دروس للشيخ عبد الرحمن المحمود

عبد الرحمن بن صالح المحمود

أثر التوحيد

أثر التوحيد التوحيد هو ذلك العقد المتين الذي إذا وقر في قلب المسلم انبعث نوره في جميع الجوارح، فصار العبد متحرراً من عبودية النفس والهوى والشيطان والدنيا، وكان عبداً خالصاً لله تبارك وتعالى، فتسلم أعماله فما ينقصها أو ينقصها، وينشرح صدره بما قدر له وعليه في هذه الدنيا، وتعلوه السكينة والوقار. وقد جعل الله التوحيد أصل الدين، فلا قيام للدين بدون توحيد، ولا فلاح ولا نجاح في الدنيا والآخرة مع غياب التوحيد، وبه ينجو الفرد والمجتمع من عذاب الله وأليم عقابه.

بيان معنى التوحيد المطلوب من العبد

بيان معنى التوحيد المطلوب من العبد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلا شك أن الدروس التي تنظم عدداً من الجمل في قضية مهمة مثل قضية التوحيد؛ لا شك أنها دروس لها أهميتها بالنسبة لنا وبالنسبة للمسلمين جميعاً، ومن هنا فإن الدرس التالي سنعرض فيه إن شاء الله تعالى لأثر التوحيد. وأحب في مقدمة هذا الدرس أن أبين عدة أمور: أولها: أن التوحيد الذي نتحدث عن أثره هو ذلك التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الرسل من قبله، وسلك أتباعهم رضوان الله عليهم منهاجهم، وعلى رأس أتباع الرسل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم فهموا حقيقة التوحيد، وطبقوها في حياتهم كلها، ومن ثم كان لذلك التوحيد أثر عظيم في نفوسهم وفي حياتهم، بل وفي البشرية كلها، لهذا فإن التوحيد الذي نقصده هو التوحيد على منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى. فهو -أولاً- يقوم على أسس التوحيد الكبرى، توحيد الربوبية المقتضي للإيمان والإقرار بأنه لا خالق ولا موجد ولا رازق ولا مدبر لهذا الكون إلا هو تبارك وتعالى، فله الخلق، وهو سبحانه وتعالى بيده الرزق، وإليه يرجع الأمر كله، كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123]، أما البشر فلا يملكون من أمورهم شيئاً، فضلاً عن أن يملكوا من أمور غيرهم شيئاً، إذاً: هو توحيد يقوم أولاً على الربوبية. ويقوم ثانياً على توحيد الأسماء والصفات بإثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسماء والصفات فيها تعريف وإخبار ووصف للواحد القهار، نتعرف من خلالها على ربنا سبحانه وتعالى؛ لأننا في هذه الدنيا إنما نؤمن بالله وهو غيب، بل هو أعظم الغيب؛ لأننا لم نره ولن نراه في الدنيا، وإنما تكون رؤيته يوم القيامة لأهل الجنة، فأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين الفضل والرؤية لله سبحانه وتعالى. لكن نعرف ربنا بأسمائه وصفاته، فنعلم أنه على العرش استوى، وأنه في العلو فوقنا، وأنه مطلع علينا عليم بنا، وأنه قريب منا، وأنه سبحانه وتعالى هو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو شديد العقاب، وهو المتكبر الجبار، وهو السلام المؤمن المهيمن، فهو سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا، نثبت كل ما ثبت في كتاب الله وما صح في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك. ثم -أيضاً- هو توحيد يقوم على النوع الثالث الأساسي من التوحيد، وهو توحيد الإلهية الذي بعث الله به رسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، أنه لا إله إلا الله، هذه هي كلمة التوحيد، وهي رأس الأمر، وهي التي قامت عليها السماوات والأرض، بها دعا كل نبي، فكان يأتي إلى قومه المشركين يقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، يا قوم قولوا لا إله إلا الله. وهذه الكلمة العظيمة هي الكلمة التي ثقلت في السماوات والأرض، وهي الكلمة التي رجحت بالسماوات والأرض حين وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة، فرجحت بهن لا إله إلا الله. إذاً: هي كلمة التوحيد التي تجعل العبد يتوجه بقلبه في جميع أموره للواحد القهار، يعبده ويدعوه، ويتوجه إليه بجميع أنواع العبادة مخلصاً له سبحانه وتعالى، فهو سبحانه هو الذي يحب، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يُدعى، وهو الذي يتوكل عليه وحده، وهو الذي يذبح له وينذر له وحده، وهو الذي يستغاث به في الشدائد ولا يستغاث بغيره. هذا هو التوحيد، توحيد ينظم العبد في جميع أموره ويربطه بالواحد القهار، فيؤمن به تصديقاً، ويتوجه بقلبه وأعمال جوارحه إليه عبادة وعملاً وطاعة. ثم أيضاً هو توحيد تنبثق منه طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأن العبادة هي ذل وخضوع للواحد القهار، والذل والخضوع لله تبارك وتعالى لا يمكن أن يتم إلا بالطاعة التامة لله وحده لا شريك له، وتكون طاعته تبارك وتعالى بامتثال شرعه، بأن لا يعبد العبد ربه ولا يطبق في شأن من شئون حياته إلا على مقتضى ما شرعه ربه تبارك وتعالى في كتابه العزيز وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبذلك تكون حياة الموحد من أولها إلى آخرها، في عباداته، وفي معاملاته، وفي أخلاقه، وفي تعامله مع أعدائه، وفي أوضاعه الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والدولية، وكل شأن من شئون الحياة؛ تكون كلها منبثقة من هذا التوحيد العظيم القائم على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله). ولهذا فإن هذا التوحيد ينبثق أول ما ينبثق من إيمان قلبي يستقر في النفس المؤمنة استقراراً مكيناً، فيتحول هذا الإيمان وتلك الأعمال القلبية إلى أعمال الجوارح، ولهذا فإن هذه العبادة تقوم على ثلاثة أسس: الحب لله وحده، والخوف من الله وحده، والرجاء لله وحده. حب وخوف ورجاء، شبهت بالطائر، فالحب هو الرأس، والخوف هو الجناح الأيمن، والرجاء هو الجناح الأيسر، ويطير الطائر محلقاً في السماء، وكذلك يسير القلب محلقاً إلى ربه سبحانه وتعالى عابداً له خاضعاً له خائفاً منه راجياً، فيتعوذ به منهم ويتعوذ بمعافاته من عقوبته، ويتعوذ برضاه من سخطه، فلا ملجأ منه إلا إليه، يفر من الله ومن العقوبات ويلجأ إلى الله معلناً التوبة منيباً بالطاعات، هذا هو العبد بينه وبين ربه تبارك وتعالى.

أهمية التوحيد ومثاله في قلب المؤمن

أهمية التوحيد ومثاله في قلب المؤمن بعد أن بينا ما هو التوحيد الذي نقصده نقول ثانياً: إن حديثنا عن أثر التوحيد لا ينبغي أن يفهم منه أن التوحيد قضية من القضايا الصغيرة أو مسألة من المسائل، فنحن نتحدث عن أثرها كما نتحدث عن أثر أمر من الأمور ونبحثه، لا والله، فإن التوحيد الذي نتحدث عنه وعن أثره هو الحياة من أولها إلى آخرها، بل هو الحياة التي تشمل الدنيا والآخرة. ونقول ثالثاً: إن التوحيد هو أساس الإيمان، ولذلك فإن الناس يتفاوتون في هذا التوحيد، فإيمانهم وتصديقهم وعملهم وغير ذلك يتفاوتون فيه، وعلى قدر إيمانهم وتصديقهم يتفاوت أثر هذا التوحيد. ثم نقول أيضاً: إن أثر هذا التوحيد شامل للفرد والجماعة، بل هو شامل للعالم أجمع، شامل لجميع حاجات النفس وأوضاعها الداخلية والخارجية، وهو أيضاً لا يقتصر أثره على الدنيا وإنما يمتد طويلاً ليشمل الحياة الآخرة {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]. ثم أقول أيضاً: أيها الأخ! إن الله سبحانه وتعالى شبه غرس حقيقة التوحيد في القلوب بشجرة طيبة، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25]، فالإيمان والتوحيد هو القائم على كلمة (لا إله إلا الله)، فقد قيل في تفسير قوله: (كشجرة طيبها أصلها ثابت وفرعها في السماء): إن هذه الكلمة الطيبة هي (لا إله إلا الله)، فهي أولاً تثمر هذه الكلمة الطيبة، وأعظم ثمراتها العمل الصالح، كما تثمر الشجرة الطيبة. ثم بعد ذلك هذه الكلمة الطيبة أصيلة (أصلها ثابت)، بمعنى أنها ليست كلمة تقال باللسان، بحيث ينطقها الإنسان ولا يوقن بها ولا يقوم بأركانها وشرائطها، ولكنها كلمة مؤصلة مغروسة في تخوم الأرض، وكذلك أيضاً هذه الكلمة مغروسة في تخوم قلب العبد المؤمن، ثم بعد ذلك هي سامقة مرتفعة في السماء، يعتز صاحبها بالانتساب إليها، لا يهون ولا يلين، ولا يحس بأي ضعة أو نقص أو غير ذلك، وهو يقول صارخاً أمام العالم أجمع: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولهذا فإن تشبيهها بتلك الشجرة يبين لنا أمرين مهمين لا بد أن يتدبرهما المؤمن: أولهما: أن الشجرة المغروسة لا بد من تعهدها بالسقي، وكذلك أيضاً هذه الكلمة الطيبة لا بد من تعهدها بالسقي، وسقيها إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح والقرب من الله تعالى، فهي كلمة تحتاج من المؤمن إلى سقي دائم وإلى مراعاة. ثانيهما: أن هذه الشجرة يخالطها أنواع من النبات الغريب فيفسدها، فلا بد من تنقية الشجرة، وكذلك (لا إله إلا الله) تخالطها أنواع من الشركيات، يخالطها الرياء، ويخالطها التعلق بغير الله في بعض الأمور، ويخالطها نقص التوكل، ويخالطها التطير أحياناً، فلا بد من أن يتعهدها المؤمن تعهداً عظيماً حتى يكون ممن سلمت كلمة التوحيد عنده وصار ممن يعتقدها ويؤمن بها، فلم يخالطها شرك أكبر ولا أصغر.

آثار التوحيد في حياة الفرد

آثار التوحيد في حياة الفرد

طمأنينة قلب العبد وراحته

طمأنينة قلب العبد وراحته وبعد هذه المقدمات ننتقل إلى أثر التوحيد، ونقسم هذا الأثر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول منها: أثره على الفرد: وأعظم أثر للتوحيد على الإنسان هو طمأنينة القلب، فهو طمأنينة القلب وغذاء الروح في هذه الحياة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: وحقيقة المرء قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بتوحيد ربه وعبادته وخوفه ورجائه، وفي ذلك أعظم لذة المرء وسعادته ونعيمه؛ إذ ليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما دلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة. نعم والله، إن كل ما يتعلق براحة النفس وطمأنينة القلب وسعادة المرء وقوته وثباته وصلاح حاله، لا يمكن أن يتم إلا بأن ترتبط هذه الأمور كلها بـ (لا إله إلا الله)، وبالعبودية الحقة لله الواحد القهار، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الحاكم، وحسنه الهيثمي في مجمع الزائد، وذكره الألباني في الصحيحة برقم خمسة وثمانين وخمسمائةٍ وألف. أيها الأخ المسلم! لا ملجأ من الله إلا إليه، فطمأنينة القلب لا تكون إلا بالله، وضعف الإيمان يولد عند الإنسان ضيق الصدر، وكيف ينجو من ضيق الصدر؟ لا ينجو من ضيق الصدر إلا بالتعلق بالله سبحانه وتعالى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) نعم -والله- ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وهل يمكن أن يذاق طعم الإيمان بغير ذلك من الدنيا بشهواتها وبملذاتها؟ لا والله، لا يمكن أن يذوق الإنسان ذلك الطعم الحقيقي إلا بهذا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه. وانظر كيف ارتبطت هذه الأمور كلها بالحب، فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويحب المرء لا لأي شيء إلا لله، ويكره الكفر والكافرين، ويخاف من أن يقع في الكفر كما يخاف من أن يقذف في النار، وذاك لا ينشأ إلا من تحقيق كلمة التوحيد، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل ذلك. ولهذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يرون الدنيا تموج بأهلها وشهواتهم، فذاك متعلق بسلطانه، وهذا منقبض على شهواته، وذاك يبحث عن تجارته وأمواله، وهذا يبحث عن الشرف والشهرة، لكن أهل الإيمان قد سكنت وركنت نفوسهم إلى الواحد الديان فتعلقوا به تبارك وتعالى، فعبروا عبارات تدل على الطمأنينة النفسية في قلوبهم، يقول فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي. يفرح بالخلوة ويحزن بدخول الناس عليه، لأنه يجد لذته في الخلوة أعظم من لذته وهو عند الناس. ويقول أحدهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال بعضهم: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها). تعالوا إلى الميزان، إذ الركعتان تؤديهما لله وحده لا شريك له، تغرسان في قلبك إيماناً ولذة وسعادة لا يمكن أن تحصل عليها بالملايين، ولا يمكن أن يحصلها الملك، ولا يمكن أن يحصلها الشرف، ولا يمكن أن تحصلها السيارات الفارهة، ولا القصور الضخمة ولا تحصلها إلا ركعتان عبادة لله الواحد القهار. ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: لولا ثلاث ما أحببت الحياة، ولأحببت أن أنتقل إلى لقاء ربي. ما هي هذه الثلاث؟ قال: (لولا أنني أحمل في سبيل الله)، يعني الجهاد في سبيل الله، فهذه الأولى. قال: (وأضع جبهتي على الأرض). أي: الصلاة. فهو يفرح بكل صلاة تحضر، يرتاح ويلتذ بها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال). وأما الثالثة فقال: (ومجالسة أقوام يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب الثمر)، أي مجالسة أهل العلم الذين يقربون العبد من الله سبحانه وتعالى. فهذا هو الأثر الأول.

التحرر من العبودية لغير الله تعالى

التحرر من العبودية لغير الله تعالى الأثر الثاني بالنسبة للفرد: تخلص العبد من العبودية لغير الله تعالى، وهذه هي الحرية الحقيقية، فالحرية الحقيقية أن تكون عبداً لله، وبضدها تتميز الأشياء. فبعض الناس تعلق قلبه بغير الله، فصار عبداً لذلك الغير، بعضهم تعلق بالقبر أو بالولي فلان، وتعلق بعضهم ببرجه برج الثور أو العقرب أو غير ذلك، تعلق قلبه بغير الله سبحانه وتعالى فصار عبداً له يرجوه في جميع حاجاته ويخافه، أما الذي يتحرر من ذلك كله فهو من رضي بالله ربا وعبد الله وحده لا شريك له. بعض الناس تعلق قلبه بالدنيا وشهواتها، يطاردها ليلاً ونهاراً، يحزن لأجلها ويفرح لأجلها، أحياناً لا ينام الليل، إما فرحاً بحصول شيء من الدنيا أو حزناً على فوات شيء من الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، تعبد لغير الله سبحانه وتعالى فوكله الله إلى ذلك، لكن من هو الحر الحقيقي؟ إنَّه الذي جعل الدنيا في يديه لكن ملأ قلبه بالإيمان بالله، فهو ما ترك الدنيا، لكن جعلها في يديه يستخدمها في طاعة الله تعالى، قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أيكون الإنسان عنده ألف دينار وهو زاهد؟ قال: نعم، قالوا: كيف ذلك يا إمام؟ قال: إذا زادت لا يفرح وإذا نقصت لا يحزن. فالعبد المتعبد لله وحده لا شريك له يكون غنياً، ويكون ملكاً، ويكون ذا شرف، ويكون ذا مكانة، لكن هذه الأمور كلها يضعها في يديه، أما ما في قلبه فهو حب الله وطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يتعلق قلبه بكل شيء؛ لأنه لا قلب له، في كل يوم له إله يعبده من دون الله تعالى، تتقلب به الدنيا هائمة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من حال أهل الحيرة والشكوك. أيها الأخ في الله! ما هي الحرية الحقيقية؟ هي أن تكون عبداً للواحد القهار، ولهذا ذكر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهو رسوله المصطفى، وهو سيد الأولين والآخرين؛ ذكره ربه سبحانه وتعالى باسم العبد في أعظم المنازل، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فانظر إلى منزلة الإسراء حين بلغ سدرة المنتهى صلى الله عليه وسلم، فمن الذي أسرى به ربه؟ ولما أنزل عليه هذا القرآن قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]. ولما تحدث عن مقام الدعوة إلى الله وهو أعظم المقامات قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. فالعبودية لله وحده لا شريك له هي الحرية الحقيقية.

توكل العبد على الله تعالى

توكل العبد على الله تعالى ومن آثاره بالنسبة للفرد توكله على ربه واعتصامه به ليريحه من مشاكل الحياة، فلا يخاف إلا الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تعلق القلب بغير الله تعالى ولم يحقق التوحيد صار عنده خوف ورهبة من الخلق. وانظر إلى أحوال كثير من الناس لما ضعف إيمانهم -خاصة في الأزمنة المتأخرة- خافوا من غير الله، فبعض الناس صار يخاف من الجن من دون الله ويرعب منهم، حتى إن بعضهم إذا أراد أن يسكن بيتاً جديداً يذبح لهم ذبيحة وينثر دمها، فإذا قيل له: لماذا تنثر دمها؟ قال: يقال إنها تطرد الجن، وبعض الناس خاف من السحرة، وصار الواحد لو هدده بشيء من ذلك لأرعب وصار له هم يملؤه ليلاً ونهاراً. فهل هؤلاء يملكون شيئاً؟ من هو الذي بيده النفع والضر؟ من هو الذي بيده الموت والحياة؟ من هو الذي بيده الأمراض والشفاء؟ إنه الله سبحانه وتعالى، لكن هؤلاء لما ضعف الإيمان ولم يحققوا التوحيد وتعلقوا بغير الله سبحانه وتعالى خافوا منهم. بل إن بعض الناس يخاف من العين، والعين حق كما قال صلى الله عليه وسلم، لكن أن يتولد هذا إلى شكوك في الناس وطعن فيهم، وأحياناً ترك للأعمال الخيرة خوفاً منهم؛ فهذا لا شك أنه نقص في تحقيق التوحيد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين) يعني: لا تسبق العين القدر، والساحر والكاهن والمشعوذ والجن كلهم لا يملكون من الأمر شيئاً. فإذا أراد الله لك خيراً فوالله لا يستطيع أحد أن يمنعه، وإذا أراد الله بك ضراً فوالله لا يستطيع أحد أن يمنعه، فتعلق القلب بالله تعالى يعطي الإنسان طمأنينة وحياة حقيقية تريح الإنسان في كثير من الأمور، ولهذا تجد أولئك الذين يتعلقون بغير الله أو يتطيرون أو غير ذلك أمورهم وأحوالهم كلها مضطربة، نسأل الله السلامة والعافية. ثم بعد ذلك أيضاً في حال الشدائد يتعلق القلب بالواحد القهار، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ففي حال الشدة لا ملجأ لك من الله إلا إليه، فيتعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك لا يخاف مما يخافه الناس مما يتعلق بالآجال والأرزاق والصحة والمرض وغير ذلك، فالمؤمن بالله يتعلق قلبه بالله وحده لا شريك له، لكن ضعيف الإيمان يظن أنه إذا قطع الراتب مات هو وأولاده، يظن أنه إذا خسر التجارة الفلانية تحطم مستقبله ومستقبل أولاده، يظن أنه إذا صدع بكلمة الحق أوذي وجرى له ما جرى، ولا والله، فالمؤمن بالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم أن الحياة بيد الله، والرزق بيد الله، والأجل بيد الله، وكل شيء بيد الله وحده لا شريك له، فيطمئن قلبه ويرتاح، أسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.

اعتزاز الموحد بربه تعالى

اعتزاز الموحد بربه تعالى ثم الأثر الرابع من آثار كلمة التوحيد على الفرد هو عزة المؤمن بربه تعالى؛ لأنه موحد لله تعالى، فهو واثق من نفسه وعقيدته المتينة؛ لأنها قائمة على أساس مكين. ولهذا تجد المؤمن معتزاً بدينه، تجد المؤمن ينظر إلى الكافرين المغرورين على رغم ما عندهم من سلطان مادي، وعلى رغم ما عندهم من تقدم علمي، وعلى الرغم ما عندهم مما خدعوا به الأمم جميعاً، ينظر إليهم المؤمن من علو على أنهم كافرون، وأنهم حطب جهنم. هكذا يقول المؤمن، إنهم -والله- كالأنعام بل هم أضل، هكذا يستقر في قلب المؤمن عزة بدين الله تعالى، وطمأنينة تجعل العبد المؤمن الصادق يعتز بالله ويعتز بهذه العقيدة، وينظر إلى الآخرين بعين الرحمة، وإن كانوا مغرورين نظر إليهم من علو، وإن نظر إلى أحوالهم تمنى لهم الهداية؛ لأنه يعلم أنهم على ضلال مبين، ولهذا قال تعالى للمؤمنين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

الشجاعة في الحق والثبات عليه

الشجاعة في الحق والثبات عليه ومن آثاره أيضاً على الفرد الشجاعة في الحق والثبات عليه: فالشجاعة في الحق والثبات عليه لا تقوم إلا حينما يعتصم المؤمن بتوحيده وعقيدته. إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أعظم الناس شجاعة، وإن أعظم دليل على شجاعتهم أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم امتدت فتوحاتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها وليس معهم إلا الزاد القليل، وليس معهم مركوب إلا الإبل. إن الواحد منا لو أراد أن يسافر سفرهم بوسائل النقل الحديثة لتضايق أشد التضايق، فبالله عليك كيف رحلت تلك النفوس على الجمال الشهور الطوال في مدلهمات الظلم وفي الفيافي المقفرة في مشارق ومغاربها فاتحة؟! إنها والله شجاعة الموحد، إنها شجاعة المؤمن الذي وقف أمام زعيم الفرس وهي أكبر دولة في وقته معتزاً بدينه يقول: جاء الله بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أترى أولئك العرب الصعاليك في جاهليتهم كانوا سيصنعون شيئاً وهم يرفعون راية القومية وراية القرشية وراية التراب والوطن؟ لا والله ما صنعوا في جاهليتهم ولن يصنعوا، لكن كيف تغيرت أحوالهم؟ كيف تحول أولئك الفقراء المساكين إلى قادة؟ ما حولهم -والله- إلى قادة راية قومية ولا راية جاهلية، وإنما حولتهم راية عظمى تقوم على أنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله. لهذا -أيها الأخ المؤمن- فإننا نشاهد اليوم لضعف تحقيقنا لكلمة التوحيد أننا أصبحنا ضعافاً غير شجعان، صرنا نخاف من غير الله تعالى، صار الناس يخوفوننا بالذين من دونه، كما قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] يخوفوننا بالشرق والغرب، كيف تحولت أحوالنا إلى هذه الحال؟ إنه ضعف الإيمان.

آثار التوحيد في حياة الأمة

آثار التوحيد في حياة الأمة

استقلال الأمة

استقلال الأمة أيها الأخ المسلم! أقول في القسم الثاني: إن أثر هذه العقيدة لا يقتصر على الفرد، وإنما يتعداه إلى الجماعة والأمة، ولن نعرض لجميع القضايا المتعلقة بذلك ولكن نشير إلى لمحات، فنقول: أولاً: استقلال الأمة لا يتم إلا باستقلالها في توحيدها وعقيدتها، فالأمة التي لا تستقل بعقيدتها وما ينبثق من عقيدتها من شريعة لا يمكن أن تستقل أبداً. إن الأمة التي لا تعتصم بتوحيدها وعقيدتها تعيش حياة التبعية لغيرها، وهذه تجارب التاريخ أمام أعيننا مثل الشمس، كان العرب تابعين إما للفرس وإما للروم، وكانت التبعية حقيقية، وكانوا يرفعون كثيراً من خلافاتهم القبلية إلى أولئك ليحكموا بينهم ويصلحوا بينهم، فلما جاء الله بعقيدة التوحيد وأرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وآمن بها أولئك الصحب الكرام، ونشأت دولة الإسلام في المدينة، فحررت واستقلت عن جميع أمم الأرض. نعم والله، استقلت حتى من أهل الكتاب وهم في قلب جزيرة العرب، من اليهود أصحاب التراث الضخم الكبير في ذلك الوقت، وتحرروا من النصارى في نجران وفي بلاد الروم، وتحرروا من الجاهلية والوثنية، وتحرروا من أمم الأرض واستقلوا، والاستقلال للأمة لا يتم إلا بأن تغرس هذه العقيدة في هذه الأمة بشتى الوسائل التي تجعل الناس صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم على مختلف مسئولياتهم عبيداً لله الواحد القهار لا عبيداً لغيره، وهذا هو الاستقلال الحقيقي.

الأمن العام للأمة

الأمن العام للأمة الأثر الثاني: الأمن: يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بإن الظلم هنا هو الشرك، مذكراً إياهم بقول العبد الصالح لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. إذاً فالآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]؛ هذا الأمن يبدأ من أمن الفرد وينتقل إلى أمن الأمة. وهنا أقف وقفة مع هذه القضية؛ فإنها قضية مهمة جداً: كانت قريش تعيش حياة الرعب، فلما جاء أبرهة لهدم الكعبة فرت قريش إلى الجبال، وفتحت الطريق أمام عدوها، بغير عقيدة يفتحون الطريق لأعدائهم أن يغزوا بلدانهم! هربت قريش إلى الجبال وتركت الأمر، فمن الذي أنقذ البيت الحرام؟ أنقذه الله سبحانه وتعالى، وذلك بأن أرسل عليهم طيراً أبابيل {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4]، فكانت تلك الحادثة العظمى إرهاصاً لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تحولت مكة إلى بلد آمن؛ لأن جميع القبائل لما سمعوا بقصة ذلك الجيش العرمرم وكيف أن الله أهلكه وقتله شر قتلةٍ صار الواحد منهم يقول: هذا البيت له قدسيته، وهذه الطائفة وهذه القبيلة لأنها تحمي البيت لها مكانتها، فصارت القبائل لا تفكر أبداً بأن تغزو قريشاً ولا أن تنالهم بأذى، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. فبعد هذه السورة قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1 - 4]، فتحولت قريش إلى أمان، نعمة من الله سبحانه وتعالى. فانظر أيها الأخ المسلم! إلى الانتكاسة الفكرية كيف تكون، فحين كانت قريش في أمنها سعيدة وهي على شركها وعلى طغيانها، إذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يبعثه الله ويرسله صادعاً بالحق يقول لقريش: قولوا لا إله إلا الله. فماذا صنعت قريش؟ هل استجابت أو أبت؟ رفضت أن تستجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس غريباً هذا، وإنما الغريب أنها عللت عدم استجابتها بتعليل عجيب، فماذا قالوا؟ يقول الله تعالى عن قريش: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] يعني: يا محمد! إن نؤمن بك تهجم علينا القبائل، ويعادوننا ويحاربوننا ويغزون بلادنا ونحن نعيش في أمان، فإن اتبعناك فإن الأمم الكافرة وغيرها تغزونا. {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، فماذا كان الجواب؟ {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، أي: كيف تقولون: (نتخطف من أرضنا) والله هو الذي أعطاكم الأمان؟! فمن أين جاءكم الأمان؟ من الله، وهذا رسول الله، فما جاء به لن يزيد أمانكم إلا أماناً. وفي زمننا هذا يقول كثيرٌ من الناس: إذا تمسكنا بديننا، وإذا أعلنا الولاء والبراء، وإذا طبقنا شريعتنا؛ حاربتنا الأمم وغزونا وتسلط علينا الكفار وصاروا يحاربوننا ويقاتلوننا ويريدون أن يغزوا بلادنا إلخ. وهي كلمة قريش {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]. أيها الأخ المسلم! إن هذه دعوة غير صحيحة، فعقيدة التوحيد هي التي تغرس الأمان من الداخل للأمة كلها، وهي التي تغرس الأمان بإظهار وإبراز الرعب بالنسبة للعدو الخارج، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]، عدو بعيد يرعب ما كان يفكر، وإنما خطر بباله أن يغزوكم فيرهب ويصاب بالرعب، وذلك حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى الإيمان الحق. إذاً فهذه العقيدة تولد الأمان في المجتمع؛ لأنها تولد الأمان الداخلي وتنزل الرعب بالعدو الخارجي مهما كانت قوته، ومهما اختلف ما بيننا وبينه من ناحية الاستعداد والقوى المادية، إن الله لم يطلب منا أن نكون مثل أعدائنا في القوى المادية، لكن طلب منا أن نستعد وأن نأخذ ما استطعنا، لكن ما لم نستطعه (فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وهل كانت انتصارات المسلمين لأن قواتهم مع أعدائهم كانت متكافئة؟ لا والله، فغالباً ما يكون المشركون أضعافاً مضاعفة بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لعددهم ولخيلهم وسلاحهم وكل شيء عندهم. إذاً فالتوحيد يغرس الأمان، وإذا أردنا الأمان فعلينا أن نرجع، وإذا أردنا أن يتبدل أمننا خوفاً فنحن بالخيار، فنغير فقط ونعدل، نغير ما نحن عليه، ونتوكل على غير الله، ونحارب العقيدة، ونحارب الدعاة ونضيق عليهم، إذا أردنا هذا فالطريق سهل، لكن إذا أردنا الأمان الحقيقي فعلينا أن نعتصم بالله الاعتصام الحق، وأن لا نحابي أحداً مهما كان، ومهما تكلم الغرب من شرقه وغربه واصماً عقيدتنا وإيماننا بالأصولية وبالتطرف وبالإرهاب، لا والله لا نلتفت إلى هذا، لا نلتفت إلى أي شيء من ذلك، وإنما نلتفت إلى ربنا سبحانه وتعالى فنراقبه في جميع أمورنا.

التحلي بفاضل الأخلاق والتخلي عن رذائلها

التحلي بفاضل الأخلاق والتخلي عن رذائلها ومن آثاره بالنسبة للمجتمع غرس الأخلاق الفاضلة والبعد عن الأخلاق الرذيلة: وقد يقول قائل: وما علاقتها بالتوحيد؟ نقول: هي قائمة على أساس التوحيد؛ لأن التوحيد لله مقتضاه الطاعة، ومبناه على المحبة، ولهذا فإن غرس الأخلاق الفاضلة في المجتمع لا يمكن أن يتم إلا من خلال المراقبة الإيمانية، أما إذا جعلت المراقبة مادية فسرعان ما يحتال الإنسان على المراقبة المادية. فانظر إلى أخلاق الغرب فهي أخلاق تجارية، لكن المؤمن ليس كذلك، فسواء رآه الناس أم لم يروه، أخفاه أو لم يخفه، لأنه يعلم أن الله هو الرقيب، لهذا فإن الميزة الكبرى للأخلاقية الإسلامية أنها تبني في النفس تلك الأخلاق بناء على حب الطاعة وكره المعصية، فذلك الإنسان لا يترك الزنا أو يترك شرب الخمر أو غير ذلك بناءً على قانون رادع، وإنما لأنها معصية لله فيبغضها، ولا يلتزم الصدق وحسن الخلق والرحمة بالآخرين لأن هذه صفات تجلب له شهرة، وإنما يلتزمها لأنها ترضي رب العالمين، وبهذا تتحول هذه العقيدة في قلب المؤمن حباً وبغضاً إلى أن يكون ذلك المؤمن الصادق ممتثلاً للأخلاق حتى ولو ألزم نظاماً أو قانوناً بضدها.

تأليف قلوب المؤمنين وجمع كلمتهم وموقفهم

تأليف قلوب المؤمنين وجمع كلمتهم وموقفهم كذلك أيضاً من آثاره الكبرى: أنها تجمع المؤمنين من كل مكان: وهذا هو الأثر الرابع، قال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، فكلمة التوحيد هي التي جمعت، وإذا أردنا أن نجمع القلوب على أساس القومية أو الوطنية، أو المصالح المشتركة، أو العدو المشترك، أو الأرض، أو التراب أو الطين أو غير ذلك؛ فوالله لا تجتمع، لوا يجمعها إلا عقيدة التوحيد التي تجعل الأمة كلها من أولها إلى آخرها يداً واحدة وجسداً واحداً وقوة واحدة، مهما غزاها عدوها ليفرق بينها لا يستطيع؛ لأنها لحمة واحدة. فهل يستطيع عدوٌ أن يغزو جزءاً من جسدك بدون أن يتأثر بقية الجسد؟ لا يمكن، فلو أتى إلى إصبعك أو إبهامك أو طرف رجلك أو أي جزء من جسدك يؤذيه لا يمكن أن تقبل بقية الجسد، بل تتحول بقية الجسد إلى أسد هصور ينطلق للإنقاذ، ولو كانت وخزة إبرة لهب الجسد كالحصان الراكض يقول: ما هذه الوخزة؟ فكيف إذا أراد الإنسان أن يؤتى بشيء أكبر من ذلك، إنه المجتمع، فالمجتمع هو الذي يتحول بعقيدته إلى لحمة واحدة وجسد واحد كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حلول الخيرات والبركات

حلول الخيرات والبركات الأثر الخامس: نزول البركات من السماء والأرض: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66]. إن البركات والخيرات إنما تتنزل على المؤمنين حينما يحققون عبوديتهم لله وحده لا شريك له، فيكون شعارهم الصدع بهذه الكلمة، والإيمان بها، والاعتصام بها، والثبات عليها، والتزام أحكامها وشريعتها. إننا حينما نلتزم الشريعة ونطبقها ونحكم بين الناس بالكتاب والسنة، تتنزل علينا خيرات وبركات وعدالة وأمن واطمئنان، وتظهر الأرض خيراتها، إنها آثار كبيرة جداً بالنسبة للمجتمع.

أثر التوحيد في الآخرة

أثر التوحيد في الآخرة أما القسم الثالث فهو أثر التوحيد في الآخرة: وأظنه معلوماً لدى الجميع؛ لهذا فإنني لا أطيل فيه، وإنما أقول: إن غاية الغايات حينما يحقق الإنسان التوحيد في هذه الدنيا أن يعلم الإنسان أنه حينما يقف بين يدي الله تعالى لن ينجو إلا بهذه الكلمة (لا إله إلا الله)، فبهذه الكلمة له الأمان في الآخرة حين يخاف الناس، وله الفوز بالجنة حينما تسعر نار جهنم وتقاد بسبعين ألف زمام. فيوم القيامة يوم لا شك فيه، والجميع سيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ولما كان الأمر كذلك والدنيا فانية والأيام قصيرة والأجل غير معروف والموت لا يفرق بين الصغير والكبير؛ جاء النداء: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، هي حقيقة كبرى، لهذا فالمؤمن يحقق التوحيد لأجل أن ينال الأمان والفوز يوم القيامة، يحقق التوحيد لأجل أن يكون يوم القيامة ممن يقال لهم على رءوس الأشهاد: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، إنه الأمان الأكبر يوم الفزع الأكبر، إنه الفوز الأعظم يوم الخسارة الكبرى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]، ذلك هو الخسران الكبير أيها الأخ في الله. إذاً تحقيق التوحيد وتحقيق الإيمان وتحقيق العقيدة يحول الحياة في هذه الدنيا إلى طمأنينة، وكذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم يوم القيامة من الآمنين، وأن يجعلني وإياكم ممن ختم له بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الكبائر وما يكفرها

الكبائر وما يكفرها Q هل الأعمال الصالحة تكفر الكبائر أم لا بد لها من توبة؟ A الذي يظهر -والله أعلم- أن الكبائر لا بد لها من توبة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فمعلوم أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فقد يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).

ذكر الله تعالى مع عدم مواطأة القلب للسان

ذكر الله تعالى مع عدم مواطأة القلب للسان Q ما الحكم فيمن يذكر الله ولا يتوافق لسانه مع قلبه، وكيف يكون ذلك؟ A كلنا نشعر بهذا، لكن عليك بعلاج قلبك، وأن تكون ممن يراقب قلبه، فإذا ذكرت الله تذكر عظمة الله، وتذكر ربك سبحانه وتعالى، وتتدبر الآيات، وتدبر سورة الفاتحة، وتدبر هذه الأمور كلها، والله سبحانه وتعالى يعينك ويوفقك، واسأل ربك وادعه؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجيب دعاءك ويلين قلبك ويبصره ويجعلك تتدبر وتتأثر.

قراءة سورة (يس) في المنزل لدفع العين

قراءة سورة (يس) في المنزل لدفع العين Q هل قراءة سورة (يس) في المنزل الجديد مع أفراد الأسرة تدفع العين بإذن الله تعالى، وهل لهذا أصل في الشرع؟ A ليس لهذا أصل في الشرع؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك، بل الذكر الليلي والنهاري، وذكر الدخول وذكر الخروج، وعند النوم وعند الاستيقاظ ونحو ذلك من الأذكار، هو الذي يُنجي بإذن الله تعالى، وهي أسباب.

أثر التوحيد على دارسيه

أثر التوحيد على دارسيه Q إننا نرى كثيراً ممن يدرس التوحيد والعقيدة لا يركز على أثر التوحيد، فلماذا؟ ومن درس التوحيد ولم يزدد إيمانه هل في تعلمه خلل؟ A لا يمكن أن يتعلم الإنسان التوحيد إلا ويزيد إيمانه، لكن يختلف وتختلف تلك الزيادة بحسب طريقة دراسة التوحيد، فإذا كانت طريقة علمية جافة فقد لا يتأثر الإنسان كثيراً، لكن إذا كانت طريقة تربط الإنسان بالله في عباداته وأعمال قلبه فإنها تزيد إيمانه بإذن الله تعالى.

الاكتفاء بكلمة التوحيد للنجاة من العذاب

الاكتفاء بكلمة التوحيد للنجاة من العذاب Q هل تكفي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لدخول الجنة، وكيف نرد على من استدل على ذلك بنحو قوله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)؟ A من مات على كلمة التوحيد فهو من أهل الجنة، لكن كما قال الحسن البصري وغيره: (لا إله إلا الله) لا تكفي لوحدها، وإلا لنطقها كل إنسان وانتهى الأمر. بل لما سئل بعضهم: ألست تقول إن (لا إله إلا الله) مفتاح الجنة؟ قال: نعم. وهل هناك مفتاح بغير أسنان؟ قيل: لا. قال: إن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. فكذلك أيضاً كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لا يمكن أن تقال إلا بالقيام بأركانها وبشروطها، فلها ركنان ولها سبعة أو ثمانية شروط، ولهذا المنافقون يقولون (لا إله إلا الله)، لكن لتخلف شرط الصدق فهم في الدرك الأسفل من النار. كذلك أيضاً أولئك الذين يرفضون شريعة الله تعالى، هؤلاء يتخلف عندهم شرط القبول، فهو يقول -مثلاً-: أنا يكفيني كون (لا إله إلا الله) عقيدة قلب. فإن قلت له: وامتثال شرع الله؟ يقول لك: لا. أي: جائز أن نأخذ بأي قانون وبأي نظام، وهذا كفر بالله سبحانه وتعالى، إذاً لا يكفي التلفظ بها.

متى يجوز الخوف من غير الله ومتى يحرم

متى يجوز الخوف من غير الله ومتى يحرم Q الخوف من الجن والسحر والعين وهي كلها فيها ضرر على الفرد، ألا يكون ذلك من الخوف الطبيعي، وكيف يكون التوقي من السحر والعين والجن؟ A إذا كان السحر أمامك فهذا من الخوف الطبيعي، لكن أن تخاف من إنسان بعيد عنك فهذا هو خوف السر الذي هو شرك أكبر، فهو خوف السر، إنسان بعيد عنك لا يملك من الأمر شيئاً ثم تخافه من دون الله تعالى؟! أما كيف يتقي الإنسان السحر والعين وغير ذلك فسبيل ذلك تقوية الإيمان، وكثرة الأوراد من أولها إلى آخرها.

القيام بحق الوالدين مع ارتكابهما بعض المعاصي

القيام بحق الوالدين مع ارتكابهما بعض المعاصي Q قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فكيف الربط بين رضا الله ورضا الوالدين، خاصة إذا كان الوالدان يفعلان المعاصي وأفعالاً لا يطيقها الشاب المسلم خاصة في دينه ودين زوجته، مثل إيقاع الفتنة بينهما وإحداث القطيعة والخلاف؟ A أما بالنسبة لبر الوالدين فإن الله أمر بالبر بهما حتى وهما يدعوانك إلى الشرك {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فما قال: عقهما. بل قال: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً)، فأنا أنصحك يا أخي بأنه ما دام والداك من المؤمنين لكن عندهما هذه المعاصي أن تتقرب إليهما وأن تحسن إليهما، وأن تكره ما فيهما من معصية، وأن تبعد بنفسك وزوجتك عن تلك المؤثرات بالأسلوب الطيب الحسن، لكن لا يجوز لك أن تتنكر لهما ولا أن تعقهما.

الصدقة على اليهودي والنصراني

الصدقة على اليهودي والنصراني Q هل يجوز التصدق على اليهود والنصارى مثل السائق والخادمة وغير ذلك؟ A إذا كان رجاء إسلامهم فإن الله تعالى قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، لكن المودة القلبية لا تجوز، إنما يجوز الإحسان خاصة إذا رجا الإنسان إسلامهم.

توجيه للمكتفي بدراسة العقيدة الواسطية

توجيه للمكتفي بدراسة العقيدة الواسطية Q أنا أدرس العقيدة الواسطية وما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فهل أترك ذلك وأبدأ بدراسة توحيد العبادة من كتاب (الأصول الثلاثة) أو كتاب التوحيد، أم لا بأس بالواسطية؟ A لا بأس بأن تستمر في دراسة العقيدة الواسطية، لكن أنصحك بأن تضم إليها درساً آخر في التوحيد والأصول الثلاثة، وبهذا تجمع بين الخيرين إن شاء الله تعالى.

الموقف من الفساق وأهل البدع

الموقف من الفساق وأهل البدع Q ما هو موقف العلماء -حفظهم الله- من الصوفية؟ A أهل البدع لا يجوز أن يتركوا يمارسون بدعهم، هكذا كان منهج السلف الصالح، الأطر على صاحب الفسق وصاحب البدعة أولاً؛ لأن صاحب الفسق الذي ينشر الخمور وينشر الفسق هل يترك؟ فلو جاء واحد وقال: أنا سأفتح مكان زنا، ولن ألزم الناس، فمن أراد فليأت ومن لم يرد فلا يأت، وأنتم انصحوا الناس. فإننا نقول: هذا يؤخذ على يديه، هذا مثل خارق السفينة كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك صاحب البدعة يجب أن يؤخذ على يديه أولاً، ويجب أن يبين ويكشف أمره ثانياً؛ لأن هذه البدع متعلقة بالعقيدة، بدعة تقوم أحياناً على شركيات، وقد تتضمن شركاً أكبر، نسأل الله السلامة والعافية، كتوسل واستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله خطير جداً.

عبارة (يا رضا الله ورضا الوالدين)

عبارة (يا رضا الله ورضا الوالدين) Q توجد لوحات على الجدران كتب عليها: (يا رضا الله ورضا الوالدين). فهل فيها شيء؟ A كأن العبارة فيها شيء من الركاكة، لكن لو أنها عدلت العبارة فلا بأس.

حكم أعمال الشعوذة

حكم أعمال الشعوذة Q هناك بعض أعمال الشعوذة مثل الزار والذبح والسحر، فهل هذا كفر؟ A نعم. هذا كفر.

الخوف من الجن ونحوهم وحكمه

الخوف من الجن ونحوهم وحكمه Q ألا يعتبر الخوف من الجن أو من السحرة وأمثال ذلك من الأشياء الجبلية؟ A أن تخاف من عدو يضربك بسلاح أمامك هذا من الشيء الجبلي، فلا يقال: هذا يخاف من غير الله. وتخاف من النار إذا اشتعلت، وتخاف من شخص معه مسدس أو سلاح، هذا خوف طبيعي، فإنسان علم أنه ساحر ومعه السحر يريد أن يسحرك أمامك يجب أن تتوكل على الله، لكن إذا خفت فهو خوف طبيعي، فالخوف الذي يخشى على الإنسان منه هو أن الإنسان يقال له: إن هناك جناً، فيخافهم من دون الله، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يعني: لما علمت شياطين الجن أن الإنس يخافون منهم تسلطوا عليهم؛ كذلك أنت أيها الإنسان إذا خفت منهم تسلطوا عليك، فاعتصم بالله وتوكل عليه ينجيك الله سبحانه وتعالى.

الموازنة بين أسس العبادة الثلاثة

الموازنة بين أسس العبادة الثلاثة Q أرجو التفضل بإيضاح الأسس الثلاثة التي تقوم عليها عبادة الله وحده، أعني الخوف والرجاء والمحبة، وكيف تتم الموازنة بينها، وكيف يتم البعد عن الانحراف في أي منها؟ A لا بد أن تكون جميعاً متوازنة، فالمحبة هي الأساس فهي رأس الطائر، وطائر بغير رأس لا قيمة له، فخوف ورجاء بغير محبة لا قيمة له، لكن لا بد أن تكون هناك المحبة تدفع الإنسان، والخوف والرجاء متوازنان كجناح الطائر في سير الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى.

التسخط من أقدار المصائب

التسخط من أقدار المصائب Q يوجد في زماننا أناس يتسخطون مما يحدث لهم في حياتهم من كوارث، وينسبون ذلك إلى حظهم التعيس، وهذا يقودهم إلى عدم العمل والطاعة لله، ويقول أحدهم: هذا حظي، وسوف يكون حظي تعيساً، فما حكم هؤلاء؟ A هذا كله سوء ظن بالله سبحانه وتعالى، وإلا فلو أن الإنسان اعتصم بالله سبحانه وتعالى وتوكل عليه واعتمد عليه لتغيرت حاله ولرضي، أنا أقول لهذا الإنسان الذي وصفت حاله: لا تظن أنك أنت الوحيد المبتلى، حتى الكفار يبتلون بالأمراض والمصائب والكوارث، الجميع مبتلى، بل والله إنك لو فتشت عن بعض البيوت التي تظن أنها سعيدة بقصور وسيارات قادمة ورائحة وشيكات ذاهبة واستقبالات وكل شيء؛ والله لو فتشت عنها في داخل البيت لرأيت فيها مصيبة، ولو قيل لك: نرسل لك المصيبة وهذه الأمور كلها لقلت: لا والله ما أريدها. لكن ارض بما قسم الله لك، فإذا رضيت بما قسم الله لك تحولت حياتك إلى رضا، وتحولت المصائب التي هي قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى، إلى لطف وإلى أجر وإلى رضا بالله سبحانه وتعالى.

الاعتزاز بالقومية

الاعتزاز بالقومية Q هل من يعتز بالقومية العربية يعتبر علمانياً؟ A نعم. من يعتز بالقومية العربية يعتبر علمانياً، لأن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، لنتعارف، فأنا من بني فلان وأنت من بني فلان، وابن عمي ما دام على الإيمان لا مانع من أن أحبه، ولا مانع من أن أحب بلدي الذي عشت فيه، وهذه كلها أمور جبلية وطبيعية، لكن أن أجعل راية التجمع ورابطة التجمع هي القومية العربية، لا شك أنه أحد أبواب العلمانية.

العقيدة بين تأسيس الإيمان والرد على المخالفين

العقيدة بين تأسيس الإيمان والرد على المخالفين Q هل العقيدة هي الرد على المشركين والفلاسفة والجهمية والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع، أم أن العقيدة هي الإيمان بالله؟ A العقيدة تقوم أولاً على تأسيس الإيمان بالله وتوضيحه وتحقيقه، هذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الرد على أولئك فهذا من باب دفع العدو، فإن جاءك عدو رددته، أما إذا لم يأتك العدو فأنت في أمان ولست محتاجاً إلى هذا، وهكذا كان حال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

حكم الذهاب إلى القراء

حكم الذهاب إلى القراء Q هل الذهاب إلى القراء منقص للتوكل والتعلق بالله؟ A إن ظاهرة القراء اليوم الذين يتجمع الناس حولهم أعداداً كثيرة جداً هي ظاهرة تدل على ضعف الإيمان؛ لأنك تجد الناس يتجهون إليهم ويتزاحمون عليهم وخاصة النساء، وقد نبهت على ذلك في إحدى المحاضرات فليرجع إليه.

تكييف الدعاء بلفظ (برحمتك)

تكييف الدعاء بلفظ (برحمتك) Q هل قول (برحمتك) من دعاء الصفة؟ A لا. فالتعوذ بالصفة يجوز، فنقول: أعوذ بالله، أعوذ برضاك. أما دعاء الصفة بقولك: يا رحمة الله ارحميني، فهذا لا يجوز.

العلاقة بين التوحيد والعقيدة

العلاقة بين التوحيد والعقيدة Q ما هي العلاقة الشرعية بين التوحيد والعقيدة؟ A أساس العقيدة هو التوحيد.

آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته

آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته Q لا شك أن الأسماء والصفات لها من الآثار الحميدة والمعاني الجليلة ما يزيد في الإيمان ويبعث في النفس حب الله ورسوله والمؤمنين، أرجو توضيح أهمية هذا الأمر؟ A نعم. له أثر عظيم جداً، والحقيقة أن الإيمان بأسماء الله وصفاته يجب أن يتحول من الإيمان النظري إلى إيمان عملي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) قالوا: وإحصاؤها هو حفظها والقيام بمعانيها. والأمر في هذا يطول جداً.

تحقيق التوحيد والخوف الطبيعي

تحقيق التوحيد والخوف الطبيعي Q الخوف شيء فطري في الإنسان، فالإنسان يخاف من الطواغيت والظلمة، ويخاف من جميع ما يضر به، فكيف يحقق الإنسان المسلم التوحيد في ذلك؟ A الخوف الطبيعي لا يدخل، كذلك أيضاً الحب الطبيعي، بأن يحب الإنسان والديه، ويحب ولده، ويحب الطعام إذا كان جائعاً، فهذا كله من الحب الطبيعي الذي لا يضر، كذلك أيضاً الخوف الطبيعي كما سبق بيانه، لكن الخوف المقصود هو خوف السر، أن تخاف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

دعوى كون الكافرين أصدق في التعامل من المسلمين

دعوى كون الكافرين أصدق في التعامل من المسلمين Q ما هو الرد على القائلين بأن الكافرين أصدق في تعاملهم من المسلمين، والعياذ بالله؟ A هذه دعوى إفك، والله سبحانه وتعالى يقول موصياً المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5]، فكيف نكون فتنة للذين كفروا؟ حينما نذل بإسلامنا ويكون الكفار أعزة بكفرهم، فنكون نحن فتنة؛ لأنهم يقولون: لو كان الإسلام حقاً لكانوا أعزة. فنحن بذلنا وتخلينا عن ديننا نتحول إلى فتنة للكفار. الآن يأتي الواحد من الكفار إلى بلاد المسلمين معتزاً بجنسيته الكافرة، ويرفض جنسية المسلمين لأنه يجد الذلة عند المسلمين والعزة عند الكافرين، فنحن بذلنا فتنا الذين كفروا، لكن لما كنا نعتز بديننا كان الواحد يرى قمة العزة في الإسلام فيبحث عن الإسلام، بل كان كثير من أهل الذمة في البلاد المفتوحة يدخلون في الإسلام لأنهم يرون العزة في الإسلام، والكلام في هذه الجزئية طويل، وهو كلام مهم جداً لعله يرد تفصيله في موضع آخر.

دور المسلم في تحقيق التوحيد في نفسه وأمته

دور المسلم في تحقيق التوحيد في نفسه وأمته Q ما هو دور المسلم في تحقيق التوحيد في نفسه وأمته؟ A هو دور خطير وعظيم جداً، أن يقوم بالنسبة لنفسه وبالنسبة لأسرته وبالنسبة لأمته، فيتحول إلى داعية إلى هذا التوحيد.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم) Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم)؟ A هذه العبودية ليس معناها أن يعبده ويسجد له ويركع، وإنما أن يتعلق قلبه به، فيتحول الحب والبغض على أساس هذا الدرهم.

كمال التوحيد مع الخوف من الظلمة وأعوانهم

كمال التوحيد مع الخوف من الظلمة وأعوانهم Q هل الخوف من الطغاة وأعوانهم ينافي كمال التوحيد؟ A إذا كان في أمر يقدرون عليه فلا، وإذا كان في أمر لا يقدر عليه إلا الله فنعم ينافي كمال التوحيد.

كيفية تنمية المحبة لله تعالى في القلب

كيفية تنمية المحبة لله تعالى في القلب Q كيف ننمي المحبة في قلوبنا والتي هي أساس بالنسبة للعقيدة؟ A ننمي محبة الله سبحانه وتعالى في قلوبنا بأمور كثيرة: أولها: ذكر الله ليلاً ونهاراً. ثانيها: الصلاة، فإنها تغرس في القلب محبة الله. ثالثاً: تذكر نعم الله عليك، فإذا تذكرت أن الله هو الذي أنعم عليك بالصحة والعافية والأمان والمال وغير ذلك؛ فإنك تتعلق بهذا الذي أنعم عليك، إلى غير ذلك من الأمور، فنعم الله لا تعد ولا تحصى. أسأل لي ولكم التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

خصائص أهل السنة والجماعة في السلوك والأخلاق

خصائص أهل السنة والجماعة في السلوك والأخلاق للأخلاق في ديننا الإسلامي منزلة رفيعة، ومكانة كريمة، فقد بعث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، فكان صلى الله عليه وسلم في ذلك هو القدوة العظمى والأسوة الحسنة، ويكفيه في ذلك شهادة ربه سبحانه وتعالى. ثم جاء صحابته من بعده فضربوا في ذلك بسهم وافر، ونهلوا من ذلك حتى ضربوا بعطن، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. والأخلاق أصل معاملة المؤمن مع ربه، وهي الرابطة المتينة بينه وبين إخوانه، وهي خير أسلوب يدعى به غير المسلمين من الملل الأخرى، فكم من أمة أسلمت بسبب حسن الخلق، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

أهمية السلوك والأخلاق في الإنسان المسلم

أهمية السلوك والأخلاق في الإنسان المسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى وحسن الأخلاق. بعون الله تعالى وتوفيقه سنعرض لبعض الخصائص التي يتميز بها المسلم في باب الأخلاق وفي باب السلوك. وتعلم -أخي الكريم- أهمية موضوع الأخلاق والسلوك في الحياة، وأهميته بالنسبة للمسلم خاصة، وبالنسبة للداعية إلى الله بشكل أخص؛ لأن الأخلاق والسلوك في حياة الإنسان المسلم أصل علاقته بربه، وأصل علاقته بأهل بيته، وأصل علاقته بالمؤمنين من حوله، وأصل علاقته بغير المؤمنين من الأمم الأخرى، وكم من خلق تمسك به صاحبه رفعه الله سبحانه وتعالى به درجات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). كم من خلق يرتفع بصاحبه ليكون في منازل عليا عند الله سبحانه وتعالى! وكم من صفة تميز بها المؤمن كانت سبباً في هداية شخص أو أمة، وهكذا. فالأخلاق لها أهميتها، ومن ثم جاءت هذه الكلمات التوجيهية -أسأل الله أن يثيب الجميع عليها- جاءت لتبين أصول الأخلاق، ولتبين أيضاً ما يضاد الأخلاق الإسلامية من الصفات التي يجب أن يتنزه عنها المؤمن.

خصائص أهل السنة في السلوك والأخلاق

خصائص أهل السنة في السلوك والأخلاق هناك بعض الملحوظات حول هذا العنوان: الأولى: أننا حينما نقول: (خصائص) فإن المقصود بها الصفات الجامعة التي يتميز بها المؤمن، ولا نقصد بذلك استيعاب مسائل الأخلاق المتعددة التي تكلم عنها العلماء وألفوا فيها تآليف متعددة. الثانية: أننا حينما نقول (أهل السنة) لا نقصد بذلك أن هذه الخصائص إنما يختص بها فئة معينة، وإنما المقصود أن هذه الخصائص تميز بها أعلام أهل السنة وأئمتها، وإلا فكل مؤمن ومؤمنة وكل مسلم ومسلمة سار على الدرب الصحيح اعتقاداً على مذهب أهل السنة والجماعة أخلاقاً وسلوكاً وكان متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه من أهل السنة، ومن ثم فحينما نطلق أهل السنة أو حينما نطلق صفات المؤمن فالغاية منهما واحدة، ولكننا نشير إلى خصائص أهل السنة، أي: الصفات التي تميز بها أئمة أهل السنة ودعاتها والمنافحون عنها رحمهم الله تعالى، وجعلنا ممن يسلك سبيلهم ويقتفي أثرهم. الثالثة: العنوان فيه: (في السلوك والأخلاق)، وهذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن السلوك والأخلاق بينهما تداخل، فإذا أطلق السلوك لوحده، فقيل: فلان سلوكه حسن دخلت فيه الأخلاق، كذلك أيضاً الأخلاق أو الخلق لوحده إذا أطلق وقيل: فلان خلقه حسن دخل فيه السلوك، وإذا جمع أحدهما مع الآخر فإن السلوك يكون أعم من الخلق؛ لأن الأخلاق صفات يتخلق بها الإنسان فهي خلق له، ولكن السلوك يشمل جوانب الأخلاق ويشمل الأمور الأخرى في طبيعة حياة الإنسان قد يقال: إنها لا تدخل في باب الأخلاق.

مناهج المنحرفين في تحديد السلوك والأخلاق

مناهج المنحرفين في تحديد السلوك والأخلاق كثيراً ما نقرأ في الساحة كتباً تتحدث عن الأخلاق، وهذه الكتب التي تتحدث عن الأخلاق كتب متنوعة مختلفة المشارب، فأيها يوافق منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب؟ هذا الذي أردنا بيانه هنا؛ لأن هناك عدة مسالك ومناهج في باب الأخلاق تخالف منهج أهل السنة والجماعة، ومنها المنهج الفلسفي. والمنهج الفلسفي هو الذي يربط الخلق برابطة عقلية أو مادية بحتة، فتجدهم أحياناً يجعلون مناط الأخلاق حسنها وسيئها هو العقل، وهذا تحكم، بينما منهج أهل السنة والجماعة في الأخلاق أن يجعلوا مناطها هو الشرع، وصحيح أن الشرع لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح السليم. تجد بعض المناهج يجعل غاية الخلق هو اللذة، وهذه مناهج عقلية موجودة، وهناك دعاة لها من أصحاب الإباحية وغيرهم. وهناك من يرى أن عماد الخلق هو المنفعة، وهذه هي أخلاق الغربيين الآن. هذه الأخلاق لا تقوم على مبدأ الدين وإنما تقوم على المنفعة، ومن العجيب أن كثيراً منا يعجب بما يتصفون به من صفة الصدق في بيعهم وشرائهم، ولكنهم يجهلون أن هذه الصفة إنما هي صفة مادية بحتة، يريد أصحابها منها منفعة عاجلة، فهو يريد أن يكون صادقاً حتى يربح أكثر؛ لأنه يعلم أنه لو كذب لفضح ولبارت تجارته. وهناك منهج آخر منحرف وهو المنهج الصوفي الذي يريد أن يربي الإنسان على الانقطاع عن هذه الحياة، وذلك من خلال ما يريد أن يصل إليه من جلب أو كسب صوفي أو غير ذلك، ويظن أصحاب هذا الخلق أن عماد الأخلاق أن تنقطع عن هذه الحياة فلا تختلط بالناس ولا تدعو إلى الله، ولا تكون ممن يعمر هذا الكون كما أمر الله سبحانه وتعالى عمراناً فيه نصرة للمؤمنين وقوة ودافع لهم للجهاد في سبيل الله ولدعوة الناس إلى دين الله، بل يريد أن يحصرهم في هذا النطاق الضيق. إذاً هذا منهج منحرف، ومن أجل ذلك كان لا بد أن نبين المنهج الإسلامي ومنهج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في هذا الباب الذي هو باب الأخلاق والسلوك.

اهتمام أهل السنة والجماعة ببيان الأخلاق وأهميتها

اهتمام أهل السنة والجماعة ببيان الأخلاق وأهميتها القضية الثالثة: هي مسألة مدى اهتمام أهل السنة والجماعة في بيان هذه الأخلاق وأهميتها، وهذا جزء أصيل من منهجهم. فأهل السنة والجماعة -وعلى رأسهم القائد القدوة رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده، ثم التابعون لهم- بينوا لنا هذه الأخلاق وشرحوها. ومن هنا فإن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت بكلمة جامعة، ما قالت: كان خلقه الصدق، وخلقه الحياء، وخلقه الشجاعة. لا، بل أرجعتهم إلى مصدر أصيل في الأخلاق، فقالت: (كان خلقه القرآن) عليه الصلاة والسلام. إذاً -معنى ذلك أن من أراد أن يبحث عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتمسك بالقرآن فسيجد فيه تفصيلاً لأخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم ليقتد بها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان مثال الخلق الرفيع عليه الصلاة والسلام. لقد دون أهل العلم وأهل الحديث رحمهم الله تعالى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما دونوه واهتموا به بيان الأخلاق والسلوك. لقد دونوا العقائد، ودونوا الأحكام الشرعية، ودونوا أيضاً الأخلاق والسلوك وبوبوها وفصلوها، وذكروا فيها الأحاديث والروايات الواردة، وانظر إلى أي كتاب من كتب السنة، فإنك ستجد تلك الأبواب مخصصةً لبيان الفضائل والأخلاق. فـ البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه كتاب اسمه (كتاب الأدب)، وكتاب اسمه (كتاب الرقائق)، وكتاب اسمه: (الزهد)، بل إنه رحمه الله تعالى ألف كتاباً منفرداً لم يحصره في الصحيح سماه (كتاب الأدب المفرد). وسمي (المفرد) لأنه أفرد عن صحيح البخاري، وهذا اهتمام منه رحمه الله تعالى بهذه القضية المهمة؛ لأنها أساسية في حياة المؤمن، وفي حياة الداعية، وفي حياة واعي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً الإمام مسلم وأصحاب السنن رحمهم الله تعالى، ومن جمع في هذا الباب سواء على طريقة تبويب الأبواب كـ البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة، أو على طريقة المسانيد والمعاجم كالإمام أحمد والطبراني وغيرهما فإنهم يذكرون في ثنايا معاجمهم ومسانيدهم الأحاديث الدالة على الفضائل. وهكذا اهتم العلماء في بيان هذا وألفوا كتباً مفردة في الآداب والزهد والرقائق وغير ذلك، بينوا ما يجب على المؤمن من خلق، ونحن يجب أن نعلم أننا لا نتحدث عن تفاصيل الأخلاق حديثاً مفصلاً، وإنما نذكر كيف كان أهل السنة والجماعة يؤصلون هذه الأخلاق ويبينونها، بل إن ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى -وهو من علماء الحديث المشهورين- جمع أجزاءً حديثيةً تزيد على مائتي جزء، وهذه الأجزاء تجدها في الغالب أحاديث في باب الأخلاق، جزء في باب التواضع، وجزء في باب الصمت، وجزء في باب الصحبة، وجزء في باب الصدق، وجزء في باب التزكية، وهكذا، وجمع فيها بين الأحاديث المرفوعة وبين الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان فيما يرويه من الروايات المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مظنة الضعف ويحتاج إلى تحقيق وتمحيص حديثي.

أصول الأخلاق التي يتميز بها المؤمنون

أصول الأخلاق التي يتميز بها المؤمنون نحن نعلم جميعاً أن الإنسان إذا نظر في تاريخ السلف رحمهم الله تعالى وفي أحوالهم وتعاملهم وآثارهم يجدهم قد تخلقوا بأخلاق وتأدبوا بآداب كانت تلك الأخلاق والآداب سبباً في محبة الناس لهم وتأثيرهم في الناس وشيوع ذكرهم في الخير، وكانت سبباً في نشر دين الله، وفي مجاهدة المبطلين والمنحرفين؛ لأن أخلاقهم كانت أخلاقاً إسلامية مبنية على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأخلاق التي بنيت على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جعلتهم على هذه الحالة وعلى هذه الصفة من التأثير والاشتهار بالذكر بالخير عند الناس، ولم يقتصر الأمر على هذا بل صاروا يؤثرون على غيرهم وهم في قبورهم. يقرأ الإنسان قصة وموقف إمام من الأئمة، فإذا ما قرأها وتبينها تأثر بها، وربما دمعت عيناه، هذا التأثر وهم في قبورهم إنما منبعه ما كان عندهم من خلق، كانوا صادقين فيه فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

الأسس التي تقوم عليها الأخلاق في الإسلام

الأسس التي تقوم عليها الأخلاق في الإسلام إن أخلاق السلف رحمهم الله تعالى وأخلاق كل مؤمن يحب أن يسير على منهاجهم تقوم على أسس:

ارتباط الخلق بدليل الوحي

ارتباط الخلق بدليل الوحي الأساس الثالث: أن الخلق مربوط بالدليل من الكتاب والسنة، وهذه ميزة مهمة جداً. تجد المؤمنين الصادقين المتبعين دائماً يسأل عن الدليل، هل فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل أمر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل ورد هذا في القرآن العظيم؟ المؤمن يتبع، ويجتنب كل ما نهي عنه، ولا يأتي ويجعل الأخلاق مبنية على عادات الناس وما يهواه الناس وما تهواه القبيلة والمجتمع. وإنما يجعل مناط أخلاقه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولقد كان أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم والأئمة من بعدهم في أخلاقهم وسلوكهم يبحثون دائماً عن الدليل في تفاصيل الخلق من كل جوانبه، سواء منها ما يتعلق بأمور عظمى كمهمة الوالي والإمام وقائد الجهاد في سبيل الله، أو ما يتعلق بأقل القليل كمعاملة الإنسان لخادمه أو أولاده أو غير ذلك. هذه هي الأسس الثلاثة التي تقوم عليها الأخلاق في الإسلام.

النية من الأسس التي تقوم عليها الأخلاق

النية من الأسس التي تقوم عليها الأخلاق الأساس الثاني: النية. بمعنى أن الإنسان وهو يتخلق بالخلق ويعامل الآخرين أو يقول أو يفعل أو يتصرف أو ينفق أو يجاهد أو يسافر أو يفعل أي شيء تجد عمله هذا مربوطاً بالنية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولهذا تجد السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم إذا فجأه الأمر لا يفعله بسرعة، وإنما يقول: دعني قليلاً لأنوي. هذا هو الفارق بين أخلاق المؤمنين الذين يقصدون بأعمالهم وجه الله تعالى وبين غيرهم، الفارق هو تلك النية. تجد الكافر ينفق على أولاده، وينفق على من تجب نفقته عليه من أقاربه، تجده قد يحسن إلى الناس، وقد يفعل الخير، لكنك تجد هذه الأعمال التي يفعلها بغير نية لا يكتب له شيء من أجرها. وكذلك أيضاً من عمل من المؤمنين عملاً بغير نية، أو قصد به غير وجه الله تعالى فإنه لا يُقبل منه، ويُرد على صاحبه، لكن المؤمن هو الذي إذا أعطى وإذا منع وإذا قال وإذا تصدق يقصد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن المؤمن إن سار أو مشى أو فعل يستشعر أن أفعاله كلها يؤجر عليها؛ لأنه يقصد بها وجه الله. ومن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصدقة ما تضعه في في امرأتك، ومعنى هذا أن هذه النفقة الواجبة عليك إذا نويت بها تؤجر عليها.

الإيمان بالله تعالى من الأسس التي تقوم عليها الأخلاق

الإيمان بالله تعالى من الأسس التي تقوم عليها الأخلاق الأساس الأول: الإيمان بالله. وهذا أساس مهم جداً؛ لأن أي خلق يتمسك به الإنسان ويتخلق به لا يكون مبنياً على الإيمان فإن هذا الخلق لن ينفع صاحبه، وإن نفعه فسيكون نفعه عاجلاً لا آجلاً، كأخلاق الكفار، فإن الله تعالى يقول عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (الرجل يقاتل حميةً، ويقاتل لأن يرى مكانه، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) انظر إلى الفرق! ذاك شجاع خاض المعركة وتحدثت عنه وسائل الإعلام وسطرت الكتب تاريخ قيادته وشجاعته، ولكنه خلق جاء من كافر، وأي عمل وأي خلق لا يكون مبنياً على الإيمان بالله والإخلاص له فإنما هو خلق لا ثمرة له في الدار الآخرة، ولا تأثير فيه إلا ذلك التأثير النفعي العاجل، وهكذا في بقية الأخلاق التي قد يتخلق بها غير المؤمنين، لكن المؤمنون يتخلقون بأخلاق بنيت على أساس الإيمان بالله، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالقلب المربوط بالله إيماناً به وإخلاصاً وتصديقاً له لا بد أن يؤدي بالإنسان إلى أن يمتثل في جوارحه ولسانه ورجله ويده، وكل ما يمكن أن يتصرف به يمتثل به على منهاج واضح؛ لأنه يقصد بذلك وجه الله تعالى، وهذا هو الفارق الأصيل بين أخلاق الكفار وأخلاق المؤمنين، وهذا هو الفارق الأصيل بين خلق المؤمن المتمسك بدينه وبين ذلك المنحرف الذي قد يتخلق بخلق لكن لا يقصد به وجه الله تعالى.

أبرز الصفات الأخلاقية التي يتميز بها المسلم والأئمة من أهل السنة

أبرز الصفات الأخلاقية التي يتميز بها المسلم والأئمة من أهل السنة نأتي بعد ذلك إلى أبرز الصفات الأخلاقية التي يتميز بها المسلم، وتميز بها الأئمة من أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى، وأحب أن أنبه إلى أن هذه الصفات البارزة إنما اخترناها لأهميتها أولاً، ولكونها أخلاقاً جامعة ثانياً، ولحاجة المؤمنين والمسلمين الذين يحبون أن يتبعوا أولئك الأئمة في أخلاقهم ثالثاً، مع العلم أن هذه الأخلاق قد يدخل بعضها في بعض، وسأشير إليها باختصار. والنصوص الدالة على الصدق كثيرة جداً في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر الله تبارك وتعالى قصة الثلاثة الذين خلفوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك، أولئك الثلاثة الذين لم يفعلوا فعل المنافقين ويحلفوا بالكذب، وإنما صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرنا تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، فنزلت هذه التوبة لهم، وبشروا رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه فرحاً مستبشراً لأن الله تاب عليه وأنزل توبته من فوق سبع سماوات، يقول: (فما حدثت نفسي بعد ذلك في أي كذب فيما بقيت من عمري، وأسأل الله أن يرزقني الثبات على ذلك إلى أن ألقاه). فماذا قال الله تعالى بعد ذكر قصة هؤلاء الذين تاب الله عليهم؟ قال بعدها مباشرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. والصدق من أبرز صفات المؤمنين، ولقد برزت في أئمة أهل السنة رحمهم الله تعالى بروزاً عظيماً. فلماذا هي من أهم الصفات؟ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (هل يكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم. هل يكون بخيلاً؟ قال: نعم. هل يكون كذاباً؟ قال: لا)، وهذا يعطيك أهمية الصدق في حياة المسلم، بحيث يصدق الإنسان مع ربه تبارك وتعالى ولا يخادع نفسه، فإذا خلا بنفسه بينه وبين ربه تخلى عن نظر الخلق وإعجاب الخلق ومدح الخلق وقول الخلق، إذا وقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى ليصدق مع ربه في إيمانه وفي إخلاصه وفي أعماله وفي أقواله وفي تصرفاته كلها؛ لأنه قد يخدع الخلق، لكنه لا يمكن أن يخدع ربه سبحانه وتعالى، يصدق مع نفسه ويصدق مع الآخرين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، وكيف برزت عند أئمة أهل السنة والجماعة صفة الصدق؟ برزت حينما أخذوا يبلغون وحي الله تبارك وتعالى إلى من بعدهم، القرآن محفوظ، لكن السنة النبوية دخل فيها الكذب، فقام أئمة أهل السنة والجماعة ليتحروا في هذا الجانب تحرياً شديداً، ويكون المقياس الأساسي والشرط الأكبر لقبول الرواية مع الشروط الأخرى هو أن يكون الرجل صادقاً. لقد بلغ من تحريهم رحمهم الله تعالى أن الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله تعالى ذهب مسافراً إلى شيخ من الشيوخ ليروي عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المدينة لا يعرف أين الشيخ، فلما دخل في أحد شوارعها وجد رجلاً مع فرس وهو يريد أن تلحق به الفرس، ووجد أنه قد رفع ثوبه كأنه يحمل في حجره شيئاً، فرأى الفرس تلحق به، فلما وصل إلى بيته أمسك بالفرس وفتح حجره وإذا به خالياً ليس فيه شيء، فلما نظر البخاري إلى هذه الفعلة قال له: أريد فلان بن فلان. فقال له الرجل: وماذا تريد منه؟ قال: لا أريد منه شيئاً سوى أني حدثت أنه يروي عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. وذكر الحديث، فقال هذا الرجل: أنا فلان، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا. فماذا صنع البخاري؟ البخاري أبى أن يروي عنه، وقال: إذا كان الرجل يكذب على بهيمته فأخشى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً أئمة أهل السنة رحمهم الله دونوا السنة وتحروا فيها، وكان الصدق صفتهم وكان الصدق ديدنهم في جميع أمورهم رحمهم الله تعالى. ولذلك -كما يقال-: لا تجد كذاباً إلا وقد فضحه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للصدق في جميع أقوالنا وأفعالنا.

الشجاعة

الشجاعة الصفة السادسة: الشجاعة: والشجاعة معناها أن الإنسان يواجه الأخطار لتحقيق الخير للأمة، وتتمثل الشجاعة في أمور، على رأسها الجهاد في سبيل الله، فالذي يقدم نفسه في سبيل الله رخيصةً هو الشجاع؛ لأنه بذل روحه خالصة لربه تبارك وتعالى، ولذلك كان من صفات الشجعان أنهم يثبتون ولا يفرون من الزحف. ومن الشجاعة أن يقول قولة الحق، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولو أدى ذلك إلى لومه أو إيذائه، ومن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وذكر خير الشهداء (رجل تكلم بكلمة الحق عند إمام جائر فقتله). ومن الشجاعة أيضاً أن يرجع الإنسان إلى أخطائه، هذه شجاعة؛ لأن الذي يقع في الخطأ ولا يحب أن يعترف بخطئه هذا عنده جبن، ولو كان شجاعاً لكان جريئاً ولقال: نعم أنا أخطأت في هذه المسألة، والحق مع فلان أو مع غيري. ويبينها، ولقد كان الأئمة رحمهم الله تعالى على مثال عظيم من هذا، وانظر إلى أقوالهم وفتاويهم رحمهم الله تعالى، فإنهم كانوا رجاعين إلى الحق. أيها الأخ المسلم! هذه صفات بارزة متى تكاملت تكوّن لدينا الخلق الإسلامي والسلوك الإسلامي الفاضل، الذي يحمل صاحبه على أن يكون منارة يقتدى به إن تكلم وإن قال وإن فعل وإن كتب؛ لأن أخلاقه وسلوكه كلها متمثل فيها بما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحياء

الحياء الصفة الخامسة: الحياء. والحياء أيضاً يشبه التواضع في كونه يفهم على غير وجهه الصحيح؛ لأن بعض الناس يظن أن الحياء أن تشاهد المنكر وتخجل من أن تنكره، أو أن تكون في موقف ينبغي أن تقول فيه كلمة الحق فلا تقولها، وهذا ليس حياءً وإنما هو خور. الحياء: هو الخلق الذي يبعث على ترك المستقبح من الأمور المحرمة ونحوها. ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما نعلم جميعاً- قال في الحديث المشهور: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، ويقول أيضاً في حديث شعب الإيمان: (والحياء شعبة من شعب الإيمان)، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث رواه الترمذي والإمام أحمد والحاكم وهو حديث حسن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء. قال: فقلنا: يا رسول الله! إنا نستحيي والحمد لله. قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ميز الحياء بمثل قوله: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء). وهذا الحديث إسناده حسن رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهما. وأيضاً ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء لا يأتي إلا بخير). إذاً الحياء خلق وصفة في النفس تمنع صاحبها من أن يقع في المعاصي والمحرمات، ولهذا نجد الشاعر يقول: ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء وينبغي أن يعلم أن الحياء الذي يحمل الإنسان على أن يتخلق بالأخلاق الحسنة ويبتعد عن الرذائل أن لا يكون مانعاً للإنسان عن قول كلمة الحق والجهر بها. كما أن الحياء لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن طلب العلم، ولهذا روى البخاري في صحيحه تعليقاً عن مجاهد رحمه الله أنه قال: (لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر). فالمستحي تأتيه المشكلة والمسألة وغيرها ويخجل أن يسأل عنها، فيمنعه حياؤه عن تفهم مسائل العلم فلا يتعلم، والمستكبر هو الذي يأنف بنفسه أن يسأل هذا السؤال، فيمنعه كبره عن تعلم العلم. وهذه الصفة -صفة الحياء- قد تتمثل في بعض الناس بشكل واضح، كـ عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قد عرف من حيائه ما عرف، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غطى فخذه حين دخل عليه عثمان وسئل: دخل أبو بكر ثم دخل عمر ولم تغط فخذك، فلما دخل عثمان غطيته! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) رضي الله عنه وأرضاه.

العدل

العدل الصفة الرابعة: العدل. والعدل ورد به القرآن، فجاء مرة بالأمر بالعدل، وجاء مرة باسم الميزان، ومرة باسم القسط، وهذا كله لبيان أن العدل مهم جداً، وهذه صفة برزت وظهرت في عامة أهل الإسلام رحمهم الله تعالى، فتجد عدل الأمراء، ومن منا يجهل عدل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي كان يعدل في كل أمر من أموره، وعدل بقية الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز وغيره، وعدل أئمة أهل السنة، تجد الواحد منهم يتمثل بهذه الصفة في جميع أحواله حتى مع أقرب الناس إليه. ففي باب الولاء والبراء -مثلاً- تجده عادلاً، نحن الآن نظراً لأن أخلاقنا مهلهلة نجدنا في باب الولاء والبراء لا نعدل مع الآخرين، فنوالي هذا في الله ونعادي هذا في الله، فنحن مع أقربائنا وأبناء عمومتنا وأولادنا تقودنا العواطف والعلاقات وغيرها، فقد نوالي من لا يستحق الولاء، وقد نعادي من يستحق الموالاة، وكم من شخص تجده بين أقربائه يرحب به ويوسع له في المجالس، ويستقبل إذا جاء، ويودع إذا سافر، وتذبح له الولائم ويحترم ويقدر، ومع ذلك هو من الذين لا يصلون لله ركعة، هل يعقل هذا؟! أين الولاء والبراء؟ تجد هذا الشخص نظراً لأمور وأمور يختلف عندهم المقياس في التعامل معه. وإنما ضربت بهذا المثل لأن العدل في أمور كثيرة، سواء أكان مع الرعية أم في الإنفاق أم في غير ذلك، ولذلك تجد أن كثيراً من الأئمة من خوفهم أن لا يوفوا العدل حقه يستعيذون ويفرون من القضاء، وإلا فالقاضي العادل والإمام العادل إذا اتقيا الله ما استطاعا فإن الله سبحانه وتعالى لا يحرمهما الأجر المضاعف. ينبغي أن نعلم أن العدل ليس معناه المساواة في كل شيء، وإنما العدل أن تعطي كل ذي حق حقه، والله سبحانه وتعالى فضل المجاهدين على القاعدين بقوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى الآية} [النساء:95]. وكذلك كل من كان في باب الولاء والبراء أقرب إلى الله وأتقى لله فإنك تزيده أنت ولاءً ومحبةً في الله، ومن كان أقل فقد يقل عندك الولاء والمحبة له.

ربط القول بالعمل

ربط القول بالعمل الصفة الثالثة: ربط القول بالعمل. وهو أن يوافق قوله فعله، وأن لا يكون من الذين قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، فتش عن السلف المؤمنين في تاريخهم رحمهم الله تعالى تجدهم يربطون القول بالعمل، إذا قالوا عملوا، ولا تخالف أقوالهم أعمالهم، وهذه سمة مهمة جداً في باب الأخلاق، لا تختص بخلق معين، ولا بصفة معينة، وإنما هي سمة عامة في خلق المؤمن أنه لا يخالف قوله فعله. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح عند مسلم - قال: (لم يكن نبي قط إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يتبعون أمره ويهتدون بسنته، ثم يأتي من بعد ذلك أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون)، وفي بعض الألفاظ: (ثم يخلف بعد ذلك خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون). إذاً هذه سمة من سمات المؤمنين، أن كل قولهم يوافق أفعالهم، ونعلم جميعاً أهمية ذلك التأثير على الآخرين، إذا وجد الإنسان يخالف قوله فعله ترك ولم يتأثر به في هذا الخلق أو في هذه الصفة أو نحو ذلك.

