرجو من المرأة حينما تسمع هذا الكلام أن تتصور نفسها وهي عانس ليس لها زوج، وأمامها زوج معه زوجة أخرى؛ ألا تتمنى أن تكون هي الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، ولا تكون عانساً حبيسة البيت؟! لاشك أن ذلك هو المنطق وهو العقل. إذاً: عليها أن ترضى بقسم الله تعالى وقضائه وقدره، ولتفرض نفسها في هذا المستوى، أما الله عز وجل فإنه فضل التعدد على الإفراد؛ ولذلك لا أشك أن تعدد الزوجات سنة وليس رخصة مباحة فقط، والدليل أن الله تعالى قدم التعدد على الإفراد، والتقديم دائماً له حكم في نظر الشرع. ثانياً: أن الله عز وجل لم يذكر الواحدة إلا في حالة واحدة وهي حالة الخوف من عدم العدل؛ لأن العدل مطلوب بين الزوجات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه ساقط)، هل تريد المرأة من الاحترام أكثر من هذا الأمر؟ الله تعالى قدم التعدد لأنه أفضل فقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، وما دام الله تعالى جعلها واحدة في حال الخوف، فنقول: من يستطيع أن يكفل أكثر من امرأة أو امرأتين أو ثلاث فإن ذلك هو الأولى لتكثير نسل هذه الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم سوف يكاثر بهذه الأمة الأمم يوم القيامة. الرجل الذي يتزوج بأكثر من زوجة سيقوم بنفقتها وكسوتها وسكنها، وأيضاً سيشبع رغبتها، لاسيما ونحن نعيش في فترة قل فيها الرجال وكثر فيها النساء، وهذا أمر مشاهد بالطبيعة والفطرة البشرية، انظر إلى أي نوع من مخلوقات الله ستجد نوع الأنثى أكثر من نوع الذكر، على سبيل المثال: إذا كنت ممن يفرخ الدجاج انظر إلى عدد أفراخ الدجاج، وكم أعداد الإناث بالنسبة للذكور، وهذه حكمة الله عز وجل، لاسيما في آخر الزمان فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي يوم من الأيام يكون للخمسين امرأة الرجل الواحد القيم يلذن به من قلة الرجال، وهذا لعل آثاره قد بدأت بسبب الحروب الطاحنة، حينما تسمع أخبار العالم ترى أنه كله قد أمسك بالزناد، ويتوقع حروباً دامية، وكم يذهب ضحية هذه الحروب من الرجال! على سبيل المثال: أفغانستان في مدة عشر سنوات استشهد فيها ما يزيد عن مليون وخمسمائة ألف رجل، ويندر أن تكون فيهم امرأة، إذاً: أين بنات هؤلاء؟! وأين زوجات هؤلاء؟! هل تترك للضياع أم نقيم فيها حكم الله عز وجل: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]؟! في الحرب العالمية قتل فيها أكثر من عشرين مليون رجل، وقطع وشوه وأقعد عشرات الملايين من الرجال، إذاً: ما مصير النساء؟! الذين يعترضون على تعدد الزوجات كثير منهم لا يتورعون من الفساد، والدليل على ذلك أنهم يطعنون في دين الله، وأكثرهم لا يتقيد بزوجة ولا زوجتين ولا ثلاث ولا أربع ولا عشر ولا عشرين، فكلما سنحت الفرصة الحرام لأكثرهم لا يفوتونها. في أيامنا الحاضرة انتشرت الخادمات، ويندر في بيوت المسلمين من لا توجد فيه خادمة أو خادمتان أو مربية أو سمها بما شئت، ولو أن رجلاً من الناس جاء بفتاة من الفلبين كافرة ملحدة مشركة وثنية شابة، وكان في بيته يخلو بها أو يخلو بها أولاده؛ فهذا في نظر عصرنا الحاضر تطور وتقدم، ما سمعنا يوماً من الأيام مسرحية أو كاريكاتير أو أحد يتحدث عن تخلف هذا الرجل الذي جاء بهذه المرأة بهذا الشكل، لكن كم تتحدث المسرحيات والكاريكاتيرات والأفلام والمشوهون في الكتب وفي الصحف عن تعدد الزوجات! أظن أن هذا هو الوعد الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (يعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً)، صار الرجل الذي يريد أن يعف فتاة محبوسة في بيت أبيها، ويقيم معها عشاً طاهراً طيباً، وينشأ منهما أولاداً صالحين بإذن الله، ويقوم بكفالتها، ويخلص أباها من المسئولية أمام الله؛ يعتبر متخلفاً في نظر كتابنا في هذا العصر ومتحدثينا، ورجل يأتي بفتاة من الفلبين أو من أي مكان آخر من بلاد الانحلال والفسق والفجور يعتبر رجلاً متطوراً في نظر هذا العصر! انعكاس في المفاهيم! وبعض اللواتي لا يفهمن عن الإسلام إلا قليلاً أو لا يفهمن شيئاً أبداً ولا يقرأن القرآن إلا قليلاً، تقول بعضهن: صحيح أن الإسلام يهين المرأة! فتقول كما يقول هؤلاء العصريون والمتعصرون والمتمسلمون! وتقول: كيف يبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة! ونسيت هذه المسكينة أنها ربما تكون في يوم من الأيام هي التي تتمنى أن يتزوجها رجل لتكون الثالثة أو الرابعة، حتى نسمع في أيامنا الحاضرة من الفتيات العاقلات اللاتي فهمن القرآن والسنة فهماً حقيقياً من تتمنى ولربما تكتب في الصحف وتقول: أتمنى ربع زوج أو ثلث زوج أو نصف زوج. أيها الإخوة! سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التعدد؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي طبق هذه السنة، والله عز وجل أباح شيئاً من الميل في سبيل التعدد مع أن الميل محرم في كل حال من الحالات فقال: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]، إذاً: أبيح شيء من الميل -وهو ما لا يملكه الإنسان- لأن فضل التعدد، ومصلحة التعدد تتغلب على مفسدة الميل القليل. أيها الإخوان! الدعايات المضللة الآن أصبحت تشوه هذا الجانب من جوانب هذا الدين أو تسعى لتشويهه، لكن دين الله لن يتشوه بفعل هؤلاء، لكن هذا أدى إلى كراهية طائفة من النساء اللاتي لم يتثقفن ثقافة إسلامية لهذا الأمر من دين الله، والسر في ذلك هو هؤلاء الذين تبنوا هذه القضية، وسموها مشكلة من مشاكل هذا العصر. إخواني في الله! لابد أن نوضح للنساء حكمة الله عز وجل وتشريع الله عز وجل في هذا الأمر حتى تستبين سبيل المجرمين.

الأسئلة

الأسئلة

خطر السفر إلى الخارج للسياحة وطلب المتعة الحرام

خطر السفر إلى الخارج للسياحة وطلب المتعة الحرام Q هل من كلمة -يا فضيلة الشيخ- للشباب الذين يسافرون للخارج طلباً للمتعة الحرام، رغم أن ظروفهم تساعدهم على الزواج، ولكنهم يفضلون الحرام، غفر الله لنا ولهم، وتاب الله علينا وعليهم؟ A أظن أن هذه الكلمة في هذا المكان لا تصلح؛ لأني لا أظن أحداً من الحاضرين من هؤلاء والحمد لله، والحقيقة أنا رجل كثير الأسفار، وزرت دولاً كثيرة فيها تحلل، ولما أمر بها لمهمة أرجو أن تكون لخدمة الدعوة أفاجأ برؤية كثير من شبابنا في أشياء لا ترغب، ومن خلال رؤيتنا للصحف العابرة نرى دعايات لهذا السفر، مثلاً: عشر فتيات جميلات توضع صورهن في الإعلان، وفي الوسط بادر بالسفر إلى سنغافورا، والشباب الجاهلون عندما ينظرون لهذه الصور يظنون أنهم يدعون إلى هذه الفتيات، وحصل أن آلاف الشباب يسافرون لأهداف سيئة، ورأينا بعضهم في مواقف نرجو الله أن يعافيهم منها ويهديهم، وأقول للدولة وفقها الله وهي خير دولة في الأرض تحكم بشرع الله: لابد أن يؤخذ على أيدي هؤلاء، وتثقل أمور السفر بالنسبة لهؤلاء، ويمنع الشباب من السفر لكن بشرط أن نحل مشاكلهم بالداخل، وقد انتشرت المخدرات في بلاد المسلمين والأمور العظيمة بسبب هؤلاء الذين يسافرون؛ لأنهم يسافرون إلى تلك البلاد التي لا ترعى في المسلمين إلاً ولا ذمة، ولا يوجد فيها شيء اسمه حلال واسمه حرام. ثم أتوجه بعد ذلك لإخواني الشباب وأقول: اتقوا الله، والله تعالى يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]. أيها الشباب الذين ابتلوا بهذه المصيبة! إن لكم أخوات، ولربما لكم بنات، ولربما لكم محارم، وأخاف أن يبتلى أحد منهم في أهله، وهذا هو أخطر وأخوف ما يخافه كل إنسان على محارمه بسبب هذه الفعلات. أيها الشباب! احذروا أن تسافروا إلى بلد الفتنة، وقبل ذلك احذروا هذه المثيرات التي تثير الشهوة في نفوسكم من صحف ومجلات وأفلام وغير ذلك؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وأقول لهؤلاء وأولئك: علينا أن نتعاون جميعاً حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.