التواضع وشروطه وجوانبه

التواضع وشروطه وجوانبه الصفة الثانية: التواضع. والتواضع قد يفهم أحياناً على غير وجهه الصحيح، فيظن أن التواضع خمود وخضوع وفقط، وليس الأمر كذلك، التواضع: هو الخضوع للحق والانقياد له، ولو كان على نفسك. وهو أيضاً: قبول الحق من كل من جاء به ولو كان أقل منك. وهو أيضاً -بعد ذلك- لين الجانب وخفض الجناح. وينبغي أن نعلم! أن التواضع مثل غيره من الأخلاق له شروط، لكن أبرزها شرطان: الأول: الإخلاص. أي: الإخلاص لله في تعاملك، فلا تتخلق بهذا الخلق ليقال كذا، وإنما تتخلق به إخلاصاً لله. الثاني: القدرة. لأن الإنسان قد يتواضع قهراً، لكن يبرز التواضع ويظهر من القادر. ثم بعد ذلك ينبغي أن نعلم أن هذا التواضع يظهر في سلوك وأخلاق المؤمنين من خلال عدة جوانب أشير إليها باختصار: الجانب الأول: التواضع الأعظم والأكبر، وهو الانقياد لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان في كتاب الله أم في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا سمة بارزة من سمات المؤمنين برزت على يد أعلام أهل السنة والجماعة. إذا نظرنا إلى بعض أخلاق المستكبرين ممن يقال له: ما أعدله. ما أحسنه. ما أفضله. وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان تجد أمثال هؤلاء إذا أتى أحدهم حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم يستكبر، فيقول: الرسول قال هذا في عهود قديمة، وقد تغيرت العصور. أو غير ذلك. نقول: لا. إن من سمات التواضع عند المؤمن أنه يسلم وينقاد لما جاء به الكتاب والسنة، وهذا تواضع. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)، وكم من إنسان لا يستسلم للرسول صلى الله عليه وسلم حين يسمع مثل هذا الحديث وأشباهه، لكن المؤمن الصادق هو الذي يسلم، فقط يقول: هل صح؟ هل ثبت؟ هل جاء الدليل؟ أما ما عدا ذلك فيسلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور ولا يعترض. ثم إن المؤمن بعد تسليمه ينتقل إلى العمل بما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض على الحديث النبوي بعقله ولا بذوقه ولا بقول شيخه ولا بغير ذلك، وهذا هو التواضع الذي يتسم به المؤمن، لكن تجد المستكبر يأتي ويلوك بعقله وذهنه ليرد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من التواضع؟! بينهما فرق كبير. الجانب الثاني في باب التواضع: تواضع المسلم مع أخيه المسلم. فيقول عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله)، إلى آخر النصوص الواردة في هذا الباب. إذاً تواضع المؤمن لأخيه المؤمن. الجانب الثالث في باب التواضع: قبول الحق ممن جاء به، وهذه قضية مهمة جداً، لو فتشنا في منهج علماء الإسلام رحمهم الله تعالى لوجدنا أنهم كانوا يقبلون الحق ممن جاء به أياً كان، لكن تفتش عن حالنا اليوم فتجد -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تغيراً، لا يقبل الحق أبداً إلا إذا جاء من طائفته، أو إلا إذا جاء من أهله، أو إلا إذا جاء من ابن جلدته أو ابن عمه، وهذا كله خلاف التواضع، المؤمن هو الذي يقبل الحق ممن جاء به، جاءك أخوك المسلم بالحق بدليله فاخضع له، وهذه من سمات أئمة أهل السنة والجماعة وأخلاقهم التي تميزوا بها في تطبيقهم العملي وسلوكهم الأخلاقي في حياتهم. الجانب الرابع من جوانب التواضع: قبول العذر من أخيك إذا أخطأ عليك فإذا خالف لك أمراً تقبل عذره، ولا شك أن المؤمن الصادق الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه هو الذي يبحث لأخيه عن العذر، وذلك فيما أخطأ به عليه، لكن ما كان خطؤه للأمة فإن الإنسان يبين الحق بدليله ولا ضير في ذلك، وقد كان العلماء رحمهم الله تعالى يناقش بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض في مسائل من العلم، ولم يكن يهجر بعضهم بعضاً، إلا إذا كان هناك سبب من بدعة أو غير ذلك.

السمات الإيجابية في سلوك المؤمن وأخلاقه

السمات الإيجابية في سلوك المؤمن وأخلاقه هناك بعض السمات التي تميز بها المؤمن في الأخلاق، ومن هذه السمات: الإيجابية والإيجابية في سلوك المؤمن هي التي تجعله يحب المتعة للآخرين، ولا يكون أنانياً لا يريد الخير إلا لنفسه، وإنما تنظر إليه فتجده دائماً يحب الخير للناس، هذه العلامة الأولى من علامات إيجابيته. أيضاً من علامات الإيجابية البارزة فيه أنك تجده يحرص على التيسير على الناس، وهذه ناحية إيجابيه في خلق المسلم، ولا يعني ذلك أنه يتعدى الحق والدليل من أجل أن ييسر على الناس، لا، هذا عبث في دين الله لا يرضى به الإسلام. والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما، ويقول عليه الصلاة والسلام: (يسروا ولا تعسروا)، ولذلك تجد أن من منهج الإسلام في باب أصول الفقه أنه لا يقصد إلى المشقة، وبعض الناس يخطئ في هذا، ويخلط بين هذا وبين القول بأن الأجر على قدر المشقة. هناك أمور وعبادات لا تأتي إلا بمشقة يؤجر عليها، لكن الإسلام لا يقصد أولاً المشقة، فمثلاً: حينما تريد أن تزور أخاك، وهو -مثلاً- في العلية فالإسلام لا يقول لك: اذهب واتجه إلى جهة الجنوب، ودر في الرياض دورتين ثم اذهب إلى أخيك بعد ساعة من أجل أن تكون وصلت إليه بعد مشقة، لا، وإنما تأخذ أيسر السبل في الوصول إلى أخيك، إلا ما كان من أمر فيه عبادة دعا الإسلام أو الشرع إليه، ولذلك تجد من خلق المؤمن أنه يؤثر على الناس حتى بطريقة تعامله، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان فاحشاً ولا متفحشاً، فنظافة اللسان وحسن الأدب والتعامل الطيب مع إخوانك المؤمنين لا شك أنها ناحية مؤثرة، تجعل الإنسان يتأثر بسهولة وبسرعة. أيضاً منها: أن الأخلاق الإسلامية تقوى وتتناسق عند المؤمن، حتى تكاد أن تكون من طبعه، فيصبح خلقاً ثابتاً مستقراً، ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتربى على الصدق يصبح صدوقاً، حتى إذا حكي عنه شيء مما يتعلق بما يقول يقال: فلان لا يمكن أن يقول هذا؛ لأنه رجل صادق. فتصير سمة بارزة معروفة عنه. وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه سمي بـ الصديق، فلو جاء إليه شخص ليقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل كذا فما تتوقع رد فعل أبي بكر؟ رد الفعل البدهي أنه سيصدق، وهكذا في بقية الأخلاق الإسلامية تتحول إلى سلوك مستمر ثابت يتميز به هذا الشخص، وهذه واضحة جداً. ثم إن سلوك المؤمن سلوك متكامل لا يطغى فيه جانب على جانب، وهذه سمة مهمة جداً، تجد عند المؤمن الشجاعة، وتجد عنده التواضع، وتجد عنده الحياء، وتجد عنده القوة في الحق، وتجد عنده الذلة لأخيه المؤمن، فهو خلق متكامل، هذا التكامل في الخلق هو الذي يجعل الإنسان داعية إلى الله سبحانه وتعالى بأخلاقه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما لقيه أحد الصحابة قبل أن يسلم قال: (فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب). إذاً هذه السمة تبرز في خلق المؤمن إذا تخلق بها. ثم إن الحب في الله والبغض في الله يتمثل في أخلاق عديدة، في تعامل المسلمين مع إخوانهم، في إيثارهم، وإفشاء السلام لهم، والتبسم في وجوههم، والقصد في الحب والبغض. وأحب أن أقف عند عدم المبالغة في الحب والبغض قليلاً، أقول: قد ورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في صحيح الجامع الصغير، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك يوماً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، وهذا توسط، لكن بعضهم إذا أحب غالى، وإذا كره وأبغض غالى، وقد يكون هذا في إخوانه المؤمنين، لا، كن معتدلاً، ولا يكون الاعتدال إلا من التوازن في نظرتك لأخيك المؤمن، انظر إلى أخيك المؤمن بكامله، قد تجد عنده من الأخلاق الفاضلة كذا وكذا وكذا، فأحبه لأجلها، وقد تجد عنده خلقاً غير فاضل، فأبغضه من أجله، لكن بعض الناس يجعل هذا الخلق السيئ وكأن أخلاقه كلها صارت سيئة، فيبغضه بغضاً تاماً، وبالعكس قد تجد من أهل الفسق وغيرهم عنده خلق فاضل فتحبه لأجل هذا الخلق وتنسى فسقه وفجوره وأموره الأخرى. التوازن الشرعي في هذا مطلوب؛ لأن هذا هو قاعدة الولاء والبراء، أن تحب المؤمن على قدر إيمانه، وأن تبغضه إذا كان مرتكباً لمعصية على قدر معصيته. وحتى لا نطيل نقف عند هذا في بيان بعض هذه الجوانب. ولا شك أن من أراد أن يكون خلقه إسلامياً أن عليه أن يجاهد نفسه بأمور: أولاً: بالعلم. باب العلم قبل القول والعمل، فيعلم ما هي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وما هي الأمور التي أمر بها فيتعلمها ويمتثلها، ثم بعد ذلك يعمل فيجاهد نفسه في الاتباع والعمل وتمثل الأخلاق، ليعلم الإنسان المؤمن أنه حينما يمتثل الأخلاق الإسلامية فإن الله سبحانه وتعالى يوفقه ويكتب له القبول. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تمثل الأخلاق الفاضلة وتمسك بها قاصداً بها وجهه الكريم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من سيئ الأخلاق. اللهم! وفقنا لما تحبه وترضاه في أقولنا وأفعالنا وأمورنا كلها. اللهم! إنا نعوذ بك من فتنة القول وفتنة العمل. والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية التربية بالقدوة والتأثير بها

أهمية التربية بالقدوة والتأثير بها Q ما مدى أهمية التربية بالقدوة كمصدر من مصادر اكتساب الأخلاق الحميدة، أرجو بيان ذلك نظراً لإغفال الكثير لهذا الجانب في وقتنا الحاضر؟ A لا شك أن القدوة أساس في التأثير، والإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها بالقدوة، فقد كان المسلمون من الصحابة ومن غيرهم في تعاملهم مع الآخرين في شتى أمور الحياة كان الواحد منهم قدوة، وكم من إنسان دخل في هذا الدين بسبب تأثره بخلق واحد من أخلاق المؤمنين، ولذلك تجد أن الإنسان قد يتأثر بموقف عملي أكثر بكثير مما لو ألقيت عليه عدة خطب أو قرأ عدة كتب، فالقدوة لها أساس، والإنسان الذي يقتدي بغيره إنما يقتدي به لأنه رأى الخلق متمثلاً به عملياً، وهذا التمثل العملي هو أن يوافق قوله فعله، أي: أن يكون قدوة.

إرشادات إلى كتاب في الأخلاق

إرشادات إلى كتاب في الأخلاق Q ما هو أحسن كتاب في الأخلاق؟ A لا أذكر كتاباً؛ لأن الكتب التي ألفت في باب الأخلاق كتب قد يكون عليها ملاحظات، فمثلاً: (أدب الدنيا والدين) للماوردي جيد يستفاد منه، لكن ليس منهجه متكاملاً من جهة الثبات على الكتاب والسنة في صفائها. كذلك الغزالي في (إحياء علوم الدين)، يتحدث عن بعض جوانب الأخلاق، لكن تجد عنده نقصاً كبيراً في أخلاق مهمة، كما تجد فيه أيضاً أحاديث ضعيفة ونحو ذلك. وحاول بعض طلبة العلم أن يجمع رسائل في باب الأخلاق، كرسالة (التواضع)، ورسالة (الحب في الله والبغض في الله) ونحو ذلك. أقول: إن هذه الرسائل التي تجمع على الدليل وتمحيص الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان صحيحها من ضعيفها هي مصدر جيد. علماً بأن الأساس للأخلاق هو ما جاء في كتاب الله وفيما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصةً في الصحيحين ونحوهما. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

طرق معالجة الحدة وسرعة الغضب

طرق معالجة الحدة وسرعة الغضب Q كيف يتغلب المسلم على حدة الطبع وسرعة الغضب والغلظة في القول أو العمل، وكيف يجعلها تنقلب إلى خلق حسن؟ A بعض الناس يروي حديثاً ضعيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحدة تعتري كبار علماء أمتي) أو نحو ذلك؛ لأن بعض الناس إذا شاهد أحداً عنده حدة جاء يستشهد بهذا الحديث الضعيف. فالحدة ليست خلقاً فاضلاً، فإذا كان الإنسان في خلقه حدة فعليه أن يبحث عن أنواع العلاجات التي يعالج بها هذا الخلق، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل المغضب بأن يتوضأ وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فتحاول في مواقف أن تجعل لنفسك وقفة تراجع فيها نفسك عند الغضب بحيث تنتقل من حالة إلى حالة، وهذا الانتقال يعطي الإنسان فرصة للتراجع، واسأل ربك تبارك وتعالى وادع أن يخفف عنك هذه الحدة.

حكم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مع مخالفة قوله فعله

حكم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مع مخالفة قوله فعله Q هل يمنع من يخالف قوله فعله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ A هذه المسألة تكلم فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وقالوا عند كلامهم عن صفة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: إنه يجب أن يكون ممن يوافق قوله فعله. وذكروا أيضاً رحمهم الله تعالى أن كونه لم يعمل لا يعذر به؛ لأن أمره بذلك هو أمر واجب؛ لأنه قد أوجب الله عليه أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، أما فعله هو لذلك فهو أمر آخر منفصل عنه، هكذا قال العلماء، وينبغي أن نعلم جميعاً أن من تمام التأثير في الآخرين، ومن الأمور التي هي سبب لامتثالهم لما تأمرهم به وانتهائهم عما تنهاهم عنه أن تكون ممن يعمل بما يقول، لكن لا يمنعك عدم عملك به من أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

تسلط الملاحدة

تسلط الملاحدة من أسباب تسلط الفلاسفة والباطنية على المسلمين: دخول أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة في تأويل آيات الصفات وتحريفها، مما جعل الفلاسفة يؤولون آيات المعاد من بعث وجنة ونار ونعيم وعذاب، فهم ينكرون وقوع هذه الأشياء من أساسها، فكان لزاماً علينا أهل السنة أن نبين بطلان منهج المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة، ومنهج الفلاسفة والباطنية، وأن ننشر المنهج الحق الذي هو منهج السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم في العالمين، فلا ندع بيت مدر ولا وبر إلا ونشرناه فيه.

المتكلمون هم سبب تسلط الملاحدة والفلاسفة والباطنية على المسلمين

المتكلمون هم سبب تسلط الملاحدة والفلاسفة والباطنية على المسلمين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فدرسنا في هذه الليلة هو بعنوان: لماذا تسلط الملاحدة والفلاسفة والباطنية على المسلمين؟ أقول: يا أيها الإخوة! إن المتأمل لقضية تاريخ عقيدة هذه الأمة وتاريخ الفرق والطوائف يجد أن هناك سؤالاً محيراً خلاصته: أن هناك حركات باطنية إسماعيلية أو قرمطية ملحدة، وهناك أيضاً فلاسفة أنكروا النبوات وقالوا بقدم العالم، وأنكروا البعث بعد الموت، إلى غير ذلك من الأمور التي هي مصادمة للإسلام وللعقيدة الإسلامية مصادمة ظاهرة. المتأمل فيها يجد أن هذه الحركات الفلسفية والباطنية كانت تقوم على صريح الكفر والإلحاد وتعطيل الشرائع، فكيف وجدت لها موطئ قدم بل أتباعاً بين المسلمين؟! وكيف لا تمضي فترة على شهرة الفيلسوف إلا وقد صار له أتباع وتلاميذ؟! وكيف قامت الدولة الباطنية المسماة بالفاطمية وأرسلت دعاتها في مختلف أقطار العالم الإسلامي ليدعوا إلى نحلتهم، ثم بعد ذلك يجد هؤلاء الدعاة إلى ذلك المذهب الباطني من يستجيبون لهم؟ صحيح أن كثيراً من هؤلاء يستخدمون أساليب ملتوية، ويتظاهرون بالتشيع ومحبة آل البيت والرفض، ويقصدون أنواعاً من المناطق لا تخلو من وجود من يتستر بالزندقة. أيها الإخوة! هذا السؤال الذي طرحته قبل قليل يجب أن نقف عنده وقفة، وخلاصة الأمر كيف وجد في عالمنا الإسلامي مكان لتلك الدعوات الإلحادية؟ وكيف صار لها دعاة وأتباع؟ إن الجواب على ذلك يقتضي منا وقفة مع قضية من القضايا الكبار في تاريخ العقيدة الإسلامية، ألا وهي أن نماذج المتكلمين الذين دخلوا في قضايا كلامية ومنطقية وفلسفية، ثم دخلوا في باب التأويل من أوسع أبوابه ونسبوا ذلك إلى الإسلام، إن هؤلاء كانوا من أهم الأسباب التي أدت إلى تسلط أولئك الفلاسفة والباطنية على الأمة الإسلامية. فالفيلسوف أو القرمطي لن يجد المشقة في إقناع أتباعه بما عنده من سفسطة أو قرمطة، إذا أطلعهم على أقوال وتأويلات هؤلاء المتكلمين، وقد يكون فيهم من هو من فقهاء الأمة وأعلامها وسيجد عنده مقالات عجيبة، وتلك المقالات التي نهجها أولئك المتكلمون فتحت الطريق لأولئك الفلاسفة والقرامطة، ودخلوا من ذلك الباب وانتهى بهم الأمر إلى ما سبق ذكره قبل قليل من أقوال إلحادية كفرية لا يقبلها أحد أبداً.

أسباب ابتداع أهل الكلام للمناهج العقلية الكلامية المنحرفة

أسباب ابتداع أهل الكلام للمناهج العقلية الكلامية المنحرفة أيها الإخوة: أريد أن أبين هذه القضية بعد أن قدمت هذه المقدمة من خلال شرح هذه المسألة من أساسها. نحن نعلم أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كان لهم منهج واضح محدد في التعامل مع النصوص، ومع قواطع العقيدة وضوابطها، ولهذا تجد منهجهم واحداً لم يتغير، فمنهج السلف في القرن الثاني أو الخامس أو العاشر أو الخامس عشر هو واحد؛ لأن الأصول والمنطلقات واحدة. لكن الذي وقع بالنسبة لهؤلاء المتكلمين هو أنهم ابتدعوا مناهج عقلية وطرقاً كلامية لتأييد العقيدة أو لإيضاحها أو نحو ذلك، وهذا لا يكاد يخلو منه أحد من أهل الكلام، ومن ثم فإنهم استعاروا بعض أصول الفلاسفة، ثم جاءوا ليدرسوا نصوص العقيدة وقضاياها من خلال تلك الأصول. ودعوني أضرب لكم مثالاً واحداً يبين كيف دخلوا من خلال تلك الأصول: أرادوا أن يثبتوا أن هذا العالم حادث، ونحن نعلم أن منهاج القرآن في ذلك منهج واضح جلي، ألا وهو الاستدلال بنفس المخلوقات على الخالق، أي: أن هذا الكون لابد له من خالق، وهذه قضية بدهية يعرفها الجميع، يقول الأعرابي: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ثم يقول: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على العليم الخبير؟! هذه بدهية. ومن ثم تجد أن القول بالأسباب حتى عند الأطفال، فلو أنك كنت عند طفل عمره ثلاث سنوات ثم ضربته على حين غفلة منه، ثم جاء يبحث عن الضارب، فلو قلت لهذا الطفل الصغير: لم يضربك أحد هل سيصدق؟ لا يمكن أن يصدق، سيقول لك: لابد أن يكون هناك أحد ضربني. إذاً: الاستدلال بنفس المخلوقات، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، الاحتمالات ثلاثة: إما أن يكونوا خلقوا من غير شيء، أو يكونوا هم الخالقين لأنفسهم، وهذان الاحتمالان باطلان، فبقي الاحتمال الثالث الصحيح ألا وهو: أن لهم خالقاً خلقهم، هذا المنهج الصحيح.

خطأ المتكلمين في الاستدلال بصفات الأجسام على حدوث العالم

خطأ المتكلمين في الاستدلال بصفات الأجسام على حدوث العالم فجاء أولئك المتكلمون ليأخذوا بمنهج آخر في إثبات حدوث العالم وليقولوا: إن حدوث العالم إنما دلت عليه صفات الأجسام، أي: كون هذه الأجسام فيها صفات من تغير وتنقل واستحالة ونحوها، ومن ثم فهي حادثة، ومعنى ذلك: أننا نستدل على أن القمر مخلوق بأن هذا القمر يتحرك، ونستدل على هذه الأرض بأنها مخلوقة أنها تسبح في هذا الكون وكذا الشمس وكذا غيرها. فاستدلوا بصفات الأجسام على أنها مخلوقة، وقالوا: كل جسم تحدث فيه صفات ومتغيرات فهو حادث. قد يقول الإنسان وهو ينظر إلى هذا الدليل: إن هذا فيه شيء من الصحة، لكن في الحقيقة هو باطل، وفتح عليهم باباً عظيماً جداً من أبواب الضلالة؛ لأن هؤلاء قيل لهم: هل هذا هو الدليل الوحيد على حدوث العالم، وأن الأعراض إذا حلت في الأجسام دلت على أن الأجسام حادثة؟ قالوا: نعم، فجاءهم بعض المنحرفين من المتفلسفة وغيرهم وقالوا لهم: إذاً ماذا تقولون في صفات الله وصفات الله أعراض؟ إن قلتم إن هذه الصفات تقوم بالله، فيقوم به صفة العلم وصفة الإرادة وصفة الخلق وصفة الاستواء وصفة المجيء وصفة الضحك وصفة المحبة وغير ذلك من الصفات الواردة؛ فيلزمكم على هذه القاعدة أن يكون الله جسماً، وأن يكون حادثاً فينتقض عليكم أصلها، أنتم أردتم أن تثبتوا أن الله سبحانه وتعالى أزلي، وتثبتوا أن ما سواه مخلوق، وأن هذا الكون حادث، فعلى أصلكم هذا انتقض عليكم الدليل، وصار مجالكم مجال المدافعة، لتنفوا عن الله سبحانه وتعالى أنه جسم لئلا يكون حادثاً. وفعلاً صدقوا بهذه المناقشة، فقالت المعتزلة: إذاً لا يتم الدليل إلا بنفي الصفات عن الله؛ لأننا لو أثبتنا الصفات لله لكان مثل الأجسام فيكون حادثاً، فنفوا عن الله جميع الصفات. وجاءت طائفة أخرى وهم الأشاعرة والكلابية فقالوا: نفرق بين الصفات الذاتية وبين الصفات الفعلية. فالصفات الذاتية لا نسميها أعراضاً ونثبتها لله، كالعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر ونحوها، أما الصفات الفعلية التي يفعلها ربنا متى شاء إذا شاء، مثل خلقه للسماوات والأرض، ومثل كونه يتكلم إذا شاء متى شاء، ومثل كونه سبحانه وتعالى استوى على العرش، ومثل كونه يجيء يوم القيامة، ومثل كونه سبحانه وتعالى يحب عبده هذا اليوم إذا أطاع ويغضب عليه غداً إذا عصى؛ قالوا: هذه صفات أفعال تدل على تغيرات فننفيها عن الله سبحانه وتعالى. وبذلك نفوا الصفات من خلال دليل عقلي استمدوه من غيرهم، ولو أنهم أخذوا بالدليل الصحيح لما احتاجوا إلى مثل هذا، ولما وقعوا في هذه الورطة التي أوقعوا بها أنفسهم من خلال أخذهم بمناهج غريبة، ولهذا السبب نفسه أيضاً نجد أن هؤلاء المتكلمين ردوا نصوصاً كثيرة صريحة من أجل تلك الأصول العقلية. أيها الإخوة! بما أن الأدلة تدل على علو الله سبحانه وتعالى وأنه فوق خلقه، وأنه على العرش استوى، وهذه الأدلة كثيرة جداً تبلغ المئات، بل تزيد عليها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وأنه بائن من خلقه، ومع هذا كله جاء هؤلاء بأدلة عقلية وشبه وهمية فقالوا: إن القول بأن الله فوق العالم باطل، وتأولوا هذه النصوص الصريحة كلها وردوها، ثم إذا قيل لهم: إذا كنتم تنكرون أن يكون الله فوق العالم، فأين الله؟ فقال بعضهم: إن الله في كل مكان، وهذا شبيه بقول الحلولية إن الله في كل مكان، إذاً: ربنا لا يتميز لا بذات ولا بصفات. وقال بعضهم قولاً لا يقبله عقل، قال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فقيل لهم: هذا مستحيل، إن الله إذا لم يكن داخل العالم فهو خارج العالم، وإذا لم يكن خارج العالم فهو داخل العالم، فكيف يكون لا داخل العالم ولا خارجه؟! هذا لا يقبله عقل. وهكذا تأولوا نصوص الصفات كالاستواء والوجه واليدين والمحبة والرضا وغير ذلك، وتألوا نصوص العلو، وتأول بعضهم نصوص الرؤية وقال: إن الله لا يرى كما هو مذهب المعتزلة، فلما أعملوا في النصوص تأويلاً تسلط عليهم الفلاسفة والقرامطة وقالوا لهم: أيضاً نحن نعمل في النصوص تأويلاً، فقال الفلاسفة: أنتم تأولتم نصوص الصفات وهي كثيرة، فنحن أيضاً نتأول نصوص المعاد الواردة في القرآن، فنقول: إن المعاد غير حقيقي وإنما هو وهم.

احتجاج الفلاسفة على المتكلمين في التأويل

احتجاج الفلاسفة على المتكلمين في التأويل تأول الفلاسفة نصوص المعاد على أحد وجهين: إما أن المعاد من الأساس كذب، كما يقول الله سبحانه عن الدهرية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، كيف ذلك؟! قالوا: إنما كذب الأنبياء لأجل إصلاح الناس، فهم يقولون لهم: إن فعلتم كذا فلكم جنان وكذا، حتى تتحسن أخلاقهم، وإلا فلا جنة ولا نار ولا عتاب ولا حساب ولا عقاب، كما يفعل الإنسان مع الطفل أحياناً حينما يعده بمواعيد يعلم أنها لن تتحقق، يريد أن يصلح من حاله الآن. وقسم آخر من الفلاسفة قالوا: المعاد يكون للروح، أما المعاد الجسماني، والجنان والنعيم، والنساء، والأكل والفواكه والطير وغير ذلك مما هو مذكور تفصيله في كتاب الله، وكذلك أيضاً بالنسبة لعذاب النار؛ هذه كلها لا حقيقة لها، والنعيم ما هو إلا نعيماً نفسياً روحياً فقط، أما المعاد الجسماني فلا، هذا هو قول الفلاسفة. فرد عليهم أهل السنة والمتكلمون وغيرهم وقالوا لهم: إن تأويل نصوص المعاد كفر وإلحاد بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أصول الأيمان، فمن أنكر حشر الأجسام وأنكر أن الله يبعث الناس يوم القيامة فهو كافر خارج عن دائرة الإسلام، فقال لهم الفلاسفة: ولماذا تكفروننا؟ قالوا: لأنكم تأولتم النصوص الصريحة في كتاب الله، فقالوا لهم: وأنتم أيضاً أيها المتكلمون في باب الصفات تأولتم النصوص الصريحة في كتاب الله. فلماذا تبيحون لأنفسكم التأويل ولا تبيحون لنا التأويل؟ كما يقول ابن القيم: ألكم على تأويلكم أجران ولنا على تأويلنا وزران تقول الفلاسفة للمتكلمين: إذا كانت نصوص الصفات على غير ظاهرها، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأنتم تؤولونها وتقولون: استوى بمعنى استولى. وقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وأنتم تقولون: الذي يأتي هو ملك، وهكذا بقية النصوص تتأولونها على غير ظاهرها، وتأتون لها بتأويلات بعيدة جداً، فنحن أيضاً نأتي إلى نصوص الجنة والنار فنتأولها تأويلات بعيدة جداً. انتبهتم إلى المأزق الذي أوقع فيه الفلاسفة أهل الكلام؛ لأنهم قالوا لهم: إذا كنتم قد أعملتم في بعض النصوص تأويلاً وأبحتم لأنفسكم ذلك، فلماذا لا تبيحون لنا نحن ذلك؟ ما الفرق بيننا وبينكم؟ إن قلتم: نصوص المعاد صريحة، قلنا لكم: ونصوص الصفات أيضاً صريحة، إن قلتم: يمكن تأويل نصوص الصفات دون المعاد، قلنا لكم: ويمكن تأويل نصوص المعاد أيضاً كما يمكن تأويل نصوص الصفات. أيها الإخوة! لقد فتح هؤلاء المتكلمون لأولئك الفلاسفة ذلك المدخل والباب المنحرف فتأولوا تلك النصوص، وجاء بعدهم إخوانهم الباطنية والقرامطة فلم يكتفوا بتأويل الصفات، وإنما أولوا نصوص الشريعة كلها، فقال هؤلاء: إن المقصود بالحج هو زيارة الأئمة، وإن المقصود بالصيام هو كتمان أسرار الدعوة، وإن المقصود بقوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] عائشة رضي الله عنها، وأعملوا في نصوص الشريعة تأويلاً منحرفاً باطلاً، فقيل لهم: هذا إلحاد وزندقة وباطل، بل النصوص قاطعة في أن الصلاة والزكاة والحج والصيام ونحوها أمور معروفة في الشريعة الإسلامية، فقال أولئك الباطنية: نحن تأولنا كما تأولتم أيها المتكلمون. إذا قلتم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى بمعنى استولى، فنحن أيضاً نتأول الصيام، فنقول: إن المقصود بالصيام هو الإمساك عن كشف أسرار الدعوة، وبهذا فتح المتكلمون أيضاً للباطنية والقرامطة باباً دخلوا منه وهو باب التأويل.

الآثار المترتبة على تأويلات أهل الكلام لآيات الصفات

الآثار المترتبة على تأويلات أهل الكلام لآيات الصفات يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن غلط هؤلاء المتكلمين مما سلط أولئك الفلاسفة، وظنوا أن ما يقوله هؤلاء وأمثالهم هو دين المسلمين، أو قول الرسول وأصحابه. لو أن الفلاسفة والباطنية ظنوا أن هؤلاء المتكلمين منحرفون عن الجادة لكان الأمر يسيراً، لكن المشكلة أنهم ظنوا أن هذا الذي يقوله أهل الكلام هو الدين الحق، وهو الذي يقوله عامة المسلمين وأئمة المسلمين، بل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يعني: كأن هؤلاء المتكلمين ينسبون عقائدهم وتأويلاتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأن الرسول هو الذي يتأول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهو الذي يتأول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وهو الذي يتأول بقية الصفات تلك التأويلات العجيبة. إذاً: أولئك الفلاسفة ظنوا أن ما يقوله هؤلاء فعلاً هو الذي جاء به الرسول صلى الله وسلم، فإذا كان فعلاً هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً هذا التأويل الذي تأوله وحكاه من بعده يجيز لنا نحن أن نتأول تلك النصوص بتأويلات أخرى، ولو كانت هذه التأويلات بعيدة؛ لأنها ليست بأبعد من تأويلات المتكلمين. ولذا يقول شيخ الإسلام بعد ذلك: ولهذا كانت مناظرة ابن سيناء هي للمعتزلة، ومناظرة ابن رشد الفيلسوف للكلابية الذين هم شيوخ الأشعرية، وكانوا إذا بينوا فساد بعض ما يقوله متبعة أهل الكلام يظنون أنه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم، مع أن ما يقوله مبتدعة أهل الكلام فيه خطأ مخالف للشرع والعقل، لكن ما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ((نقض المنطق)) مطبوع الجزء الأول صفحة (223). ومعنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أننا حينما نقول: إن المتكلمين كانوا سبباً في تسلط الفلاسفة، إنما نبين قضية التأويل الباطل وإلا فهؤلاء المتكلمون أفضل من الفلاسفة، وكلام أولئك الفلاسفة باطل من جميع الوجوه، فلا مقارنة بين الفلاسفة والمتكلمين. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض ذكره لقصة تسلط الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، على إثر مقالات أهل الكلام وهو يتحدث عن الدليل الذي جاء به المعتزلة والأشعرية وغيرهم وهو حدوث الأجسام يقول: فطريقتهم -أي: طريقة المعتزلة والأشاعرة التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق مرسل للرسل- إذا حققت عليهم وجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مرسل، فيبقى المسلم العاقل إذا تبين له حقيقة الأمر متعجباً كيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء! ولهذا تسلط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم لما بينوا أنه لا يثبت بها خلق ولا إرسال، فادعى الفلاسفة قدم العالم، وأثبتوا موجداً بذاته، وقالوا: إن الرسالة فيض يفيض على النبي من جهة العقل الفعال، لا أن هناك كلاماً تكلم به الله تعالى وأنه قائم به، وكان في الوقت الذي أظهرت الجهمية مقالتهم الأولى وامتحنوا أئمة الإسلام كـ أحمد بن حنبل وغيره، قد ظهر أصل كلمة هؤلاء الملاحدة الباطنية باطناً؛ وذلك في خلافة المأمون ثم المعتصم، وتجدد بعد ذلك من الحوادث العظيمة التي كانت في الإسلام في أثناء المائة الرابعة ما يطول شرحه، مما تتزلزل به أقطار البلاد الإسلامية. وما يشير إليه بالمائة الرابعة يقصد به نشوء الدولة العبيدية الباطنية، وأيضاً أحداث القرامطة الخطيرة التي وقعت في العالم الإسلامي.

ردود أهل الكلام على الفلاسفة والباطنية وبطلانها

ردود أهل الكلام على الفلاسفة والباطنية وبطلانها سأضرب لكم مثالاً على كيفية معالجة المتكلمين لهذه القضية، فإن أشهر المتكلمين أبو حامد الغزالي وهو من الأشاعرة والصوفية، وأبو حامد الغزالي أيضاً من أشهر العلماء في الرد على الفلاسفة والرد على الباطنية؛ فإن له كتابين من أشهر الكتب: أحدهما اسمه: ((تهافت الفلاسفة)) والثاني اسمه ((فضائح الباطنية)). أبو حامد الغزالي رحمه الله في أحد كتابيه ينقض على الفلاسفة مذهبهم، وفي الثاني ينقض على الباطنية مذهبهم، والكتابان موجودان مطبوعان، فماذا قال في ((تهافت الفلاسفة)) عن قضية البعث وحشر الأجساد، وهو يرد على هؤلاء الفلاسفة ويبين كفرهم بذلك؟ يقول أبو حامد الغزالي: فإن قيل ما ورد في الشرع -أي: من نصوص المعاد- أمثال ضربت على حد أفهام الخلق، كما أن الوارد من آيات التشريف وأخباره أمثال على حد أفهام الخلق، والصفات الإلهية مقدسة عما يتخيله عوام الناس. المقصود بآيات التشريف آيات الصفات. يقول الغزالي: والجواب أن التسوية بينهما تحكم، بل هما يفترقان من وجهين: أحدهما: أن الألفاظ الواردة في التشبيه تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة، وما ورد في وصف الجنة والنار وتفصيل تلك الأحوال بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل، فلا يبقى إلا حمل الكلام على التلبيس بتخييل نقيض الحق لمصلحة الخلق؛ وذلك ما يتقدس عنه منصب النبوة. الثاني: أن أدلة العقول دلت على استحالة المكانة والجهة والصورة ويد جارحة وعين جارحة وإمكان الانتقال والاستقرار على الله سبحانه وتعالى. ما هذه التي أشار إليها الغزالي؟ إنها صفات الله، يقول: العقول دلت على أن هذه الصفات مستحيلة، فيستحيل أن يكون الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، أو أن يكون في العلو، أو أن يكون سبحانه وتعالى له يدان أو أن له عيناً كما ورد بذلك النصوص، أو أنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، إلى غير هذا، فوجب التأويل بأدلة العقول، وأما ما ورد من أمور الآخرة فليس محالاً في قدرة الله تعالى، فيجب إجراؤه على ظاهر الكلام، بل على فحواه الذي هو صريح فيه، هذا جواب أبي حامد الغزالي. ويقول في كتابه ((فضائح الباطنية)) وهو يرد على الباطنيين الذين يتأولون النصوص: فإن قيل: فهلا سلكتم هذا المسلك في التنزيلات الواردة في صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ القدم إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر، بل كانوا يجرونها على الظاهر، ثم إنكم لم تكفروا منكر هذه الظواهر بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به؟! انظر إنها عبارات قوية، فماذا يقول أبو حامد الغزالي جواباً على هذا الكلام؟ يقول: قلنا: كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه ليس كمثله شيء، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان، ولا يماس جسماً، ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة، ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمتنقلين والمتنكرين إلى غير ذلك من نفس صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد والتنزيه. ولو أنكر الفلاسفة الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار، ولا مساواة بين الدرجتين. خلاصة رد الغزالي: أن نصوص الصفات محتملة، أما نصوص المعاد فهي كثيرة بحيث بلغت مبلغاً لا يحتمل التأويل، ثم إن أدلة العقول عنده أوجبت تأويل نصوص الكتاب، أما نصوص المعاد فلا تؤول؛ لأنها لا تخالف أدلة العقول. لكن الفلاسفة يقولون: لا فرق بين هذه وهذه، أنت أيها الغزالي قلت: إن النصوص الواردة في الصفات تزيد على ألف نص، فكيف سمحت نفسك بتأويلها ثم كفرتنا لما تأولنا نصوص المعاد؟! ولهذا تجد أن أبا حامد الغزالي عندما رد عليهم رد عليهم بكلام غير ذكي؛ لأن الفيلسوف سيقول له: تلك النصوص أيضاً كان السلف الصالح قبلكم يثبتونها ولا يتأولونها، وكانوا أيضاً لا يتأولون نصوص المعاد فمنهجهم واحد، فأنت أيها المتكلم كيف تأولت هذه النصوص التي تعد بالمئات، ثم منعتنا من تأويل نصوص المعاد؟ ثم سيقول له الفلاسفة: إذا قلت: إنه يستحيل أنه يكون لله صفة كذا وكذا من الصفات الواردة، كذلك أيضاً نحن نقول: يستحيل أن يكون هناك جنة ونار وبعث وغير ذلك، بل نقول: يستحيل أن الله يرى يوم القيامة، وقد قال به إخوانكم المعتزلة. إذاً: ما هو الغرض من هذا أيها الإخوة؟ الغرض من هذا بيان أن منهاج المتكلمين حماقة في باب التأويل؛ لأنهم تأولوا النصوص تأويلات باطلة بلا شك، فتسلط عليهم الفلاسفة والقرامطة والباطنية وقالوا لهم: لماذا لا نتأول بقية النصوص؟ ولاشك أن صنيع أهل الكلام كان سبباً ظاهراً جلياً في تسلط الفلاسفة على المسلمين. أما منهاج الحق منهاج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى فهو يأخذ منهجاً واحداً، سواء تعلقت النصوص بالصفات أو تعلقت بالمعاد أو تعلقت بالأحكام الشرعية، وسواء كانت النصوص من القرآن، أو بما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي نصوص قطعية، ومن ثم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح أثبتوها على منهاج واحد دون تفريق. إن قضية سلامة المنهج وكونه على وتيرة واحدة بدون تناقض، هي التي تؤدي إلى أن يكون الإنسان فعلاً منصفاً، ويكون كلامه أيضاً مستقيماً لا لبس فيه ولا غلو، فالنصوص واحدة، والله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نفهم وبما نستطيع أن نعي، ومن ثم نجد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلقوا القرآن وتلقوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يسألون عما يشكل عليهم رضي الله عنهم، ولما كانت هذه حالهم علمنا وأيقنا أنهم أثبتوا تلك النصوص ومدلولها دون أن يخوضوا في تأويل النصوص.

أسباب ظهور الحداثيين وأصول مذهبهم

أسباب ظهور الحداثيين وأصول مذهبهم أيها الإخوة في الله! إن هذه القضية التي أشرت إلى جزء منها أردت منها مدخلاً لقضية قديمة لكنها تتجدد في كل وقت، فنحن ضربنا أمثلة بمنهاج المتكلمين والفلاسفة وكيف تسلط هؤلاء على هؤلاء، وكيف أن المتكلمين صارت أجوبتهم ضعيفة بالنسبة لأدلة وأسئلة أولئك الملاحدة من الفلاسفة وغيرهم؛ لأنهم ورطوا أنفسهم أولاً حيث وقعوا في التأويل ومنعوا غيرهم من التأويل، فقال لهم أولئك: كيف تفرقون بين هذا وهذا والنصوص واحدة وصريحة؟! أقول: إن هذا الذي جرى لم يتوقف على تلك المرحلة التاريخية ونحوها، وإنما امتد إلى عصرنا الحاضر، وذلك بوجود دعوات ومناهج فكرية تنهج نهج هذا التأويل الباطل، وعلى رأس هؤلاء أصحاب الفلسفات الإسلامية الحديثة، ومفكرو الحداثة. عندما نقول: مفكرو الحداثة، فإننا نتحدث عن الحداثة كفكر، ولا ينفصل الفكر والمضمون عن الأداة والأسلوب وهو الأدب؛ لأن كثيراً من مفكري الحداثة يخدع الناس بالفصل بينهما، يقول لك: الحداثة ما هي إلا شيء جديد يرفض القافية أو يرفض التفعيلة التي وضعها الخليل، وهذا ما فيه شيء؛ لأنها أشكال جديدة في الأدب، ونحن نقول: لو اقتصر الأمر على أن تكون أشكالاً جديدة في الأدب فليس هناك إشكال ولا مشاحة في الاصطلاحات، لكنهم استخدموا هذه المناهج الأدبية بفلسفاتها الأوروبية من دنيوية وفوضوية وعبثية ومادية وغير ذلك؛ استخدموها ليخلطوا بين المضمون وبين الشكل والأداة؛ ليقدموا لنا أدباً حداثياً يحمل فكراً إلحادياً. ولهذا تجد أن أصحاب هذه الأفكار سواء من يسمون أنفسهم بأصحاب الفكر المستنير أو مفكرو الحداثة أو غيرهم من الذين يتبنون اتجاهات فكرية وعلمانية حديثة، أقول: إن هؤلاء استخدموا ذلك المنهاج الذي استخدمه سلفهم الفلاسفة مع المتكلمين، فقالوا: نحن لا نرفض الدين كدين، وأيضاً لا نأخذ النصوص كنصوص، لكن يجوز لنا أن نتعامل معها كما تتعاملون معها أنتم أيها المسلمون، والنتيجة التي يريدها هؤلاء هي أن الواحد منهم يبحث في التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي وتفسير القرآن وشروح الأحاديث، بل ويبحث في نفس النصوص ويدرسها بأي منهج شرقي أو غربي ويتعامل معها ويتأولها، ومن ثم فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن هذه النصوص مقدسة وهو يستخدمها بأي منهج يريد. وحينما تناقشه فإنه يحتج بالفرق الكلامية ويقول: انظر إلى مناهج المعتزلة لم يجمدوا عند نصوص معينة، وإنما استخدموا عقولهم في دراسة النصوص والأخذ منها، انظر إلى غيرهم من مفكري الإسلام وفلاسفة الإسلام الذين نظروا إلى النصوص باحترام، لكنهم أيضاً عملوا في فهمها ومعانيها، وأبدعوا حتى وصلوا إلى أفكار عجيبة. وكثير من هؤلاء تعجبه الحركات الباطنية من قرمطية وإسماعيلية وغيرها على أساس أنها ثارت على أصول التراث التقليدي عند أهل السنة والجماعة، ولذا تجد مثلاً ابن سيناء يعتبر عندهم من العظماء، فهو فيلسوف إسلامي تعامل مع النصوص من خلال الفلسفة، كذلك ابن رشد يعتبر عندهم من العظماء وفيلسوف إسلامي تعامل مع النصوص من خلال فلسفته، وكذلك الإسماعيلية عندهم هي فرقة مبدعة، وكذلك القرامطة فرقة ثورية مبدعة فعلاً في المجتمعات الإسلامية. وكما تلحظون مثلاً مهيار الديلمي شاعر من شعراء الدولة الباطنية الإسماعيلية، وديوانه مطبوع في مجلدين كبيرين. مهيار الديلمي هذا أستاذ أدباء الحداثة القدماء، وكذلك أستاذ كل خارج عن عقيدة الإسلام وآداب الإسلام وغيره. إذاً: عندنا هنا فكر حديث ينطلق من خلال مناهج قديمة ويعتمد عليها ويتكئ عليها، والسبب في ذلك أيها الإخوة هو عدم انضباط المنهج، عندما أخذ كثير من المسلمين بمناهج متعددة وتأثروا بالمناهج الغربية والمناهج الكلامية وغيرها نشأت عندهم هذه الانحرافات والتأويلات وغيرها، فصارت مجالاً رحباً ينطلق منه أولئك الملاحدة قديماً وحديثاً. ولهذا تجد بعضهم يكتب كتاباً في مجلدات تحت عنوان: دراسات عن التراث الإسلامي، ويركز على تلك الفرق المنحرفة ويظهرها على أنها هي الفرق المبدعة في تاريخ الإسلام، ويسخر من السلفية والسلف ومن أهل السنة والجماعة سخرية عجيبة كما كان يسخر من سبق.

الهدف من عرض المناهج الكلامية والفلسفية

الهدف من عرض المناهج الكلامية والفلسفية نحن هنا حينما نعرض لهذا في مثل هذا الوقت القصير، أريد أن أفتح آفاقكم حول هذه القضية التي هي قضية المناهج الكلامية والفلسفية قديماً وحديثاً، وأثرها في حياة المسلمين المعاصرين. والخطأ في المنهاج يؤدي في الغالب إلى أخطاء متراكبة، كما هو معلوم بالنسبة للانحراف، فإنه يبدأ صغيراً ثم لا يزال يكبر كالزاوية، فإن الزاوية الحادة مثلاً تبدأ من التقاء العمودين، لكن كلما امتد الخطان إلى الأمام زاد الانحراف. وإذا كان الأمر كذلك فهل عودتنا واعتمادنا على منهاج السلف في هذه الأزمنة التي تتلاطم أمواجها محل خيار بالنسبة لنا؟

حقيقة منهاج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية

حقيقة منهاج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية أقول: أيها الإخوة! إن بعض الناس يظن أن منهاج السلف هو منهاج الكسالى الذين يتلقون ثم يقولون ما تلقوه بدون تفكير، أي: خذ النص وقل النص واسترح. ولاشك أن هذا الذي يقوله هؤلاء خطأ محض؛ لأن منهاج السلف مبني على أسس علمية صحيحة، ومنهاج المتكلمين والفلاسفة مبني على أسس باطلة، ولهذا فإننا نقول عن قناعة: إن المنهاج الحق هو أن تعطي الدليل حقه، وتأخذ بالدليل على منهاج صحيح.

ضرورة خضوع العقل في الغيبيات للكتاب والسنة

ضرورة خضوع العقل في الغيبيات للكتاب والسنة ودعوني أضرب لكم مثالاً: الأمر الغيبي الذي لا يمكن أن نعلمه كيف نستطيع أن نعلمه؟! لو جاءنا واحد الآن ووقف أمامنا وقال: يا جماعة في شيء اسمه سكنجبين ما هو؟ وبدأنا نشغل عقولنا فجاء واحد وقال: السكنجبين عصارة، وقال الثاني: السكنجبين شتلة تباع في جنوب أفريقيا، وقال الثالث: السكنجبين هذا نوع من القماش يصنع في اليابان، وقال الرابع: السكنجبين هو نوع من السيارات، وقال الخامس: السكنجبين: لعبة أطفال بلاستيكية، وهكذا. هل سننتهي إلى نتيجة؟ لن ننتهي إلى نتيجة؛ لأن هذا أمر غيبي، ما هو الحل السليم؟ الحل السليم أن نأتي للخبير الذي عنده علم ونقول له: ما هو السكنجبين؟ سيقول: هو مركب دوائي من مجموعة من الأشياء كان معروفاً عند القدماء اسمه السكنجبين. انتهى الإشكال. الآن لو جئت إلى المناهج الفلسفية والكلامية مثلاً لوجدت أنه يريد أن يفسر ظواهر غيبية ما شاهدها بتفسيرات عقلية ومناهج كلامية، والله يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. لهذا تجد الفيلسوف مثلاً يمضي عشرات السنين وهو يبحث عن علم ما بعد الطبيعة وما وراء الطبيعة، هل هناك إله أو ليس هناك إله؟ وكيف تم الخلق؟ ومتى وجد الخلق؟ إلى آخره، ثم ينتهي به الأمر بعد ستين أو خمسين عاماً إلى نتيجة واحدة، ألا وهي: أن هذا الكون معلول لابد له من علة، ولابد له من صانع. نقول: بعد خمسين سنة تنتهي إلى هذه النتيجة؟ هذه النتيجة يعرفها الصغار منا، فهم يعرفون أن هذا الكون لابد له من خالق، ولذا فنحن نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبدءون من حيث ينتهي الفلاسفة، الفلاسفة ينتهون إلى إثبات أن هذا الكون لابد له من خالق يسمونه صانعاً، الأنبياء يقولون: أنتم مفطورون على أنه لابد له من صانع فاعبدوا هذا الصانع.

عجز العقول عن إدراك حقائق الغيب

عجز العقول عن إدراك حقائق الغيب إن من أعظم نعم الله علينا أن الله تعالى أرسل لنا الرسل بالوحي المبين؛ ليشرحوا لنا كيف تم هذا الخلق وكيف وجد، وما هي صفات الله وما هي أسماء الله؛ حتى لا نشغل أنفسنا بما لا نستطيع عمله، فإذا ما تم لنا ذلك يأتي المنهاج العملي عند الأنبياء ليقول لك: إن هذا الخالق لابد أن تعبده وحده لا شريك له. إنه خالق يعلم أعمالك ويعلم أفعالك، وهو محسن إليك، ومن ثم فالواجب عليك أن تعبده وحده لا شريك له، وأن هناك جنة وناراً وحساباً وجزاءً إلى آخره. إن منهاج الأنبياء منهاج عمل، ولذا فإنهم عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالأخبار والمعلومات الصحيحة من عند الله سبحانه وتعالى، لم يأتوا بشيء لا يستطيع العقل البشري إدراكه، دعوني أضرب لكم مثالاً: الفكر الغربي ظل أكثر من ثلاثة قرون يتخبط في نشأة الإنسان على هذه الأرض، وجاءت قضية نشأة الحياة في الأرض، والجرثومة وتقسمها، ونشأة الحياة وتطور الإنسان، ثم انتهاؤه قبل المرحلة الأخيرة إلى القرد، وهذه القضية ألف فيها مئات المجلدات، ودرست في جميع الجامعات في أنحاء العالم حتى في العالم الإسلامي. إذاً: هل نحن بحاجة إلى هذه القضية بالذات في الفكر الإسلامي؟ أبداً؛ لأنها محسومة عندنا في آية من كتاب الله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، إذاً: نشأة الإنسان خلقه الله ثم أنزله إلى هذه الأرض وخلق منه زوجة ثم تكاثر الإنسان في هذه الحياة، هذه قضية معلومة يقينية مائة في المائة لا تحتاج إلى تلك المجلدات وإلى تلك المناقشات. إذاً: استراحت البشرية من قضية كبرى، أليس كذلك؟ بلى، وكذلك أيضاً بقية القضايا، ومنها السماوات وكيف خلقت، وماذا وراءها؟ هذه قضايا لا نستطيع نحن والعلم الحديث بقدراته إلا على أشياء يسيرة جداً، الأرض وهي الأرض لا ندركها إلى الآن تماماً، أما بالنسبة للنجوم والكواكب وغيرها فهناك كواكب يئس من أن يصل إليها، وهناك نجوم وكواكب تبعد عنا مئات الملايين من السنين الضوئية، واحتاروا في الشمس هل يستطيع مركب أن يصل إليها؟ ومن أين لها هذا الوقود الذي يتوهج؟ سؤال ليس عندهم له جواب. إذاً: لو تأملت هذه الأشياء لوجدت أن العقل إذا أدخل أنفسه فيها لم ينته إلى نتيجة إلا بخبر صادق، لهذا فإن الله سبحانه وتعالى أنعم على البشرية بأن بين لهم هذه القضايا بياناً واضحاً ثم أمرهم بالعمل. انتبهوا معي! توحيد الألوهية هو توحيد العبادة وتوحيد العمل، وتوحيد الربوبية هو التوحيد النظري الذي يقر الإنسان فيه بالله وصفاته، وانتهى الإشكال، لكن القضية الأساس التي بعث بها جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي عبادة الله وحده لا شريك له، فكيف تعبده؟ إنك لن تستطيع أن تعبده على منهج يرضاه إلا بشريعته التي أتى بها الأنبياء، ثم إن الله سبحانه وتعالى كتب على البشرية بأنه لابد من بعث وجزاء ووقوف بين يدي الله، وأنه سيحاسب الجميع، ولهذا تجد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أهل عمل، إن جئت إليه في العبادة فهو صاحب عبادة، وإن جئت إليه في الخلق فهو صاحب خلق، وإن جئت إليه في الإحسان إلى الناس فهو صاحب إحسان، وإن جئت إليه في عمران الأرض فهو صاحب فتوحات وإبداع؛ لأنه يعمر الكون على منهاج ربه سبحانه وتعالى، لكن لما نشأت الفرق الكلامية والمباحثات والمناقشات وغيرها شغلوا بهذه الأشياء النظرية عن العمل، حتى عن أعظم عمل وهو عبادة الله وحده لا شريك له.

ضرورة الرجوع إلى منهاج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية

ضرورة الرجوع إلى منهاج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية إذاً: أيها الإخوة! ندعو إلى منهاج السلف؛ لأنه لا خيار لنا في الأمر، ولأن منهاج السلف هو المنهج العلمي الصحيح؛ لأنه أخذ الأمور من مصادرها الصحيحة وانطلق إلى العمل، أما التجريد الكلامي والفلسفي وغير ذلك فهذا لا يفيد، لأنه مستمد من مناهج إلحادية عقلانية بشرية، وبالتالي لا توصل صاحبها إلى المنهج الحق ولا إلى فهم الحق. وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً ممن عاش التجربة الكلامية والفلسفية تأسف على ما مضى في آخر حياته. إن الحديث عن نماذج من حيرة المتكلمين والفلاسفة في آخر الأمر يحتاج إلى محاضرة مستقلة، واحد منهم عاش ستين سنة وهو في علم الكلام والمناقشات والردود، وألف عدداً من الكتب، ثم يأتي ويقول في آخر حياته: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ثم رجعت إلى القرآن فوجدت فيه الخير، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذه تجربة لأكبر فيلسوف كلامي، ومؤلفاته في عشرات المجلدات مطبوعة. إذاً: ألا نستفيد نحن من تجارب هؤلاء؟ أو نظل على حالنا في هذه الأيام نقلد الغرب بكل ما فيه، ثم إذا وقع الفأس على الرأس قلنا: تعالوا نراجع! يا أخي هذه دول تعيش معنا، ألا نستفيد نحن منها؟ أو لابد أن نصل نحن معهم إلى نهاية الطريق بالانحرافات، ثم نبدأ نستيقظ ونراجع أنفسنا، هذه كتلك أيها الإخوة. إن منهاج السلف منهاج مقنع من الناحية العلمية، منهاج الصفاء بالإيمان وبالفهم السليم، منهاج ينقل الإنسان من العلم إلى العمل مباشرة، منهاج يحول الإنسان إلى أداة خير في هذه الحياة، منهاج يجعل الإنسان مستريح النفس منشرح الصدر، وكيف لا يكون كذلك ومصدره كتاب الله وسنة رسوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] لما أعرض الفلاسفة عن ذكره ومنهجه تحولت معيشتهم إلى ضنك، لما أعرض المتكلمون في كثير من الأمور تحولت معيشتهم إلى ضنك، إذا أعرضنا عن ذكر الله وعن الشغل بالقرآن تتحول معيشتنا إلى ضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، هذا في الدنيا، أما في الآخرة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] نسأل الله العافية. ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، ويقول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58]. إذاً: النظر إلى منهاج السلف ومن يتمسك به على أنه منهج تقليدي؛ هذا كله ما هو إلا هراء لا حقيقة له من الواقع، وإنما يقصد به التنفير فقط، وإلا فيكفي أن هذا المنهج هو الذي سار عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وسار عليه أصحاب الفتوحات الإسلامية الذين نشروا النور في مشارق الأرض ومغاربها، وهو الذي سار عليه عمر بن عبد العزيز الذي أعاد الحق إلى نصابه في خلافته القصيرة، وهو المنهج الحق الذي يخافه اليوم أعداء الإسلام، ولهذا فالأفكار المستنيرة والحداثية والغربية والفلسفية والباطنية وغيرها يرحب بها أعداء الإسلام، ويركز عليها المبشرون والمستشرقون في دراساتهم عن الإسلام، فهذا يتخصص في ابن رشد، وهذا يتخصص في ابن سيناء، وذلك يتخصص في الحلاج، وهذا يتخصص في التصوف الإسلامي عموماً، وذلك يتخصص في القرامطة؛ لأنها هي الاتجاهات المنحرفة التي يريدون بعثها في عالمنا الإسلامي، أما المنهاج السلفي الذي هو منهج أهل السنة والجماعة على استقامة، فهذا مرفوض عندهم ويجب أن يوصم بالأصولية والإرهاب والتطرف وغير ذلك. إنني أدعوكم وأدعو نفسي وأدعو إخواني جميعاً إلى أن نجعل عودتنا إلى منهاج السلف، ليست فقط عودة تقليدية، وإنما هي عودة إلى ناحية تأصيلية، نرى أن الحق فيها وأن الصواب فيها، والله المستعان.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين من حيث قربهم من الحق

الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين من حيث قربهم من الحق Q ما الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين من حيث قربهم إلى العقيدة؟ A لاشك أن المتكلمين أقرب إلى الحق من الفلاسفة وقد أشرنا إلى ذلك.

أهمية توحيد الألوهية على غيره

أهمية توحيد الألوهية على غيره Q ما رأيك فيمن يقول: إننا في هذا الزمان نحتاج إلى إثبات وجود الله عز وجل، حيث إنه يوجد في زماننا هذا من ينكر وجود الله تعالى؟ A نحن نقول: قد يوجد، لكن إنكار وجود الله قليل؛ لأن قضية الإيمان بوجود الله قضية فطرية، حتى الملحد الذي يؤلف الكتب ويقرر ويؤصل للإلحاد، هو في قرارة نفسه مؤمن بالله، وهو في قرارة نفسه إذا نزلت به مصيبة من مرض أو من غيره توجه إلى الله، فإذا كان هذا أستاذ الملاحدة فكيف بغيره؟ ولذا فإنني أقول: إن بيان عظمة الله وقدرته في الأنفس والآفاق مما يقوي الإيمان، لكن الخطر اليوم بالنسبة للأمة الإسلامية هو في انحرافها عن توحيد الألوهية ولوازمه، أما الإقرار بوجود الله فهذا يقر به حتى اليهود والنصارى وغيرهم، ولذا نقول: إن الله سبحانه لما بعث الرسل إنما بعثهم ليعبدوا الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. لماذا لم يذكر الربوبية؟ لأنها مستقرة، فهاهم مشركو مكة الذين بعث فيهم رسول الله ودعاهم وقاتلهم كانوا مقرين بالربوبية بنص القرآن، يقول الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، إذاً: الأصل هو توحيد الألوهية ولوازمه.

أهم الكتب التي ينصح بقراءتها في الردود على أهل البدع

أهم الكتب التي ينصح بقراءتها في الردود على أهل البدع Q ما هي الكتب التي تنصحون بقراءتها؟ A كتب شيخ الإسلام فهو الذي أشار إلى هذه القضية وخاصة في المجلد الأول من كتاب (درء تعارض العقل والنقل) فهو مفيد.

تقويم كتاب: الفكر الفلسفي الإسلامي

تقويم كتاب: الفكر الفلسفي الإسلامي Q ما رأيكم في كتاب: الفكر الفلسفي الإسلامي؟ A الكتاب هذا يستفيد منه المتخصص فقط، لكنه لا ينطلق في هذه القضية من منهاج السلف.

وجه دخول أصحاب النظرة العقلية تحت منهج المتكلمين

وجه دخول أصحاب النظرة العقلية تحت منهج المتكلمين Q ألا يدخل تحت منهج المتكلمين في تأويل الصفات أصحاب النظرة العقلية؟ A نعم يدخلونه بل يتبنونه، حتى إن محمد عمارة دعا إلى أن يكون للمعتزلة تجمع كما أن للسلفية ولغيرها تجمع، ولاشك أن مثل محمد عمارة يعتبر من ناشري المذهب الاعتزالي حديثاً، وله كتب كثيرة في نفس منهج المعتزلة، لكن ليس هو وحده من نشر فكر المعتزلة، وإنما المذهب العقلاني عموماً، فإن هذا المذهب لاشك أنه مذهب اعتزالي بعيد عن المنهج الحق.

حكم تكفير أهل الكلام من أشاعرة وفلاسفة وباطنيين

حكم تكفير أهل الكلام من أشاعرة وفلاسفة وباطنيين Q أولئك المتكلمون مثل الأشاعرة والباطنية والفلاسفة، فهل هم كفار أو بعضهم؟ A لا، إنهم يختلفون، الفلاسفة الذين قالوا بما ذكرنا هم كفار وكذلك أيضاً الباطنية، أما بالنسبة للأشاعرة فليسوا بكفار، بل فيهم علماء وفضلاء.

الحكم على أبي حامد الغزالي وكتبه

الحكم على أبي حامد الغزالي وكتبه Q ذكرتم أبا حامد الغزالي وتأويله لنصوص الصفات، فهل هذا يدل على أنه مخالف للسنة ولمنهج السلف الصالح، وأن قراءة كتبه يجب أن تكون بحذر؟ A نعم، هذا الذي يقوله مخالف لأهل السنة والجماعة، صحيح أنه قبيل وفاته رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، لكن لم يؤلف في ذلك كتباً، ونحن نقول: لعله مات على مذهب أهل السنة، ويكون إن شاء الله من أهل الجنة، لكن نحن نتكلم عن كتبه التي تركها، فكتبه أشعرية صوفية؛ لذلك فيجب أن يقرأها القارئ بحذر، أما هو فكما قلت لكم ما نستطيع أن نجزم عنه بشيء، وإنما نرجو له أن يكون ما قيل عنه قبيل وفاته أنه صحيح.

حقيقة تراجع كثير من المتكلمين عن مذهبهم

حقيقة تراجع كثير من المتكلمين عن مذهبهم Q هل هناك من المتكلمين من تراجع عن تأويل الصفات؟ A أنا ذكرت لكم أن بعض المتكلمين عند وفاته تراجع عن مذهبه الكلامي والفلسفي وقال: وجدت الصواب في منهج القرآن، وكثير من المتكلمين أيضاً تراجعوا.

حكم القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي

حكم القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي Q كتاب إحياء علوم الدين للغزالي هل هو جدير بالقراءة؟ A كتاب إحياء علوم الدين في الحقيقة فيه قضايا خطيرة وفلسفات وكشوفات صوفية خطيرة جداً، لهذا فنحن نقول: يجب أن يقرأ منه الإنسان بحذر، لكن فيه مواطن تتعلق بأعمال القلوب كمعالجة الكبر والعجب والمراقبة وغير ذلك يستفيد منها الإنسان مع الحذر.

حكم الأخذ بكلام أهل الكلام في الرد على الفلاسفة

حكم الأخذ بكلام أهل الكلام في الرد على الفلاسفة Q كيف نأخذ بكلام المتكلمين كـ أبي حامد الغزالي في الرد على الفلاسفة، وهو في منهجه نظر حيث إنه كلامي كما ذكرت؟ A نحن ما أخذنا بكلام الغزالي وإنما بينا أن منهج الغزالي وإخوانه المتكلمين كان سبباً في تسلط الفلاسفة، فنحن نقول: المنهاج الحق هو منهاج السلف الذين لا يتأولون النصوص جميعاً، فيسلم لهم المنهج، أما الغزالي وغيره لما تأول جزءاً وترك جزءاً تسلط عليه أولئك المتكلمون من الفلاسفة وغيرهم.

ذكر مراجع هذا الدرس

ذكر مراجع هذا الدرس Q هذا يطلب مرجع لنفس الدرس؟ A هذه الدروس دروس عامة، وهي مأخوذة من مجموعة كتب وليس من كتاب واحد، ودرسنا لهذه الليلة أيضاً مأخوذ من مجموعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقلنا من كلام الغزالي.

وجوب تحقيق التوحيد وأثره

وجوب تحقيق التوحيد وأثره أعظم ما أمر الله به عباده هو توحيده سبحانه وتعالى وإخلاص العبادة له سبحانه، ولذلك فالواجب على العباد تحقيق هذا الأمر على أكمل وجه، ومن تمام ذلك: البعد عن جميع الطرق والسبل التي تؤثر على التوحيد، سواء كان ذلك بنقصه أو بنقضه من أساسه، ومن ذلك: الوقوع في الشرك الأكبر والأصغر بجميع أنواعه وصوره، وكذلك تعليق التمائم، وتعاطي السحر، أو الذهاب إلى السحرة لأجل العلاج ونحوه، وكذلك تعظيم التماثيل والنصب التذكارية؛ فإن جميع ذلك إما شرك أكبر أو أصغر، وهو ينقض التوحيد من أساسه، أو يذهب بكثير منه.

الأسباب الداعية إلى طرق موضوع التوحيد

الأسباب الداعية إلى طرق موضوع التوحيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد هو موضع خطير ومهم جداً في حياة المسلم، وفي حياة الأمة كلها. ومن ثم فإننا حينما نطرق هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى فإنما نطرقه لأسباب، منها: أولاً: أن العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الحياة، وتبنى عليه أعمال الإنسان، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العبد حين يقدم عليه -ولابد من أن يقدم- أي عمل وأي ثواب وأي أمر قدمه في هذه الدنيا يبتغي به وجه الله لا يقبل منه ذلك إلا إذا كان مبنياً على هذا الأساس المتين توحيد الله سبحانه وتعالى. ولما كان الأمر كذلك كان الحرص من جانب المؤمن ومن جانب الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان على هذا الأمر لابد منه، ولابد من أن يراقب الإنسان نفسه دائماً لخطورة هذا الموضوع. ثانياً: لأن مجتمعاتنا بدأت تظهر فيها ظواهر خطيرة، يجب على الدعاة أن يقفوا عندها ليعالجوها، ومن ذلك: تعلق النفوس بغير الله سبحانه وتعالى توكلاً ومحبة، وغير ذلك، وهذا أمر خطير جداً، ولقد شاهدنا أمثالاً لذلك من خلال ما يمر بمجتمعات المسلمين من أزمات. ومنها أيضاً كثرة السحرة والكهنة، وتعلق النفوس بهم، وكون بعض الناس يظن أن هؤلاء لهم سيطرة ولهم قدرات، وأن هؤلاء بيدهم الشفاء، ولا شفاء إلا بأيديهم، وهذا أمر خطير يجب أن ينتبه له. ومن ذلك أيضاً التوسع في أبواب الرقى لتشمل رقىً غير مشروعة، وتلك الرقى غير المشروعة حينما تكثر ربما تؤدي إلى أنواع من السحر والكهانة والشعوذة، وذلك كله مما يصادم أصل العقيدة أو كمالها. لهذه الأسباب كان لابد من طرق هذا الموضوع (تحقيق التوحيد وأهميته ووجوبه)، ومن هنا فإننا نعرض أولاً لقضية مهمة جداً، ألا وهي: ما معنى تحقيق التوحيد؟ وتحقيق التوحيد الذي يعلمه الجميع -والحمد لله- مقتضاه أن يحقق الإنسان شهادة أن (لا إله إلا الله)، بأركانها وشروطها، فكون الإنسان ينطق بهذه الكلمة ويقول: لا إله إلا الله، وكون هذا الإنسان يعود من كفر ومن شرك ومن انحراف وإلحاد ومن جاهلية بمجرد أن يعلن إسلامه وينطق بكلمة التوحيد نقول: إن هذه النقلة لها مقتضى عظيم جدا، وليست مجرد كلمة تقال باللسان.

وجوب تحقيق أركان كلمة التوحيد وشروطها

وجوب تحقيق أركان كلمة التوحيد وشروطها و (لا إله إلا الله) تقتضي أول ما تقتضي أمرين متلازمين لابد منهما: أما أحدهما فهو أن ينفي الإنسان أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادة، سواء أكانت صلاة أم نذراً أم حباً أم خوفاً، أم توكلاً أم دعاءً أم استغاثة أم استعاذة أم توسلاً أم غير ذلك، لا يصرف أي نوع من هذه الأنواع لأي مخلوق من المخلوقات، سواء كان ذلك المخلوق ملكاً، أم نبياً، أم ولياً، أم رجلاً صالحاً، أم نجماً، أم حجراً، أم شجراً، أم غير ذلك. وهذا الأمر لا يتم إلا بالأمر الثاني، ألا وهو أن يصرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له، فهما ركنان دلت عليهما هذه الكلمة (لا إله إلا الله) (لا إله) نفي. (إلا الله) إثبات، فهي تنفي صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، ثم تثبت تلك الأنواع كلها لله وحده لا شريك له. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:104 - 107]. (أقم وجهك للدين حنيفا) بعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة والبعد من الشرك وأهله. ومن هنا فإن هذه الكلمة تقتضي ما ذكرناه سابقاً، وذلك بهذين الركنين العظيمين مع لوازم وشروط (لا إله إلا الله) المعروفة. علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها هذه الشروط السبعة إذا تكاملت عند المؤمن علماً وعملا فإنه -والحالة هذه- يكون قد حقق هذا التوحيد العظيم. ولكن ينبغي أن نعلم أن مقتضى شهادة التوحيد (لا إله إلا الله) الذي ذكرناه سابقاً يلزم منه أمر مهم جداً، ألا وهو البعد عن الشرك بجميع أنواعه، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] أي: وحده لا شريك له {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: بجميع أشكاله وصوره.

الشرك أعظم الذنوب

الشرك أعظم الذنوب وهذا يشمل أن يجتنب الإنسان الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ومن هنا فإننا نفرد للكلام عن الشرك فقرة خاصة، فنقول: إن هذا الشرك ينبغي أن يُعلم أنه أعظم الذنوب، كما ذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما كان الشرك أعظم الذنوب لأسباب، منها: أن الله سبحانه وتعالى لا يغفره إذا مات عليه الإنسان، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، فمن كان عاصياً وتاب إلى الله فإن الله يتوب عليه، ومن كان مشركاً ثم تاب من شركه فالله سبحانه وتعالى يتوب عليه. لكن إذا مات الإنسان على هذا الشرك انقطع الأمل، فمغفرته تبارك وتعالى للشرك إنما تكون إذا وقعت التوبة منه في الدنيا، أما في الآخرة فلا يغفر لصاحبه أبداً. ثانياً: أن صاحبه مخلد في نار جهنم -نسأل الله السلامة والعافية-، ونحن نعلم أن من الأمور القاطعة في عقيدتنا، والتي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يشك فيها مؤمن أبداً أن الناس في يوم القيامة لابد أن يفترقوا إلى فريقين لا ثالث لهما أبداً، فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن كان من أهل التوحيد فهو في الجنة، ومن كان من أهل الكفر فهو في النار خالداً مخلداً فيها أبداً، ولهذا فإن من أعظم عقوبات الشرك بالله أن صاحبه مخلد في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية. الأمر الثالث: أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة، فالكافر إذا عمل أعمالاً صالحة في الدنيا يجازى عليها في الدنيا، لكن إذا جاء يوم القيامة بتلك الأعمال الصالحة لا تقبل منه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. لكن المؤمن الموحد يأتي يوم القيامة بالأعمال الصالحة التي أخلص فيها لربه سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يثيبه عليها. من هنا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لهذا التوحيد وحماية له حذر من أنواع الشرك الأكبر والأصغر.

أنواع الشرك الأكبر

أنواع الشرك الأكبر الشرك الأكبر أنواعه كثيرة، وأهمها أربعة أنواع: النوع الأول من الشرك الأكبر: شرك الدعوة، وذلك بأن يدعو الإنسان غير الله سبحانه وتعالى، وهذا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- منتشر كثيراً في كثير من بلاد المسلمين، تتعلق القلوب بولي، أو تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو تتعلق بقبر من القبور، فيؤدي هذا التعلق إلى دعائها من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا دعاها من دون الله تبارك وتعالى وقع هذا الداعي في الشرك الأكبر. النوع الثاني من أنواع الشرك الأكبر: شرك الإرادة والقصد، وذلك بأن يقصد غير الله سبحانه وتعالى بنوع من أنواع العبادة، كالمحبة، أو التوكل، أو الاستغاثة أو غير ذلك، فإذا وجه هذا النوع من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى فقد أشرك مع الله غيره. النوع الثالث: شرك الطاعة، وذلك بأن يطيع غير الله سبحانه وتعالى في معصية الله سبحانه وتعالى، وهذا باب خطير جداً، فشرك الطاعة أن يأتي المشرعون من دون الله وواضعوا القوانين المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى، فيشرعون هذه الشرائع، ويضعون هذه النظم والقوانين، ثم يأتي هؤلاء الأتباع فيطيعونهم فيها من دون الله تعالى، ويتبعونهم عليها مع علمهم أنهم مغيرون للشريعة. فهذا سماه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى شركاً أكبر حين علق على حديث عدي بن حاتم حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. فقال عدي -وكان يعرف أحوال النصارى-: يا رسول الله! إنهم لا يعبدونهم -يعني: لا يعبدون الأحبار والرهبان؛ فلا يسجدون لهم ولا يركعون- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أليسوا يحلون الحرام فيحلونه، ويحرمون الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم)، وهذا حديث حسن. ومن ثم فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: وهذا الاتباع نوعان: النوع الأول: قوم اتبعوهم على تبديلهم، يعني: علموا أنهم مغيرون لشرع الله واتبعوهم على ذلك، فهؤلاء مثلهم. والنوع الثاني: أناس علموا شرع الله الحق، ولكنهم اتبعوا أولئك معصية، أي أنهم فعلوا ما يخالف الشرع من باب المعصية، فهؤلاء فساق عصاة، وليسوا بكفار. أما بالنسبة للأحبار والرهبان أنفسهم المغيرين لشرع الله تعالى فهؤلاء لاشك في أنهم واقعون في الشرك الأكبر الذي هو شرك الطاعة. النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وذلك بأن يحب غير الله كمحبة الله سبحانه وتعالى، وهذا يقع فيه بعض الناس حينما تتعلق قلوبهم بغير الله، فيجعلون محبة أولئك مقدمة على محبة الله أو مساوية لمحبة الله، وهذا يختلف عن المحبة الطبيعية، والمحبة في الله هي جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

أقسام الشرك الأصغر

أقسام الشرك الأصغر القسم الثاني من أنواع الشرك: الشرك الأصغر، والشرك الأصغر قسمان: القسم الأول منه: شرك في الأعمال، وهذا الشرك في الأعمال هو الشرك الخفي، وهو الرياء الذي حذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) وهو الرياء، وهذا الرياء شرك أصغر لا يخرج صاحبه من الملة، لكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- قد يمتد خطره فيؤدي إما إلى أن يرقى بصاحبه إلى الشرك الأكبر، وإما -وهذا على أقل تقدير- أن يحبط عمله. فليحذر المسلم وهو في عباداته، وهو في أعماله الخيرية، وهو في صلاته، وهو في صيامه، وهو في أمره بالمعروف وفي نهيه عن المنكر، وفي دعوته إلى الله سبحانه وتعالى يحذر من هذا المدخل الشيطاني الخفي. النوع الثاني من الشرك الأصغر: هو شرك الأقوال، كالحلف بغير الله، وقول: (ما شاء الله وشئت) وقول (لولا فلان ما حدث كذا) وغير ذلك من الألفاظ التي يتساهل فيها بعض الناس، وهي من الأمور التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية للتوحيد وتحقيقاً له. ولما جاءه رجل فقال: يا رسول الله! ما شاء الله وشئت غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، ونهى عن الحلف بغير الله، وغير ذلك.

أمور تنافي حقيقة التوحيد أو كماله

أمور تنافي حقيقة التوحيد أو كماله بعد تلك الفقرات المتعلقة بمعنى تحقيق التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله)، ومعنى الشرك وأنواعه باختصار، ننتقل إلى الموضوع الثالث المتعلق بموضوعنا، ألا وهو (أمور تنافي حقيقة التوحيد أو كماله) ابتلي فيها كثير من الناس، ومن ذلك: التمائم فإن مما اشتهر عند بعض الناس -خاصة في بعض البلاد الإسلامية- تعليق التمائم التي يضن أن تعليقها يحمي هذا الإنسان، أو هذا الطفل من العين أو من الجن أو من المرض أو غير ذلك، ولهذا ورد عن عقبة بن عامر الجهمي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله! بايعت التسعة وتركت هذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: إن عليه تميمة) فهجره صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه. قال الراوي: (فأدخل يده فقطعها فبايعه، فقال عليه الصلاة والسلام: من علق تميمة فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، والحديث صحيح. والتمائم خرزات أو نحوها تعلق على صدور الأولاد أو في أكتافهم أو في أيديهم يتقون بها العين، ويدخل في هذه التمائم بعض الخرزات التي يضعها بعض السائقين على المرآة في السيارة ونحوها، ويظنون أنها تقيهم الصدام أو الحوادث أو غير ذلك. وبعضهم قد يضع نعلاً في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها لهذا السبب، وبعضهم -كما أخبرني بعض الإخوة- يعلق شيئاً من ذلك في دكانه يطلب به الرزق، أو يتقي به عين الذي يمر عليه. ومن ذلك أيضاً اعتقاد بعض الناس أنه إذا أمسك عنده ذئباً أو قطعة من جلده أو نحو ذلك أن هذا يمنع الجن عنه، فهذه من الأمور التي اشتهرت عند كثير من الناس، وبعضهم يتساهل فيها، وهي إما أن تكون من الشرك الأكبر إن اعتقد فيها أنها هي التي تنفع وتضر من دون الله تبارك وتعالى، أو أنها تكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أنها سبب. ولهذا انتشر هذا الأمر حتى عند كثير من الصوفية، وما أكثر الشركيات عند كثير من الصوفية، حتى يقول صاحب (دلائل الخيرات) وهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في سجعه: اللهم! صل على محمد وعلى آله محمد ما سجعت الحمائم، وحامت الحوائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم! فكأن قضية نفع التمائم تنفع كل يوم وكل دقيقة مثلما تسرح البهائم أو مثلما تسجع الحمائم وغير ذلك، وكأن هذا الأمر مسلم عنده.

حكم تعليق التمائم من القرآن

حكم تعليق التمائم من القرآن وهنا قد يقول قائل: وإذا علقت تميمة من القرآن كما يفعل بعض الناس حينما يكتبون آيات من القرآن ويخيطونها بقطعة قماش أو نحو ذلك ويعلقونها على صدر الطفل أو في كتفه أو في غير ذلك فما الحكم؟ والذي يظهر -وإن كان في المسألة خلاف- أن مثل هذا الأمر لا يجوز، لعدة أمور: الأمر الأول: أنه بدعة فلم يفعله السلف رحمهم الله تعالى. الأمر الثاني: أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم؛ لأن تعلق النفس بهذا الأمر فقط يبعد التوكل على الله سبحانه وتعالى، وربما لو حدث لهذا الطفل مرض لقيل: ما نفعته، ائتونا بتميمة أخرى. وهكذا، وما أضعف نفسي الوالدين أمام مرض ابنهم -خاصة الأم-، فلربما أدى بهم إلى أن يقعوا فيما هو محرم صراحة. الأمر الثالث: أن وجود الآيات القرآنية على كتف الصبي أو في صدره أو نحو ذلك يؤدي إلى امتهان القرآن، فإنه يدخل دورات المياه، وإذا تعلقت النفوس بهذه التميمة فإن الأم لا تستطيع أن تفكها ولو للحظات؛ لأنها ظنت أنها لو أزالت هذه التميمة التي هي من القرآن عن ابنها وهو داخل الحمام فلربما أدى به إلى أن يصاب بأذى، فتضطر إلى أن تدخل التميمة التي فيها كلام الله سبحانه وتعالى إلى الأماكن التي يجب أن ينزه القرآن منها، ولهذه الأسباب فإن مثل هذا الأمر لا يجوز.

الرقية الشرعية وشروطها

الرقية الشرعية وشروطها وينبغي أن نعلم أن هذه المسألة كثر في هذه الأيام الحديث عنها، ما هي الرقية الشرعية؟ وما الرأي في هؤلاء القراء الذين صاروا ينتشرون في كل مكان؟ وهذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة. فأقول: يجب أن يعلم أولاً أن الرقية الشرعية لا تصح إلا بشروط: منها: أن تكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته. وأن تكون -وهذا الشرط الثاني- باللسان العربي. والثالث: أن يعتقد أن الرقى لا تؤثر بذاتها، بل هي سبب من الأسباب، والنافع الضار الشافي هو الله سبحانه وتعالى. ومن هنا فإن من المهم جداً أن أُذكر بعدة أمور: أولها: كثير من الناس يغفل عن الرقية الشرعية التي يقوم بها الإنسان نفسه حين يرقي نفسه أو أحداً من أهل بيته، وهذا يجب أن يتنبه له الجميع، فإذا كان عند الإنسان مريض فعليه أن يرقيه بنفسه، وأن يخلص في رقيته وفي دعائه، فإن الله سبحانه وتعالى قد يجعل مثل هذه الرقى سبباً في الشفاء. فإذا مرض الإنسان فعليه أن يرقي نفسه، أو يرقيه من حوله، أما ما يفعله كثير من الناس، وهو أنه إذا وجد عندهم المريض رأساً يتجهون إلى غير الله سبحانه وتعالى، سواء أكانوا قراء أم أطباء، فيجب على الأسرة أن تكون صابرة محتسبة، ويجب عليها أن تبذل الوسائل الشرعية، ولا مانع من فعل الأسباب. الأمر الثاني: ليس كل من قيل عنه: إنه يقرأ يُذهب إليه مباشرة، بل يجب عليك أن تبحث عن القارئ الذي تعرف عنه الصلاح والتقوى، فإذا عرفت من حال القارئ أنه من أهل الصلاة وأنه من أهل الصلاح فحينئذ لا مانع من أن تذهب إليه. لكن ما نجده اليوم من انتشار كثير من القراء، وبعضهم لا يعرف حاله، وبعضهم يستراب في أمره، ومع ذلك فإن الناس يقبلون إليهم زرافات ووحدانا، بل جماعات، نقول: إن مثل هذا الأمر مما يجب أن يحتاط له وأن ينتبه له. لقد تعلقت النفوس بغير الله سبحانه وتعالى، وأصاب الناس كثير من الوهن والضعف، فلنحذر من هذا الأمر، وإذا ما احتجنا وأردنا أن نطلب من أحد أن يقرأ فعلينا أن نبحث عن القارئ الذي نعرف صلاحه وتقواه، ويجب أن نتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر العظيم.

خطورة السحر وانتشاره

خطورة السحر وانتشاره الأمر الآخر انتشار السحر والكهانة في كثير من بلاد المسلمين، وهؤلاء السحرة والكهنة والعرافون الذين يدعون علم الغيب ويقولون: إنهم يعالجون الناس بأنواع من العلاجات هؤلاء كثروا لا كثرهم الله تعالى. وينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] هذه الآية جاءت خبراً عن الناس في الجاهلية، فإن العرب كانوا في الجاهلية يخافون من الجن خوفاً شديداً، حتى إن الواحد منهم إذا نزل وادياً وهو في سفر خاف من الجن في هذا الوادي، فإنه يتعوذ من سفهاء هذا الوادي بسيد هذا الوادي من الجن، فإذا نزل قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فلما رأت الشياطين أن هؤلاء يخافون منهم هذا الخوف تسلطوا عليهم فزادوهم رهقاً وتعباً وطغياناً. وانظر إلى الحالة اليوم، فالناس لما ضعف إيمانهم تعلقت نفوسهم بغير الله سبحانه وتعالى، وصاروا يخافون من غير الله تبارك وتعالى، فتسلطت الشياطين، وتسلط السحرة وكثروا، وصاروا يفتنون الناس، وزادوهم تعباً ومشقة ورهقاً، وهذا أمر خطير جداً يجب أن ينتبه له الجميع. والواجب في مثل هؤلاء السحرة أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، وهو تكفيرهم على القول الراجح؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نعلم أن هؤلاء يجب أن يحذر منهم الحذر الشديد، فهؤلاء السحرة يدعون علم الغيب، وادعاؤهم لعلم الغيب ادعاء كاذب؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، فلا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له. وما يخبرون به إنما هو عن طريق الشياطين، حينما يأتي ضعيف من ضعفاء النفوس وعنده مريض فيقال له: هناك رجل يعالج في المكان الفلاني اذهب إليه. وهذا الرجل ساحر، فتأتي الشياطين إلى ذلك الساحر وتخبره، وتقول له: سيأتيك رجل اسمه فلان بن فلان، وأمه اسمها فلانة، وخالته اسمها فلانة، وجرى له قبل عشرة أيام كذا، وقبل سنة كذا، وهذه من الأمور المعلومة. فيدخل هذا المسكين على هذا الساحر، فإذا دخل عليه وجلس بين يديه قال: أنت اسمك فلان بن فلان، وجرى لك كذا، وجدك اسمه كذا، وجرى لكم كذا، فإذا بهذا الإنسان يدهش ويسقط بين يديه، ويظن أن هذا الساحر قد امتلك قدرة عظيمة منها علم هذه المغيبات؛ لأنه قد يخبره بأشياء لا يعلمها أقرب الناس إليه، بل حتى جيرانه وبعض أقاربه لا يعلمها، فكيف علمها هذا الرجل الذي يعيش في تلك البلدة؟! ولقد حدثني أحدهم -وكان عنده مرض- يقول: ذهبت للعلاج في إيطاليا، فدخلت على طبيب فأخبرني من أسرار أسرتنا ما لا يعلمه أحد، أخبرني عن أمور خاصة جداً فمن الذي أخبر هذا الساحر الكاهن في روما؟ أخبرته الشياطين. فهؤلاء السحرة يدعون علم الغيب، ثم إن هؤلاء السحرة يستعينون بالشياطين، ولا يعينونهم إلا حينما يقعون في الشرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن ثم فإنك تجدهم أحياناً يطلبون من الشخص أن يذبح ذبيحة، ولا يذكر اسم الله عليها لتكون ذبيحة لغير الله، وهذا هو الشرك. فينبغي أن ننتبه لهذه القضية، وأن هؤلاء السحرة الذين انتشروا وبلي الناس بهم يجب أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، يجب أولاً أن يحذر منهم، وأن يحذر كل إنسان من يلتقي به من هؤلاء، ثم يجب ثانياً أن يردعوا عملياً وأن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم فيهم حكم الله وهو القتل فإنهم يرتدعون ويسلم الناس من شرهم. أما إذا تركوا يعبثون بعقائد الناس وبأمورهم وتتعلق النفوس بهم فهذا لا يجوز السكوت عنه أبداً، ومن المحزن حقاً أن من هؤلاء السحرة من لهم نفوذ، حتى يقال: إن كثيراً من زعماء العالم لهم كهان وسحرة يخبرونهم عما يجري، وعما يمكن أن يجري ويقع، وتتعلق نفوس هؤلاء الكبار بهؤلاء السحرة، ويؤدي هذا إلى حمايتهم. والواجب أن نحذر من ذلك حذراً شديداً، وكثير من الناس يقع في شيء من هذا، ومن ذلك أن بعض الناس يذبح للجن خوفاً منهم، أو تقرباً إليهم، حتى إنني سمعت من ذلك نماذج غريبة جداً، فبعضهم يذبح للمزارات، وقد أخبرني أحد الإخوة أنه سمع إحدى الإذاعات العربية تقول: ذهب أمير المنطقة الفلانية إلى مزار سيدي فلان، وكانت معه الأبقار، وذبحوها عند قبر السيد. وكأنه خبر إسلامي، وكأن هذا الخبر من الأمور المسلمة عندهم! وهذا أمر خطير. ومن ذلك أيضاً أنني أخبرت أن بعض الناس إذا أراد أن ينزل منزلاً جديداً يذبح ذبيحة وينثر دمها على أسوار البيت، وأحياناً ينثر دمها على أسوار البيت من الداخل، ويظن أنه إذا سكن البيت دون أن يذبح هذه الذبيحة ربما أصيب هو أو أولاده، وذلك لأنه يخاف من الجن، وهذه ظواهر وأمور خطيرة جداً ينبغي أن ننتبه لها.

خطورة الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم

خطورة الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأمور التي تتعلق بهذا الموضوع -أقصد موضوع تحقيق التوحيد ووجوبه- الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر في هذه الأيام، وتعلقت به النفوس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة محبته، بل يجب على الإنسان أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من محبته لنفسه وولده ووالده والناس أجمعين. فجاء بعض الناس وزعم أن هذه المحبة لا تتحقق إلا بأن يُتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع كثير من هؤلاء في الشرك، وهذا أمر خطير يحتاج إلى تفصيل مستقل، لكنني أذكر به في معرض هذه الفتنة التي وجدت عند بعض المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

خطورة تعظيم التماثيل والنصب التذكارية

خطورة تعظيم التماثيل والنصب التذكارية ومن ذلك أيضاً تعظيم التماثيل والنصب التذكارية وغيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصوير؛ لأنه من وسائل الشرك؛ فإن التصوير الذي يؤدي إلى وجود تماثيل أو غيرها يُعد وسيلة من وسائل الشرك، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح وكيف وقع فيهم الشرك كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما. وتعظيم التماثيل من الأمور التي يجب أن ينتبه لها؛ لأن كثيراً من الناس يدخلها في باب الآثار، وباب الآثار باب عريض، فقد تدخل فيه الآثار التي يعد الاهتمام بها أمراً مباحاً، لكن كثيراً ما تدخل فيها بعض الآثار التي تعظم وتقدس، ويؤدي تعظيمها إلى أنواع من التعلق بها. وتعلم ما يجري، فترى لوحة عبث فيها ملحد أو نصراني أو غيرهما فخطها قبل ثلاثين سنة أو مائة سنة أو مائة وخمسين سنة تجدها تباع بملايين الدولارات، ولو عثر على صنم هبل الآن وقد كسر وقيل: هذا جزء من حجر هبل والله لبيع بالملايين! فتعظيم الآثار -خاصة آثار الرسول صلى الله عليه وسلم- يؤدي أحياناً إلى أنواع من التعلق بها والشرك بالله تعالى، وهذا مدخل خطير يجب أن نحذر منه جميعاً. أيها الأخ المسلم! ينبغي أن نعلم أن تحقيق التوحيد ضروري لبناء الإيمان، وإن من أعظم الأمور التي لابد منها في تحقيق هذا التوحيد هو الحذر من الشرك الأكبر والأصغر بجميع أشكاله وصوره، ولنعلم أن الأمر خطير، وأنه مدخل من المداخل الخطيرة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيني وإياكم شرها، وأن يرزقني وإياكم تحقيق التوحيد، وأن يجعلنا ممن يموت على كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) غير واقع في شرك ولا في غيره مما يضاد هذا التوحيد.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية التركيز على التوحيد ولا يلزم من ذلك إهمال غيره

أهمية التركيز على التوحيد ولا يلزم من ذلك إهمال غيره Q يوجد أناس يقولون: التوحيد قبل كل شيء، فلا تطلب العلم إلا بعد التوحيد، وبعد ذلك تعلم ما بدا لك. فتجده جاهلاً في كثير من أمور دينه؛ لأنه أهملها وركز على التوحيد، فما الحكم في هذه الحالة؟ A هذه الحالة وغيرها ينبغي أن ينظر فيها من خلال ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ما هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما هي سيرته في هذا الأمر؟ فنقول: لاشك أن تحقيق التوحيد وبناءه والتركيز عليه لابد منه، لكن لا يلزم من التركيز على التوحيد إهمال غيره، ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات والدين كامل، فبعد فرض الصلاة هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل وأسلم قال: علموه التوحيد والبعد عن الشرك ثم إذا جاء بعد شهرين أو ثلاثة ائتوا به نعلمه الصلاة؟ لا. وإنما كان صلى الله عليه وسلم إذا شهد عنده الرجل شهادة الحق علمه الوضوء والصلاة؛ لأن الوضوء والصلاة توحيد. فالانفكاك بين هذه الأمور خطأ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما ارتدت الجزيرة العربية وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وتولى الخلافة من بعده أبو بكر ماذا فعل المرتدون؟ قسم من المرتدين اتبعوا المتنبئين الكذابين، فهؤلاء منكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مقرون معها بنبوة غيره فهم مرتدون. وقسم منهم قال: نحن على الإسلام، ونؤدي الصلاة، لكن هذه الزكاة لا نؤديها. فماذا صنع أبو بكر؟ هل قال أبو بكر: أهم شيء عندنا التوحيد أهم شيء عندنا أن يقروا، فما دام أنهم يقرون بنبوة محمد فهذا الذي نركز عليه؟! ولما احتج عمر على أبي بكر -كما هو معروف- بحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ورأى بعض الصحابة أن يترك هؤلاء الذين منعوا الزكاة ولا يقاتلون على منع الزكاة قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وقاتلهم على ذلك. ففعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قد أجمع عليه الصحابة فيما بعد، فصار إجماعاً منهم، فيعد سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ويقول: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). لهذا فإنني أقول: إن مثل هذه القضية -وهي قضية التركيز أو عدم التركيز- يخطئ بعض الناس في فهمها وفي تطبيقها أحياناً، وإلا فلا أظن أن هناك إنساناً يفقه دين الله ينازع في أن الأمر لابد أن يبنى على العقيدة، وأنك حينما تجد مجتمعاً ضعفت فيه العقيدة أو كثرت فيه الشركيات أنه يجب عليك أن تركز على هذه الشركيات، لكن مع ذلك تدعوهم إلى الله عز وجل. فشعيب دعا قومه إلى (لا إله إلا الله) ودعاهم فقال: {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84]، والأمر -إن شاء الله- واضح.

حكم الذهاب إلى الكهنة

حكم الذهاب إلى الكهنة Q لو ذهب شخص إلى أحد الكهنة لكي يخبره عن المولود القادم له هل هو ذكر أو أنثى، وما ذهب إلا حباً للاستطلاع، لكنه لا يصدق ما يخبر به، فما حكم ذلك؟ A ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، وفي بعض الروايات: (من أتى كاهناً) بدون (فصدقه)، فإتيانه حرام لا يجوز لأمور. أولاً: لأن فيه تكثيراً لسواده وتعظيماً له. ثانياً -وهو الأخطر-: اعتقاد أنه يعلم الغيب، وإلا لما ذهبت إليه، فلماذا لم تذهب إلى غيره لتقول: هل مولودي ذكر أو أنثى؟ إذاً ما ذهب إلى هذا الكاهن إلا وهو يظن أنه ربما يصدق في قوله، ونحن نعلم أن الكهنة في الجاهلية كانوا يسترقون السمع، يركب الجن فوق بعض حتى يصلون إلى السماء فيسمعون الوحي، فإذا سمعوا به ربما قيل: يؤمر السحاب بأن يمطر بلد بني فلان في يوم الثلاثاء. فأحياناً يدركه الشهاب فيحرقه، وأحياناً يبلغه قبل أن يدركه، فتصل إلى الكاهن فيقول الكاهن: يوم الثلاثاء سيأتي مطر لبني فلان. قال صلى الله عليه وسلم: (فيضيف إليها تسعاً وتسعين كذبة)، وكل الكذبات يتبين كذبه فيها، لكن لأنه صدق في تلك المرة تتعلق النفوس به، فيقال: ألا ترون أنه صدقنا في يوم كذا. لكن بعد ذلك حرست السماء، فلا مجال لاستراق السمع أبداً، أي أنه لا مجال لأي إنسان مهما بلغت قدرته أن يطلع على الغيب، لكن أن يطلع على ما يمكن أن يطلع عليه بالأسباب هذا أمر لا شيء فيه، لكن أن يطلع على الغيب لا يمكن أبداً، مهما كان: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، فمن أتى كاهناً فهو ضعيف الإيمان في هذا الجانب.

اتباع الهوى ودرجاته

اتباع الهوى ودرجاته Q هل كل من اتبع هواه يعد مشركاً؟ A اتباع الهوى درجات، اتباع الهوى إذا أدى بالإنسان إلى الكفر بالله أو الوقوع في أنواع من الشرك فهذا يقال فيه: اتبع هواه وأدى به إلى الكفر. وما نزل عن ذلك فهو بحسبه، فمن اتبع هواه مثلاً وقصر في العبادة نقول: هذا متبع لهواه، أي أنه مقصر في هذه العبادة. وهكذا. فالأمر في هذه المسألة على درجات، وينبغي أن ينتبه لذلك؛ لأن بعض الناس يعمم ويقول: من اتبع هواه فقد اتخذه إلهاً من دون الله فهو كافر. فيدخل فيه من اتبع هواه في مسألة أو في أمر دنيوي، أمر دنيوي أدى به إلى كسل عن صلاة أو كسل عن واجب، فهذا الاتباع لا يقال عنه: إنه شرك. فهذا أمر فيه تفصيل كما تقدم.

حكم الاستغاثة بالغائب

حكم الاستغاثة بالغائب Q لو استغاث شخص برجل قادر ولكنه لا يسمعه حالة استغاثته، فما حكم ذلك؟ A إذا كان نطقه بهذا الكلام عند من سيبلغ ذلك الرجل القادر، فهذا مثلما لو كان حاضراً، فهذه من الأسباب المعروفة في حياة الناس ولا شيء فيها. أما إذا استغاث به وهو يعلم أنه لا يسمعه وليس هناك أحد يبلغه فهو في هذه الحالة بحسب اعتقاده في هذه المقالة، وأقل أحوالها أن تكون من الشرك الأصغر.

خطورة الاسترسال مع الوهم

خطورة الاسترسال مع الوهم Q كثير من الناس يصاب بالسحر أو يتوهم أنه مصاب بالسحر، فتضيق عليه الأرض، وكذا على أهله، فيضطر هو وأهله إلى الذهاب إلى السحرة والكهنة ليحلوا ذلك السحر، وإذا قيل لهم: إن هذا كفر أو شرك قالوا: إذا رجعنا تبنا إلى الله عز وجل. وما الطريقة المثلى، أو الطريقة الشرعية لحل السحر؟ A هذا السؤال مهم، وينبغي أن يعلم أنه كما أخبر الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. فالسبب هو ضعف الإيمان، وضعف الإيمان يؤدي بالإنسان -أحياناً- إلى الوهم، فلو أن إنساناً أصيب -مثلاً- في ليلة أو ليلتين بالأرق وقيل له: أصابتك عين أو أصابك سحر فصدق وتوهم فلا يمكن أن يبيت، ولا يمكن أن ينام، بل يصبح هاجسه ليلاً ونهاراً هذا المرض، بينما الرجل ليس فيه مرض، لكن لما قيل له: إنه مريض وصدق بهذا أدى به إلى هذا. ولهذا تجد كثيراً من الأمراض هي أمراض في بداياتها سهلة عادية، لكن تتعقد بالوهم، وهذا معروف حتى في المرض العضوي، فالإنسان إذا أصيب بألم في بطنه أو بجرح معين أو بشيء من ذلك فإذا أعطاه قدره المناسب وتشجع وصار يأكل ويأخذ الأسباب ونفسيته طيبة فإن ذلك يعجل الشفاء، لكن إذا قيل له: هذا مرض خطير بدأ الوهم عنده. وتعلم أن الوهم يهد الإنسان خلال ساعات، بل خلال وقت قصير، فإذا هد هذا المريض، وصار لا يأكل، وصار مهموماً، وصار مغموماً مرض واشتد مرضه، وضاق صدره، بل إنك تجد أحياناً بعض الناس وهو في أشد حالات المرض في المستشفى؛ لأنه واهم وخائف، فإذا جاءه الطبيب وقال: الحمد لله، طلعت التقارير سليمة وليس فيك شيء فكأنما نشط من عقال، وصار يحدث من حوله، وصار يبتسم ويشتهي ويأكل وتتحسن حالته، والعكس بالعكس. فهذا أمر. الأمر الثاني: أن من وقع عليه ابتلاء في مثل هذه الأمور مما ذكره السائل فيجب عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، فإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، (ما من داء إلا وله دواء)، وليس هناك مرض إلا وله دواء إلا الموت، أما ما عدا ذلك فله دواء، وهذا الدواء شرعي. وحينئذ فإنني أقول: إن من ابتلي بمثل هذا المرض فعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يدرك أموراً: أولاً: لا يجوز له أن يذهب إلى هؤلاء السحرة، وخداعه لنفسه أنه يقول: إذا رجعنا نتوب هذا كلام خطير يخشى على صاحبه، وهو مثل ذلك الشخص الذي يقول: أقع في المعصية ثم أتوب، وإذا لم تتب؟! وإذا جاءك الأجل وأنت على المعصية ماذا ستقول لربك سبحانه وتعالى؟! وكذلك -أيضاً- نقول لهؤلاء: وأنتم راجعون لو وقع حادث سيارة ومتم قبل أن تتوبوا! فاتقوا الله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: أنه يجب على هؤلاء أن يبحثوا عن الرقية الشرعية، ومثل السحر وغيره توجد له رقى شرعية، هذه الرقى تنفع بإذن الله مع الإخلاص والتعلق بالله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى يشفي صاحبها، وقد تكون إرادة الله أن يبتلى هذا الرجل وأن يستمر عليه البلاء زمناً، فلا ييأس الإنسان. فينبغي أن ننتبه لهذه القضية، فلا يجوز الذهاب إلى هؤلاء، ولا يجوز علاج السحر بسحر مثله على القول الراجح، خاصة في هذه الأيام التي انتشر فيها هؤلاء السحرة.

وجوب التحذير من السحرة والمشعوذين

وجوب التحذير من السحرة والمشعوذين Q ما حكم من يعلم عن حال كاهن يفد الناس إليه جماعات، لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً، فما الواجب عليه؟ A قوله: لا يستطيع ليس بصحيح، فعليه أن يأتي إلى أهل الخير والعلم من أبناء هذه المدينة التي هو فيها أو قريباً منها ويشرح حاله ويحذر منه، ومن المهم أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى حتى لا يستفحل شرهم، وقد استفحل.

حكم الرقية بغير اللغة العربية

حكم الرقية بغير اللغة العربية Q إذا كان من يرقي لا يجيد اللغة العربية فهل يرقي بغيرها؟ A لا يجوز، فمن شرطها أن تكون باللغة العربية.

التنويم المغناطيسي

التنويم المغناطيسي Q نسمع عن التنويم المغناطيسي أنه من أعمال الشياطين، فهل هذا صحيح؟ A ربما.

خطورة الرياء

خطورة الرياء Q نود أن تُبَيّن صورٌ للرياء تقود فاعلها إلى الشرك الأكبر؟ A كل المعاصي قد تقود إلى الشرك الأكبر، كم من شاب قادته الشهوة إلى الكفر، بمعنى أنه أتاه صديقه وقال: تعال. فوقع في الزنا، والزنا معصية من المعاصي وكبيرة من الكبائر، وإذا تاب منها الإنسان فالله يتوب عليه، ولا يكفر صاحبها. لكن هذه المعصية تقود صاحبها حين يبدأ بها من خلال أصدقائه، فيؤدي به الأمر أحياناً إلى ترك الصلاة، وهذا يقع، ومن وقع في شرب الخمر ونحو ذلك فغالباً ما يؤدي به ذلك -نعوذ بالله- إلى ترك الصلاة، وهذا بحد ذاته كفر. بل قد يكون ما هو أشد من ذلك، فقد يؤدي به إلى الاستهتار بالدين والاستهزاء بالدين، وهذا أيضاً ردة، وقد يؤدي به أحياناً إلى أنه لا يستطيع أن يتحلل هذا التحلل إلا من خلال الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا واقع، وإن دعاة الإلحاد والكفر بالله سبحانه وتعالى يدخلون إلى الشباب عن طريق الشهوات، فالبداية معصية، وانتهى الأمر إلى الكفر بالله سبحانه وتعالى. والسائل سأل عن الرياء، فنقول: نعم. قد يبدأ الرياء خفيفاً مع الإنسان فيبطل صلاته أو عبادته أو جزءاً منها، لكن قد يستحكم فيعمل الإنسان لغير الله، وربما كثر الأتباع ونظر الناس إليه، فصار في الخفاء يعاند ربه بالمعاصي، وأمام الناس يتظاهر بأنه من الأتقياء، فتأتيه النفس وتقول: إنك تضحك على الناس فاضحك على ربك أيضاً، فيبدأ -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يتظاهر بهذا الرياء، وهو في الحقيقة إذا كان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى ربما لا يؤدي الصلاة أو لا يؤدي بعض العبادات الواجبة.

كيفية علاج الرياء

كيفية علاج الرياء Q شخص ابتلي بالرياء، فما العلاج لذلك؟ A العلاج لذلك الرقابة الشديدة على القلب وأنت تعمل هذه الأعمال التي تخشى من الرياء فيها، ومقتضى ذلك أن توقن يقيناً تاماً أن هؤلاء الناس لا يستطيعون أن ينفعوك بأي شيء، ومن ثم فإنك إذا راءيتهم خسرت الدنيا والآخرة، خسرت الآخرة فلا ثواب لك، وخسرت الدنيا لأنك عملت هذا العمل لغير الله، فلم ينفعك عملك في زيادة إيمانك وفي تقوية قلبك. ومن هنا فإنني أقول: إذا خشيت من هذا فعليك أن تعالج نفسك بنفسك من خلال أمور: منها: أن تحرص كثيراً على أن تكون عباداتك الخاصة في انفرادك، فالعبادات التي فيها نوافل احرص دائماً على أن لا يراك فيها أحد. الأمر الثاني: أن تجاهد نفسك عند عمل الطاعة إذا كان لابد من عملها أمام الناس، تجاهد نفسك، ولا تستسلم للشيطان، فإن الشيطان قد يأتيك ويقول لك: إنك ترائي. فعليك أن تراغمه وأن تستمر في عبادتك. الأمر الثالث: أن تدعو ربك سبحانه وتعالى أن يعصمك من مثل هذا الأمر. وأنا أخشى أن يكون مثل هذا وهماً منك، فالشيطان يريد أن يفسد عليك عباداتك فيقول لك: أنت ترائي. ويريد أن يفسد عليك العبادة حتى تتركها، أو حتى تتخلى عن الصالحين ولا تجالسهم، فالأولى مراغمة الشيطان، وأن تحرص كل الحرص على أن تحضر قلبك ليكون مخلصاً لله تعالى في هذه العبادة، والله تبارك وتعالى يتولاك.

حكم تعليق الآيات والأحاديث

حكم تعليق الآيات والأحاديث Q انتشر في هذه الأيام عند بعض الناس وضع المصحف في السيارة، أو تعليق بعض الآيات أو الأحاديث، أو وضع بعض الملصقات التي فيها آيات قرآنية، فهل هذه من التمائم؟ وهل ما يوضع من الأدلة الواردة في السنة كدعاء الركوب من ذلك؟ A أظن أن بعض هذه الأمور يدخل في هذا، مثل الذي يضع المصحف في مقدمة السيارة أظنه يقصد أنه تميمة، فإذا كان قصده ذلك فيدخل في الحكم الذي رجحنا أنه لا يجوز، أما ما عدا ذلك من الأشياء المعلقة فهي بحسب مقصدها، فإن كان قصده أن يتذكرها، بمعنى أنه إذا ركب السيارة تذكر الدعاء فمثل هذا -إن شاء الله- لا بأس به، خاصة إذا لم تكن آيات قرآنية. أما إذا كانت آيات قرآنية، مثل آية الكرسي وغيرها فحكمها حكم اللوحات التي تعلق أحياناً في البيوت وغيرها، وهذه الأمور مما اختلفت فيها الفتوى بالنسبة للمشايخ حفظهم الله تعالى، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى، أن مثل هذه اللوحات قد تكون ممتهنة، وهذا الامتهان إما أن يكون من خلال أن توضع أحياناً في أواني، وقد أخبرني بعضهم أنها أحياناً تكون فيها الآيات، وأحياناً يمتهنها الأطفال، وأقل أحوالها أنها تكون زينة فقط، فلا تقرأ، ولا يلتفت إليها، وإنما تحولت إلى مجرد زينة، وهذا مما ينبغي أن ينزه عنه كلام الله تعالى.

حكم تعليق الأدوية الشعبية

حكم تعليق الأدوية الشعبية Q هل ما يعلق على الطفل من أدوية شعبية خشية من الأمراض يعتبر من التمائم المحرمة؟ A نعم. بل هو من أشدها، وهذا لاشك في أنه لا يجوز؛ لأن مثل هذه الأمور يظنون أنها تحمي، فالاعتقاد بأنها تحمي هو مثل اعتقاد من علق خرزات أو سلسلة مغناطيسية أو غير ذلك يظن أنه تحمي، فهذا كله مما لا يجوز.

حكم الحلف بآيات الله

حكم الحلف بآيات الله Q هل الحلف بآيات الله عز وجل يعتبر من الشرك، خاصة إذا كان يقصد الآيات الكونية؟ A إذا كان قصده مثلاً أن يحلف بالسماء، أو يحلف بالشمس فهذا لاشك أنه حلف بغير الله، أما إذا كان يحلف بآيات الله أي: القرآن فهذا جائز.

حكم تعليق الذهب المصوغ على صورة كتاب

حكم تعليق الذهب المصوغ على صورة كتاب Q انتشر في الآونة الأخيرة في بعض حلي النساء التي تعلق على رقابهن شكل كتيب صغير، فهل هذا من الرقى والتمائم؟ A حسب مقصدها، فإذا كان هذا الكتيب الصغير لا يقصد به أنه مصحف، أو لا يقصد به أنه يحمي فهذا من الأمور التي هي زينة، وهو جائز لها ولا بأس به، أما إذا قصد به فالأمور بحسب مقاصدها؛ لأنه حتى الحلي الذي ليس فيها شكل كتاب ولا غيره لو قصدت به صاحبتها أنه يحميها تحول إلى تميمة، ومن ثم فلا يجوز.

حكم رمي الطعام عند مرور الغير

حكم رمي الطعام عند مرور الغير Q بعض الناس إذا مر عليه شخص وهو يأكل رمى بعض الطعام، ويقول: عن العين. فما حكم ذلك؟ A لا دليل عليه، وهذا من ضعف الإيمان.

درجات المحبة

درجات المحبة Q بعض الناس يفرط في الحب في الله عز وجل بحيث يتعدى الحدود الشرعية، كأن يقدم محبة شخص على الوالدين، أو أن تكون نتيجة لترك بعض السنن أو عمل بعض المكروهات، فما الحكم في ذلك؟ A ينبغي أن يفرق بين أنواع ثلاثة من المحبة: النوع الأول: محبة العبادة، فهذه يجب أن تكون خالصة لله، فالله تعالى هو وحده الذي يحب لذاته، ومن ثم فالطاعة له وحده لا شريك له، وكذلك مقتضيات المحبة الأخرى. النوع الثاني: المحبة في الله، وهذا المحبة على درجات، أعلاها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن يقدم على محبة النفس والولد والوالد، ثم تأتي على إثرها كل محبة في الله، محبة الطاعات، محبة أخيك المؤمن، محبة الصحابة، محبة كل من عمل صالحاً من المؤمنين، هذا كله مما يقوي الإيمان، فهي -أي: هذه الأنواع من المحبة- إيمان؛ لأنها في الله. النوع الثالث من المحبة: المحبة الطبيعية، مثل محبة الولد، ومحبة الوالد، ومحبة الوالدة، فهذه المحبة ركبها الله سبحانه وتعالى في طبيعة البشر، بل هي موجودة في البهائم والطير غير ذلك، فهذه المحبة لا تخالف تلك المحبة، وإنما ننظر إليها من خلال درجاتها، فمن قدم -مثلاً- محبة الولد على محبة الله يشبه من قدم محبة المال أو محبة الزوجة على محبة الله تعالى؛ بحيث يؤدي به إلى ترك عبادة الله وحده لا شريك له. فنقول -والحالة هذه-: إن هذا التقديم لهذه المحبة خطر على صاحبه قد يؤدي به إلى الكفر، وقد يؤدي به إلى أنواع من الفسق أو المعاصي، فهي على درجات كما سبق أن بينا.

الفرق بين أنواع الشرك راجع إلى الأدلة وإلى قصد الشخص

الفرق بين أنواع الشرك راجع إلى الأدلة وإلى قصد الشخص Q هل هناك بعض القواعد والضوابط في تمييز الشرك عن غيره، وفي تمييز الشرك الأكبر عن الأصغر؟ A ليس هناك قواعد وضوابط بحيث توضع هذه القاعدة وتأتي عليها الأنواع كلها، وإنما الأمر يحتاج إلى شيء من الاستقصاء؛ لأننا مربوطون بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن بعض هذه الأمور قد يكون شركاً في شريعة ولا يكون شركاً في شريعة أخرى، فالسجود للاحترام والتقدير كان جائزاً كما في قصة يوسف مع إخوته، لكنه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم شرك أكبر. ولهذا -كما في الصحيح- لما قدم معاذ من الشام وأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم فمن شدة فرحه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟! قال: يا رسول الله! إنني كنت في الشام فرأيتهم يسجدون لرهبانهم وقساوستهم، فأنت -يا رسول الله- أحق بذلك. فماذا قال النبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل؛ فلو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). فصار السجود لغير الله من العالم به شركاً وكفراً أكبر، فالمقياس لمثل هذه الأمور صحيح أنه يدخل في المعاني وتمييز الأمور وضبطها، لكن -أيضاً- لابد من النظر فيه إلى الأدلة، فإذا قلنا: عبادة غير الله شرك فهذا عام ويشمل أي نوع من أنواع العبادة، فما يأتينا أحد ليقول: لابد أن تستقصوا كل هذه الأمور بحيث يكون هذا الأمر شاملاً شمولاً كلياً. لا، وإنما تذكر من ذلك الأمثلة، ويميز بين ما كان أكبر وما كان أصغر بالدليل. ولهذا تجد إرادة الإنسان بعمله الدنيا واتباع الهوى أو المحبة درجات، وكذلك الخوف من غير الله، فإن الإنسان يخاف من السبع ويخاف من النار، فهل نقول: هذا وقع في الشرك الأكبر؟ لا. وإنما نقول: الخوف من غير الله تعالى سبحانه وتعالى على درجات، فإن كان هذا الخوف من غير الله سبحانه وتعالى في أمر لا يقدر عليه ولا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى فهذا قد يصل بصاحبه إلى الشرك الأكبر. وإن كان في أمر يخاف منه الإنسان عادة فهذا من الأمور العادية، وإن كان في أمر مما بين ذلك فهذا دال على ضعف إيمان، وقد لا يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر، وهكذا بقية الأمور.

لابد من تحقيق التوحيد علميا وعمليا

لابد من تحقيق التوحيد علمياً وعملياً Q كثير من الناس يعرف التوحيد علمياً، ولكن قل من يعرفه عملياً، فكيف العلاج لذلك؟ A هذا مرض عضال، فإن بعض الناس التنظيم الذهني عنده جيد، لكن إذا جاء إلى الأمور العملية اختلطت عليه الأمور، فكثير من الناس تربوا على التوحيد وعلى عقيدة التوحيد، وعندهم هذه النظرة جيدة، بل يحفظون كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويستطيع الواحد منهم أن يشرح لك لمدة نصف ساعة أو أكثر. لكن إذا جاء إلى أمر عملي وقع -نعوذ بالله- في أنواع من المخالفات، كتعلق النفوس بغير الله، ظن أن هذا الشخص أو هذه الجهة أو هذه الدولة ربما يحميه من أمر الله، ظن أنه حينما يهرب من هذا المكان أنه ينجو من الموت، وهذا كله دليل على ضعف الإيمان، فهو عند التنفيذ العملي ضعيف الإيمان. ولهذا نقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التوحيد وأن يعيذنا من الفتن؛ لأن الإنسان قد يبتلى، وهذا الابتلاء إذا ابتلي به الإنسان فقد يقوى على المواجهة وقد لا يقوى، وهو امتحان وابتلاء من الله سبحانه وتعالى يبتلي به عباده.

حكم استخدام الذئاب وأخذ المال على إخراج المس

حكم استخدام الذئاب وأخذ المال على إخراج المس Q بعض الذين يقرؤون يستخدمون الذئاب في علاج بعض الأشخاص لإخراج مس الجن، وما حكم أخذ الأموال على ذلك؟ A أما الرقى الشرعية فالصحيح جواز أخذ المال عليها للحديث الصحيح الوارد في ذلك، وفيه أن الصحابة الذين رقوا الرجل الذي لدغ أخذوا على ذلك أجرة، والآن يتكلمون في الاشتراط المسبق، أما إذا أعطي فلا شيء فيه إن شاء الله تعالى، ولكن ينبغي للقارئ المخلص أن يتجنب هذا الأمر، وأن يجعل قراءته خالصة لوجهه تعالى؛ لأنه مدخل لهوى النفس والتعلق بالدنيا والتعلق بالمال، كما يحدث لبعض القراء نسأل الله لنا ولهم العافية. أما ذلك الذي يقرأ ويستخدم بعض هذه الأشياء فنحن نقول: إن هذا الأمر يترك للتجربة، فإذا كان يظن أن مثل هذا يطرد الجن وتنفر من هذا الشيء فهذا متروك للتجربة، لكن بشرط أن لا يعتقد فيه؛ لأن بعض الناس لما سمع ما ذكره السائل اقتنى ذئباً، وبعضهم اشترى ذئباً وقطع رأسه وحنطه وألقاه في بيته، وبعضهم بحث عن جلد الذئب ليجعله في بيته، وهذا كله من الأمور التي هي مضعفة لتحقيق التوحيد، وقد تودي به، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم قول: (في ذمتي) أو (أمانتي)

حكم قول: (في ذمتي) أو (أمانتي) Q ما حكم قول القائل: في ذمتك. أو: أمانتك. أو قول بعضهم: في ذمته ليفعلن كذا؟ A هذا حلف بغير الله، بل هو أخطر من الحلف بغير الله، فينبغي أن يتجنب.

حكم قول (ما صدق على الله)

حكم قول (ما صدق على الله) Q ما حكم قول القائل: (إنه ما صدق على الله) من الناحية الشرعية؟ A الذي يظهر أن مثل هذه العبارة وإن كان التعبير عنها عاماً فيه شيء من الغموض، لكن الذي يظهر أنه لا شيء فيها؛ لأن قصد صاحبها: إنني ما كنت أتوقع هذا، ثم تبين لي أن الله قد كتب هذا وقدره ما كنت أتوقع أن فلاناً يأتي فإذا به يراه في هذا المكان إلى آخره. فأقول: لو تجنبت العبارة لكان أولى، لكن من قالها فالذي يظهر أن قصده فيها لا شيء فيه.

حكم النظر إلى التلفاز

حكم النظر إلى التلفاز Q ما حكم النظر إلى المسلسلات التي تظهر في التلفاز، خاصة أن في بعضها بعض الأمور التي تخالف الشريعة، أو فيها الإشراك بالله عز وجل؟ A هذا لا يجوز، فإذا كان فيها محرمات فلا تجوز، وإذا كان فيها شرك فلا تجوز، وإذا كان فيها نساء فلا يجوز النظر إليهن، هذه كلها واضحة الدلائل.

حكم أخذ الأجرة على الرقية والتعليم

حكم أخذ الأجرة على الرقية والتعليم Q ما حكم أخذ الأجرة على الرقية استناداً إلى حديث: (إن خير ما أخذتم عليه أجراً هذا القرآن)، وأن ذلك يكون في الرقية فقط كما يراه المحدث العلامة الشيخ ناصر الألباني؟ A الخلاف هو في: هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم كلام الله أم لا؟ أما أخذ الأجرة لأجل أن يقرأ، كما لو جاء إنسان وقال: يا فلان! أنت تقرأ القرآن فأرجوك أن تقرأ لي سورة البقرة بمائة ريال. فيقرأ له سورة البقرة لأجل المال، فهذا الذي يظهر أنه لا يجوز. لكن أخذ الأجرة على التعليم مثل تعليم الأولاد، نقول: إن المسألة خلافية بين العلماء، والذي يظهر -والله أعلم- جوازه، لكن ينبغي أن يكون معلوماً لدى المؤمنين الأخيار أنه لا ينبغي أن يُلجأ معلم القرآن إلى مثل هذا، فإذا كان هناك معلم للقرآن فالأولى له ألا يُلجأ إلى أن يطلب هذا الأمر، وإنما يعطى ما يكفيه من رزقه، هذا ما ذكره العلماء، وهو الأمر الطيب الذي يجب أن يسلك.

أفضل شروح الطحاوية

أفضل شروح الطحاوية Q ما أفضل الشروح للعقيدة الطحاوية، خاصة من ناحية التصحيح والتعليق والتخريج؟ A أفضل الشروح هو شرح ابن أبي العز الحنفي، أما عن التعليق فأقول: هما طبعتان هما من أفضل الطبعات: الطبعة الأولى الطبعة المشهورة طبعة المكتبة الإسلامية، وعليها تعليقات المحدث الشيخ الألباني، والطبعة الثانية هي الطبعة الأخيرة التي بتحقيق الشيخ عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، وهذه الطبعة ظهرت منها الآن طبعة جديدة في مجلد واحد، فلعله استدرك فيها ما كانت عليها من ملحوظات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

المؤتمر المشبوه

المؤتمر المشبوه أعداء الفطرة والقيم والأخلاق يخططون الليل والنهار لإفساد المجتمعات والشعوب، وقد وجدوا أن المرأة خير وسيلة لذلك إن هم أفسدوها، ولذلك نراهم دائماً ينادون بتحرير المرأة، ويريدون بذلك تحريرها من الفطرة والقيم والأخلاق، فتكون معول هدم لمجتمعها وشعبها، ونراهم يكثرون من المؤتمرات العالمية للمرأة، وذلك من أجل تعميم ثقافتهم الهدامة، ونشرها بين الأمم والشعوب لاسيما الإسلامية، فعلى المسلمين الانتباه لهذا الخطر العظيم، والتصدي له على كافة المستويات، وبكل السبل.

بنود المؤتمر المشبوه مخالفة للفطر والأديان

بنود المؤتمر المشبوه مخالفة للفطر والأديان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فقد عقد في زمن مضى مؤتمر عالمي للمرأة، عقد في بلاد الشيوعية (بكين)، وقد حضره ما يقارب خمسين ألف امرأة من شتى أنحاء العالم، مختلفات المشارب والديانات، وطرحت آراء وجرت مناقشات، ولكن وثيقة المؤتمر التي أعدتها هيئة الأمم المتحدة بقيت هي الأساس الذي يدور حوله المؤتمر، وعلى بنودها يجري التوقيع، وفي الوثيقة بنود وقضايا كثيرة تتعلق بالمرأة، ولكن الذي يهم والذي أشغل بال المتابعين لهذا المؤتمر هو ما اشتملت عليه بنوده من عهود تعارض الأديان والأخلاق والآداب والفطر السليمة التي أجمع عليها كل من لم تصب فطرته بانتكاس. ومن هذه القضايا: إعطاء المرأة الحرية الكاملة. المطالبة بمساواتها للرجل في جميع الأمور. إباحة العلاقات غير الشرعية قبل الزواج، وتعليمها للجنسين منذ الصغر. إباحة الشذوذ. إباحة الإجهاض، ووأد وقتل الأولاد. كون الطلاق بيد المرأة لا بيد الرجل وغيرها من البنود التي اشتملت عليها وثيقة المؤتمر وجرى حولها النقاش. ونحن هنا لسنا بصدد بيان منزلة المرأة في الإسلام وما أعطاها من حقوق؛ فإن هذه بالنسبة لنا نحن -المسلمين- قضية عقدية كبرى، ولسنا أيضاً بصدد بيان حكم الإسلام الصارم في هذه القضايا المطروحة، ولا بصدد الحديث عن المرأة في الغرب، وهل فعلاً نالت ما تطمح إليه وقد أعطيت الحرية والمساواة على مدى عشرات السنين الماضية؟ لسنا بصدد الحديث عن هذا ولا هذا، إنما هي وقفات مع المؤتمر وخلفياته.

أسباب التركيز على قضية المرأة

أسباب التركيز على قضية المرأة أولاً: لماذا التركيز على قضية المرأة وأوضاعها وأحوالها وحريتها؟ والجواب واضح، وهو أن المرأة مستهدفة بشكل خاص؛ لأمور: أولها: أن غزوها عقلياً وأخلاقياً له أثره البالغ في المجتمعات؛ لأنها- أي: المرأة- من أقوى الوسائل وأشدها أثراً في التدمير، وقد عرف هذا دعاة الفساد والانحلال، فاستخدموا المرأة في شتى الوسائل لتدمير الأمم وإنهائها، فكانت هي العمدة في المجلات، وفي الأفلام، وفي الدعاية، وركز عليها مخططوا التدمير للعالم في أبواب الأزياء وغيرها. ثانياً: أن الأسرة نواة المجتمع، ودور المرأة في الأسرة أماً وزوجةً وأختاً وبنتاً له أثر كبير فيها، ويكفي أن الجانب الأكبر في تنشئة الأجيال إنما تقوم به المرأة، فحين يتحقق الغزو والتدمير للمرأة ينتقل أثرها سريعاً إلى الأجيال. ثالثاً: أن المرأة بطبيعتها العاطفية وسرعة تأثرها تكون أسهل في الاستجابة للمطالب والانحراف، خاصة حين تخلو المرأة من العقيدة، أو يضعف إيمانها وما ينبثق منه تربية وخلق، فإن المرأة -والحالة هذه- سريعة جداً في تأثرها، كما أنها قوية في تأثيرها، إضافة إلى ما ركبه الله في المرأة من جمال ومن تعلق الرجال بهذا الجمال. لهذه الأسباب ولغيرها كان التركيز على قضية المرأة في مثل هذه المؤتمرات الكبرى.

القوى التي تقف وراء هذا المؤتمر وغايتها

القوى التي تقف وراء هذا المؤتمر وغايتها مؤتمر المرأة العالمي عقد تحت ظل الأمم المتحدة، وهذه المنظمة كما عرفناها من خلال أنظمتها ومواقفها -وآخرها موقفها في قضية المسلمين في البوسنة والهرسك- هذه المنظمة تقف وراءها قوى معروفة، على رأسها قوى الغرب الصليبي، والغرب ينظر من علو إلى بقية أمم الأرض، ومن ثم فهو يزعم التالي: أولاً: أنه صاحب رسالة موجهة إلى العالم، وينبغي للعالم كله أن يستمع إليه وأن يصغي إليه، هكذا يزعم الغرب. ثانياً: أنهم هم الأمة التي تفكر، وهم الذين يملكون أدوات البحث والتفكير، أما من عداهم من الأمم فلا شيء، ولا يستحق إلا أن يتكرم عليه الغرب بجعله تبعاً له ويدور في فلكه. ثالثاً: إنكار أي ثقافة أخرى غير ثقافة الغرب والتهوين منها، وبالأخص المنهج الإسلامي عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً وآدابا، فإن الغرب ينظر إليه نظرة خاصة، ويري المرء الصليبي أنه مسيطر عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، وهو يسعى الآن إلى السيطرة والاختراق الثقافي والعقدي والأخلاقي لغيره من الأمم، وهذه المؤتمرات مع ما يصحبها من وسائل أخرى كالبث المباشر وغيره هي جزء من هذا البرنامج. والملاحظ أن الغرب أخيراً لم يعد يركز كثيراً على المؤتمرات التنصيرية التي كانت تعقد فيما مضى ويديرها ويقوم عليها منصرون من الساسة ومن القسس والرهبان، ولكنهم أصبحوا الآن يركزون على مؤتمرات الأمم المتحدة في ميادين متعددة، ومنها ميادين المرأة التي نتحدث عنها الآن. إذاً مؤتمر المرأة هو في جملته حرب عقدية أخلاقية، يشنها الغرب على العالم الثالث، وأبرز ما في العالم الثالث المسلمون، وهي محاولة لزرع وسائل الهيمنة على هذه الأمم، وأقوى وسائل الهيمنة حين تدمر أخلاقها.

أهداف مؤتمر المرأة العالمي

أهداف مؤتمر المرأة العالمي ما هي أهم أهداف المؤتمر الذي عقد باسم المرأة؟ ينبغي أن نعلم أن وثيقة المؤتمر أعدت قبل عشرين سنة في مؤتمر سابق للأمم المتحدة عقد في المكسيك سنة خمس وسبعين وتسعمائة وألف ميلادية، لذا فما تحويه طيات المؤتمر بوثيقته ولجانه المتعددة وما يدعو إليه باسم حقوق المرأة من إباحية وانحلال وشذوذ، وفرض حقوق للمرأة في قتل الأولاد ووأدهم، وفي الطلاق وفي غير ذلك كل هذا قد أعد بعناية، وأشرفت عليه لجان وقوى، ونحن نقول: إن من الواضح أن هذا المؤتمر يهدف إلى أمور كثيرة، ونحن هنا إنما نقف مع بعضها فنقول: إن أهم أهداف المؤتمر: أولاً: أن الغرب لم ينجح في معالجة قضايا الإباحية والمخدرات ونحوها وما ينتج عنها، ومن ثم فهو يريد تصديرها إلى المجتمعات الأخرى، ومنها المجتمعات الإسلامية، فالمؤتمر محاولة لفرض الواقع الغربي الإباحي على دول العالم الثالث، سواء أكانت محافظة أم غير محافظة، ولكن التركيز أكثر وأكثر على الدول المحافظة، وخاصة مع بروز الصحوات الدينية، وعلى رأسها الصحوة الإسلامية. إذاً هي محاولة لهيمنة غربية لتفرض أخلاقها وآدابها وانحلالها وشذوذها على بقية أمم الأرض. ثانياً: إضفاء صفة الشرعية، وهنا آتي بلفظ (الشرعية) لأنهم يستخدمونها، وإلا فنحن لا نستخدمها إلا فيما يتعلق بالشرعية الحقيقية شرعية الإسلام. إذاً من أهداف المؤتمر إضفاء صفة الشرعية والقانون على الإباحية والرذيلة والانحلال، بحيث يصبح الانحراف هو الأصل في هذه المجتمعات، وقد يقول قائل: هناك معارضون، والدول غير ملزمة! فيقال: العبرة بالأكثرية، والأكثرية ستوقع عليها، ثم إن الغرب بهيمنته يعول على الضغط السياسي والاقتصادي على الدول التي لا تنفذ أنظمة الأمم المتحدة، كما أنه يعول على عامل الزمن، فتكرار هذه المؤتمرات قد يحولها إلى حقائق عند بعض الشعوب المغلوبة على أمرها. ثالثاً: الحط من الأديان، وعلى رأسها دين الإسلام. وإذا علمنا أن التحدي الحقيقي الذي يواجهه الغرب اليوم إنما هو الإسلام خاصة تبين لنا أن مثل هذه المؤتمرات تهدف أول ما تهدف إلى مقارعة الإسلام بتدمير شعوبه أخلاقياً، وقد يقول قائل: إن كلامكم هذا ناشئ من عقدة طالما سمعناها، ألا وهي عقدة المؤامرة على الإسلام في كل حادثة أو قضية! ونحن نقول: لا. ليست مؤامرة على الإسلام تحاك في الخفاء، وإنما هي حرب حقيقية مكشوفة ضد الإسلام، وما أحداث البوسنة والشيشان التي انكشفت فيها الحقائق لا للمسلمين خاصة وإنما للعالم كافة إلا مثالاً جلياً لهذه الحرب ولذلك الحقد الصليبي. أيها الأخ في الله! دعني أنقل لك ما يقوله أحد المنصرين -واسمه لورنس بروفن -، قال هذا الكلام قبل عشرات السنين، يقول: لقد كنا نخاف، أو نخوف بشعوب كثيرة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبْلُ بالخطر اليهودي والخطر الأصفر والخطر الشيوعي -وهذا قبل سقوط الشيوعية بزمن- إلا أن هذا التخويف كله لم يكن له أساس كما تخيلنا، فقد وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الأول، عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفراء فإن هنالك دولاً ديمقراطية كبرى تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي. أهـ إن هذه المؤتمرات تهدف إلى تدمير شعوب وأمم، لكنها أيضاً تركز على الإسلام.

من المستفيد من طرح قضايا الإباحية والشذوذ؟!

من المستفيد من طرح قضايا الإباحية والشذوذ؟! إن المؤتمر يطرح قضايا تتعلق بالإباحية والشذوذ، وهذه لا يقرها العقلاء، حتى في بلاد الغرب، فهم يرفضونها، ولذا فإننا نقول: إذا كان الأمر كذلك فمن المستفيد من الانحلال والإباحية والشذوذ وانتشارهما في جميع أنحاء العالم؟ ومن المستفيد من انحلال الأسرة؟ ومن المستفيد من تدمير الأمم؟ و A فتش عن اليهود وعن الماسونية العالمية، وحتى تتضح الأمور فتأمل في مقولات بروتوكولات اليهود، يقولون في البروتوكول الأول: فشعوب القي وين -ويقصدون بهم غير اليهود- قد رنحتها الخمرة، وشبابهم قد استولت عليهم البلادة من نتيجة ذلك، وقد ازدادوا إغراءً بأوضاعهم هذه على يد المهيئين من جهتنا خاصة للدفع بهم في هذا الاتجاه، ففي الزمن الماضي كنا نحن أول من نادى في جماهير الشعب بكلمات الحرية والعدالة والمساواة، وهي كلمات لم تزل تردد إلى اليوم، ويرددها من هم بالببغاوات أشبه، ينقضون على طعم الشرك من كل جو وسماء، فأفسدوا على العالم رفاهيته، كما أفسدوا على الفرد حريته الحقيقية. ثم يقول: وفي جميع جنبات الدنيا كان من شأن كلمات (حرية، عدالة، مساواة) أن اجتذبت إلى صفوفنا على يد دعاتنا وعملائنا المسخرين من لا يحصيهم عد من الذين رفعوا راياتنا بالهتاف، وكانت هذه الكلمات دائماً هي السوس الذي ينخر في رفاهية القي وين، ويبتلع الأمن والراحة من ربوعهم، ويذهب بالهدوء ويسلبهم روح التضامن. ويقولون في البروتوكول العاشر: وإننا بإشرابنا الجمهور كله نزعة الاعتداد بالنفس، وتلقيحهم بهذا اللقاح نكون قد فككنا رابطة الأسرة وأذبنا ما لها من قيم ثقافية. ويقولون في البروتوكول السابع عشر: وقد سبق لنا فيما مضى من الوقت أن بذلنا جهوداً لإسقاط هيبة رجال الدين عند القي وين، وقصدنا بذلك أن نفسد عليهم رسالتهم في الأرض، وهي الرسالة التي يحتمل أنها لا تزال بنفوذها عقبة كئوداً في طريقنا، ولا نرى هذا النفوذ في الوقت الحاضر إلا في تناقص يوماً بعد يوم. ويعنون به نفوذ رجال الدين المسيحيين، وهو ينطبق أيضاً على أهل الشريعة من المسلمين. أيها الأخ في الله! أما وسائل اليهود العملية التي طبقوا فيها ما سبق في قضايا الإباحة والانحلال فارجع إلى نماذج منها، في كتاب (جذور البلاء) لـ عبد الله التل فصل (طرق التدمير في المجتمعات غير اليهودية). وما نظريات ماركس وفرويد ودارون وغيرهم من اليهود إلا جزء من المسيرة اليهودية لتدمير الأمم والشعوب من غير اليهود. أيها الأخ في الله! هذه ملامح ووقفات حول مؤتمر المرأة العالمي، فكيف سيكون موقفنا وموقف المسلمين جميعا، إنها مسألة كبرى في حياة الأمم جميعاً ومنها حياة المسلمين، فما هو الطريق الذي يسلكونه للوقوف أمام هذا الغزو، أمام هذا الغزو اليهودي والصليبي المكشوف على أمة الإسلام بعقيدتها وأخلاقها وآدابها؟ الجواب معروف لدينا. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين في كل مكان، اللهم! انصر عبادك الموحدين المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم! انصر من نصر الدين، اللهم! انصر من نصر الدين، اللهم! أذل الشرك والمشركين والكفر والكافرين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم!! أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم! إنا نسألك أن تصلح شباب المسلمين، اللهم! وفق أمة الإسلام إلى الوقوف في وجه مؤامرات أعدائها، اللهم! رد المسلمين إليك رداً جميلا، اللهم! إنا نسألك أن تصلح أولادنا ونساءنا وجميع المسلمين، ربنا! اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم! صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

المحبة في الله

المحبة في الله موضوع الحب في الله والبغض في الله من المواضيع المهمة جداً، فهما أوثق عرى الإيمان، وهذان الأصلان مرتبطان ببعضهما، بحيث لا يتحقق واحد منهما إلا بالآخر، والمحبة في الله لها لوازم وأسس وعلامات لابد من توافرها فيها، وإلا كانت هذه المحبة مجرد دعوى لا حقيقة لها، فكان لزاماً على المسلم أن يعلم حقيقة هذه المحبة، وأن يترجمها إلى واقع عملي؛ حتى يكون من أهلها.

مقدمة عن أهمية المحبة في الله عز وجل

مقدمة عن أهمية المحبة في الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فحديثنا هذه الليلة إن شاء الله تعالى عن المحبة في الله أو الحب في الله، وهذا الموضوع أيها الإخوة! مهم جداً، وتكمن أهميته من خلال الأمرين التاليين: الأول: حاجة المؤمنين جميعاً إليه في كل وقت وفي كل آن، فكل مؤمن محتاج إلى إخوانه المؤمنين، فإذا تحققت المحبة بينهم والألفة تحولت حياتهم بعون الله وتوفيقه إلى حياة إخاء ومودة، ومن ثم إلى حياة إنتاج وعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى، وكل إنسان يشعر بهذه الحاجة الماسة في نفسه، ومن تأمل حياة كل واحد منا وجد أنه لا يستطيع أن يعيش إلا بحب وبغض، ولن تستقيم حياته إلا بأن يكون حبه في الله وبغضه في الله، أعني الاستقامة الصحيحة التي تثمر في الدنيا وفي الآخرة يوم الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى. الثاني من أسباب أهمية هذا الموضوع: الخلل الواقع في هذا الباب في زمننا هذا، فإن مما يلاحظ أن كثيراً من الناس في هذه الأيام اختلط عليهم ميزان الحب في الله والبغض فيه، وهذا الاختلاط نشأ بالنسبة لهم لأسباب عديدة، لكنه أدى إلى ثمرتين غير حميدتين: إحداهما: اختلال هذا الميزان بين المؤمنين، فأصبحت محبة الناس وموالاتهم ليست في الله وإنما في الدنيا ولأسباب الدنيا. الثانية: اختلال الموازين فيما بينهم وبين أعداء الله تبارك وتعالى، فأصبح بعض الناس ربما يعادي المؤمنين ويوالي أعداء الله تبارك وتعالى، وهذا الخلل في هذه الموازين الواقع في زمننا المتأخر مما يحتاج إلى معالجة قوية تربوية يقوم بها الجميع، بدءاً من الإنسان نفسه فيما بينه وبين ربه، إلى أسرته، إلى جماعات المساجد أو العمل أو غير ذالك، إلى المؤمنين جميعاً؛ ليقوم كل بدوره في رأب هذا الخلل الذي وقع فيه كثير من الناس.

حقيقة المحبة في الله والفرق بينها وبين الحب مع الله

حقيقة المحبة في الله والفرق بينها وبين الحب مع الله هذا الموضوع كما سبق سيكون طرحنا له إن شاء الله تعالى من خلال قسمين اثنين كبيرين، وذلك لأهميته: أحدهما: مقدمات وقواعد لبيان علاقة هذا الموضوع بالمحبة في الله، والفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فإن هذه المسائل مما تختلط فيها الفهوم أحياناً. القسم الثاني: الكلام عن المحبة في الله وأهميتها وآثارها وأسبابها.

تعريف المحبة

تعريف المحبة إن تعريف المحبة لمن أراد أن يعرفها ليس له أدق من تعريف المحبة ذاته، قال العلماء: إن هناك بعض الأمور التي صارت واضحة عند الناس، بحيث إنك لو عرفتها بأي تعريف لا يدل عليها كما تدل عليها نفس اللفظة، مثل تعريف العلم، فلو قيل لك: عرف العلم، فسيقول قائل: العلم ضد الجهل، العلم معرفة الشيء على ما هو عليه، إلى غير ذلك من التعريفات، ولكن في النهاية ينتهي الإنسان إلى أن أحسن تعريف للعلم: هو العلم، وكذلك أيضاً بالنسبة للمحبة، فمهما عرفناها بميل القلب طبعاً أو إرادة، أو بغير ذلك من التعريفات، فليس هناك أدق من تعريفها بالمحبة؛ لأن هذا المعنى قد سرى في الناس وعلموه وعرفوه لغة وطبعاً في نفوسهم وقلوبهم، فأصبح مما لا يحتاج إلى تعريف.

الفرق بين محبة الله ومحبة غيره

الفرق بين محبة الله ومحبة غيره نقول بعد الكلام عن تعريف المحبة: إن هذا الموضوع كثيراً ما يختلط الأمر فيه على بعض الناس، فالمحبة من أسس العبادة التي يجب صرفها لله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يجب تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وحب المؤمنين في الله وبغض الكافرين في الله من أوثق عرى الإيمان, والواجب أيضاً على الجميع أن يحبوا الطاعات التي أمر الله بها، وأن يبغضوا المعاصي الذي نهى الله تبارك وتعالى عنها. فما الفرق بين هذه الأنواع؟ وكيف تكون العلاقة فيما بينها؟ إن ذلك يتبين من خلال الحديث عن القضايا التالية: أولاً: ينبغي أن يعلم الجميع أن محبة الله تعالى هي الأساس التي تقوم عليها العبادة، وذلك مع الخوف والرجاء وبقية أنواع العبادة، وتحقيق لا إله إلا الله لا يتم إلا مع كمال الحب لله وكمال الذل له تعالى، ثم ينتج عن ذلك كمال الطاعة له تبارك وتعالى. وحقيقة الحنيفية التي هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن تخلص حبك لله تعالى بكل قلبك وقصدك، وأن توحد محبوبك في هذا الحب، بحيث لا يبقى في قلبك بقية حب إلا وتبذلها فيه، وإذا تم هذا الأمر تم الأمر الثاني من مقتضيات تحقيق التوحيد والملة الحنيفية، ألا وهو الكفر بالطاغوت والبراءة منه. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان: وإذا لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعاً لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره. وهذا أمر واضح وهي علاقة المحبة بكمال الذل والطاعة، وستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى، لكن كلما عظمت محبتك لربك وإخلاصك لتلك المحبة له تعالى؛ تبين هذا بعظيم ذُلّك لربك تبارك وتعالى وطاعتك له وامتثالك لأوامره واجتنابك لنواهيه. ثم ينبغي أن يعلم أيضاً أن محبة الرب تختص وتتميز عن غيرها في قدرها وصفتها وإفراده تعالى بها، وليس هناك شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده، الذي لا تصلح الألوهية والعبودية والذل والخضوع والمحبة التامة إلا له سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، والإله هو المألوه المحبوب المعبود. ثم ينبغي أن يعلم أيضاً أن الإنسان له قلب واحد، كما قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]، فإذا امتلأ هذا القلب بحب الله تعالى وإرادته وحده، لم يبق فيه مكان لحب من سواه، قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وكلما تمكن هذا الحب في قلب المؤمن لربه تعالى خرج منه الحب والتأله لما سواه، وهذا أيضاً أمر مشاهد، فإن من تعلق قلبه بغير الله وصار محباً له عابداً له مطيعاً له؛ لا يمكن أن يكون في قلبه حب لله تبارك وتعالى ولا طاعة، وكلما نقص هذا نقص من ذاك، والأمر واضح والحمد لله تعالى، لكن ينبغي أن يعلم الجميع أن مسألة كون القلب واحداً، فإنه لا يمكن أن يكون فيه ما يملأ اثنين، وإنما يكون بالنسبة لعبادة الله وحده لا شريك له، وما تقتضيه هذه العبادة من المحبة الخالصة له وكمال الطاعة، فكل من يحب أو يطيع غير الله تبارك وتعالى فإنما تكون محبته وطاعته لأمر آخر كما سيأتي بعد قليل، ومن ثم فإن أكبر ما يميز الفرق بين حب الله وحب غيره، وبين منزلة إفراد المحبة لله تعالى وكونها من أكبر وأعظم قواعد الدين: هو التفريق بين الحب في الله والحب مع الله.

الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

الفرق بين الحب في الله والحب مع الله ننتقل إلى الفقرة الثانية: وهي الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وهذه قاعدة مهمة لابد من إدراكها وفهمها؛ حتى نميز هذه القضايا التي نتحدث عنها. فالحب في الله هو كمال الإيمان، والحب مع الله هو عين الشرك، والفرق بينهما كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): إن الحب في الله تابع لمحبة الله، فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يحبه الله، فإذا أحب ما أحبه ربه ووليه كان ذلك الحب له وفيه، كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويبغض من يبغضهم لكونه تعالى يبغضهم، وعلامة هذا الحب والبغض في الله ألا ينقلب بغضه لبغيض الله حباً؛ لإحسانه إليه وخدمته له وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبه لحبيب الله بغضاً إذا وصل إليه من جهته ما يكرهه ويؤلمه، إما خطأ وإما عمداً، مطيعاً لله فيه، أو متأولاً، أو مجتهداً، أو باغياً نازعاً تائباً. وهذا الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى مهم جداً، فإن بعض الناس قد يكون عنده حب في الله، لكن سرعان ما ينتكس هذا الحب في الله إذا وجد ممن يحبه ما يكرهه، وأحياناً يكون ذلك لأمر شرعي، مثل أن يأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر أو نحو ذلك، وكذلك أيضاًً العكس؛ فإن بعض الناس قد يبغض في الله لكن سرعان ما ينتهي هذا البغض إذا أحسن إليه ذلك المبغض، وهذا هو أساس مشكلة الحب في الله والبغض فيه في زماننا الحاضر، فإن انتكاس الموازين في هذه المسألة إنما ينشأ من الإحسان أو أنواع من العداوة الدنيوية. فالكافر إذا أحسن إلى بعض الناس ربما انتقل بغضه له وكرهه له إلى محبة، وكذلك أيضاً المؤمن الصادق إذا بدرت منه لأخيه بادرة يكرهها فلربما انتقل في حبه إلى بغض، وهكذا تنتكس الموازين في هذه المسألة العقدية العظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم ينبغي أن نعلم جميعاً ونحن نفرق بين الحب في الله والحب مع الله، أن الحب في الله تابع لحب الله، فالإنسان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحب المؤمنين، ويحب الطاعات؛ لأن الله تبارك وتعالى يحب هذه الأشياء جميعاً.

أنواع الحب مع الله

أنواع الحب مع الله أما الحب مع الله فينبغي أن يعلم أنه نوعان كما يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى:

النوع الأول: محبة الأنداد مع الله

النوع الأول: محبة الأنداد مع الله النوع الأول: محبة الأنداد مع الله، وهذا نوع يقدح في أصل التوحيد، وهو شرك، وهذا كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم وأصنامهم مع الله كما يحبون الله، فهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء، وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله، ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد وشدة بغضها وبغض أهلها ومعاداتهم ومحاربتهم، وبذلك أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه، كما نعلم ذلك جميعاً: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكل رسول إنما بعث بالإيمان بالله، وبالكفر بالطواغيت وبغضها ومعاداتها ومحاربتها ومحاربة أهلها.

النوع الثاني: محبة النساء والبنيين والذهب وغير ذلك

النوع الثاني: محبة النساء والبنيين والذهب وغير ذلك النوع الثاني: محبة النساء والنبيين وغير ذلك، وهذا نوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا يخرج من الإسلام، وذلك مثل محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل والمسومة والأنعام والحرث، فيحبها الإنسان محبة شهوة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك. أيها الإخوة! حتى نفرق بين الحب في الله وبين المحبة مع الله في هذا النوع الثاني فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يحبها لله، أي: أن يحب المال والنساء ونحو ذلك لله، توصلاً بها إليه، واستعانة على مرضاته وطاعته، فهذه يثاب عليها، وهي من قسم الحب لله، ولذا يثاب عليها ويلتذ بالتمتع بها، وهذه حال أكمل الخلق الذي حبب الله إليه من الدنيا النساء والطيب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك في الحديث الصحيح، وكانت محبته لها عوناً له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره، وهذا يدخل فيه ما يشبهه، مثل: محبة النكاح لمن أراد العفاف، ومثل أن يأكل الإنسان الأكلة يتقوى بها على طاعة الله، ومثل أن ينام النومة ليستعين بها على الصلاة وعلى عبادة الله في الليل، وغير ذلك من الأمور، فتتحول هذه الأمور المحببة إلى النفس إلى نوع عبادة وطاعة؛ لأنها تؤدي إلى ما يحبه الله تبارك وتعالى ويرضاه. القسم الثاني: أن يحب هذه الأمور لموافقة طبعه وهواه وإرادته، ولكنه لم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم النيل الطبيعي، فهذه تكون من قسم المباحات ولا يعاقب عليها، ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه بمقدار ما يغلو في هذه الأمور، أي: أنه إذا زاد فيها عن الأمر المعتاد فلربما ينقص حبه لله أو محبته في الله بقدر غلوه وزيادته في تلك الأمور، وهذا أمر مشاهد، فإن من تعلق بالدنيا أو تعلق بالنساء فلابد أن ينقص من محبته لله والمحبة في الله بمقدار ما زاد من ذلك التعلق. القسم الثالث: أن تكون هذه الأمور التي ذكرناها آنفاً هي مقصوده ومراده وسعيه في تحصيلها والظفر بها، وقدمها على ما يحبه الله ويرضاه، ففي هذه الحالة تكون له حالتان: الحالة الأولى: أن يقدمها على ما يحبه الله في أصول الدين وأصول العبادة، مثل أن يقدم المال على عبادة الله، أو يقدم محبته للنساء على عبادته لله تبارك وتعالى مثل الصلاة ونحوها، فهذه قد تذهب بأصل دينه. الثانية: أن يقدمها بحيث تؤثر على عباداته لله، لكن لا يقدمها بالكلية، مثل أن تشغله دنياه عن المحافظة على الصلاة في أوقاتها أو نحو ذلك من العبادات، ففي هذه الحالة يتحول صاحبها إلى أن يكون ظالماً لنفسه مقصراً عاصياً، ولكنها لا تخرجه عن دائرة الإيمان.

مستلزمات المحبة في الله

مستلزمات المحبة في الله إن المحبة في الله تستلزم ثلاثة أمور: أولها: محبة الله تبارك وتعالى، وهذه قضية قد لا ينتبه لها البعض، فإن بين المحبة في الله والمحبة لله تلازماً، فمن أحب في الله فلابد أن يكون قبل ذلك محباً لله تبارك وتعالى وإلا كانت محبته في الله كاذبة. الثاني: المحبة في الله ولله تبارك وتعالى. الثالث: محبة ما يعين على طاعة الله تعالى، ومحبة الله ومحبة ما يحبه الله من الطاعات والأولياء من المرسلين والمؤمنين. هذه الأمور كلها متلازمة، فإن من أحب الله تعالى أحب أحباءه ووالاهم، وأبغض أعداءه وعاداهم، وقد اجتمعت هذه الأمور في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، وتأملوا التلازم بين هذه الأمور: محبة الله ورسوله، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ثم أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار، ولما كان الأمر كذلك كان أعظم ما تجب محبته في الله هم الأنبياء والرسل، وأعظم الرسل بالنسبة لنا ممن تجب محبته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك بقية الأنبياء والرسل والمؤمنين جميعاً.

أسس الحب في الله وما يتعلق بها

أسس الحب في الله وما يتعلق بها ننتقل بعد هذه المقدمات والقواعد إلى بيان ما يتعلق بالحب في الله أو المحبة في الله، فنقول: أولاً: ينبغي أن نعلم أن المحبة في الله تشمل أساسين كبيرين: أحدهما: محبته صلى الله عليه وسلم. والثاني: محبة المؤمنين جميعاً، ويتعلق ويرتبط بذلك محبة ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه القضية أيها الإخوة! لابد من بيانها وذلك من خلال ما يلي:

الأساس الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازمها

الأساس الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازمها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي من أعظم أنواع المحبة في الله، وقد فرض الله على العباد جميعاً محبته صلى الله عليه وسلم وطاعته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، وله من الحقوق والواجبات ما هي معلومة لدينا جميعاً، ولأن محبته صلى الله عليه وسلم متميزة عن محبة بقية المؤمنين؛ ومن ثم وجب تقديم هذه المحبة على النفس وعلى الولد والوالد وعلى الناس أجمعين. ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها علامات ولها لوازم أشير هنا إشارات مجملة إلى بعضها فأقول: أولها: أعظم علاماتها ولوازمها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديم طاعته على طاعة غيره. ثانيها: وجوب توقيره واحترامه صلى الله عليه وآله وسلم. ثالثها: محبته صلى الله عليه وسلم محبة تقتضي حبه، وحب سنته، وحب سيرته، وحب أن يكون المؤمن ممن يحشر معه يوم القيامة، وأن يكون ممن يشرب من حوضه، وأن يكون معه صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولمحبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضيات ولوازم كثيرة أعرضت عنها؛ لأن حديثنا هو عن الحب في الله وهو أشمل من ذلك، وقد أُلفت في ذلك كتب تبين مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك أشير هنا إشارة إلى أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها آثار قلبية وعملية في حياة الإنسان، ونقص هذه المحبة تظهر آثاره وعلاماته من خلال أعمال قلب العبد، ومن خلال أعمال جوارحه في الحياة، وتأملوا جميعاً حياة الناس اليوم: هل محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي في قلوب الناس كما ينبغي وكما أوجب الله تبارك وتعالى وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ أقول: إن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يجد نقصاً شديداً في هذه المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فكم من الناس من يقدم طاعة غيره على طاعته؟! وكم من الناس من يهتم بغيره من الناس، وقد يكون هذا الذي يهتم به من الكفار أو المشركين أو أهل البدع أو أهل الفجور أو غيرهم، ومع ذلك يهتم بهم أكثر مما يهتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وآدابه ونحو ذلك؟! وكم من الناس من إذا عرض عليه الأمر أو الخبر أو النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمه إلى عقله كما يحاكم كلام البشر، ولا يسلم الأمر لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم! والله تبارك وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ومن لم يستكمل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبغي فلابد أن يؤثر ذلك على محبته للمؤمنين جميعاً، وهذه أيها الإخوة! قاعدة مهمة تأملوها في حياتكم وفي حياة الناس جميعاً، كلما كملت المحبة لله وكملت المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم بلوازمها وعلاماتها؛ فلابد أن يظهر أثر ذلك على محبة المؤمنين في الله تبارك وتعالى، وكلما نقصت تلك نقصت محبة المؤمنين في الله منها بقدر ذلك النقص.

الأساس الثاني: محبة المؤمنين في الله وآثارها ومميزاتها

الأساس الثاني: محبة المؤمنين في الله وآثارها ومميزاتها إن محبة المؤمنين في الله تعالى من أصول الإيمان؛ بل هي من أوثق عرى الإيمان، ومن ثم فإننا سنعرض لها من خلال ما يميزها وآثارها، فأعظم ما يميز هذا الحب في الله وأعظم آثاره ما يلي: أولاً: أن الحب في الله باق إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، أيها الإخوة! تأملوا هذه الآية كيف تبين الحال يوم القيامة، حيث تبقى محبة المؤمنين فيما بينهم، وتنقلب المحبة في غير الله إلى عداوة في تلك المواقف العظيمة، والله لو تأملناها حق التأمل لراجعنا أنفسنا في هذا الباب، لراجع كل واحد منا علاقاته بالناس وحبه وبغضه؛ لينقل ذلك إلى الميزان الشرعي، حتى تكون محبته ومخاللته وصداقته وأُخوته في الله تبارك وتعالى، حتى تبقى تلك الخلة والمحبة يوم يقف الجميع بين يدي الله تعالى؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث عن يوم القيامة، وذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه). وتأملوا كيف يكون حال رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه يوم القيامة؟! يجتمعان هنالك في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، في ذلك اليوم العصيب الذي تدنو فيه الشمس من العباد ويشتد الكرب والهول، هناك يجتمع المتحابون في الله تعالى ليظلهم الله في ظله الظليل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم، تأملوا هذا الحديث -أيها الإخوة! - حين ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بهذه الصفة: (أين المتحابون بجلالي؟)، أين المتحابون في الله الذين جمعت بينهم أخوة الإيمان وطاعة الرحمن؟ فهؤلاء يوم القيامة تكون لهم هذه المنزلة العظيمة. ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وقال عنه: حديث حسن صحيح: (قال الله تعالى: المتحابون بجلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)، فكفى بهذه المحبة في الله عظمة أن تكون محبة باقية إلى يوم القيامة، وأن يكون للمتحابين في الله تلك المنابر الكبرى يوم القيامة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من المتحابين في الله. ثانياً: بهذه المحبة توجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الإيمان مسألة قلبية إيمانية، يجد لذتها المتحابون في الله، لا لشيء آخر من دنيا ولا غيرها، ويجدون فيها من الراحة وطمأنينة النفس والقلب ما لا يجده الإنسان لا بدنيا ولا بمتعة ولا بغيرهما. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار)، إذاً: محبة المرء لله لا يحبه إلا لله يجد فيها الإنسان حلاوة الإيمان. ثالثاً: الحب في الله من مكملات الإيمان، وتكملة الإيمان وزيادته مما ينبغي أن يحرص عليه العبد المؤمن دائماً، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان)، والحديث رواه أبو داود. واستكمال الإيمان يكون بأمور كثيرة، لكن من أعظم ما يستكمل به الإيمان: الحب في الله والبغض في الله. رابعاً: الحب في الله يرفع العبد إلى أن يكون مع من أحبه، وإن كانوا أعلى منه درجة يوم القيامة، وهذه فائدة فرح بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم كانوا يخافون من تفاوت المنازل في الجنة، بأن تكون منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من منازلهم -وهي أعلى بلا شك- فلا يكونون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلتقون به، ولذا روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحب قوماً ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب)، ففرح الصحابة رضي الله عنهم بذلك فرحاً شديداً؛ لأنهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، فرح الصحابة شديداً؛ لأنهم سيكونون مع رسول الله ومع صحبه الكرام. ونحن نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب صحبه الكرام، وأن يجعلنا معهم في الجنة، كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: (المرء مع من أحب)، في هذا الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما.

علامات المحبة في الله ومظاهرها

علامات المحبة في الله ومظاهرها إن تتبع معالم الأخوة في الله بين المؤمنين وشروطها وموافقاتها مما تكاثرت فيه الأدلة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا هنا إنما أشير إلى بعض هذه العلامات والمظاهر.

العلامة الأولى: التواد والتراحم والتعاطف بين المؤمنين

العلامة الأولى: التواد والتراحم والتعاطف بين المؤمنين إن أبرز مظهر وعلامة لذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم واصفاً المؤمنين: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وهذه علامة دائمة عظيمة تدل كيف يكون المؤمنون جميعاً في محبتهم، يكونون كما مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد.

العلامة الثانية: البعد عن ظلم المؤمنين وخذلانهم وحسدهم

العلامة الثانية: البعد عن ظلم المؤمنين وخذلانهم وحسدهم إن البعد عن ظلمهم وخذلانهم وحسدهم من علامات الحب في الله، وقد يقول قائل: إن هذه أمور عكسية، فنقول: نعم، إذا وجدت المحبة في الله أدت إلى أن الإنسان لا يحسد أخاه ولا يظلمه ولا يخذله، ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الصفات الذميمة في الأحاديث الصحيحة، كقوله: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، ولهذا فمن وقع في شيء من هذه الأمور بالنسبة لإخوانه المؤمنين كيف يقال: إنه محب لهم؟! لو كان محباً لهم لتمنى لهم ما يتمناه لنفسه.

العلامة الثالثة: العفو عن زلات الأخ المؤمن

العلامة الثالثة: العفو عن زلات الأخ المؤمن إن العفو عن الأخ المؤمن وسد خلله ونقصه من علامات المحبة في الله، ولذا قال علي رضي الله عنه: (لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ صديقه في غيبته وبعد وفاته). وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: من صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسد خلله، وعفا عن زلله. وهذه يا أيها الإخوة! علامة مهمة جداً من علامات الحب في الله؛ لأن الإنسان إذا أحب أخاه في الله أحب له كل خير، ومن الخير أن تعفو عنه وتصفح عنه، ومن الخير أن تكمل النقص إذا وقع في خلل ونحوه.

العلامة الرابعة: الرفق بالمؤمنين

العلامة الرابعة: الرفق بالمؤمنين إن الرفق بالمؤمنين وخاصة من ولاك الله أمرهم في أمر من الأمور من علامات المحبة في الله؛ لأن بعض الناس ربما يختل عنده الميزان، فإذا كان في غير موقع المسئولية فإنه قد يحقق الأخوة ويكون طيباً خلوقاً محباً للخير، لكن إذا كان في موقع المسئولية نسي هذا الأصل العظيم، وتحول إلى إنسان شديد يتعامل معهم أحياناً بنوع من القسوة والشدة والبغض، وهذا مما ينبغي أن ينتبه له الإنسان الذي يتولى أية مسئولية مهما كبرت أو صغرت، فليتأمل هذا الباب، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو واجب الطاعة كان من أرفق الناس بالمؤمنين، وسنته وسيرته صلى الله عليه وسلم شاهدة بذلك، وكذلك كان أصحابه من بعده، انظروا إلى تاريخ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكيف كان رفقه ورحمته بالمؤمنين جميعاً في أيام خلافته رضي الله عنه. وانظروا إلى سيرة عمر بن الخطاب، وانظروا إلى سير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً كيف كان الواحد منهم يرفق بالمؤمنين ويرحمهم. وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، لما سأل في يوم من الأيام عن أحوال أحد الجيوش وقد رجع من الجهاد، فأخبروه أنه والحمد لله لم يقع في المؤمنين قتل، قال: هل مات أحد منهم؟ قالوا: لا، سوى رجل عثرت به دابته في الثلج فمات، فأمر عمر رضي الله عنه وأرضاه قواد جيوشه ألا يذهبوا بالجيوش في أماكن الثلج وقت الشتاء رحمة بالمؤمنين. مع أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، لكن انظر كيف تكون المحبة والرأفة بالمؤمنين! وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى رأى صديقه هارون بن عبد الله الحمال في يوم من الأيام يحدث الناس وهو في الظل وهم في الشمس، فلما رآه أتى عليه في الليل وقرع عليه بابه، فلما خرج عليه قال له: ما الذي جاء بك يا أبا عبد الله؟ قال له: لقد مررت عليك وأنت تحدث الناس في الفيء وهم في الشمس، فلا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد معهم. فإذا كان هذا في حال من يعلم الناس ويربيهم ويروي لهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بحال غيره أيها الإخوة في الله؟! إن الإنسان ينبغي له أن يتذكر دائماً هذا الأمر العظيم، وهو أن يكون رفيقاً بالمؤمنين، وخاصة حينما يتولى مسئولية صغرت أو كبرت.

العلامة الخامسة: التزاور في الله

العلامة الخامسة: التزاور في الله إن التزاور في الله لا لشيء من عرض الدنيا من علامات المحبة في الله، ومعلومة قصة الذي زار أخاً له في الله فأرصد الله في طريقه ملكاً وسأله، فأخبره أن الله سبحانه وتعالى قد غفر له؛ لأنه ما ذهب وسافر إلا ليزور أخاه في الله لا لغيرها. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التقاطع وعن التهاجر بغير سبب، وينبغي أن نعلم أن التزاور في الله له علامات، من أهمها: أن يكون هذا التزاور مؤدياً إلى التعاون على البر والتقوى، وأسباب النجاة، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وعمل الصالحات. أما إذا كان التزاور لمؤانسة الطباع وشغل الأوقات ونحو ذلك، فقد لا يكون هذا التزاور تزاوراً في الله، فينبغي أن يلاحظ ذلك.

العلامة السادسة: التنفيس عن كربات المسلمين

العلامة السادسة: التنفيس عن كربات المسلمين إن من علامات المحبة في الله التنفيس عن كربات المسلمين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، واسمعوا لهذا الحديث الصحيح الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً -يعني: مسجده صلى الله عليه وسلم- ومن كف غضبه ستره الله، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل). وقصص السلف رحمهم الله تعالى في إيثارهم لإخوانهم وكشف كرباتهم معروفة مشهورة، فكم تقاسموا الأموال! وكم جرى بينهم ما جرى من الإيثار! وكل ذلك من تحقيق المحبة في الله رجاء لما عند الله تبارك وتعالى.