حكم ظهور العريس مع زوجته أمام النساء

حكم ظهور العريس مع زوجته أمام النساء Q ما هو رأي فضيلتكم في ظهور الزوج مع عروسته أمام النساء في صالات الأفراح؟! A الزواج اليوم له أخطاء كثيرة يفعلها كثير من الناس، مما يتنافى مع حكمة الزواج الذي شرع للعفة والطهارة، من اختلاط في بعض الأحيان، وسهر إلى الثلث الأخير من الليل، وقد نرى النساء تتسرب إلى قرب الفجر من قصور الأفراح إلى البيوت، بل وجود قصور الأفراح يعتبر في الحقيقة تخلف وإسراف؛ لأن بيوت الناس اليوم أكثرها تحولت إلى قصور كبيرة، وأصبحوا ليسوا بحاجة إلى قصر أفراح مهما كان الجمع كبيراً، المهم أن هناك أخطاء كثيرة، ومن هذه الأخطاء ما أشار إليه الأخ السائل مما نسمع عنه كثيراً، وهو عرض المتزوجة والمتزوج أمام النساء، فنقول: أولاً: هذا الشيء ليس من منهجنا نحن الأمة الإسلامية؛ لأن منهجنا التستر، والزواج في أعرافه وقواعده ونظمه لا يعرف هذه الأشياء التي جاءتنا من بلاد أخرى. ثانياً: لا يجوز للزوج أن ينظر إلى غير زوجته، وعرض الزوج والزوجة أمام النساء السافرات يجعله ينظر إلى غير زوجته، بل لربما يفاجأ برؤية فتاة أجمل من زوجته، فيزهد في زوجته، فيكون الطلاق السريع. الزواج المقصود منه صيانة المسلم والمسلمة، ونشر العفة والطهارة، ولا يجوز أن نتوسع في أي أمر من الأمور المحرمة كالغناء والرقص والأشرطة التي أصبحت تنشر علناً في بعض الأحيان من مكبرات الصوت أو ترقص النساء وربما يشاهدهن الرجال من خلال ثقوب لا يعلمن بذلك، فيؤدي ذلك إلى فتنة. وأنتم -أيها الإخوة- احفظوا نساءكم، ولا يجوز لكم أن تسمحوا لهن بالذهاب إلى مثل هذه المحافل ما دامت غير محفوظة.

حكم تأخير زواج البنت لاستكمال الدراسة

حكم تأخير زواج البنت لاستكمال الدراسة Q الكثير من الآباء والبنات يتعلل عن تأخير زواجها بمواصلة البنت للدراسة، فهل هناك من مناقشة لهذه الفكرة التي انتشرت لدى الكثير من الناس؟ A تعليم المرأة أمر مطلوب، والعلم مطلوب بالنسبة للرجل والمرأة، لاسيما والحمد لله في بلادنا؛ لأن بلادنا تحافظ على مدارس تعليم البنات محافظة ليس لها نظير في أي مكان آخر، لكن هناك طموحات في بعض الأحيان نفاجأ بها تقول: إن المرأة لا تقف عند حد من التعليم، ولا عند فن من الفنون، حتى تحصل على الدكتوراة وما دون ذلك وما فوق ذلك، ثم لابد من العمل، مع أن سن مرحلة الزواج بالمرأة والرغبة فيها محدودة! إذاً: كيف ندعها حتى تكمل دراستها إلى آخر مرحلة من مراحلها، ثم هي تطمح بعد ذلك إلى العمل دون قيد ولا شرط، وأكثر الرجال لا يريدون أن تعمل المرأة؛ لأنهم يريدون أن تكمل المتعة بينها وبينهم، ويريدون أن تكون امرأة تربي أولادهم وتنشئهم، فمتى يكون سن الزواج؟ ومتى تكون مرحلته؟ أظن أن المرأة لا يمكن أن تكمل آخر مرحلة من مراحل الدراسة على الأقل إلا بعد إكمال ثلاثين عاماً، ثم لربما تطمح إلى العمل عشرة أعوام، ولا تفكر بالزواج مندفعة بسبب العمل، فإذا صار لها أربعون سنة، من سيرغب في هذه المرأة التي بلغت من السن أربعين سنة؟! ثم ماذا بقي لها من فترة الإنجاب؟! أظنه لم يبق إلا سنين قليلة، ولربما تفوتها هذه السنون فتصبح أرملة المستقبل.

حكم استئجار النساء للضرب بالدف في الزواج

حكم استئجار النساء للضرب بالدف في الزواج Q ما حكم استئجار النساء للضرب بالدف في الزواج؟ A هذه أخبث وأخس مهنة، وأي امرأة تقوم بهذه المهنة أعتقد أنها وصلت إلى أخس مهنة يمكن أن تكون للمرأة، ضرب الدف للزواج أمر مباح، لكنه بحدود، وقد توسع فيه كثير من الناس، أما وقد توسعوا فيه فإني أقول: يجب أن نرجع إلى الحق، وإلى منهج السلف، أما أن تكون هناك نساء تستأجر لهذه المهمة فهذه تعتبر أسفل مراحل تصل إليها المرأة.

للأخ أن يعترض على أبيه إذا أراد أن يزوج أخته بغير كفء

للأخ أن يعترض على أبيه إذا أراد أن يزوج أخته بغير كفء Q هل يجوز لي أن أعترض على زواج أختي من رجل ليس صالحاً؟ A نعم، فالأب الذي اختار لابنته رجلاً غير ملتزم وغير متدين لا يحسن الاختيار، وسوف يعرض ابنته لفتنة ولمعاصي ولأخطاء كثيرة، ولربما يكون هذا الأب إما جاهلاً وإما مندفعاً وراء مطلب من المطالب المادية أو ما أشبه ذلك، وأقول لك أيها الأخ: إذا كان أبوك يريد أن يزوج أختك برجل غير كفء فعليك أن توجه هذا الأب، ولا أقول: تعترض عليه؛ لأن الاعتراض ليس من البر، لكن حينما يصل الأمر إلى أن يصمم هذا الأب على تزويج هذا الفاسق الذي قد تأكد فسقه وانحرافه فإن عليك أن توقفه بالقوة عند حدوده، وذلك بأن تبلغ الجهات المسئولة بأن زوجها غير كفء لها.

هل يجوز صرف الزكاة لمن يريد الزواج بثانية

هل يجوز صرف الزكاة لمن يريد الزواج بثانية Q هل تجوز الزكاة لمن يريد أن يتزوج بثانية وثالثة؟ A ما دام الزواج بثانية وثالثة أمراً مباحاً، وهذا أقل ما قيل فيه، وأنا أعتقد أنه أمر مسنون، وفيه مصلحة للمجتمع؛ فإنه في حالة إقدامه على الزواج يرى أنه بحاجة؛ لأن هناك كثيراً من الرجال لا تسد حاجتهم امرأة واحدة، إضافة إلى ما يعترض سبيل المرأة من العادة الشهرية ومن النفاس ومن الأمراض ومن العزوف عن هذه الشهوة إلى غير ذلك مما قد يسبب لهذا الرجل الفتنة، فهو لن يقدم على هذا الزواج إلا برغبة يعتقد أنها هي المصلحة؛ لأنه لن يقدم عليه أحد يريد أن يستكثر من النساء دون حاجة، وما دام الأمر كذلك وقد أقدم على الزواج وهو بحاجة فلنا أن نصرف له من الزكاة بمقدار ما يؤهله لهذه المرأة، لكن علينا أن نقدم في هذه المهمة من أراد أن يتزوج الزواج الأول؛ ولذلك أقترح على الشيخ البشري وجماعته الذين سيتولون هذا الصندوق أن يحصروه فقط في الزواج الأول؛ لأنه غالباً لا يقدم أحد على الزواج الثاني إلا مع الاستطاعة، لكن تحل الزكاة لمن أراد أن يتزوج الزواج الثاني إذا كان لحاجة.