العلامة السابعة: الحرص على نصح المسلمين

العلامة السابعة: الحرص على نصح المسلمين إن الحرص على نصح المسلمين من علامات المحبة في الله، ولذا يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)، والحديث في الصحيحين، وحديث تميم الداري الذي رواه مسلم: (الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فالنصح لعامة المؤمنين هو من هذا الباب. ومن أعظم آفات الأخوة في الله وأعظم دليل على ضعف الحب في الله: ألا ينصح الأخ أخاه في معصية أو تقصير ونحوه، إما خجلاً منه، أو حذراً من أن يكدر عليه، أو خوفاً من أن يغضب عليه ويبغضه إذا نصح، وكان السلف رحمهم الله تعالى يقولون: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا. إذاً: من العلامات الكبرى للحب في الله أن تحرص على أن تنصح أخاك، وألا تتساهل في هذا الأمر؛ لأن نصحك له في الدنيا بأسلوب طيب جداً له أثره العظيم فيما بينك وبينه، لا في العمل الصالح وإقلاعه عن خطئه ونحو ذلك فحسب، وإنما في المحبة بينكم، فكم من أخوين في الله ازدادت محبتهما في الله؛ لأن كل واحد منهما إذا رأى من أخيه خللاً أو تقصيراً أو عيباً نصحه، وبين له بأسلوب يدل على مدى الحب بينهما، فلنحرص أيها الإخوة في الله! على هذه الصفة، فإنها علامة من علامات الأخوة في الله والمحبة بين المؤمنين، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم منهم.

العلامة الثامنة: محبة من أسدى المعروف والنصح

العلامة الثامنة: محبة من أسدى المعروف والنصح إن هذه العلامة يا أيها الإخوة! مما ينبغي أن ننتبه لها جميعاً وخاصة طلبة العلم، فإن الإنسان ينبغي له أن يخص من أسدى إليه نصحاً أو أفاده علماً أو توجيهاً أو غير ذلك بنوع محبة صادقة، والذي يحدث أحياناً أن يكون هناك نوع من التدابر أو التباغض؛ بسبب الحسد الذي يوقعه الشيطان بين طلبة العلم، بل أحياناً بين التلميذ والأستاذ، وهذا مما ينبغي أن يراعيه الجميع، فالأستاذ والمعلم ينبغي أن يحب تلاميذه، وإذا ما تفوق تلميذ من تلاميذه فعليه أن يفرح بذلك وألا يغضب؛ لأن له من الأجر مثل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه)، فإذا ما علم الأستاذ أن التلميذ هو حسنة من حسناته، وأن له بكل عمل يعمله هذا الإنسان أجراً عند الله سبحانه وتعالى، فإنه والحالة هذه لا يغضب، ولا يأتيه الشيطان ليكدر حاله، وإذا ما تفوق تلميذه فرح له كما يفرح الأب بتفوق ابنه عليه، وكذلك أيضاً بالنسبة للتلميذ مع أستاذه، فالواجب عليه أن يعلم أن أستاذه له فضل عليه، حتى لو لم يفده إلا بكلمة واحدة أو بفائدة واحدة فينبغي أن يحبه من أجل ذلك، وينبغي أن تجمع بين العالم وبين تلاميذه أخوة الإيمان والمحبة في الله رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى. وسوف أضرب مثالاً مما يقع بين الأستاذ والتلميذ من الاحترام والتقدير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى: يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة قال: وصلت الفسطاط -والفسطاط مدينة بمصر- فجئت مجلس أبي الفضل الجوزي، فكان مما قاله هذا العالم في درسه: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى -أي: من نسائه-. قال: فلما خرج اتبعته حتى بلغ منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز وعرفهم غيري؛ فإنه رأى شارة الغربة، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريباً هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا، فقلت له: حضرت المجلس وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وتقول: وطلق، وصدقت، وتقول: وظاهر من نسائه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ظاهر من نسائه، ولا قال لواحدة منهن: أنت علي كظهر أمي. فما الذي فعله هذا الأستاذ مع تلميذه؟ يقول محمد بن القاسم: فضمني إلى صدره وقبل رأسي وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله من معلم خيراً، قال محمد بن القاسم: ثم انقلبت إليه في درس اليوم التالي، وبكرت إليه، فألفيته قد جلس على المنبر، فلما دخلت الجامع ورآني ناداني بأعلى صوت: مرحباً بمعلمي، افسحوا لمعلمي، قال: فتطاولت الأعناق إلي، وتحدقت الأبصار نحوي، وتعرقني جسمي -أي: أصابني عرق شديد من شدة الحياء- قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء لا أعلم في أي بقعة أنا، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الحاضرين، وقال لهم: أنا معلمكم وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم كذا وكذا، فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي، فأتبعني هذا إلى منزلي وقال لي كذا وكذا. يقول محمد بن القاسم: وأعاد ما جرى بيني وبينه في مسألة الطلاق والظهار، وقال أمام الحضور: أنا تائب من قولي بالأمس، راجع عنه إلى الحق، فمن سمعه ممن حضر فلا يعود إليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيراً، وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمنون. تأملوا أيها الإخوة في الله! هذه العلاقة بين التلميذ والمفتي، علاقة تقوي الآصرة بينهما، علاقة عمادها الحب في الله، وعمادها محبة الحق والرجوع إليه، ولو جاء من أي شخص كان، فلا علو ولا ترفع ولا إنكار للحق لأنه جاء من فلان أو فلان، وإنما هو تواضع من الشيخ، وحسن أدب من التلميذ. وهذا مما ينبغي أن ينتبه له طلبة العلم؛ لأن طلبة العلم والدعاة إلى الله تبارك وتعالى هم القدوة لغيرهم، فعليهم أن يكونوا فيما بينهم وبين الناس متحابين متآخين، إذا ذكر الواحد منهم أخاه ذكره بالخير، وإذا سمع طعناً في عرضه دافع عنه، وبهذا يتأثر بهم الناس؛ لأنهم قدوة لهم، والعكس بالعكس، فإذا رؤي منهم الحسد والكلام في بعضهم ونحو ذلك قال الآخرون من عامة الناس: إذا كان هذا العالم الفلاني، أو طالب العلم الفلاني يقدح ويشتم ويسب في أناس علماء أو فضلاء أو نحو ذلك، فنحن إذا صنعنا ذلك مع أمثالنا فلسنا بأقل منهم. ومن ثم فإن تحقيق الأخوة في الله مما ينبغي أن ينتبه له الجميع وخاصة طلبة العلم.

الأمور الجالبة للمحبة في الله تعالى

الأمور الجالبة للمحبة في الله تعالى بعد ذكر هذه العلامات، أحب أن أشير بإيجاز إلى أعظم ما يجلب المحبة في الله؛ لأن لقائل أن يقول: ما الذي يجلب المحبة في الله؟ وأقول: إن الذي يجلب المحبة في الله أمور أذكرها باختصار:

حب الله وحب كلامه ودينه

حب الله وحب كلامه ودينه إن على العبد أن يورث قلبه حب الله تعالى وحب كلامه وحب دين الإسلام، فإذا ما امتلأ القلب بهذا الحب أثر هذا على ما يتبعه من الحب لله والحب في الله.

حب الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه

حب الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه إن حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره وتعظيمه له أثر عظيم في حياة المؤمن، فالمؤمن الحريص على السنة، الحريص على مدارسة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، المحب له المتبع له، هذا الحب ينتقل أثره إلى صاحبه؛ لأنه إذا ما علم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه ولإخوانه وحبه الخير لأمته انتقل إليه ذلك، وهذا أثره ظاهر.

معرفة فضل الحب في الله وأجره

معرفة فضل الحب في الله وأجره أن من عرف فضل الحب في الله حرص عليه، ومن عرف أجر المتحابين في الله فلابد أن يصابر نفسه على ذلك، وأن يربي نفسه وقلبه على أن يكون قلبه محباً للمؤمنين.

سلامة الصدر

سلامة الصدر يقول الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وسليم الصدر هو الذي يجعل القلب محباً لله؛ لأنه لا يحمل ضغناً لأحد. وتعلمون قصة الرجل الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة ثلاث مرات، ثم لحق به عبد الله بن عمرو بن العاص لينظر في حاله، وبات عنده ثلاثة أيام، يقول: فلم أجد عنده مزيد صلاة ولا مزيد نوافل وعبادات، وإنما وجدت حاله مثل غيره، فسألته وقلت له: أنا بت عندك ثلاثة أيام لأجل أن أعرف السبب الذي من أجله قال فيك رسول الله عليه وآله وسلم: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) فقال له هذا الرجل: ليس إلا ما رأيت، إلا أنني آوي إلى فراشي وأبيت وليس في قلبي غل أو حقد على أحد، فسليم القلب يحب المؤمنين ويحب الخير لهم، فاحرصوا أيها الإخوة على سلامة الصدور.

التواضع وعدم التكبر

التواضع وعدم التكبر إن الكبر داء عضال يؤدي إلى الترفع على الناس، ومن ثم يؤدي لا محالة إلى بغضهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد). إن التواضع وعدم الكبر على الناس يجعل الإنسان في نظرته لإخوانه ولعيوبهم ومقارنتها بعيوب نفسه يجعله محباً للخير صادقاً.

أهمية البغض في الله ومدى ارتباطه بالحب في الله

أهمية البغض في الله ومدى ارتباطه بالحب في الله هناك قضية ترتبط بالحب في الله لابد منها ألا وهي: البغض في الله. وأهمية هذا الموضوع تكمن فيما إذا كان الحب في الله مرتبطاً بتوحيد العبادة، فإن البغض في الله مرتبط بالكفر بالطاغوت. وهنا تتبين أهمية هذين الأمرين: الحب في الله، والبغض في الله، وكل منهما مكمل للآخر، ولذا فكثيراً ما يقرن بينهما في الأدلة، مثل بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب في الله وأبغض في الله)، وكذلك أيضاً باب الموالاة والمعاداة، فإن المؤمن يوالي المؤمنين وبالمقابل يعادي الكافرين، ولأجل هذا فإن الحب في الله ما يكمل إلا بالبغض في الله، والخلل في هذا يؤدي إلى الخلل في ذاك، فمثلاً: من اختل عنده ميزان البغض في الله، وصار يحب الكفار أحياناً، أو يحب الفجرة والفسقة ولا يبغضهم لفسقهم وفجورهم، أو يحب أهل البدع ولا يبغضهم لبدعهم، فلابد أن يؤثر هذا على حبه في الله، ولا يستقيم ميزان الحب في الله إلا باستقامة ميزان البغض في الله.

أقسام من يجب بغضهم في الله

أقسام من يجب بغضهم في الله ينبغي أن نعلم جميعاً أن الذين يجب أن يبغضوا في الله قسمان: أحدهما: من يجب على العبد أن يبغضهم بغضاً تاماً، حتى ولو أحسنوا إليه أو أحسن إليهم لسبب من الأسباب، وهؤلاء يجمعهم الكفار من المشركين والملحدين، ومن اليهود والنصارى ومن المرتدين ومن المنافقين وغيرهم، فهؤلاء جميعاً يجب بغضهم بغضاً تاماً، ولا تجوز موادتهم ولا محبتهم؛ فإن الله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22]، وهذا نفي عام يدل على أن المؤمن الصادق لا يكون في قلبه مودة لهؤلاء الكفار أبداً، ولو كان الكافر أباً أو أماً أو أخاً لك أو جاراً أو قريباً أو غير ذلك. وهذا الأمر مما وقع الخلط فيه في أزمنتنا المتأخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله، واختلت فيه بعض الموازين، حتى رأينا بعض الناس يحب الكفار لأسباب تافهة، فقد يحبهم لأجل الكرم، وقد يحبهم لأنهم نصروه في يوم من الأيام لأجل أهدافهم ومصالحهم، وهذا مما ينبغي أن ينتبه له الجميع، فإن الكفار تجب معاداتهم مهما كان بيننا وبينهم من مصالح، ومن حوار بين الأديان الذي يدعو إليه أعداء الله، وربما يخدع فيه من يخدع من المسلمين المغترين في هذا العصر الحديث، فإن اليهود والنصارى هم كفار، فكيف يأتي الإنسان ليجلس في حوار معهم؟! والحوار معناه أن نجعل الإسلام واليهودية المحرفة والنصرانية المحرفة على طبق واحد ننظر في فضائلهم جميعاً ونجتمع عليها! وأنى يكون لعباد عزير والصليب ولإخوان القردة والخنازير وللكفار بالله تبارك وتعالى محبة، ومن الجرأة أن يجعل المسلم هؤلاء الكفار مع أهل الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه. القسم الثاني مما يبغض في الله: من يبغضون بغضاً ليس كاملاً، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يقعون في فسق أو في بدعة غير مكفرة، فهؤلاء لهم محبة عامة؛ لأنهم مسلمون، ولكن يجب بغض ما عندهم من فسق أو بدع، وهذا أيضاً مما وقع فيه الخلل عند بعض الناس، فإنهم قد يحبون الفساق أو أهل البدع؛ نظراً لأنهم غير كفار، ونحن نقول: لابد من ميزان الحق في هذا. فالواجب عليك أن تحبهم محبة عامة؛ لأنهم مسلمون مؤمنون بالله، لكن لا يجوز لك أن تحبهم محبة كاملة بحيث تجعلهم سواسية مع المؤمنين المتقين؛ بل يجب أن تبغض ما فيهم من فسق أو بدعة أو فجور، أن تبغض هذا في الله تبارك وتعالى. وبتحقيق هذا الأصل -البغض في الله- يكتمل الأصل الأول الذي تحدثنا عنه سابقاً، وهو الحب في الله. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من المتحابين في الله، وأن يعيذني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

دروس من الحج

دروس من الحج الحج مدرسة ربانية عظيمة، فيها يتذكر المسلم العرض الأكبر على الله تعالى، يوم يتجرد العبد من كل شيء، ويقدم على الله بعمله، وفيها تسكب العبرات، وتقال العثرات، وتراق المهج، وتخشع النفوس، وتنكس الرءوس. وفيها يتربى المسلم على إنفاق المال، وبذل الغالي والنفيس للهجرة إلى الله وترك حطام الدنيا وراءه ظهرياً. وفيها من العبر والدروس ما لا يحصره إلا العليم العلام، فله الحمد على ما شرع وسن من الأحكام.

الحج رحلة إلى الله وذكرى بيوم القيامة

الحج رحلة إلى الله وذكرى بيوم القيامة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:1 - 7]. هذه الآيات هي مفتتح سورة الحج، والحج رحلة إلى الله تعالى يرحلها العباد مستجيبين لنداء العبودية لله الواحد القهار، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وإذا كانت الصلاة والزكاة والصيام عبادة فإن الحج يتميز عنها بأنه عبادة يترك من أجلها العبد البلاد والأولاد والأحباب والضيعات والأموال، ويقطع المسافات الشاسعة التي قد تمتد الآف الأميال. إن الحج رحلة وهجرة إلى الله تبارك وتعالى، وتجرد الحاج من المخيط، ووقوف الألوف في عرفات محرمين بأرديتهم البيض من أعظم ما يذكر العباد بيوم القيامة والخروج من هذه الدنيا، ليكون هناك الحساب والجزاء بين يدي حكم عدل لا يظلم عنده أحد {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وهذا هو المعنى الذي يربط بين افتتاح سورة الحج بالأمر بتقوى الله تعالى وتذكر زلزلة الساعة العظيمة وبين معنىً من معاني الحج الكبار كان يدركه سلفنا الصالح، أما نحن اليوم فقد صار حج كثير منا نزهة قصيرة، نطارد من خلالها الزمن لنعود إلى ما كنا عليه من لهو وعبث وغفلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قصة أويس القرني مع عمر وعلي

قصة أويس القرني مع عمر وعلي كيف كان يدرك سلفنا الصالح رحلة الحياة القصيرة؟ حج بالناس عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين قبيل استشهاده رضي الله عنه بأيام، وكان شغله الشاغل في حجه البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته، وصعد عمر بنفسه على جبل أبي قبيس، وأطل على الحجيج وهم حول بيت الله الحرام، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من أهل اليمن! أفيكم أويس من مراد؟ فقام شيخ طويل اللحية من قرن فقال: يا أمير المؤمنين! إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له أويس، فأنا عمه، وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالاً، وأوهن أمراً من أن يرفع إليك ذكره يا أمير المؤمنين. فسكت عمر كأنه لا يريده، ثم قال له: يا شيخ! وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم -يا أمير المؤمنين- هو معنا في الحرم، غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلاً لنا. وسرعان ما ركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما على حمارين لهما وخرجا من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعلا يتخللان الشجر ويطلبانه، فإذا هما به في طمرين من صوف أبيض قد صف قدميه يصلي إلى الشجرة، وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده وألقى يديه على صدره، والإبل حوله ترعى، قال عمر لـ علي رضي الله عنهما: يا أبا الحسن إن كان في الدنيا أويس القرني فهذا هو وهذه صفته. ثم نزلا عن حماريهما وشدا بهما إلى أراكة، ثم أقبلا يريدانه، فلما سمع أويس حسهما أوجز في صلاته، ثم تشهد وسلم، وتقدما إليه فقالا له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال أويس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال عمر: من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم. فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته. فقال: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد لله، وإنا لنقسم عليك إلا أخبرتنا باسمك الذي سمتك به أمك. قال: يا هذان ما تريدان إليه؟ أنا أويس بن عبد الله. فقال عمر رضي الله عنه: الله أكبر! يجب أن توضح عن شقك الأيسر. قال: وما حاجتكما إلى ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما أخبرنا، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك، فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر، فلما نظر علي وعمر إلى اللمعة البيضاء ابتدرا أيهما يقبل قبل صاحبه، وقالا: نشهد أنك أويس القرني، ثم بكيا طويلاً، وقالا: يا أويس! إن رسول الله صلى عليه وسلم أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، فإن رأيت أن تستغفر لنا يرحمك الله؛ فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر، فبكى أويس بكاءً طويلا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري. فقال علي: إنا قد تيقنا أنك هو لا شك في ذلك، فادع الله لنا يرحمك الله بدعوة وأنت محسن. فقال أويس رحمه الله: ما أخص باستغفارٍ نفسي ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في ظلم الليل وضياء النهار، ولكن من أنتما يرحمكما الله؟ فإني قد أخبرتكما وشهرت لكما أمري ولم أحب أن يعلم بمكاني أحد من الناس. فقال علي: أما هذا فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأما أنا فـ علي بن أبي طالب. فوثب أويس فرحاً مستبشراً، فعانقهما وسلم عليهما، ورحب بهما وقال: جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً. قالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيراً. ثم قال أويس: ومثلي يستغفر لأمثالكما؟! فقالا: نعم إنا قد احتجنا إلى ذلك منك، فخصنا رحمك الله بدعوة منك حتى نؤمن على دعائك، فرفع أويس رأسه وقال: اللهم! إن هذين يذكران أنهما يحباني فيك، وقد رأوني فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم. فقال له عمر رضي الله عنه: يا أويس! مكانك رحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي؛ فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غداً. فقال أويس: يا أمير المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني، ما أصنع بالنفقة؟! وما أصنع بالكسوة؟! أما ترى علي إزاراً من صوف ورداءً من صوف؟! متى أراني أخلقهما؟! أما ترى نعلي مخصوفتين؟! متى تراني أبليهما؟! ومعي أربعة دراهم أخذتها من رعايتي متى تراني آكلها؟! وتأملوا في قول أويس لأمير المؤمنين يا من تعلقتم بالدنيا وظننتم أن السعادة كل السعادة في أن تكون بين أيديكم الأموال والقصور، انظروا إلى موازين أهل الخير وأهل الحق وأهل الله وأهل الدار الآخرة. قال أويس ينصح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الزاهد العابد رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن بين يديك عقبة لا يقطعها إلا كل مخف مهزول، فأخف يرحمك الله، يا أبا حفص! إن الدنيا غرارة غدارة زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غداً من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار. فلما سمع عمر رضي الله عنه كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقراً لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟! فقال أويس: يا أمير المؤمنين! خذ أنت هاهنا حتى آخذ أنا هاهنا ومضى أويس يسوق الإبل بين يديه وعمر وعلي رضي الله عنهما ينظران إليه حتى غاب فلم يرياه، وولى عمر وعلي نحو مكة رضي الله عنهم جميعاً. أيها الأخ في الله! حديث فضل أويس القرني، وأنه لو أقسم على الله لأبره، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (إن استطعت أن يستغفر لك فافعل) حديث ثابت في صحيح مسلم. أما العبرة من هذه القصة فهي: كيف كانت مواقف الحج عند الأوائل؟ كانت ذكرى ليوم القيامة، كانت ذكرى للرحيل إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الحج رحلة بما فيه من إحرام وتجمع، رحلة تختصر رحلة عمر الإنسان في هذه الحياة. فهل يعي هذه الدروس أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم في معصية الله؟ هل يعيه أولئك الذين يظلمون الناس في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم؟ هل يعي ذلك أولئك الذين بغوا على عباد الله تبارك وتعالى مشرقاً ومغرباً؟

الحج تذكار بالجهاد في سبيل الله

الحج تذكار بالجهاد في سبيل الله بعد آيات الحج في سورة الحج، وبيان مناسكه وفضله، وتعظيم شعائر الله تعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:38 - 40]. وهنا يلتقي الحج مرة أخرى بالجهاد في سبيل الله تعالى، فهو مدرسة من مدارس الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا) كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن الحج يذكر هذه الأمة بالجهاد ويعلمها إياه من خلال عدد من الأمور: أولها: مشقة السفر إلى مكة، فهو شبيه بسفر المجاهدين في سبيل الله تعالى، وإن الرجل ليودع أهله وهو لا يدري هل يرجع إليهم أم لا، خاصة إذا كان من بلاد نائية. ثانيها: السكن في المشاعر، إذا نظرت إليه وجدته شبيهاً بمعسكرات المجاهدين. ثالثها: تنقل وتحرك الحجاج من مكة ومن كل صوب إلى منى، ثم من منى إلى عرفات، ثم من عرفات إلى المزدلفة، ثم إلى منى مرة أخرى، في أوقات محددة منضبطة، وكأنها تنقلات جيوش مجاهدة في سبيل الله تعالى. رابعها: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن سفر المرأة بدون محرم، قام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإنني اكتتبت في غزوة كذا. فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب وحج مع امرأتك)، فنقله صلى الله عليه وسلم من جهاد إلى جهاد. خامسها: سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة جهاداً بالنسبة للنساء، فقال لما سألنه عن الجهاد ولماذا كتب على الرجال فقط؟ قال عليه الصلاة والسلام: (عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). سادسها: الرجل الذي وقصته دابته فسقط منها فمات وهو محرم، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تغطية رأسه عند تكفينه ودفنه وقال: (إنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً). وكذا المجاهد في سبيل الله إذا مات في المعركة فإنه يكفن بأثوابه التي قتل فيها. إن الحج مدرسة جهادية تعلم المؤمنين وتعلم الأمة كلها كيف تنقل نفسها من عاداتها المألوفة، ومن ترفها، ومن دنياها، ومن مناصبها، ومن جاهها، وتنخلع من ذلك كله لتلحق بركب المجاهدين في سبيل الله.

الحج مدرسة لتوحيد الله وطاعته

الحج مدرسة لتوحيد الله وطاعته أيها الأخ الحبيب! مضى درسان من دروس الحج الكبار، أحدهما: نقلة إلى الدار الآخرة، وذكرى بيوم القيامة. والثاني: استعداد ورحيل، استعداد ورحيل إلى الله سبحانه وتعالى بالجهاد في سبيل الله؛ لأن المجاهد باع نفسه لله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، فالمجاهدون باعوا أنفسهم لربهم تبارك وتعالى. ونقف الآن مع درس ثالث، درس يعلم المؤمنين أن هذا الحج مدرسة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في صفاء العقيدة وسلامتها وخلوصها من الشرك بالله تبارك وتعالى. إن إبراهيم عليه السلام الذي بنى هذا البيت هو الذي دعا إلى الملة الحنيفية القائمة على إخلاص التوحيد لله والبراءة من الشرك وأهله، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، فالحج مدرسة ترجع كل مسلم إلى الأصل العقدي الواجب الذي لا يجوز أن نفرط فيه، وهو التوحيد الخالص لله والبراءة من الشرك. وينبثق من هذا التوحيد الطاعة لله تبارك وتعالى فيما أحب الإنسان أو كره، وسواء رضي عنه الآخرون أو لم يرضوا. فهذا إبراهيم يترك ولده الرضيع إسماعيل وأمه هاجر -وقد أنزلهما مكة قبل عمارتها وقبل بناء البيت- يتركهما بلا ماء ولا زاد، ويذهب لأمر الله تبارك وتعالى، وتلحق به هاجر وتصيح به: كيف تتركنا هاهنا؟ وهو لا يلتفت إليها، ولكنها المرأة المؤمنة عرفت السر فقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فأشار إليها أن: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا الله. إنه الامتثال لأمر الله من إبراهيم وزوجه، ولم يضيعهم الله، تفجرت مياه زمزم تحت أقدام الرضيع بعد سعي أمه بين جبلي الصفا والمروة لتكون سنةً وشريعةً إلى يوم القيامة. ولما بلغ إسماعيل السعي مع أبيه وصار بحيث تتعلق نفس الوالد به أشد التعلق أمره الله بأمر عظيم: أن يذبح ولده، فاستجاب الوالد دون تردد، واستجاب الولد وقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وأسلما لربهما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، ووقع الامتثال الكامل، ولكن رحمة الله كانت قريبة، ففداه الله بذبح عظيم، فصارت الأضحية سنة إلى يوم القيامة.

الحج انسلاخ من عادات الجاهلية

الحج انسلاخ من عادات الجاهلية والحج انسلاخ من عادات الجاهلية وما أحدثوه في الحج خاصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة المشركين مع أنهم أهله وقومه وعشيرته وبلاده، ولكنه لم يكن متلوثاً بما تلوث به بعضنا في هذه الأيام من القوميات الجاهلية. أحرم صلى الله عليه وسلم بالعمرة في أشهر الحج مخالفة للمشركين، ووقف مع الناس في عرفات مخالفة لقريش التي كانت تتكبر على الناس وتزعم أنها أهل الحرم، فكانوا لا يتجاوزون الحرم، ويقفون بالمزدلفة يوم عرفة، وأفاض من عرفات بعد الغروب خلافاً للمشركين، ليبين تميز أهل هذه الملة الحنيفية عن اليهود وعن النصارى وعن المشركين أيضاً. أيها الأخ في الله! إن الحج مدرسة عقيدة، الأصل فيه الدين والتوحيد والصفاء لهذه العقيدة والسلامة والبعد عن الشرك بالله، ثم يأتي بعد ذلك ما هو من أعمال الخير كعمارة المسجد الحرام، ولقد عكس المشركون في مكة هذا الأمر، فكانوا ينشرون في بيت الله الحرام الشرك بالله والظلم لعباد الله المؤمنين، ثم يفتخرون بعمارة المسجد الحرام وبالسقاية والرفادة للحجاج، فقال الله تبارك وتعالى عن المشركين: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19].

دورنا تجاه تعليم الحجاج العقيدة السلفية

دورنا تجاه تعليم الحجاج العقيدة السلفية ما دورنا مع الحجاج تجاه هذه العقيدة؟ إنني أقول: لو أن الحج كان بيد الرافضة فكيف سيتحول الحج أيها الأخ في الله؟ سيحولونه -كما نعلم من حرصهم على عقيدتهم وبدعهم وكفرياتهم- سيحولون الحج من أوله إلى آخره مدارس رافضية يعلمون فيها الحجاج الرفض والكفر بالله تبارك وتعالى. فلماذا نحن -أهل العقيدة السلفية- نقصر في هذا الباب تقصيراً عظيماً؟ أنا أعلم أن هناك جهود طيبةً مخلصةً تبذل، ولكنني أقول: بما معنا من إمكانيات مادية، ومن علماء، ومن جهود، ومن إمكانيات متعددة في الإعلام والطباعة وغير ذلك هل نحن الآن نقوم بالمسئولية كما هي وبالواجب كما هو؟ هل يرجع الحجاج وقد تعلموا منا دروساً في الحج؟ خاصة أنهم قد تعلقوا بنا لأننا أهل الحرم وأهل الله سبحانه وتعالى في بيته، فهل قمنا بدورنا أيها الأخ في الله؟ إنني أرى تقصيراً كبيراً. ولذلك فإنني أقول: إن كل حاج منا يتحمل أمام الله مسئولية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هناك بالشريط، وبالكتيب، وبالكلمة، وبالموعظة، وبالتوجيه، وبكل أسلوب يرفع فيه علم هذه العقيدة، ويرفع فيه علم هذا الدين؛ حتى يرجع الحجاج إلى ديارهم وقد أدوا نسكهم، وتعلموا من حجهم العقيدة السليمة الصافية. اللهم! إنا نسألك أن تعيننا وتعين المؤمنين جميعاً على أن يقوموا بدورهم المطلوب تجاه دينهم وتجاه عقيدتهم، اللهم! وفق الحجاج جميعاً لحج مبرور وسعي مشكور، اللهم! اجعل اجتماعهم فاتحة نصر وعز لهذه الأمة تجاه أعدائها مشرقاً ومغرباً. اللهم! انصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وردها إليك رداً جميلاً يا أكرم الأكرمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، وانصر عبادك الموحدين والمجاهدين في كل مكان يا قوي يا عزيز. اللهم! أذل الشرك والمشركين، اللهم! أذل الشرك والمشركين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء، وأراد الحجاج بسوء، فأشغله بنفسه يا أرحم الراحمين، اللهم! أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. اللهم! صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم يا رب العالمين، اللهم! اجعلنا منهم بفضلك وكرمك.

التطبيق العملي للعقيدة

التطبيق العملي للعقيدة الإسلام دين عقيدة وعمل، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، وحين ترك كثير من المسلمين تطبيق العقيدة عملياً، واكتفوا بالجانب النظري حصل الانفصام والخلل، وحصلت الفرقة، وحلت المصائب، ونزلت البلايا والرزايا، ولهذا كان لزاماً على كل مسلم أن يجمع بين التطبيق النظري والتطبيق العملي، فإن هذا هو منهج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

معنى التطبيق العملي للعقيدة

معنى التطبيق العملي للعقيدة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة! أشكر للإخوة المشرفين على هذا المركز أولاً الدعوة للقاء معكم في هذه الليلة. وثانياً: للاختيار الجيد الذي اختاروه ليكون عنواناً لهذا الدرس أو هذه المحاضرة، والذي هو: (التطبيق العملي للعقيدة). أيها الإخوة! التطبيق العملي للعقيدة هو الثمرة الحقيقية لتلك الأمور التي يؤمن بها الإنسان بدأً بالإيمان بالله تبارك وتعالى وانتهاءً بالتصديق بكل ما أخبرنا به ربنا وأخبرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فلو سأل سائل قائلاً: ما هو الهدف من هذه العقيدة؛ والتي تشمل كل ما يعتقده الإنسان، ويؤمن به مما جاءت دلائله واضحة صريحة؟ لجاء A إنه التطبيق العملي. وهذا التطبيق العملي -أيها الإخوة- يبدأ مع الإنسان في هذه الحياة الدنيا في تطبيق مقتضيات تلك العقيدة، ثم ينتهي إلى تلك النتيجة العظيمة حقاً حين يُهدى إلى طريق الجنات؛ فلأن الله هداه في الدنيا فإنه يُهدى يوم القيامة إلى طريق الجنات؛ جنات النعيم عند رب العالمين، ينعم فيها ولا يبأس أبداً، ويخلد فيها فلا يموت أبداً، ويلقى فيها من ألوان النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. إذاً: هي نتيجة عملية في الدنيا ذات تطبيق عملي وذات أثر واقعي على حياة الإنسان في راحته النفسية وطمأنينته القلبية وفي معاشرته ومعاملته لجميع الناس، ثم هي أيضاً نتيجة واقعية عملية حين يلقى الإنسان ربه يوم القيامة بقلب سليم، أي: قلب مؤمن بالله سبحانه وتعالى عامل بمقتضى ذلك الإيمان.

ظاهرة الانفصام بين النظرية والتطبيق العملي

ظاهرة الانفصام بين النظرية والتطبيق العملي إن من مصائبنا نحن المسلمين -وما أكثر مصائب المسلمين اليوم- هي ذلك الانفصام بين النظرية والتطبيق العملي في باب العقيدة، هذا الانفصام تجده مشاهداً على مستويات متفاوتة بين كثير من المسلمين، وهذا مما يؤُسف له؛ حيث تجد النظرية أحياناً جميلة، ممتازة، رقيقة، محبوبة إلى آخره، لكنك تلتفت إلى الواقع العملي فتجد الأمر مختلفاً. وهذه تعتبر من المصائب الكبرى التي إذا أصيبت بها الأمم والشعوب تحولت عقيدتها وإيمانها ودينها إلى نظريات فقط، وانقلبت حياتها العملية إلى حياة أخرى بعيدة جداً عن ذلك التطبيق العملي، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى وهو يعلم تلك العصبة المؤمنة التي نزل عليها القرآن أول مرة، ناداها تبارك وتعالى بذلك النداء الذي يحمل معاني ومعاني، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وإذا كان هذا في باب القول فهو في باب الإيمان والاعتقاد من باب أولى، فإذا كنت تقول في نفسك: إنني أحب الله، وأخلص هذه المحبة لله، فلماذا عند التطبيق العملي تقدم محبة غير الله على محبة الله، وتقدم الهوى والنفس والشيطان والكسل، وتقدم أموراً تافهةً من أمور الدنيا فتحبها وتقدسها، وينشغل لها بالك ليل نهار، ولربما أخرت أو تركت طاعة لله سبحانه وتعالى من أجل ذلك الهوى وذاك الشيطان، وأنت تزعم وتقول: أنا عقيدتي صافية؛ وأنا أخلص المحبة لله سبحانه وتعالى؟! فلماذا اختلف الأمران؟! ولماذا اختلف اعتقادك النظري عن تطبيقك العملي؟! ولماذا تجاوزت التطبيق العملي في هذه المسألة؟! وهي مسألة واحدة من مسائل كثيرة من أمور الاعتقاد. وهكذا يقول الإنسان: إنني أخاف الله، وأفرده بالخوف؛ لأنه وحده هو الذي بيده الأمر كله؛ بيده الحياة والموت، وبيده الرزق، وبيده سبحانه وتعالى كل شيء، فلا أخاف إلا الله؛ لأن البشر لا يملكون من الأمر شيئاً، ثم تأتي إلى هذا الإنسان في واقعه العملي فتجده يخاف من غير الله، فيخاف من سلطان، أو يخاف من جن، أو يخاف من ساحر، أو يخاف من عدو في أمر لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فنأتي ونقول له: لماذا انفصل الأمران عندك؟ فإذا كنت معتقداً تلك العقيدة على وجه صافٍ صحيح مؤصل، فلماذا تخاف من غير الله تبارك وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى؟! وهكذا أيها الإخوة! إذا جئت إلى أي جانب من جوانب العقيدة فستجد أن مصيبة الأمة الإسلامية هي: أنها انفصلت عندها النظريات عن التطبيق العملي، أو بالأصح انفصل التطبيق العملي عن تلك النظريات التي يؤمنون بها ويصدقونها.

منهج الرسل عليهم السلام في الدعوة إلى الله عز وجل

منهج الرسل عليهم السلام في الدعوة إلى الله عز وجل ومن هنا أيها الإخوة في الله! فإنني سأتحدث معكم عن جوانب من هذا الموضوع، وأقول لكم: إن ما سأتحدث عنه ما هو إلا الحلقة الأولى في هذا الموضوع الكبير؛ لأنني وجدت أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه في جلسة واحدة؛ فسأبدأ معكم في الحلقة الأولى، ولعل الله أن يهيئ مناسبة أخرى لنكمل هذا الموضوع المهم، فأقول: أولاً: ما هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟ إن الله تبارك وتعالى رحمة بالبشر أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت منطلقاتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وفي تربية أممهم قائمة على توازن النظرية والتطبيق، حيث يأمرونهم بالحقيقة العلمية المثبتة لوجود الله ولأحقيته بالعبادة وحده لا شريك له، ثم ينقلونهم إلى واقع عملي؛ لتخلص تلك العبادة لله سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، ولهذا فإن دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام تضمنت أصولاً كبرى على رأسها الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادة الله وحده لا شريك له هي أمر عملي، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى؛ لأن الإيمان بالله سبحانه وتعالى له جانبان: الجانب الأول: جانب نظري، والجانب النظري هو ما يقتضي الإيمان بالله وبوجوده وأسمائه وصفاته الذي يُسمى عند كثير من العلماء بتوحيد المعرفة والإثبات الذي هو التوحيد القولي، بمعنى: أن يؤمن الإنسان ويصدق بأن الله موجود، وأنه واحد، وأنه متصف بصفات الكمال، لكن القسم الثاني من التوحيد هو توحيد العبادة، توحيد الألوهية، وهذا الجانب الثاني، وهو التطبيق العملي للجانب الأول، ولهذا نرى أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، فأمرهم بالعبادة، والعبادة أمر عملي، لكن عبادة لمن؟ {رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21 - 22] إلى آخر الآية. إذاً: الرسل عليهم الصلاة والسلام دعوا أول ما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتلك هي القضية الكبرى التي دعا إليها جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكل رسول كان يدعو قومه يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، هذه العبادة هي التطبيق العملي الواقعي الأولي لكل إنسان ينتقل من الكفر إلى الإيمان، ولهذا صار أساساً ومنطلقاً لدعوة كل رسول من الرسل عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. الأساس الثاني المرتبط بالجانب العملي في منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام هو: الامتثال لشرع الله سبحانه وتعالى، والامتثال لشرع الله تبارك وتعالى إنما هو التطبيق العملي في حياة الإنسان، وانتبهوا إلى قضية ارتباط التطبيق العملي في جانب العقيدة، فلا يأتي الإنسان ويقول: أنا أؤمن وأصدق، وفكري نظيف إلى آخره، نقول له: لا يكفي إيمانك وتصديقك القلبي وفكرك النظيف وفهمك، ما لم يتحول إلى واقع عملي، وهذه من القضايا الكبار في باب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فالأمر الثاني هو الامتثال لشرع الله سبحانه وتعالى، والامتثال لشرع الله في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بُني على أمور: الأمر الأول: طاعة كل رسول أرسل إلى قومه، ولهذا كان كل نبي يدعو قومه قائلاً لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، فقوله: (اعبدوا الله واتقوه) هذه عقيدة عملية، ثم يأتي ويقول: (وأطيعون)، أي: في كل ما أمر به هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ومن هنا -أيها الإخوة- كانت طاعة الرسول قرينة لطاعة الله تبارك وتعالى. الأمر الثاني مما يأمر به الرسول مما يتعلق بالامتثال لشرعه هو: ترك المنكرات الظاهرة والتخلي عنها، فالرسول إذا أرسله الله إلى قوم يأمرهم بعبادة الله، ويأمرهم بطاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ثم يركز على أمر اشتهر وانتشر عند هؤلاء القوم، فيطلب منهم التخلي عنه فوراً، كما أمر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بألا يبخسوا المكاييل والموازين، كما حكى الله عنه أنه قال: {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84]، لأن بخس المكاييل والموازين ونقصها عند قوم شعيب كان ظاهرة عامة، يمكن أن نسميه في مصطلحنا الحديث: قانوناً معترفاً به عندهم، أو قانوناً ملزماً يعمل به الجميع، ولا ينكره أحد، فالرسول شعيب عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى أن يتخلوا عن هذا المنكر الظاهر، وقال لهم: يجب أن يتحول هذا إلى أن يكون بالنسبة لكم معصية، ولا يقع فيه الإنسان إلا كان مرتكباً لمعصية من المعاصي. وكذلك أيضاً لما أرسل الله تبارك وتعالى نبي الله لوطاً عليه الصلاة والسلام إلى قومه كانت تلك الفاحشة القذرة المنتنة منتشرة في أولئك القوم، فدعاهم إلى ترك هذه الفاحشة، وأمرهم بأن يعبدوا الله، وأن يطيعوه، وأمرهم بأن يتركوا هذه الفاحشة، فصارت أصلاً من أصول العقيدة؛ لأنها بالنسبة لقوم لوط تحولت إلى منهج ونظام معترف به لدى الجميع، فلوط عليه الصلاة والسلام يقول: استجيبوا واتركوها؛ بحيث تصبح بالنسبة لكم جريمة، وإذا وقعت من واحد منكم يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر، لكن أن تتحول عندكم إلى نظام وقانون عام فلا، فهذه الجريمة البشعة المنتشرة لا يجوز أن تبقى عندكم هكذا. ومن هنا كان منهاج الرسل عليهم الصلاة والسلام مبنياً على هذا. ثم -أيضاً- قام منهاج الرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إلى الكفر بالطاغوت، وكل نبي - كما في الآية السابقة- دعا قومه إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وأن يجتنبوا الطاغوت. وهذا الطاغوت ليس نوعاً واحداً؛ وإنما هو أنواع متعددة، ولقد أجملها بعض الأئمة رحمهم الله تعالى بأنه: كل ما عبد من دون الله من معبود أو متبوع أو مطاع. من معبود: كالأصنام والسحرة والكهنة والجن وغيرهم، أو متبوع: أن يتبعها على غير منهج الله، أو مطاع: في معصية الله تبارك وتعالى تحليلاً وتحريماً وهم يعلمون، فكل من كان على مثل ذلك فهو طاغوت، فكان كل نبي يدعو قومه إلى الكفر بهذا الطاغوت، والكفر بالطاغوت يتحول إلى واقع عملي. هذه إلمامة سريعة مختصرة بمنهاج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، ومنها يتبين أن كل نبي لما أرسله الله إلى قومه لم يدعهم إلى نظريات فقط، وإنما دعاهم إلى إيمان ومعرفة يتبعها تطبيق عملي، ونقلة عملية ينتقل بها الفرد، وتنتقل بها الأمة بكاملها من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من عبادة الهوى والنفس والشيطان إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ومن طاعة الكهان وطاعة الفساق وطاعة المشرعين بغير ما أنزل الله، إلى طاعة هذا النبي الكريم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء القوم.

مظاهر التطبيق العملي للعقيدة في المرحلة المكية

مظاهر التطبيق العملي للعقيدة في المرحلة المكية ثانياً: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. أقول: منهج النبي صلى الله عليه وسلم هو خلاصة عملية تطبيقية عجيبة فريدة لتلك العقيدة، ولقد تمثل ذلك في عدد من القضايا، ومن ثمَّ فإنني أشير إلى بعض منها، فأقول: أولاً: فيما يتعلق بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم: كانت دعوته عليه الصلاة والسلام امتداداً لدعوة الأنبياء من قبله عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، فمنهج الأنبياء جميعاً واحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلف منهجه عن منهج من سبقه، ولقد كان عليه الصلاة والسلام يضرب دائماً الأمثال لأصحابه مما وقع للأنبياء من قبله؛ بل ومما وقع لأتباع الأنبياء من قبله، وكل ذلك لبيان ارتباط تلك السلسلة العظيمة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي ابتدأت بآدم عليه السلام إلى محمد بن عبد الله صلى الله عليهم أجمعين، وهذه السلسلة العظيمة هي سلسلة ذات منهج واحد واضح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم صدق هذا. ثانياً: لدينا جوانب تفصيلية من حياة هذا النبي الكريم يمكن أن نقف عندها وقفات قد تكون أكثر تفصيلاً من وقفاتنا مع الأنبياء الآخرين الذين وردت قصصهم في كتاب الله تبارك وتعالى، أو أشارت إليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أقول: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة في تأسيس العقيدة، ولم يكن ذلك التأسيس نظرياً، وإنما كان عملياً قام على عدد من الأسس، وانتبهوا لهذه القضية! فكثير ممن يتدارسون منهج الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقولون: الرسول مكث ثلاثة عشر عاماً يؤسس العقيدة، ثم انتقل إلى المدينة ليطبق الجوانب العملية والتشريعية للأمة الإسلامية، فقد يظن الظان أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في مكة ثلاثة عشر عاماً يربي ويعلمهم نظرياً، فنقول: لا، بل تلك الفترة المكية كانت فترة تأسيس العقيدة، وكان تأسيساً نظرياً وعملياً في آنٍ واحد لتلك العصبة المؤمنة، وتعالوا نحدد بعض الملامح من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته في مكة:

صراحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في مكة

صراحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في مكة أولاً: دعوة الرسول في مكة قامت أول ما قامت ناصعة واضحة صريحة أمام الطواغيت: فكفار قريش عباد الأصنام والكهنة كانوا هم المسيطرين، ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته عليه الصلاة والسلام لوحده إلا أنه بدأ هذه الدعوة صريحة؛ فبدأها قائلاً لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا). ومعنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، فهي بداية عملية للعقيدة، ولم يبدأ معهم ليقول: أيها الناس! لابد أن تعلموا أن الله هو الحي الضار النافع المحيي المميت، وإن جاءت هذه الأشياء ضمن منهج القرآن، لكن الرسول كان يصدع ويقول: أنا رسول من رب العالمين، وكان يدعو قومه أول ما يدعوهم إليه أن يقول لهم: جئتكم بأمر واحد جلل عظيم، ألا وهو أن تقولوا: لا إله إلا الله، فكان المشركون- وانتبهوا معي لهذه القضية! - يفهمون من تلك البداية وذلك المنطلق من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كانوا يفهمون منه الجانب العملي، ولو كانوا يفهمون الجانب النظري فقط لانتهت المشكلة بينهم في لحظة، ولقالوا جميعاً: كلنا نقول لا إله إلا الله، وكل منهم يسير على ما سار عليه سابقاً. ولهذا لما أمن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع في أحد الأيام مع قريش في مكة، وكانوا يتدارسون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه الأمور التي تعرفونها: تريد مالاً تريد ملكاً تريد كذا تريد كذا، والقصة مشهورة، لكن الشاهد منها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمشركين لما انتهوا من كلامهم: ما جئت أريد كذا ولا كذا ولا كذا، إنما جئتكم بكلمة واحدة، إن قلتموها دانت لكم بها العرب، وخضعت لكم بها العجم، فظن بعض المشركين أن الرسول يطلب منهم كلمة نظرية يقولونها وتنتهي المشكلة، فقال أبو جهل: يا محمد! نعطيك عشر كلمات. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، فهل استجابت قريش؟ A لا. إذا: ً كان المشركون -وهم مشركون- فاهمين لمقتضى العقيدة، فرفضوها عن علم، بينما كثير من المسلمين اليوم ينطق هذه الكلمة (لا إله إلا الله)، ثم يأتي ويعبد الأصنام، ويستغيث بالقبور وهو يقول: (لا إله إلا الله)، لكن المشركين كان الواحد منهم يفهم أنه إذا قال (لا إله إلا الله)، فهي نقلة عملية في حياته، وأول ما يترك عبادة الأصنام، وطاعة الكهان والطواغيت، ويلتزم طاعة الله سبحانه وتعالى، لهذا لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى أن تقولوا: لا إله إلا الله، قالوا جميعاً: لا. إذاً: هو بالنسبة لهم رفض عن علم، كما أنها دعوة صريحة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم يبين فيها أن منطلق العقيدة هو منطلق عملي في حياة الإنسان.

تأسيس توحيد المتابعة

تأسيس توحيد المتابعة ثانياً: فيما يتعلق بالدعوة في مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه كل من آمن به إلى توحيد المتابعة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: فكل من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم واستجاب له فإنه والحالة هذه يتحول إلى عبد لله مطيع للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به. وهذا واقع عملي، حيث كان الواحد من هؤلاء يدخل في دين الإسلام لا يدخل فيه نظرياً، وإنما يدخل فيه نظرياً ويتبعه واقعاً عملياً؛ فيأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: مرني ماذا أقول. والرسول صلى الله عليه وسلم كان مستضعفاً، وكان المسلمون معه مستضعفين في مكة، فجاء واحد من أهل القبائل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، ثم قال له: ماذا تأمرني؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إننا الآن مستضعفون، فاذهب إلى قومك، فإذا رأيتني قد خرجت فائتني، وفعلاً ذهب الرجل إلى قومه مطيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية أتى إليه، فلما سلم عليه قال له: يا رسول الله! هل تعرفني؟ قال: نعم؛ أنت الذي أتيتني يوم كذا وكذا. إذاً: هذه طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم تمثلت في توحيد المتابعة لهذا النبي الكريم، وهذا جانب عملي، بمعنى: أن الذي آمن بالله وبرسوله صارت طاعته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتخلى عن طاعة غير الله. ولكن تعالوا إلى واقع المسلمين اليوم؛ فأحدهم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم تجده في باب الطاعة والمتابعة يتابع غير رسول الله! وهذا خلل في التطبيق العملي، فإذا كنت تشهد أن محمداً رسول الله، وتقر لهذا النبي الكريم بأنه هو المطاع، وبأن أي عمل من الأعمال لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لله متابعاً فيه للرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا تطيع غيره؟! ولماذا تتبع غيره؟! ولماذا حياة المسلمين تحولت إلى خلل في التطبيق العملي للإسلام؟! فالخلل جاء من خلال هذا الواقع المؤسف للأمة الإسلامية، فصارت عندها نظرية قولية فقط (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فالرسول هو الذي يجب أن يطاع ويصدق، وإذا انتقلت إلى الواقع العملي تجده يقول لك: لا، بل إنك تأتي الإنسان في أمر من الأمور وتقول له: إن الرسول نهى عن ذلك، ثم تجده -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يلوي عنقه أحياناً أو يتردد أحياناً، والمرأة المسلمة يأتيها الأمر من الله أو من الرسول بالحجاب وبالستر وبالعفاف، ثم تجد في صدرها حرجاً من أن تستجيب لله ولرسوله، فأين التطبيق العملي؟ وأين زعمي وزعمك بأننا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ربى تلك العصبة المؤمنة على طاعته عليه الصلاة والسلام.

موالاة المؤمنين

موالاة المؤمنين ثالثاً: مما يتعلق بمنهج الدعوة في مكة موالاة المؤمنين: كل من استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به صارت له حقوق الولاء والمحبة والنصرة العملية في حياته، ولهذا فإنني أقول: إن من أعظم جوانب التطبيق العملي في حياة الإنسان العملية في باب العقيدة هي قضية عقيدة الولاء والبراء، والرسول صلى الله عليه وسلم ربى في نفوس أصحابه أن كل من آمن فقد صار مع إخوانه لحمة واحدة، وكل من استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم صاروا لحمة واحدة؛ يعين بعضهم بعضاً، ويساعد بعضهم بعضاً، ويحزن بعضهم لحزن بعض، وهكذا حياة الإنسان العملية في الموالاة التي تربط المؤمن بأخيه المؤمن مهما كانت الأحوال. وتعالوا إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم، فستجدون الولاء أحياناً للقبيلة، وأحياناً للوطن، وأحياناً للمصالح المشتركة، وأحياناً لكذا وأحياناً لكذا، فأين الولاء والموالاة بين المؤمنين التي لا تجمعها إلا رابطة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، فتحب أخاك المؤمن وتعينه، وتنصره، وتؤيده؛ أين هذا أيها الإخوة؟! لقد كان هناك بون شاسع جداً بين حالنا اليوم وبين حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رباهم الرسول في مكة. وتعالوا إلى مثال عملي لا يقدر عليه إلا الرجال: فقد كان ممن آمن في مكة بعض المستضعفين، فصار المشركون يعذبونهم، كآل ياسر، وبلال بن رباح، وغيرهم وغيرهم من المستضعفين، فانهال عليهم الطواغيت تعذيباً، بل بأشد أنواع التعذيب، لكن هل سكت المؤمنون؟ وهل تركوا الموالاة بين المؤمنين؟ A لا؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو لا يملك من الأمر شيئاً- كان يبحث عنهم في مواطن تعذيبهم، ويأتي إليهم في الطرقات، أو في الأماكن التي يعذبون فيها، ويعلن الولاء لهم، ويقول (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة). فأخوك المؤمن الممتحن المبتلى في مشارق الأرض ومغاربها هو بحاجة إلى أن تعينه، وأن تدعو له، والله إنك إذا دعوت له وأعلنت الولاء له، يكون ذلك بلسماً شافياً على قلبه وجراحه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليهم ويقول: (صبراً آل ياسر!)، وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه استخدم ماله في سبيل الله وفي سبيل الموالاة بين المسلمين؛ فأتى إلى أولئك المستضعفين ليغري بهم أولئك المشركين مادياً، ويعطيهم أضعاف أثمانهم؛ ليشتري هؤلاء ويعتقهم في سبيل الله وينجيهم! أرأيتم كيف يكون الولاء بين المؤمنين؟ فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان همه في مكة الدعوة إلى الله، وكان همه في مكة مراقبة المستضعفين من المؤمنين. إذاً: تحول إلى داعية همه ليلاً ونهاراً أن يبذل وقته وماله في سبيل الله تبارك وتعالى، وهذا هو التطبيق العملي، فما قال أبو بكر لا إله إلا الله، وجلس يصلي في بيته مع أنه كان زاهداً عابداً رضي الله عنه وأرضاه، إنما تحول إلى موالاة بين المؤمنين؛ يبحث عن أي مؤمن آمن بالله وهو مستضعف، ثم يأتي إلى أولئك القوم الذين لهم سلطة عليه؛ ليشتريه بأغلى الأثمان، ويعتقه مباشرة.

معاداة الكافرين والبراءة منهم

معاداة الكافرين والبراءة منهم الجانب الرابع من منهج دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: معاداة الكافرين والبراءة منهم ولو كانوا أقرب الناس: وهذا أيضاً منهج عملي؛ فلما آمن المسلمون واستجابوا كانوا في مكة يتعاملون مع الكفار المعاملة الضرورية، لكنهم كانوا يبغضونهم، ويعادونهم أشد العداء، ولو كانوا أقرب الناس إليهم؛ لأنهم كفار، ولهذا نجد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في مكة كانوا يتعاملون مع أقوامهم المشركين على مقتضى هذا المنهج العملي، فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قصته مع أمه معروفة، فهل كانت محبته لأمه وبره بها حاجزاً له عن أن يثبت على عقيدته ويستمر عليها؟ A لا والله! بل إنه رضي الله عنه وأرضاه صبر وصابر مع أن أمه اتخذت معه شتى الوسائل؛ فلا طاعة لمخلوق -ولو كان الوالدين- في معصية الخالق، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في مكة يعلنون البراءة من المشركين؛ وذلك حينما كانوا يصرخون بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

نقل الدعوة خارج نطاق مكة

نقل الدعوة خارج نطاق مكة ثم بعد ذلك من التطبيق العملي في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: نقل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى خارج نطاق مكة: وهذا منهج عملي واضح جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ينشر دعوته بين القبائل، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم تحرك هو نفسه عملياً لنقل الدعوة؛ فذهب إلى الطائف، وتعرفون ما جرى له عليه الصلاة والسلام في الطائف، ثم إنه أيضاً نقل الدعوة إلى المدينة النبوية؛ وذلك حينما استجاب بعض الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، ثم إرسال مصعب بن عمير وغيره من الصحابة للدعوة إلى الله تبارك وتعالى في المدينة النبوية؛ حتى انتشر الإسلام هناك، وصارت مقر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. إذاً: الخلاصة أيها الإخوة! أن الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيقه العملي لما كان في مكة يؤسس العقيدة لم يكن يؤسسها نظرياً، إنما كان يؤسسها عملياً، فكان يقوم بتربية النفوس بالقرآن، وبالصلاة، وبالعبادة، وبالطاعة لله ولرسوله، وبالولاء بين المؤمنين، وبالبراءة والمعاداة للكافرين، وبالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ بحيث تنقل هذه الدعوة إلى أي مكان وفي أية فرصة، هكذا كان واقع الدعوة العملي، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤسس هذه العقيدة.

مظاهر التطبيق العملي للعقيدة بعد الهجرة إلى المدينة

مظاهر التطبيق العملي للعقيدة بعد الهجرة إلى المدينة مما يتعلق بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم: الناحية العملية بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة: فالرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة النبوية وأمر الصحابة بالهجرة، تحولت الحياة هناك إلى تطبيق عملي واقعي للعقيدة الإسلامية. أيها الإخوة في الله! إن من المهم جداً أن تعرفوا أن العقيدة والإيمان والتصديق القلبي بحاجة ماسة إلى أن تتمثل في حياة الإنسان العملية، وأن تعرفوا كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام طبق تلك العقيدة الصافية بين المؤمنين في تلك الأماكن وفي تلك البقاع حين هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة النبوية.

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أولاً: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: والمؤاخاة تطبيق عملي؛ فلا تظنوا أن المؤاخاة هي جوانب مناصرتك ومحبتك، بل هي جوانب رباط تربط بين المؤمنين؛ لأنهم تجمعهم العقيدة؛ ولهذا كانت الأخوة في الله من أهم الأمثلة العملية على صدقنا، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وهذا يأتي من خلال الإيمان، فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن أحب لله وأبغض لله، وعادى لله، ووالى لله؛ فقد استكمل الإيمان. وهذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هي مؤاخاة إيمان، وهي تطبيق عملي لذلك الإيمان، فعليك أنت وأخوك أن تكونوا لحمة واحدة، ويداً واحدة، وعصاً واحدة على أعداء الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار تحول المؤمنون هناك إلى كونهم يداً واحدة فيما بينهم وضد أعداءهم، وانظروا إلى الأمة الإسلامية اليوم كيف أن هذه الأخوة الإيمانية تخلخلت إلا ما عصم ربي، بل أصبح بعض المؤمنين يلاقي من الإيذاء والسخرية والعداء أحياناً من إخوانه المؤمنين أكثر مما يلاقيه من غيرهم: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يؤاخي بين المهاجرين والأنصار كان يطبق تلك العقيدة عملياً في حياة المسلمين، ونحن اليوم وفي كل وقت بحاجة إلى مثل هذه التطبيقات العملية في حياتنا؛ حتى يكون إيماننا حقاً وصدقاً، وذلك حينما نتآخى فيما بيننا، فأخوك المؤمن في الهند، في مصر، في الجزائر، في المغرب، في أوروبا، في أفريقيا، في أي مكان من الدنيا؛ تربطك به رابطة الأخوة الإيمانية، هذه الرابطة التي تجمع المسلمين جميعاً إذا تحولت إلى رابطة إيمانية حقة صار المسلمون كلهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. لكن -ويا للأسف- انظروا إلى أحوال المسلمين تجدوا بينهم من التباغض ومن العداء أحياناً، ومن التدابر ومن التحاسد الشيء العجيب! مع أننا تجمعنا عقيدة واحدة، فكيف يكون هذا أيها الإخوة؟! وأين الإيمان الذي يجعل الإنسان يراقب الواحد الديان في أقواله وأعماله وتصرفاته؟! وأين الإيمان الذي يجعل الإنسان يحب أخاه ويحب له ما يحب لنفسه، ولا يرجو ثواباً من أحد، إنما يرجو وجه الله سبحانه وتعالى؟! هذا الإيمان هو الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه عملياً لما هاجر إلى المدينة؛ فكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي للجهاد في سبيل الله

تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي للجهاد في سبيل الله ثانياً: من الجوانب العملية بعد الهجرة النبوية الجهاد في سبيل الله: وهذا الجهاد في سبيل الله على درجات، لكن أعلاه وأعظمه أن يقدم الإنسان نفسه وروحه في سبيل الله، وهذا ما كان علماً بارزاً من الأعلام التي تدل على حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما فرض الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى كان الواحد منهم يعيش حياته جهاداً من أولها إلى آخرها، وهذا الجهاد هو التطبيق العملي، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من شيء إذا تخلينا عنه -وهو من الآثار العملية التطبيقية للعقيدة- فإننا سنتصف بالذل، فقال عليه الصلاة والسلام: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا أذلهم الله). والجهاد في سبيل الله مثال عملي عظيم، حيث يقدم الإنسان نفسه في سبيل الله تبارك وتعالى، والدنيا لا تساوي شيئاً، والحياة كلها قصيرة ذات كدر، فمن قدم نفسه في سبيل الله تبارك وتعالى في الجهاد فقد أفلح، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل المجاهدين في سبيل الله؛ لأنه فعلاً تطبيق عملي، والواحد منا ما عنده مانع أن يبذل ساعة من وقته، وما عنده مانع أن يبذل جزءاً من ماله، وما عنده مانع أن يبذل شيئاً من جهده وقدرته، لكن أن يبذل نفسه في سبيل الله فلا! ولهذا لما جاء الصحابي الذي اعترف بالزنا والصحابية التي اعترفت بالزنا أقام عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد، ولما رجمت الصحابية رضي الله عنها وأرضاها سبها أحد الصحابة، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن هذه قد قدمت نفسها في سبيل الله، يعني: رضيت أن تقدمها ليقام عليها حكم الله سبحانه وتعالى، فكيف إذا قدم الإنسان نفسه وجاد بها في سبيل الله تبارك وتعالى؟! إن ذلك أعظم دليل على صدق الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولذلك كان حديث القرآن عن المنافقين والمترددين والمشككين وغيرهم أعظم ما يتمثل في تركهم وتقاعسهم عن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، أما ذلك المقبل على الجهاد في سبيل الله مقدماً نفسه، فهذا دليل الإيمان. إذاً: الجهاد في سبيل الله تطبيق عملي عظيم جداً يدل على صدق الإيمان، ويدل على قوة الإيمان، ويدل على أن هذا الإنسان فعلاً يؤمن بالله، ويحب الله، ويحب لقاء الله، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، لهذا كان الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى علامة بارزة عملية في حياة المسلمين. والصحابي الذي كان في وسط المعركة، وليس بينه وبين الجنة إلا لحظات، هذا الصحابي الجليل يقول: (والله! إني لأجد ريح الجنة من وراء أحد)، وآخر كان معه تمرات يأكلها ليتقوى بها على المعركة، فلما بدأ يأكلها استبطأ الجنة، واستبطأ الشهادة في سبيل الله. وقال: إنها لحياة طويلة أن أعيش إلى أن أكمل أكل هذه التمرات! ثم رمى بها، واتجه إلى المعركة، فقاتل حتى قتل في سبيل الله، هذا جانب عملي في حياة المؤمنين، أما الدعاوى فقد يدعي الإنسان ويدعي ويدعي، ثم إذا طُلب منه القليل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تكاسل! وهذا يدل على أن تلك الدعاوى غير صحيحة.

إيجاد النموذج العملي للعقيدة

إيجاد النموذج العملي للعقيدة أيضاً من الجانب العملي لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة: إيجاد النموذج العملي للعقيدة: فقد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تطبيقاً عملياً لكل ما يؤمن به، حيث كان ذا طاعة تامة وامتثال مباشر، وهذه هي الحقيقة الإيمانية. فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر كان بعضهم جالساً يشرب الخمر، فيأتيه الأمر من الله سبحانه وتعالى بتحريم الخمر؛ فيقلع عنه خلال لحظات. والمرأة المسلمة يأتيها الأمر من الله تبارك وتعالى بالحجاب فتبادر بامتثال هذا الأمر الرباني، فتحتجب، وتصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة وهي محتجبة، ولقد كانت الصحابيات كأنهن الغربان حين صلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بالحجاب. فالرسول كان يأمر فينفذ أمره، والرسول يقول فيُسمع ويُطاع قوله، أما نحن اليوم فمن مصيبتنا أننا نؤمن نظرياً؛ ثم إذا جئنا إلى الجوانب العملية نجد التنفيذ قليلاً أو ضعيفاً أو أحياناً لا يوجد تنفيذ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي؛ ولهذا كان كل صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تجده في معاملته وخلقه وسلوكه وأموره كلها تطبيقاً عملياً لهذه العقيدة، حتى إن الواحد منهم كان لا يكذب ولا يغدر، حتى على الكفار. فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه لما أسر وذُهب به إلى مكة سجن، ولما حدد موعد القتل ليشهده الطغاة والكفار في مكة لتنفيذ الإعدام والقتل لهذا الصحابي الجليل سجنوه في أحد البيوت، ومع هذا فإنه رضي الله عنه وأرضاه لم يغدر، حيث إن المرأة أرسلت لـ خبيب الموسى حتى ينظف نفسه؛ ليستعد للقاء الله سبحانه وتعالى والشهادة في سبيله؛ كما يستعد المحرم عندما يحرم بالحج أو العمرة؛ فإنه يتنظف ويزيل عنه شعثه وغبره وشعره الزائد استعداداً للإحرام، كذلك أيضاً فعل خبيب؛ لأنه يعلم أن المشركين حددوا ذلك الوقت ليقتلوه، فأخذ يستعد للقاء الله سبحانه وتعالى، فطلب الموسى حتى يستحد، وحتى يهيئ نفسه؛ ليكون نظيفاً طاهراً في ثيابه وفي جسده الظاهر، كما أنه نظيف طاهر في قلبه وإيمانه رضي الله عنه. فأرسلت المرأة التي كان خبيب يسكن عندها الموسى مع طفلها، فذهب هذا الطفل ليعطيه إياه، فلما مرت عليها لحظات تذكرت أنها وقعت في ورطة، وقالت: أرسلت طفلي بالموسى لرجل ينتظر القتل بعد سويعات، فما يؤمنني لعله أن ينتقم من المشركين بأن يقتل هذا الطفل في آخر لحظة، حتى يؤدب أبا هذا الطفل وغيره ممن تعاونوا على قتله! وفعلاً ذهب الطفل وأعطى خبيباً الموسى، وبعد أن يعطيه الموسى إذا بالأم تأتي هلعة مذعورة، خوفاً على ابنها، فقال لها خبيب: (هل تخافين عليه مني؟! ما كنت لأفعل). إنه خلق الإيمان منه رضي الله عنه وأرضاه! وهكذا يتحول المؤمن في كل مكان إلى واقع وتطبيق عملي لهذه العقيدة، فلا يكذب على إخوانه المؤمنين، ولا على غيرهم، ولا يغدر حتى ولو على الكفار، إلا إذا كان وقت المعركة والحرب مع من لا ذمة له، فالحرب خدعة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من خلق المؤمن أنه لا يستبيح أموال ولا دماء ولا أعراض الكفار إلا إذا كانوا محاربين. إذاً: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد رُبوا على أن تكون حياتهم تطبيقاً عملياً لتلك العقيدة.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من أمور متعلقة بالعقيدة

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من أمور متعلقة بالعقيدة وننتقل إلى الأمر الرابع المتعلق بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، ألا وهو: جوانب من التحذير حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تؤدي إلى واقع عملي فيما يتعلق بالعقيدة وأثرها، ومن ذلك ما يلي:

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن أولاً: حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن والوقوع فيها: لأن الفتن إذا وجدت ووقعت قد تؤدي إلى الضلال والإلحاد، وهذا التحذير تحذير نظري وعملي، وهذا واضح جداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخوض في وقت الفتن، ونهى عن القتال في وقت الفتن؛ لأن هذه الفتن تكون نظرية وعملية في حياة الناس إذا وقعت، والإنسان المؤمن هو الذي يحذرها نظرياً، ثم أيضاً يحذرها عملياً، فلا يخوض فيها، ولا يشارك فيها.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مشابهة الكفار

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مشابهة الكفار ثانياً: التحذير من مشابهة اليهود والنصارى: وهذه مفارقة عملية لحياة المسلمين، وانتبهوا لها أيها الإخوة في الله! فقد جاء أكثر من حديث للنبي عليه الصلاة والسلام حذر فيه من مشابهة اليهود والنصارى والسير في طرقهم، بل صارت المشابهة أصلاً في التحريف، أي أنها جانب عرف عن الكفار واختصوا به، فلا يجوز للمسلمين أن يعملوا ذلك؛ لأنه والحالة هذه يؤدي إلى المشابهة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من ذلك لأن اليهود والنصارى كانوا على ضلال، ولا يزالون على ضلال إلا من هداه الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن يحذر المؤمنين في حياتهم العملية والواقعية نهى عن التشبه بالكفار، وهذا التشبه لو تأملتم اليوم حياة المسلمين ستجدون عجباً! ولو طبقنا هذا لوجدنا جوانب عجيبة في حياتنا يتمثل فيها ذلك، لكن الأمر وللأسف صار بالعكس؛ حيث صارت مشابهة الكفار واليهود والنصارى مسخرة لبعض المسلمين، وانظروا كيف انقلبت الموازين وانعكست في حياتنا؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حذر من مشابهة اليهود والنصارى إنما هو تحذير عملي واقعي يؤدي إلى تطبيق التميز لعقيدة المسلمين، فالمؤمن يتميز في أي مكان عن أي يهودي أو نصراني أو وثني أو كافر أو مشرك، لكن إذا رضي المسلمون تلك المشابهة، ورضوا بأن يكونوا مثلهم في أخلاقهم وسلوكهم، لم يحصل تميز المؤمن من غيره، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (اقتضاء الصراط المستقيم) أن المشابهة الشكلية تؤدي إلى المشابهة العقلية، فالإنسان إذا شارك قوماً في عاداتهم وأكلهم ولباسهم وغير ذلك، فإنه لا محالة تنتهي به الحالة إلى أنواع من المشابهات في أخلاقهم وسلوكهم وربما عقلهم، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً تاماً.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة القبور والبناء عليها

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة القبور والبناء عليها أيضاً من الأمور التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها تطبيق عملي: التحذير من عبادة القبور والبناء عليها وتقديسها ونحو ذلك: ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد)؛ لأن البناء على القبور وتجصيصها ونحو ذلك طريق عملي للشرك بالله سبحانه وتعالى، وينقل الإنسان نقلة خطيرة في حياته؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك؛ لأجل أن تكون العقيدة صافية؛ ولأجل ألا يكون هناك بديل عن العقيدة القائمة على الإيمان بالله وعبادته وحده لا شريك له، فإذا ما عملت الأمة الإسلامية بهذا، وحذرت من ذلك، ومنعت من عبادة القبور والبناء عليها وغير ذلك؛ فإنها -والحالة هذه- تؤسس التأسيس الصحيح لبناء عقيدة سليمة.

وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من الأمور التي ركز عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جانب عملي: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن أعظم مقتضياتها طاعته عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دليل محبة الله ودليل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب أن يقدم الإنسان محبة الرسول على النفس والولد والناس أجمعين. ومن هنا أيها الإخوة! فإن محبة الرسول لا تبقى نظرية، وإنما لها أدلتها وواقعها العملي، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأمر بتقديم محبته على محبة النفس وغيرها، إنما يبني عند الإنسان وفي قلب الإنسان أن تتحول حياته وأموره كلها إلى طاعة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، والحرص على سنته، والحرص على أن يكون الإنسان ممن يُوفق للشرب من حوضه يوم العرصات، وممن يُوفق إلى أن يكون معه في الجنة، وهذه كلها لا تنال بالأماني والنظريات، وإنما تُنال بالمتابعة العملية لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وهكذا أيها الإخوة! هناك جوانب كثيرة جداً في منهج الرسول عليه الصلاة والسلام تدل على ذلك، أكتفي بهذا فيما يتعلق بهذا الموضوع، وبقي علينا موضوعات أخرى تتعلق بالتطبيق العملي للعقيدة، ومنها منهج القرآن الكريم في ذلك، ومنهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وقضايا أخرى أتركها لمناسبة أخرى. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لنا أن نوضحها بإذن الله تبارك وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية موالاة العصاة من المسلمين

كيفية موالاة العصاة من المسلمين Q كيف يكون الولاء لمن كان مسلماً، ولكن عليه كثير من الذنوب والمعاصي؟ A يكون الولاء له بقدر إيمانه، والعداوة والبغضاء بقدر فسقه ومعصيته، فجميع المؤمنين المسلمين لهم الولاء، لكن الولاء والبراء أقسام: القسم الأول: ما كان منه بالنسبة للمؤمنين المتقين الأخيار؛ فهؤلاء لهم الولاء التام. القسم الثاني: الكفار على مختلف أشكالهم، هؤلاء لهم البغض التام والعداوة التامة. القسم الثالث: من كان من المؤمنين عنده معصية أو نحوها لا توصله إلى الكفر، أو بدعة لا توصله إلى الكفر؛ فنحن نحبه ونواليه بقدر إيمانه، لكن نعاديه بقدر معصيته، وتلك المعاداة لها دلائلها، منها الهجر إذا كان ينفع فيه الهجر، ومنها المناصحة المستمرة، ومناصحتك له معناها أنك تظهر له أنك تكره ما عنده من معصية، وهكذا.

الفرق بين خوف العبادة والخوف الطبيعي

الفرق بين خوف العبادة والخوف الطبيعي Q إذا كان هناك رجل يخاف من آخر، ولكنه يخاف من الله أكثر، فهل هذا طبق التطبيق العملي للعقيدة؟ A الخوف قسمان: خوف طبيعي، وهذا لا يدخل في موضوع الخوف المحرم؛ فكونك تخاف من أسد أو من عدو أو من نار؛ هذا خوف طبيعي لا يحاسب عليه الإنسان، والناس يتفاوتون فيه، فمنهم الشجاع ومنهم الأقل. لكن الخوف الذي هو خوف عبادة، هو الخوف من العباد فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي بيده الحياة والموت والرزق وغير ذلك والعباد لا يملكون من هذا شيئاً، فيجب أن تخاف من الله، وأن توحد الله سبحانه وتعالى في هذا الخوف، كما قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فهذا هو الخوف الذي هو خوف عبادة. وقد يقول قائل: اضرب لي مثالاً، فأقول: لو أن إنساناً خاف من ساحر أو من أحد الأولياء في القبور؛ لأن بعض عبدة القبور يقول لك: إذا أنت سببت عباد القبور فسوف ينالك الولي أو الساحر بكذا وكذا، فهل تتخلى عن عقيدتك من أجله؟! وهل تخاف على نفسك منه؟! إنهم لا يملكون من الأمر شيئاً، فإذا أراد الله أمراً كان، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في وصيته لـ ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فهذا الساحر أو الكاهن أو صاحب القبر لا يملك شيئاً، فكيف تخاف منه؟ ولهذا تجد عباد القبور يرجونه ويخافونه من دون الله، كما قال تعالى عن الذين كانوا يخافون من الجن ويتعوذون بهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، أي: تسلط الجن عليهم لأنهم خافوهم من دون الله، لكن كون الإنسان يخاف من فلان أن يضربه أو شيء من ذلك، هذا فيه جزء من الخوف الطبيعي، ولا شيء فيه إن شاء الله.

كتب مهمة في التوحيد

كتب مهمة في التوحيد Q في هذه الأيام يكثر وقت الفراغ، ويُستغل هذا الفراغ بالقراءة، ونود منك أن تنصح بكتاب في العقيدة نقرؤه في هذه العطلة؟ A الكتب تتفاوت بالنسبة لطلبة العلم، لكن أنا أنصحكم في هذه العطلة بمدارسة كتاب (التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأنصحكم أيضاً بقراءة كتاب (التوحيد) للشيخ صالح الفوزان، الذي هو مقرر الثانوية العامة، وطُبع مستقلاً بعنوان (كتاب التوحيد)، وكتاب التوحيد هذا كان مقرراً في الثانوية، وأظنه إلى الآن مقرراً في الثانوية العامة، وهو كتاب لطيف مختصر ممتاز فيه قضايا كثيرة مهمة، فأنصحكم بقراءة هذا الكتاب.

جهل كثير من طلاب المدارس بالعقيدة

جهل كثير من طلاب المدارس بالعقيدة Q في إحدى المدارس الثانوية سأل أحد الأساتذة سؤالاً وهو: ما هو تعريف توحيد الألوهية؟ فلم يعرف أحد منهم، فسأل عن توحيد الربوبية؟ فإذا أحدهم يجيب بقوله: هي أقوال وأفعال مخصوصة تُفتتح بالتكبير وتُختتم بالتسليم، فما تعليقكم على ذلك؟ A أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! أن يعرف توحيد الربوبية بالصلاة، فهذا التعريف هو تعريف الصلاة، فهي: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فإذا كان الفصل لم يعرف ما هو توحيد الألوهية فهذه مصيبة، وإذا كان الفصل لم يعرف أحد منهم تعريف توحيد الربوبية فهذه مصيبة، وإذا كان بعضهم عرف الربوبية بتعريف الصلاة فالمصيبة أعظم، وهذا من الجهل المركب، وهو بخلاف الجهل العادي. يعني: قد يجهل أحدنا مدينة معينة أو يجهل كتاباً، ويقول: أنا لا أدري؛ فهذا ليس فيه شيء، لكن الجهل المركب هو: أن يتراكب عليك الجهل فتظن أن هذا الشيء هو كذا وتفهمه على غير حقيقته، هذا هو الجهل المركب، يعني: قد تسأل واحداً وتقول له: ما هو هذا؟ فيقول لك: لا أدري، فهذا جهل بسيط، لكن يأتي واحد ثانٍ ويقول لعلبة المناديل: هذا ميكروفون، فهذا جهل مركب؛ لأنه لم يعرف الشيء، لكن أضاف إليه أنه عرفه على غير حقيقتة، فكون هذا الإنسان يعرف توحيد الربوبية بالصلاة هذا جهل مركب. وهذا يدل على أن واجبنا كبير بالنسبة لتربية الناس وتفهيمهم بأصول العقيدة، فهذه والله مصيبة، وقد أخبرني أحد الأساتذة وقال: دخلت في فصل الثانوية وطلبت منهم قراءة الفاتحة، فلم يحسن قراءة الفاتحة إلا واحد، فقلت: أعوذ بالله! طالب في الثانوية العامة درس الابتدائي والمتوسط قرابة العشر سنوات ولا يحفظ الفاتحة! هذه مصيبة، فالعامي كبير السن من البادية إذا التقينا به في البادية وصار يغلط في الفاتحة عذرناه، لكن الطالب الدارس ليس كذلك. إذاً: أيها الإخوة! واجب علينا جميعاً أن نعلم الناس هذه العقيدة، وأن نفهمهم إياها، وأن نبسطها لهم.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة نظرية عملية

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة نظرية عملية Q هل كانت الدعوة في مكة عملية ونظرية أم عملية فقط؟ A نحن قلنا إنها كانت نظرية عملية، ولم يكن الجانب العملي ينفك عن النظري، فقد كان العملي مضمناً للنظرية، ولهذا قال العلماء: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية مستلزم لتوحيد الربوبية، فالتوحيدان -توحيد المعرفة وتوحيد العمل- متلازمان، وهكذا كان أيضاً منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته في مكة.

أهمية الإخلاص لله في جانب التطبيق العملي للعقيدة

أهمية الإخلاص لله في جانب التطبيق العملي للعقيدة Q ما هي الوسائل التي تعين الشباب على تطبيق العقيدة تطبيقاً عملياً؟ A الوسائل كثيرة، لكن من أهمها: صدق التعامل مع الله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الوحيد، يعني: أن الآخرين قد يعرفون عنك أو لا يعرفون؛ وقد تخطئ وقد تصيب، وقد ينتقدونك وقد يمدحونك، لكن أهم شيء أن تصدق مع الله سبحانه وتعالى، وأن تعلم أن الخلق من أولهم إلى آخرهم -وأولهم أبوك وأمك وأقرب الناس إليك- لا يستطيعون أن ينفعوك بشيء، ولا أن يضروك؛ ولا يملكون لك من الأمر شيئاً؛ بل لا يملكون لأنفسهم شيئاً. فإذا علمت ذلك وأيقنت فوجه قلبك الله إلى الحي القيوم، ولا توجهه لمخلوق، بل وجهه إلى الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى، كما قال جل شأنه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، فإذا وجهت قلبك إلى الله سبحانه وتعالى أعطاك الله تبارك وتعالى من اليقين والعمل ما يتحول بعونه وتوفيقه إيمانك إلى واقع عملي، وهذا هو باب الإخلاص الكبير الذي يجب أن نتذكره دائماً. فعليك بالإخلاص لله وأنت تعمل، وأنت تدعو إلى الله، وأنت تزور أخاك، وأنت تقدم قليلاً من المال في سبيل الله، وأنت تبتسم في وجه أخيك، وأنت تعمل الأمور الكبيرة جداً، وتذكر أنك تعمل هذا لا لتمدح وإنما لتنال الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ولتجده مكتوباً مسطراً في كتاب {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]؛ ولهذا كان هذا الإخلاص هو الذي قطع قلوب العارفين؛ لأن تهيئة النفس والقلب لهذا الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة، فجاهد قلبك، وإذا ما أخلصت لله سبحانه وتعالى يوفقك الله، ويرضى عنك.

معنى حديث: (إن الله يخرج من النار من قال يوما من الدهر: لا إله إلا الله)

معنى حديث: (إن الله يخرج من النار من قال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله) Q ورد في الحديث: (إن الله يخرج من النار من قال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله)، فما هو معنى الحديث؟ A ليس المقصود من قال يوماً: لا إله إلا الله وفقط، وإنما المقصود من قالها ومات عليها، وأما من قالها ثم نقضها فلا تنفعه، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى ما يبين هذا، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقوله: (من قال لا إله إلا الله صدقاً من قلبه دخل الجنة)، أي: ومات على ذلك، لكن من مات على الشرك فهذا مقطوع بأنه ليس له في الجنة نصيب، بل هو من المخلدين في النار، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم الأكل مع الكفار

حكم الأكل مع الكفار Q لدي عمال وبينهم نصراني ومجوسي، فيأكلون معنا، فهل نخصص لهم أواني مخصصة أو نأكل معهم؟ A أولاً: واجبكم دعوة هؤلاء إلى الله سبحانه وتعالى، فما دام الغالبية مسلمين فالواجب دعوة هذا النصراني وهذا المجوسي، والواجب قبل ذلك على صاحب العمل ألا يستقدمهم إلى جزيرة العرب، بل الواجب على كل صاحب شركة ألا يستقدم إلا مسلمين، وعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى في ذلك. أما بالنسبة للأكل معهم فلا بأس به، لكن على أن تظهروا لهم عزتكم بدينكم. أما هجرهم أو نحو ذلك فإنما يكون إذا كان سبباً في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فالواجب التعاون على البر والتقوى في أن يكون المؤمنون إخوة، وفي أن يكونوا من أهل البراءة من الكفار. أما بالنسبة للأواني ونحو ذلك فلا يُشترط للأكل فيها هذا، كما ذكر العلماء في باب الآنية أنه يجوز استعمالها، وبعض العلماء رأى غسلها خوفاً من أن تكون قد طُبخت فيها لحوم الخنزير أو الميتة أو غيرها، لكن إذا أُمن ذلك فلا بأس.

استقدام عمال نصارى أسلم أكثرهم

استقدام عمال نصارى أسلم أكثرهم Q عندي ثمان فيز للفلبين، فحاولت اختيار مسلم من الفلبين بنفسي ولم أستطع، فأحضرت نصارى، وبعد عدة أشهر أسلم ستة منهم وبقي اثنان ولا زلنا نحاول معهم، فما تعليقكم؟ A جزاك الله خيراً، وكان الأولى أن تكون أتيت بالمسلمين، لكن أنت -إن شاء الله- مادمت قد أتيت بكفار وعملت معهم، فنرجو -إن شاء الله- أن يكون قد كفر عن ذنبك بإسلام هؤلاء، ونسأل الله أن يهدي بقيتهم للدخول في الإسلام.

خطأ من يقول: إن الرافضة إخواننا في الإسلام

خطأ من يقول: إن الرافضة إخواننا في الإسلام Q لقد بلغ بعض المسلمين من ضعف العقيدة أن يعتقد أن الرافضة هم إخواننا في الإسلام، فما رأيكم؟ A هذا أمر فعلاً يدل على تخلخل الفهم الصحيح لهذه العقيدة، وإلا فمن فهم عقيدة الإسلام الصافية وفهم شيئاً من عقائد هؤلاء عرف الحقيقة، وعرف أن هؤلاء الرافضة الإثني عشرية ليسوا من الإسلام في شيء؛ بسبب عقائدهم وأصولهم الكفرية المعروفة.

تحقيق العقيدة لا يتم إلا بالعمل

تحقيق العقيدة لا يتم إلا بالعمل Q كيف نرد على من ادعى أن تحقيق العقيدة يكون بالقلب، ولا دخل للأعمال بذلك؟ A نقول له: أنت مخطئ؛ بل بداهة لابد من دلالة، يعني: لو جاءنا إنسان وقال: أنا مهندس، وأخذ يلقي علينا محاضرة ليثبت لنا أنه مهندس، ثم لما قلنا له: صمم هذه العمارة فقال: لا أستطيع، فسنقول له: إذاً كلامك نظري لا نقتنع به، ولا يفيدك شيئاً، وكذلك أيضاً إذا قال إنسان: أنا مؤمن بالله وأطيع الله وأطيع الرسول، فلا يقبل إلا بدليل العمل، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- في القسم الثاني فيما يتعلق بالتطبيق العملي في منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب.

الفرق بين المداهنة والمداراة

الفرق بين المداهنة والمداراة Q ما الفرق بين المداهنة والمداراة في مجال الدعوة؟ A المداهنة: أن تداهن في دينك، والمداراة: أن تداري فيما تستطيع من مالك ونحوه، فالمداهنة أن تتخلى شيئاً فشيئاً عن الدين من أجل فلان أو علان، فهذه مداهنة لا تجوز، وإذا سكت عن معصية ظاهرة فهذه مداهنة. لكن المداراة أن تداريه وتبتسم له كفاً لشره، وتبذل شيئاً من مالك لجارك أو لغيره بالإحسان أو نحو ذلك، هذا كله من باب المداراة، لكن المداهنة تكون على حساب الدين، وهذا لا يجوز. هذا باختصار شديد؛ والمسألة فيها تفصيل. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وجزاكم الله خيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله رب العالمين.

منهج تلقي العقيدة عند السلف ومنهجهم في الاستدلال

منهج تلقي العقيدة عند السلف ومنهجهم في الاستدلال ليس من شك أن منهج السلف الصالح وفهمهم للدين أصلح وأحكم، وأعمق وأسلم، فقد عاشوا الوحي والتنزيل، فكانوا لذلك أعرف الأمة بالتفسير والتأويل، وهم المشهود لهم بالخيرية في القرآن، وعلى لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يعيب فهمهم، ولا أن يتنقص علمهم، فما المتأخر بالنسبة لهم إلا كزرع صغير في أصول نخل طوال.

مقدمات لابد منها في منهج العقيدة

مقدمات لابد منها في منهج العقيدة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! موضوعنا لهذه الليلة هو كالمقدمة للدروس القادمة إن شاء الله تعالى، ومن ثم فسيكون الحديث بعون الله تبارك وتعالى في هذه الليلة عن منهج السلف رحمهم الله تعالى في الاستدلال، ومنهجهم في تلقي هذه العقيدة، وقد سبق أن طرحت هذا الموضوع أو قريباً منه، ومن ثم فسيكون حديثي إن شاء الله تعالى مستكملاً لما سبق. تعلمون جميعاً أن مسألة الإيمان والحكم به على الناس ودخول الناس في الإسلام مسألة أصيلة في حياة البشر، وكيف لا تكون كذلك والله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، ولأجل هذا، ولأجل أن تقوم الحجة عليهم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح للناس المحجة، حتى ترك رسل الله عليهم الصلاة والسلام -وعلى رأسهم هذا الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- أممهم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أيها الإخوة! لما كان الأمر كذلك كانت مسألة العقيدة والاعتصام بها، وسلوك منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ليست مسألة اجتهادية يأخذ بها من شاء، ويتركها من شاء، وإنما هي مسألة عقيدة تمس حياة الإنسان في هذه الدنيا، وتمس موقفه يوم القيامة حينما يقدم على ربه تبارك وتعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن هذه الواحدة هي الجماعة، وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولما كانت هذه القضية -قضية الاعتقاد على منهج السلف رحمهم الله تعالى- قضية مهمة يجب أن يبحث عنها كل مسلم، ويجب أن يعتمدها، كان حديثنا هذه الليلة لبيان بعض معالم هذا المنهج. وقبل الدخول في شرح بعض قضاياه أود أن أقدم بعدة مقدمات مهمة:

تقسيم الدين إلى أصول وفروع

تقسيم الدين إلى أصول وفروع أول هذه المقدمات: أنه اشتهر عند كثير من أهل الكلام وممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الفلسفة وغيرهم تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فيقولون: إن هذا أصل من أصول الدين، وهذا فرع من فروع الدين، فيجعلون مسائل الاعتقاد من أصول الدين، ومسائل الأحكام الشرعية الفرعية من فروع الدين، ثم يرتبون على هذا عدة ترتيبات، فمثلاً يقولون: إن الخطأ في مسائل الأصول قد يوصل صاحبه إلى الكفر، لكن الخطأ في مسائل الفروع، لا يوصله إلى الكفر وإنما يبقى خطأ اجتهادياً. أيضاً من ناحية الإثبات: فإنهم قد يثبتون الفروع بأخبار الآحاد، ولكن الأصول يرفضون أن يثبتوها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقتصرون في إثباتها على المتواتر، وعلى أدلة العقول كما هو منهجهم. وهؤلاء الذين قسموا الدين إلى أصول وفروع خلطوا خلطاً عجيباً في هذا الباب، ولاشك أن تقسيمهم حادث لم يكن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا على عهد القرون المفضلة من السلف رحمهم الله تعالى، فمثلاً: يجعلون كل قضية خبرية تتعلق بالإيمان بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو باليوم الآخر أو نحو ذلك من أصول الدين، وكل قضية تتعلق بأحكام الفروع ولو كانت الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام يجعلونها من فروع الدين، وجعلوا الأمور الأولى أموراً مهمة، والأمور الأخرى أموراً فرعية ليست ذات أهمية، والحق أن هذا التقسيم خطأ كبير جداً؛ لأن الدين الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وقال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) شامل للإسلام بأركانه الخمسة، وشامل للإيمان بأركانه الستة، كما أنه أيضاً شامل للإحسان، وهو المرتبة العليا من الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). ومن ثم: فإن مسألة الصلاة يقولون: إنها من فروع الدين، ولكنها بلا شك من أصول الدين، بمعنى أن الإقرار بهذه الصلاة واعتراف المؤمن بها أصل من أصول الدين، ومن جحدها فهو كافر بإجماع العلماء. وكذلك الزكاة، وأيضاً تحريم الربا، وتحريم شرب الخمر، وتحريم الزنا وغير ذلك، فهذه كلها أمور معلومة من الدين بالضرورة، فهي من أصوله، فمن جاء ليجحدها ويقول: إن الله لم يحرم الربا، أو إن الله لم يحرم الخمر، أو إن الله لم يوجب الصلاة أو الزكاة فهو خارج عن دائرة الإسلام، فكيف يأتي قائل بعد ذلك ليقول: إن هذه من فروع الدين وليست من أصوله؟! فحينما نأتي ونقول: منهج السلف رحمهم الله تعالى في الاعتقاد لا يعني قضايا الاعتقاد التي يتحدث عنها بعض الناس، وإنما يشمل هذا أصول الدين التي هي أصول، ومن ثم: فإن التقسيم الصحيح لهذه المسائل إنما هو بتقسيمها إلى قسمين: خبر وطلب. القسم الأول: خبر إما عن الله أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو خبر عن اليوم الآخر أو غيره من الأخبار، فهذه كلها تسمى أخباراً. القسم الثاني: طلب، وهذا الطلب هو الذي فيه الأوامر والنواهي، ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به من الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، وما نهانا الله سبحانه وتعالى عنه من أكل الربا والخمر وغير ذلك، وهذا هو التقسيم المناسب والصحيح لهذا الدين، وكل من الخبر والطلب فيه ما هو أصول، وفيه ما هو فروع، وهذه هي القضية الأولى التي وددنا أن نشير إليها هنا.

أقسام الناس في اتباع الكتاب والسنة

أقسام الناس في اتباع الكتاب والسنة المسألة الثانية: هي أن المتتبع لأحوال الناس جميعاً يجدهم ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: القسم الأول: المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم على منهج الحق ظاهراً وباطناً. القسم الثاني: المخالفون في ذلك، المعترضون على حكم الله وأمره، وعلى حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمره، ومن ثم: فإننا نشير هنا في هذه المقدمة إلى أنواع الذين اعترضوا على أمر الله سبحانه وتعالى وحكمه وشرعه، وهؤلاء ثلاثة أنواع: النوع الأول: الذين يعترضون بالشبه الباطلة، والتي يسمونها قواطع عقلية، وليست قواطع عقلية، وإنما هي خيالات، كالذين ينكرون أسماء الله وصفاته، أو عموم قدرته تبارك وتعالى، أو غير ذلك بأدلة العموم، هذه هي الطائفة الأولى من المتفلسفة وأهل الكلام وغيرهم. الطائفة الثانية: الذين يعترضون على شرعه وأمره، وهؤلاء ثلاثة أقسام: القسم الأول منهم: الذين يعترضون بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أباحه الله سبحانه وتعالى، أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه إلى آخره، وهؤلاء هم أصحاب الأقيسة العقلية الفاسدة التي أرادوا أن يفسدوا بها دين الله سبحانه وتعالى. القسم الثاني: الذين يعترضون على حقائق الإيمان وعلى حقائق الشرع بما عندهم، أو ما يسمونه بالأذواق والمواجيد والخيالات وغيرها، وهذا مشهور عند المتصوفة، فإن هؤلاء يعتقدون أن هذه الكشوفات -وهي كشوفات باطلة- تقدم على حقائق الإيمان والشرع، وقد يصل ببعضهم الأمر إلى أن يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذا مرتبة من مراتب الولاية. القسم الثالث: الذين يعترضون على شرع الله وأمره بالسياسات الجائرة التي يقدمونها على حكم الله سبحانه وتعالى وعلى حكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه الأقسام الماضية كل واحد منهم يقدم أمراً على أمر الله ورسوله، فالأولون إذا تعارض عندهم العقل والنقل قالوا: نقدم العقل. الطائفة الثانية: إذا تعارض الأثر مع القياس قدموا القياس على الأثر. الطائفة الثالثة: إذا تعارض الذوق والوجد والكشوفات مع ظواهر الشرع قدموا أذواقهم وكشوفاتهم. النوع الرابع: أصحاب السياسات يقولون: إذا تعارضت السياسة والشرع نقدم السياسة وهي السياسة الجائرة. النوع الثالث: الذين يعترضون على أفعال الله سبحانه وتعالى وقدره، وهؤلاء هم أعظم الناس ضلالاً وجهالة. وهذه الاعتراضات التي أشرنا إليها قبل قليل هي اعتراضات أولئك الذين يريدون أن يحرفوا الناس عن دينهم، وأن يبدلوا شرع الله سبحانه وتعالى ودينه بعقائد وفلسفات، ويريدون أن يصرفوا الناس عن تحقيق وتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، وهذا مبني على النقطة الأولى، وهو: أننا لا نقسم الدين إلى أصول وفروع، بل الدين كله دين، والتزام أمر الله وشرعه، والتزام العقيدة الصحيحة، كل ذلك شيء واحد يجب على الجميع أن يلتزمه، ولا يجوز لإنسان أن يعتقد أنه يجوز أن يتخلى عن شيء من ذلك.

المنهج العقلي الذي يصحح كل المفاهيم والمناهج

المنهج العقلي الذي يصحح كل المفاهيم والمناهج المسألة الثالثة في هذه المقدمة: أنه قد نبغت نابغة من قديم الزمان وهي موجودة إلى الآن جعلوا لهم منهجاً عقلياً، وهذا المنهج العقلي يسمى قديماً بالسوفسطائية، ويلتزمه كثير من أرباب الفلسفات المعاصرة، وقد ينتحله كثير من أرباب الحداثة وغيرهم، وهؤلاء هم الذين يقولون: ليس هناك حق ثابت في نفس الأمر، بل كل من اعتقد عقيدة، وكل من قال قولاً، فإن قوله يحتمل أن يكون حقاً، بل يجب أن يكون حقاً، وهؤلاء هم الذين يتنكرون لكل ثابت، ويقولون: إنه ليس هناك شيء ثابت في دين الله سبحانه وتعالى، فيناقشون في البدهيات، ويدعي الواحد منهم علم كل شيء، والحق عند هؤلاء مسألة نسبية وإضافية، وهو ما يراه كل شخص بعينه، وهذه القضية تجد كثيراً ممن يطرحها ويقول: لماذا نأتي ونقول: نرجع إلى مذهب السلف الصالح؟ ولماذا تريدون أن تعودوا بنا إلى ذلك العهد؟ الظروف تختلف، والأحوال تختلف، ومن ثم فإن الحقائق أيضاً تختلف، ولما كان الأمر كذلك فإنك تجد الواحد من هؤلاء يظن أن كل من انتحل نحلة أو اعتقد عقيدة فإنه يجوز أن تكون هذه النحلة وهذه العقيدة صحيحة، وهذا ما نشاهده لدى كثير من العلمانيين والحداثيين وغيرهم، يقول الواحد من هؤلاء: إن كل شيء تنتجه الأرض الإسلامية فهو إسلامي وهو حق، ويجب أن نصدقه، ويجب أن يكون منهجاً لنا في مستقبل حياتنا، ولو كان هذا الشيء كفراً وشركاً وإلحاداً وغير ذلك، وهذه قضية من القضايا التي يطرحونها دائماً وباستمرار، وينبغي أن يتنبه لها أهل العلم، وطلبة العلم، والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فقضية الرجوع إلى منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى هي مسألة دين وعقيدة، وليست مسألة اجتهاد، وكل مجتهد مصيب كما يزعم كثير من هؤلاء.

مصدر التلقي عند السلف الصالح

مصدر التلقي عند السلف الصالح بعد هذه المقدمات الثلاث ننتقل إلى منهج السلف رحمهم الله تعالى ومصدرهم في التلقي.

الكتاب والسنة مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة

الكتاب والسنة مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة أول قضية بدهية تقف معنا في هذا الباب هي أن مصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هو الكتاب والسنة، فكتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المصدران الأساسيان لهذه العقيدة، ولا يجوز لأي إنسان يدعي الإسلام ويدعي أنه مؤمن بهذا الدين أن يتخلى أو أن يتنقص هذين المصدرين بأي حال من الأحوال، وهذه قضية دلت عليها الأدلة الكثيرة، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، وهذا دليل على أن من اعتمد على الكتاب والسنة ولم يخرج عنهما فهو الذي سلك المنهج الحق، ولا خيار لأي إنسان أن يسلك أي منهج شاء، يقول سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، وهذا في الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويتركون بعضه. أما من السنة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في هذا الباب تبين وجوب اتباع شرعه، وأنه عليه الصلاة والسلام آتاه الله القرآن ومثله معه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. فمسألة الاعتصام بالكتاب والسنة مسألة أساسية، وهي المصدر الأساسي لتلقي هذه العقيدة بأصولها وفروعها، والسلف رحمهم الله تعالى كانوا مسلمين بهذا تسليماً تاماً، ولما سئل الزهري رحمه الله تعالى عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من شق الجيوب) ما معناه؟ فقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى كلمته المشهورة: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. فما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيار لأحد أن يسلكه أو لا يسلكه، بل يجب عليه أن يسلكه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فالخيرة ليست لأحد، وإنما هي لما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما اللذان سلكهما السلف الصالح رحمهما الله تعالى، وهما اللذان يجب أن نسلكهما إذا أردنا أن تعود لهذه الأمة الإسلامية حقيقة مجدها وعزها الذي عاشت فيه، والله سبحانه وتعالى تكفل بنصر دينه إذا نحن نصرناه، يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ونصر الله سبحانه وتعالى إنما يتحقق إذا نصرنا دينه، ونصر دينه إنما يكون بالاعتصام بهذا الدين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أقسام الناس تجاه الكتاب والسنة

أقسام الناس تجاه الكتاب والسنة الناس تجاه هذين المصدرين -الكتاب والسنة- على أنواع: النوع الأول: الذين يقبلونه ظاهراً وباطناً، يقبلون ما جاء به الكتاب ظاهراً وباطناً، وهؤلاء قسمان: أهل فقه وفهم، وأهل حفظ ورواية. النوع الثاني: الذين يردون الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهؤلاء أيضاً قسمان: قسم عرف الحق ولكنه حسداً من عند نفسه رفض الإيمان، ورفض اتباع الكتاب والسنة، والقسم الثاني هم أتباع لهؤلاء. النوع الثالث: هم الذين قبلوه ظاهراً وردوه باطناً، وهؤلاء هم المنافقون الذين يعلنون أنهم مؤمنون، وأنهم لا يرضون عن الكتاب والسنة بديلاً، ثم هم في الباطن يحاربون الكتاب والسنة، ويحاربون الدعاة إلى الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. النوع الرابع: من قبله باطناً وجحده ظاهراً، وهذه قد تحدث للمستضعفين في بعض الأزمان وفي بعض الأماكن، فلا يستطيع أن يظهر الإسلام، بل قد يضطر إلى أن يعلن أنه ليس من أهل الإسلام وإنما هو في حقيقة أمره في الباطن من المؤمنين الصادقين، وهذا حدث في فترات من تاريخنا الإسلامي، ففي الأندلس لما هجم النصارى على المسلمين هناك أرغموهم على إعلان النصرانية، فكان المسلمون هناك يظهرون النصرانية ويذهبون بأولادهم إلى الكنائس، ثم إذا رجعوا إلى بيوتهم يجلسون في الخلوات يعلمون أولادهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلك محنة جرت للأمة الإسلامية يطول وصفها.

المعالم الأساسية في الاعتماد على الكتاب والسنة

المعالم الأساسية في الاعتماد على الكتاب والسنة ينبغي أن يعلم أن الاعتماد على الكتاب والسنة له معالم أساسية، وأول هذه المعالم: أن الإيمان لا يتحقق إلا بذلك. الأمر الثاني: أن العقول البشرية لا يمكن أن تستقل بتحصيل المعارف بنفسها، فلا بد من الالتزام والاعتماد على خبر الصادق. الأمر الثالث: ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم تمام العصمة فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى. الأمر الرابع: ينبغي أن نعلم أنه لا يمكن أن تكون بين نصوص الكتاب والسنة تعارض وتنازع، فلا يمكن أن يأتي نص يناقض نصاً ولا يخالفه؛ لأن نصوص الكتاب والسنة كما سلف قسمان: إما أخبار وإما أوامر ونواهي، فأما الأخبار فإن هذه لا يمكن أن يأتي نص يخالف نصاً أبداً، وأما الأوامر والنواهي فهي الأحكام الشرعية التي قد يدخلها النسخ، وقد تختلف فيها اجتهادات العلماء كما اختلف فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهذه من حكمة الله تبارك وتعالى، لكن لا يمكن أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد نصان متعارضان أبداً، وإنما قد يرد نص في الدلالة على أمر معين والأمر به، ثم بعد ذلك ينسخه الله أو ينسخه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تبارك وتعالى، لكن أن يكون هناك نصان يتعارضان فهذا لا يمكن أن يحدث أبداً. وفي ختام الكلام على هذين المصدرين أود أن أشير إلى فكرة ربما يطرحها بعض الذين في قلوبهم مرض من العلمانيين وغيرهم، وهذه الفكرة قد تكون بدأت بوادرها الآن وهي: أن هؤلاء يرفعون الآن لواء الرجوع إلى الكتاب والسنة دون الرجوع إلى فهم السلف للكتاب والسنة، وهذه قد تكون كلمة حق ولكن أرادوا بها باطلاً، وهم يعلمون أنه لا يمكن الهجوم على الكتاب والسنة، ولا يمكن أن يكون هناك رفض تام للعقيدة، ولا للكتاب ولا للسنة؛ لأن هذه ردة مفضوحة لا يستطيعون أن يطرحوها، فلجئوا إلى أسلوب آخر يريدون أن يبدءوا من خلاله تحطيم شريعتنا وتحطيم عقيدتنا، فجاءت هذه الفكرة تقول: ينبغي أن نرجع إلى الكتاب والسنة، وأن نفهمهما من خلال واقعنا المعاصر، ولا نلتفت إلى فهم السلف، ولا إلى فهم العلماء السابقين، ولا إلى ما أصلوه من أصول، ولا إلى ما قعدوه من قواعد، ومن ثم فنحن نرجع إلى الكتاب والسنة ونتدارس مفاهيمهما وما نخلص إليه هو الذي نتفق عليه، وهو الذي نعمل به، وهذه معناها أن نتخلى عن كل ما سبق من تاريخنا وتراثنا في فهم الكتاب والسنة وشروحهما، ثم نبدأ فهماً جديداً، ومن هو الذي يفهم هذا الفهم الجديد؟ كل من أراد أن يفهم الكتاب والسنة فليفهمهما، العالم والجاهل والعامي وهذا الملحد الزنديق الذي لم يعلم كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتشبع بهما، كل هؤلاء يمكن أن يفسروا كتاب الله، وأن يفسروا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه قضية خطيرة جداً لعل فيما يأتي إن شاء الله تعالى إشارة إلى بعض جوانبها.

فهم الصحابة للنصوص مقدم على فهم غيرهم

فهم الصحابة للنصوص مقدم على فهم غيرهم القضية الثانية المتعلقة بمصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هي: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم المبلغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن فهمهم للنصوص مقدم على فهوم غيرهم، وهذه قضية تابعة للأولى لكنها مرتبطة بها ارتباطاً تاماً، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس رضي الله عنهم وأرضاهم على فهم الكتاب والسنة وعلى تطبيقهما، ومن ثم فإن التطبيق العملي عقيدة وشريعة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجده أفضل ما يكون عند أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ولقد تميز هؤلاء الصحابة بعدة ميزات، ولعل من أهمها حرصهم الشديد على الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان الواحد منهم إذا حدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به عليه الصلاة والسلام. كذلك أيضاً كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسائل وعما يشكل عليهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم له: لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسأل عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث). وكانوا أيضاً يراجعون السنة، بل كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وهذا في صحيح البخاري. وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول: (كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه). فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين كل الحرص على التلقي عن رسول الله، وعلى حسن الفهم عنه، وعلى تطبيق ما يرد إليهم وما يسمعونه، سواء كان من كتاب الله أو من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد آتاهم الله حفظاً، ودعا الرسول لبعضهم، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يحتاطون في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتياطاً شديداً، وهذه القضية معروفة لدى علماء الحديث، والنتيجة التي ينبغي أن نخلص منها هنا هي: أن الكتاب والسنة يرتبط فهمهما وتفسيرهما في الاعتقاد والفروع أول ما يرتبط بفهم السلف رحمهم الله تعالى، وأي انفكاك عن هذا الفهم فهو ضلال مبين، وانفتاح لباب القرامطة والرافضة، والعقلانيين والفلاسفة، والمعتزلة والمتأولة وغيرهم. وهذه القضية -وهي قضية أن السلف رحمهم الله تعالى هم الذين يجب أن يتلقى عنهم فهم النصوص- هي التي قررها علماء السلف المتقدمون منهم والمتأخرون، حتى أن الإمام أبا حامد الغزالي وهو الذي عرف عنه تصوف ودخول في علم الكلام ثم بعد ذلك رجوعه في آخر أمره إلى الحديث. هذا الرجل الذي اشتهرت كتبه وفيها كثير من البدع، لما كان في آخر عمره رجع إلى علم الحديث، ورجع إلى مذهب السلف رحمهم الله تعالى، وقرر أن الحق هو مذهب السلف، وأن هذا إنما يجب لأننا لا بد أن نسلم بعدة أصول: أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بصلاح أحوال العباد في معاشهم ومعادهم، الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، ولم يكتم شيئاً، وأنه كان أحرص الخلق على صلاح الخلق وإرشادهم إلى صلاح المعاش والمعاد. الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأحراهم بالوقوف على كنهه، وإدراك أسراره، الذين لازموه وعاينوا التنزيل، وعرفوا التأويل وهم أصحابه. الرابع: -وهذا كله للغزالي في آخر أمره- أن الصحابة في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل، ولو كان من الدين لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً، ودعوا أولادهم وأهلهم إليه. يقول الغزالي: فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه، والصواب ما رأوا. وهذه نتيجة تجربة لأكبر علم من علماء أهل الكلام والتصوف، يقرر بعد تجربة امتدت عشرات السنين أن مذهب السلف رحمهم الله تعالى هو الحق ولا حق غيره، فهل يعي ذلك أولئك العقلانيون وغيرهم الذين يريدون أن يدخلوا في ديننا وشرعنا تلك المعقولات الباهتة، والآراء والأقيسة العقلية، هل يعقلون تجارب هؤلاء نرجو ذلك.

من مصادر تلقي العقيدة: الإجماع

من مصادر تلقي العقيدة: الإجماع الأمر الثالث: من أمور مصادر تلقي العقيدة الإجماع، ومسألة الإجماع معناها: أن ما أجمع عليه المسلمون في عصر من العصور فلا يجوز لأحد خلافه أبداً، وقد يقول قائل: وهل المسائل التي أجمع عليها المسلمون كثيرة؟ نقول: نعم، المسائل التي أجمع عليها المسلمون مسائل واضحة ومحددة، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، فما أجمع عليه العلماء فلا يجوز لأحد خلافه مهما كان؛ لأن إجماع هؤلاء العلماء إنما هو إجماع مبني على الكتاب والسنة، أي: إجماع مبني على دليل فلا يجوز لأحد أن يخالفه بعد حدوث ذلك الإجماع، وبعض أهل الكلام حصروا الإجماع في مسائل الفروع، أما مسائل الأصول فيقولون: إن الإجماع لا يدخلها، وسبب ذلك أنهم يرون أن أدلة العقول يمكن أن تدخل في باب العقائد، ومادام يمكن أن تدخل فالإجماع غير وارد هنا، وهذه قضية من الخطأ بمكان؛ لأن الإجماع على أي أمر كان صواباً سواء من الأمور العقدية أو من أمور الشرع هو إجماع، ولا يجوز لأحد خلافه أبداً، وهذه المسألة -وهي مسألة الإجماع- من المسائل التي تحسم تلك النظرية التي تقول: إننا يجب أن نرجع إلى الكتاب والسنة دون أن نرجع إلى ما قاله العلماء، فماذا سيفعل هؤلاء بالإجماع؟ ما أجمع عليه السلف رحمهم الله تعالى هل سيقولون: نتخلى عنه، وننقض ذلك الإجماع، ونأتي بأفهام وآراء جديدة؟! تلك قضية واحدة فقط من القضايا الخطيرة التي تترتب على ذلك الرأي الخطير.

من مصادر التلقي: العقل الموافق للنقل

من مصادر التلقي: العقل الموافق للنقل المصدر الرابع: هو دلائل العقول، وينبغي أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما يفهم أن مذهب السلف رحمهم الله تعالى إنما هو الرجوع إلى الكتاب والسنة عن طريق الخبر فقط، وأما العقول فإنه لا مدخل لها في هذا الباب، وهذا فهم خاطئ تماماً، فإن السلف رحمهم الله تعالى يعتمدون على الكتاب والسنة في فهم ما يدل عليه الكتاب والسنة، ولكن لا يعني ذلك أن العقل لا مدخل له في هذا الباب، وإنما يقولون: إذا تعارض العقل والنقل ظاهراً -وهما في الحقيقة لا يمكن أن يتعارضا- فالواجب تقديم النقل على العقل؛ لأنه أسلم، والعقل الذي يدعي أولئك المتكلمون والفلاسفة وغيرهم أنه مصدر مستقل في باب العقائد، وفي باب الإيمان والدين، هذا العقل لم يجتمعوا عليه ما هو: هل العقل هو الغريزة التي تميز الإنسان عن الحيوان؟ أم أن العقل هو العلوم الضرورية التي يصدق بها الجميع كالقول بأن الواحد نصف الاثنين وأن الكل أكبر من الجزء؟ أم أن العقل هو العلوم النظرية التي تحصل بالنظر والاستدلال ونحوها؟ ما هو العقل عند هؤلاء؟ لقد اختلفوا اختلافاً كبيراً في تحديد ذلك العقل، واختلافهم هذا أدى إلى تباين آرائهم وأقوالهم في هذا الباب، ومن ثم كان السلف رحمهم الله تعالى يجعلون للعقل دوره المناسب له، ولا يرفعونه فوق منزلته، ويجعلونه مستقلاً كما فعله أولئك المنحرفون، وليسوا من الذين يلغون العقل إلغاءً تاماً، وإنما يضعونه في منزلته الصحيحة له. وهذا ابن قتيبة رحمه الله تعالى في كتابه: تأويل مختلف الحديث يقول مبيناً ضلال أولئك: وقد كان يجب على ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ألا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون؛ لأن آلاتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، فما بالهم -أي: أهل الكلام والفلسفة- أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد من الدين؟! وهذا يعطيك أن القول باستقلال العقل في باب الدين هو قول يؤدي إلى الضلال والانحراف. السلف رحمهم الله تعالى كما في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعتمدون على النقل الذي جاء بالدلائل العقلية، والله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال وأمرنا أن نعتبر بالأمم من قبلنا؛ لأن أولئك الأمم لما خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم جرى لهم ما جرى، ونحن أيضاً إذا فعلنا مثل فعلهم وخالفنا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فسيجري علينا مثل ما جرى عليهم. كذلك أيضاً بين الله سبحانه وتعالى أدلة البعث بعد الموت بأدلة عقلية، وأمثلة مضروبة توضح للإنسان أن الله سبحانه وتعالى قادر على البعث، وأنه يبعث من في القبور، وأن الناس لا بد أن تكون لهم رجعة يقفون فيها بين يدي ربهم تبارك وتعالى.

من مصادر التلقي الفطرة السليمة

من مصادر التلقي الفطرة السليمة ثم يأتي المصدر الأخير وهو الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها، فكل العباد مفطورون على الإيمان الصحيح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، ومعنى الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، فلو ترك الصغير وفطرته لكان من المؤمنين المسلمين، أما إذا وجد من يؤثر فيه فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما هو معروف، وهذه قضية مهمة جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على فهم الأمور بأبسط الدلائل، الأعرابي يستدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى أن الله موجود بدلائل الفطرة؛ لأن الفطرة تدل على أن هذا الكون لا بد له من خالق، فالبعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، أرض وأمواج، وسماء ذات أبراج، ألا تدل على الحكيم الخبير؟! الفطرة تدل على أن الإنسان يطلب ربه سبحانه وتعالى في العلو، فما احتاج الإنسان إلى ربه في أمر من أموره إلا ورفع بصره إلى السماء، وتلك الفطرة هي التي فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها، بل إن الفطرة تدل على توحيد الألوهية؛ لأن الإنسان إذا آمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، وبيده الأمر كله سبحانه وتعالى، إذا اعتقد ذلك فلا بد أن ينتهي به الأمر إلى أن هذا الإله الخالق الرازق المحيي المميت هو الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له، فلا تخضع القلوب إلا له محبة وإنابة وذلاً وخوفاً وخشية وتوكلاً وغير ذلك من أنواع العبادة لا تهفو القلوب بهذه العبادات إلا لله وحده لا شريك له، فكيف يخاف الإنسان أو يحب الإنسان محبة عبادة أو يتوكل الإنسان على مخلوق لا يملك هو لنفسه نفعاً ولا ضراً، تلك قضايا الفطرة تدل على ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفطرة والعقول السليمة مؤيدة لما جاء به كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يأتي في الكتاب ولا في السنة شيء يخالف أو يناقض تلك العقول الصريحة ولا تلك الفطر السليمة.

منهج أهل السنة والجماعة في العقائد مستمد من الكتاب والسنة

منهج أهل السنة والجماعة في العقائد مستمد من الكتاب والسنة أيها الإخوة! بعد هذا العرض السريع لمصادر تلقي العقيدة ننتقل إلى قضية عقدية أخرى مرتبطة بها، ألا وهي: أن منهج أهل السنة والجماعة في العقائد لا بد أن يستمد من الكتاب والسنة التي هي الأمور الخبرية، والتي يجب الإيمان بها والعمل على ضوئها، وكذلك أيضاً الاستدلال الشرعي على الأحكام الشرعية يجب أن يكون مبنياً على منهج واضح، ولا يقول قائل: تلك فروع، نقول: وإن كانت فروعاً إلا أن الاستدلال عليها يجب أن يكون المسلك فيه على وفق منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والاستدلال الشرعي في باب الأحكام ليس فرعياً وإنما هو أصولي، فحينما تأتي قضايا تتعلق بعباداتنا، أو تتعلق بأمور معاملاتنا، أو تتعلق بحياتنا فكيف نستنبط حكمها الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى علينا؟ لا بد من منهج شرعي سار عليه السلف رحمهم الله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يحيد عنه، وهذه هي مسألة وجوب التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية ليس أمراً فرعياً، وإنما هو أمر أصولي، ومن ثم فحينما نقول: منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في العقائد لا يعني فقط ذلك الجانب الذي يفهمه البعض فقط، وهو ما يتعلق بالإيمان بالله أو بأسمائه وصفاته أو بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يرتبط بذلك ارتباطاً أصيلاً منهج الاستدلال الشرعي، لأن الناس جميعاً يجب أن يكون حكمهم ورجوعهم عند التنازع والاختلاف إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في آيات عديدة، يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الآية الثانية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي الآية الثالثة: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] إلى آخره. وهنا تظهر في البلاد الإسلامية أحياناً دعوات صريحة، وأحياناً مبطنة إلى رفض التحاكم إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، في بعض البلاد الإسلامية تطرح القضية علناً: هل تكون الشريعة هي المصدر الأساسي أو تكون مصدراً من المصادر؟ وفي بعض البلاد قد لا يجرؤ هؤلاء العلمانيون وغيرهم على مثل هذا الطرح الصريح؛ فيبحثون عن طروح أخرى مبطنة، ولهم في ذلك وسائل، وقد سبق أن ذكرنا وسيلة منها، وهي تلك التي يزعم فيها هؤلاء أنه ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة فقط دون الرجوع إلى فهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى لها، وهذا معناها: عود جديد، على وضع جديد، وتصدير جديد، وربما يؤدي إلى دين جديد. ومن ذلك أيضاً ما يدعيه هؤلاء أن استنباط الأحكام الشرعية ليس مختصاً بالعلماء المجتهدين، وإنما هو أمر متروك لجميع الناس أو لكل من أراد أن يفكر ويستنبط من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في ذلك العلماء المجتهدون، ويدخل في ذلك الجهلة، ويدخل في ذلك من ليس عنده علم لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مدخل خطير جداً؛ لأن معنى ذلك أن الحكم الشرعي وتطبيقه والإفتاء به لا يكون مختصاً كما كان في التاريخ الإسلامي وفي الأمة الإسلامية بفئة العلماء المجتهدين، وإنما ينتقل من هؤلاء إلى غيرهم، وسيتحول الأمر حينذاك إلى فوضى لا نهاية لها. وهناك أيضاً طريقة أخرى لبعض هؤلاء تشبه طريقة الذين يتتبعون الرخص، فإن هؤلاء يقولون: كل مسألة للعلماء فيها أكثر من قول فيجوز أن نأخذ بأي قول من أقوالهم، فإذا طرحت قضية من القضايا قال لك: هذه القضية قال فيها فلان كذا وقال فيها فلان كذا وقال فيها فلان كذا وانتهى، أي رأي نأخذه من هذه الآراء هو رأي صحيح؛ لأنه قد قال به بعض العلماء، ومعنى هذا أن يتتبع الإنسان شواذ المسائل وشواذ أقوال العلماء والأقوال المرجوحة المخالفة للدليل الصحيح، وتتحول هذه القضايا وهذه المسائل إلى أصول، وهذا منهج أيضاً خطير جداً؛ لأن الواجب على الإنسان أن يعتمد على الدليل، وإذا وجد عنده قولان أو عرض له قولان فإنه لا بد أن يسأل عن الدليل ويبحث عنه، وإذا كان الإنسان عامياً لا يعرف فإنه يقلد من العلماء من كان أوثق وأعرف عنده بالكتاب والسنة، أما دعوى أن يترك الأمر لكل من أراد أن يفتي وأن يقول، ولكل مسألة توجد في الكتب لتكون معتمدة ومطبقة نقول: لا، المنهج الصحيح هو البحث عن الدليل، والترجيح بين الأقوال على ضوء الأصول التي ضبطها علماء السلف رحمهم الله تعالى. المهم أن هؤلاء العلمانيين وأذنابهم يريدون أن يحطموا شريعة الله سبحانه وتعالى من الداخل، ويريدون أن ينتهي الأمر إلى طرح القضايا أمام الناس طرحاً يسمونه أحياناً طرحاً ديمقراطياً، فنقول: ما رأيكم في القضية الفلانية صوتوا؟! ثم نجمع الناس ويصوتون، فإذا صوت خمسة وخمسون بالمائة أو ستون بالمائة على الرأي الآخر أخذنا به ولو كان مخالفاً للدليل، ولو كان مخالفاً للشرع إلى آخره، بينما المنهج الصحيح في هذا الباب هو أن ترد الأمور عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وترد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بردها إلى العلماء المجتهدين العاملين، فلا ترد إلى آراء الرعاع وعامة الناس. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معقباً على قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]: وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق. وشيخ الإسلام هنا يشير إلى قول المنافقين: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] وهذا الذي يقوله أصحاب السياسات الجائرة التي تخالف الكتاب والسنة، إذا جئتهم قالوا: السياسة والأمور لا تصلح إلا بهذا، ولو كانت مخالفة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. شيخ الإسلام يقول: وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب. ومن ثم فإن علماء الإسلام رحمهم الله تعالى بينوا أن من يتصدى للقضاء والإفتاء لا بد أن يتصف بعدة صفات ذكروا من ذلك: الإسلام، والتكليف، والعدالة، ثم ذكروا أن يكون من أهل الاجتهاد، وهذا الاجتهاد يشمل عدة أمور: أولها: العلم بالكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام، وتمييز ناسخ الآيات ومنسوخها، وناسخ الحديث ومنسوخه، وتمييز صحيحه من ضعيفه إلى آخره. الأمر الثاني: العلم بلسان العرب. الأمر الثالث: العلم بأصول الفقه التي هي أصول الاستدلال، حتى يكون المفتي بانياً فتواه على أصل مقرر لا على دعاوى، أو آراء عقلية مجردة. وذكروا أيضاً صفات لمن يتصدى للإفتاء وللقضاء، ومنها: أن تكون له نية صالحة يريد فيها أن يبين أحكام الله للناس، وليس من الذين يريدون أن يبدلوا شرع الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً أن يكون متضلعاً في العلم الشرعي، دارساً له، متقناً له. وكذلك أن تكون له معرفة بأخلاق الناس، وعاداتهم وانحرافاتهم ومقاصدهم؛ حتى تكون فتواه على بينة ومعرفة بأمرهم، ثم أن يكون حليماً متأنياً غير متسرع في إصدار الأحكام، وهذه قضايا مهمة جداً. وينبغي أيضا أن يعلم أن الإفتاء أنواع: النوع الأول: إفتاء مجرد عن الاجتهاد، وهذا ما يكون من باب الأخبار الخالصة، كأن يسأل العالم سؤالاً فيجيب بما يعلمه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيسأله السائل ويقول له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فيأتي هذا العالم ويقول: آية الكرسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك. النوع الثاني: ما يكون معه اجتهاد، بأن يجتهد العالم لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا أيضاً على ضربين: أحدهما: ما يسمى بعلم أصول الفقه بتحقيق المناط، بمعنى: أن تكون الأحكام الشرعية معلومة بالكتاب والسنة والإجماع، ثم يأتي هذا المجتهد فينزل تلك الأحكام على هذه الواقعة، وفي هذه الحالة يجب على المفتي أن يعرف هذه الحالة فينزل عليها هذا الحكم، وهذا في الأمور التي قد وضحت دلالتها من الكتاب والسنة، وتكون مهمة المجتهد المفتي هنا هي فهم الواقعة فهماً صحيحاً لتنزيل ذلك الحكم عليها. النوع الثاني من أنواع الاجتهاد: أن يكون الحكم الشرعي الذي يريده المجتهد لهذه الواقعة غير معلوم له، فيحتاج منه إلى أن يبحث في الأدلة ويجتهد فيها؛ ليستخرج الحكم، ثم بعد ذلك يطبق ذلك الحكم على تلك الواقعة، وكما تعلمون جميعاً فإن العلماء اشترطوا للمفتي شرطين أساسيين: أحدهما: معرفة الأحكام الشرعية، وهذه هي قضية الاجتهاد التي أشرنا إليها. الثاني: فهم الواقع، ومعرفة صورة الواقعة التي حدثت معرفة تامة؛ حتى يكون إفتاؤه وحكمه فيها حكماً مبنياً على تصور واضح، فلا بد أولاً من تصور الحكم الشرعي، ولا بد ثانياً من فهم الواقعة. ثم يأتي التطبيق العملي وهو الأمر الثالث، بتنزيل ذلك الحكم على تلك الواقعة، فأين هذا من منهج أولئك الذين يريدون أن يحرفوا الناس عن عقيدتهم وعن شريعتهم بتلك الوسائل، ويريدون ألا ترد الأمور إلى أهلها، وإنما ترد إلى عامة الرعاع من غير المجتهدين ومن غير العلماء؟! ذلك منهج خاطئ يجب أن ننتبه له، والعلمانيون وغيرهم قد بدءوا يسلكون هذا المسلك؛ ليجعلوا قضية فهم نصوص الكتاب والسنة عقيدة وشريعة متاحة للجميع، وكل يقول فيها بما يشاء، ويفتي فيها بما يشاء، وحينئذ تتحول الأحوال والأمور إلى آراء وأفكار بعيدة عن الشرع، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخ

الأسئلة

الأسئلة

ضوابط الحوار في مسائل العقيدة

ضوابط الحوار في مسائل العقيدة Q نحن نعتقد أن المسائل الأصولية لا حوار ولا نقاش فيها، لكن بعض العلمانيين يقولون: لا بد من هذا الحوار، ويستدلون بالمناظرات والحوار الذي كان يجريه علماء السلف كـ ابن تيمية وغيره رحمهم الله تعالى، أفيدونا أفادكم الله؟ A هناك أنواع من الحوار: النوع الأول: الحوار الذي يقع بين العلماء، وهذه قضية أظنها واضحة، وهي أن العلماء المجتهدين يجتمعون ويتحاورون، وينظرون في الأدلة، ثم إن اتفقوا على رأي فبها، وإلا صار لكل منهم رأيه المبني على الدليل، وقد وقع في التاريخ الإسلامي محاضرات ومساجلات علمية بين علماء الإسلام. النوع الثاني من الحوار: الحوار لأهل الباطل للرد عليهم، بمعنى: أن يأتي هذا العالم والداعية ليحاور أولئك ليبين ضلالهم، وهذا هو الذي فعله شيخ الإسلام ابن تيمية، وفعله عبد العزيز المكي الكناني لما حاور المعتزلة، وهو الحوار الذي ينطلق فيه الداعية من منطلق أحقية ما يدعو إليه وبيان انحراف الطرف المخالف. لكن هناك نوع من الحوار يدعو إليه أهل الباطل، وهذا الحوار يقصدون منه أن تتحول أمورنا ومسلماتنا إلى حوار، فمثلاً يأتي ليقول القائل من هؤلاء: لماذا لا نتحاور هل نعتمد الشريعة الإسلامية أو لا نعتمدها، وننظر؟! فهل الاعتماد على الشريعة الإسلامية وتطبيقها أمر يدخل في الحوار؟! هل الاعتماد على الكتاب والسنة في مسائل العقيدة يدخل في الحوار؟! هل الإقرار للملاحدة بأن يعلنوا إلحادهم ونلغي باب الردة في الفقه الإسلامي كله ونقول: من أراد أن يكون شيوعياً فليكن لأجل الحوار؟! لا، هذا لا يمكن، ومن ثم فإن هؤلاء الذين يدعون إلى الحوار ليس هو الحوار الشرعي الذي ذكرنا أنواعه، وإنما هو حوار يريدون منه أن يتحول الحوار إلى غاية، ما معنى أن يتحول الحوار إلى غاية؟ معناه: أن يكون هدفي وهدفك هو الحوار، إذاً لا تلزمني برأيك، ولا ألزمك برأيي، نطرح القضية، ونتحاور فيها، وكل يخرج مقتنعاً بما يريد، وهذا أمر خطير، معناه: أن كل إنسان يريد أن يطرح قضية فليطرحها ويقول: أنا أريد الحوار، ففرق بين هذا وذاك؛ لأن الحوار على مفهوم هؤلاء: أن تترك الحرية لجميع الآراء وللأفكار تناقش، بينما منهج السلف رحمهم الله تعالى أن الأمور المؤصلة المقطوع بها لا يمكن أن يدخل فيها حوار، بل يعاقب مخالفها، وهؤلاء يريدون أن ينقضوا هذه المسائل.

فهم العلمانيين لنصوص الكتاب والسنة

فهم العلمانيين لنصوص الكتاب والسنة Q فضيلة الشيخ! أشرت إلى أن العلمانيين يريدون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولكن بفهمهم لا بفهم غيرهم من السلف، فهل يصدقون في ذلك؟ ثم هل يمكن ذكر مثال لتأويلهم لبعض النصوص؟ A إما أن يصدقوا أو لا يصدقوا، فهذه قضية علمها عند الله سبحانه وتعالى، وإنما نحن نحاكم الفكرة نفسها، ونقول: إن هؤلاء يريدون من هذه القضية إلغاء الشريعة الإسلامية، وكما تعلمون جميعاً لو جئنا إلى نصوص الكتاب والسنة لنأخذها مجردة دون ما أجمع عليه السلف وفهموه؛ لأدى الأمر إلى فوضى متناهية، وكما تعلمون جميعاً أن النصوص أحياناً يسمعها الإنسان فربما يفهمها، وباب التأويل الذي دخل منه الصوفية والباطنية وغيرهم هو هذا الفهم الذي يقول: أنا إذا فهمت من الكتاب والسنة شيئاً ففهمي صحيح، وأنت إذا فهمت شيئاً ففهمك صحيح، إذا جاء الرافضي ليقول: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] البقرة هي عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهل هذا فهم صحيح؟! أو حينما يأتي الصوفي إلى قول الله تبارك وتعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:17 - 18]، فيقول هذا الصوفي: فرعون هو قلبك. معنى ذلك: أن الله ما أمر موسى أن يقول لفرعون الطاغية حاكم مصر هذا الكلام، فالقول بأن أي فهم يدخل فيه هو فهم صحيح هو المنطلق الذي يريده هؤلاء العلمانيون، بينما نصوص الشرع مضبوطة بفهم السلف، والسلف هم خير القرون زمناً، والذين ساروا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في منهجه. إذاً: عندنا قضيتان عندما نتكلم عن السلف، القضية الأولى: المنهج، بمعنى: من سار على مثل ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه صار من السلف. القضية الثانية: وهي القضية الزمنية، وهي أن القرون المفضلة يسمون سلفاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالخيرية، لكن من سار بعدهم على منهجهم فهو أيضاً من السلف، وهذا هو الذي يرجع إليه العلماء، ما كان مرتبطاً بمنهج السلف، وما كان واقعاً في تلك الفترة الخيرية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

علاقة القياس بمصادر التشريع

علاقة القياس بمصادر التشريع Q أرجو إيضاح كل من: القياس وعلاقته بمصادر التشريع. الثاني: هل لولي الأمر الحكم في مسألة ما وهو ليس من العلماء؟ A أما القياس فقد عرفه العلماء: بأنه إلحاق فرع بأصل لوجود العلة التي يشتركان فيها بحكم معين، والقياس كما سبق نوعان: قياس جلي: وهو ما يسمى بتحقيق المناط، وهذا التحقيق هو عين تطبيق الشريعة الإسلامية، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] هذه الرقبة كونها ذلك الشخص الذي تريد أن تعتقه يكون تطبيقه على هذا، هذا يسمونه قياساً جلياً ولا أحد ينكره أبداً؛ لأن أي إنسان لا بد أن يطبق الأحكام على مواضعها. النوع الثاني: تخريج المناط، وهو الذي تلحق به مسألة بمسألة أخرى، فمثلاً: تقول: الخمر مسكر وحرام، ثم تأتي إلى النبيذ فتراه مسكراً فتلحق النبيذ بالخمر بجامع الإسكار، وتنتهي بهما إلى حكم واحد وهو التحريم، فتلحق الفرع الذي هو النبيذ بالأصل الذي هو الخمر، بعلة الإسكار في كل منهما بحكم واحد وهو التحريم، فالنبيذ ما ورد نصاً في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي العالم ليلحق هذا الأمر بالخمر، وتكون النتيجة هي التحريم، هذا مثال مبسط للقياس. أما الفقرة الثانية من السؤال وهي: هل للحاكم أن يحكم بما يراه؟ نقول: ليس لأي حاكم أن يحكم بما يراه أبداً إذا كانت المسألة مما ورد فيها دليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى نميز المسائل التي هي مرتبطة بشرعنا، والمسائل التي هي مستجدة وقد تكون من القضايا الإدارية، وتلك ملحقة بتلك الأصول الشرعية. فالخلاصة: أن الحكم إنما هو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

حكم من توفي ولم تبلغه العقيدة الصحيحة

حكم من توفي ولم تبلغه العقيدة الصحيحة Q ما حكم من توفي ولم تبلغه العقيدة الصحيحة أو لم يبلغه الإسلام، أو بلغه محرفاً، أفيدونا أفادكم الله؟ A هؤلاء الذين لم تبلغهم العقيدة وأيضاً كانوا في وقت جاهلية ما يسمون فيه بأهل الفترات بين الرسل، فهؤلاء حكمهم معروف، وهو أن أهل الفترة والذين لم تبلغهم الشريعة اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، مع قطعهم بأن حكمهم في الدنيا على ما هم عليه، إن كانوا يعبدون الأصنام فهم مشركون، وإن كانوا ليسوا على دين فهم كفار، لكن هل يعذرون في الآخرة؟ اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال، منهم من جعلهم في الجنة، ومنهم من جعلهم في النار، ومنهم من فسق، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون يوم القيامة كما ورد بذلك الحديث، فتوقد لهم نار فيؤمرون بالدخول فيها، فمن أطاع الله ودخل فيها كان من أهل الجنة والنعيم، ومن عصى مع وضوح الأمور له فهو من أهل النار. أما ما ذكره في آخر السؤال، وهو من بلغه الدين محرفاً فهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن من بلغه الدين قد يكون بلغه الدين على حقيقته لكن لا ينفك عن التحريف، بمعنى أن رؤساء الضلالة مثلاً من اليهود أو من النصارى أو من الملاحدة أو من المشركين، وإن كان يبلغهم دين الله سبحانه وتعالى إلا أنهم يحرفونه فيقولون مثلاً: إن هذا دين غير صحيح، هذا دين يأمر بكذا هذا دين يأمر بكذا إلى آخره وينفرون أتباعهم منه، فهؤلاء إذا كانت قد بلغتهم الرسالة فحينئذ حكمهم إذا أعرضوا عنها أنهم كفار.

عزة المسلم بإيمانه

عزة المسلم بإيمانه لا عزة للمسلمين إلا بإيمانهم بالله عز وجل، فيوم أن يؤمنوا بالله ويتمسكوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يكونون أعز أهل الأرض، وما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه اليوم إلا عند أن تخلوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدر هذه الأمة خير شاهد على هذا؛ فإنهم عند أن تمسكوا بالوحيين دانت لهم الدنيا من شرقها إلى غربها، وخضعت لهم الأمم عن بكرة أبيها، ولما تركنا نحن مصدر عزتنا وقوتنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من ذل وضعف وهوان وهزيمة.

سبب الحديث عن هذا الموضوع

سبب الحديث عن هذا الموضوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحكيم، عز في ملكه وسلطانه، وخضعت له الرقاب، فلا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، أعز عباده المؤمنين فنصرهم ورفع شأنهم، وأذل الكافرين فكبتهم وأصلاهم جهنم وساءت مصيراً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والحوض المورود، أزال الله به ظلمة الجاهلية، فرفع به العرب من ذل إلى عز، ومن جهل إلى علم، ومن صغارٍ بين الأمم إلى قادة للأمم، فعليه الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أيها الحبيب! حديثنا هو عن عزة المسلم بإيمانه وهل للمسلم، وهل لأي إنسان عزة بغير الإيمان؟ A لا والله، لا عزة ولا كرامة ولا رفعة ولا شأن لنا إلا بالإيمان، فالإيمان هو الذي به يفصل بين الناس يوم القيامة إلى فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا ثالث لهما.

لا عزة بغير الإيمان

لا عزة بغير الإيمان الذي دعا إلى الحديث عن هذا الموضوع عدة أمور: الأمر الأول: أن هناك بين المسلمين من يريد أن يجعل للمسلمين عزة بغير الإيمان، فيظن أن عزة المسلمين قد تكون بالمال، أو بالتقدم العلمي والتكنولوجي كما يقولون، أو أن تكون العزة بغير الله سبحانه وتعالى، وقد تختبر في النفوس مثل هذه الأمور فيظن الظان أن الجاه أو المال أو غير ذلك من أمور الدنيا يمكن أن يستعز بها الإنسان، ويرفع بها جبهته أمام الأمم، وتلك -والله- خدعة نفس وخدعة شيطان؛ لأنه لا المال، ولا الجاه ولا المناصب ولا التقدم العلمي وحده يمكن أن يرفع المسلمين من هذا الذل الذي يحيط بهم من كل جانب.

وجوب الحذر من الحرب النفسية التي تحاك ضد المسلمين

وجوب الحذر من الحرب النفسية التي تحاك ضد المسلمين الأمر الثاني: أن هناك حرباً نفسيةً تحاك ضد الأمة الإسلامية، وضد الصحوة الإسلامية في كل مكان، فأعداء الإسلام يريدون أن يهزموا المسلمين من الداخل، وأن يحبطوا هذه العزة وهذه الثقة الذي يجدها المسلم داخل إيمانه. إنها حرب نفسية تريد من المسلمين أن يظنوا أنهم لا قوة لهم ولا مكانة لهم بين الأمم ولا عزة لهم ولا سلطان لهم، وإنما المكانة والعزة والسلطان إنما هي لأعداء الله تبارك وتعالى الذين تنكبوا الصراط المستقيم. هكذا يريدون أن يصوروا الحال، وهكذا يريدون أن يغرسوا في نفوسنا وفي نفوس المسلمين وفي نفوس شباب الإسلام هذا الغرس الخبيث الذي هو في حقيقته حرب نفسية من الداخل، حتى يتيه المسلم في خضم الفتن والأحوال والأحداث وغيرها، فيظن أنه فقد عزته وفقد إيمانه وفقد مكمن الرفعة الذي هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ويبدأ يلتفت يميناً وشمالاً، وإذا ما التفت يميناً وشمالاً اعرض عن الله فأعرض الله عنه، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، وهذا هو الذي يريده أعداء الإسلام، إنهم يريدون حرباً نفسية من الداخل حتى يبحث الإنسان المسلم عن عزة ورفعة بغير هذا الإيمان الذي يحمله بين جنبيه، وإذا بحث عنها في غير الطريق المستقيم خاب وخسر وذل وصار مهيناً محتقراً، إما في نفسه وإما بين الأمم جميعها.

سبب عزة الأمة في عصورها المتقدمة

سبب عزة الأمة في عصورها المتقدمة الأمر الثالث يجب علينا أن نعود إلى أصول ديننا وأصول عزتنا، والأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة لم تجرب هذا العلاج الذي هو مصدر عزتها التجربة الكاملة، بحيث تُربى عليها النفوس، وتُربى عليها الأسر، وتُربى عليها الأمة، فوالله لو عاد المسلمون إلى دينهم حق العودة لكان لهم بين الأمم شأن آخر. ونحن لا نقول هذا الكلام من عند أنفسنا، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، ويقول تبارك وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ولماذا نقول هذا وأمامنا التاريخ يشهد بالحقائق وينطق بها؟ ألم يكن أهل هذه الجزيرة في مكة وفي غيرها يعيشون أذلة بين الأمم؟ ألم يكونوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أذلة يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، ويعبدون الأصنام من دون الله؟ بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من التمر ويعبده أول نهاره، فإذا أمسى وجاع أكله، ألم يكونوا أذلة أمام كسرى وقيصر وأصحاب الحبشة وغيرهم؟ ألم يكونوا على تلك الذلة؟ فما الذي رفعهم؟! هل رفعتهم جاهلية قومية كما ينادي بعض أدبائنا ومفكرينا بالعودة إلى القومية الجاهلية المسماة بالعروبة؟ وهل رفعهم كثرة المال؟ وهل رفعتهم قوتهم البدنية والقبلية وغيرها؟ A لا والله. ما ارتفع أولئك الركب الكرام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما انتقلوا من حظيرة الجاهلية إلى عز الإسلام إلا بالإيمان، وهذا شاهد اجعله أمامك في كل وقت وفي كل آن، فإنه لما نطق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في أرجاء مكة قائلاً للناس: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، إني رسول الله لكم بين يدي عذاب شديد)، وصرخ بها عليه الصلاة والسلام في وجه الجاهلية لوحده، ولما أن بدأ أصحابه يكثرون، ونشأ الإسلام في مكة، وصار الواحد من المسلمين يخالف أباه وأمه وأقربائه إذا اختلف معهم في العقيدة تغير الميزان، وظن الجاهليون -كما يظن الجاهليون اليوم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان داعية ملك يريد أن يحكم العرب، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً يقول له: إن أصحابك من قريش -أي: من زعماء قريش- عند الكعبة يريدونك. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هؤلاء الزعماء أرادوا الدخول في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص على أن يدخل قومه في الإسلام، فأتى إليهم عليه الصلاة والسلام مسرعاً، فلما وقف عليهم قالوا له: يا محمد! لقد أتيت قومك بأمر عظيم، سفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وفرقت به جماعتهم، فتعال -يا محمد- لنعرض عليك أموراً. قال: (قولوا، وأنا أسمع). قالوا: يا محمد! إن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه شرفاً سودناك علينا حتى صرت السيد المطاع فلا نقطع بأمر دونك، وإن كنت تريد بهذا الذي تدعو إليه مالاً جمعنا لك من الأموال حتى تصير أكثرنا مالاً. وهذه هي عروض الجاهلية في كل زمان ومكان، فالقوميون اليوم يقولون: الوحدة العربية وبعدها الوحدة الإسلامية. ومن طلب العز بغير الدين أذله الله، فالعز بالوحدة العربية ذل؛ لأنه لا عز إلا بالإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جئت أريد ملككم، ولا الشرف فيكم، ولا أموالكم، ولكنني جئت أدعوكم إلى كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم). فقام أبو جهل ومعه بعض كبار المشركين، وقالوا: يا محمد! تريد كلمة واحدة؟! نحن نعطيك عشر كلمات. أي: وتنهي المشكلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله). فصاحوا جميعاً صيحة واحدة، وقالوا: أما هذه فلا. ورفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله. إذاً: عتاة الجاهلية رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولكن الصحب الكرام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين قالوها، وما زال الإسلام ينتشر وينتصر حتى امتدت الفتوحات الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها، ودك المسلمون قصور كسرى وقيصر مهللين مكبرين رافعين رؤوسهم؛ لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، وهي قولة حق وصدق وإخلاص، فعملوا بمقتضاها، ولم يرتكبوا ما يناقضها، فأعزهم الله ورفع شأنهم. ولما كان المسلمون في تلك الفتوحات يخوضون غمار المعارك في بلاد فارس طلب قائد الفرس من المسلمين أن يرسلوا رسولاً ليكلمه، فأرسل إليه القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد الصحابة، فخرج هذا الصحابي إلى إيوان القيادة الفارسية، ودخل عليهم وبيده سيف، وهو معتز بإيمانه، وصار يمشي ويخرق السجاجيد بسيفه حتى وقف عنده. فقال له قائد الفرس: ما الذي جاء بكم؟ لقد عهدناكم صعاليك تتقاتلون فيما بينكم وترسلون إلينا لنحكم فيكم، ما الذي جاء بكم وغير أحوالكم حتى جئتم إلينا تريدون ديارنا؟ فقال الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وقوله: (من ضيق الدنيا) لأن الكافر عنده الدنيا هي كل شيء، ولذا فهو ضائق بها؛ لأنه لا يرى في الدنيا إلا ما التذ به فقط، فهو يريد أن يعب من شهواته في دنياه؛ لأنه لا أمل له في الآخرة، لكن الإسلام نقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وما أوسع الدنيا عند المؤمن بالله سبحانه وتعالى! إن صحَّ عبد الله وحمده وشكره، وإن اغتنى عبد الله وحمده وشكره، وإن افتقر حمد الله وشكره وصبر، وإن مرض وجئته وهو مريض يقول لك: الحمد لله، ما ضاقت به الدنيا؛ لأنه حتى لو جاءه الموت يعلم أن الدنيا ليست هي نهاية المطاف، ولذا فهو نقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

سبب تغير حال الأمة من العزة إلى الذل

سبب تغير حال الأمة من العزة إلى الذل هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم، حتى صارت الأمة الإسلامية هي القائدة وهي الرائدة بين الأمم، وحتى صارت الأمة الإسلامية هي التي تقول الكلمة فيسمع لها الناس في مشارق الأرض ومغاربها. أما اليوم فقد انعكست -ولا حول ولا قوة إلا بالله- الأمور، وأصبح الكفار يتكلمون فنسمع، وأصبح أعداء الإسلام يحاربوننا بالغزو الفكري، وبالأفكار الجاهلية، وبالتبشير وغيره، ونحن ننتظر! و Q لماذا تغيرت الصورة؟ و A تغيرت الصورة لأننا حتى الآن ما اعتصمنا بالله وبهذا الإيمان حق الاعتصام، لأننا حتى الآن لا يزال فينا ويوجد بيننا ومن يتكلم بلغتنا من يريد أن يبحث عن مكامن العزة في القوميات الجاهلية والقوانين الجاهلية والأنظمة الجاهلية، ويريد أن يجلبها من الشرق ومن الغرب، فهل لقوم بينهم من يقول مثل هذا الكلام أن تكون لهم عزة؟ لا.

عزة المؤمنين بالإيمان، وبيان معنى الإيمان الذي تكون به العزة

عزة المؤمنين بالإيمان، وبيان معنى الإيمان الذي تكون به العزة إن العزة لا تكون إلا بالله، العزة لا تكون إلا بالصراط المستقيم الذي بينه لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. ومن ثمَّ فإنني أحب هنا أن أذكر شيئاً عن هذا الإيمان الذي به عزة المؤمنين، ما هو هذا الإيمان؟ لقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بياناً واضحاً، ولكني أشير إلى إشارات وأمور مجملة: الأمر الأول: أن نسير على هذا الإيمان على وفق منهج أهل السنة والجماعة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، إنهم السلف، وهم أهل الحديث، وهم أهل السنة والجماعة الذين صاروا على ذلك الخط في الاعتقاد في جميع جوانبه، فما غيروا وما بدلوا، بل ابتعدوا عن البدع، وعن علم الكلام، وعن كل ما يعكر صفو هذا الإيمان من أمور دخيلة على المسلمين، سواءٌ أكانت هذه الأمور أموراً فلسفية، أم أموراً كلامية، أم غيرها. الأمر الثاني: أن الإيمان الذي به عزة المسلمين هو الإيمان الذي يولد عملاً، فبعض الناس يقول لك: أنا مؤمن. وإذا جئت تكلمه في أمر من أمور الإيمان فتأمره بأمر أو تنهاه عن منكر قال لك: يا أخي! هذه أمور بسيطة، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره. فنقول: نعم. التقوى في القلب، ولو كانت التقوى في قلبك لما ارتكبت المنكر ولأتمرت بالمعروف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر القلب الذي به يغرس الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، فلو كان الإيمان موجوداً على الوجه الصحيح لما بقي كامناً، وإنما يتحول إلى عمل، يتحول إلى الصلاة الخاشعة، وإلى الصيام، وتأدية الزكاة، والبعد عما حرم الله من الزنا والربا والغش والغيبة والنميمة وغير ذلك من المنكرات، هذا هو الإيمان. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم إذا انغرس في قلبه هذا الإيمان لم يرجع لينام في بيته، ولم يقل: أنا أقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وانتهى الأمر. لا، وإنما كان هذا الإيمان -لأنه إيمان صحيح- يحول الواحد الفرد حركة دائبة للعمل والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يأتي ليدعو أقرب الناس إليه. ونحن نعرف ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه الذي دخل في الإسلام، فلما آمن واستقر الإيمان في قلبه رجع إلى قومه -وكانوا على الشرك-، فلما اقبلوا عليه فرحين مستبشرين بمقدمه أقبل معهم عليه أبوه، فلما أقبل عليه ليسلم عليه قال: إليك عني، فلست مني ولست منك. قال: وما ذاك؟ قال: لقد آمنت بالله ورسوله. قال: أنا معك. فجاءت زوجته مقبلة عليه فرحة بمقدمه، فقال: إليكِ عني، فلستِ مني ولست منكِ، لقد فصل بيني وبينك الإسلام. فقالت: وما ذاك؟ قال: لقد أسلمت، ودخلت في دين محمد. قالت: ديني دينك. وجاءت أمه، وجاء أقرباؤه ففاصلهم حتى أسلموا. إنه الإيمان الذي يولد عملاً، وليس إيمان النفاق، ولا إيمان المجاملات الباردة في دين الله. إنه الإيمان الذي يحرك الغيرة في قلب العبد المؤمن إذا رأى حرمات الله تنتهك، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من صفات المؤمنين الغيرة، وأن الله يغار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغار، وقال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (لقد دخلت الجنة فرأيت قصراً لك يا عمر، فجئت لأدخله فرأيت في الباب جارية، فلما رأيتها تذكرت غيرتك يا عمر! فلم أدخله. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: أعليك أغار يا رسول الله؟!). إنه الإيمان الذي يجعل الإنسان لا يسير في هذه الحياة وكأنه أبله لا يفقه من أموره شيئاً، بل ينظر ماذا يخطط له الأعداء ويتدبر، فينظر ماذا يريد الأعداء في حربهم للمسلمين فيقف في وجوههم، وينظر ماذا يريد المنافقون وأذنابهم فيقف ضد مخططهم، هذا هو الإيمان الذي به العزة والرفعة والمكانة للأمة الإسلامية. ثالثاً: الإيمان الذي نريده هو الإيمان القائم على العبادة الخالصة لله الواحد القهار الملك الجبار الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو الذي يحيى ويميت، وهو الذي يذل ويعز، وهو الذي بيده الأمر كله، وحياتنا وأرزاقنا وآجالنا وأمراضنا كلها بيد الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت هذه الأمور بيد الله عز وجل فهل يتوجه العبد بخوف أو محبة أو توكل على غير الواحد القهار؟ A لا. فإنه لا يتوجه إلى غير الله عز وجل من امتلأ قلبه إخلاصاً لله سبحانه وتعالى. فالإيمان هو الإيمان الذي يجعل العبد يخلص في جميع أمور العبادة لله وحده لا شريك له. والمحبة العبادية لا تكون إلا خالصة لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء لا يكون إلا من الله. والاستعانة والاستغاثة والتوسل لا تكون إلا بالله. والذبح والنذر والتوكل وغير ذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، فلا الأولياء ينفعون، ولا أصحاب القبور ينفعون، ولا السحرة والكهان وغيرهم ينفعون، وإنما النفع والضر بيد الواحد القهار سبحانه وتعالى، فليخلص العبد عبادته لله وحده لا شريك له. الأمر الرابع: الإيمان الذي به العزة هو الذي يجد العبد طعمه وحلاوته في أموره وحياته كلها، فما هو هذا الإيمان الذي يجد الإنسان طعمه؟ هذا الإيمان يقول عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذه هي الأولى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده -وفي رواية: من ولده ووالده- والناس أجمعين). فهل نجد -أيها الأخ الحبيب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الحب أكثر مما نجده لأنفسنا وأولادنا؟! وهل نحن نحب المحبوب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بالهداية بسببه، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً خضعنا، وإذا أمر أمراً فعلنا، وإذا نهى عن أمرٍ اجتنباه، أم أننا نسمع القائل يقول: قال رسول الله. أمر رسول الله. نهى رسول الله ونحن عن ذلك معرضون؟! هل هذه محبة؟ الجواب: لا، ليست دلالة على المحبة. الأمر الثاني الذي يجد به العبد حلاوة الإيمان قال عنه صلى الله عليه وسلم: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وانظر اليوم إلى موازين البشر، هل هي بميزان الحب في الله والبغض في الله؟ الجواب: لا. بل الحب والبغض أصبح لأجل الدنيا ولأجل القرابة فقط ولأجل المكانة والمنصب ولأجل ما ترجوه من هذا الشخص، هذا هو الميزان الذي عندنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن حلاوة الإيمان تجدها بأن تحب المرء لا تحبه إلا لله، وأما علامة أن حبك لهذا العبد هو محبة في الله فعلامة ذلك أن لا يتغير هذا الحب إن أحسن إليك أو جفاك، فإذا أحسن إليك فأنت على ما كنت عليه من محبته، وإن جفاك فأنت على ما كنت عليه من محبتك له في الله، هذا هو الميزان. أما الأمر الثالث الذي به توجد حلاوة الإيمان فهو كراهة الكفر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، وهذه -والله- ثلاث علامات يجد العبد بهن حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الناس في الله، وأن يكره الكفر وأن يعود فيه كما يكره أن يقذف في نار جهنم. وقد كان الصحابة من شدة إيمانهم بالله سبحانه وتعالى أنهم كانوا ينظرون إلى الدنيا على أنها دار معبر، ولذلك كانوا يتدارسون أشراط الساعة، ويرون أن أشراط الساعة قادمة لابد منها، فكانوا يتدارسون الساعة والقيامة والبعث والحساب والجزاء؛ لأنها حقائق من حقائق الإيمان لابد أن تقع، وهذه المعرفة بهذه الأمور تؤدي بالإنسان إلى النشاط والعمل، ولا تؤدي به إلى الكسل كما يفعل بعض الناس. وقد جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها -أي: ما الذي أعددته للساعة-؟ فقال هذا الصحابي: ما أعددت لها من كثير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبشراً له ومبشراً لأصحابه-: أنت مع من أحببت)، فمن أحب الله والرسول صلى الله عليه وسلم فهو في الجنة مع رسول الله، وهو في الجنة يرى الله؛ فالمؤمنون يرون الله ربهم تبارك وتعالى في الجنة، وما وجد المؤمنون في الجنة ألذ ولا أطيب -وكل ما في الجنة طيب- من رؤيتهم لربهم تبارك وتعالى، نسأل الله الكريم العظيم الجليل من فضله أن لا يحرمنا من النظر إلى وجه الله الكريم في جنات عدن.

يقظة الصحابة رضي الله عنهم

يقظة الصحابة رضي الله عنهم إن الإيمان الذي به عزة المؤمنين هو الإيمان الذي يوقظ صاحبه إذا وقع في الذنوب والخطايا، وليس المؤمن هو الذي لا يخطئ أبداً، وإنما المؤمن هو الذي إذا وقع في الذنب تذكر أن له رباً يغفر الذنوب فتوجه إلى الغفور الرحيم، المؤمن هو الذي إذا وقع في المعصية لم ييأس ولم يستهوه الشيطان، ولكنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتوجه إلى ربه تبارك وتعالى. ولقد كانت يقظة الصحابة عظيمة، فهذا أحدهم -وهو ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وأرضاه- كان رجلاً جهوري الصوت، فإذا تكلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم صار صوته مرتفعاً، فلما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2] وسمع بهذه الآية جلس في بيته حزيناً، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله! إنه في بيته جالس، وإنه يقول: أنا من أهل النار، وقد حبط عملي لأنني أرفع صوتي على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليأت إليَّ، إنه من أهل الجنة). إذاً رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم هو بالاعتراض على حكمه وسنته ومنهجه، كما يفعل اليوم كثير من الناس، بل وكثير من المسلمين يرفعون أصواتهم فوق النبي صلى الله عليه وسلم، فيريدون حكم الجاهلية وأنظمة الجاهلية وقوانين الجاهلية وفتات وحقارات الجاهلية، ويضربون بحديث وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، وهذا هو رفع الصوت على الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما سمع هذا الصحابي الجليل فرح واستبشر، فلما كانت وقعة اليمامة في قتال المرتدين لبس كفنه، وقاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل. أما تيقظ هذا الإيمان فهاك قصة أخرى لأحد الصحابة أيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تحزبت عليه الأحزاب في المدينة من وثنية قريش ووثنية غطفان، فساروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يسحقوا المسلمين في المدينة المنورة، وكانوا عشرة آلاف: أربعة آلاف من قريش وستة آلاف من غطفان ومن حولها، وحاصروا المدينة، وحفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق كما هو معروف. ولكن هل هذا هو العدو وحده؟ A لا. فقد كان في داخل المدينة عدوان جسيمان للمسلمين: أما أحدهما. فيهود بني قريظة الذي كانوا داخل حصون المدينة، فنقضوا العهد، وتمالئوا مع المشركين على القضاء على المسلمين. أما العدو الثاني فالمنافقون داخل صف المسلمين، وقد كانوا يريدون أن يؤخروا حفر الرسول صلى الله عليه وسلم للخندق، وكانوا يريدون أن تأتي الجيوش الجرارة قبل أن يكتمل حفر الخندق، يريدون بذلك أن يهجم الأحزاب على المسلمين قبل أن يكتمل خط دفاعهم الأول، ولكن قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، فكانت العاقبة للمؤمنين، حيث أنزل الله ريحاً وجنوداً على الكفار أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وولوا مدبرين، وبعد ذلك ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخونة من اليهود في بني قريظة يريد أن يقتص منهم، فتحصنوا بحصونهم، وقالوا: أرسل لنا رجلاً. فأرسل لهم أحد الصحابة، فلما دخل عليهم هذا الصحابي الجليل -وهو أبو لبابة - استقبله اليهود داخل الحصن بالنساء والأطفال وهم يبكون بكاءً شديداً، يريدون أن يسترحموه، وصاروا يفاوضونه ويقولون له: ماذا ترى: هل ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه لما سألوه: هل ننزل على حكم محمد؟ قال لهم: نعم. وأشار بيده إلى حلقه، يعني: نعم. إنه الذبح. ولم تنته هذه الحركة منه رضي الله عنه وأرضاه حتى شعر بندم شديد على أنه فضح سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أعطاهم النصح قائلاً: إن نزلتم على محمد فسيكون حكمكم الذبح. فكيف يرجع هذا الصحابي الجليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن نتيجة المفاوضات وقد وقع فيما وقع فيه؟ فما استطاع، فماذا فعل؟ نزل حزيناً كئيباً شاعراً بذنبه، حتى أتى إلى المسجد وربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وقال: والله لأبقين هكذا حتى يفك قيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. سجن نفسه في سارية المسجد، وكان بعض أهله يأتيه إذا حضرت الصلاة فيفك قيده ثم يصلي، ثم يرجع ويربط نفسه بالقيد، حتى بقي على ذلك سبع عشرة ليلة. هذا هو إيمان العزة، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وأنزل الله توبته، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم -كما ورد في بعض الآثار- قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102]، وبشر رضي الله عنه وأرضاه بالتوبة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفك قيده. هذا هو الإيمان الذي يجعل العبد يستيقظ. هذا الإيمان هو الذي دفع بذلك الشاب الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى أماكن القبائل فسمع بالإسلام، فعزم على أن يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقابله، فلم يطعم طعاماً ولم يشرب شراباً، وإنما كان يركض لهفاً حتى إنه كان إذا جاع أخذ من الشجر وأكل منه حتى تجرح شدقاه رضي الله عنه، فأقبل بين مكة والمدينة وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ذاهب إلى مكة للحج، فلما لقيهم هذا الشاب قالوا له: أين تريد؟ قال: ذاهب إلى المدينة أريد محمداً صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: هذا هو رسول الله. فأقبل هذا الشاب لهفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، بماذا تأمرني؟ ما الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فأخذ العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق، وما كاد ينطلق حتى عثرت دابته بجحور اليرابيع، فلما عثرت سقط فدقت رقبته فمات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك: (ائتوني به) فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويعرض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (دونكم أخاكم فغسلوه وكفنوه)، فلما غسلوه وكفنوه وصاروا يحفرون قبره، أمرهم باللحد، وقال: (اللحد لنا والشق لغيرنا). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون لما أعرضت عنه؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: لقد رأيت الملائكة تطعمه بثمر من ثمر الجنة لأنه مات جائعاً) رضي الله عنه وأرضاه. هذا هو الإيمان، وليس إيمان الترف والاستكانة التي يعيشها الناس اليوم، بل إيمان العزة والكرامة، والثقة والنصر بالله سبحانه وتعالى. ففي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أحواله، وفي أحوال أصحابه قصص عظيمة للعبرة، ولكن عمر رضي الله عنه وأرضاه أعطانا نموذجاً لذلك لما جاء ليفتح بيت المقدس، فإنه جاء على جمل يعتقبه هو وصاحبه، وخاض المفازة، فقال له أبو عبيدة: (لو أنك جئت إليهم راكباً؟) فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه كلمة مشهورة يجب أن نقف عندها دائماً، قال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة بغيره أذلنا الله).

أهم مظاهر ومعالم العودة إلى الإيمان

أهم مظاهر ومعالم العودة إلى الإيمان تلك -أيها الحبيب- لمحات في هذا الباب، وأختم هذا الموضوع بذكر بعض المظاهر التي يجب أن تكون لعزة المسلم في عصرنا الحاضر، والأمة الإسلامية تستقبل فجراً جديداً وصحوة إسلامية رائدة ورجوعاً إلى هذا الدين، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً التمسك بدينه والثبات عليه، وأن يوفق شباب المسلمين ونساءهم وفتياتهم، وأن يوفق الجميع إلى الاعتصام بحبل الله المتين.

وجوب التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة

وجوب التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة أيها الحبيب! هناك معالم كثيرة لابد منها إذا أردنا أن ننطلق بإسلامنا وعزتنا به من جديد، وهاأنا أشير إليها باختصار، وأهم هذه المعالم للعودة إلى الإيمان واعتزازنا به: أولاً: التمسك بهذا الدين عقيدة وشريعة، فالتمسك بهذا الدين عقيدة بأن نعتصم بها، ونربي عليها أنفسنا وأسرنا وكل من ولانا الله إياه، عقيدة لا تقبل المساومة ولا التقصير، وإنما هي عقيدة سليمة مبناها على التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، ومحتواها السير على منهج السلف الصالح رحمهم الله، وشريعة لا نرضى بها بديلاً، نحكمهما في جميع شئوننا، وفي كل أمورنا، وفي كل النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل شأن من شئون الحياة لله تبارك وتعالى فيه حكم، فلا نتحاكم إلا إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

أهمية الدعوة إلى دين الإسلام

أهمية الدعوة إلى دين الإسلام الأمر الثاني: الدعوة إلى الله، والدعوة إلى هذا الدين بكل ما نملك؛ لأننا نريد الخير للناس جميعاً، سواء -كانوا من المسلمين- أم من غيرهم، فكلهم ندعوهم إلى الله ليستقيموا على دين الله، وننشر منهج أهل السنة والجماعة في كل مكان، وندعو إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن هذا الدين هو دين الله، وليس له حدود في الزمان ولا في المكان. وهذه علامة واضحة، بل هي علامة كبرى على عزة المسلم بإيمانه، فإذا اعتز المسلم بإيمانه دعا إليه؛ لأنه يريد الخير للمسلمين كما يريده لنفسه، ولأنه يعلم أن هذا الدين هو الحق، وأنه لا عزة ولا كرامة إلا بهذا الدين، فيدعو إليه واثقاً، ويستخدم كافة الأساليب في الدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى، بالكلام، بالكتابة، وبالشريط، وبكل وسيلة من الوسائل.