حكم رقص الرجال في الأعراس

حكم رقص الرجال في الأعراس Q يقول بعض الإخوة: العادة في القرى تجمع الرجال في مناسبة الزواج للرقص والعرضة وضرب الطبول وإنشاد الشعر، وربما ذلك سبب من الأسباب التي تهيج النساء إلى التطلع على الرجال، وفي هذا ما فيه من المفسدة، فما هو البديل الشرعي لذلك؟ A إظهار الفرح أمر لا بأس به في مثل هذه المناسبة، أما أن يصل إلى أن يرقص الرجال كما ترقص النساء، ويتمايلون كما تتمايل النساء، ويأتون بالأهازيج والشعر الغزلي المثير أو ما أشبه ذلك؛ فهذا أمر لا يجوز شرعاً، والبديل من ذلك هو أن يكون هناك حركات رجولية، وشعر حماسي مفيد أو مشجع على فعل الخير، وذلك يغني عن هذا التمايل وهذا التأنث الذي يفعله بعض الرجال أو بعض الشباب بصفة خاصة.

زواج المرأة القبيلية برجل غير قبيلي

زواج المرأة القبيلية برجل غير قبيلي Q لقد فهمت من كلامك أنك تدعو إلى العادات القبلية والاجتماعية في الزوج واختياره، وقد ضربت مثالاً على ذلك، أرجو من فضيلتكم زيادة التوضيح حتى تتجلى المسألة أكثر في ضوء الشريعة الإسلامية؟ A أنا ما أدعو إلى القبلية معاذ الله! (دعوها فإنها منتنة)، القبلية خطيرة، وما يدعو إليها أحد من المسلمين، أنا قلت لكم: العادة التي درج عليها الناس اليوم ألا يزوج القبيلي موليته إلا برجل قبيلي مثله، يعني: رجل من قبيلة معروفة، وقلت لكم: إن منهج الشرع خلاف ذلك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، هذا هو الميزان الذي وضعه الله عز وجل للناس، وضربت لكم أمثلة من الزيجات التي تزوج فيها رجال أصابهم الرق بنساء عربيات من أصل العرب، بل من أفضل العرب من قريش، ومن أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي حدث يوم كان المسلمون يطبقون الإسلام تطبيقاً كاملاً، ما كانوا يقدمون القبلية، ولا كانوا يقدمون المركز ولا الشهادة ولا المال ولا أي شيء من ذلك، لكني قلت بعد ذلك: أخشى أن يؤدي كلامي هذا إلى إثارة فتن في المجتمع فقلت: لو أن رجلاً استشارني هل يزوج ابنته التي تنتسب إلى قبيلة عريقة رجلاً لا ينتسب إلى قبيلة أصيلة، أو ليس له أصل معروف لقلت له: لا تزوجه إلا بشرط أن يتفق المجتمع كله على أن يلغي هذه الطبقية، وحينئذ زوجه، ويكون لك أجر كبير، أما أن تزوجه والمجتمع كله ضدك فأخشى أن تثور فتنة بسبب هذا العمل، ولربما يتحرك أبناء عمك وأبناء عشيرتك وأولادك وأعمامك ويفسدون العلاقة بين الزوج والزوجة؛ فيسبب ذلك فتنة في المجتمع أو لربما تترفع هي على ذلك الرجل كما ترفعت زينب بنت جحش على زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وإذا كان الأمر كذلك فإني أقول: المطلوب حلها على مستوى عام وفق المنهج الإسلامي، بحيث لا نجعل في المجتمع خضيرياً ولا قبيلياً، ونجعل الأمة كلها ترجع إلى أمة واحدة هي أمة الإسلام، فالذي يحمل هوية الإسلام ويطبقه نعتبره ينتسب إلى قبيلة؛ لأن النسب الصحيح للمسلم هو لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

حكم ضرب النساء للدفوف والرقص أمام النساء

حكم ضرب النساء للدفوف والرقص أمام النساء Q هل يجوز للنساء الرقص والتمايل على الدف؟ وما هي الصورة الشرعية لضرب الدف وتجمع النساء في الفرح في هذه المناسبات؟ A ليس الدف من السنة، بل هو من الأمور المباحة، وهو مباح في مسألة واحدة وهي إعلان الزواج، فالنكاح يعلن بالدف، لكن أظنه في أيامنا الحاضرة بدأ يعلن النكاح بأشياء كثيرة لا يحتاج فيها إلى الدف، من الأنوار الكاشفة الشديدة التي أصبحت الآن وسيلة من وسائل إعلان الزواج، والبطاقات التي تقدم للناس قبل الزواج لدعوتهم بمدة تعتبر من إعلان الزواج، والدف الآن ليس دوره هو إعلان الزواج كما هو الأصل في إباحة الشرع له، وإنما أصبح الآن فقط للعب، لكن ما دمنا نتسامح في إظهار الفرح فلا بأس به بحيث يدق النساء الدفوف، لكن بشرط ألا تتمايل النساء، وألا يراهن الرجال، وألا يظهر صوتهن للرجال، وألا يغنين بشعر غرام وعشق، وألا تكون هناك أشرطة يؤتى فيها بمغنية أو مطربة كما يقولون، هذه كلها شروط لابد منها، والله أعلم.

المرأة في الإسلام ما لها وما عليها

المرأة في الإسلام ما لها وما عليها لقد عانت المرأة ألواناً من الظلم والإهانة والحرمان من حقوقها، وذلك على اختلاف العصور والبلدان والمذاهب والأديان، فلم تزل تتعرض لأنواع الظلم والقهر والحرمان حتى وصل الأمر إلى إنكار حريتها وعدم الاعتراف بإنسانيتها، فقد كانت تدفن حية خوف الفقر والعار، حتى جاء الإسلام فرفع شأنها، وحررها من ذلك الظلم والقهر، وأعطاها حقها، فلم تستوفى حقوقها في دين غير دين الإسلام، ولم تنل كرامتها في بلاد غير بلاد الإسلام، وهذا هو الدين الحق الذي منحها كل ما تستحقه، ولم يكلفها من المهام والمسئوليات ما لا تطيق، ومن تأمل حالها في الأديان الأخرى، والمذاهب الهدامة بان له الحق، واتضح له الطريق.

أهمية قضية المرأة في هذا العصر

أهمية قضية المرأة في هذا العصر {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، نحمده ونشكره، ونثني عليه كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإن الحديث عن مشاكل المسلمين يطول، ومن يريد أن يتحدث عن مشاكل المسلمين لا يدري من أين يبدأ وإلى أين ينتهي! ولاشك أن موضوع المرأة من أهم المواضيع التي بدأ العالم يخوض فيها ويسلط الأضواء عليها، والحديث عن المرأة حديث طويل متشعب يحتاج إلى زمن ليس باليسير، وقضية المرأة قضية مهمة؛ فهي تشكل نصف المجتمع من حيث العدد، وأجمل ما فيه من حيث العواطف، وأعقد ما فيه من حيث المشكلات، وأخطر ما فيه من حيث العواقب والنتائج. ولقد تميز عصرنا هذا بميزات أهمها: أنه عصر الدعاية والتضليل، وعصر الفتن بجميع أنواعها، وأخطرها على الرجال: فتنة النساء التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) فجعل الدنيا كلها في كفة، وجعل النساء في كفة أخرى؛ فالدنيا بجميع مفاتنها وما فيها من مال، ومناصب، وشبهات، وشهوات في كفة، والنساء في كفة أخرى. كما أنه عصر برز فيه المنافقون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وخُدع الناس بهذه الحضارة والتمدن، وصارت القيادة في كثير من المواقع في أيدي غير الأمناء، فوجهوا الحياة وجهة غير سليمة، وأظهروا عطفهم على المرأة وهُم أعداؤها! واتهموا الإسلام بأنه ضدها، وأنه يسلبها كثيراً من حقوقها! ولقد بلي عصرنا هذا أيضاً بوسائل إعلام لا تتجه وجهة سليمة، ووسائل دعايات ونشر مضلة، وازداد تأثير هؤلاء، ووصلوا في دعاياتهم المضللة إلى قعر بيوت المسلمين، مهما اتخذ المسلمون من الحيطة والحذر، وكثيراً ما كان المسلمون هم السبب في إيصال هذه الدعايات إلى بيوتهم، ومن المؤسف جداً أن كثيراً من هؤلاء الرُّعَناء من أبناء جلدتنا، ومن الذين يتكلمون بألسنتنا!! وقد حدثنا عنهم الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بقوله: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)، ومما لا شك فيه أن هذه الفترة التي نعيشها هي تلك الفترة التي كان يعيش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما نريد أن نتكلم عن المرأة نجدها اليوم قد صارت لعبة بأيدي العابثين والحاسدين، وقد تجرءوا عليها باسم حقوقها وحريتها وإنسانيتها وما إلى ذلك، فهم يريدون منها أن تكشف وجهها أولاً، ثم يريدون منها أن تتبرج بعد ذلك وتبدي زينتها؛ لتكون -في نهاية الأمر- صيدهم وفريستهم، وليحصلوا عليها بسهولة. وإذا ناقشتَ هؤلاء وبيّنتَ لهم وجهة الإسلام في هذه الناحية قالوا: أنت متخلف!! أنت رجعي!! أنت عدو للمرأة!! أنت سفيه!! {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13]. وإذا قيل لهؤلاء لماذا تقلدون الكفرة وقد أمرنا الله عز وجل باتباع سبيل المؤمنين، ونهانا عن اتباع الكافرين، وقال {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]؟ قالوا: هؤلاء صنعوا معجزات على ظهر الحياة! وما علم هؤلاء أن أولئك يضربون يداً بيد على ما كسبت أيديهم في شأن المرأة. ولقد سلك هذا المسلك المنحرف أمم من قبلنا، فعضّوا أصابع الندم، وانفلتت من أيديهم أزمّة الأمور، وصاروا يودون لو تعود المرأة إلى السبيل القويم، وتبقى في بيتها، وهيهات لهم ذلك. لقد حدث هذا في بلاد الغرب وفي بلاد الشرق أيضاً، بل وفي البلاد الإسلامية التي سبقتها إلى هذا النوع من الحضارة المزيفة، أو خطط الاستعمار مسيرتها من أجل أن يقذف بها في مكان سحيق، حتى إنك لا تكاد -وأنت في كثير من البلاد الإسلامية- تجد فرقاً واضحاً بينها وبين بلاد الكفر!! لأن الاستعمار هو الذي خطّط ورسم منهج الحياة فيها، ولقد بُلي عالمنا بالتقليد الأعمى، فلا يكاد المترفون يرون أو يسمعون بما في بلاد الكفر إلا ويريدون أن يوجد مثله في بلادهم! ومما يسر لهم ذلك انتشار وسائل الاتصال بأنواعها، ووسائل التنقل بين أجزاء هذا العالم، مما ييسر انتقال هذه العدوى، فتشابه هذا العالم كافره ومسلمه في كثير من الأشياء، حتى في الأزياء والعادات.