وزن الأمم والأفراد بميزان الإيمان

وزن الأمم والأفراد بميزان الإيمان الأمر الثالث: وزن الأمم والأفراد بميزان الإيمان، وهذه قضية واضحة جداً، فالإنسان الذي يحمل هذا الإيمان ويعتز به يزن الناس به، فأمامه أن الكفار لا وزن لهم، ولا قيمة لهم ولا كرامة؛ لأن الله أهانهم وأذلهم، بل قال -وهو سبحانه أصدق القائلين، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]- قال عن هؤلاء الكفار: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]؛ لأن الأنعام أتت بما خلقت له من مركب أو مأكل أو غير ذلك، لكن هؤلاء خلقوا للعبادة فأبوا أن يخلصوا لله الواحد، فهم كالأنعام، بل هم أضل منها. فميزان المؤمن هو ميزان الولاء والبراء، فالمؤمنون لهم كرامة عنده، وأخوك المؤمن تحمل في قلبك حباً له، ولا تحتقره ولو كان أقل منك رتبة، وأقل منك مالاً، وتحمل في نفسك الكرامة لأخيك المؤمن؛ لأنك تحبه في الله، هذا هو الميزان الذي يدل على أنك تعتز بهذا الدين فتزن به الناس، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

وجوب رفض كل ما سوى الكتاب والسنة

وجوب رفض كل ما سوى الكتاب والسنة الأمر الرابع: أن الإنسان إذا اعتز بهذا الدين رفض كل ما سواه، فكل أنظمة البشر وكل ما يأتي به البشر إذا جاء مخالفاً لكتاب الله أو لما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مرفوض لا قيمة له ولا وزن، ولو كان منمقاً مفصلاً مهيئاً إلى آخره. والجاهليون والقوميون والعلمانيون وغيرهم يريدون أن يعرضوا جاهليات الغرب والشرق علينا بأن فيها السعادة وفيها الحياة والكرامة وفيها كذا وكذا، ولا والله، ليس فيها إلا الذل والمهانة لنا إن رفضنا شرع الله وأخذنا بها.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام الأمر الخامس من الأمور التي تبنى عليها عزة المؤمن في العصر الحاضر وفي كل عصر: اليقين بأن المستقبل للإسلام، واليقين بأن المستقبل لهذا الدين، فالحضارة الغربية بشرقها وغربها تعيش أزمة منذ سنوات في جميع نواحي أمورها، وإن ظهرت لنا بمظهر العلم والتكنولوجيا والاختراعات والقوات وغيرها، فالمستقبل للإسلام، وهذه قضية يعرفها الأعداء قبل الأصدقاء، ويعرفها اليهود والنصارى والملاحدة، والله تعالى يقول عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]. واليهود يعلمون أنهم لا بقاء لهم، وأنهم سيحاربون وسيقاتلون في يوم من الأيام وسيطردون، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: (لتقاتلن اليهود حتى ينطق الشجر والحجر. ويقول: يا مسلم! يا عبد الله! إن ورائي يهودياً فتعال فاقتله. إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)، وهم الآن يحيطون مستعمراتهم بشجر الغرقد.

بشائر عزة الإسلام

بشائر عزة الإسلام إن العزة للإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا عدة بشارات وسأشير إلى اثنتين منها: البشارة الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لتفتحن القسطنطينية وروما)، وروما هي عاصمة إيطاليا، وفيها دولة الفاتيكان أم النصرانية في العالم، (قيل: يا رسول الله! تفتح القسطنطينية أولاً أو روما أولاً؟ قال: القسطنطينية أولاً)، وهل فتحت روما؟ حتى الآن لم تفتح روما، وستفتح بوعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. إذاً: المستقبل للإسلام، المستقبل لهذا الدين أبداً، فلا نطلب العزة بغيره. البشارة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً العزة والمستقبل للإسلام، العزة للإسلام، والمستقبل لمن حمل راية الإسلام، فلماذا لا نكون نحن -أيها الحبيب- من حملته؟ ولماذا لا نربي عليه أنفسنا وأولادنا ونساءنا وأقرباءنا؟ فلنترب عليه لنعود مرة أخرى. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن اعتصم به وتوكل عليه واعتز بدينه. اللهم! إنا نسألك أن تغرس في قلوبنا الإيمان، وأن تثبتنا عليه إلى أن نلقاك. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويقام فيه علم الجهاد. والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية إقناع الناس بأن العزة للإسلام

كيفية إقناع الناس بأن العزة للإسلام Q كيف نغير المفاهيم عند بعض الناس ونقنعهم أن العزة بالإسلام؟ A تغيير المفاهيم يكون بأمرين: الأمر الأول: أن تكون -أيها الداعية- معتزاً بالإسلام؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا لم تكن أنت عندك الحرقة على هذا الدين والعزة به فكيف يمكن أن يقتنع بك الآخرون؟ الأمر الثاني: أن تبين له الإسلام الحق والإيمان الحق؛ لأن هذا البيان مع ذكر النماذج لذلك من عزة الإسلام في تاريخه السابق قد يولد عند أخيك القناعة بإذن الله وبعونه على أن العزة للإسلام.

الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الإيمان

الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الإيمان Q من المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، فما هي الأسباب التي تؤدي إلى ذلك؟ وكيف نحافظ على الإيمان؟ A لا شك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. والحقيقة أن المحافظة على هذا الإيمان إنما هي بسلوك السبل التي تؤدي إلى زيادته، والابتعاد عن الوسائل التي تؤدي إلى نقصانه. والإيمان -بدون شك- عند الإنسان ليس على وتيرة واحدة، فأحياناً يرتفع هذا الإيمان عند الإنسان، وأحياناً يخبو قليلاً ويحس الإنسان بضعف في إيمانه وثقل حتى في تأديته أحياناً للعبادات، والذي أراه لإخواني في مثل هذه الحالة القيام بأمور: أولاً: أن يحرص تمام الحرص على أن لا يؤدي ضعف إيمانه إلى الكسل عن الفرائض، بمعنى أن الإنسان لو فرض أنه كسل عن طاعة وعن تطوع فإياه ثم إياه أن يؤدي به إلى الكسل عن صلاة الجماعة مثلاً، بل يحرص كل الحرص على أن يؤدي الفرائض؛ لأنها أحب الأشياء إلى الله. الثاني: أن يحرص كل الحرص على أن يبحث عما يقوي إيمانه، وتقوية الإيمان تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد تكون بقراءة القرآن، وقد تكون بالنوافل، وقد تكون بمدارسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون بمجالسة الصالحين، وأقول: إن هذا هو الذي كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان الواحد منهم يلقى أخاه ويقول: يا فلان! تعال بنا نؤمن ساعة. لأن الإنسان إذا صار عنده ضعف في إيمانه وذهب إلى أخيه، وأخوه في ذلك اليوم قوي إيمانه فجلسا فتحدثا فهذه الجلسة الأخوية، وهذه الزيارة في الله بحد ذاتها فرض عليه، فكيف إذا جلسا لمذاكرة علم أو شأن من شئون المسلمين؟ لاشك أن الإيمان يقوى. والنتيجة هي أنك إذا ضعف إيمانك لا تستسلم للشيطان، بل ابحث عما يقوي إيمانك.

نصيحة للنساء

نصيحة للنساء Q هل هناك من نصيحة توجهونها إلى النساء؟ A أما نصيحتي لأخواتي المسلمات فتتخلص في ثلاثة أمور: الأمر الأول: تقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، فالتقوى هي لعموم المؤمنين ومنهم النساء، لكن المرأة مطلوب منها أن تتذكر تقواها لربها في عرضها وصلاتها وحق زوجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعت على النار فوجدت أكثر أهلها النساء. فقلن: يا رسول الله! لمَ؟ قال: لأنكن تكفرن العشير، لو أحسنت إليها الدهر كله ثم رأت يوماً سوءً قالت: ما رأيت خيراً قط)، وهذه هي طبيعة المرأة، فعليها أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها، وفي مال زوجها وبيته، وفي وأولادها. الأمر الثاني: يجب أن تحذر أختي المسلمة كل الحذر من دعايات المضللين والمنافقين والمنافقات، وبعض الناس يظن أنه لا منافقات، وهذا غلط؛ لأن الله يقول في أكثر من آية: (والمنافقون والمنافقات). إذاً ليس النفاق خاصاً بالرجال، وإنما في النساء منافقات بنص القرآن الكريم، فعليها أن تحذر منهن ومنهم، فأولئك الذين يريدون أن يلبسوا الباطل بلباس الحق عليها أن تحذر من مكايدهم، وهكذا دعاة التبرج والسفور والاختلاط ودعاة هدم الأخلاق عليها أن تحذر كل الحذر من هؤلاء. ولتعلم أختي المسلمة أنها إذا حذرت هؤلاء فإن البديل لها هو ما شرعه الله لها، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، أترون بنات المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشن شقيات لأنهن لم يخرجن ولم يتبرجن، ولم يُكنَّ مثل الرجال يخالطنهم في الوظائف والأعمال؟ الجواب: لا. بل -والله- كنّ يعشن في أتم سعادة؛ لأنهن ائتمرن بأمر الله سبحانه في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]. ائتمرن بأمر الله، فقامت المسلمة بدورها تصنع الرجال وتربي الأجيال وتخرجهم، حتى تربى الأولاد وتربت البنات على الطاعة والالتزام وعلى العزة بهذا الدين، فصار الواحد منهم يمشي في مشارق الأرض ومغاربها حاملاً مشعل الإيمان معتزاً بدينه رافعاً راية الحق خفاقة، يقول للكفار في كل مكان: هذا ديني وإسلامي، وهذا نسبي، فإلى من تنتسبون؟! هكذا صنعت النساء، وهكذا كن الصحابيات والتابعيات ومن جاء بعدهن يصنعن، فهل رأيتم صحابية أو من نساء السلف من أصيبت بمرض نفسي لأنها تجلس في البيت؟ أو أصيبت بعقدة كما يدعي المستغربون والمنافقون؟ الجواب: لا والله. ولماذا لا نجد في تاريخنا -وفيه نساء كثيرات- ما يبثه اليوم أعداء الإسلام من قولهم: المرأة جالسة عاطلة؟ بل المرأة تقوم بدور عظيم جداً؛ لأن هذا من الطبيعة التي خلقها الله عليها، فالمرأة لها طبيعة خاصة، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3]، فلو جئنا لنعكس ونقول: الليل يكون نهاراً. والنهار يكون ليلاً فكيف ستكون حياتنا؟ ستكون تعاسة؛ لأننا عكسنا الطبيعة التي خلق الله الكون عليها. وكذلك أيضاً لو جئنا نعكس ونقول: المرأة تقوم بدور الرجل؛ لأن هذه طبيعة خلقها الله عليها، فالمرأة هي التي تحمل، وهي التي تصنع الرجال، وهي التي ترضع، وهي التي تقوم بالبيت، فإذا غيرنا هذه الأمور وقلنا للمرأة: تعالي فكوني أنت التي تحملين السلاح دائماً، وأنت التي تؤدين الوظائف، وأنت التي تختلطين بالرجال فسنرى أنه انعكست الأمور وانحطت الأخلاق وتحطمت الأمة، وهل بعد أمر الله أمر؟! وهل بعد اختيار الله اختيار؟! أما الوصية الثالثة لأختي المسلمة فهي أن تكوني داعية إلى الله بين أخواتك المسلمات، فالمرأة تؤثر على المرأة، ولا تكوني ممن تدعو أحياناً إلى السوء وهي لا تشعر، فبعض النساء تجدها أحياناً تفعل أشياء تظنها لا شيء فيها وهي أحياناً تؤدي إلى خراب البيوت. مثلاً: قد تأتي المرأة إلى جارتها أو صديقتها فتجدها تخبر صديقتها عن أحسن أخلاق زوجها، وقد يكون زوجها له خلق أو خلقان ممتازان، لكن له ثلاثة أو أربعة سيئة، فتأتي مقابلتها التي تسمع منها ويكون هذا الخلق الذي ذكرته هو من أسوأ أخلاق زوجها، فتقول مثلاً: إن زوجي لا يرد لي مطلباً. أو نحو ذلك من الأمور التي تذكرها المرأة أحياناً، فتلك تسمع منها وتقول: إذا كانت هذه المسألة قد حسنت أخلاق زوجها فيها فما بالك بالأخلاق الأخرى؟ فترجع على زوجها، وتسوء العلاقة بينهما، مع أنها لو فتشت في مجمل أخلاق زوجها ومجمل أخلاق زوج جارتها أو صديقتها لوجدت أن زوجها يفضل ذاك بكثير، لكن السبب هو تلك الأمور التي تحدث بين النساء ويكون فيها إسفاف، والوسائل والأمثلة كثيرة، لكن على المرأة المسلمة أن تكون داعية إلى الله، فإذا اجتمعت مع أختها تتذاكر معها كتاب الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والأمر الطيب والإصلاح بين الناس والحديث والسمر الذي يحبب النفوس ولا يبغض النفوس فذلك أمر محمود. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزق أخواتي المسلمات جميعاً التقوى والعفاف، وأن يعصمهن من الانحراف، وأن يوفق أولياء أمورهن على أن يكونوا عوناً لهن على طاعة الله؛ لأن من أولياء الأمور -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من يكون عوناً للشيطان على أهل بيته، فإذا هدى الله بنته أو زوجه أو أخته صار ضدهم يريد أن يجرفهم وأن يحرفهم. أسأل الله للجميع التوفيق والهداية. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

القضاء والقدر

القضاء والقدر الإيمان بالقضاء والقدر هو السعادة، وهو ركن الإفادة من هذه الدنيا والاستفادة، منه تنشرح الصدور، ويعلوها الفرح والحبور، وتنزاح عنها الأحزان والكدور، فما أحلاها من حياة عندما يسلِّم العبد زمام أموره لخالقه، فيرضى بما قسم له، ويسلِّم لما قدّر عليه، فتراه يحكي عبداً مستسلماً لمولاه، الذي خلقه وأنشأه وسواه، وبنعمه وفضله رباه وغذاه، فيسعد في الدنيا ويؤجر في الأخرى. ولا يتم ذلك إلا لمن فهم القضاء والقدر، وعرف أسراره، وعلم حكمه على فهم سلف الأمة، فهم على علم أقدموا، وعن فهم كفوا وأحجموا، فلابد من الوقوف حيث وقفوا، وقصر الأفهام على ما فهموا.

أهمية عقيدة القضاء والقدر

أهمية عقيدة القضاء والقدر بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فموضوع هذا الدرس القضاء والقدر، وسنركز على بعض القضايا المتعلقة بمنهج دراسة مثل هذا الموضوع، وتعريفه، ومجمل عقيدة السلف فيه. وأول قضية نحب أن ننبه إليها في هذا الموضوع هي: أن موضوع القضاء والقدر موضوع مهم؛ لأنه يتعلق بحياة جميع الناس، فما من إنسان يعيش في هذه الحياة، ويسير في مناكبها على أي ديانة كان، وفي أي اتجاه اتجه في حياته العملية أو العقدية أو غيرها؛ إلا وقضية القضاء والقدر عنده من القضايا التي تشغل باله في كل وقت. ومن ثم فإن الله تبارك وتعالى بين لنا هذه المسألة في كتابه أتم بيان، كما أوضحها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج صحيح. وأول ما يتبادر إلى الذهن حول أهمية القضاء والقدر أنه من أركان الإيمان، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الإيمان أجاب بالأركان الستة، وختمها بالإيمان بالقدر خيره وشره. والله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز أنه خلق كل شيء وقدره، وأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بتقديره تبارك وتعالى على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن هنا فإن أركان الإيمان وما يتعلق بهذه الأركان من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يتدبرها وأن يتعلمها وأن يتعمق فيها، وأن يكون إدراكه لها إدراك العالم البصير، وخاصة طلاب العلم؛ لأننا نجد جميع المسلمين -والحمد لله- يؤمنون بهذه الأركان، ولكن الإيمان المبني على الفهم الصحيح من الأدلة نجد الناس يتفاوتون فيه. ومهمة طالب العلم والداعية إلى الله سبحانه وتعالى هو ألا يكون إيمانه بهذه الأركان إيمان معرفة مجردة، وإنما يكون إيمانه بها بفهم دقيق عميق بحيث يكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ضمن ما يدعو إليه أن يبين للناس هذه الأركان، وأن يوضح ما يتعلق بمقتضياتها، وما يتعلق بآثارها في حياة الإنسان إلى آخره. وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن فهم العقيدة بأدلتها، وفهم منهج السلف رحمهم الله تعالى بأدلتهم ومنهجهم أمر آخر غير الإيمان المجرد الذي ربما يؤمن به الإنسان وهو سائر في حياته، فحينما يأتي إنسان ملحد أو ضال أو منحرف ليعرض انحرافه أو شبهته، ففي هذه الحالة لا يتمكن من الرد عليه ودحر باطله وبيان الحق من الباطل فيما يقول إلا من تعمق بدراسة العقيدة الإسلامية من جميع جوانبها، وفهمها بأدلتها على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى. فحينما نقول: إن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، فالمقصود أن على المسلمين وعلى الدعاة إلى الله منهم خاصة وطلاب العلم أن يفقهوا هذا الركن وغيره على وفق فقه السلف.

كثرة الانحرافات في باب القضاء والقدر

كثرة الانحرافات في باب القضاء والقدر مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثرت فيها الانحرافات، وتعددت فيها أقوال الطوائف، فصار بيان الحق من الباطل فيها مهماً، لو نظرنا إلى ما قبل الإسلام مثلاً لوجدنا أن الفلاسفة والوثنيين بل ومشركي العرب كل منهم خاضوا في مسألة القضاء والقدر، حتى إن مسألة الاحتجاج بالقدر التي نسمعها إلى الآن لو تأملنا في كتاب الله تعالى لوجدنا أن المشركين قد احتجوا بالقضاء والقدر على شركهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، فربطوا شركهم بالقدر، واحتجوا بالقدر على شركهم، ولا شك أن حجتهم باطلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. جاءت رسالة الإسلام، ونزل القرآن العظيم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وفهم الصحابة العقيدة الفهم السليم؛ لأنهم حضروا التنزيل، وشافهوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، ثم جاء بعدهم من يتكلم بلا علم في قضايا العقيدة ومنها: قضية القضاء والقدر. ولقد حدثت انحرافات خطيرة جداً في القرن الأول في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، واستمر الانحراف والتفرق في موضوع القضاء والقدر، وظهرت الطوائف التي لاكته على حسب معتقداتها ومسلماتها فنشأ انحراف خطير. وفي العصر الحاضر نجد أن الفلسفات المعاصرة كلها تجعل قضية القضاء والقدر من قضاياها الأساسية، التي تبلور بها ومن خلالها مناهجها وفلسفاتها، فهناك أصحاب مبدأ الحتمية، والجبرية، وهناك أصحاب مذهب الحرية التامة، وهكذا. كل صورة في عصر من العصور نجد في السابق ما يشابهها، فلما كثرت الانحرافات في هذا الباب كان لزاماً بيان الحق في هذه المسألة، وبحثها على وفق منهج السلف رحمهم الله تعالى.

الشرع مرتبط بالقدر

الشرع مرتبط بالقدر الإيمان بالقضاء والقدر ليس من الأمور الخبرية التي يسلم بها الإنسان أو لا يسلم بها وفقط، وإنما هو من الأمور التي لا تنفك عن حياة الإنسان العملية، بمعنى: أن الشرع مرتبط بالقدر، وكل من اختل فهمه في عقيدة القضاء والقدر سيختل توازنه في تطبيقه لقضية الأمر والنهي والشرع الذي شرعه الله تبارك وتعالى، وهذا نحسه ونلمسه دائماً من أولئك الذين يحتجون بالقدر أحياناً. فقضية القضاء والقدر من القضايا المرتبطة ارتباطاً متيناً بقضية ما سيفعله الإنسان، أو ما أمر به وما نهي عنه على مقتضى الشريعة الإسلامية. ومن هنا كان أولئك الذين يحتجون بالقضاء والقدر أول ما يحتجون به على انحرافهم في اتباع الأمر والنهي، فلما كانت قضية القضاء والقدر قضية عقدية مرتبطة بقضية الشرع وحياة الإنسان العملية، بل واستقراره النفسي في سيره إلى ربه تبارك وتعالى؛ كان من المهم ألا نترك مثل هذه القضية وأن نعرض لها على وفق منهج سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.

حكم الخوض في القدر

حكم الخوض في القدر وبعد بيان أهمية بحث مثل هذا الموضوع ننتقل إلى جزئية أخرى تتعلق بما ورد من النهي عن الخوض في القدر؛ لأن بعض الناس قد يقول: إن الخوض في القدر هو خوض فيما لا علم للإنسان به، ويقولون: إن القدر سر من أسرار الله، وينبغي الكف عن البحث فيه، ويحتجون لذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا) وهذا الحديث رواه الطبراني وغيره، وهو حديث حسن بمجموع طرقه. والعلماء الذين عرضوا لمثل هذه القضية اختلفوا فيها إلى منهجين أو طريقتين: فبعضهم ظن أن دلالة هذا الحديث تقتضي أنه يجب الإمساك عن القدر تماماً، وأنه يجب الكف عن الخوض والكلام فيه، وقال: إن هذا مهم جداً لمن آثر السلامة. وبعضهم قال: يجوز الخوض في القدر والكلام فيه، وضعف هذه الأحاديث. والذي نرجحه أن هذه الأحاديث تصل بمجموع طرقها إلى درجة الحسن، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم فيها هو نهي واضح لا ينصب على بحث القدر على المنهج الصحيح؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، وجاءت فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وردت فيه آيات كثيرة في القرآن العظيم، فهل معنى ذلك أننا منهيون أن نبحث في معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث؟ A لا، بل إن في الحديث ما يدل على مسألة القضاء والقدر وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، فما معنى وجوب الإمساك عن ذكر الصحابة؟ هل معنى ذلك أننا لا نتحدث عن الصحابة وأنسابهم وأسمائهم وجهادهم وأحوالهم وأقوالهم إلى آخره؟! لا، بل الواضح أن المقصود بذلك: إذا ذكر الصحابة بباطل، وصار الناس يخوضون فيهم بين مخطئٍ لهم وقائل فيهم بما لا يجوز، وخاصة ما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ فواضح جداً أن هذا من الخوض الذي لا يجوز، وقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى إذا ذكروا مثل هذه القضايا المتعلقة بالصحابة يقولون: تلك دماء طهر الله منها أيدينا فيجب أن نطهر منها ألسنتنا، فلا نخوض فيهم بالباطل. كذلك أيضاً القضاء والقدر، فمعرفته، ومعرفة الأدلة حوله، وأنه ركن من أركان الإيمان، وما يقوي الإيمان فيه، هذه من المسائل المتعلقة بالقدر التي يجوز الخوض فيها، بل مما يزيد الإيمان فيها أن يدرسها الإنسان ويتعمق فيها. لكن إذا جاء خائض ليخوض في باب القدر بالباطل، ويأتي ليقول: لماذا قدر الله؟ لماذا كذا؟ لماذا كذا؟ ثم يأتي محتجاً ومعترضاً. . إلى آخره، ففي هذه الحالة ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذكر القدر فأمسكوا).

الهدف من دراسة قضية القضاء والقدر وفهمها

الهدف من دراسة قضية القضاء والقدر وفهمها بعض الناس قد يظن أن بحث مسألة القضاء والقدر لا يكون إلا حينما يراد للأمة الاستكانة والخضوع، بمعنى: أنه إذا ابتليت الأمة بالمصائب، وتسلط عليها الأعداء من كل جانب، وصار المسلمون ضعفاء، فمن الأنسب أن نقول لهم: ما جرى إنما هو بقضاء الله وقدره، وعليكم أن تؤمنوا بالقضاء والقدر، وهذا الأمر لا يمكن أن ينفك عنكم أبداً إلى آخره، كما حكي عن بعض الناس أنه قال مثل هذا الكلام إبان الحروب الصليبية، فلما هجم الصليبيون على العالم الإسلامي تلك الهجمة الشرسة قال بعضهم: إن هذا من القضاء والقدر، وما دام أنه من القضاء والقدر فيجب أن نستسلم له! ونحن نقول: إن بحثنا لمثل هذه القضية، وفي مثل هذه الظروف التي تمر بالأمة الإسلامية، ليس مقصده شيئاً من هذا، بل العكس تماماً؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر والفهم الصحيح له هو الذي يحول الإنسان من إنسان متبلد إلى إنسان مقدام شجاع، وهذه مسألة سنعرض لها؛ لأن بعض مسائل العقيدة أحياناً تفهم على غير وجهها مثل: مسألة المهدي، ونزول عيسى، فإذا درست أحاديث المهدي ومجيئه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً، ثم ينزل عيسى ويقتل الدجال إلى آخره، يتبلور في أذهان بعض الناس أنه ينبغي أن ينتظر المهدي، وينتظر نزول عيسى ابن مريم، وأن علينا أن نسكت، وأن الدنيا لا تزيد إلا ظلماً، والاستسلام هو الأولى، والسكوت هو الأولى، وعليك بخويصة نفسك إلى آخره! نقول: هذا من الفهم الخاطئ لقضية المهدي ولمسألة نزول عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بهذا، والصحابة الذين فهموا هذا، هل جاء في أذهانهم مثل هذه المفاهيم؟! لا، بل عملوا في حياتهم على مقتضى شرع الله؛ لتغيير الواقع، وللنهوض بالأمة الإسلامية بحسب جهدهم وبحسب مقدرتهم، ووفقهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم كانوا مخلصين في مقاصدهم، وكانوا أيضاً متبعين لشرع الله تعالى في أعمالهم وفي مناهجهم. ومن هنا تجد أن قضية القضاء والقدر عند بعض العلماء لا يمكن أن تمر في ذهنه أنها تدعوه إلى الكسل والتواني، سواءً كان هذا على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة، حتى إن عبد القادر الجيلاني يؤثر عنه أنه قال: ليس الرجل الذي يسلم للأقدار -أي: يستسلم- وإنما الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار. وهذه قضية واضحة جداً، كل منا لو نظر في حياته لوجد أنه مضطر إلى هذا، فإذا كنت في أمورك العادية تدفع الأقدار بالأقدار حتى قدر الجوع تدفعه بقدر آخر وهو الأكل، وقدر العطش تدفعه بقدر آخر وهو الشرب والري، وهكذا. كذلك قدر المعصية إذا وقعت تصبح قدراً فإنك تدفعها بقدر آخر وهو الطاعة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى كما سيأتي.

الطرق الصحيحة في دراسة مسائل القضاء والقدر

الطرق الصحيحة في دراسة مسائل القضاء والقدر من المسائل المتعلقة بالمقدمات المتعلقة بقضية القضاء والقدر هي المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر. مسألة المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر يجب أن تدرس دراسة مستقلة؛ لأنها تتعلق بالقضاء والقدر وبغيره، وكل خلط وانحراف في هذا الباب وفي غيره من أبواب الإيمان إنما منشؤه الخلط في المنهج، وانظروا إلى الفرق الإسلامية التي انحرفت، وانظروا إلى المذاهب المعاصرة التي انحرفت، فستجدوا من أسباب انحرافها أن منهجها في تلقي هذه العقيدة وفي فهمها منهج خاطئ. ومن هنا فإنني لن أشير مطيلاً في هذه القضية؛ لأنها قضية تحتاج إلى محاضرات مستقلة، والحمد لله فإن هناك كتيبات وهناك محاضرات تبين مثل هذه المسألة، ولكن الذي أود أن أشير إليه في باب القضاء والقدر هو ثلاثة أمور في المنهج:

القدر مرتبط بعدل الله وحكمته ورحمته وصفاته

القدر مرتبط بعدل الله وحكمته ورحمته وصفاته الأمر الثالث المتعلق بمنهج دراسة القضاء والقدر: أن الدارس المتفهم لهذه القضية يجب عليه أن يربطها ربطاً تاماً بربه تبارك وتعالى، يربطها بعدل الله، وحكمة الله، ورحمة الله، وصفات الله تبارك وتعالى، فقضية القضاء والقدر مرتبطة بصفات الله تبارك وتعالى الكاملة، فهو سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، فلا ينبغي لإنسان يدرس هذه القضية وكأنه يجعل ربه تبارك وتعالى في قفص الاتهام كواحد من البشر، سبحان الله عما يصفون، بل يجب عليه أن ينظر إلى المسألة من منظار أنه عبد وأن الله رب، وأن يعرف جيداً أن هذه القضايا متعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته وكماله، والله تبارك وتعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وهو سبحانه الذي أراد أن ينشئ هذا الكون، وأن يوجد هذا الإنسان، وهو الذي اقتضت إرادته أن تنتهي هذه الدنيا، وأن تنكدر النجوم، وتتشقق السماء، وتكور الشمس، وأن يتغير العالم، هو الذي أراد ذلك، وهذا أمر كائن لا محالة، فلننظر إلى هذه المسألة من منظار العقيدة الصافية المفهومة فهماً صحيحاً، وخاصة ما يتعلق منها بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته.

الأخذ من الكتاب والسنة

الأخذ من الكتاب والسنة الأمر الأول: أن عقيدة القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة أولاً، ويستعان بما كتبه علماء الإسلام في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، بمعنى: أن الإنسان الذي يريد أن يفهم هذه القضية فعليه أن ينطلق من هذا المنطلق، قراءة الكتاب العزيز وتفسيره، وقراءة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفهمها بحيث يستنتج الإنسان في النهاية استنتاجاً متلائماً مترابطاً حول هذه القضية، التي هي قضية القضاء والقدر؛ لأن مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثر الخوض فيها من جانب الفلاسفة ومن جانب المتكلمين، خاض الفلاسفة فيها جميعاً، خاض فيها الصوفية على مختلف أصنافهم، خاض فيها المتكلمون من معتزلة وأشاعرة، خاض فيها مختلف الطوائف من الفرق كالروافض والزيدية وغيرهم، كل خاض في هذه القضية، وهذه الكتب تجد منهجها توجيه هذه القضية توجيهاً منحرفاً، وأقرب مثال على ذلك، من هم أقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة، وهم الأشاعرة والماتريدية، لو جئت إلى قضية القضاء والقدر لوجدت أن مناهجهم فيها كثير من الخلط، ولم تصف لهم هذه المسألة؛ لأنهم عندما واجهوا المعتزلة في بعض القضايا أدى بهم الأمر إلى أن يقعوا في الطرف الآخر من المسألة، بينما المنهج الحق هو الوسط لا هذا ولا هذا، وستأتي الإشارة إلى أشياء من هذا إن شاء الله تعالى. إذاً: على الإنسان أن يرجع أولاً إلى الكتاب والسنة في العقيدة عموماً، وفي قضية القضاء والقدر خصوصاً.

القدر سر الله

القدر سر الله الأمر الثاني: أن هناك مجالاً في باب القضاء والقدر لا مدخل للإنسان فيه أبداً، وهو الذي سماه بعض العلماء: سر القدر، قال الطحاوي رحمه الله تعالى: والقدر سر الله لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، هذه القضية يجب أن نعرفها وأن نؤمن بها؛ لكن لا يجوز أن نضعها في غير محلها كما يفهم البعض، مدار قضية أن القدر سر الله، وأن في القدر ما لا يمكن للإنسان أن يبحث فيه: هو التقدير الأزلي من الله سبحانه وتعالى، وهو أن الله تبارك وتعالى هو الذي اختار أن يوجد الناس في هذه الحياة على الابتلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. لأن السائل قد يسأل هنا ويقول: لماذا لم يجعلهم الله مهتدين؟ والله تعالى أجاب عن ذلك في كتابه العزيز فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، لو أراد الله سبحانه وتعالى لجعل الناس كلهم مؤمنين مثل الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولكن الله -وهو الذي له المشيئة المطلقة- أراد ذلك لحكمٍ كثيرة، أراد الله أن يوجد البشر على هذه الأرض، وأن يكونوا مكلفين، وأن يكون منهم أهل استقامة واتباع؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل الجنة، وطائفة أخرى أهل انحراف وكفر؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل السعير. فمن قال: لماذا لم يجعل الله الناس كلهم مهتدين؟ مثل من جاء ليقول: لماذا لم يجعل الله الأرض على هذا الشكل؟ هذا سؤال لا نسأله نحن، وسيأتي إن شاء الله ما يبين أن الإيمان بهذه القضية من المواطن المهمة جداً لسلامة قلب الإنسان واستقراريته، وبقيت قضايا أخرى تتعلق بمشيئة الإنسان، وهل له حجة على الله؟ وهذه مسائل واضحة تمام الوضوح كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. إذاً: على الإنسان ألا يعترض على أصل المشيئة الإلهية، بمعنى: لا يأتي قائل يقول: لماذا أغنى الله هذا وأفقر هذا؟ لماذا هذا يعيش إلى مائة سنة وذاك يعيش عشر سنوات فقط أو عشرين أو ثلاثين؟ لماذا الله تبارك وتعالى أضل وهدى، وجعل الناس صنفين؟ هذه من الأسئلة التي هي موطن سر القدر، والقدر متعلق بمشيئة الله تبارك وتعالى النافذة.

تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحا

تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحاً بعد هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى المسألة الأولى من المسائل التي نحب أن نبينها، ألا وهي: مسألة تعريف القضاء والقدر، ولا نريد أن نخوض في المعاني اللغوية لمسألة معنى كلمة قضى، ومعنى كلمة قدر، وإنما أحب أن أشير هنا إلى كتاب ابن فارس الذي يسمى بمعجم مقاييس اللغة، وهو من أهم الكتب التي جمعت بين فقه اللغة وبين معنى اللغة، ومعاني الكلمات، فهو يحرص دائماً على بيان علاقة الحروف بالكلمة. ومن هنا فإنني سأشير إشارة صغيرة إلى قول ابن فارس في معنى كلمة قضى حيث قال: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، وهذا المعنى واضح الدلالة جداً في علاقته بالقضاء والقدر، وإن كان القضاء والقدر له معانٍ أخرى معروفة كثيرة: فيأتي بمعنى الأمر قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] أي: أمر. ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله تعالى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] في قصة سحرة فرعون، أي: احكم ما أنت حاكم، ما أنت تريد. ويأتي بمعنى الفراغ كما قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] أي: أنه سبحانه وتعالى فرغ من خلقهن وتسويتهن. ويأتي بمعنى الأداء تقول: قضى فلان صلاته، أي: أداها يقول سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] أي: إذا أديتم مناسككم. ويأتي بمعنى الإعلام كما في قول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء:4]، أي: أوحينا وأخبرنا وأعلمنا إلى آخر المعاني التي هي معروفة في اللغة العربية. ولكن الذي يهمنا في هذا أن مجمل هذه المعاني ذات ارتباط بالمعنى الأساسي الذي نريده، وهو أن معنى كلمة القضاء مرتبطة بالقدر، فهي دالة على أن الله سبحانه وتعالى قضى هذا الأمر وفرغ منه، ودالة على أن الله أحكم هذا الأمر ونفذه، ودالة على أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أن يجري قضاءه كما قدره سبحانه وتعالى. وكذلك كلمة القدر يقول فيها ابن فارس في كتابه المهم معجم مقاييس اللغة: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء ونهايته. ومن هنا فإن القدر يطلق على الحكم والقضاء كما في حديث الاستخارة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره يقول الداعي: (فاقدره لي ويسره لي). وحينما يحرك الدال: (قَدَر) يكون بمعنى الطاقة، كما قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]. ويأتي القدر بمعنى التضييق كما في قول الله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، في قصة يونس، أي: ظن أن لن نضيق عليه. وأيضاً يأتي من التقدير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له)، ويوضحه الرواية الأخرى: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً). فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وهذا يتعلق بمسألة فقهية معروفة. إذاً: إذا نظرنا إلى المعاني اللغوية للقضاء والمعاني اللغوية للقدر نجد أن لها علاقة واضحة بمعنى القضاء والقدر الذي نحن بصدده. إذاً: إذا كان هذا معناهما لغة فما معناهما اصطلاحاً؟ لم يرد تعريف مستقل دقيق لهذا، وإنما جمع العلماء رحمهم الله تعالى ما يتعلق بالأشياء التي يجب الإيمان بها في باب القضاء والقدر، وبينوا من خلالها معنى القضاء والقدر. ومن هنا فيمكن أن نقول: إن المقصود بالقضاء والقدر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه وتعالى بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته له، ثم وقوع هذه الأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته وخلقه لها سبحانه وتعالى. وهذا التعريف يشمل عدة مسائل: الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي التام بأن الله سبحانه وتعالى علم في الأزل ما الخلق فاعلون. الثانية: الإيمان بأن الله تبارك وتعالى كتب -كما ورد في النصوص- في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة -وهو اللوح المحفوظ- ما هو كائن إلى يوم القيامة. الثالثة: الإيمان بأن الله تعالى له المشيئة النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الرابعة: الإيمان أنه لابد أن تقع هذه الأشياء على وفق ما علمها وكتبها وأرادها، والإيمان بأن الله تعالى خالقها، أي: أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء. إذاً: تترتب هذه الأمور على هذا الترتيب: علم أزلي، ثم كتابة لهذا الأمر، ثم مشيئة إلهية لابد أن تنفذ، ثم وقوع المقدور، وأن الله تعالى هو خالقهم، فكل ما يقع في هذا الكون فهو مخلوق لله كما قال تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان علاقة هذه القضية بإرادة الإنسان وقدرته.

مراتب القدر

مراتب القدر الإيمان بالقضاء والقدر يقتضي من العبد أن يؤمن بأربع مراتب دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمتتبع للنصوص الواردة في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد أن هذه المراتب الأربع كاملة قد ورد الإخبار عنها بما يقتضي نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه المراتب الأربع هي التي أشرنا إليها إجمالاً في التعريف وهي: الأولى: مرتبة العلم. الثانية: مرتبة الكتابة. الثالثة: مرتبة المشيئة. الرابعة: مرتبة الخلق. فهذه المراتب الأربع كلها لله سبحانه وتعالى، وقد دلت على ذلك الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونحن هنا نشير إلى بعض الأدلة على هذه المراتب. والإيمان بالقضاء والقدر قد وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة جداً، منها: قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، ويقول في الحديث الآخر: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) وهذا حديث صحيح رواه الترمذي وغيره. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي رضي الله عنه-: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر) وهذا أيضاً رواه الترمذي. وعن طاوس رحمه الله تعالى قال: أدركت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، ثم قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز) ومعنى الكيس: الهمة والنشاط، والعجز: هو عجز الإنسان، فكل شيء بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث هن أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد باق منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار)، وهذا الحديث رواه أبو داود إلى آخر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالقدر بإجمال.

أدلة مرتبة الخلق

أدلة مرتبة الخلق الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء في هذا الكون، ومن ذلك أفعال العباد، فالله خالق العباد وخالق أفعالهم. وهذه المسألة -خلق أفعال العباد- هي مسألة القضاء والقدر التي صار فيها الكلام الطويل بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة، والأدلة على إثباتها كثيرة، ومنها: قول الله تبارك وتعالى في قصة إبراهيم لما كسر أصنامهم وجاءوا إليه فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96] أي: خلقكم وعملكم، هذه إذا كانت (ما) مصدرية. وهناك قول آخر: أن (ما) موصولة، أي: خلقكم وخلق العمل الذي تعملونه. وأيضاً قول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62]، وقوله تعالى أيضاً: {قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] إلى آخر الأدلة الكثيرة الواردة في كتاب الله تعالى. ومن الأحاديث الواردة ما يرويه زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) وهو في صحيح مسلم، والشاهد قوله: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها) فالفاعل هو الله تعالى، فهو الذي يطلب منه ذلك، وهذا هو معنى قول الله تبارك وتعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، قال سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية: فالخلق لله، والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء، وهو ومخير. وقال ابن زيد في معنى هذه الآية: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها بالفجور. وورد حديث صحيح رواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ورواه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات، ورواه الحاكم في المستدرك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وهذا حديث صحيح إلى آخر الأدلة التي تدل على أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء. هذه المراتب الأربع عند أهل السنة والجماعة لابد أن يؤمن بها الإنسان، ناسباً لها لله الواحد القهار علماً وكتابة ومشيئة وخلقاً.

أدلة مرتبة المشيئة

أدلة مرتبة المشيئة مرتبة الإرادة والمشيئة -الإرادة الكونية والمشيئة الكونية- المقصود بهذه المرتبة أنه يجب على المؤمن قضيتين: أن كل ما يقع في هذا الكون فهو بمشيئته تبارك وتعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه لا يخرج شيء عن مشيئته مهما كان. إذاً: مشيئة الله شاملة نافذة عامة في كل ما يقع في هذا الكون. ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48]، فلو شاء الله تبارك وتعالى لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون أبداً؛ لكن شاء الله أن يبتلينا بالتفرق فنفذت مشيئته. ويقول تبارك وتعالى في قصة شعيب لما قال له قومه: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود:32 - 33]. وأيضاً يقول تبارك وتعالى عن موسى أنه قال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، وقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69]، وقال الله تعالى لنبيه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]. ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6]. ويقول تبارك وتعالى في باب الإرادة الكونية: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. إذاً: هذه المشيئة والإرادة الكونية هي شاملة لكل شيء، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، كما قاله تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا في صحيح البخاري -: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء)، فأمر بالشفاعة، وأخبر أن الذي سيقع هو ما شاءه الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم أقر علي بن أبي طالب حين سأله الرسول هو وزوجه فاطمة رضي الله عنهما وقال لهما: (ألا تصليان؟ فأجابه علي بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال علي: فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54])، فالشاهد هنا إثبات المشيئة؛ لأن علياً احتج بالمشيئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه لم يرض بهذا الاحتجاج وإن كان حقاً، ومن ثم قرأ: ({وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]). وللعلماء أقوال حول معنى هذا الحديث منها: أنه قال ذلك تسليماً لعذرهما، وأنه لا عليهما. ومنها: أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته إلى آخره. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب العباد -أو قلوب بني آدم- كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك). وأيضاً لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟ -وفي بعض الألفاظ: أجعلتني لله عدلاً؟ - بل ما شاء الله وحده)، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينفي أن تكون له مشيئة مع مشيئة الله، وإنما المشيئة هي مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ويقول تعالى عن سائر العباد: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فمشيئة العباد إنما هي داخلة تحت مشيئة الله تبارك وتعالى.

أدلة مرتبة الكتابة

أدلة مرتبة الكتابة الله تبارك وتعالى كتب مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، كما في قوله تبارك وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، على القول الصحيح في تفسير هذه الآية بأن المقصود بالكتاب هو اللوح المحفوظ، وإن كان هناك قول آخر بأن المقصود به هو كتاب الله القرآن. ومن الأدلة التي تدل على إثبات الكتابة قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فربنا تبارك وتعالى أخبر أن هذا مكتوب مسطور في كتبه، وهذه المرتبة المهمة شاملة للكتابة الشرعية والقدرية. فالكتابة القدرية: أن الله سبحانه وتعالى كتب ما يقع لعباده، ومثال الكتابة الشرعية أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55]. وكذلك أيضاً من الأدلة التي تدل على إثبات الكتابة قول الله تبارك وتعالى في قصة أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] أي: فلولا أن الله تبارك وتعالى قد قدر وسبق في كتابه أنه قد أحل للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الغنائم، وأن الله تبارك وتعالى قد رفع عن هذه الأمة العذاب الكامل الذي يستأصل شأفتهم لجرى ما ذكره الله تعالى في هذه الآية: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]. ومثله قول الله تعالى في هذه الآية التي تجمع بين المرتبتين: العلم، والكتابة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، فهذه الآية أشارت إلى المرتبتين كلتيهما. ويقول تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75] أي: ما من أمر خفي أو سر من الأسرار سواءً كان في السماوات أو في الأرض إلا في كتاب مبين، فقد أحاط هذ الكتاب بكل شيء، والأدلة في السنة على ذلك كثيرة منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وهذا واضح الدلالة على أن الله كتب ذلك قبل خلق السماوات والأرض. وأيضاً الحديث الطويل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار -وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة- قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ قال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]) وهذا الحديث في صحيح البخاري، والأحاديث والنصوص الواردة في هذا الباب كثيرة جداً.

أدلة مرتبة العلم

أدلة مرتبة العلم أدلة الإيمان بمراتب القدر الأربع كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمرتبة العلم أدلتها كثيرة. يقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بعض المغيبات، فذكر أن هناك أموراً خمسة من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- لا يعلم إلا ما أعلمه الله. ففي هذه الآية: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، دلالة على أن العلم عند الله، وإذا أراد تعالى أن يعلم أحداً من خلقه أعلمه ببعض علمه، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:26 - 28]. ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أحياناً فيجيب بقوله: (الله أعلم) كما سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). فالأدلة على إثبات علم الله تعالى كثيرة جداً وواضحة في كتاب الله العزيز. ومن السنة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له) أي: قد علمهم الله سبحانه وتعالى، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه. وعن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به -يعني: يخط به أو يحرث به- فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6] إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10])، وهذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم.

الفرق بين القضاء والقدر

الفرق بين القضاء والقدر بعد بيان هذه المسألة نشير إشارة سريعة إلى الفرق بين القضاء والقدر. العلماء لما تحدثوا عن الفرق بينهما قال بعضهم: إنه لا فرق بينهما، فيأتي القضاء بمعنى القدر، ويأتي القدر بمعنى القضاء، أي: قد يذكر القضاء ويراد به القدر، ويذكر القدر لوحده ويراد به القضاء. وبعضهم فرق بينهما بقوله: إن القضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال الأزلي. والقدر: هو الحكم بوقوع الجزئيات التي من تلك الكليات كما قدرها سبحانه وتعالى. وبعضهم عكس الأمر فقال: القدر: هو التقدير الكامل الشامل، والقضاء: هو التفصيل والتقطيع. والصحيح أن هذه الأقوال التي فرقت بين القضاء والقدر لا دليل عليها، بل القدر يأتي بمعنى القضاء، والقضاء يأتي بمعنى القدر، وإذا جمعنا بينهما فإن كلاً منهما بمعنى الآخر، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه لم يرد في ذلك نص يوضح هذا. ودلالة اللغة العربية في مسألة الفرق بينهما تدل على أن كلاً منهما يستعمل استعمالات أخرى، ومن استعمالاتهما أن يكون القضاء بمعنى القدر الذي نحن بصدده.

من أقوال السلف في باب القدر

من أقوال السلف في باب القدر بعد هذا ننتقل إلى فقرة نذكر فيها نماذج من أقوال السلف رحمهم الله تعالى في باب القدر. روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح إلى خالد الحذاء قال: قلت للحسن البصري: يا أبا سعيد! أخبرني هل آدم للسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض. قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد. قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]؟ قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم. وهذا رواه أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة. وهذا يثبت بأن السلف رحمهم الله تعالى يؤمنون بالقضاء والقدر. والله تبارك وتعالى قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فصدق قدره؛ لأنه لابد أن يكون هذا الإنسان في هذه الأرض. ومن هنا نجد أن آدم عليه الصلاة والسلام لما سأله موسى وقال له: (كيف أخرجتنا من الجنة؟ فأجابه آدم عليه الصلاة والسلام بقوله: أتلومني في شيء قد كتبه الله علي قبل أن أخلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى). وفي هذا الحديث لم يحتج آدم بالقدر على المعصية، وإنما احتج بالقدر على المصيبة؛ لأنه من المعلوم أن آدم لما سأله موسى كان قد تاب وتاب الله عليه ومحي عنه الذنب، وهو ليس بحاجة إلى أن يحتج بالذنب، ولكن لما سأله موسى أجاب آدم بالقدر السابق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى). ومن هنا قالوا: يجوز الاحتجاج بالقدر في حالتين: الحالة الأولى: في حالة المصائب التي تصيب الإنسان. الحالة الثانية: فيما إذا أذنب الإنسان وتاب إلى الله واستغفره ورجع وعمل الحسنة بعد تلك السيئة، فيجوز أن يقول: إن تلك المعصية كانت بقضاء وقدر، أما أن يحتج بالقدر مسوغاً لها فهذا لا يقبل. وروى أبو داود بسند صحيح إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: فإنه كتب إلى أحد أصحابه رسالة يقول فيها: كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثراً ولا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم، وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدر، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه ومنه تعلموه إلى آخر كلامه. وهذا أثر من عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يبين أن الإيمان بالقدر هو سبيل السلف في أن الأمر كله لله سبحانه وتعالى، فإذا جاء المعتزلة أو القدرية أو غيرهم لينحرفوا في هذا الباب وليقولوا: إن هذا ظلم أو هذا كذا أو هذا كذا؛ فهذا كله لا يقبله السلف وإنما يرفضونه رفضاً تاماً. ومن هنا فإننا نجد أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا شديدين جداً على أولئك الذين ضلوا في مسألة القضاء والقدر، ولم تكن محل إشكال عندهم، روى أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة -وهو حديث حسن الإسناد- أن عبد الله بن عمر كتب إلى صديق له من أهل الشام كان يكاتبه: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر). ومن هنا كانت للسلف مواقف قوية في هذا الباب، وقد تكلم غيلان القدري أحد القدرية مع ربيعة بن عبد الرحمن (ربيعة الرأي) الإمام المشهور، فقال له: يا أبا عثمان! أيرضى الله عز وجل أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أفيعصى قصراً؟! فسكت. وكلمة غيلان: أفيرضى ربنا أن يعصى؟ هي مبنية إشكال عندهم سيأتي بيانه بعد قليل في مسألة التفريق بين الإرادة والرضا، لكن انظر إلى A ( أفيعصى قصراً؟) أي: لا تحل أنت المشكلة بمشكلة أخرى، وهذا ما وقع فيه كل من الجبرية والمعتزلة، وهذا الأثر رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (1265). ومن قصص عمر بن عبد العزيز مع هذا الرجل القدري وهو غيلان الدمشقي أنه لما بلغه قوله بالقدر استدعاه عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غيلان ويحك ما هذا الذي بلغني عنك؟! قال: يكذب عليّ يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ أي: علم الله الأزلي. قال: نفذ العلم. فقال له عمر بن عبد العزيز: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت، يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحده فتكفر. ثم قال له: اقرأ (يس). فقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] إلى آخر قصته مع غيلان. وهذا القول من عمر بن عبد العزيز من أعظم ما ورد في باب القدر عن السلف، وفيه فقه مذهب السلف، وبيان الرد على مذهب المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقرون بالعلم، فإذا أقروا بالعلم فما فائدة أن يأتوا ويقولوا: الإنسان حر مختار إذا كان لا يقع شيء إلا وفق علم الله سبحانه وتعالى؟! وسيأتي بيان شيء من ذلك. ورواية عمر بن عبد العزيز مع غيلان رواها عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه السنة برقم (948)، وأيضاً اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (1325). وأورد اللالكائي هنا أيضاً برقم (1339) في كتاب شرح اعتقاد أهل السنة حكاية عن رجل اتفق مع رجل أن يعبر الشاطئ وأن يعطيه كذا من المال، فصار الرجل يعوم ليعبر الشاطئ، فلما قرب منه قال الرجل: عبرت والله، ما بقي له إلا قليل. فقال له ذلك الرجل: قل: إن شاء الله. قال: شاء أو لم يشأ. قال: فأخذته الأرض وابتلعته. وأيضاً أورد اللالكائي قصة الجارية التي كانت سيدها قدرياً، وكان يقول إذا أتته بقدح من ماء: إنني يمكنني أن أشربه أو ألا أشربه، كأنه يقرر أنه سيشرب هذا القدح شاء الله أولم يشأ! فهذه الجارية أعطته الماء مرة وهو يريد أن يشربه، وكان قد قال لها: إن لم أشربه فأنت حرة لوجه الله؛ فضربت القدح فسقط على الأرض وسال الماء؛ فعتقت الجارية، وكانت تسمى بمولاة السنة. والقدر كان عند السلف رحمهم الله تعالى أمر مسلم، حتى إن أحد أئمة المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد - كان جالساً مع أصحابه في أحد المرات، فجاء أعرابي ووقف وقال: إن ناقتي سرقت؛ فادعوا الله أن يردها علي. فقال عمرو بن عبيد المعتزلي القدري: اللهم إنك لم ترد أن تسرق فسرقت، فردها عليه. انتبه لكلمة: (لم ترد أن تسرق)؛ فهو يعتقد أن هناك أشياء لا يريدها الله، وهو يقصد الإرادة الكونية، وليست الإرادة الدينية، فالأعرابي بفطرته قال له: لا حاجة لي في دعائك! قال: لماذا؟ قال: إذا كان الله أراد ألا تسرق فرغماً عنه سرقت، فأخاف أن يريد أن ترد فرغماً عنه لا ترد علينا، فلا حاجة في دعائك. أعرابي على الفطرة خصم هذا الشيخ المعتزلي الذي أمضى في الفلسفة وعلم الكلام وقتاً طويلاً؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى وبقدره.

علاقة القدر بالإنسان

علاقة القدر بالإنسان بعد هذا ننتقل إلى مسألة أخرى تتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، وهي علاقة القدر بالإنسان. نحن في الفقرات السابقة شرحنا وأوضحنا علاقة القدر بالله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن مراتب القدر الأربع يجب على العبد أن يؤمن بها، وأن هذا هو مقتضى الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. لكن بالنسبة للإنسان نفسه هل له إرادة ومشيئة وقدرة أو ليس له ذلك؟ هنا نذكر نقطتين هامتين: النقطة الأولى: أن الإنسان غير مجبور على فعله، ولم يرد عن السلف رحمهم الله تعالى حتى كلمة الجبر، لم ترد في النصوص، وإنما الوارد (الجَبْل) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خلقين جبلت عليهما: الحلم والأناة). فالله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان على جبلة، لكن لفظ (جبر) لم يرد، حتى إن أبا عبيد وهو أحد أئمة اللغة قال: إن لفظ الجبر في باب القدر لفظ مولد، يعني: لم يأت إلا بعد استكمال النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: قضية أن الإنسان مجبور لم ترد في النصوص، وإنما الوارد في النصوص أشياء أخرى كما في قضية المشيئة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. وورد في النصوص الختم والطبع، قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:6 - 7]، والختم والطبع الوارد في كتاب الله تبارك وتعالى إنما هو عقوبة وجزاء لمن لم يسلك الطريق الصحيح، ولهذا لا تجد نصاً يفيد أن الله يطبع على القلب ابتداءً، وإنما يرد الطبع وزيغ القلب إذا لم يترك الإنسان المعصية، وهذه تكون من باب العقوبات الإلهية، فالله تعالى يعاقب العبد إذا فعل المعصية بأن يفعل معاصي أخرى، وتكون هذه عقوبة له على المعصية الأولى. النقطة الثانية: أننا لو نظرنا إلى قضية الإنسان وأفعاله لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى في باب المحافظة والتكليف فرق بين عدة أشياء بالنسبة للإنسان، هناك أشياء تقع في الإنسان مثل كونه يولد في وقت كذا، أو يولد طويلاً، أو يولد قصيراً، أو يولد ولونه أسمر أو لونه أحمر أو لونه أبيض، أو كون الإنسان يعيش خمسين سنة أو أربعين سنة، أو كون الإنسان يعيش بأعضاء متكاملة بعضها أقوى من بعض، هذه الأمور التي تجري في الإنسان أوجدها الله سبحانه وتعالى له بدون إرادة منه، لهذا فهو لا يحاسب عليها، فلا يأتي الإنسان يحاسب الله ويقول: لماذا كنت أسود أو أحمر أو غير ذلك؟! هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

وماذا بعد الأحزاب

وماذا بعد الأحزاب من صفات اليهود التي عرفوا بها على مر التاريخ الغدر والخيانة، ومن ذلك ما حصل من اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة، حيث نقضوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وخانوه، بل وتآمروا عليه وحاولوا قتله، فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من أجلى، وقتل منهم من قتل.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قريظة

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قريظة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: يستمر الحديث عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود في المدينة النبوية، ومن يهود بني قريظة بالذات؛ فبعد لقاء بني قريظة بـ أبي لبابة الأنصاري رضي الله عنه انقطع أملهم في التخفيف من العقوبة التي يستحقونها، وكان المفترض أن يدفعهم هذا إلى الاستكثار والقتال حتى الموت، خاصة وأن وضعهم في حصونهم أفضل بكثير من وضع المسلمين، فاليهود لم يخرجوا إلى معركة، وحصونهم تؤويهم، وفيها الغذاء الكافي لشهور طويلة، وفيها آبار المياه، وهي أيضاً قد آوتهم وأكنتهم من البرد. وعلى العكس من ذلك فالمسلمون خرجوا لتوهم من معركة هي من أصعب وأشد ما مر بهم؛ حيث كانوا في معركة الخندق يواصلون الليل والنهار في الحراسة والمرابطة في وجه أعدائهم المتحزبين الذين كانوا يعدون بالآلاف، إضافة إلى أن المسلمين كانوا في حالة مجاعة شديدة، والجو أيضاً خارج الحصون في غاية البرودة، ومن ثمَّ كانوا يرابطون حولها في العراء، فاجتمع عليهم الجوع والبرد. ومع هذا الفرق الواضح بين وضع الجيشين، إلا أن اليهود انهارت أعصابهم، وتحطمت معنوياتهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، حتى صاروا وهم على تلك الحالة من القوة والمنعة والتحصين ووفرة السلاح والعدد والعتاد والغذاء والمال، يفكرون في كل شيء إلا استعمال السلاح للدفاع عن حصونهم، فهل يعي المسلمون هذه الحقيقة في صراعهم مع اليهود؟ بل هل يعي المسلمون غيرها من الحقائق عن اليهود؟ فعندهم حقد أسود على الإسلام والمسلمين قد امتلأت به قلوبهم عداوة وبغضاء تستخدم فيها شتى الوسائل لحرب كل مسلم في أي مكان، وعندهم نقض للعهود والمواثيق مهما كانت صيغتها ومع من كان متى ما وجدوا الفرصة سانحة، وهناك تفرق واختلاف فيما بينهم، كما قال تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، وهناك رعب وخوف ملازم لهم، كما قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]، وعندهم جبن وخور إذا ما قاتلوا المؤمنين الصادقين. أيها الإخوة! وحتى لا يطول الحصار وحتى لا يستمر اليهود في المماطلة ذهب علي بن أبي طالب حامل اللواء ومعه الزبير بن العوام رضي الله عنهما، فصاح وقال: (والله لأذوقن ما ذاق حمزة، ولأفتحن حصنهم)، ثم تحرك معه بقية الجيش لهجوم كاسح على يهود في حصونهم، فلما رأوا كتائب الجيش الإسلامي الصادق تتحرك، وأيقنوا أن الهجوم على حصونهم لا مفر منه أراد اليهود إيقاف الهجوم، وأعلنوا الاستسلام والنزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم دونما قيد أو شرط. وقد أوقف المسلمون الهجوم، وسارع اليهود إلى فتح الحصون بعد أن ألقوا سلاحهم، وأخذوا في مغادرة حصونهم مستسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، واستلم المسلمون هؤلاء اليهود؛ أما الرجال فقد وضعت القيود في أيديهم، ثم وضعوا في حبس خاص بهم، وأما النساء والذراري فقد عزلوا عن الرجال، ووضعوا في دار الضيافة في المدينة النبوية، ووكل بهم عبد الله بن سلام، وكان عدد الرجال ما بين أربعمائة إلى سبعمائة، وقيل: هم ثمانمائة، أما النساء والذرية فكانوا قرابة الألف، ووقف الجميع ينتظرون كيف سيتم الحكم في هؤلاء اليهود الخائنين كيف سيتم الحكم.

حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة

حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة

وساطة الأوس لحلفائهم بني قريظة

وساطة الأوس لحلفائهم بني قريظة أيها الإخوة! لما كان بنو النضير وبنو قينقاع من اليهود حلفاء الخزرج في الجاهلية، وقد شفعوا لهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة عبد الله بن أبي ابن سلول فيهم، فاكتفى بإجلائهم من المدينة، وهنا رغب الأوس وهم حلفاء بني قريظة أن يشفعوا لهم، كما فعل إخوانهم الخزرج مع حلفائهم، وتوجه وفد من وجوه الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يتكرم بالتخفيف من الحكم على هؤلاء اليهود ولو بنفيهم عن المدينة، كما فعل مع بني قينقاع. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جبل عليه من نبل وكرم ومراعاة لأصحابه خاصة الذين آووه ونصروه حان لا يرد طلباً يقدر عليه، وهاهو عليه الصلاة والسلام قد استجاب قبل لرأس النفاق حين طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهب له حلفاءه من اليهود، فكيف لا يستجيب لأصحابه الكرام من الأوس الذين ناصروه في الإسلام رضي الله عنهم؟ قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا -أي: بني قريظة- نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأوس: يا رسول الله! إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا ما قد علمت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاصر بني قينقاع، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له، فلما سألته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك سعد بن معاذ).

توجه سعد بن معاذ للحكم على بني قريظة

توجه سعد بن معاذ للحكم على بني قريظة وأين سعد بن معاذ؟ لقد كان سعد بن معاذ جريحاً في المدينة النبوية؛ لأنه أصيب في أكحله في غزوة الخندق؛ ولذلك لم يشترك رضي الله عنه في حصار بني قريظة، وهنا طابت نفوس الأوس بهذا الحكم؛ حيث كانوا يأملون من ورائه أن يخفف سيدهم سعد بن معاذ من عقوبة حلفائه اليهود، ومن ثمَّ توجه أعيان منهم من المعسكر النبوي في بني قريظة إلى المدينة لمقابلة سيدهم الشاب الجريح، وإبلاغه القرار النبوي بشأن اليهود، وقابل الأوس سيدهم سعداً في المسجد النبوي، وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أمر بني قريظة إليه ليحكم فيهم بما يريه الله تعالى، وطلبوا منه أن يرأف في الحكم بحلفائه، وذكروه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل إليه أمرهم وهو حليفهم في الجاهلية إلا ليحسن إليهم، ويخفف الحكم عنهم. ولما كان سعد جريحاً هيأ له قومه حماراً ليركبه، ويسير به إلى مقر قيادة النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة؛ ليعلن الحكم هناك، وسار سعد يحف به قومه ويقولون له: يا أبا عمرو! حلفاءك ومواليك وأهل النكاية، يا أبا عمرو! أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال لهم وهو يقرب من مقر القيادة النبوية: (لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم)، ولما دنا سعد -كما في صحيح البخاري - قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم أو خيركم).

خبرة سعد بن معاذ بحلفائه اليهود

خبرة سعد بن معاذ بحلفائه اليهود ولما استقر لـ سعد المقام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقر قيادته في بني قريظة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم يا سعد! فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أمرك الله أن تحكم فيهم). غير أن سعد بن معاذ وقد علم تفاؤل قومه في الحكم في حلفائه من اليهود أحب أن يستووا في قانون الجميع، ووقف الشاب الجريح في المعسكر، ووجه حديثه إلى قومه الأوس خاصة وإلى من في المعسكر عامة قائلاً: (عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ قالوا: نعم)، ثم اتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى الناحية التي هو فيها وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وإكباراً، وأشار إلى الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنه أشار إلى بني قريظة المحجوزين جانباً في المعسكر ليستنطق منهم أيضاً، وقال لهم: (أترضون بحكمي؟ قالوا: نعم). كان هؤلاء اليهود قد بقي لديهم شيء من الأمل بعد أن علموا أن حلفاءهم الأوس قد بذلوا وساطتهم لدى الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ليخفف من عقوبتهم، وأنه نتيجة لهذه الوساطة قد جعل أمر هؤلاء اليهود لسيد حلفائهم سعد بن معاذ. وصدر الحكم من سعد، وانتظر الجميع قبل ذلك لحظات رهيبة، انتظروا سعداً ليعلن الحكم النهائي في هؤلاء اليهود، وقد كان الجميع لا يعلمون ما هو الحكم الذي سيصدره سعد، وإذا كان سعد حليفاً ليهود بني قريظة في الجاهلية فقد كان أيضاً خبيراً بحلفائه من اليهود، أليس هؤلاء اليهود هم الذين أسمعوا سعداً في أثناء غزوة الأحزاب وقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد يطلب منهم الوفاء بالعهد؛ فأسمعوه ومن معه شتم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ردوه رداً قبيحاً؟ أليسوا هم الذين نقضوا العهد وانضموا إلى الأحزاب، فصارت خطوط المسلمين من الخلف مكشوفة لهم؛ حيث أصروا على المشاركة الفعالة لاستئصال شأن المسلمين مغتنمين استحكام المحنة حين تحزبت عليهم الأحزاب؟ ألم ينصح سعد هؤلاء اليهود -وهم حلفاؤه- أن يبقوا على عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب ألا ينقضوا وألا يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كما سمع سعد أجابوه جواباً فاحشاً، وهم في نشوة الفرح بإطباق الأحزاب على المسلمين، وكان مما قالوه: ومن هو رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد؟ الخلاصة: أن سعداً كان خبيراً بهؤلاء اليهود في طباعهم وما جبلوا عليه، وكان أيضاً مدركاً لمقدار الغدر والخيانة ونقض العهود الذي وقع فيه بنو قريظة.

صدور الحكم على بني قريظة

صدور الحكم على بني قريظة وهنا أيها الإخوة! وسعد تجول في خاطره هذه الأمور نطق بالحكم، وكان الحكم صارماً وقوياً وحازماً، واستمع الجميع إليه وهو يعلن حكماً يسطره التاريخ إلى يوم القيامة بين المسلمين واليهود قائلاً رضي الله عنه: (أحكم فيهم: أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم)! لقد حكم بالإعدام على رجالات يهود بني قريظة، وحكم بالأسر والسبي والغنائم على نسائهم وجواريهم وأموالهم، ولما نطق سعد بهذا الحكم علق النبي صلى الله عليه وسلم عليه تعليقاً تهتز له الجبال الشامخات، وقال كما في صحيح البخاري -: (لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات). لقد وافق سعد في حكمه حكم الله تبارك وتعالى، ومع هول الحكم وشدته صمت الجميع، ولم يعترض عليه أحد حتى من اليهود أنفسهم، وأنى لهم الاعتراض في مثل هذه المواقف الرهيبة؟ وصدر الحكم، ولما صدر رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لتنفيذ حكم الله في هؤلاء اليهود الخونة، وأمر بحفر خنادق عريضة لتدفن فيها جثثهم بعد إعدامهم، ولما حفرت الخنادق جلس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كبار الصحابة، ثم أمر بإحضار الرجال من بني قريظة المحكوم عليهم بالإعدام، وقد ميز المقاتلة من بينهم بإنبات الشعر، كما ثبت ذلك في الصحيح، وهنا أتي بهم دفعة دفعة، وكلما أعدمت وقتلت دفعة رمي بها في الخنادق، ثم وضعوا عليها التراب، وهكذا، وقد تم إعدام هؤلاء اليهود جميعاً في ليلة واحدة، وجرى الإعدام والقتل على ضوء مشاعل؛ لأنه كان في الليل كما في بعض الروايات.

قتل حيي بن أخطب

قتل حيي بن أخطب ولقد كان على رأس الذين نفذ فيهم حكم الإعدام سيد بني النضير حيي بن أخطب الذي حزب الأحزاب، وجمع جيوشها لغزو المدينة، وحمل بني قريظة على نقض العهد، وأعطاهم العهد أن يكون مصيره مصيرهم، فاستسلم حيي ضمن بني قريظة، ولما جاء تنفيذ الحكم في هذا الطاغوت الكبير أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة فقاحية، أي: لونها يضرب إلى الحمرة، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها. أيها الإخوة! ولما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، ووقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألم يمكن الله منك؟!) قال حيي: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذله الله، ثم ضربت عنقه وألقي بجثته في الخندق.

قتل كعب بن أسيد

قتل كعب بن أسيد وأتي بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف أمامه أسيراً: (يا كعب! قال: نعم يا أبا القاسم! قال: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم وكان مصدقاً بي؟ أما أمركم اتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني السلام؟! قال: كعب: بلى، والتوراة يا أبا القاسم! ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم فتضرب عنقه، فضربت.

موت سعد بن معاذ رضي الله عنه

موت سعد بن معاذ رضي الله عنه أيها الإخوة! وفي قصص بني قريظة وتنفيذ حكم الإعدام تفصيلات وأحداث فيها عبر، أعرضنا عنها لضيق الوقت. أيها الإخوة! أما سعد بن معاذ صاحب الحكم فقد انفجر جرحه بعد حكمه بقليل، ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه إلى لقاء ربه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

وقفات ودروس من غزوة بني قريظة

وقفات ودروس من غزوة بني قريظة الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير محمد بن عبد الله مؤدب المشركين واليهود وغيرهم من الكفرة والمنافقين، صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الذين ساروا على منهاجه ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! وانتهت غزوة بني قريظة، ولنا في ختام هذه الغزوة وأحداثها عدد من الوقفات والدروس نكتفي بثلاث منها:

التعريف بسعد بن معاذ رضي الله عنه

التعريف بسعد بن معاذ رضي الله عنه أولها: من هو سعد الذي حكم في هؤلاء اليهود فأصدر حكمه السابق الذي وافق حكم الله تعالى من فوق سبع سماوات؟ إنه سيد الأوس الذي أسلم على يد مصعب بن عمير في المدينة قبل الهجرة، فلما أسلم رضي الله عنه وقف على قومه فقال: (يا بني عبد الأشهل! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا فضلاً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلامكم علي حرام رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله) قال الراوي: فوالله! ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا، فكان رضي الله عنه من أعظم الناس بركة على قومه. وسعد بن معاذ هو الذي اهتز عرش الرحمن لموته، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)، وفي رواية لـ مسلم وذكرها البخاري بمعناها: (اهتز لها عرش الرحمن عز وجل) أي: لجنازة سعد بن معاذ. قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: وقد تواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العرش اهتز لموت سعد فرحاً به)، وفي رواية عند أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن جابر قال: (جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: من هذا العبد الصالح الذي مات؟! فتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد قد مات، قال: فجلس على قبره) إلى آخر الحديث. وسعد هو الذي روى فيه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته -يعني: لحكمه في بني قريظة- فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الملائكة كانت تحمله) رواه الترمذي وإسناده صحيح. وقد ثبت أن سبعين ألفاً من الملائكة نزلوا إلى الأرض لم ينزلوا إليها من قبل؛ ليشهدوا جنازة سعد الذي حكم في يهود بني قريظة ذلك الحكم المشهود. أيها الإخوة! هذه بعض مواقف سعد الذي وافق حكمه حكم الله عز وجل من فوق سبع سماوات.

تحريم الاعتراض على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

تحريم الاعتراض على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثانياً: أن هذا الحكم الذي صدر هو حكم الله في هؤلاء اليهود الخونة، ومن ثم فلا يجوز لمسلم الاعتراض عليه ولا نقضه، ولا يجوز وصفه بما وصفه به أعداء الإسلام وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم ممن كتبوا عن حياته وسيرته، أو تعرضوا لهذه القضية بالذات، حيث وصفوا هذا الحكم بأنه قسوة ووحشية. إن المعترض عليه معترض على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. نعم لقد كان هذا الحكم هو الذي يليق بهؤلاء الخونة ناكثي العهود مع أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين. أيها الإخوة في الله! إن هذا الحكم وإن كان صعباً وإن كان شديداً إلا أنه لائق بهؤلاء، وهو قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك حكم الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات.

حقيقة الخلاف بين المسلمين واليهود

حقيقة الخلاف بين المسلمين واليهود ثالثاً: ما الذي حول الأوس والخزرج من عرب ضعفاء أمام اليهود يتحكمون فيهم في الجاهلية، ويهددونهم في كل حالة قائلين لهم: قد أطل زمان نبي نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم؟! وما الذي حول العرب في المدينة وما حولها في الجاهلية حيث كانوا يتهافتون على اليهود ويقبلون أحكامهم، بل إن غالب سلاحهم كان يصنعه اليهود، واقتصاد المدينة كان يسيطر عليه أيضاً اليهود؛ فما الذي حول الأوس والخزرج من تلك الحالة التي كانوا عليها إلى هذه الحالة التي أصبحوا فيها يتحكمون فيهم، بل ويحكم واحد منهم في قبيلة كاملة من قبائل اليهود؟! إنه الإسلام ولا شيء غير الإسلام، واليوم لما كان غالب صراعنا مع اليهود تحت رايات القومية والعلمانية وغيرها انقلب الأمر؛ فصار حالنا اليوم كحال الأوس والخزرج في الجاهلية، يصيبنا الرعب حينما يذكر اليهود أو خطط اليهود أو أن هذا وراءه اليهود، بل نتسابق على التعاون معهم، والاستسلام لهم، وهاهم اليهود يحاولون التحكم في أسلحة المسلمين وفي اقتصاد المسلمين، ألا هل من معتبر أيها الإخوة المؤمنون؟! ألا هل من معتبر ومقارن بين حالة الأوس والخزرج قبل الإسلام وبعد الإسلام، وبين حالنا في هذه الأيام في صراعنا مع اليهود؟! إنها حقيقة يعلمها اليهود قبل المسلمين في هذه الأيام؛ فالصراع إنما هو صراع مع الإسلام وليس مع العروبة ولا مع غيرها من الرايات، وإن نتيجة المعركة لا تحدد إلا حينما يكون صراع اليهود مع المسلمين الصادقين. أيها الإخوة المؤمنون! إنها حقيقة لا شك فيها، فهل نعتبر أيها الإخوة المؤمنون بحقائق التاريخ؟! وهل نعتبر بحقائق سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهل نعتبر ونحن اليوم أمام مفترق طرق؟ أيها الإخوة المؤمنون! إن اليهود يعرفون الحقيقة كاملة، فهل نعرفها نحن كما يعرفونها؟ وهل نتعامل معها كما يتعاملون معها؟ نرجو ذلك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان. اللهم انصر المؤمنين المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين المجاهدين في سبيلك في بلاد الشيشان وفي البوسنة وفي فلسطين، وفي كل بلاد المسلمين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم من اليهود والروس والنصارى وغيرهم. اللهم دمر أعداء المسلمين يا رب العالمين! اللهم واجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم فرق كلمتهم، وشتت أمرهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين! اللهم اجعل بلاد الشيشان مقبرة للروس يا رب العالمين. اللهم ذكر المسلمين هناك بدينهم يا رب العالمين. اللهم اجعل لنا من لدنك عوناً على الرجوع إلى دينك وتحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم إنا نسألك أن تنزل بأسك وعذابك بكل عدو للإسلام والمسلمين، اللهم أنزل به رجزك، اللهم أنزل به عذابك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك يا إلهنا يا رب العالمين أن ترزقنا الإيمان، اللهم ارزقنا الإيمان، اللهم حببه إلينا، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق العصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

التوكل على الله

التوكل على الله التوكل على الله عز وجل من أعظم العبادات، ومن أجل الطاعات، دلت على فضله آيات وأحاديث كثيرة، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أئمة الناس وساداتهم في التوكل على الله، ومن توكل على الله في جميع أموره وفوض أمره إليه سبحانه حماه الله ووقاه، ورزقه وكفاه. وللتوكل ثمار وآثار محمودة في الدنيا والآخرة لا يفقهها إلا من سلم أمره لله سبحانه، وقد ضل في جانب التوكل بعض الطوائف والفرق، فحادوا عن الطريق وجانبوا الصواب، وهكذا حال كل من لم يسلم للنصوص عقله، ويخضع للدين قلبه.

تنبيهات مهمة بين يدي الموضوع

تنبيهات مهمة بين يدي الموضوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتوكل عليه وحده فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]. وأصلي وأسلم على البشير النذير محمد بن عبد الله، أفضل من توكل على ربه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من سار على نهجهم واقتفى أثرهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها تبارك وتعالى كيف يشاء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- كان كثيراً ما يدعو ويقول: (يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك). وحينما تشتد الشدائد على المسلمين وتنزل بهم البلايا والمحن فليس لهم من معين، وليس لهم من سبب يتمسكون به إلا الله الواحد القهار، جبار السموات والأرض، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى. أيها الأخ المسلم! لا شك أن موضوع التوكل على الله موضوع مهم؛ لأنه يتعلق بأعمال القلوب، ولأنه أيضاً يتعلق بحياة الناس كلها، في ذهابهم ومجيئهم، ليلاً ونهاراً، وفي أمورهم كلها، لذلك فسنتعرض لهذا الموضوع من عدة نواحٍ، وقبل أن أتحدث عن هذا الموضوع بفقراته المختلفة أود في هذه المقدمة القصيرة أن أعرض لبعض المسائل المهمة. أولاً: أنه يجب التفريق في مسائل أعمال القلوب -من التوكل والمحبة والرجاء والخوف والإنابة والاستعانة وغيرها- بين العلم النظري وبين العمل القلبي، فإنسان قد تكون عنده معرفة، وربما يحفظ الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، أو في باب الخوف أو الرجاء أو المحبة أو نحوها، ولكنك تجده في داخل قلبه وفي أعماله ربما يخالف ما في علمه، وهذه قضية مهمة جداً، ومن ثم فعلى العبد أن يربي نفسه، وأن يهيئ قلبه لئلا يخاف إلا الله، وأن لا يرجو إلا الله، وأن يحب المحبة الخالصة لذاته إلا الله سبحانه وتعالى، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده لا شريك له، وهكذا، حتى تتربى في النفوس معاني العبادة ولا تبقى نظرية. الأمر الثاني: أنه يجب على كل مؤمن ومؤمنة وعلى كل مسلم ومسلمة أن يتدبرا كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليتعرفا على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وليعرفا معانيها ودلالتها، ويعرفا آثارها في القلوب والنفوس. ونحن نعلم جميعاً أننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:23] إلى آخر الآيات التي فيها ذكر لأسماء الله وصفاته، لكن ما معاني هذه الأسماء؟ ما هي دلالاتها؟ وما هي آثارها على النفوس والقلوب؟ هذه المسألة ينبغي أن نعنى بها، وأن نربي عليها أنفسنا وأسرنا، حتى يعلم الإنسان أن العبد إذا عرف معاني أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته امتلأ قلبه تعظيماً لله، وامتلأ قلبه خوفاً من الله ومهابة له، فأثر ذلك على سلوكه وأخلاقه وعلى فعله للأوامر واجتنابه للنواهي. ولا شك أن من تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سيجد فيهما ما يغنيه ويكفيه، والله تبارك وتعالى أمرنا بطاعته وطاعة رسوله واتباع شرعه واتباع ما أوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة التي سماها الله سبحانه وتعالى وحياً.

حقيقة التوكل ومعناه عند السلف

حقيقة التوكل ومعناه عند السلف التوكل على الله معناه باختصار: أن يعتمد العبد على الله وحده في جميع أمور فيما يرغب فيه من الحاجات، وفيما يحذره مما يخافه، وفيما يفعله تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فنعتمد على الله سبحانه وتعالى في هذه الأمور كلها مع فعل الأسباب التي أذن الله سبحانه وتعالى بها، فمثلاً: في الصلاة يتوكل على الله في أن يعينه على القيام بهذه الصلوات الخمس بأركانها وشروطها وأوقاتها، وهو مع ذلك يفعل السبب، فلا يجلس في بيته ويقول: توكلت على الله في الصلاة وإنما يذهب ليتوضأ، ويذهب ليبحث عن الجماعة ليصلي معهم، ويبحث عما يوقظه لصلاة الفجر، فيفعل الأسباب ويتوكل على الله سبحانه وتعالى في أموره كلها، ومن ثم فلا بد في باب التوكل على الله سبحانه وتعالى من أمرين، ولا بد أن يجتمع هذان الأمران: أحدهما: الاعتماد على الله اعتماداً حقيقياً خالصاً، فتعتمد على الله وحده في أمورك كلها. الأمر الثاني: أن تفعل الأسباب التي أذن الله سبحانه وتعالى بها. ومن اعتمد على أمر واحد من هذين دون الآخر فقد وقع إما في الانحراف وإما في نقص العقل، فلو أن إنساناً توكل على الله دون أن يفعل سبباً لقيل: هذا ناقص العقل. لأنه لا يمكن أن يتم ما يريده الإنسان إلا بفعل الأسباب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها. وكذلك -أيضاً- لو أن إنساناً اعتمد على الأسباب وحدها دون أن يتوكل على الله وحده لربما كان ممن دخل في الشرك والعياذ بالله؛ لأنه اعتمد على الأسباب وحدها، والتوكل على الله سبحانه وتعالى فسره بعض العلماء بعدة تفاسير تدل على بعض معانيه: فالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول: التوكل عمل القلب. فعمل القلب هو التوكل، ولا شك أنه من أعظم أعمال القلوب، وبعض العلماء فسر التوكل على الله بالرضا، أن يرضى الإنسان بأمر الله سبحانه وتعالى ويسلم لله تبارك وتعالى أموره كلها، وإذا سلم أموره كلها اعتمد على الله سبحانه وتعالى سواء جاءت الأسباب بما يحبه أو بما لا يحبه، فيرضى بما قدر الله سبحانه وتعالى له، ولذلك سئل يحيى بن معاذ فقيل له: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً. وبعضهم قال: إن التوكل هو التعلق بالله في كل حال. وهذه مسألة مهمة، فيتعلق بربه تبارك وتعالى في كل أحواله، إن جاء هـ المال والشرف لا يقطعه ذلك عن التوكل على الله. إن ابتلي بالصبر والمرض لا يقطعه ذلك عن التوكل على الله، وهكذا في أحواله وأموره كلها، حتى إن بعضهم قال: إن التوكل معناه: أن يستوي عندك الإقلال والإكثار. أن يستوي عندك الغنى والفقر، وكيف يستويان؟ يستويان حينما تعلم أن الله هو المدبر الرازق، وحينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الأمر كله، وهو الله سبحانه وتعالى المتصرف بعباده كما يشاء، فإذا ما صرت غنياً أو فقيراً لا تتغير أحوالك ومعاملتك لربك تبارك وتعالى.

الأدلة الواردة في فضل التوكل على الله

الأدلة الواردة في فضل التوكل على الله نجد أن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في غير ما آية أمر بالتوكل وجعله أحياناً شرطاً للإيمان، وبين بعض ثمراته، فتدبر كتاب الله سبحانه وتعالى فستجد فيه ما يرضي النفس ويشرح الصدر ويزيل غمه، ويجعل الإنسان في حياته وكل أحواله مستريحاً مطمئناً.

قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)

قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، أي: كافيه، والحسب: هو الكافي، ولا يجوز أن يكون أحد من الخلق حسباً لأحد، بل الحسب وحده، والكافي وحده هو الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية ذكرها الله في سورة الطلاق: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]؛ لأن الطلاق نتيجة ما يقع في البيوت من نزاع وخلاف إلى آخره، فعقب الله بتلك التعقيبات في سورة الطلاق، وهي تعقيبات عجيبة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، {وََمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] إلى آخر الآيات التي ذكرها الله في هذه السورة؛ لتطمئن النفوس والقلوب حتى في حال الخلاف والشقاق.

قوله تعالى: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا)

قوله تعالى: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا) المؤمنون يتوكلون على الله سبحانه وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {قُُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29]، ويقول سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، وتأمل هذه الثلاثة الأمور: توكل: وهو الاستعانة، وإنابة وهي العبادة، وإليك المصير: أي المرجع إلى الله سبحانه وحده والمآب إليه تبارك وتعالى، وهنا نرى أن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم -ويقصد به أمته أيضاً- بالتوكل عليه، فيقول الله سبحانه وتعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79] يا محمد! إنك على الحق المبين، إنك على الصراط المستقيم، فتوكل على الله وحده لا شريك له، وأنعم بالله وكيلاً سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت)

قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) يقول سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81]. ويقول تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، حتى تنقطع الآمال في العباد، وحتى لا يبقى للمسلم تعلق بغير الله سبحانه وتعالى؛ لأن العباد يموتون، الملوك، الرؤساء، قواد العروش والجيوش يموتون، إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى لا يغنيهم مالهم ولا قوتهم؛ لأنهم يموتون، لكن على من يتوكل العبد؟ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] سبحانه وتعالى، له صفة الحياة أزلاً وأبداً، لكن العباد يموتون، ويمرضون، ولو عاشوا دهراً فلا بد أن ينتهوا إلى الفناء، فكيف يتوكل الإنسان على مخلوق لا يملك من أمره شيئاً فضلاً عن أمر غيره؟! ولذلك يروى عن إبراهيم الخواص أنه لما قرأ هذه الآية: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] قال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى. وصدق؛ لأن من تيقن أن الله هو الباقي وهو مالك الملك وهو الحي الذي لا يموت فإنه يرجئ توكله واعتصامه بالله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.

قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)

قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) ويقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173]، وهذا في غزوة أحد لما وقع للمسلمين ما وقع، وأصابهم القرح، واستشهد من المسلمين سبعون، وجرح رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وناله من الأذى ما ناله، فخرج المشركون بعد نهاية المعركة، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم خرجوا يريدون المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في جراحاته والمسلمون في جراحاتهم -وعددهم يقل عن عدد المشركين، عددهم أقل من ألف، ووقع لهم ما وقع وجرى لهم ما جرى- قال النبي صلى الله عليه وسلم بعزم الصادق المتوكل على الله: (والله لئن ذهبوا إلى المدينة لأناجزنهم فيها)، ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب إلى مكان يسمى (حمراء الأسد)، ولكن المشركين رضوا من الغنيمة بما نالوه وخشوا من الهزيمة ففروا، فلقيهم في الطريق وفد من عبد القيس، فسألوهم فقالوا: اذهبوا إلى محمد، وقولوا له: إن قد جمعنا له وجمعنا له. فأتى هذا الوفد ومر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبا سفيان -وكان مشركاً آنذاك- وقريشاً قالوا ما قالوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]، ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]). {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174]، من توكل على الله كفاه، وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار)، لما ألقي في النار حين وجمع له الحطب وأرادوا أن يلقوه فيها، قال إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، ونجا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما نجا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين

النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتوكل عليه، وهذا هديه صلى الله عليه وسلم، من تدبر سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان في جميع أحواله أفضل المتوكلين، وانظر إليه في مكة، وفي المدينة، وفي الهجرة، وفي غزواته كيف كان توكله على الله والتجاؤه إليه، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يبذل الأسباب، ظاهر بين درعين عليه الصلاة والسلام، لبس درعين واحداً فوق الآخر، وكان يدرب أصحابه ويأمرهم بالتدريب والرمي، وكان صلى الله عليه وسلم ينظم صفوفه ويجمع السلاح امتثالاً لأمر الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]. إذا صدقنا في التوكل على الله فلن تخافنا الجيوش التي أمامنا من جيوش الأعداء، وإنما ترعب الجيوش التي بيننا وبينها مئات الكيلو مترات، وهذا الذي نصر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونصر به أصحابه، الرعب لكن متى يتحقق الرعب للأمة الإسلامية؟ عندما تصدق في إيمانها وتحكيم قرآنها وتوكلها على ربها واعتصامها به، وإلا فلا كرامة وإن تسموا بالإسلام وإن تظاهروا به، لا كرامة إلا لمن اعتمد على الله وتوكل عليه وأناب إليه وحكم شرعه. هذه موازين لا تتغير أبداً باختلاف الزمان والمكان، موازين ثابتة، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها كان أفضل من توكل على ربه، وكان قدوة لنا في ذلك، ولن ندخل في تفاصيل سيرته؛ لأن هذا معلوم للجميع، وأدعو إلى تدبر سيرته صلى الله عليه وسلم لنخلص منها إلى مثل هذه المعاني الإيمانية. ولما وصف النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك سبعين ألفاً من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال في وصفهم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)، فإذا ما توكل الإنسان على غير الله سبحانه وتعالى نقص إيمانه، وربما زال إيمانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدعية النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على توكله صلى الله عليه وسلم، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول إذا خرج من بيته: (باسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، فيقال له: هديت ووقيت وكفيت. ويقول: (إذا خرج الإنسان من بيته فقال: باسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله يقول له الملك: هديت وكفيت ووقيت).

قوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)

قوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) ويقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وهذه جرت في قصة موسى مع قومه من بني إسرائيل كما نعلم جميعاً في سورة المائدة، فإن الله سبحانه وتعالى لما نجى بني إسرائيل من فرعون وقومه ذهب بهم إلى ديار فلسطين، ثم إنهم لما أقبلوا على الأرض المقدسة كان يحكمها أناس يقال لهم: (العماليق الجبابرة)، فقال موسى لقومه -كما أخبرنا الله تبارك وتعالى-: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، إذاً: موسى يأمرهم، وأمر الرسول واجب الطاعة، ويبشرهم بأن الله كتبها لهم، ويقول: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، لكن اليهود أبوا، وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، لكن لم يكن قوم موسى كلهم على هذه الحال، بل كان فيهم من عباد الله المؤمنين. {قََالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، لكنهم لم يسمعوا لكلام موسى ولا لكلام الرجلين، وقالوا -كما أخبرنا الله-: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، نعوذ بالله من الجبن! وكيف نقارن حال هؤلاء مع حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما واجهوا المشركين في بدر، ولم يكونوا خرجوا للجهاد والقتال وإنما خرجوا لطلب العير؟! أولئك الصحابة لما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول في المعركة تكلم أبو بكر وتكلم عمر فقالا خيراً، ثم تكلم الأنصار، وقال سعد: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد). وقال المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (امض -يا رسول الله- لما أمرك الله به)، ثم ذكر أنهم صبر عند اللقاء صدق في الحرب، ثم قال: (والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكننا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، هذا هو صدق الإيمان وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتصام به، والله تعالى يقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، أي: على الله وحده لا على غيره.

قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)

قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) يقول الله تبارك وتعالى في صفات المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، هذه هي الصفة الأولى: الخوف من الله. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، هذه الصفة الثانية، إذا قرؤوا القرآن يخشعون، وإذا تلي عليهم القرآن يزداد الإيمان عندهم، وهنا في الآية دلالة على أن الإنسان قد يخشع حينما يتلى عليه القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة أن يقرأ عليه القرآن، وقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري)، وبكى عليه الصلاة والسلام لما قرئ عليه القرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]. الصفة الثالثة: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. فقوله: (عَلَى رَبِّهِمْ) الجار والمجرور هنا يدل على الحصر، أي: يتوكلون على الله لا على غيره، ثم ذكر الصفة الرابعة، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3] والصفة الخامسة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3].

المسائل التي بها يتحقق التوكل على الله

المسائل التي بها يتحقق التوكل على الله بعد أن عرضنا معنى التوكل وبعض النصوص الواردة فيه من الكتاب والسنة نعرض المسألة الثالثة، وهي أن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتم إلا بأن يتحقق في الإنسان عدة أمور:

معرفة الله بأسمائه وصفاته

معرفة الله بأسمائه وصفاته الأمر الأول: معرفة الله بأسمائه وصفاته، فمن لم يعرف الله بأسمائه وصفاته لا يكمل ثوابه، من لم يعلم أن الله هو الحي القادر علام الغيوب جبار السموات والأرض المتكبر بيده الأمر كله إلى آخر أسمائه وصفاته لا يستقر في قلبه أن الله المتصف بهذه الصفات هو الذي يستحق التوكل، فينقص توكله على الله سبحانه وتعالى.

إخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى

إخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى الأمر الثاني: إخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى والبعد عن الشرك، فمن تعلق قلبه بغير الله فقد نقص توكله على الله سبحانه وتعالى، من تعلق قلبه بمخلوق مهما كان هذا المخلوق، ولياً، أو صالحاً، أو غنياً، أو ملكاً، أو غير ذلك، فمن تعلق قلبه بأحد من الخلق نقص إيمانه وتوكله على الله سبحانه وتعالى، ولكن إخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى شرط أساسي لإخلاص التوكل، وصدقه باعتماد العبد وتوكله على الله وحده لا شريك له.

فعل الأسباب دون الاعتماد عليها

فعل الأسباب دون الاعتماد عليها الأمر الثالث: أن الإنسان وهو يعتمد على الله سبحانه وتعالى يفعل الأسباب، لكنه لا يعتمد على الأسباب نفسها، وإنما يعلم أنها أسباب، وأن الله أمرنا بها، فلا يقع في قلبه أن هذه الأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى في خلقه أنها هي التي تنفع وتضر، وهي وحدها المتصرفة، لا، وإنما يفعل السبب ويصدق في توكله على الله سبحانه وتعالى، وأنه تبارك وتعالى هو الذي بيده الأمر كله.

حسن الظن بالله سبحانه وتعالى

حسن الظن بالله سبحانه وتعالى الأمر الربع: حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فمن ساء ظنه بربه تبارك وتعالى نقص توكله أو عدم توكله. فعلى الإنسان أن يحسن ظنه بالله. كما ورد في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى).

أنواع التوكل

أنواع التوكل

التوكل على الله في أمور لا يقدر عليها سواه

التوكل على الله في أمور لا يقدر عليها سواه المسألة الرابعة: ينبغي أن نعلم أن التوكل أنواع: النوع الأول: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، من جلب النفع ودفع الضر، والنصر، والشفاء، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فيجب على العبد أن يتوكل على الله وحده في هذه الأمور كلها، ومن توكل على غيره فيها فقد نقص توحيده، وربما وقع في الشرك الأكبر. من اعتقد أن ولياً من الأولياء ينفع ويضر أو يشفي مريضاً، كما يفعل القبوريون وغيرهم الذين يعتقدون في الأولياء من أهل القبور -وأحياناً من غيرهم- يعتقدون أن هؤلاء ينفعون أو يضرون، فإذا مرض قريبه أو زوجته، وإذا قل ماله أو ركبه الدين، وإذا أصابه المرض تجد هذا الإنسان يقول: يا فلان! اشف مريضي يا شيخ! ارزقني. فيدعو غير الله سبحانه وتعالى، فهذا توكل تام على غير الله، وهو من الشرك الأكبر الذي يخرج الإنسان من الملة، وينبغي أن نعلم أن الإنسان لا يتوكل على غير الله في هذا الأمر إلا وقد وقر في قلبه أن ذلك الشيء فيه نفع وضر، وأن عند هذا الشخص الذي توكل عليه سبب خفي لأجله اعتمد وتوكل عليه، وهذه مسألة ينبغي أن ننتبه لها، وأن ننبه إخواننا المسلمين في كل مكان عليها؛ لأن تعلق القلب بغير الله سبحانه وتعالى في هذه الأمور معناه أن الإنسان اعتقد فيها وعبدها من دون الله سبحانه وتعالى، فتوكل العبادة لا يصرف إلا لله، فإن صرف لغير الله كان شركاً.

التوكل في الأسباب الظاهرة المادية

التوكل في الأسباب الظاهرة المادية النوع الثاني من التوكل: التوكل في الأسباب الظاهرة المادية، مثل أن يتوكل الإنسان على غني أو أمير في رزقه، ويشبه كثيراً ما نشاهده من بعض الناس في اعتمادهم في رواتبهم على الدولة، ويستقر في قلب الإنسان أحياناً أنه إن انقطع الراتب مات، أو بالأحرى إن انقطع هذا الراتب ساءت حاله وضاع مستقبله، وهذا في الحقيقة من الأمور الخطيرة التي نشاهدها ونسمعها، خاصة من شبابنا الذين قد تخرجوا أو قد قرب تخرجهم، يظن أنه لا يمكن أن يضمن مستقبله -كما يعبرون- إلا بأن يكون له راتب في الوزارة الفلانية، أو في الشركة الفلانية، فهذا سماه العلماء شركاً أصغر، وقالوا: إنه شرك خفي ومعنى أنه شرك أصغر أنه لا يخرج الإنسان من الملة، لكنه من الكبائر التي ينقص فيها إيمان العبد ويضعف إيمانه بالله سبحانه وتعالى.

الوكالة في الأمور العادية

الوكالة في الأمور العادية النوع الثالث من أنواع التوكل: ما يسمى بالوكالة في الأمور العادية، يوكل شخصاً آخر في أمر من أموره فيما يقدر عليه هذا الشخص، فهذا من الأمور الجائزة، ولا يكون في ذهن الإنسان إذا وكل فلاناً في هذا الأمر أنه مستقل بالأمر، فإن خطر بباله أنه مستقل بالأمر وأنه توكل على فلان في القضية الفلانية لينجزها له واعتمد عليه نقص توكله على الله ووقع في الشرك الأصغر، وربما وقع في الشرك الأكبر، لكن توكيل الإنسان غيره في الأمور العادية كشراء شيء أو بيعه، أو إنابته عنه أو غير ذلك، بل -كما هو معلوم- إن غالب التوكيل إنما يكون من الأقوى إلى الأضعف، فتجد الإنسان يوكل ابنه الأصغر، أو يوكل أخاه الأصغر، أو يوكل فلاناً من الناس في مبلغ من المال أن يفعله له، فهذا توكيل لا من الأدنى إلى الأعلى، وإنما من الأعلى إلى الأدنى، فهذا دليل على أن توكيله -والحالة هذه- إنما هو توكيل في أمر عادي لا شيء فيه.

درجات الناس في توكلهم على الله

درجات الناس في توكلهم على الله وينبغي أن نعلم أن الناس في توكلهم على الله سبحانه وتعالى على درجات: فأعظم الناس منزلة الأنبياء وأتباع الأنبياء جعلنا الله وإياكم من أتباع الأنبياء، فهم الذين يتوكلون على الله سبحانه وتعالى في أمورهم كلها، في إيمانهم بالله، في عباداتهم لله، في دعوتهم إلى الله، في جهادهم في سبيل الله ونصرتهم له ومجاهدة أعدائه، في أمورهم كلها يتوكلون على الله سبحانه وتعالى وحده. ودونهم درجة من يتوكل على الله في استقامة نفسه، وصلته بربه فقط، لكن لا يهمه أمر المسلمين أو أمر الآخرين، فهذا إنسان توكل على الله في أن الله يحميه ويحمي دينه فقط، لكنه أقل درجة من النوع الأول المجاهدين الداعين إلى الله سبحانه وتعالى. وأدنى من هؤلاء درجة من يتوكل على الله في أمور دنياه فقط، في رزق يناله، أو عافية، أو زوجة يريدها، أو نصر على عدو، أو حصول شيء ما. وأشر من هؤلاء جميعاً من يتوكل على الله في المعاصي، نعوذ بالله من أحوال هؤلاء، تجده وهو يحجز للسفر إلى الفساد يقول: بإذن الله تبارك وتعالى نسافر، بإذن الله تقابلني فلانة فيتوكل على الله في أمور المعاصي، نعوذ بالله من أحوال هؤلاء!

أصناف الذين ضلوا في باب التوكل على الله

أصناف الذين ضلوا في باب التوكل على الله التوكل على الله سبحانه وتعالى -كما سبق- لا يتم إلا لمن أخلص لله التوحيد واستقام على منهج أهل السنة والجماعة، ومن ثم فإننا نجد أن الذين ضلوا في باب التوكل على الله عدة أصناف: الصنف الأول: المعطلة، الذين نفوا أسماء الله وصفاته، فهؤلاء على من يتوكلون إذا كانوا لا يقرون في أن الله سبحانه وتعالى خلاق رزاق محي مميت عالم قادر إلى آخر أسمائه وصفاته؟! يضعف إيمانهم ويسوء توكلهم على الله سبحانه وتعالى. الصنف الثاني من الذين ضلوا: القدرية والمعتزلة، الذين قالوا: إن الإنسان له إرادة مستقلة عن الله. وقالوا: إن العبد هو الذي يخلق أفعاله، وإن الله لا يخلق أفعال العباد. فهؤلاء لا يتوكلون على الله في أمورهم، وإنما يتوكلون على أنفسهم، فيظنون أنهم هم أنفسهم الذين يفعلون أفعالهم، فلا حاجة فيهم إلى التوكل على الله. الصنف الثالث من الذين ضلوا في هذا الباب: الأشعرية والصوفية، فإن الأشعرية أنكروا الأسباب، وقالوا: الله هو الفاعل والأسباب لا قيمة لها، وإنما يأتي الفعل عند السبب، لا بالسبب، والصوفية أيضاً -كما تعلم وكما تسمع- من أحوالهم -قالوا: حقيقة التوكل ترك الأسباب، فلا تطلب الرزق، ولا تسعى في الأرض. ومن ثم تجد أن كثيراً من هؤلاء يذهب إلى البراري لا يحمل معه شيئاً، ويقول: أنا متوكل على الله. وهذا لا شك أنه خطأ كبير وضعف في العقول؛ لأن العقول المستقيمة هي التي تعلم أن الأمر إنما يتم بسببه. فلو أن إنساناً قال: أنا سأتوكل على الله ويأتيني أكلي وأشبع فلا يمكن حصول هذا إلا بفعل السبب. ولو قال رجل: أنا أتوكل على الله، وإن شاء الله سيأتيني الولد. ولا يتزوج، فلا يمكن هذا. وهكذا في بقية أمور الحياة، فمن ترك الأسباب، أو زعم أن الأسباب لا قيمة لها إطلاقاً فقد انحرف في فهمه بتوكله على الله سبحانه وتعالى.

آثار التوكل على الله سبحانه وتعالى

آثار التوكل على الله سبحانه وتعالى

التوكل ينجي الإنسان مما يخافه من الفقر

التوكل ينجي الإنسان مما يخافه من الفقر من ثمرات التوكل أن التوكل على الله سبحانه وتعالى ينجي الإنسان مما يخافه من الفقر. وقد ورد في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصابتنا فاقة -فقر- فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله، فوجدته يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس! والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنك) هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، (وإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. معنى قوله: (من يستغن)، الاستغناء: هو أن لا يرجو الإنسان أحداً إلا الله، فيستشرف ما عنده والاستعفاف: أن لا يسأل أحداً. ولهذا سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن التوكل قال: قطع الاستشراف إلى الخلق -أي: لا يكون في قلبك أن أحداً يأتيك بشيء- فقيل له: الحجة في ذلك؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. فاعتمد على الله فنجاه الله. فمن يستغن بالله يغنه الله، لكن من يعلق قلبه بالناس وفلان وعلان والرزق الفلاني والراتب الفلاني يكله الله سبحانه وتعالى إليه، كما ورد في الأثر: (من تعلق شيءٍ وكل إليه). قال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل، فتضيع أمر آخرتك، ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك. وكلنا نعلم الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن المبارك والحاكم وابن حبان وابن أبي الدنيا في التوكل على الله سبحانه وتعالى، وهو حديث صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وهنا في هذا الحديث بعض العلماء قال: قوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً) لا يعني أنها تفعل السبب، وإنما هي بطبعها تتحرك في الهواء وفقط، وهذا من جنس حركة المرتعش بالنسبة لها، فمن توكل على الله حق توكله رزقه الله كما يرزق الطير. ولكن المعنى الصحيح للحديث: هو أن قوله عليه الصلاة والسلام: (لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) أن الطير فعلت السبب، والله هو الذي هداها لتفعل السبب، فتغدو في الصباح (خماصاً) جائعة ضامرة البطون، وترجع في المساء (بطاناً) قد رزقها الله سبحانه وتعالى. وإذا كان الأمر كذلك فإن كل الناس يذهب ويغدو، فما معنى (حق توكله)؟ كيف يشبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالطير؟ الذي يظهر -والله أعلم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه من توكل على الله حق توكله بالطير -مع أن الإنسان يفعل السبب- أن الطير يبيت لا يحمل هم رزقه، فلا يقول: أين التجارة الفلانية والربح الفلاني والخسارة الفلانية والمال الفلاني والفلوس الفلانية؟ بل يبيت مطمئناً مرتاحاً، هذا هو الطير، فمن توكل على الله سبحانه وتعالى جعل الله له الاطمئنان، ويسر له الأسباب دون أن يحزن، فيصير مثل الطير، يفعل السبب ويرزقه الله سبحانه وتعالى ويأتيه رزقه، وهذا هو معنى التوكل على الله سبحانه وتعالى ولذلك يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كان في عهد خلافته جاءه رجل من الأعراب ممن يطلب الرزق فجلس عند بابه، وصار عمر يعطيه لأنه خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، فمكث عند بابه لينال رزقه، فجاء إليه رجل وقال له: يا هذا! أنت هاجرت إلى عمر أو إلى رب عمر؟ قال: وما ذاك؟ قال: اذهب فاقرأ القرآن، فإن الله يغنيك عن عمر فاستيقظ الرجل وذهب لقراءة القرآن وعبادة الله وطلب العلم فأغناه الله، ولكن عمر الذي كان يرعى رعيته سأل عن الرجل؛ لأنه انقطع عنه أياماً، فبحث عنه في المدينة حتى لقيه، فقال له: يا فلان! كنت عندنا فإلى أين ذهبت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! جاءني رجل فقال لي هذا الكلام: اقرأ القرآن واعتمد على الله لا على عمر فقرأت القرآن فأغناني الله سبحانه وتعالى فقال له عمر: يا أخي! وماذا وجدت في القرآن -يعني: ما الذي لفت انتباهك في القرآن-؟ قال: قول الله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فالتوكل على الله سبحانه وتعالى يجعل العبد راضياً مطمئناً، فالإنسان الذي يبيت ليله مطمئناً وليس عنده مال، والإنسان الآخر الذي يبيت ليله قلقاً وعنده الملايين أيهما أكثر راحة وسعادة؟ تلك موازين نعرفها جميعاً، لكن نحن بحاجة إلى نتفاعل معها عملياً في حياتنا، فلا نغضب إذا نقصت أموالنا، ولا نحزن، وإنما نفرح لأننا على الإيمان والهدى والتقى، وهذا هو رأس مال المؤمن. أيها الأخ المسلم! وردت قصة رواها ابن أبي الدنيا في التوكل على الله، وقعت في إحدى الفتن التي وقعت في الأمة الإسلامية، والآثار في هذا الباب -في باب التوكل والكرامات- التي يذكرها الصوفية كثيرة، لكننا أعرضنا عنها صفحاً لأننا لا ندري ما صحتها، وإنما يحسنونها في كتبهم، ولكن هذه الرواية وردت بسند صحيح إلى عون بن عبد الله قال: بينا رجل في بستان بمصر في فتنة ابن الزبير مكتئباً معه شيء ينكت به في الأرض، إذ رفع رأسه فسنح له صاحب مسحاة، فجاءه هذا الرجل صاحب المسحاة فقال له: مالي أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: فكأنه ازدراه. رأى شكله، وحاله فقال: لا شيء. فقال له صاحب المسحاة: ألدنيا؟! فإن الدنيا عرض حاضر -يعني: غير باق- يأكل منها البر والفاجر، والآخرة أجل صادق يحكم بها ملك قادر يفصل بين الحق والباطل. فلما سمع ذلك الرجل هذا الكلام كأنه أعجبه، فأخبره بما في نفسه، وقال له: إنني حزين مكتئب لما فيه المسلمون. يعني: لأحوال المسلمين. فقال له هذا الرجل: فإن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، ومن ذا الذي سأل الله فلم يعطه، ودعاه فلم يجبه، وتوكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟! قال عون بن عبد الله: فتعلقت بالدعاء، اللهم! سلمني وسلم مني. فتجلت- يعني: الفتنة- ولم تصب منهم أحداً. فهذا الرجل يقول: بشفقتك على المسلمين فأين أولئك الذين يسمعون الأحداث تمر بالمسلمين من حولهم ولكنهم لا يحركون ساكناً ولا تتحرك قلوبهم، لكن المؤمن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وهذا الرجل يقول: إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين لأنك تحمل هم المحن، هم الأمة الإسلامية، يحزنك إذا أصاب المسلمين في مكان ما حوادث أو كوارث، يحزنك إذا قصر المسلمون في إيمانهم ودينهم، تحمل هم المسلمين؛ لأنك إذا حملت هم المسلمين فمعناه أنك في شغل، وهو الطاعة والعبادة، وهو التقوى والرضا بالله سبحانه وتعالى، ولقد كان قواد المسلمين رحمهم الله سبحانه وتعالى يتوكلون على الله في جميع أحوالهم، ولا أطيل بذكر الأمثلة، ولكنني سأذكر مثالاً واحداً لرجل من الرجال الذين قاوموا الصليبيين زمن الحروب الصليبية، كان له جهاد وأي جهاد! أفنى عمره وحياته في قتال الصليبيين من مكان إلى مكان، وهو نور الدين محمود زنكي، فإن هذا الرجل ذكر عنه أنه كان يمرغ وجهه في التراب قبل المعارك، ويدعو ربه ويقول: من محمود؟ يعني نفسه، يعني أنه لا قيمة له انتصر أو لم ينتصر، يا رب! من محمود؟ إنما هو دينك، إنما هم عبادك، اللهم! انصرنا. لا أنانية، وإنما هو رجل عاش لله وبالله، واعتصم بالله، وصار هم المسلمين همه وشغل المسلمين شغله، فجاهد في الله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياه والمسلمين جميعاً في مستقر رحمته. روى أبو شامة في الروضتين وابن قاضي شهبة في كتابه الكواكب الدرية الذي ترجم فيه لـ نور الدين هذا، روى أن القدس لما كانت بأيدي الصليبيين، وكان نور الدين يجاهدهم وينتصر عليهم -لكن تحرير القدس إنما تم بعد نور الدين محمود عندما جاء صلاح الدين، فذهب بعض الناس إلى زيارة بيت المقدس وهو تحت الاحتلال الصليبي، فماذا وجد الصليبيين يقولون عن نور الدين؟ وجدهم يقولون عنه: إن له مع الله سراً، فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا وينتصر بالدعاء وصلاة الليل. وكان مشهوراً بصلاة الليل، نور الدين محمود كان معروفاً عنه صلاة الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول هؤلاء الكفار: إنما يظفر علينا وينتصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي الليل ويرفع يديه إلى الله ويدعو، والله سبحانه يستجيب دعاءه ويعطيه سؤله وما يرد يده خائبة، ويظفر علينا بهذا. فالتوكل على الله مطلوب من جميع الأمة رئيسها ومرؤوسها، من جميع الناس، فإذا توكلوا على الله فإن الله سبحانه وتعالى يوفقهم ويهديهم وينصرهم.

التوكل على الله سبب في عون الإنسان على فعل الأوامر واجتناب النواهي

التوكل على الله سبب في عون الإنسان على فعل الأوامر واجتناب النواهي ومن ثمرات التوكل أن التوكل على الله سبحانه وتعالى يكون سبباً لأن يقوم الإنسان بما أمر الله به من فعل الأوامر واجتناب النواهي، فالإنسان ضعيف تحيط به الوساوس والشياطين، ويضعف عن الصلاة، ويضعف عن الإتيان بها في أوقاتها، ويضعف عن فعل ما أمر الله، ويضعف عن ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى من المعاصي، ولكن التوكل على الله سبحانه وتعالى يبني في قلب العبد المؤمن ما يجعله يقوم بما أمره الله به ويجتنب ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه على الوجه الأكمل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن النفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لا يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقاً، بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة، فلا تصح العبادة لله وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فالعبادة لا تتحقق إلا بالاستعانة، فأنت تريد أن تعبد الله على الوجه الحق، لكن كيف تعبده وأنت غير مستعين بالله؟! لا يمكن، فلا بد من الاستعانة بالله وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3]، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9]. (تبتل إليه) اعبده، ومتى؟ إذا علمت أنه رب المشرق والمغرب واتخذته سبحانه وتعالى وكيلاً، وكفى بالله وكيلاً. يقول شيخ الإسلام بعد ذلك: والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة، ومن كان واثقاً بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول: إنه محتاج فيه إلى غيره. وهنا يلاحظ على أحوال الناس عندما تأتيهم المحن ويخافون على أنفسهم، يلاحظ عليهم أمران على ضوء هذه الثمرة من ثمرات التوكل: الأمر الأول: أن الإنسان الذي كان يحرص على الصلاة في أول أوقاتها يتابع الإذاعة والتلفاز، وينظر ماذا جرى، خوف ورعب في نفسه، بينما الإنسان في حال المحنة والخوف يلجأ إلى الله ويفعل الأسباب، لكن الناس انصرفوا، حتى إن الإنسان ليجد أحياناً المرأة في بيتها التي كانت تستمع الشريط الإسلامي وكانت تستمع إلى إذاعة القرآن وقراءة القرآن وفتاويه يجدها قد انصرفت وانشغلت بغير ذلك، تتابع الأخبار، وتتحدث في الهاتف عما جرى وعما سيجري وما هو متوقع، وصار الناس كلهم يحللون الأحداث حتى العوام والصبيان، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يتابع الأحداث، الإنسان من لحم ودم، وعاطفة وقلب وروح، لكن أن يكون حال الناس وقت المحنة أضعف من حالهم قبلها فهذا خطر، بل يجب أن يكون حال الإنسان عندما يشتد به الأمر أن يكون قربه من الله وتوكله على الله، وقراءته للقرآن، واعتصامه بالله، وتدبره لآيات الله، ودراسته لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على العلم وطلبه، وعلى تربية أسرته وبنائها، وعلى توجيه الناس، وعلى الدعوة إلى الله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي غيرها من الأمور أن يكون حرصه عليها أكثر مما سبق؛ لأنه أحوج إلى الله سبحانه وتعالى. وفي حديث عبد الله بن عباس الذي ذكرناه قبل قليل يقول له النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فإذا عرفك الله في الشدة أعانك على عبادته وطاعته والاعتصام به، وأزال عنك الخوف والرعب. الأمر الثاني الملاحظ على الناس في وقت المحن: أن بعض الذين بيدهم الأمر إذا فعلوا بعض الأسباب قد يخطر في قلوبهم أن هذه الأسباب كافية لوحدها لمنع الشر والفتنة، فيتوكلون عليها، ويظنون أنها هي التي نفعتهم وهي التي أبعدت الشر عنهم، ويستقر هذا الأمر في نفوسهم، ومن ثم فتجد الواحد من هؤلاء يقطع أو تضعف صلته بالله سبحانه وتعالى وما ينبغي أن يكون عليه به من الثقة في زمن المحنة حتى يمنع الله عنه الشر والفساد، تجد هؤلاء يظن الواحد منهم أنه ما دمنا اتكلنا على هؤلاء في هذا الأمر كفى. إذاً ينبغي أن نغير أحوالنا، وأن نتدبر حالنا والمعاصي المنتشرة فينا فنمنعها. ونوثق صلتنا بالله وبالعلماء، حتى نغير تغييراً حقيقياً، هل نحن نفعل شيئاً من هذا الآن؟ لا. هذا الأمر الآن أمر ثانوي، وهذا الأمر الذي استقر في بعض النفوس خطير جداً؛ لأن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده ويمتحنهم، فإذا جاءتهم الآيات ولم يعتبروا بها فإن الأمر مؤذن بخطر ربما يأتي من طريق لا يحسب الإنسان حسابه، وهذه مشكلة، أن يستقر في النفوس أن هذه الأمور المتعلقة بإسلامنا وديننا وتحكيم شرعنا يكفي فيها ما نحن فيه ولا داعي للتغيير.

التوكل على الله يزيل عن النفس الخوف والرعب

التوكل على الله يزيل عن النفس الخوف والرعب والتوكل على الله سبحانه وتعالى من أعظم ثمراته أنه يزيل عن النفس الخوف والرعب، ومن توكل على غير الله أصابه الله بالخوف والرعب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو حاجة أو صديقاً أو قرابته أو شيخه أو ملكه أو ماله غير ناظر إلى الله كان فيه نوع من التوكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه. فقف عند هذه الكلمة أيها الأخ المسلم! ما رجا أحد مخلوقاً وتوكل عليه إلا كانت النتيجة عكسية، خاب ظنه فيه فينقلب عليه. قال: إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك والحالة هذه، والله سبحانه وتعالى يقول- هكذا يقول شيخ الإسلام -: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم فيحصل له رعب، كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران:151]، ومن أخلص قلبه من الشرك هو الذي يحصل له الأمن، كما قال تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، والظلم هنا فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذلك الشرك، ألم تسمعوا إلى العبد الصالح -يعني: لقمان- حينما قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فالذي لم يلبس إيمانه بظلم -أي: بشرك- له الأمن، وعكسه له الرعب والخوف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إمداد المتوكل بالقوة

إمداد المتوكل بالقوة المسألة السادسة: التوكل على الله سبحانه وتعالى له آثار عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، وفي حياة الأمم، وسنشير إلى بعض هذه الآثار، ومنها: أولاً: أن التوكل على الله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان القوة والعزة بالله وحده لا شريك له، ومن ثم فإن بعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. لأن الإنسان إذا توكل على الله وحده لا يخاف أحداً مهما كان، لو اجتمعت الدنيا كلها بعروشها وجيوشها على أن يكيدوك -أيها الإنسان- لا يملكون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس وهو غلام صغير: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). إذاً التوكل على الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان قوياً في إيمانه، قوياً في حياته، قوياً في صبره على البلاء، قوياً في مواجهته للمحن والابتلاء، قوياً حينما تدلهم الفتن وتضطرب الأمور ويحيص الناس. ويحار الحليم، يقف قوياً لأنه يتوكل على الله وحده لا شريك له، ويعتصم به، ويعتمد عليه وحده لا شريك له. وقد ورد في الصحيحين -صحيح البخاري ومسلم - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق) إلى آخر الحديث. (سميتك المتوكل) فرسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه (المتوكل)، كما أن له أسماء أخرى معروفة (محمد)، و (أحمد)، و (الحاشر) إلى آخره. وقد روي في بعض الآثار أن حملة العرش إنما يقوون على حمله لقولهم: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن هذه الكلمة: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة).

التوكل على الله يكسب الإنسان الرضا بما قسم الله له

التوكل على الله يكسب الإنسان الرضا بما قسم الله له ومن ثمراته الرضا أن يرضى الإنسان بما قسم الله له، فإذا توكل على الله في أموره كلها رضي بالله سبحانه وتعالى وبما قسم له؛ لأن كل أمر قدره الله سبحانه وتعالى على العبد فلا بد له فيه من أمرين: الأمر الأول: التوكل على الله قبل وقوعه. وأثناء سيره. ثم إن صدق الإنسان بهذا يأتي الأمر الثاني، وهو الرضا بالله على أي حال وقع المقدور، وهذا الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الاستخارة، والاستخارة إنما تكون في الأمور الدنيوية، أما الأمور الشرعية المطلوبة فلا يستخير الإنسان فيها، إذا أراد الإنسان أن يصلي، أو يقوم الليل، أو يصوم، أو يحج، أو يعتمر، أو يتصدق لا يقول: أستخير. وإنما يقدم عليها؛ لأنها طاعة لا يتردد فيها، ولكنه يستخير في أموره الدنيوية التي لا يدري هل يكون له فيها خير أم يكون له فيها شر، فإذا تردد في الأمر ولم يترجح له أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء الاستخارة، الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين، ثم يقول: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر) ثم في آخر هذا الحديث يوصي النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان بعد ما يسمي حاجته يقول: (وإلا فاصرفه عني) يعني: إن لم يكن خيراً لي (واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)، فيرضى الإنسان بما قسم الله سبحانه وتعالى له، ولا شك أن الإنسان إذا توكل على الله وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى لا يغضب من أي أمر قد قدره الله سبحانه وتعالى عليه.

التوكل على الله لا ينافي فعل الأسباب

التوكل على الله لا ينافي فعل الأسباب بقيت مسألة يسيرة أحب أن أشير إليها، وهي أن نعلم أن التوكل على الله لا ينافي فعل الأسباب. وإنما التوكل على الله هو عينه سبب من الأسباب، مثل الدعاء تماماً، كما أن الله أمر بالدعاء وجعله عبادة، بل ورد أنه العبادة، فإن الدعاء سبب، فأنت مأمور بالدعاء لكن قد يحصل وقد لا يحصل. كذلك أيضاً التوكل على الله سبب من الأسباب، فإذا توكلت على الله في أمر من الأمور فقد يحصل ذلك الأمر وقد لا يحصل، لكنك عبدت الله وتوكلت عليه، فيكون لك الخير حيث كان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، في الحديث الصحيح: (ما من عبد يدعو ربه بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم إلا كان على الله أن يعطيه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يستجيب دعاءه) هذا الاحتمال الأول (أو أن الله يدفع عنه من الشر مثله) هذا الثاني (أو أن الله يدخر له يوم القيامة من الأجر مثله). إذاً الداعي لا يخيب أبداً، قال الصحابة: (يا رسول الله! إذاً نكثر)، أي: ما دمنا رابحين إذاً نكثر من الدعاء، فقال: (الله أكثر). فلا يقول القائل: أنا دعوت ولم يستجب لي. ومثله إذا توكل على الله في الأمر، فقد يكون من أمر الله أن الله يريد أن يبتليه، فلا يقول: توكلت على الله وما استجاب. لا، وإنما سيكون لك الخير لأنك عبدت الله حق عبادته، وقد يكون ذلك الأمر الذي جرى عليك من محنة أو غيرها سبباً لتمحيص ذنوبك وإيمانك ورفع درجاتك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن توكل عليه وكفاه، وأن يجعلنا ممن اعتصم به فنجاه. كما نسأله سبحانه وتعالى أن يعيذ هذه الأمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يهيئ لها من أمرها رشداً، يُعز أهل الطاعة، ويُذل أهل المعصية، كما نسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ختم له بخاتمة السعادة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

نقص التوكل عند الناس في حال الخطبة وطلب الزواج

نقص التوكل عند الناس في حال الخطبة وطلب الزواج Q هناك أناس إذا أتاهم الخاطب ليتزوج ابنتهم وهو حديث التخرج ولا يعمل بوظيفة حكومية لا يزوجونه، فهل التوكل عند هؤلاء الناس ناقص أم هو أخذ بالسبب؟ A الحقيقة أن هذا توكل ناقص بغير شك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، وما قال: (وترضون ماله) والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك الشباب فقال: (من استطاع منكم الباءة) أي: القدرة على الزواج (فليتزوج)، فإذا جاءكم الشاب معه المهر وعنده القدرة فزوجوه، أما أن تربطوا الموضوع بأمر غيبي فلا، الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن هذا أمر خطير جداً، ومثله أولئك الذين يربطون الزواج بالدراسة، شخص اتصل بأحد المسئولين عن التعليم يتحدث معه عن ابنته، فيقول: إن لم تقبلوها فمعناه أنها لن تتزوج. فما هذا الكلام؟! فالأمر خطير جداً، واعلم أن العبد يعان على النكاح، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم -وذكر منهم-: الناكح يريد العفاف)، وأنتم تشاهدون هذا، هل وجدتم شاباً تزوج فافتقر بسبب زواجه؟ لا، وإنما الذي نشاهده أن الشاب إذا تزوج رزقه الله، وجاءه الرزق من كل مكان، وجاءته الإعانات التي ليس فيها منة، ويسر الله أمره، وإذا جاءه المولود جاء ومعه رزقه، لكن ضعف في النفوس التوكل على الله، يظن أنه ما لم يكن الشاب في وظيفة وما لم يكن الشاب عنده بيت وما لم يكن الشاب عنده كذا وكذا فلن يزوج، هذا تعلق بأمور وأسباب، فأخشى على هؤلاء أن يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيزوجون من كان ظاهره المال، فيكون وبالاً على ابنتهم، فاتقوا الله في بناتكم، وامتثلوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته -أو: وخلقه- فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

حكم من يقول: لولا أمريكا وقوات الدول الكبيرة لذهبت الجزيرة

حكم من يقول: لولا أمريكا وقوات الدول الكبيرة لذهبت الجزيرة Q في هذه الأيام هناك بعض الناس يقول بعد الأزمة: لولا أمريكا وقوات الدول الكبيرة لذهبت الجزيرة، ما هي نصيحتكم لهؤلاء الناس؟ A مثل هذا الكلام خطير جداً؛ لأنه لو قال الإنسان -كما ورد في كتب التوحيد-: لولا الكلب لأتانا اللصوص. لولا الباب كان قوياً لدخل اللصوص وسرقوا البيت. فهذا من الشرك الأصغر، والإنسان ربما يظن هذا الظن، لكن مثل هذه العبارة التي يقول فيها الإنسان: لولا أمريكا لذهبت الجزيرة توحي العبارة بأن قلبه كأنه ظن أن أولئك هم الذين حموا البلاد، وأنه لولاهم لذهبت، ولا شك أن هذا أمر خطير جداً، ويدل على ضعف اليقين والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وما يدري الإنسان ماذا سيجري بعد ذلك، الأمر بيد الله، لكن الشيء الذي نقطع به أن الملاحدة والمشركين والعلمانيين ومثلهم اليهود والنصارى لا يمكن أن يريدوا خيراً للمسلمين. خذوها قاعدة وميزاناً ربانياً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فإذا كانت هذه الأمور جاءت لسبب فلنجعل هذا السبب في محله فقط، ولا نأتي لنزعم أو لنعتقد، كما يحدث من بعض الناس عندما يتابع الأخبار، فيحب هؤلاء النصارى ويواليهم، ويظن أنهم فيهم الخير الكثير وفيهم المحبة والشفقة إلى آخره، هذا خطأ، خطأ أن ينقلب هذا الأمر إلى موالاة لغير الله سبحانه وتعالى، وإنما نحصر الأمر في مكانه، نحدث ونعلم أن العصمة لنا ولبلادنا ولبلاد المسلمين إنما هي بعدة أموره منها -وعلى رأسها- عبادة الله والتوكل عليه. ومنها تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، والأخذ على يد السفهاء، فإذا حكمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو وصفه الواصفون بأن القطع رجعية، وأن الرجم رجعية وتأخر فالله ليهابنا الأعداء كما هو واقع، يهابنا الأعداء في كل مكان، ولكن المشكلة أننا نرى بعض الصحفيين جاؤوا ليكتبوا على إثر الأزمة وليقولوا: يجب أن نراجع أمورنا ومسلماتنا. وما هي مسلماتنا التي نراجعها؟ تحكيم القرآن نراجعه، الحكم بالشريعة الإسلامية نراجعه، الاعتماد على الله وعبادته وحده لا شريك له نراجعه، هكذا يدخل العلمانيون وأذناب القوميين وغيرهم في سلك الصحف ليقولوا: يجب أن نراجع هذه الأصول، تبين لنا أن الحكم بالشريعة لا ينفعنا وقت الأزمات. وهذا كلام خطير فعلينا أن نعتصم بالله، وأن نتوكل على الله، وأن نكون ممن يزن الأمور بميزانها القرآني الصحيح.

طلب الدواء لا ينافي التوكل على الله

طلب الدواء لا ينافي التوكل على الله Q مرض الرجل فلم يتداو، وإذا سئل عن ذلك ذكر حديث من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول: الحديث واضح، وظاهره يقول: (لا يسترقون) أي: لا يتداوون. فما رأيكم في ذلك؟ A أولاً: يجب أن نعلم أن هذا الحديث ورد في معرض الخبر عن هؤلاء، بأنه بلغ بهم التوكل على الله أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. الأمر الثاني: أن هذا الحديث لا يؤخذ لوحده، وإنما تؤخذ الأحاديث الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى وأوصى أصحابه بالتداوي، فإذا جمعنا هذه الأحاديث تبين لنا أن التداوي وطلب الدواء أمر مشروع، ولا يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

أحوال وأهوال

أحوال وأهوال اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل الدنيا دار عمل، فإذا انتهى الناس من الأعمال أقيم لهم بعد موتهم يوم يحاسبون ويجازون فيه بأعمالهم، وذلك اليوم هو اليوم الآخر، وتبدأ مشاهده من لحظات فراق الدنيا، فحينئذ يعلم العبد ما هو مقبل عليه من أمره، وقد أخبرنا الله تعالى وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الآخر بأخبار مليئة بالأحداث والمشاهد والصور المفزعة، ولا شك أن ذلك كله حادث، وسيعقبه الجزاء الأخير على العمل، فأهل الصلاح إلى جنة النعيم والرضوان، وأهل الشقاء إلى الجحيم والنيران.

تميز القرآن والسنة بتفصيل أحوال يوم القيامة وأهواله

تميز القرآن والسنة بتفصيل أحوال يوم القيامة وأهواله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فحديثنا في هذه الوريقات بعنوان: (أحوال وأهوال)، وهذا الموضوع نحتاج إليه في هذا الزمان؛ لأن الفتن تنوعت طرائقها، وامتحان القلوب تعددت مداخله، في ظل عولمة مادية طاغية تريد أن تهلك الحرث والنسل، وأن تدخل إلى البيوت والقلوب لتغيرها وتفسد ما بقي فيها من خير وإيمان وطاعة لله سبحانه وتعالى. كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه أن يتعرفوا على تلك الأحوال والأهوال، وجاء في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام التفصيلات الكاملة التي لا توجد في غيرهما، فإذا جئت إلى التوراة وإلى الإنجيل وما يتبعهما من الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى لا تجد الحديث عن هذه الأحوال والأهوال إلا حديثاً هو نزر قليل، ومن ثم رأينا في عالم اليوم -وخاصة عند النصارى وهم الكثرة الغالبة اليوم -رأينا مادية طاغية تظهر آثارها مشرقاً ومغرباً. أما نحن المسلمين فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالى وأنعم علينا بالإسلام الذي جاءت فيه تفاصيل تلك الأحوال والأهوال وكأنما نراها رأي العين، لمن ألقى السمع وهو شهيد. وما يكون لمثلي وأنا العبد الفقير المذنب المقصر أن أنقل إليك بعضاً من هذه الأحوال والأهوال، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياك في تلك الأحوال والأهوال من العاملين الفرحين المسرورين الفائزين. أيها الأخ المسلم! سنتحدث إن شاء الله تعالى عن بعض من مظاهر هذه الأحوال والأهوال، ولكن ينبغي أن يستقر في نفس كل واحد منا وهو يقرأ عرضاً مختصراً عن بعضها وأحداثها استشعار حقائق تلك الأهوال والأحوال، ويصور نفسه وكأنه ذلك الذي تتحدث عنه الحادثة، أو تشرح حاله الآية، أو يبين أمره حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. أظنك عرفت المقصود بالأحوال والأهوال، فإنها -والله- ما زال يعيشها ويعيش أحداثاً منها أناس من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأقرب الناس إلينا، فإن بعض الأحداث من تلك الأحوال والأهوال عاشها من سبقنا، ولكن بقينا نحن وبقيت في الأحوال والأهوال أحداث قادمة سيقدم عليها جميع العباد. وسنقف وقفات قصيرة ولمحات؛ لأن الأحوال والأهوال يطول بعرضها المقام، ولذا سننتخب منها انتخابا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوقظ قلوبنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال والنيات. سنتحدث عن أحوال وأهوال حول الموت والقبور ويوم القيامة والجنة والنار، فهل تحركت القلوب لتلك الحقائق التي لا شك فيها كما أنكم تنطقون.

الموت وأهواله

الموت وأهواله تعال نقف -أيها الأخ- مع بعض تلك الأحوال والأهوال، ونبدأها بذلك الأمر الذي كتبه الله على جميع الخلائق، إنه الموت الحق الذي لا شك فيه، والدليل الذي نشاهده كل يوم بأعيننا، نودع فيه أناساً كثيرين من الأحباب والأصحاب، بل حتى من الأعداء؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى فيه أن الله كتبه على الجميع {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].

لحظات الوفاة

لحظات الوفاة وأول حدث من أحداث الموت هو أن الإنسان إذا جاءه الموت فقبل قبض روحه تحضر ملائكة الموت، فملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صور فظيعة مخيفة. ففي حديث البراء بن عازب عند أبي داود وغيره -وهو حديث صحيح- يقول فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط -وهو الطيب وما يتبعه مما يوضع بين الأكفان- من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد بصره)، وهذا كله قبل الموت عند حضور موت المؤمن، وهذا دليله قول الله تبارك وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، إنها حالة الموت يبشر بها المؤمن بالله سبحانه وتعالى، ويا لها من حالة ما أطيبها للمؤمن وإن كان أهله وأحبابه من ورائه في ألم شديد، لكن شتان بين الحالتين، أولاد وأحباب يبكون، والميت مبتسم يستقبل الملائكة بهذه الأشكال الطيبة، إنه فرح مسرور في لحظة هي من أشد اللحظات التي تمر على الإنسان. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: يا أيتها النفس المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها)، هذه حالة للمؤمن الصادق. أخي في الله! تعال إلى حالة مقابلة لها، هي من الأهوال الفظيعة، يقول الصادق المصدوق في نفس الحديث: (وإن العبد الكافر -وفي رواية: الفاجر- إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه، معهم المسوح)، والمسوح هي ما يلبس من الشعر من الألبسة والأكسية الغليظة، تلك التي يلبسها البعض تقشفاً؛ قال: (معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده)، يعني أن الروح يصيبها الرعب من هذا الخطاب الرهيب فتنكص إلى الجسد لا تريد أن تخرج؛ لأنها إنما تقبل على غضب من الله، قال: (فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، قال: فتتقطع معها العروق والعصب)، يعني أن ملك الموت ينزع هذه الروح الخبيثة نزعاً من أعماق العروق والعصب، ويا لها من رحلة لهذه الروح حين تخرج هذا المخرج الذي وصفه لنا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم. ومصداق حضور الملائكة سود الوجوه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51].

حالات الناس في السكرات

حالات الناس في السكرات حالة أخرى هي سكرات الموت، ويكفي في بيان سكرات الموت أن سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه الموت كانت عنده ركوة فيها ماء، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يدخل يده في الركوة ويمسح بها جبينه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، وإذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بحال من عداه، ثم كيف بنا نحن المساكين المذنبين! ومن هنا فإن أعظم من يعاني من السكرات الكفار، فإنهم يعانون من السكرات أشدها، وتلك عقوبات تكون لهؤلاء معجلة؛ لأنهم كفروا بالله وبيوم الحساب. وفي حال السكرات تكون للناس حالتان: الحالة الأولى: الكافر والعاصي يتمنيان الرجعة، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، فالكافر يتمنى العودة ليسلم ويؤمن بالله، وأما العاصي فإنه يتمنى العودة ليتوب مما فرط فيه من الذنوب والمعاصي في حياته الدنيا. أما الحالة الثانية: فإن المؤمن يفرح بلقاء ربه، وكيف لا يفرح والملائكة تتنزل عليه بتلك الصور المشرقة تبشره؟ روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه). إنه حديث مؤثر في النفس؛ لأننا جميعاً نكره الموت ونفر من الموت، فهل نحن جميعاً من الصنف الثاني؟ لا. لقد كانت بصائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نور من ربها، فعندما قال المصطفى هذا الحديث قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا لنكره الموت. تعني: ما الصنيع؟ فإذا كنت تقول: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فإننا نكره الموت بالطبيعة والجبلة، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام موضحاً ومفرجاً للهموم: (ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه)، وعليه فالموت هو عنوان اللقاء، واللقاء إنما يكون يوم القيامة، فالمؤمن يبشر بالرضوان فيفرح ويستبشر فيحب ما أمامه ويفرح به، فإذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه؛ قال: (وأما الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه). وروى أبو سعيد الخدري -كما في صحيح البخاري - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجنازة إذا احتملها الرجال إن كانت صالحة قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها -وأهلها في الغالب هم حملة نعشها-: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)، إنها حالة الموت وسكرات الموت، فأين تختار يا عبد الله ويا أمة الله؟ حالتان للموت لا ثالثة لهما، حالة البشرى والسعادة، وحالة البؤس والشقاء، أما المشمرون في مسألة سكرات الموت، فقد روى الترمذي في حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة) إنها المجازاة، قدم نفسه لربه تبارك وتعالى فأعاضه الله ألا يكون معه من السكرات إلا ألم القرصة، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يرزق الشهادة في سبيله.

حالات الناس في حسن الخاتمة وسوئها

حالات الناس في حسن الخاتمة وسوئها وفي لحظة الموت تبرز حالتان كبريان ينقسم إليهما الناس: الأولى منهما: حسن الخاتمة. والثانية: سوء الخاتمة. وأبدأ بسوء الخاتمة، أسأل الله أن يعافني وإياكم منها. سوء الخاتمة -أيها الأخ في الله- أن يأتي الموت الإنسان وهو غير مستعد له، وأعظم ما يكون من سوء الخاتمة الموت وهو على ضلالة وكفر ونفاق، أو على معصية، نسأل الله السلامة والعافية، فسوء الخاتمة على درجتين: أعلاهما وأخطرهما: أن يموت على شرك أو كفر، أو يموت جاحداً أو شاكاً في دين الإسلام، أو تاركاً للصلاة ونحو ذلك، فهذه خاتمة عنوانها هو الخسران المبين. وحالة أخرى دونها: وهي أن يموت على الإسلام، لكن يموت مصراً على المعاصي غير تائب، فهذا له الحسرة بحسب ذلك، وحسبك بإنسان يموت وهو على مسكر، أو على عقوق والدين، أو ذاهب لخنى وفجور، أو يردد أغنية ماجنة، أو غير ذلك من أحوال سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية. وسوء الخاتمة لها أسباب يجب أن يقف عندها كل مسلم، ومنها فساد الاعتقاد، والإصرار على المعاصي، وسلوك طريق أهل الاعوجاج، والتعلق بالدنيا وعبادتها، ونسيان الآخرة، ومرافقة أصحاب السوء الذين قد يموت الإنسان وهو معهم. أما الحالة الأخرى: فهي حسن الخاتمة التي تكون للمؤمنين الموفقين، وكم سمعنا من أحوال الصالحين الطيبة، ذلك الصالح الذي أحسن الله له الختام فاستعد لما أمامه بتوبة لربه سبحانه وتعالى، فذاك يموت في سبيل الله، وآخر يموت مهاجراً إلى الله ورسوله، وثالث يموت وهو ذاهب إلى الحج أو راجع منه، ورابع يموت وهو ذاهب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وقد أُخْبِرتُ عن مجموعة من الأخيار ذهبوا إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في أقصى هذه البلاد، وبينما هم مسافرون لخطبة الجمعة وإلقاء بعض الدروس إذا بالحادث يأتي فيموت اثنان منهم ويصاب الثالث، أسأل الله تبارك وتعالى أن يتغمد الميتين برحمة منه وفضل، وأن يرزق الثالث الشفاء العاجل، إنها علامة -فيما نحسبهم والله حسيبهم- على حسن الخاتمة. حال يموت فيها مؤمن وهو يصلي لله رب العالمين، رجل خطب الجمعة ثم لما صلى بالناس مات في السجود في الركعة الثانية، وآخر جلس يصلي لصلاة الظهر وبينما هو يصلي إذا به في الركعة الثالثة يسجد السجود الأخير، إنها من علامات حسن الخاتمة، وآخر ينتظر الصلاة فتذهب الروح إلى ربها سبحانه وتعالى وهو يسبح لله رب العالمين. أحوال طيبة مباركة، أحوال خيرة، ما أسعد أصحابها أيها الأخ في الله! أما الاستعداد لحسن الخاتمة فمن وفقه الله تبارك وتعالى لذلك فليبادر إلى مسيرة جديدة، وإلى توبة نصوح قبل أن يأتيه الموت، ولا بد أنه آت {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].

أهوال القبور وأحوالها

أهوال القبور وأحوالها ثانياً: القبور أهوالها وأحوالها: مات الميت واحتمله أهله، مات الميت وسارع بحمله أهله، فأحب الناس إليه يسارعون في نقله إلى ظلمة القبر، هل رأيت حالة أعجب من هذه الحالة أيها الأخ في الله؟! هل رأيت حالة أعجب من أن يسارع إلى إنزاله في ظلمة القبر أحب الناس إليه؟! هل تدبرت هذه الحال وتصورت أنك أنت صاحب الحال؟ القبر حقيقة لا شك فيها، لكن تعال لنقف عند بعض أهوالها وأحوالها: القبر مظلم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سمع بامرأة كانت تقم المسجد أنها ماتت، ولم يعلموه بموتها، فسأل عنها، ثم ذهب إلى قبرها فصلى عليها بعد دفنها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم)، فصلى الله على هذا النبي الكريم الذي يسأل عن أمة سوداء ماتت لم يعرف بموتها إلا القليل. ظلمة القبر هي التي أقضت مضاجع الصالحين، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: يا أمير المؤمنين! تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟! فقال رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه). قال رضي الله عنه: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه) رواه الترمذي وابن ماجة، وهو حديث صحيح. ظلمة القبر ومنظر القبر حقيقة ستكون داخلها -أخي في الله- قرب الزمان أو بعد، فأعد لذلك المقام مقالا، فسيدخل الإنسان في قبره، فالمؤمنون يدخلون القبور، بل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دفنه أحبابه في القبر وأهالوا عليه التراب، ولما رجعوا قالت فاطمة رضي الله عنها: كيف سمحت لكم نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! هذا القبر يدفن فيه كذلك الكفار؛ لأن غالب الكفار يستخدمون القبور إلا النادر منهم، ثم إن القبر حالة برزخية لا ينفك عنها من دفن ومن لم يدفن، ولذا فإن من أهوال القبر ضمة القبر، روى النسائي وغيره -وهو حديث صحيح- في قصة موت سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز عرش الرحمن لموته أنه قال: (لقد ضم ضمة ثم فرج عنه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ)، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ) رواه الإمام أحمد، فهل ينجو منها أحد؟ عن أنس مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي)، فما موقعك -يا عبد الله- إذا وضعت في القبر وضمك القبر ضمة، هل تراك ناجياً بعد ذلك؟! وفي القبر فتنة القبر وسؤال الملكين، فلا ينجو من السؤال أحد، تسأل الأسئلة الكبرى: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالناس على حالتين: مجيب يتحول القبر بعده إلى روضة من رياض الجنة، يفتح له فيه مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها وريحانها. وآخر لا يجيب على الأسئلة الواضحة وضوح الشمس، فيضرب بمطرقة من حديد فيصرخ صرخة يسمعها جميع المخلوقات إلا الثقلين، ولو سمعناها ما تدافنا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وهنا -أيها الأخ- يكون عذاب القبر ونعيمه، حالتان من حالات القبر تستمران مع عباد الله إلى يوم يبعثون، فالكفار يتحول القبر عليهم إلى حفرة من حفر نار جهنم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، الكفار في لهيب النار، وإن كنا إذا نظرنا إلى القبر لا نرى شيئاً، فهو عذاب برزخي، أما المؤمنون الصادقون فما أطيب مقعدهم! أحباب الميت يرجعون إلى بيوتهم أسفين حزينين، والواحد منهم ربما رجع من الباب الآخر فرحاً أنه نجا من الموت، ولكنه لم يعلم أن أخاه الذي مات على الإيمان والطاعة أحسن حالاً وأطيب منزلاً من قصره المعمور، حالة حقيقية لا شك فيها وهي أن قبر المؤمن يتحول إلى روضة من رياض الجنة.

مشاهد يوم القيامة

مشاهد يوم القيامة ثالثاً: يوم القيامة:

أوصاف يوم القيامة

أوصاف يوم القيامة يبقى الناس في قبورهم من مات ومن سيموت ومن تقوم عليهم الساعة، يبقون في قبورهم ما شاء الله تبارك وتعالى على تلك الحال إلى يوم القيامة، ويوم القيامة جاء تفصيل أحداثه في كتاب الله تعالى، وجاءت له أسماء معبرة، فهو يوم القيامة، وهي الساعة، وهي الحاقة، وهي الآزفة، وهو يوم التناد إلى آخر أسماء يوم القيامة. لكن هناك أسماء تدل على هول ذلك اليوم، فيكفي أن يصفه ربنا تبارك وتعالى بأنه يوم عظيم، قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]. وهو يوم ثقيل {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]. وهو يوم عسير، قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:9 - 10]. هذا اليوم تجتمع فيه الأهوال من كل جانب، وهو يوم الرعب والفزع العظيم، ووالله إن تصوير ذلك اليوم لا يستقيم التعبير عنه أمام كلام الله تبارك وتعالى لأحد، فاقرأ القرآن تعرف حقائق ذلك اليوم، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. وهو يوم تشخص فيه أبصار الظلمة على مختلف أنواع ظلمهم، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43]، شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه من شدة الهول. وهو يوم تبلغ فيه القلوب الحناجر، قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]. وهو يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم يجعل الولدان شيباً، إنه يوم عظيم، فهل أحضرت في ذهنك ذلك اليوم العظيم وتصورت نفسك واحداً من ذلك الجمع الكبير؟ ما هي حالك يا عبد الله؟ ويكفي في هول ذلك اليوم أنه يوم طويل جداً، نحن في الدنيا نعيش سنوات معدودات، لكن ذلك اليوم قال تعالى عنه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وبعد أن يكسى إبراهيم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء ثم المؤمنون. أما الكفار والفجار فهل يكسون يوم القيامة؟ A لا. ولكن يسربلون بسرابيل القطران ودروع الجرب من نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.

الحساب ودواوينه

الحساب ودواوينه وننتقل مختصرين إلى حالة أخرى من أحوال وأهوال يوم القيامة، ألا وهي الحساب ودواوين الحساب: تصور نفسك واقفاً للحساب وللجزاء، تلاقي ربك ليس بينك وبينه ترجمان، ويكلمك ربك بأعمالك، ويُنشَر كتاب بسطت فيه أعمالك لا يترك الكتاب منها شيئاً، كما قال تعالى عن المجرمين: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، ويبدأ الحساب والمحاضرة الربانية، فماذا عملت في دنياك؟ أيها الأخ في الله! يحاسب الله العباد في ساعة واحدة، كما يبعثهم في ساعة واحدة، إنه الله الذي لا إله إلا هو {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. وفي الحساب ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدواوين ثلاثة، فقف معها -يا أخي- وقفة متأمل: ديوان لا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلاً: إنه ديوان الشرك والكفر إذا مات العبد عليه، فلا يكتب له حسنات ولا عمل صالح، ومهما عمل الصالحات في دنياه فإنها تكون هباء منثوراً، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فهل تصورت فظاعة الموت على الشرك بالله؟ هل تصورت فظاعة الموت على الكفر بالله سبحانه وتعالى؟ إنه الوقوف العظيم بين يدي الله تبارك وتعالى حيث لا يقبل الله مع الكفر صرفاً ولا عدلاً، هذا الديوان الأول، فيا أخي في الله في مشارق الأرض ومغاربها! اتق الله وابتعد عن الشرك أكبره وأصغره، اتق الله ولا تشرك بالله شيئاً {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، اتق الله ولا تتعلق بغير الله من ولي أو صاحب قبر أو طاغوت، اتق الله وأخلص التوحيد لربك؛ فإن الأمن يوم القيامة لا يكون إلا للمؤمنين الموحدين. الديوان الثاني: ديوان لا يترك الله منه شيئاً، فلا بد من تدقيق الحساب فيه، وهو حقوق العباد بعضهم على بعض، فيوم القيامة يبنى على المشاحة، لا قريب ولا صديق، ومن ثم فكل إنسان يريد حقه لأنه خائف، ومن ثم فالحقوق بين العباد لا يترك الله منها شيئاً، حق مال، أو حق عرض، أو حق دم، أيما حق عليك لأي أحد من أهل الجنة أو من أهل النار فوالله لتحاسبن عليه في هذا اليوم في ذلك الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، وإنما يقتص العباد بعضهم من بعض. فهل تدبرت تاريخك وحياتك مع عباد الله وتذكرت يوم تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى؟ فيا من تعادي إخوانك المؤمنين وتكيد لهم! ألا تعلم أنهم سيأخذون حقوقهم منك يوم القيامة؟ فتب إلى الله سبحانه وتعالى، فإن هذا ديون عظيم أيها الأخ المسلم. وأما الديوان الثالث: فهو ديوان بعد ذينك الديوانين، فمن نجح في الديوان الأول وهو التوحيد الخالص لله، ثم صفى الديوان الثاني وهو حقوق العباد، فالديوان الثالث هو ما بين العبد وبين ربه، فمن رحمة الله للعبد المؤمن أن هذا الديوان لا يترك الله منه شيئاً، فيغفره جميعه لعبده المؤمن، فأين أنت من ربك الغفور الرحيم؟ أين أنت من حسن الظن بربك سبحانه وتعالى؟ اللهم آمنا في ذلك اليوم واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين.

انحلال العلاقات الدنيوية يوم القيامة

انحلال العلاقات الدنيوية يوم القيامة ومن الأهوال -أيها الأخ في الله- هول عجيب، هول إذا عشنا صورة منه في الدنيا تكاد الأفئدة تتقطع، ألا وهو علاقة القرابة والأحبة، تأمل أحوال الناس في هذه الرابطة الدنيوية، كيف أن الأم تموت حسرة وكمداً خوفاً على وليدها، والأب كذلك، والزوج والزوجة والأخ والأخت، فلاحظ معي -أيها الأخ- في هذه الدنيا كيف أن الإنسان يقدم لمن يعز عليه نفسه فداءً، وهذا موجود والحمد لله. فالأم دائماً دعاؤها أن لا تذوق يوم وفاة ولدها، أن تموت هي قبله فتفديه بنفسها، والأب والزوج والزوجة، لكن إذا جاء يوم القيامة فالهول فظيع جداً أيها الأخ في الله، فالأنساب تتقطع {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، بل والله -أيها الأخ- إن هول ذلك اليوم لأشد من ذلك، ليته اقتصر على تقطع الأنساب في ذلك اليوم، إنه أعظم هولاً وأفظع، إن من صور هول ذلك اليوم أن المجرم يود لو يفتدي من عذاب جهنم بأحبته، فهل تصورت ذلك اليوم الذي يتمنى أن ينجو فيه وأن يقذف بأمه وأبيه وصاحبته في نار جهنم! قال الله تبارك وتعالى: (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعني أنهم في ذلك اليوم يرون الحقائق (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:11 - 16]، ولا يمكن أن يفتدى. ويجوز أن يفتدي الإنسان نفسه بملء الأرض ذهباً، لكن أن يفدي المجرم نفسه بأحبته فهذا والله هول شديد، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس:54]، إذاً لماذا تظلم اليوم من أجل الأرض والمال ومتاع الدنيا الزائل، ألا تتذكر -يا عبد الله- أنك في يوم القيامة لا تتمنى قليلاً من المال لتفتدي به، وإنما تتمنى ما في الأرض جميعاً، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد:18] فالظالمون والكافرون يتمنى أحدهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدي به، لكن أنى له ذلك؟ {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد:18]. أما الكافر فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91]، ثم هأنت تبيع دينك لأجل عرض من الدنيا! روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال: كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك، سألتك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك).

صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وأبأسهم في الجنة

صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وأبأسهم في الجنة وفي أهوال يوم القيامة صور متنوعات عجيبات، سنقف مع مواقف مختصرة منها، ولا أريد أن أقول: صغيرة لأنها -والله- أهوال كبيرة. موقف يجتمع فيه الخلائق، ثم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، وتأمل كيف أن هذا الموقف سيكون أمام العالم كله، أمام الأولين والآخرين، فقبل دخولهم النار يؤتى بأنعم أهل الدنيا، ولك أن تتصور أنعم أهل الدنيا وما الذي اجتمع له من الجاه والسلطان والمال والبساتين إلى آخر النعم التي تتصور، يؤتى به يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدة في ثانية أو أقل من ثانية، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله -يا رب- ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط. نسي نعيم الدنيا. وصورة أخرى مقابلة، يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة ممن اجتمع عليه المرض والفقر والجوع والابتلاء إلخ، ثم يصبغ صبغة في الجنة، فيقال له والناس يسمعون: هل رأيت بؤساً؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت بؤساً وما مر بي بؤس. مشاهد عظيمة من مشاهد يوم القيامة، والناس ينظرون وينتظرون بقية الحساب.

موقف الفرط المحتسب

موقف الفرط المحتسب وهناك مشهد آخر هو مشهد الصبي الذي مات قبل البلوغ، لكن أباه مؤمن وأمه مؤمنة، فاحتسبا أجره عند الله وصبرا: تصور صبياً يوم القيامة يبحث في ذلك الهول الفظيع؛ إنه يبحث عن والديه، فيمسك بهما والله أعلم ما حال والديه، فقد يكونان مقصرين، وقد يكونان مذنبين، لكن الصبي يأخذ بهما ويشفع عند ربه ويقول: يا رب! لا أدخل الجنة إلا مع والدي، فيشفعه الله فيهما، لاحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى والصبر عنده.

موقف الشهيد من الشفاعة

موقف الشهيد من الشفاعة وهناك مشهد آخر، فالشهيد ورد أنه يشفع لسبعين من أهل بيته، فلك أن تتصور كيف حال الشهيد مع أهل بيته في عرصات القيامة، فيختار منهم سبعين يطلب لهم الشفاعة ويشفعه الله فيهم، فهل سيقدم على والديه أحداً؟ هل سيقدم على زوجه وأولاده أحداً؟ الجواب لا. لكن سينتقل أيضاً إلى الآخرين، ولك أن تتأمل حالك -يا عبد الله- وأحد أقربائك من الشهداء وأنت في هول فظيع، وهو صاحب لك في الدنيا يعرفك، أراك ستقبل عليه تريه وجهك لعله يتذكرك فيعدك من السبعين الذين يطلب الشفاعة لهم، فما حال ذلك الذي يسخر من الشهداء في سبيل الله ويقول: فلان مجنون راح للجهاد ومات فيه، أمه مسكينة ذهب ولدها ومات في سبيل الله، لكن أن يموت في حادث سيارة أو يموت مدمناً للمخدرات، فهذا حدث عادي لا يستنكره الناس.

تصنيف وتمييز أهل الجنة والنار

تصنيف وتمييز أهل الجنة والنار ويجتمع العباد ويأتي الهول الفظيع، وسأحكي الحديث لأنه يصور الأمر صورة واضحة تماماً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. ثم يقول الله: أخرج بعث النار. قال -أي آدم-: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال صلى الله عليه وسلم: فذاك حين يشيب الصغير، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الرجل؟ ولكن البشير صلى الله عليه وسلم قال لهم: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. ثم قال: شطر أهل الجنة). مشهد فظيع (أخرج بعث النار يا آدم) وهو أبو البشر، فما حالك يا عبد الله؟ هل تكون من هؤلاء الذين يؤمر بهم إلى النار، أم من أولئك الذين يؤمر بهم إلى جنات النعيم؟

الجزاء والمقر الأخير

الجزاء والمقر الأخير رابعاً: الجنة والنار:

جزاء أهل الشقاوة

جزاء أهل الشقاوة ونبدأ بالنار أعاذنا الله وإياكم منها: والصراط منصوب على متن جهنم يمر عليه الناس جميعاً، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء) متفق عليه. ونار جهنم يلقى فيها من أهل النار الأعداد الكثيرة، والكافر فيها يضخم جسمه حتى يصير ضرسه مثل جبل أحد، كما ثبت في الحديث الصحيح، وما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام، فتصور الكافر بهذا الحجم العظيم، ويلقى فيها الكفار جميعاً، ويتكردس من يتكردس من عصاة الموحدين، والنار تشتد تغيظاً وزفيراً {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، نار قعرها بعيد، الحجر يهوي فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها. وجهنم -أيها الأخ- يؤتى بها يوم القيامة، فهل تصورت جهنم يؤتى بها ونحن في القيامة واقفون بين يدي الله للحساب والجزاء، وهل تصورت كيف يؤتى بها؟ روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)، ألا ما أعظمها من نار! نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا منها. وأبواب الجنة ثمانية، لكن أبواب النار سبعة {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] ويساق الكفار إلى جهنم زمرا، أي: جماعات. أيها الأخ المسلم! وصف النار فظيع جداً، إن الناس في الدنيا يتقون الحر والكرب بالماء والهواء، والحر هو الكرب في الدنيا، ونجد كثرة استخدام الناس الماء والهواء للتبريد والظل بعداً عن الشمس وحرارتها، لكن النار يكون أهلها في عذاب شديد حتى في هذه الأمور الثلاثة، فأهل النار في سموم وفي ظل من يحموم وماؤهم الحميم الذي بلغ الغاية في الغليان {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43]، وهو ظل دخان نار جهنم {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44]، {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:30 - 33]، ومن ثم فهذه النار لا تبقي ولا تذر، بل تدمر كل شيء وتأكل كل شيء، وهذه النار وقودها الناس والحجارة، وهي دائمة لا تنقطع {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. وهي نار تتكلم، فهل تصورت ناراً تتكلم؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج يوم القيامة عنق من النار لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، تقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) صححه الترمذي. وأما الحالة الاجتماعية فالأقارب في نار جهنم، والضعفاء والأسياد حالهم شر حال، وأهل النار يلعن بعضهم بعضاً {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]، ويكون الحوار بين الضعفاء والمستكبرين، ولكنه حوار لا ينفع، إنها الدعاوى التي لا تقبل أبداً. هل تأملت -أيها الأخ- ذلك اليوم وأمامك نار جهنم حين تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى جثا على ركبتيه من الخوف؟ هل تصورت المشهد فعملت لذلك المشهد؟ يا عبد الله! تذكر في جميع أحوالك في هذه الدنيا نار جهنم، وتمثل ذلك اليوم وأنت ذليل خائف وجل لا تدري متى يؤمر بك إلى النار، إن هول ذلك اليوم أقض مضاجع الصالحين العابدين القانتين، فكان الواحد منهم يبكي فإذا قيل له: ألست على كذا وكذا من الخير؟ فيقول: ولكن أخاف في ذلك اليوم أن يقول الله: خذوه إلى النار ولا يبالي تبارك وتعالى. يوم يغضب الله فيه غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإذا كان هذا حال الصالحين فكيف حال المقصرين؟ ألا يخاف العبد أن يأمر الله الملائكة بأن تأخذه إلى نار جهنم ولا يبالي تبارك وتعالى وهو الغني عن العالمين؟ ويشتد الهول في نار جهنم حين يذبح الموت، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جزاء أهل السعادة

جزاء أهل السعادة ويقابل أحوال أهل النار الأحوال الأخرى النيرة المضيئة، أحوال أهل الجنة، يدخل الجنة أهلها زمرا، وتفتح لهم الأبواب قبل ذلك، فما أطيبه من مدخل! {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. هل تصورت دخول أهل الجنة الجنة، هل تخيلت اللحظة التي فيها تخطو أول خطوة إلى الجنة، الإمام المجاهد أحمد رحمه الله قال له ولده: يا أبتي متى تستريح؟ قال: يا بني! عند أول خطوة نخطوها إلى الجنة. تأمل كيف يختصر الإمام أحمد أكدار الدنيا وأحزانها، ويختصر -وهو الخبير بالسنة والكتاب- أهوال القيامة كلها، ويرى أن الأمر لا يستقيم لراحة عبد حتى يخطو أول خطوة ليأمن في ذلك اليوم الذي هو يوم الفزع الأكبر، فيا بشرى المؤمنين إذا دخلوا الجنة في نعيم متنوع فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نعيم يكفي أن موضع السوط فيه خير من الدنيا وما فيها، يكفي أن غطاء رأس المرأة -نصيفها- في الجنة خير من الدنيا وما فيها. ومن مشاهد الجنة العظيمة التي يعظم فيها الفوز المبين، اجتماع الشمل والتئام الأحبة في الجنة، فيا طيبه من مقام إذا اجتمعت فيها الأحبة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، فيا طيب جنة معك فيها الأبوان والزوجة والأولاد والأحبة على سرر متقابلين في جنات النعيم! هل تصورت ذلك اليوم الذي تخطو فيه أول خطواتك في جنات النعيم؟ إنه مشهد تحصل عليه بقليل من العمل؛ لكن بإخلاص للواحد القهار تبارك وتعالى. وفي الجنة يعظم الأنس ويكثر حديث المؤمنين عن أحوالهم فيها، فما أطيبها من أحاسيس! وفي الجنة أيضاً يعظم حال المؤمنين حين يرون أهل النار في نار جهنم، وفي المقابل يشتد الأمر على الكافرين حين يرون أهل الجنة. أيها الأخ المسلم! هذا المشهد من أعظم المشاهد، وتصور أهل الجنة في نعيم، وأهل النار في عذابهم ينظر بعضهم إلى بعض، تصور أنك في الجنة تنظر إلى أهل النار وما فيها من العذاب والنكال، وتصور أنك في النار تنظر إلى أهل الجنة وما فيها من النعيم، أي الحالتين تختار يا عبد الله؟ وأي الحالتين تختارين يا أمة الله؟ ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)) [الأعراف:50]، فأهل الجنة يكلمون أهل النار {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. ويطلع المؤمن على أهل النار فيتذكر صاحباً له من قادة الضلالة كان يسخر منه ومن إيمانه، يبحث عنه {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] أي: في وسط نار جهنم، فيكلمه وهو في الجنة وذاك يسمع وهو في نار جهنم: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] إنهم الأصدقاء والصديقات أيها الأخ في الله وأيتها الأخت في الله! {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]. عجيب -أيها الأخ- حديث أهل الجنة مع أهل النار، اجعل هذا المشهد أمامك دائماً، واقرأ الآيات إذا مررت عليها في كتاب الله تبارك وتعالى بتدبر ويقظة. ويتم النعيم بزوال الخوف والأحزان والأكدار حين يؤتى بالموت ويذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثبت ذلك في حديث صحيح عند الشيخين. أما تمام النعيم وأعظمه فهو يوم المزيد، قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:34 - 35]، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فسرها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأن الزيادة رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى في الجنة. فيا له من يوم ما أعظمه! وما أشد سرور المؤمنين حين ينظرون إلى ربهم عياناً كما نرى الشمس اليوم ليس دونها سحاب، وكما نرى القمر ليلة البدر! يرون ربهم فيصيبهم من النور والضياء، ويجدون من اللذة ما يصغر معه نعيم الجنة على ما فيها من أنواع النعيم، ويرجعون إلى بيوتهم قد ازدادوا نوراً وضياءً، فهل اشتقت -يا عبد الله- إلى رؤية الله تبارك وتعالى (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه). وتختم الأهوال أهوال أهل النار وفظاعتها، وتختم الأحوال أحوال أهل الجنة وطيبها بذلك الأمر المفظع، وهو الخلود أبد الآباد، فأهل الجنة يخاطبهم ربهم تبارك وتعالى فيقول: (ماذا تريدون؟ فيقولون: وماذا نريد يا ربنا، ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة؟ فيقول الله تبارك وتعالى: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) ولهذا تكون خاتمة قول أهل الجنة إذا دخلوا الجنة {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]. أما أهل النار فيا شدة ذلك اليوم حين يقال لهم: خلود فلا موت. أيها الأخ في الله! هل من طالب وراغب إلى الجنة؟ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أدنى أهل الجنة منزلة، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة أن الله يعطيه من نعيم الجنة مثل الدنيا من أولها إلى آخرها عشر مرات، إذاً فما حال المؤمنين الصادقين والمقربين والشهداء؟

دعوة إلى العمل

دعوة إلى العمل أيها الأخ في الله! هذه الأحوال والأهوال التي عرضنا لمشاهد منها نريد منها عبرة واحدة، ألا وهي تجديد المسار وصدق التوبة، والبدء بحياة جديدة تهاجر فيها إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الله بالتوحيد والإخلاص والمحبة والطاعة والامتثال، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاتباع بعيداً عن الابتداع. فهل نبدأ المسيرة فينطلق الأب والأم والزوج والزوجة والأخ والأخت؟ هل نأخذ من هذا عبرة لنجدد ونحدد المسار؟ اللهم آمنا من أهوال تلك الأيام، اللهم آمن روعنا يوم الفزع الأكبر، اللهم آمن روعنا يوم الفزع الأكبر، اللهم آمنا في ذلك اليوم ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وإخواننا وجميع المسلمين. اللهم إنا نسألك أن تغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، اللهم اغفر لهم ولمن دعوا له، اللهم كما جمعتنا في الدنيا نسألك أن تجمعنا في الجنة على سرر متقابلين، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تعزه، وأن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أجب دعاءنا، اللهم لا تردنا خائبين يا رب العالمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجواب ما تراه لا ما تسمعه

الجواب ما تراه لا ما تسمعه تواجه الأمة الإسلامية محناً كثيرة على كافة المستويات، ففي بقاع كثيرة سلبت أرضها، وقتل رجالها، ويتم أطفالها، وانتهكت أعراضها، ومن جهة أخرى هناك تسلط فكري من قبل الأعداء على هذه الأمة، وما نرى من فتن ومغريات ما هو إلا صورة من صور هذا الغزو الفكري الماكر وأمام هذا كله ليس هناك حل أنجع من الحل العملي والجواب الفعلي، فلن تنفع الكلمات ولا المقالات إلا إذا تبعها العمل بشتى صوره وأساليبه.