موقف المنافقين والمرجفين من الإسلام حول قضية المرأة

موقف المنافقين والمرجفين من الإسلام حول قضية المرأة وفي بلدنا هذا بالذات بدأنا نسير خلف الركب، وبدأنا نسير من حيث يتراجع أولئك!! وصار بلدنا اليوم يعيش ضجة كبرى حول المرأة؛ فهناك من يقول: إن الإسلام سوّى بين الرجل والمرأة في كل شيء!! وهناك من يقول: إنه ظلم المرأة وسلبها حقوقها!! وهؤلاء وأولئك يقولون في شرع الله بغير علم؛ فهو لم يسوّ بينهما في كل شيء، وهو أيضاً لم يظلم المرأة، بل أكرمها الله عز وجل بالإسلام، وهو الذي أخرجها بدينه من الظلمات إلى النور، وهؤلاء نوعان: نوع جاهل، بالرغم من هذه الشهادات الجامعية التي يحملونها، فإنهم -كما قال سبحانه وتعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، لأنهم درسوا كل شيء في هذه الحياة إلا العلم بالدين! وعرفوا كثيراً إلا ما له صلة بالدين! فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. وهناك نوع مبغض هدفه الوحيد السعي إلى هدم قواعد هذا الدين، والإطاحة به ولو كان ممن ينتسب إليه، والله عز وجل يقول عن هؤلاء: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. وهؤلاء أيضاً على نوعين: هناك نوع يحمل الحقد الدفين على هذا الدين، ويعلم علم اليقين أنه بطريق المرأة يستطيع أن يهدم أعز شيء في هذا الوجود، لأن قائلهم يقول: لا أحد أقدر على جذب المجتمع من هذه المرأة. ومن هنا خططوا ونظموا أمرهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ولقد بدأ تنفيذ هذا المخطط منذ أن ارتفع شأن الإسلام وعلمه في المدينة النبوية، يوم وصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام هناك دولة التوحيد، حديث انبعث هناك حزب اليهود على يد عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهراً لهدف هدم الإسلام ثم جاء من بعده أتباعه يتواصون بهدم الإسلام، ويعقدون المؤتمرات، ويرسمون المخططات، وأهمها: حرب المسلمين بواسطة المرأة، ولم يصل النصيريون إلى حكم سوريا إلا بهذا الطريق أيضاً. وهناك نوع مقلد، لكنه لم يفكر بهذه النتائج، حدثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). وهذه الأصناف كلها وإن اختلفت مشاربها، وتفرعت سبلها تجتمع في مصب واحد وهو محاولة القضاء على الدين والأخلاق، ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومتم نوره ولو كره الكافرون، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. والمقلدون أخطر على الإسلام من الكفار لأنهم كما قال سبحانه وتعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر:2]، ونحن نقول: وبأيدي الكافرين، وهؤلاء عاشت طائفة منهم هناك في البلاد الكافرة، وأعجبوا بأخلاقهم، وانغمسوا في فسادهم، حتى تمنوا لو أسرعت بهم الأيام وعادوا إلى بلادهم الطاهرة المتخلفة -كما يظنون- ولو سمحت لهم الظروف، ومكنتهم مراكزهم الوظيفية ومكانتهم الاجتماعية لقضوا على هذا الدين في أقرب وقت ممكن، ولقد تحقق لطائفة منهم سلطات ومناصب مختلفة، فصار كالسبع الجائع، سواء بواسطة الصحافة، أو الأفلام، أو غير ذلك من وسائل الإعلام الأخرى. وأنتم تقرءون في بعض صحف العالم الإسلامي، وتدركون ما تحمله من الخطر في مقالاتها وقصصها من هجوم عنيف على الإسلام، وحرب شعواء على تعدد الزوجات، وذلك بطريق مفهوم التشجيع على الفاحشة، وتدخل في حكم الله في شئون الطلاق، واتهام لرسوله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وسخرية من الحجاب وغير ذلك.

حال المرأة في الأديان والبلدان المختلفة

حال المرأة في الأديان والبلدان المختلفة حينما نريد أن نتحدث عن المرأة في نظر الإسلام، وعن حقوقها وميزاتها التي ميزها الله عز وجل بها في هذا الدين، وكيف أن الإسلام يعتبر متنفساً لها بعد طول إهانة وحرمان؛ نريد أن نُصدّر هذا البحث بحديث موجز عن حال المرأة في مختلف الديانات والمذاهب القديمة والجديدة، وكيف كانت المرأة مستذلة ممتهنة قبل الإسلام، وفي البلاد التي لم يدخلها نور الإسلام.

المرأة عند الآشوريين والبابليين

المرأة عند الآشوريين والبابليين كان الآشوريون والبابليون يبيعون المرأة بيعاً علناً كما يباع الرقيق في الأسواق! ويتولى ذلك الكهان والزعماء الروحيون، فكانت المرأة في نظرهم من سقط المتاع! وكانوا يهينونها إلى أخس درجات الإهانة.

المرأة عند اليونان

المرأة عند اليونان كان اليونان يمنعون المرأة من التصرف في مالها، ولا يبيحون لها التملك والأخذ والإعطاء، بل يعتبرونها مملوكة للرجل يتصرف فيها كيف شاء، يبيعها ويشتريها ويؤجرها.

المرأة عند الفرس

المرأة عند الفرس كان الفرس يقولون: إن المرأة من حقوق الرجل، فله قتلها متى شاء، ومتى بدا له ذلك! ولا حظّ لها في التعليم، ولا يجوز لها الخروج من البيت، وهي عرض من العروض تباع وتشترى!

المرأة عند الأتراك القدامى

المرأة عند الأتراك القدامى كان الأتراك القدامى يقدمون النساء جماعات لشهواتهم في الليل! وفي النهار كانوا يستعملونهن للحراسة كما تستعمل الثيران، وكما يستعمل سائر الحيوان! إلا أنهم كانوا يقدسون الأم فقط. وعند بلوغ البنت تكون منبوذة لا يبيحون لها الزواج إذا طُلقت، وإذا مات زوجها فلا بد أن تحرق جثتها مع جثته! وزوجها يملكها في حياته كسائر المتاع.

المرأة عند البربر

المرأة عند البربر تعتبر المرأة عند البربر سمّاً للرجل، لا تكلمه ولا تأكل معه ولا تنطق باسمه، ويقولون: ليس السم والأفاعي والجحيم والموت أسوأ من المرأة.

المرأة عند الصينيين

المرأة عند الصينيين الصينيون كانوا يحتقرون المرأة، ويحرمونها من ميراث زوجها وأبيها، ويضاعفون عليها العقوبة أكثر من الرجل! وكان في بعض شرائعهم وأنظمتهم أنه يجوز للرجل أن يجمع إلى ثلاثين ومائة امرأة بعصمة رجل واحد!

المرأة عند اليابانيين

المرأة عند اليابانيين بقيت المرأة لدى اليابانيين حتى عام 1875م لا وزن لها في المجتمع، فهي عندهم وسيلة متاع فقط، ويعتبرونها رجساً من عمل الشيطان! وتباع وتشترى في الأسواق كما يباع الرقيق!

المرأة في شريعة حمورابي

المرأة في شريعة حمورابي كانت المرأة في شريعة حمورابي تعد من ضمن الماشية! حتى أن من قتل امرأة يسلم ابنته بدلها ويتصرف فيها ولي الدم كيف شاء، إن شاء قتلها، وإن شاء باعها، وإن شاء تمتع بها!

المرأة عند قدماء المصريين

المرأة عند قدماء المصريين جرت العادة في مصر أنهم كانوا يقدمون فتاة من أجمل فتياتهم إذا توقف نهر النيل عن الجريان، ويتصورون أن نهر النيل يجري إذا قذفوا فيه هذه الفتاة البريئة! حتى فتح المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه فطلبوا منه هذا الطلب حينما توقف نهر النيل، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره في هذا الأمر، فقال: هذا أمر لا يجوز، وأرسل ورقة صغيرة كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر بن الخطاب إلى نهر النيل، أما بعد: فإن كنت تجري بأمرك فلا تجر، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر. فجرى النهر، وزالت تلك الخرافة، وسلمت المرأة التي كانوا يقدمونها كل سنة ضحية لهذه الخرافة!

المرأة عند اليهود

المرأة عند اليهود لم تسلم المرأة عند اليهود من الظلم، فكانوا يعتبرونها من القاصرين الثلاثة الذين لا بد أن يُحجر عليهم وهُم: الطفل والمجنون والمرأة، ولم يُعدّل هذا القانون إلا منذ أربعين سنة! ويعتبرونها في منزلة الخادم!! ويعتبرونها لعنة؛ لأنها هي السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة، والله تعالى قد برأها بقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكما هو معروف في سياسة اليهود الخبيثة -إلى يومنا هذا- فقد جعلوها شبكة يصطادون بها ضمائر الرجال وأخلاقهم، ويأخذون بها ممتلكات المسلمين وبلادهم، ويفسدون بها المجتمعات، وهدفهم بذلك السيطرة على العالم، فهي وسيلة الصهاينة كما هي ضمن مخططات الماسونية العالمية للاستيلاء على العالم، والقضاء على الأديان والشعوب.

المرأة عند النصارى

المرأة عند النصارى النصارى يعتبرون المرأة مصدر الشر والفساد! ويعدونها في أجسام الشياطين، والأمثال السائرة لديهم تدل على هذا الاحتقار المشين، يقول المثل الإيطالي: المهماد للفرس الجواد, والعصا للمرأة الصالحة والطالحة، ويقول المثل الأسباني: احذر المرأة الفاسدة ولا تركن إلى المرأة الصالحة!

المرأة عند الإنجليز

المرأة عند الإنجليز يجوز عند الإنجليز بيع المرأة، ولقد حدد سعرها رسمياً بستة فلسات -أي: ما يعادل نصف ريال في عملتنا الحالية! - ولم يعدل هذا النظام أيضاً إلا منذ اثنين وأربعين عاماً!! والمرأة في بريطانيا إلى يومنا هذا ساقطة في الحضيض، فمن الصعب حصولها على زوج، وعندما يتحقق لها الزوج، وتحصل على هذا الحلم فإنها هي التي تدفع المهر! ومهرها لا يعدو بضعة جنيهات، وكان ذلك من أكبر أسباب انحطاط المرأة هناك، وأكبر أسباب فسادها.

المرأة عند العرب قبل الإسلام

المرأة عند العرب قبل الإسلام أما المرأة في البلاد العربية فقد وصلت في جزيرة العرب قبل الإسلام إلى أقصى درجات الإهانة والاحتقار، فكانت في كثير من الأحيان تعتبر من سقط المتاع! حتى لقد حرمتها طائفة من هؤلاء حق الحياة، فكانت تقتل بدون سبب، بل كانت تدفن حية -ويسمى الوأد- خشية العار والفقر، وقد أنزل الله فيها قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59]، فكانوا يفعلون ذلك خشية العار والفقر. جاء قيس بن عاصم المنقري مسلماً، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، وقال: إنه قتل ثلاث عشرة بنتاً من بناته!! ولذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما كنا نعد النساء في الجاهلية شيئاً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم. وكانوا يكرهون ذكر المرأة في مجالسهم، حتى لقد كان قائلهم يقول: إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم وهذا وإن كان فيه شيء من المحافظة والغيرة، إلا أنه يدل على الإهانة والاحتقار، وكان ذلك رد فعل لما حصل في الجاهلية الأولى من التبرج والفساد مما أخاف هؤلاء على بناتهم حتى اندفعوا إلى قتلهن ودفنهن خشية العار. وكان هناك زواج البضاع في الجاهلية، ومعناه: أن يعجب رجل برجل فيرسل زوجته إليه من أجل أن يلقحها ولداً ليخرج ولداً لبيباً ذكياً -كما كانوا يعتقدون-!! وكان أيضاً هناك زواج الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته أو موليته لرجل يزوجه ابنته أو موليته مبادلة، وتحرم المرأة حينئذ من المهر، كما أنه لا يؤخذ رأيها في الزواج، حتى حرمه الإسلام احتراماً للمرأة، وأمر باستئذانها إن كانت بكراً، واستئمارها إن كانت ثيباً، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها صماتها). وكان أيضاً هناك زواج المتعة، وزواج المتعة مما تهان به المرأة، يعجب الرجل بالمرأة فيتزوجها أياماً أو شهوراً أو سنين معدودة ثم يطلقها بعد ذلك، فحرمه الإسلام احتراماً لها؛ حيث لا بد أن يكون الزواج لهدف السعادة لا لهدف الشهوة، وأخطر من ذلك أنه كانت هناك متاجرة في أعراض الإماء، فكان طائفة من الناس يشترون الإماء من أجل أن يؤجروا أعراضهن! حتى أنزل الله قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]. فكانت هناك إهانة حقيقية للمرأة، فلا وزن لها، ولا يقتص من الرجل لها إذا قتلها! ولا دية لها إذا قتلت! وتباع وتشترى وتعار وتستأجر، وكان أهل الدين الأولون أيضاً لا يعتبرون لها مكاناً في الجنة، ولا نصيب لها في نظرهم من رحمة الله؛ لأنهم يعتبرونها من فصيلة الحيوان كما هو رأي طائفة إلى اليوم في كثير من البلاد المتمدنة المتخلفة!! وإذا مات الزوج يرث زوجته أكبر أولاده من غيرها!! حتى أنزل الله قوله تعالى في هذا الأمر محرماً له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]. وكانوا يتشاءمون منها، وليس لها خيرة في أمر من الأمور! حتى جاء الإسلام فأثبت لها حقوقها وأثبت لها حق القصاص، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وأثبت لها دية إذا قتلت، وجعل لها حق التصرف في مالها، وأثبت لها حق الميراث مما قل أو كثر من التركة التي يخلفها الميت في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7]، وجعل لها حق التصرف الكامل، وجعلها بشراً سوياً له كل المقومات الإنسانية والحقوق.

المرأة عند الشيوعيين

المرأة عند الشيوعيين تعتبر المرأة في البلاد الشيوعية لا قيمة لها، فالشيوعيون قديماً وحديثاً لا ينظرون إلى المرأة نظرة إنسانية! فيعتبرونها متاعاً مطلقاً لأي إنسان، بل إن آخر شوط من أشواط الشيوعية أنهم يعتبرون المرأة متعة عامة، فهي كسائر المرافق العامة يفضي إليها الرجل ليقضي حاجته وشهوته، ثم بعد ذلك يحرمونها من عاطفة الولد التي جعلها الله عز وجل للناس جميعاً، وحببها إلى النفوس حتى للحيوان، فالطفل الذي ولدته ليس ابناً لها عندهم، ولكنه ابن للدولة!! فهي تعتبر عندهم جهاز تفريخ!! فهم يحرمونها أبسط حقوقها وهو الولد الذي جعل الله عز وجل محبته والميل إليه فطرة فطر النفوس عليها، قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14]، والمرأة تلاقي في سبيل الحصول على هذا الولد عناء شديداً من الحمل والوضع ولكنها في البلاد الشيوعية تحرم من هذه العاطفة، بعد أن تتحمل هذا العناء والتعب. وكانوا قديماً يشكّون في إنسانيتها ووجود الروح فيها! كما يقول المثل الروسي: لا تجد في عشر نسوة إلا روحاً واحدة!! ونظرة الشيوعية للمرأة ليست غريبة؛ لأنهم يحقدون على جنس الإنسان كله! ومن مبادئها إبادة البعض في سبيل الدولة، والمرأة يعتبرونها هي المنتج لهذا الإنسان، وهم يكرهون هذا الإنسان ويحقدون عليه. الغربيون يتظاهرون بإكرام المرأة والعطف عليها، فيعطونها من الحرية فوق المعقول، والحقيقة أن ذلك جناية عليها، ولقد استقدموها عاملة في المصانع بالرغم من أن تركيبها وقوّتها لا تصلح لذلك، كما أخرجوها من بيتها حتى اضطروها إلى تسليم أولادها إلى دور الحضانة، لتحرم من عاطفتها! وحملوها من العمل ما لا تطيق. وأخيراً جعلوها وسيلة دعاية، ووسيلة متاع حتى فقدت مكانتها في الحياة!! حتى إذا انتهوا من حاجتهم منها رموها كما يرمى الثوب الخلق، ولربما كانوا السبب في عنوستها أو طلاقها وشقاءها حينما يشغلونها عن الزواج وتربية الأبناء بالعمل الدائب المستمر، وهذا واقع مشاهد.

المكانة التي تبوأتها المرأة في ظل الإسلام

المكانة التي تبوأتها المرأة في ظل الإسلام عرفنا فيما سبق كيف كانت المرأة في ظل المعتقدات الفاسدة في إهانة واحتقار، فلقد كانت تهبط عن مستوى الحيوان في كثير من الأحيان، فجاءت شريعة الله الخالدة، فأخرجها الله من هذا الظلم إلى عدل الإسلام، وأخرج هذا المجتمع من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الكفر والإهانة والذل والاستعباد إلى نور الإسلام، لقد جاء الله بهذا الخير فتنفست المرأة الصعداء، ورأت حريتها في ظل دين الله القويم، وأنزل الله فيها آيات تتلى، بل خصها بسورة كاملة من أفضل سور القرآن وهي: سورة النساء، وسورة أخرى خصصها الله عز وجل للطلاق؛ لإنهاء قضايا الزوجية على قواعد متينة ثابتة، وكلها تعد بالفرج والمخرج، وتأمر بالرفق واللين. لقد أنزل الله آيات في هذا الأمر كثيرة مفرقة في القرآن الكريم، كلها تبين حقوق المرأة، ومالها وما عليها، وجعلها في مرتبة الرجل في كثير من الأحيان، وميزها كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وجعل الله المرأة من أكبر نعمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وجعلها سكناً للرجل ومرقداً له {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وساوى بينها وبين الرجل في الذكر بالرغم من دخولها تبعاً معه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية، وقد نزلت بعدما جاءت بعض نساء الصحابة رضي الله عنهن تذكر رغبتها في ذكر النساء كما ذكر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)) كما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذ البيعة منهن كالرجال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12] إلى آخر هذه الآية حتى قال: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12]. وسمع الله مجادلة المرأة من فوق سبع سماوات حينما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادل في شأن زوجها الذي ظاهر منها، وأن لديها ذرية لا تدري ماذا تفعل بهم، لو ضمتهم إليه ضاعوا، ولو ضمتهم إليها جاعوا! فأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] إلى آخر الآيات. وجعل لهن حقوقاً كاستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهن كالرجال، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، وجاءت السنة مؤكدة لهذه الحقوق، ومطالبة الرجال بحسن العشرة والمعاملة الحسنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)، وفي حديث آخر: (الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر لحظة من لحظات حياته! وفي حديث آخر أيضاً: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، وفي خطبة حجة الوداع يقول عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة).

إكرام الإسلام للمرأة بنتا

إكرام الإسلام للمرأة بنتاً ولقد اهتم الإسلام بالمرأة بنتاً، فأمر بالإحسان إليها، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار)، وشدد على هؤلاء الأثرياء الذين يئدون البنات كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بالتربية الحسنة لها حتى يسلمها لزوجها بحيث يسعى في سبيل البحث عن الرزق لها، ثم يسعى لإصلاح دينها وأخلاقها، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نحل والد ولده شيئاً أفضل من خلق حسن) وجعل لها حقاً في الميراث مما قل أو كثر.

إكرام الإسلام للمرأة زوجة

إكرام الإسلام للمرأة زوجة لقد أمر الإسلام باختيار الزوجة الصالحة مع عدم الاهتمام بالمال والمركز والجاه وغير ذلك، فيقول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، ويقول عليه الصلاة السلام: (إذا خطب منكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). وكما أمر باختيار الرجل الصالح للمرأة الصالحة، أمر أيضاً الرجل أن يختار المرأة الصالحة أيضاً، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحسناء الجميلة إذا نبتت في منبت السوء فيقول: (إياكم وخضراء الدمن) وهي المرأة الجميلة تنبت في منبت السوء. ونهى عن العضل، وهو: منعها من الزواج حين يتقدم لها الكفء الصالح، قال الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232]، ولقد نزلت هذه الآية حينما طلق أحد المسلمين زوجته، ثم انتهت العدة فأراد أن يتزوجها مرة أخرى، فرفض أخوها وأقسم ألاّ يزوجه إياها مرة أخرى بالرغم من أنها تريد الرجوع إلى زوجها الأول؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. إذاً: فلها الحق في اختيار زوجها السابق إذا رغبت فيه، واعتبر العاضل إذا منع موليته من النكاح مسئولاً عما تحدثه من فاحشة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من منع موليته فوقعت في شيء فعليه إثمها). وجعل لها الحق في اختيار الزوج الكفء؛ فلا يجوز إجبارها على رجل معين لا تريده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن). وخيّر الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة حينما زوّجها أبوها بدون إذنها، فخيرها بين الاستمرار أو الفسخ، فاختارت الاستمرار، وقالت: أريد أن يعرف الآباء أن ليس لهم أمر في إكراه بناتهم. وجعل الصداق حقاً لها، فيقول الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]. وأمر الرجال بدفع المال للمرأة -إذا أراد أن يتزوجها- طيبة به نفسه، واعتبره ملكاً للمرأة نفسها تتصرف فيه كيف شاءت إذا أحسنت التصرف. وحتى بعد الزواج فإن الإسلام لا يترك الرجل يعبث بحقوقها كما في أمر الجاهلية، بل هناك آداب حتى على فراش النوم! فأمر الله عز وجل بحسن المعاشرة، يقول سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [النساء:19]، وجعل لها مثل ما للرجل، إلا أنه جعل للرجل درجة في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]. وأمر كلاً من الزوجين بحفظ سر الآخر ونهى عن إفشائه، ففي الحديث: (إن شر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، والمرأة تفضي إلى الرجل، ثم ينشر سرها) يعني: يعطيها أو تعطيه سراً لا يريدان أن يطلع عليه أحد. وكان من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يساعد أهله في بيته، ويقوم في خدمتهم، كما أنه أيضاً كان يتولى خدمة نفسه.

مساواة المرأة بالرجل فيما لا يخرجها عن أنوثتها ولا يغمطها حقها

مساواة المرأة بالرجل فيما لا يخرجها عن أنوثتها ولا يغمطها حقها المساواة أساس من أسس الإسلام، فهو دين المساواة إلا أن الله تعالى فضل الرجال على النساء؛ لأن الرجال مطالبون بحقوق تقابل هذه الدرجة أو تزيد، فهم الذين يبذلون أموالهم عند الزواج، وهم الذين يسعون في سبيل الحصول على لقمة العيش، وهم مطالبون بالنفقة؛ يقول الله سبحانه وتعالى لآدم وحواء: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ويقول المفسرون: إن الله قال: (فَتَشْقَى)، ولم يقل: فتشقيا. وإن حذف الألف في هذه الآية يدل على أن الرجل -وحده- هو المطالب بالبحث عن العيش، لأن معنى قوله تعالى: (فتشقى) يعني في البحث عن العيش، لأنك في الآخرة قد كفيت العيش، وبهذا استدل العلماء على أن المرأة غير مطالبة بالنفقة، وأن الرجل هو المطالب بالنفقة عليها. فالمساواة في الأصل ثابتة حقاً، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]. كذلك المساواة في العمل ثابتة أيضاً: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى أن قال الله في آخر الآية: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. كذلك المساواة في جزاء الآخرة: يستوي في ذلك الرجل والمرأة، كل ينال نصيبه وجزاء عمله، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرً} [آل عمران:30]، ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وكذلك المساواة في المعاملات: في البيع والشراء، والأخذ والإعطاء، والرهن، والقرض، وما أشبه ذلك. وكذلك المساواة في التعليم: فالإسلام لم يحرم تعليم المرأة، لكنه يأمرها بالحشمة حينئذٍ والتستر، فهو يبيح لها أن تتعلم كل ما تستفيد منه، بل قد يوجب التعلم في كثير من الأحيان إذا كان دينها لا يقوم إلا به، إلا أنه ينهى عن المبالغة في التعليم حتى يطغى على سن الزواج، لأنه يفوّت فرصة من فرص الحياة التي لا بد للمرأة منها. وإذا كانت هناك مطالب للمساواة غير ما سبق، فإنها ليست من مصلحة المرأة، وإنما تصدم مصالحها، ولن تعود عليها بخير؛ ولهذا فإن هؤلاء الذين يطالبون بالمساواة لم يخلصوا لها، بل هم عدوها اللدود؛ فهم يريدون مساواتها بالرجل في جميع وظائف الحياة، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن تركيبها يختلف كثيراً عن تركيب الرجل، وعضلاتها تختلف، فلقد أثبتت التقارير العلمية الدقيقة أن هناك فرقاً كبيراً في الوزن، وحجم القلب، وتركيب الأعضاء، وغير ذلك بين الرجل والمرأة!! علماً أن مزاولتها لجميع الأعمال يعرضها للفتنة وانحطاط الخلق حينما تختلط بالرجال الأجانب، وقبل ذلك فهي مطالبة بأعمال لا يستطيعها الرجال من الحمل، والولادة، والرضاع، والحضانة، وتربية الأولاد، وغير ذلك. وفوق هذا كله، فالمرأة مأمورة بعدم الخروج من البيت إلا بمقدار الحاجة والضرورة، والعمل غير المقيد يطالبها بالخروج المستمر، والله عز وجل يقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ولا يجوز تكليفها بأي عمل يفرض عليها الخروج المستمر عن بيتها، ويعرضها للذئاب الجائعة. وأخيراً نقول: ماذا تريد المرأة؟! أتريد المساواة الإنسانية في الأصل والنشأة مع الرجل؟ لها ذلك، وذلك ثابت لها في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]. أم هل تريد المساواة في الاستقلال الاقتصادي، وحرية التملك والمعاملة والأخذ والإعطاء؟ لها ذلك. أم هل تريد حق التعليم والعمل بضوابط وحدود؟ لها ذلك. أم هل تريد حق اختيار الزوج الصالح؟ لها ذلك. أم هل تريد العشرة الحسنة مع زوجها؟ لها ذلك. أما إذا كانت تريد بالحرية التبرج، ومزاحمة الرجال، وإفساد المجتمع، فليس لها ذلك؛ محافظة عليها وعلى مجتمعها ودينها، ولا يعرف هذا الأمر إلا الذين اكتووا بناره، وتجرعوا غصّته، فصاروا ينادون بأعلى أصواتهم: خذوا منا عبرة، حافظوا على المرأة، احذروا أن تتركوها طليقة، احذروا أن تتركوا لها الأمر كما تريد!

تنظيم العلاقة الزوجية في الإسلام يخدم المرأة ويرعى مصالحها

تنظيم العلاقة الزوجية في الإسلام يخدم المرأة ويرعى مصالحها إن الإسلام يبني العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، أو -على الأقل- على أحدهما، وإذا فقدت إحداهما بقيت الأخرى، أما إذا فقدت الاثنتان فلا خير في هذه العلاقات الزوجية، يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وحينما تفقد المودة فستبقى الرحمة، أما حين تفقد المودة والرحمة فالفراق بينهما خير من البقاء. أولاً: حقوق الزوج: لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تحافظ على حقوق الزوج محافظة كاملة، ولقد أجملت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ملخصها أن تطيعه في حدود طاعة الله، أما إذا تعارضا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثانياً: ألا توطئ فراشه من يكره، والمقصود بالإيطاء هنا: دخول البيت لا الفاحشة، لأن الفاحشة لا تجوز لمن يحب ولا لمن يكره، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها؛ دخلت الجنة). ثالثاً: أن تحفظ غيبته، فلا تخونه في أهله ولا عرضه ولا ماله، وهذا الحق ربما يكون في درجة حقوق الوالدين أو أكبر، يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حق الزوج على المرأة: (لا يجوز لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها). رابعاً: أعظم ما يلزم الزوجة لزوجها تمكينه من نفسها إذا طلب ذلك منها؛ فهو أهم مقاصد الزواج، فلا يجوز الامتناع بدون عذر شرعي، فإن أبت أثمت، وسقطت حقوقها، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل زوجته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضباناً عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح)، وفي حديث آخر: (إذا دعاها فلتأته ولو كانت على التنور). خامساً: لا يجوز تكليفه من العمل والنفقة ما لا يطيق، وإيذاؤه بالسب أو الشتم أو بأي أمر من الأمور أو إلجاؤه إلى الطلاق أو استغلال فرص غضبه لتخرج منه ما لا يحب وما لا يطيق من الكلام.

النشوز

النشوز معنى النشوز في اللغة: الخروج عن الطاعة، وشرعاً: خروج أحد الزوجين عن طاعة الآخر، والنشوز يكون من الرجل كما يكون من المرأة، أما نشوز الرجل فقد ذكره الله عز وجل بقوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ومعنى ذلك: أنه يجب أن يسعى العقلاء إذا نشز الرجل عن زوجته للإصلاح فيما بينهما، كذلك النشوز يكون من المرأة أيضاً كما ذكره الله عز وجل في قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، وهذه الآية تدرجت في نشوز المرأة إلى ثلاث مراحل، وعلى هذا فالإسلام يعالج المشاكل الزوجية بحكمة، وينهى الرجل عن التسرع الذي يؤدي إلى هدم كيان الأسرة، مما يؤدي إلى تشتت الذرية وضياعها.

حقوق الزوجة على زوجها

حقوق الزوجة على زوجها إن للمرأة حقوقاً تجب مراعاتها، ولا يجوز إهمالها، فلها حق العشرة، ويجب الإحسان إليها، وتجب النفقة لها ولو كانت موسرة، ولو كان الزوج فقيراً، ولها حق فسخ النكاح إذا عجز عن النفقة، كما أن لها حق المطالبة بعودته إذا سافر سفراً طويلاً وطلبت حضوره. كما يلزمه أن يتزين لزوجته كما تتزين له، لكن ذلك في حدود، كما روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه في معنى قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] قال: إني أحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي.

إكرام الإسلام للمرأة أما

إكرام الإسلام للمرأة أماً لقد حث الإسلام على الإحسان إلى المرأة إذا كانت أماً، فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك). وهذه العاطفة بالرغم من أنها إنسانية فطرية فهي لا تتحقق في الغالب إلا لمن كانت له عقيدة، مع أن هذه الفطرة موجودة في الحيوان أيضاً؛ لذلك فالبلاد الكافرة تفقد جانباً كبيراً من هذه الفطرة وهذه العاطفة التي منحها الله حتى للحيوان، فنجد أنها تفقد بين الأمهات والأبناء كثيراً؛ ذلك أن الأبناء يتربون في المحاضن بعيدين عن آبائهم وأمهاتهم، فتسلمه الأم في الصباح إلى سيارة المحضن كما تسلم نفايات البيت، ليعود إليها في المساء وهي مرهقة بسبب العمل في الوظيفة. وسأذكر لكم قصة تدل على أن هذه الفطرة مفقودة في الأمم الكافرة: التقيت برجل انجليزي كان كافراً ثم أسلم، فسألته عن سبب إسلامه فقال: كنت أعيش في بلادي هناك، وأبتعد عن أمي أشهراً وأعواماً، ثم ألتقي بها بعد السفر، فلا أقابلها إلا بالإشارة، وعشت في الكويت مدة من الزمن لدى أسرة مسلمة، فرأيت العاطفة في الأسرة، ففي الصباح يأتي الأولاد يقبلون رءوس آبائهم، ولا يستطيعون فراقهم زمناً طويلاً، وعلمت أننا قد فقدنا هذه الفطرة، فعرفت أن الإسلام هو دين الفطرة، فكان ذلك سبباً في إسلامي. وهذا شيء مشاهد، فإن الأمم الكافرة يعيش بعضها بعيداً عن البعض الآخر بالرغم من صلة القرابة الوثيقة، ثم بعد ذلك يلتقون فيكون اللقاء بارداً!!

قانون معالجة المشاكل الزوجية في الإسلام يضمن للمرأة حقوقها كاملة

قانون معالجة المشاكل الزوجية في الإسلام يضمن للمرأة حقوقها كاملة الحياة الزوجية -وإن كانت وثيقة- فهي معرضة للخلاف والنزاع والاضطراب، ولكن الرجل -باعتباره أقوى من المرأة أعصاباً وأكمل عقلية- مطالب بالتحمل والصبر وعدم التسرع، خصوصاً وأن تسرعه يؤدي إلى هدم الأسرة وتفكك أواصرها؛ لذلك فقد عالج القرآن هذه الظاهرة أحسن علاج على ست مراحل؛ حتى لا يقع الطلاق إلا بعد اليأس من الإصلاح. أولاً: أمر الله عز وجل بالتحمل والتغافل عن بعض الأخطاء، وعدم التغافل عن حسناتها لعلها تقابل سيئاتها، يقول سبحانه وتعالى في هذا الأمر: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] أي: ربما هذه الحسنات تقابل هذه السيئات. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) أي: لا يهينها ولا يذلها. وأي المسلمين ليس له حسنات؟ وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه. ثانياً: الوعظ: حينما ينفذ هذا الصبر يأتي دور الوعظ، يقول الله عز وجل: (فَعِظُوهُنَّ)، ومعناه: تذكيرها بحقه، وما له وما عليه، ووجوب طاعته، وبالوعيد على المرأة إذا خالفت أمره، وما أعده الله عز وجل للمرأة المطيعة من الثواب. ثالثاً: الهجر: يأتي دور الهجر في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، بحيث يتجنبها بعض الشيء، ويستدبرها إذا نام في فراشه، ويجعل له فراشاً خاصاً بعض الوقت لعله أن يؤدبها بذلك. رابعاً: الضرب: يقول الله عز وجل بعد ذلك ((وَاضْرِبُوهُنَّ))، أما الضرب الشديد فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا تقبح ولا تضرب الوجه)، والضرب من باب التربية لا من باب العقوبة؛ لذلك يجب أن يكون ضرباً سهلاً إذا لم تنفع العلاجات الأولى. خامساً: التحكيم بينهما: وهذا يكون إذا لم تنفع الوسائل السابقة، حينئذٍ يأتي دور العقلاء ليتدخلوا في إصلاح هذه العلاقة ما أمكن، يقول سبحانه وتعالى عن هذه المرحلة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وذلك إذا أمكن الصلح. سادساً: الطلاق: وهو دور -وإن كان مكروهاً- فإنه يكون حين لا يمكن الإصلاح بأي وسيلة، وتظهر حكمة الإسلام في دور الطلاق حينئذٍ، ويكون نعمة من نعم الله عز وجل على الرجل والمرأة. سابعاً: الفراق: والفراق حينما يتم فإن الله تعالى يعد كلاً منهما بالفرج والمخرج: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130]. وحينئذٍ فلا مجال للطعن في الإسلام؛ ما دام قد بذل كل الوسائل ومهد كل التمهيد لعلاج العلاقة الزوجية قبل الفراق، علاجاً كافياً لحفظ نظام البيت ومنهجه.

شبهات حول حقوق المرأة والرد عليها

شبهات حول حقوق المرأة والرد عليها هناك شبه كثيرة تدور حول حقوق المرأة، يطرحها أعداء الإسلام حول حقوق المرأة، وأعداء الإسلام اليوم يرمون هذه الشُبه في طريق الإسلام لينالوا من دين الله، وليصدوا الناس عنه {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فصاروا يقذفون بهذه الشبه في طريق الإيمان لاسيما في أمر المرأة، فهي أول من ينخدع بعدوه ويستجيب له، والله تعالى يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7].

شبهة تحريم ولاية المرأة

شبهة تحريم ولاية المرأة الشبهة الأولى: يقولون: إن الإسلام يحرم المرأة أن تتولى شئون الحياة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فلماذا؟! أليست إنساناً له عقل وحواس؟! و A أن النهي هنا أن تكون رئيسة دولة؛ بدليل سبب هذا الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُخبر أن الفرس قد ولوا ابنة كسرى رئيسة عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وهذا أمر مشاهد، فرئاسة الدولة لا تصلح للنساء؛ لأنها تتطلب من الرئيس جهداً لا تطيقه المرأة، مع ملاحظة أن رئيس الدولة في الإسلام مطالب بإمامة الجمعة والأعياد وغيرها مما لا تصلح له المرأة؛ ولذلك فإن معنى الحديث واضح.

شبهة ميراث المرأة

شبهة ميراث المرأة الشبهة الثانية: مسألة الميراث، فيقولون: لماذا يكون نصيب المرأة نصف نصيب الرجل؟ A أن الرجل يتحمل تبعات لا تتحملها المرأة من بذل للنفقات التي تجب على الرجال ولا تجب على النساء، بل تجب للنساء على الرجال، ومهر الزواج، والدية التي يتحملها الرجال فقط، علماً أن ميراث البنت يذهب خارج الأسرة إلى أسرة ثانية، وميراث الابن يبقى في العائلة يتوارثونه صغيراً بعد كبير، وقد حقد نصارى لبنان على الخليفة العثماني حينما شرع في تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم، وقالوا: هذا يؤدي إلى أن نوّرث المرأة، والمرأة محرومة من الميراث عندنا، وحينما نورث المرأة يذهب المال إلى أسرة أخرى. فلما ألزمهم بهذا الأمر وطبق فيهم شريعة الله صار الآباء يوزعون الثروة في الحياة قبل الموت!! ويلاحظ أن المرأة في بعض الأحيان تساوي الرجل في الميراث، كالأم والأب حينما يموت ميت ويترك عصبة أقرب من الأب، فإن الأم والأب يتساوون، ويكون لكل واحد منهما السدس، كما يلاحظ أن المرأة في بعض الأحيان تزيد على الرجل، فتأخذ البنت النصف، ويأخذ الأب السدس إذا لم يبق له عصبة، وعلى كل فإن هذا شرع الله لا يمكن أن نتدخل به، لأنه لحكمة يعلمها الله، ولربما ندرك بعضها؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11].

شبهة جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل

شبهة جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل الشبهة الثالثة: الشهادة، فيقولون: لماذا تجعلون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ A لقد بين الله سبحانه وتعالى العلة من ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، والعاطفة هي التي تؤثر على تحمل المرأة للشهادة، علماً أن المرأة يندر تحملها للشهادة؛ لأنها مستقلة في بيتها بعيدة عن المشاكل، فدخولها في باب الشهادات والمعاملات أمر نادر؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى عدم قبول شهادة المرأة في الجنايات؛ لأن أعصابها لا تتحمل مشاهدة الحوادث، وحتى حينما تحضر شيئاً من ذلك فإن العاطفة تتغلب عليها غالباً.

شبهة جعل القوامة للرجل على المرأة

شبهة جعل القوامة للرجل على المرأة الشبهة الرابعة: القوامة، يقولون: إن الله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فلماذا تتأخر المرأة في هذه الناحية؟ A لأهمية تنظيم إدارة البيت والأسرة، فلا بد من قائد مسئول عن هذا التنظيم، وهو إما المرأة أو الرجل مع المرأة، أو الرجل وحده. فالأول: فيه ضعف، والثاني: غير ممكن؛ لأنه مجال للفوضى والاضطراب، والثالث: هو المعقول؛ فالرجل مؤهل ليكون هو القائم؛ لذلك كانت القوامة للرجل على المرأة كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، علماً أن هذه القوامة -وإن كانت تحمل مبدأ التفضيل في بادئ الأمر- إلا أنها تحمل مسئولية وتحمل أعباء، فهناك السعي في الأرض والضرب فيها لطلب العيش، وهناك المطالبة بالحماية للمرأة من أي عدو، وهناك السعي في سبل الحياة من أجل تأمين حياة كريمة للمرأة.

شبهة تعدد الزوجات

شبهة تعدد الزوجات الشبهة الخامسة: تعدد الزوجات، ومن عجيب الأمر أن تقوم في هذه الأيام دعوى مسمومة حاقدة تحارب تعدد الزوجات، وتعتبره جناية على المرأة، وتتخذ هذه الزوبعة في الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إنه لم يعدل ويقال: لماذا اتخذ تسع نسوة؟! و A أن تعدد الزوجات نعتبره إكراماً للمرأة، سواء كانت المرأة الأولى أم الثانية. أما المرأة الأولى فإن وجود زوجة أخرى معها شيء ربما تفرضه الظروف على الزوج بسبب القوة البدنية أو الجنسية أو شيء خارج البيت كأن يغترب عنها، وهو أمام أحد أمرين: إما أن يطلقها، وهذا ما لا تقبله المرأة المحبة لزوجها، أو يسلك طريقاً غير مشروعة وهي طريق العشق والفساد، وهذا أيضاً لن تقبله أي امرأة، فالأفضل لها أن تعيش مع امرأة أخرى، وذلك أحسن الأمور، وفيه أفضل النتائج. أما المرأة الجديدة: فهي إما أن تعيش بدون زوج، وتبقى محرومة من متع الحياة، وهذا ما لا تطيقه امرأة من النساء، وإما أن تعيش مع زوج على الأقل يهب لها نصف حياته، وهذا تستفيد منه المرأة، ولم يعلم في تاريخ البشرية أبداً أن امرأة تيسر لها زوج خاص، وفرض عليها زوج معه زوجة أخرى. وفي التعدد مصالح كثيرة أيضاً، وهي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أباح الله عز وجل شيئاً من الميل مع بعض الزوجات مما يدل على أنه الأفضل مع العدل. أما هؤلاء الذين يطعنون في الإسلام من هذه الناحية الأخرى، فإن بعضهم قد يخالل أكثر من أربع نسوة، إضافة إلى زوجته التي معه، فلا نغتر بهذه الدعايات الباطلة.

§1/1