الحرب الموجهة على الإسلام والمسلمين

الحرب الموجهة على الإسلام والمسلمين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فهذا الدرس هو بعنوان: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه)، وهذا العنوان له قصة، ولكن قبل أن أسوقها أقول: إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يجد أمرين: أحدهما: أن الإسلام الذي أكرمنا الله تبارك وتعالى به وأنعم به علينا أعظم نعمة هو دين الله الحق الباقي الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه بعد بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ترتفع رايته اليوم في مشارق الأرض ومغاربها على رغم أنف أعداء الدين كلهم. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا وبشرنا بأن هذا الدين سيبقى إلى آخر الزمان، وسينتشر في الأرض حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلا يبقى بيت وبر -شعر- ولا مدر -طين- إلا دخله هذا الدين العظيم بعز عزيز أو بذل ذليل. وهذه حقيقة كبرى نلمسها ونعلمها ونوقن بها، ونحمد الله تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، نحمده -وهو للحمد أهل- ونشكره تبارك وتعالى على أن مَنَّ علينا بنعمة الإسلام فأصبحنا مسلمين، لسنا يهوداً ولا نصارى ولا وثنيين، بل حنفاء مسلمون لله تبارك وتعالى، وتلك نعمة لا يمكن لأحد أن يعرف قدرها وعظمتها. أما الأمر الثاني فهو أنه في مقابل ذلك -أعني في مقابل ما عرفناه من أن دين الله الإسلام هو الدين الحق- أننا نرى حرباً موجهة إلينا نحن -المسلمين- وموجهة إلى ديننا العظيم بشتى أنواع الوسائل، فقد استخدم فيها أعداء الله وأذنابهم كل ما يملكون من قوى ووسائل إعلامية وغير إعلامية لحرب المسلمين وصدهم عن دين الله تبارك وتعالى، وهذا أمر لا أظن أحداً منا يشك فيه. فهي حرب عقدية بمختلف وسائل الإعلام، وأخص منها تلك الوسائل التي تأتي من فوق من خلال الذبذبات والأطباق لتدخل قعر بيوت المسلمين المؤمنين لتشككهم في دينهم وعقيدتهم. وهي أيضاً حرب أخلاقية مركزة على شباب المسلمين وعلى المرأة المسلمة وعلى الأسرة المسلمة وعلى الطفل المسلم، حرب تريد أن تغير في نفوسنا معالم ما أكرمنا الله به من الإيمان والغيرة على دين الله والغيرة على محارم الله تبارك وتعالى، حرب تريد أن تنزع من نفوسنا وقلوبنا هذه الغيرة، فنرى المنكر وربما يقع فيه بعضنا ولا تتحرك فيه هذه الغيرة؛ لأن تلك الوسائل صارت تدق كل ليلة على وتر الفساد الأخلاقي والعري والرقص والغناء ومختلف وسائل الإفساد، ليخرج في النهاية شباب أو مجتمع نزعت منه الغيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يغار)، وهو أيضاً صلى الله عليه وسلم يغار، والمؤمن أيضاً يغار على محارم الله حين تنتهك. وهي أيضاً فوق كونها عقدية وأخلاقية هي حرب فكرية متنوعة موجهة إلى مختلف أصناف المجتمع، يريدون منا أن نتخلى عن ديننا وننحرف عنه ولو شيئاً فشيئاً، وأعداء الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يكلوا ولا أن يتركوا ما هم فيه من كيد لدين الله تبارك وتعالى؛ لأن الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية، بل ربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [الأنعام:112]، فالنبي الموحى إليه من عند الله جعل الله له عدواً؛ لأن الصراع بين الحق والباطل لا بد منه، ومن هنا فنحن لا ننتظر ولن ننتظر من أعدائنا في الشرق والغرب ومن أذنابهم من العلمانيين والحداثيين وغيرهم، لن ننتظر منهم إلا أن يسلكوا هذا المسلك الذي سلكوه، وهو أن يستغلوا ما أوتوا من قوى وقدر لحرب الإسلام وصرف المسلمين عن دينهم، ونحن لا ننتظر غير ذلك. لكن يبقى السؤال الكبير: كيف نقف أمام هذه الحرب المتنوعة مع علمنا بالحقيقة الأولى، وهي أن دين الإسلام حق وباق ومنصور ومن تمسك به فهو الغالب؟ كيف نواجه هذه الحرب المتنوعة؟

مواجهة الحرب على الإسلام

مواجهة الحرب على الإسلام

الجواب العملي على أعداء الإسلام

الجواب العملي على أعداء الإسلام الأمر الثاني: ينبغي أن يكون جوابناً عملياً لا نظرياً. وقد عنونت للموضوع بعنوان: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه)؛ لأن هذا هو الذي عرفناه من تاريخ الإسلام، وهذه العبارة قالها أحد خلفاء بني العباس، وهو هارون الرشيد. وقد شوه المستشرقون والمبشرون وأذنابهم كـ جورجي زيدان وغيره تاريخ هذا الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً. هذا الخليفة أرسل إليه أحد ملوك الروم -واسمه نقفور - أرسل إليه خطاباً يتوعده فيه، ويقول له: إنك فعلت وفعلت، وكان قبلي من هو ضعيف، أما وقد أتيت فسأفعل وأفعل وأفعل. يهدد المسلمين ويهدد الخليفة العباسي هارون الرشيد ويتوعده. فماذا فعل هارون الرشيد؟ هل قابل هذا الهجوم بما نسمعه اليوم من صراخ وهجوم إعلامي كما نسمعه في قضية فلسطين؟ اليهود يخططون ويفعلون، ونحن إذا تكلمنا تكلمنا بصراخ ليس وراءه شيء. أخذ هارون الرشيد الخطاب، ومن باب الاستهتار بصاحبه كتب على ظهره -لأنه لو كان مكرماً لحفظ الخطاب عنده وكتب له خطاباً جديداً- كتب على ظهره عبارة مختصرة يقول له فيها: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه. وكان الجواب تطبيقاً عملياً لهذه الرسالة؛ بأن سير في يومه ذاك جيشاً لجباً انطلق من موطن الخلافة العباسية إلى بلاد الروم، فأدب نقفور ومن وراءه. إذاً جواب هارون الرشيد هو الجواب العملي. وأمام هذه الحرب الموجهة إلينا نحن -المسلمين- والمركزة في كثير من فنونها علينا نحن -الشباب- وعلى المرأة المسلمة نقول: ما الذي ينبغي أن يكون عليه جوابنا؟ إن الذي يجب أن يكون عليه جواب الشباب المسلم -بل وكل المسلمين- هو الجواب العملي، أن يقول المسلم فيه بلسان الحال لا بلسان المقال: يا أعداء الله! أنتم تحاربونني بكل الوسائل، فجوابي جواب عملي سأزداد فيه التزاماً، جوابي جواب عملي سأزداد فيه ثقة بديني وعقيدتي، جوابي فيه جواب عملي سأحرص على الصلاة ولن أتخلف عنها أبداً، جوابي فيه جواب عملي أتعلم فيه أمور ديني لأنه أعظم دين، جوابي فيه جواب عملي ألتقي فيه بإخواني من الشباب الطيب لنتآخى ونتآزر على الاستقامة والسير على المنهج الصحيح، جوابي جواب عملي أبتعد فيه عما حرم الله علي، تحاربونني بهذه الوسائل والأطباق! جوابي أنني أقاطعها عملياً، لا أكتفي فيها بالقيل والقال، وإن كنت أقول وأتكلم وأعظ الناس وأبين لهم، لكن واقع حالي هو أن جوابي هو الجواب العملي، أقاطع هذه الوسائل، أقاطع هذه الحرب الشعواء لألتف على نفسي وديني وعقيدتي وصلاتي وأخلاقي وإخواني المسلمين من الشباب الطيب. فليكن الجواب جواباً عملياً، ليقل الواحد منا وهو يرى هذه الحرب الشعواء المتنوعة علينا نحن -المسلمين- ليقل فيها: جوابي لكم هو ما ترونه لا ما تسمعونه، انظروا إلى تجدوني شاباً ملتزماً، انظروا إلي تجدوني في المساجد أحافظ على الصلاة، انظروا إلي تجدوني معرضاً عن تلك المجتمعات والأسواق التي تعج بالمفسدين، انظروا إلي أحارب هذه الأطباق وهذه الوسائل الإعلامية المفسدة، جوابي عملي بأنني واثق بديني، واثق بربي، واثق بمنهاجي، أرجو فيه ثواب الله، أرجو بذلك السعادة والطمأنينة في الدنيا والفوز بجنات عرضها السماوات والأرض عند رب العالمين، وليس بيني وبين ذلك إلا أن تنتهي هذه الدنيا الدنية القصيرة لأرجع إلى ربي سبحانه وتعالى وما أعد لعباده المؤمنين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أرأيت كيف ينبغي أن يكون جوابنا نحن -المسلمين وأخص منهم الشباب- جواباً عملياً، يقول فيه لكل داعية إلى الفساد: الجواب ما تراه لا ما تسمعه، لن أقول كلاماً كثيراً، وإنما سأعمل كثيراً، سترى من حالي وشكلي، سترى من عباداتي وأعمالي، سترى من تصرفاتي وأخلاقي ما يدل على جوابي العملي. ليكن الشاب المسلم وهو يسير في هذه الحياة شاباً يجيب أعداء الله وهم في أقصى مشرق الدنيا ومغربها، ويقول لهم: حاربوني بكل ما شئتم، حاربوني بكل الوسائل التي أعطيتم إياها، فوالله لن تجدوا مني إلا جواباً واحداً حقاً، هو أنني كلما حاربتموني ازددت تمسكاً وثباتا ًعلى ديني. وهذا الجواب نفسه ينبغي أن تقوله المرأة المسلمة، حين يوجه الهجوم على حجابها وعلى عفافها، وتتنوع الوسائل التي تريد أن تنزع المرأة من عفتها وحشمتها وبيتها، لتخرج مقلدةً أهل الشرق والغرب من الكفار، ليكن جواب المرأة المسلمة وهي أم وزوجة وأخت هو: يا أيها المحاربون للمرأة المسلمة! يا أيها المدعون لتحريرها وهم كاذبون! يا أيها المنوعون لوسائل حربهم! الجواب ما ترونه لا ما تسمعونه، حاربوني في كل وسائل الإعلام، سيكون جوابي عملياً، زيادة في حجابي، زيادة في استقراري ببيتي، زيادة في توكلي على ربي وعبادتي لربي، زيادة في دعوتي إلى الله لأخوات مسلمات أدعوهن للتمسك بدين الله تبارك وتعالى، زيادة في بعدي عن كل بهرج وكل وسيلة تريد أن تفسدني، زيادة في كل عمل صالح يقربني إلى ربي تبارك وتعالى. وليكن عنوان جوابها هو: (الجواب ما ترونه لا ما تسمعونه).

لا يشترط في مواجهة أعدائنا أن نكون على مثل قوتهم

لا يشترط في مواجهة أعدائنا أن نكون على مثل قوتهم إن مواجهة هذه الحرب المتنوعة تحتاج منا إلى أمور، وحتى لا يتشعب بنا الكلام فأحب أن نركز على أمرين: أما الأول منهما فهو أن نعلم أنه ليس من شرط انتصارنا على أعدائنا وعلى حربهم الفكرية والعقدية وغيرها ليس من شرط ذلك أن نكون مثلهم في القوة، فلا ينبغي لقائل من المسلمين أو الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يقول: إننا لن ننتصر على أعداء الله في الشرق والغرب حتى نكون مخترعين للأطباق والصواريخ والكمبيوتر وغيرها، لنكون مثل العدو، حتى نحاربهم بمثل ما هم يفعلون. نحن لا ننتظر هذا، ولم نكلف بهذا، وهذا من رحمة الله بنا. أتدري ما الذي كلفنا به؟! لم نكلف بأن نكون مثل عدونا في القوة، يقول تبارك وتعالى للمؤمنين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]. فالمطلوب من المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا، ولو كانت مقدرتهم العَددية والعُديَّة محدودة، فالواجب عليهم مع الإيمان والإخلاص أن يعدوا ويأخذوا بالأسباب المادية بما استطاعوا فقط، ونحن نعلم أنه في تاريخ المسلمين منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما رأينا مواجهة بين المسلمين وأعدائهم كان المسلمون فيها مثل عدوهم أو أكثر، بل كل معاركهم -تقريباً- كان المشركون فيها أكثر من المسلمين أضعافاً مضاعفة، وكانت نتائج ذلك كله -تقريباً- أن الله ينصر عباده المؤمنين. إذاً ونحن نشاهد هذه الوسائل ينبغي أن لا نيأس، ينبغي أن لا يصيبنا رعب من هذه الوسائل لنعلن أن العدو مسيطر، ولم يبق لنا إلا أن نستسلم له. نقول: لا وألف لا! نحن مسلمون أكرمنا الله بالإسلام، فإذا توكلنا عليه واعتصمنا به وأخذنا بالأسباب ولو كانت قليلة؛ فإن الله تبارك وتعالى ناصرنا وراد عنا كيد الكائدين، والله تبارك وتعالى يقول -ومن أصدق منه قيلاً وحديثاً-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، ويقول سبحانه وتعال موجبا ًعلى نفسه شيئاً لا يجب عليه لكنه أوجبه على نفسه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. فنحن إذا تمسكنا بديننا وأخذنا بما استطعنا من وسائل في الدعوة إلى الله، في رد كيد الكائدين، وفي تبصير الناس بدينهم، وفي مقاومة هذا الغزو الفكري والأخلاقي، وفي مقاومة العدو بمختلف الوسائل، متى ما أخذنا نحن -المسلمين- بهذه الوسائل مع اعتمادنا وإخلاصنا وتوكلنا على ربنا سبحانه وتعالى فلنعلم أن سنة أن الله ينصر عباده المؤمنين ولو كانوا أقل عدداً وعدة.

حاجتنا إلى الجواب العملي

حاجتنا إلى الجواب العملي نحن بحاجة ماسة إلى هذا الجواب العملي، فهذا الجواب العملي هو الذي يضفي على القلب وعلى الجسم نور الإيمان ونور العمل الصالح والتقوى والاستقامة ونور البصيرة وانشراح الصدر. فإن كل من سلك مسلكاً من مسالك الباطل فلا بد أن تغيم عليه وتخيم على قلبه قسوة القلب وظلمته ووحشته، وهذا لا شك فيه أبداً؛ لأن المعاصي لها ظلمة على القلب، حتى لو رأيت صاحبها يضحك ويقهقه وكأنه مسرور، فلا والله، إنه يضحك ويريد أن يضحك لشدة ما يجده في داخل قلبه من ظلمة ووحشة. وفي مقابل ذلك تجد الشاب المؤمن وهو يجاهد نفسه ويجاهد شهواته ويجتهد في طاعة ربه قوي الإيمان منشرح الصدر؛ لأن الله تبارك وتعال قد وعد من التجأ إليه وتوكل عليه وعمل بطاعته أنه لا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة. وتصور وعداً ربانياً لإنسان لا يشقى في الدنيا والآخرة. من هو؟ إنه الشاب الملتزم، إنه الرجل الملتزم. وإذا تركت ليلة دعاك إليها صديق السوء لتسمر وذهبت إلى الطيبين، أو نمت على خير وصليت صلاة الفجر فاعلم -أيها الشاب المسلم- أنك -والله- قد نلت فوزاً عظيماً، وأن رحلة أولئك إلى موطن الفساد لن يزيدهم إلا فساداً ووحشة وضلالاً وانحرافاً وتعقيداً في حياتهم. وهذه سنة الله تبارك وتعالى، أن من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]-يعني في الدنيا- {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. السعادة هي أن نكون مؤمنين وأن نكون شجعاناً في الثبات على الحق. ولتكن هذه الكلمة عنواناً لحياة الشاب المسلم، بأن يقول: يا أعداء الله! يا من تحاربوننا بكل الوسائل! الجواب هو ما ترونه لا ما تسمعونه ستجدون مني التزاماً وطاعة؛ لأن هذا هو الذي يريحني، وهو الذي يسعدني، وهو الذي يرضيني، وهو الذي يرضي ربي في الدنيا والآخرة، ونعمت التجارة الرابحة بين العبد وبين ربه.

نماذج يتبين بها بعد ما بين ظلمة العصيان ونور الإيمان

نماذج يتبين بها بعد ما بين ظلمة العصيان ونور الإيمان

المغني الصومالي الذي تاب إلى الله

المغني الصومالي الذي تاب إلى الله أما المثال الآخر فهو لشخص معاصر لنا يعيش الآن في مدينة الرياض، وهو من بلد الصومال، كان هذا الرجل مطرباً مغنياً في بلد الصومال، وبلغ في الطرب والغناء شأواً بعيداً، حتى إنه كان يقيم حفلات لرئيس الصومال السابق زياد بري وأولاده ووزرائه، وصار مطرباً مشهوراً على مستوى الصومال من أوله إلى آخره، وكان يقيم الاحتفالات بأغلى الأثمان، فأصبح من الشباب الذين اجتمع لهم الجاه والشهرة والمال والعلاقات مع كبار القوم، واستمر على ذلك ردحاً من الزمان، لكن هل وجد في هذه الأشياء الراحة والسعادة؟ كان بداية أمره أن تزوج، وكان نساء الصومال من أولهن إلى آخرهن يتمنين هذا الشاب للصوت الجميل، والمطرب المؤثر على مستوى الدولة تتمنى كل واحدة أن يكون زوجها، لكنه تزوج من إحدى قريباته، يقول: فلما تزوجت كنت أظن أن هذه الفتاة التي تزوجت بها ستكون أسعد الناس. يقول: وتم الزواج، ثم بعد ذلك كنت أذهب لأحيي بعض الحفلات، ثم بعد أن أكون نلت الشهرة والمال والتصفيق أرجع إلى عروسي وإلى بيتي لأنعم معها بذلك الرضا وتلك الشهرة، يقول: فكنت إذا أقبلت عليها أنتظر منها أن تستقبلني بما أنا أهله وبفرح؛ لأنني أوقن أن كل فتاة تتمنى أن يكون هذا الشاب زوجاً لها، نعم هي تستقبلني استقبالاً طيباً، ولكنني لا أجد فيها الفرح الذي أظن أنني أعطيتها إياه بهذه الشهرة والمكانة والمال ونحو ذلك، يقول: وشيئاً فشيئاً إذا بي أحس أنها غير مرتاحة، وليست غير مرتاحة لسبب سوى سبب واحد، وهي أنها غير مرتاحة لهذا الأمر، فلم تزل به شيئاً فشيئاً حتى تاب إلى الله تبارك وتعالى، وترك الشهرة والمال والجاه والطرب. فقد يكون الواحد منا ليس عنده جاه ولا عنده مال، فيقول: من أنا؟! سيان التزمت أو لم ألتزم! نقول: أنت الرابح على كل حال. ولكن قد يوجد نموذج مثل هذا، اجتمعت له القمة التي يسعى إليها بعض الناس فيبيع لأجلها دينه ليرقى إلى الشهرة، أو يرقى إلى المال، أو يرقى إلى الجاه، ولكن هذا النموذج يبيع هذه كلها في سبيل الله تبارك وتعالى. إذاً هو نموذج يقصر عليك الطريق يا أيها الشاب، يا من لك طموحات، قد تنظر إلى لاعب بلغت شهرته الآفاق، أو مغن يحضر حفله الألوف، أو رجل مشهور تتحدث عنه الصحف ووسائل الإعلام، فتقول: ما أحسن هذه الشهرة! نقول لك: يا أيها الشاب المتبصر! تمعن في الأمر، هل هذا الذي اشتهر به يقربه إلى الله؟ هذا هو المقياس الحقيقي، فاختصر الطريق، وخذ العبر والدروس من هذه الحياة، وانظر إلى غيرك، واعرف ما هي الأشياء التي تجلب السعادة الحقيقية، وما هي الأشياء التي تجلب الشقاء وغضب الجبار جل جلاله، ولتكن صاحب عين وبصيرة. هذا الشاب تاب إلى الله وترك الجهل، حاولوا معه حتى قبل أن يجري على الصومال ما جرى، ولكنه ترك ذلك، ثم قدم إلى هذه البلاد المباركة ليعيش فيها عيشة هنية، وهو في الرياض اليوم، ومعه خمسة أولاد أربع بنات وابن واحد، ويسكن في بيت صغير. والرجل فقير كما أعلم من حاله، لكنه يقول لي بالحرف الواحد: والله إني -والحمد لله- في سعادة ليس فيها أحد، اثنان من أولادي حفظا القرآن الكريم كاملاً، وثلاثة منهم الآن في طريقهم إلى حفظه. ومع ذلك فإن عليه ضغوطاً نفسيةً، يقول: أحياناً يأتيني الشيطان فيذكرني بما كان لي من جاه. الشيطان حريص على كل إنسان، وخاصة مثل هذا؛ لأن الشيطان يجد لديه تاريخاً يحييه، فالشيطان يحاول أن يحيي لأصحاب المعاصي تاريخهم، فهو يوسوس للشاب الذي تاب إلى الله، ويقول له: تذكر السهرة الفلانية، تذكر كذا، تذكر كذا. فلابد أن يتغلب الشاب على هذه الوسوسة ويصرفها بسرعة ويتقي الله سبحانه وتعالى ويعود إلى ربه ويبادر إلى العمل الصالح، لا أن ينساق مع الوسوسة من شياطين الإنس وشياطين الجن. يقول لي هذا الرجل: فأحياناً تأتيني الوسوسة تذكرني بالمال وأنني الآن فقير، تذكرني بالجاه حين كان رئيس الجمهورية وأولاده يتصلون بي. مَنْ مِنَ الناس يتصل به؟ رئيس الجمهورية وأولاده والوزراء وغيرهم! يقول: فكلما كثرت الوساوس أذهب لأقرأ قصة مصعب بن عمير. ونحن نعرف قصة مصعب بن عمير، ذلك الشاب الذي كان أنعم شباب مكة، فلما أسلم حرمته أمه وأهله المال، فصار فقيراً جداً، وكان أول داعية إلى الله في المدينة النبوية، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه، فلما استشهد لم يجدوا له كفناً إلا بردة قصيرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد وقف أمامه: (لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة)، ثم أمر به أن يقبر، وأمر بأن يغطى بها رأسه وأن يوضع على رجليه من الإذخر. يقول هذا الرجل -أسأل الله أن يثبتني وإياكم وإياه-: إذا جاءتني الوساوس ذهبت إلى قصة مصعب بن عمير فتذهب عني الوساوس. مصعب بن عمير ترك الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن بقي له أنه صحابي جليل، أنه الداعية الأول إلى المدينة، أنه الشهيد في سبيل الله الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن انظر إلى أهل الفساد في الأرض بعد أن انتهت الشهرة وانتهى المال وغيره، ماذا بقي لهم؟ لم يبق لهم إلا التاريخ الأسود والذنوب والأوزار؛ لأنه إذا عمل ذنباً انتشر هذا الذنب، فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة؛ فإن المطرب أو المغني يأتي بكلمات مبتذلة فيها دعوة إلى الفحش والتفحش، ثم بعد ذلك تحفظ هذه الأغنية، فكل من تأثر به وضل فعليه وزره إلى يوم القيامة. إذاً ينبغي أن يكون جوابناً ونحن نواجه هذه التحديات المتنوعة -وعلى رأسها التحديات الفكرية والعقدية والأخلاقية الموجهة إلينا نحن الشباب- ينبغي أن يكون جوابنا هو أن نقول لهم: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه)، وقد عرفت تفاصيل هذه الكلمة وأنها الجواب العملي الذي يجيب به الملتزم.

أبو سفيان بن الحارث

أبو سفيان بن الحارث دعني أضرب لك مثلين فيما يتعلق بظلمة البعد عن الله ونور الإيمان، أحدهما قديم، والآخر حديث صاحبه معاصر وموجود في مدينتنا، أما المثال القديم فهو في زمن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما بدأ دعوته استجاب له القلة وحاربه الكثرة، وكان ممن حاربه بعض أقاربه، وعلى رأسهم الهالك الممقوت الموصوف بالقرآن أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. وكان أيضاً ممن حارب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قرابته ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وهو غير أبي سفيان بن حرب والد معاوية بن أبي سفيان، بل هو شخص آخر اسمه أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الرجل أبو سفيان بن الحارث كان رجلاً له مكانة في قومه شريفاً نسيباً، وكان شاعراً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عاداه، وصار يقول الشعر في عداوة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وامتدت عداوته طول العهد المكي، حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد غزوة بدر وأحد والخندق، واستمر على ذلك حتى جاء صلح الحديبية، ثم نقضت قريش الصلح في قصة معروفة، فجاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى مكة فاتحاً، فكان مما أعلنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مقبل على مكة أن فلاناً وفلاناً لا عهد لهم، اقتلوا فلاناً ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة؛ لأنه رجل حرب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يقبل منه شرط ولا عهد، فقال في حق بعضهم: (إذا وجدتموه فاقتلوه ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة)، فكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دمه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على مكة ضاقت بـ أبي سفيان هذا الدنيا من أولها إلى آخرها، فماذا يصنع؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقبل على مكة بجيش عرمرم، وقريش مستسلمة ترى أنها لا تستطيع لذلك مقاومة، فماذا يصنع؟ أظلمت عليه الدنيا، وصار ما كان يفعله في السابق من تبجح ومفخرة في قريش وقيادة لحرب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن معه من المسلمين صارت هذه أحلاماً مزعجة؛ لأنه ينتظر العقوبة، فقيل له: يا أبا سفيان لو أنك أتيت إلى محمد بن عبد الله؛ فإنه رجل يقبل من أتاه تائباً! ففكر في الأمر هل يهرب؟ هل يذهب يميناً أو شمالاً؟ فلم يجد له مجالاً إلا أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن كيف يأتيه والرسول قد أهدر دمه؟ كل من يراه من المسلمين سيقتله. فلما قرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة ذهب وأخذ معه ولداً له صغيراً عمره قرابة سبع سنوات، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرق له إذا رأى الطفل الصغير، فأخذ معه ولده الصغير، وذهب ليلقى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان مخفياً نفسه حتى لا يرى، فأتى إلى العباس، فأخذه العباس حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مع أصحابه، فقيل له: يا رسول الله! هذا ابن عمك أبو سفيان فاقبله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من شدة الغضب. ويا له من موقف! ووالله إن موقف العاصي حين يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لهو أشد ذلاً من هذا الموقف. ذلك الذي سرح ومرح في معاصي الله يضحك ويلهو لا بد له من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43]، كل واحد منهم قد رفع بصره إلى السماء في موقف الحساب لا يدري ماذا يؤمر به، حتى إن كثيراً من أهل المحشر -بل كل أهل المحشر- يصابون بالفزع الشديد حين تزفر جهنم، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً. أقول: انظر إلى ذل أبي سفيان بن الحارث وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم! فلما أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أظلمت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، وقال: والله لئن لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأخرجن أنا وولدي هذا إلى البرية حتى نهلك ونموت عطشاً. ضاقت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي وصفه الله بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ففيه رحمة من رحمة ربه سبحانه وتعالى. رحمه لما قال هذا الكلام وقبله، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وصار من كبار المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم في سائر المعارك كلها، ومنها معركة حنين، فرضي الله عنه وأرضاه. ولأنه شاعر فقد سطر تجربته في أبيات من الشعر كان ينشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتأمل قوله رضي الله عنه وأرضاه وهو يحكي تاريخه الجاهل وما أكرمه الله به من الإيمان ونور الإسلام، يقول أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه: لعمرك إني يوم أحمل رايةً لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي تصور إنساناً مدلجاً مسافراً في الليل لا أحد حوله ولا عن يمينه ولا عن شماله ثم أظلم عليه الليل! يقول: لكالمدلج الحيران أظلم ليلة فهذا أواني حين أهدى فأهتدي أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد من هو الذي طرده كل مطرد؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي طرده كل مطرد هو الذي هداه الله بسببه، تقول بعض الروايات: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا سمع البيت الأخير الذي يقول فيه: أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد يضرب على كتف أبي سفيان بن الحارث ويقول له: (أنت الذي طردتني كل مطرد) يعني: قد أبدلك الله تبارك وتعالى بذلك هداية وإسلاماً. هذه صورة لإنسان ظن أنه في يوم من الأيام في القمة، وإذا به يجد الظلمة وليس له نور إلا نور الإسلام والاستقامة على منهاج الله تبارك وتعالى، ومن ثم شارك بعد ذلك في الجهاد حتى مات في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه. فهذا مثال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من ألزم نفسه بأداء ركعتين يوميا بنية التوبة

حكم من ألزم نفسه بأداء ركعتين يومياً بنية التوبة Q رجل كلف نفسه ركعتين يومياً بنية التوبة من الذنوب، فما الحكم؟ A إن كان عزم في قلبه فنقول: استمر على العمل الصالح، وإن كان نذراً فأوف بنذرك ما استطعت.

حكم اشتمال المحاضرة الدعوية على الطرائف والأشعار

حكم اشتمال المحاضرة الدعوية على الطرائف والأشعار Q يوجد بعض ممن ينتسبون للدعوة ينتهجون نهجاً غريباً، وهو إدخال القصائد والطرائف والمزاح والحكايات بدل الأحاديث والآيات والآثار؟ A هذا الكلام فيه تفصيل، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يمزح، وكان لا يقول إلا حقاً، وكذلك أيضاً الطرائف منها ما هو مفيد أحياناً، ومنها ما هو مسلٍّ بشرط أن لا يكون فيه ضرر، إنما الممنوع أن يتحول المجلس إلى نكت وطرائف، أما أن يتخلل الحديث أو الكلام أو البرنامج شيء من هذا مما فيه حق وليس فيه باطل فأقول: لا بأس بذلك إذا لم يكثر.

علاج قسوة القلب

علاج قسوة القلب Q ما هو علاج قسوة القلب؟ A كلنا نشكو من قسوة القلب، أسأل الله أن يلين قلوبنا بالإيمان والقرآن، والعلاج يحتاج إلى مجاهدة وصبر ومصابرة؛ فالدنيا سجن المؤمن كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلابد من المجاهدة، لذلك لا تنتظر من واحد أن يعطيك كلمتين ثم إذا بقلبك يصبح قلباً منشرحاً مباشرة، لا، وقد يكون في الموعظة ما يشرح قلبك، لكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة: فالشيطان الرجيم حريص على إغوائك والوسوسة لك بشتى أنواع الوساوس، نفسك الأمارة بالسوء بكل قواها وشهواتها، وشياطين الإنس من الأصدقاء والزملاء والجيران وغيرهم. فأنت -والله- كأنك في معركة، فلذلك عليك بالمجاهدة، وهذه المجاهدة هي التي بها تزول قسوة القلب. وأعظم ما يعينك على راحة النفس وطمأنينة القلب والبعد عن قسوته عشرة أمور ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين، وعلى رأسها الإيمان والتوحيد والعقيدة الصحيحة والمحافظة على الصلاة ومجالسة الصالحين، فلا بد من أن تبحث لنفسك عن هذه الوسائل التي ترقق قلبك وتقوي إيمانك، مع البعد تماماً عن كل ما يقسي القلب. فالذي أقوله: اصبر وصابر وأبشر يا أيها الشاب، ولا تحزن إذا رأيت الشباب المنفلت يمينا ًوشمالاً، فلا يغرنك ضحكهم وانخلاعهم، اصبر وصابر على طاعة الله وعبادة الله، أنت -والله- القوي، وأنت المنتصر، وأنت العزيز، وأنت الرابح، وهؤلاء الذين سلكوا تلك المسالك إن لم يتوبوا إلى الله فهم -والله- خاسرون، لذلك ينبغي لك أن تكون عندك عزيمة قوية وصبر ومصابرة على طاعة الله، واحرص كل الحرص على الأخوة الصادقة وعلى الإخوة الملتزمين؛ فإنهم يعينونك، وأصحاب الرسول -ومن هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في علمهم وإيمانهم وجهادهم- كانوا يشعرون بهذه الحاجة، كان الواحد منهم يلتقي بأخيه ويمسك به ويقول: تعال -يا أخي- اجلس بنا نؤمن ساعة. مع أن هذا الصحابي لا يعرف لهواً ولا عبثاً، لا يعرف إلا الإيمان والقرآن والصلاة والجهاد، ومع ذلك يشعر بالحاجة إلى أخيه، ويقول: اجلس بنا نؤمن ساعة. فكيف بنا نحن في هذا الزمان حيث كثرت الفتن وتنوعت؟! نحن أحوج ما نكون إلى الجلساء الطيبين الذين يعينوننا على طاعة الله، نعينهم ويعينوننا، واعلم -يا أيها الشاب- أنك إذا جلست مع أخيك وإخوانك الطيبين أنك تعينهم وهم يعينونك، فأنت بحاجة إليهم وهم أيضاً بحاجة إليك، فتكون مأجوراً على تلك المجالس والأخوة الطيبة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دفع الله عن عباده المؤمنين

دفع الله عن عباده المؤمنين Q ذكر ابن القيم في الجواب الكافي ما نصه: وتولى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه، وقال: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] ما المقصود بالنفس؟ A ابن القيم يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى يدافع عن العبد المؤمن بنفسه هو سبحانه وتعالى، فالله هو الذي يدافع، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، لكن دفاع الله عن المؤمنين إنما يكون بما يهيئه الله سبحانه وتعالى من الأسباب، وأولها قوة القلب وطمأنينته وبغضه للمعاصي، وهذا من أعظم الدفاع، فإذا وفقك الله تبارك وتعالى لأن يكون قلبك قلباً حياً مستيقظاً مراقباً لله سبحانه وتعالى فهذا من أعظم ما من الله به عليك من الدفاع، ومنها أن يهيئ الله لك الناس الصالحين ليعينوك على طاعة الله، ومنها أن الله يرد كيد العدو، فكم من عدو يأتي إليك -يا عبد الله- ليكيدك، فالله سبحانه وتعالى يوقفه ويرد كيده عنك، فالله سبحانه وتعالى يرد كيد الكائدين لمن اتقى الله سبحانه وتعالى وعمل بالطاعات وابتعد عن المعاصي، كما بين ذلك ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).

تأثير الذنوب على التوبة

تأثير الذنوب على التوبة Q هل الذنب يؤثر على التوبة أم لا؟ A الذنب لا شك أنه يبعد عن الله ويقرب إلى الشيطان، لكن بالنسبة للتوبة فالتوبة لا تنقطع، والإنسان مهما كان مادام في هذه الحياة فتوبته مقبولة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. حتى الشرك بالله إذا تاب منه العبد قبل الموت فالله يتوب عليه، لكن إذا مات على الشرك لم يقبل منه عمل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالتوبة مفتوحة ما لم تأت الغرغرة أو تطلع الشمس من مغربها إذا أتى بها العبد بشروطها، لذلك فنحن نقول: إذا أذنب الإنسان ذنباً فينبغي له أن يحذر الشيطان الذي يغويه؛ لأن الشيطان يقول للمذنب: أنت ليس لك توبة. بل قد يقول له: أنت لا تصلح للتوبة. وهذه من إغواءات الشيطان، فيجب عليك أن تبادر إلى التوبة، والله سبحانه وتعالى يفرح بتوبتك فرحاً عظيماً، كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح عن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تكرار الذنب بعد التوبة

تكرار الذنب بعد التوبة Q هل الذي يكرر الذنب يكون قد خلط عملاً سيئاً وآخر صالحاً؟ A لا شك أن تكرار الذنب ليس بطيب، لكن عليه أن يبادر بالتوبة، لكن الذي نوصيه به هو أن الإنسان إذا تاب إلى الله فعليه أن يعمل بدواعي التوبة، فلا بد -حتى يحقق شرط الإقلاع من الذنب- من أن يقلع عن وسائل ومجالس الذنوب، أليس من شروط التوبة الإقلاع؟! الإقلاع ليس كلاماً تقوله، لا يكفي أن تقول: أقلعت. وإنما يجب أن يكون عملياً، والإقلاع العملي يكون بترك الذنب نفسه وبترك وسائله، ولهذا قال تعالى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]؛ لأن خطوات الشيطان تدعو إلى المعاصي، كذلك أيضاً ينبغي للتائب أن يبتعد عن المجالس، فالإنسان إذا تاب من ذنب من الذنوب كان قد اجتمع عليه مع غيره فليعتزل هذا الاجتماع، وهذه العصبة أشد عليه من عدو معه رمح يريد أن يطعنه به، فلا بد من الإقلاع والبعد، كذلك أيضاً من شروط التوبة العزم على أن لا يعود، ومن وسائل العزم على أن لا يعود أن يجدد طاعة، وأن يحرص على لقاء الطيبين بأن يستبدل بتلك المجالس السيئة مجالس طيبة، فلابد من المجاهدة. والتوبة إلى الله لو كانت كلمة يقولها الإنسان لكانت أسهل شيء، ولكنا نذنب في اليوم مئة ذنب ونتوب وينتهي الموضوع، لكنها ليست كذلك، التوبة تحتاج إلى مجاهدة، لكن فيها مسرة وراحة نفس وطمأنينة قلب؛ لأن الله يفرح بعبده، وتصور أن الله فوق سبع سماوات يفرح بك. إذا تبت إلى الله فعليك أن تعمل بالوسائل التي تعينك على هذه التوبة، نسأل الله أن يرزقني وإياكم التوبة النصوح.

حكم النوم داخل القبور بقصد تليين القلوب

حكم النوم داخل القبور بقصد تليين القلوب Q هناك من الشباب الملتزم من يذهبون إلى المقابر ويقومون بالنوم داخل القبور ليلاً بهدف تليين القلوب، فما حكم فعلهم هذا؟ A هذا لم يرد عن السلف، وليس هناك داع لمثل هذا، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذهب ليزور القبور ويرى المقابر، أما نومه هذا فغير مشروع.

حكم إدخال الدش من أجل وجود قنوات دينية أو برامج نافعة

حكم إدخال الدش من أجل وجود قنوات دينية أو برامج نافعة Q هناك بعض القنوات الدينية التي تعرض في الدش، وهي لا تخرج عن البث، فهل يخرج الدش بالكامل أم يستفاد من بعض القنوات؟ A أولاً ينبغي أن نعلم أن هناك قاعدة شرعية معروفة عند العلماء ومعروفة أيضاً لدى كثير من الناس، وهي أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فالآلة التي فيها مفاسد متنوعة ولو كان فيها مصلحة واحدة فدفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإذا كان الدش فيه عدد من القنوات المفسدة، ثم فيه برنامج أو قناة قد يكون فيها خير، نقول: ينبغي دفع المفسدة. وكثير من الناس قد يدخل من خلال هذا الكلام الذي ورد في السؤال مدخلاً شيطانياً، فيقول: أدخل هذه الآلة من أجل أن تسمع أو ترى هذا الشيء الجيد. ثم بعد ذلك ينظر إليه مرة وينظر إلى ما بجانبه ثانية وثالثة، كما قال بعضهم: البصر يخطف مرة من هنا ومرة من هنا. حتى يجد نفسه منساقاً إلى الأمور الأخرى، وهذه قالها من جربها، أليس كذلك؟! هذه قضية. القضية الأخرى: هذه الدشوش والوسائل المفسدة إذا جاء أحد ليخفف من إفسادها بشيء ليس فيه انحراف ولا بدعة فنقول: جزاك الله خيراً، لكن أنا وأنت والثاني والثالث ليس لنا ذلك، قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، فما نأتي ونقعد عند الدش أمام الأولاد والبنات والأسرة، ثم نقول: لأننا سمعنا في يوم من الأيام أو في محطة من المحطات كلاماً جميلاً. هذا لا يمكن، ولذلك أنا أقول: ينبغي أن تكون هناك بدائل، لكن بشرط أن تكون هذه البدائل منضبطة شرعية.

القوة العلمية والعملية

القوة العلمية والعملية لقد حرص السلف على طلب العلم والعمل به اقتداء بكتاب الله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فهما الجناحان اللذان يصل بهما العبد في سفره إلى مقصوده في الآخرة، ولابد أن يعلم الإنسان أنه قد تعتريه في طريق العلم والعمل عوائق ومحبطات، فعليه أن يستعين بالله في مدافعة ذلك، وأن يكون يقظاً لما يعتريه، فإن الطريق صعب أمام الكسالى والمتهاونين.

أهمية العمل بالعلم

أهمية العمل بالعلم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فقد روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء)، وروى عنه أيضاً أنه قال: (كن عالماً أو متعلماً أو محباً أو متبعاً، ولا تكن الخامس فتهلك. قال: قلت للحسن: وما الخامس؟ قال: المبتدع). قال ابن عبد البر معلقاً: الخامسة التي فيها الهلاك معاداة العلماء وبغضهم، ومن لم يحبهم فقد أبغضهم أو قارب ذلك وفيه الهلاك. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: كان يقال: إذا استطعت فكن عالماً، فإن لم تستطع فكن متعلماً، وإن لم تستطع فأحبهم، وإن لم تستطع فلا تبغضهم. قال عمر بن عبد العزيز معلقاً: لقد جعل الله عز وجل مخرجاً. ولقد شدد الأئمة رحمهم الله تعالى على العلم بالعمل، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (يا حملة العلم! اعملوا به، فإنما العالم من عمل ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً). وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رءوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر! فأقول: لبيك يا رب. فيقول: ما عملت فيما علمت؟) وأخرج عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه (أنه ذكر فتناً تكون في آخر الزمن فقال له عمر رضي الله عنه: متى ذلك يا علي؟ قال: إذا تفقه لغير الدين، وتعلم العلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة).

القوتان اللتان بهما يصل العبد إلى مقصوده في الآخرة

القوتان اللتان بهما يصل العبد إلى مقصوده في الآخرة أيها الأخ في الله! ما علاقة العلم بالعمل؟ وأيهما أشد احتياجاً إلى الآخر؟ لما كان العباد قد خلقوا للعبادة، وكلهم سائر إلى ربه تعالى فملاقيه للحساب والجزاء كان السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصير إلى مقصوده إلا بقوتين: إحداهما: قوة علمية. والثانية: قوة عملية. فبالقوة الأولى العلمية ينار له الطريق، ويبصر منازله، فهو يسير ومعه هذا النور القوي نور العلم، فيفيده في ناحيتين في أثناء سيره، لا بد منهما لكل سائر: إحداهما: معرفة الطريق الصحيح والأقرب، فهو بهذا النور يعرف طريقه، ولا يتيه يميناً ولا شمالاً، وإنما هو سير على الجادة الموصلة إلى الله تعالى، وهو في سيره وإن طال الطريق إلا أنه يصبر؛ لأنه واثق من مسيره بهذا النور، ليس عنده تردد، وإنما هو الجزم والعزم والتوكل على الله تبارك وتعالى. أما من لم يوفق إلى العلم الصحيح وإلى العلم المؤصل المبني على أدلة الكتاب والسنة فتجده في سيره متخبطاً، كلما أبصر طريقاً في سيره يميناً أو شمالاً سلكه، فهو تائه بين هذه الطرق وأنى له الوصول؟! الناحية الثانية التي يستفيد منها من نور الله قلبه بالعلم الصحيح: تجنب أسباب الهلاك ومواضع العطب، فهو بهذا النور مبصر لطريقه، عارف بما فيه من الأحجار والشوك والحفر ونحو ذلك، فهو يتجنبها ويحذرها، فهو حذر من البدع والمعاصي، ومواضع فتن القلوب التي تعرض لها، ووساوس شياطين الجن والإنس التي يحاول أصحابها صرف السائر إلى الله تعالى عن طريقه. فبالقوة العلمية وبنور العلم الصحيح يعرف الإنسان ويدرك أعلام الطريق الموصلة إلى الله، فيسلكها ويسير عليها، ويدرك مواضع العطب والهلكة فيتجنبها ويحذرها، هذه هي القوة العلمية. أما القوة العملية فهي حقيقة السير إلى الله تعالى في العمل والعبادة والطاعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل خير يقرب إلى الله تبارك وتعالى. والإنسان إذا عرف الطريق والسفر ومنتهاه وذلك من خلال ماضي المعرفة والعلم قد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر، وهو أن يشمر عن ساعد الجد مسافراً في الطريق إلى الله تعالى، قاطعاً له منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع المرحلة الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر. وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمةً، فهو يقول: يا نفس! أبشري، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت المسير وصلت حميدة منصورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درجات تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعي في المفازة، فهو -والله- الهلاك والعطب لو كنت تعلمين. فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامهما من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء، وليجعل حديث الأحبة حاديها وسائقها، ونيل معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده في طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين، وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج له المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم. فيا قرة عينه إذ ذاك! ويا فرحته إذ يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]! ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع ودأب النفس وبطء سيرها، وكلما أدمن على السير وواظب عليه غدواً ورواحاً وسحراً قرب من الدار، وتلطفت تلك الكثافة، وزالت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم، فتبدلت وحشته أنساً، وكثافته لطافة، ودرنه طهارة. أيها الأخ في الله! هكذا يصور ابن القيم رحمه الله تعالى الطريق، ويصور القوة العملية التي يسير عليها السائر إلى ربه تبارك وتعالى، وهذه القوة العملية هي التي عبر عنها السلف الصالح رحمهم الله تعالى بالعمل، وهي الغاية التي من أجلها يتعلم الإنسان العلم، فهو علم وعمل حتى يلقى العبد ربه تعالى. أما الدنيا فدار عمل لا راحة فيها، وإنما الراحة الحقيقية راحة الآخرة، قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. نعم أيها الأخ في الله، عند أول قدم يضعها في الجنة تكون الراحة، أما الدنيا فهي دار كد، ودار عمل، ودار أحزان، إن أفرحت أياماً أحزنت أياماً أخرى، وهكذا دواليك.

أصناف الناس تجاه قوتي العلم والعمل

أصناف الناس تجاه قوتي العلم والعمل أيها الأخ في الله! تجاه تلك القوتين -القوة العملية والقوة العلمية- كيف تجد نفسك؟ وقبل أن تضع نفسك موضعها أذكر لك أصناف الناس تجاه هاتين القوتين: فمنهم صنف تكون عنده القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها، وعوارضها، فهو إن تحدث أو تكلم يتكلم بكلام المتبصر العالم، المدرك لحقائق الدين وحقائق عوارض الطريق في السير إلى الله تبارك وتعالى. ولكنه ضعيف في القوة العملية، فهو يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، وهو يرى المعاطب والمتالف من المعاصي والمنكرات ثم لا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، هذا هو الصنف الأول. الصنف الثاني: من تكون له القوة العملية الإرادية، وتقتضي هذه السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة والتشمير في العمل، ولكنه لضعف القوة العلمية عنده يكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، أو الانحرافات في الأعمال والأقوال، فهو شديد الهمة، كثير العمل، ولكنه ضعيف في باب العلم، فيقع في أنواع من البدع والمخالفات، هذا هو الصنف الثاني. الصنف الثالث: ضعيف في هاتين القوتين، فهو ضعيف العلم وضعيف العمل، فهو لكثرة القواطع وشدتها -لضعفه في هذين الأمرين- على طريقه هالك إن لم يتداركه ربه تبارك وتعالى برحمة منه، ضعيف العلم وضعيف العمل، فهو يتقلب في دنياه بين جهل وقلة عمل، قد تسلطت عليه شياطين الإنس والجن من جميع الجوانب، فهو على طريق هالك إن لم يتداركه ربه تبارك وتعالى. الصنف الرابع: من كانت له هاتان القوتان جميعاً، فهو مستقيم في سيره إلى ربه تبارك وتعالى بعلم قوي ونور نافذ وعمل صالح دائمٍ غير منقطع إلى أن يلقى ربه تبارك وتعالى، وهذا هو الذي يرجى له الاستقامة، ويُرجى له رد القواطع والموانع التي تمنع العبد وتعيقه في سيره إلى الله تعالى، وهؤلاء هم الموفقون السائرون على منهاج السلف علماً وعملاً، جعلنا الله تبارك وتعالى وإياكم من هؤلاء، ووفقنا لسلوك طريقهم بمنه وكرمه. هذه هي الأصناف الأربعة وضحت معالمها، فمن أيها نحن نكون أيها الأخ في الله؟! إن الأمر ليس بالأماني ولا الدعاوى، إن الأمر اجتهاد وعمل، إن الأمر تشمير في سيرك إلى ربك سبحانه وتعالى، فأنت تطلب العلم وتعمل بهذا العلم، وهكذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.

ما يهم الإنسان عند سلوكه طريق العلم والعمل

ما يهم الإنسان عند سلوكه طريق العلم والعمل إن العبد حين يسلك هذا الطريق -طريق العلم والعمل جميعاً- في أحواله وأقواله وأعماله فعليه أن ينتبه إلى أمرين مهمين: أحدهما: أن السفر إلى الله تعالى مقطوع به، ومدة سفر الإنسان هو عمره الذي كتب له، والأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة فمرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر. والكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمل فيقسو قلبه ويمتد أمله وينشغل بالتسويف والتأخير، ولا يحزن من قلة السالكين، بل يسير على الدرب ما دام أنه على نور من ربه تبارك وتعالى، وهذا هو معنى ما كان عليه السلف من حرصهم على العمل في كل يوم وليلة، فيعملون فيهما وكأنهما آخر أيامهم من الدنيا، وهكذا. الأمر الثاني: الحذر من الخواطر الشيطانية، وحراسة النفس من هذه الخواطر وحفظها، والحذر من الاسترسال معها؛ فإن هذه الخواطر الشيطانية أصل الفساد كله، ومن قبلها يجيء بذر الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، فإذا تمكن من بذرها تعاهدها الشيطان يسقيها مرة بعد أخرى، حتى تصير إرادات، ثم تصير عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال المنحرفة، نسأل الله السلامة والعافية. فلابد للعبد من دفع هذه الخواطر، وأن لا يتساهل فيها، فهي كمن يتهاون بشرارة من نار ربما تحرقه وتحرق بيته ومن حوله. ويستعين لحفظ النفس من هذه الخواطر بعدة أمور: منها: العلم الجازم باطلاع الله تعالى ونظره إلى قلبك، وعلمه بخواطرك: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. ثانيها: حياؤك من الله تعالى أن تسترسل في هذه الخواطر التي تغضب الله تعالى. ثالثها: إجلالك لله أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته. رابعها: خوفك من الله أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. خامسها: خشيتك من أن يتولد من تلك الخواطر ما يهلك القلب والعمل. سادسها: أن تعلم أن هذه الخواطر بحر من الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب فيه غرق وتاه. سابعها: أن هذه الخواطر وادي الحمقى وأمان الغافلين، أما الحقائق فهي في الآخرة عند ربك تبارك وتعالى يوم القدوم عليه. فلابد للعبد من سير إلى ربه تبارك وتعالى، ولا بد له في أثناء هذا السير من العلم والعمل، فشمر عن ساعد الجد طلباً للعلم، وعملاً وعبادة لله وحده لا شريك له، فهذا -والله- هو عز الدنيا والآخرة، وهذا هو -والله- فرح النصر، وهذا هو -والله- دواء كل مرض يعرض على النفس. إننا جميعاً مسئولون أمام ربنا تبارك وتعالى عن علمنا، وعن قوتنا، وعن شبابنا، وعن أعمارنا، فبماذا نحن مجيبون ربنا تبارك وتعالى؟! يا طلبة العلم! انتبهوا للأمر فإن الأمر جد، انتبهوا للأمر فإن النفس تحتاج إلى مجاهدة، يا أيها المؤمنون! اجعلوا من الدراسة ومن طلب العلم على مختلف أشكاله باباً تنطلقون منه لعبادة ربكم تبارك وتعالى، تعزون فيه دينكم، وتنشرون فيه دينكم، وترفعون فيه لواء هذا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. أيها المؤمنون! استعينوا بالله واصبروا، استعينوا بالله على طلب العلم، واصبروا على طلب العلم، استعينوا بالله واصبروا على طريقكم وسيركم إلى ربكم تبارك وتعالى. اللهم! إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً، اللهم! إنا نسألك الاستقامة على دينك حتى نلقاك يا أكرم الأكرمين. اللهم! إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم! حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

أهمية العقيدة ومصدر تلقيها عند السلف

أهمية العقيدة ومصدر تلقيها عند السلف من المعلوم أن العقيدة هي المحرك الأول للصراع بين الأمم والحضارات، وبها تحافظ المجتمعات على هويتها وثقافتها واستقلالها، وتتميز عقيدة الإسلام عن تلك العقائد بكونها هي الحق الذي يتواءم مع الفطر السليمة، والعقول المستقيمة؛ لأنها ربانية المصدر، سهلة المأخذ، لا يشوبها غلو ولا جفاء، لذلك لا جرم إن كانت منجية في الدنيا من الاضطراب، وفي الآخرة من العذاب. وهذه العقيدة الصافية الصحيحة هي ما كان عليه الصحابة الأخيار، وسلف الأمة الأبرار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الأسس التي تميز العقيدة الصحيحة عن غيرها

الأسس التي تميز العقيدة الصحيحة عن غيرها بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة في الله! حديثنا في هذه الليلة عن أهمية العقيدة، وعن مصدر تلقيها عند السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وأنتم تعلمون جميعاً أن العقيدة لها أثرها الكبير في حياة الإنسان وفي حياة الأمم، ولكن ما هي هذه العقيدة التي نتحدث عنها وعن أثرها، ونتحدث عن مصادر تلقيها وعن أهميتها؟ لقد التبست الأمور في هذه العصور المتأخرة، حتى صار كلٌ يدعي أنه على عقيدة صحيحة، وصار الناس كما قال الشاعر: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك كل يدعي أنه على عقيدة، وأن عقيدته سليمة، وأن مصادرها صحيحة، ومن هنا -أيها الأخوة- فلا بد أن نبين بادئ ذي بدء ما هي العقيدة التي نتحدث عنها وعن أثرها، إنها عقيدة تتميز وتقوم على عدد من الأسس لابد من فهمها أولاً.

أنها عقيدة السلف الصالح

أنها عقيدة السلف الصالح أولها: أنها عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وليست عقيدة من خالفهم من أهل البدع من بين مشرق ومغرب، فهي عقيدة تمتد جذورها مع تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وينتهي تاريخ الأنبياء بمبعث الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالعقيدة والشريعة كاملة، وليبقى أتباعه إلى يوم القيامة على ذلك المنهاج القويم.

أنها عقيدة قائمة على إخلاص العبادة لله وحده

أنها عقيدة قائمة على إخلاص العبادة لله وحده ثانياً: أنها عقيدة قائمة على إخلاص العبادة لله الواحد القهار، تقوم على أساس توحيد العبادة، فأساسها: هو لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله ليست كلمة يقولها الإنسان بلسانه وفقط، وإنما هي كلمة لما وزنت بالسماوات والأرض ثقلت عليها كما ورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي عقيدة تمحض العبادة لله الواحد القهار، وهي عقيدة ترفض العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وترفض أن يُصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، ومن هنا قامت هذه العقيدة على أسس ثلاثة: على الخوف من الله، والرجاء في الله، والحب في الله، وإذا اجتمعت هذه الأمور في قلب العبد المؤمن صار لربه عابداً مخلصاً، أما إذا صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى اضطربت أحواله وانتكس، وهذه حقيقة لا شك فيها أيها الإخوة المؤمنون!

أنها عقيدة تقوم على توحيد العبادة وتوحيد المتابعة

أنها عقيدة تقوم على توحيد العبادة وتوحيد المتابعة ثالثاً: أنها عقيدة تقوم على توحيد العبادة، وهي قائمة على توحيد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن محمداً رسول الله، ومقتضاها أن هذا النبي الكريم هو رسول الله حقاً، ومن ثم فإن ما جاء به من القرآن أو من الحديث، أو من سنته العملية أو من سيرته الصحيحة: فهو شرع يجب أن يقتدي به المسلمون، ومن ثم كانت شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي أموراً كثيرة عظيمة لو تحققت في حياتنا -نحن المسلمين- لغرست في نفوسنا العقيدة السلمية؛ ولتحولت حياتنا إلى حياة أخرى غير ما نشاهده الآن، حيث نشاهد -نحن المسلمين- الأحداث من حولنا فيها الذل والتبعية، نعيش حياة الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، حتى أصبحنا كما أخبر عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وفعلاً عددهم أكثر من ألف مليون مسلم، ولكنهم أمام أعدائهم غثاء كغثاء السيل!

أنها عقيدة مرتبطة بالعمل

أنها عقيدة مرتبطة بالعمل رابعاً: أنها عقيدة لا يقولها الإنسان بلسانه فقط، وإنما هي عقيدة تنتقل إلى واقع عملي في حياته، ومن ثم فهي عقيدة تنبثق منها، شريعة شاملة ونظام حياة. ومن هنا كان هذا الانبثاق من هذه العقيدة عقيدة، لا كما يقول البعض: إن الشريعة تنقسم إلى عقيدة وإلى أحكام وفروع، بل نقول: إن كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة تنبثق منها شريعة كاملة تنظم شئون الحياة من أولها إلى آخرها، فهي ليست عقيدة مختصة بالقلوب فقط، وليست عقيدة مستقرة بين الصدور فقط، وإنما هي عقيدة تتحول وتنطلق إلى عمل وإلى خلق وإلى عبادة وإلى ولاء وبراء وإلى جهاد في سبيل الله وإلى أعمال يسير فيها السائر والمهاجر إلى ربه سبحانه وتعالى، يسير فيها حياته كلها {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163]، إي والله! فهي حياة تتحول عند المسلم إلى حياة طاعة وعبادة لله الواحد القهار. هذه العقيدة ليست كلاماً يقال ويدندن به فقط، وإنما هي أعمال تتحدث عن نفسها لتدل في النهاية على أن هذا الرجل صاحب عقيدة، وعلى أن هذا المجتمع مؤسس على عقيدة، وعلى أن هذه الأمة ربيت على عقيدة، لكن حينما تختلط الأوراق، ويشرئب النفاق، يجلجل البعض بصوته مدعياً، ولكن دعواه -حينما ينظر فيها من خلال الأعمال- يتبين أنها عكس ما يقول.

أثر العقيدة الصحيحة على حياة الفرد

أثر العقيدة الصحيحة على حياة الفرد

تغرس في النفس التوكل على الله عز وجل

تغرس في النفس التوكل على الله عز وجل الأمر الثالث: أن هذه العقيدة تغرس في النفس التوكل على الله والاعتصام به، وهذا يريح الإنسان كثيراً في حياته، فكم من إنسان خاف من غير الله فأصبح شريداً طريداً، خاف من غير الله فتحولت حياته إلى جحيم، يخاف مرة من الجن، يخاف مرة من العين، يخاف مرة من قطع الأرزاق، يخاف مرة مما لا يملك العباد منه شيئاً!! أما إذا توكل على الله واعتصم بالله سبحانه وتعالى فإنه يعيش سعيداً؛ لأنه يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعليك أن توقن أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، كما أنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك أبداً، تلك والله عقيدة إذا غرست في النفوس تحول العبد إلى عبد لله حقاً.

تورث الشجاعة في الحق والثبات عليه

تورث الشجاعة في الحق والثبات عليه الأمر الرابع: أن هذه العقيدة تورث الشجاعة في الحق والثبات عليه، وإن ضعف مواقفنا وضعف إيماننا وكثيراً من هزائمنا -النفسية وغير النفسية- إنما سببه أننا لم نؤمن بالله حق الإيمان، ولم تغرس في نفوسنا هذه العقيدة ذلك الغرس الصحيح، فلما أصبحت حياتنا على هذه الحال تحولنا إلى ضعفاء، تحولنا إلى جبناء حتى أمام أخس أعدائنا! وسنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا اعتصم الإنسان بالله سبحانه وتعالى قواه الله سبحانه وتعالى، أما إذا اعتصم بغيره وكله الله سبحانه وتعالى إلى ذلك الغير؛ فتحول إلى عبد ذليل لذلك الغير، وهذا أمر مشاهد.

تجلب للنفس الطمأنينة والانشراح

تجلب للنفس الطمأنينة والانشراح هذه العقيدة ترجع أهميتها إلى عدة أمور: فهي عقيدة لها أثر عظيم جداً على حياة الفرد، وأعظم آثارها على حياة الفرد عدة أمور: أحدها: أنها تجعل النفس والقلب في طمأنينة وانشراح، فهي عقيدة إذا تحولت إلى عمل وتحولت إلى أعمال قلوب: انشرح الصدر واطمأن؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، وطعم الإيمان طعم خاص يحس به أولئك العابدون لله سبحانه وتعالى حتى قال قائلهم وهو يعيش في الدنيا عابداً لله: والله إن كان أهل الجنة يعيشون كما نعيش الآن في راحة نفس وطعم إيمان إنهم لفي عيش طيب. إن في الآخرة جنة لا يدخلها إلا من دخل جنة الدنيا، وجنة الدنيا إنما تكون بالعبودية لله وحده لا شريك له، عندما تقوم أيها العبد تصلي ركعتين لله الواحد القهار، تصوم يوماً لله الواحد القهار، تنفق نفقة لله الواحد القهار، تؤدي حجك، تؤدي فرضك، تقوم بواجباتك كلها وأنت تحقق العبودية لله الواحد القهار؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه -في كلمة له يجب أن نفهمها وأن نفقهها-: والله إني لا أحب الدنيا -أي: إنني لا أحب البقاء في الدنيا- لولا ثلاثة أمور ما هي هذه الثلاثة التي من أجلها أحب عمر بن الخطاب الحياة؟ وكلمته رضي الله عنه تكتب بماء الذهب، قال: لولا ثلاث: إحداها: أن أسجد لله رب العالمين، وأؤدي الصلاة، فهو يفرح بالحياة؛ لأنه يصلي لله رب العالمين في كل يوم خمس مرات ما عدا النوافل. والثانية قال: ولولا أني أحمل في سبيل الله، أي: الجهاد في سبيل الله، فهو يحب الحياة؛ لأنه ينتقل من جهاد إلى جهاد. والثالثة: مجالسة الصالحين، يقول: وأني أجالس أقواماً يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب التمر. رحمك الله يا أمير المؤمنين! يا عمر بن الخطاب! رحمك الله فلقد أحسست بقيمة العبودية لله الواحد القهار، وقد أصبحت موازيننا وقيمنا مختلفة تماماً عن تلك القيم التي كان عليها أولئك الصحب الكرام.

تخلص العبد من العبودية لغير الله

تخلص العبد من العبودية لغير الله الأمر الثاني من أثر العقيدة على الفرد: أنها تخلص العبد من العبودية لغير الله إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، ووالله لو لم يكن في هذه العقيدة إلا أنها تجعل الإنسان عبداً لله ليس عبداً للمادة، ولا عبداً لملك من الملوك، ولا عبداً للشرف والشهرة، وإنما هو عبد لله الواحد القهار، والله لو لم يكن في هذه العقيدة إلا أنها تحرر الإنسان التحرير الحقيقي؛ لكفى بها أهمية، ولكفى بذلك أن يعتصم الإنسان بها، وأن يحافظ عليها، من تعلق بغير الله تبارك وتعالى ذل لذلك الغير، لكن من تعلق بالله صار عزيزاً.

أثر العقيدة الصحيحة على حياة الأمة والمجتمع

أثر العقيدة الصحيحة على حياة الأمة والمجتمع

تربي المجتمع على الأخلاق الكريمة

تربي المجتمع على الأخلاق الكريمة الأمر الثالث من آثارها على المجتمع: تربية المجتمع على الأخلاق الكريمة، نعم والله! إن العقيدة تربي الإنسان الصالح ليكون صالحاً في كل مكان. إن التربية الغربية -الإنجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية- تربي المواطن حينما يكون في بلده، على أن يحافظ على القوانين والنظم، لكن حينما يخرج يتحول إلى ذئب مفترس يهين الناس ويقتلهم كما هو مشاهد، لكن العقيدة تبني الإنسان الصالح إن كان بين أقاربه أو غيرهم، إن كان في بلده فهو إنسان صالح؛ لأنه يحمل عقيدة، وإن كان مع أعدائه أو في غير بلده فهو صالح؛ لأنه يحمل عقيدة، وشتان شتان بين هذا وذاك.

تجمع كلمة الأمة

تجمع كلمة الأمة الأمر الرابع: جمع كلمة الأمة، إن بعض الناس يقول: لا تركز على العقيدة؛ فإنها تفرق الأمة! ونحن نقول: والله إن العقيدة هي التي تجمع الأمة، تعالوا إلى واقع الأمة الإسلامية، ما هي أسباب تفرقها؟ إن لها أسباباً كثيرة جداً، وأعظم الأسباب رايات القومية، المصالح المشتركة، العداء الأطماع إلى آخره، لكن العقيدة إذا وجدت تجمع الأمة {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، العقيدة تجمع لكن الاختلاف والتفرق له أسباب أخرى، ولا يجوز لقائل أن يقول: إن العقيدة تفرق، نقول: إن الذي يجمع الأمة وقد اختلفت بلدانها واختلفت لهجاتها وتعددت أعراقها وقبائلها؛ هي العقيدة الصحيحة التي جمعت بين صهيب وسلمان، والتي جمعت بينهم وبين أبي بكر وعمر بن الخطاب، العقيدة هي التي جمعت الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها فصارت أمة واحدة، وهي التي تجمع الناس في كل زمان.

ظهور بركات السماء والأرض

ظهور بركات السماء والأرض الأمر الخامس: من آثار هذه العقيدة أيضاً -وهو أثر عظيم جداً- ظهور بركات السماء والأرض، إن البركات تنزل حينما نعتصم بالله، ونكون على هذه العقيدة الصحيحة.

تنجي صاحبها يوم القيامة

تنجي صاحبها يوم القيامة الأمر السادس: هناك أثر مهم جداً لهذه العقيدة، وهذا الأثر أخرته لأهميته ألا وهو: أنه ينجي الإنسان يوم القيامة من عذاب الله، ويجعله من أهل الجنة، والله لو لم يكن للعقيدة إلا هذا الأثر لكفى به أن يلتزم الإنسان بهذه العقيدة ويعتصم بها ولو ناله ما ناله، إن الدنيا قصيرة، والرحلة قريبة، والموت لا يفرق بين صغير أو كبير ولكن الشأن ما بعد الموت. أيها الإخوة في الله! إن هذه العقيدة حينما تكون عقيدة سليمة تنجي صاحبها يوم القيامة، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، ما هو القلب السليم؟ إنه القلب المخلص لله، إنه القلب السليم من آثار الشبهات والشهوات، إنه القلب السليم الذي جاء ربه به أبونا إبراهيم أبو الحنيفية عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، ما هو القلب السليم؟ إنه قلب المؤمن، إنه قلب صاحب العقيدة الحنيفية الخالصة القائمة على عقيدة التوحيد والكفر بالطاغوت، القائمة على عقيدة الولاء والبراء، القائمة على عقيدة امتثال أمر الله وتطبيق شرعه والإيمان بأن ذلك عقيدة، إنها عقيدة متكاملة، فإذا أخلص العبد فيها لله رب العالمين جاء يوم القيامة آمناً ليشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبداً، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء. أثر هذه العقيدة يدل على أهميتها العظيمة، ويدل على أنه يجب أن ندعو إليها، ويجب أن نركز على هذه العقيدة، ويجب أن نربي النفوس وأن نغرس في القلوب هذه العقيدة، نربي فيها الأسرة، نربي فيها الأمة، نربي فيها المجتمع، ندعو إليها في كل مكان.

تؤدي إلى استقلال الأمة

تؤدي إلى استقلال الأمة ترجع أهمية هذه العقيدة إلى أن لها أثراً عظيماً في حياة الأمة وحياة المجتمع، ومن تلك الآثار: أولها: استقلال الأمة، فإنه لا يتم ذلك إلا باستقلالها في توحيدها وعقيدتها واعتزازها بدينها، وانظروا كيف كان حال العرب في الجاهلية قبل مبعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كانوا متفرقين، كانوا يدينون بالولاء مرة للروم ومرة للفرس، فكيف استطاع العرب أن يستقلوا؟ وكيف استطاع العرب أن يقودوا العالم؟ إن ذلك لم يتم إلا حين استجابوا للمبعوث محمد صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به وصدقوه وناصروه، وآمنوا بالله الواحد القهار رباً، ومن ثم تحولت حياتهم إلى حياة أخرى، ولم يمض عليهم وقت قصير إلا وقد أصبحوا قادة الأمم وسادتها، وهذه تجربة تاريخية مشاهدة أمام أعيننا. إن استقلال الأمم في جميع أمورها -الفكري، والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره- لا يكون إلا حينما تغرس العقيدة في هذه الأمة، فإذا غرست هذه العقيدة السليمة الصحيحة في هذه الأمة فلا بد أن يظهر فيها الاستقلال، ولا تكتفي بذلك، بل تعود قائدة رائدة للأمم جميعاً.

تحقق الأمن والأمان

تحقق الأمن والأمان الأمر الثاني: وهو الأثر الكبير في حياة الأمة حينما تعتصم بعقيدتها، إنه الأمن، وما أدراكم ما الأمن؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، لم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: بشرك، هكذا فسره الرسول صلى الله عليه وسلم، يتحقق الأمن حينما تخلص الأمة عبوديتها لله وحده لا شريك له، وحين تتخلص من عبودية الشرق أو الغرب، وحين تتخلص من عبودية الكرة والتمثيلية، وحين تتخلص من عبودية المادة، وحين تتخلص من عبودية الجن والسحرة والصوفية والقبورية، وحين تتخلص من عبودية العلمنة التي أصبحت تعيش بيننا ليلاً ونهاراً، إذا تخلصت من العبودية لتلك الآراء والأفكار، أتاها الأمن بإذن الواحد القهار، ونقف عند تجربة تتعلق بالأمن. أيها الإخوة المؤمنون! كانت قريش في الجاهلية قبيلة من القبائل تعيش مثل غيرها، ولكن جرى لها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين عاماً قضية وقصة مشهورة، ألا وهي أن أحد الكفار أراد أن يهدم الكعبة التي بناها إبراهيم، وكان يدين بدين النصرانية، وهو أبرهة، فجاء إلى مكة ليهدم الكعبة، وكانت قريش تعبد الأصنام، ولما جاء أبرهة بفيلته لم تستطع قريش مقاومته؛ لأنها لم تكن صاحبة عقيدة، بل فروا إلى الجبال وهم العرب الشجعان، انهزامية كما ينهزم العرب اليوم أمام أحفاد القردة والخنازير؛ لأنهم يرفعون راية العروبة ولا يرفعون راية العقيدة، وفرت قريش إلى الجبال، ولكن الله سبحانه وتعالى كان يريد لهذه الجزيرة أمراً آخر، فجاء أبرهة، وقبيل دخوله بجيشه مكة أرسل الله عليه طيراً أبابيل من السماء تحمل حجارة من سجيل فقضت عليه، فكيف انتهت النتيجة أيها الإخوة الأحباب؟! انتهت النتيجة بأن أبرهة هزم شر هزيمة، هزيمة نكراء، هزيمة تحدثت عنها الأمم في مشارق الأرض ومغاربها في ذلك الوقت، لكن على يد من؟ ليست هزيمته على يد قريش، وإنما جاء النصر من الله سبحانه وتعالى، ووقع أن قريشاً كسبت القضية لأمر أراده الله سبحانه وتعالى، فتحولت مكة وما حولها إلى أمن، حتى أصبح الإنسان في أي مكان سواء كان لصاً أو رئيس قبيلة تريد أن تغير على غيرها، سواء كان ذا قوة أو ليس ذا قوة؛ لا يفكر أبداً بأن يغزو قريشاً ولا أن يتعرض لها. أيها الإخوة في الله! قفوا عند هذه القضية فإنها مهمة، أمن الله قريشاً، بل أمن قوافلهم التي تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب في رحلة الشتاء والصيف، ولا يفكر أحد أن يعتدي عليها، لماذا؟ لأن قريشاً نصرت ذلك النصر العجيب، حين أرسل الله على أعدائها طيراً أبابيل، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يجهر بالدعوة؛ قال كلمته المشهورة وقد صعد على الصفا: (يا معشر قريش! لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟! قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قد يسأل سائل ويقول: إن هذا قياس مع الفارق، الرسول يقول: لو أخبرتكم أن جيشاً خلف هذا الوادي يريد أن يغير عليكم هل تصدقوني؟ قالوا: نعم؛ فاحتج عليهم بهذا أنه رسول من عند الله، إذاً: هو قياس مع الفارق، فمن الصعب أن يقول قائل: يا محمد! لو أخبرتنا أن هناك جيشاً لصدقناك، لكن أن تكون رسول الله فلا! لكن القضية هي متعلقة بقريش، فالأمن تحول عند قريش إلى أمن شامل حتى أصبح من المستحيلات، بل من عاشر عاشر المستحيلات أن يفكر في غزو مكة، فكأن الرسول يقول لهم: يا قريش! أنتم تعلمون أن هذا من المستحيل أن يأتي أحد ليغير عليكم، لكن ناشدتكم الله لو قلت: إن هناك جيشاً -مع أنه مستحيل- أتصدقوني؟ قالوا: لو أخبرنا واحد غيرك لكذبناه، لكن لأنك محمدٌ الأمين فلا نكذبك، فقال لهم: إذا صدقتموني في هذا الأمر البعيد المستحيل لو أخبرتكم به؛ فصدقوني في أمر آخر وهو أني رسول رب العالمين، جئتكم بين يدي عذاب شديد، وكانت الحجة قاطعة، ولكن هل استجابت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنعم الله عليها بالأمن؟ لا والله. إن من المؤسف حقاً أن قريشاً لم تستجب، ولكنها احتجت بحجة غريبة جداً فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ما حكاه الله عنهم: {َقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، قالوا: يا محمد! إن نؤمن بك تهجم علينا القبائل وتقاتلنا، انتبهوا إلى الحجة! إن نتبعك يا محمد تهجم علينا القبائل عن يميننا وعن شمائلنا ومن أمامنا ومن خلفنا، وتقتلنا وتزيل هذا الأمن! فقال الله تعالى مجيباً لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57]، كيف تحتجون بهذه الحجة؟ من الذي مكنكم حتى أصبحتم آمنين؟ إنه الله الذي أنزل على قلب محمد هذا القرآن، فلماذا تعكسون القضية؟ تعالوا -أيها الإخوة- إلى واقعنا اليوم، واقعنا اليوم هو نفس واقع قريش، إذا دعا الداعية وقال: أيها الناس! التزموا العقيدة، طبقوا الشريعة، قالوا: الغرب يأبى علينا، ولا يريدوننا أن نطبق العقيدة، إنهم سيهجمون علينا وسيقاتلوننا وسيزيلون ملكنا وسيصنعون وسيصنعون، سبحان الله هذه هي حجة قريش: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)، وهؤلاء يقولون: إن نطبق الشريعة يغضب علينا الغرب، ويهجم علينا، ويقطع عنا المصالح! قال الله تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا)، ونحن نقول: أولم ينعم الله عليكم بالأمن؟ إن الحفاظ على الأمن لا يكون ولن يكون إلا بالحفاظ على هذه العقيدة، وعلى ما انبثق منها من شريعة، وهذه حقيقة لا شك فيها.

مصادر تلقي العقيدة الصحيحة

مصادر تلقي العقيدة الصحيحة هذه العقيدة التي ندعو إليها والتي بدأها رسولنا صلى الله عليه وسلم، والتي جددها المجددون في كل قرن، وقد جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في هذه البلاد؛ هي عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، هي الخط المستقيم حينما خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم خط من حوله خطوطاً أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم (هذا سبيل الله، وهذه سبل الشيطان)، والعقيدة التي يجب أن نعتصم بها وأن ندعو إليها: هي عقيدة السلف، ومن ثم فإننا نحب أن نبين قضية كبرى تبين منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذه العقيدة، ألا وهي مصدرهم في تلقي هذه العقيدة، ما هي مصادر تلقي هذه العقيدة؟ ومن أي مصدر نأخذها؟ وكيف نأخذها؟ إن مصادر تلقي هذه العقيدة تقوم على الأسس التالية:

ثالثا: الإجماع

ثالثاً: الإجماع ثالثاً: المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح: الإجماع، أي: ما أجمع عليه المسلمون وما أجمع عليه السلف الصالح خاصة، وقد يقول قائل: إن الإجماع إنما هو في باب الأحكام الشرعية، ونحن نقول: لا، إن الإجماع يكون أيضاً في باب العقائد، كم من قضية من القضايا محكومة عند سلفنا الصالح لا تحتاج إلى نقاش، بل تتحول عندنا إلى ثوابت لا تتغير بتغير الزمان والمكان، لكنّ علمانيي وحداثيي زماننا عندهم شيء اسمه الثوابت والمتغيرات، يقولون: إن هناك كثيراً من المتغيرات تتغير بتغير الزمان والمكان، ونحن نقول: إن الذي يتغير هو أشكال الحياة ومادياتها، لكن أصولها لا تتغير، العبادة لله وحده لا شريك له، هي عبادة لله وأنت في كهف، وأنت تحت ظل شجرة، وأنت في خيمة، وأنت في الطائرة محلق في الفضاء، العبودية هي العبودية لله. طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعته عليه الصلاة والسلام، أحكام الله سبحانه وتعالى ثابتة، حكم الله في المسح على الخفين لا يتغير بتغير الزمان والمكان، التيمم إذا عدم الماء أو عجز عن استعماله لا يتغير، حكم الله ثابت، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته كل ذلك لا يتغير. إذاً: في عقيدتنا ثوابت وأصول هي محل إجماع لا تتغير بتغير الزمان والمكان، أما ضعفاء الإيمان علمانيو عصرنا وحداثيوهم ومبتدعوهم فإنهم يريدون منا أن نغير حتى في تلك الثوابت التي لا يمكن أن تتغير، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي هو بشرى لكل مؤمن: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). أيها الإخوة في الله! ومن مصادر التلقي هذه يتميز منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ومن هنا فإننا إذا أردنا أن نغرس العقيدة في النفوس، وأن نعود إلى هذه العقيدة؛ فلا بد أن نعود إليها بأصولها ومصادرها كلها، لابد أن نعود إليها بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وحينما نحقق ذلك نعمر الكون، وحينما نحقق ذلك لا ننزوي وننكس رءوسنا ونموت، بل نعمر الأرض كما عمرها سلفنا الصالح، لقد فتحوا البلاد شرقاً وغرباً وعمروها وتقدموا علمياً في المخترعات، وحضارة أوروبا الآن إنما نشأت حينما اقتبسوا علومنا المادية. أيها الإخوة في الله! إنه لابد أن نعتصم بالله حتى نعود كما كنا أعزة بدين الله، معتصمين به، حتى نعود كما كان أسلافنا الصالحين رحمهم الله تعالى على إيمان قوي نرفع جباهنا أمام الأمم، معتصمين بالله متوكلين عليه.

ثانيا: الاعتماد على فهم الصحابة

ثانياً: الاعتماد على فهم الصحابة الأساس الثاني: اعتصامنا بالكتاب والسنة لا يكفي بمجرده، بل لا بد من أمر آخر، ألا وهو الاعتماد على فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم هم الذين شاهدوا التنزيل، وهم الذين بلغوا الوحي، والقرآن الكريم إنما وصلنا عن طريق الصحابة، وكذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلتنا عن طريق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم أعلم منا بالكتاب والسنة، فإذا اختلفنا في فهم نص من نصوص الكتاب والسنة؛ فإن الواجب علينا أن ننظر إلى فهم أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين؛ ولهذا كان أصحابه عليه الصلاة والسلام رضي الله عنهم قد اختصوا بصفات عظيمة منها: شدة حرصهم على الحديث النبوي واهتمامهم في تفسيره، فهذا أحدهم يقول وهو يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو هريرة الصحابي المكثر رضي الله عنه قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال له: (لقد ظننت يا أبا هريرة! ألا يسألني عن هذا أحد قبلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، ثم قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). كذلك أيضاً: كان الصحابة أهل علم وفقه، كانوا يسألون رسول الله، وكانت عائشة لا تستشكل شيئاً إلا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وراجعته فيه، وأنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه. إذاً: كانوا حريصين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها وتبليغها، أما تبليغ القرآن فقد تكفل الله بحفظه، وقد كانوا حفظة له مبلغين، ثم حفظ الله هذا القرآن بجمعه وكتابته في عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان رضي الله عنهم. ثم إن هؤلاء الصحابة دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دعا لـ أبي هريرة وكما دعا لـ ابن عباس. ثم إن هؤلاء الصحابة كانوا يحتاطون كثيراً في تحديثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة في الله! إننا حينما نقول: إن من مصادر فهم الكتاب والسنة فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ إنما نقول ذلك لأن هذا يحدد المسار الصحيح لمنهج السلف الصالح رحمهم الله. لقد وجد في زمننا هذا، بل وجد قبل ذلك من يأخذ بنصوص الكتاب والسنة دون أن يرجع إلى فهم السلف الصالح، فأهل البدع قديماً كانوا يأخذون بالكتاب والسنة مع مصادرهم الأخرى من عقولهم، فإذا قيل لهم: إن هذا مخالف لفهم الصحابة والسلف، قالوا: هم رجال ونحن رجال! فوقعوا في الجدال، ووقعوا في التحريف، بل وقعوا في أنواع من التحريف الباطل الذي هو كفر بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الرافضة -عليهم من الله ما يستحقون- إذا تلوت على أحدهم قول الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] قال: أتدري ما اللؤلؤ والمرجان؟ اللؤلؤ والمرجان هما الحسن والحسين، الله يقول: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:19 - 22]، وهذا يقول: الحسن والحسين! وإذا تلوت قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] في قصة موسى وبني إسرائيل؛ قال لك هذا الباطني الرافضي: البقرة هي عائشة رضي الله عنها! وهكذا من دونهم من أهل البدع، يفسرون النصوص بأهوائهم، وفي عصرنا وجد العلمانيون الذين لا يستطيعون رفض التراث -كما يسمونه- لأنهم يعلمون أن الطعن في الكتاب والسنة ردة، ولكن يقولون: نحن لا نفسر القرآن والسنة كما فسرها الصحابة والسلف، فهم رجال ونحن رجال. وهذا وقع كثيراً حيث يأتي أحدهم إلى كتاب الله تعالى ويفسر الآية كما يشاء، فتقول له: لقد أجمع المسلمون على هذا الفهم، ولا يجوز الخروج على إجماعهم، فيقول: لا، لكنني أنا عربي وأفهم! وجاءوا بتأويلات وتحريفات لنصوص الكتاب والسنة حتى ضاع الدين، وحتى حولت العلمنة الإسلام في كثير من بلاد المسلمين إلى دين شكلي، وضاعت الشريعة، فالربا تحول إلى ضرورة اقتصادية بفتاوى من هؤلاء، والخمر سميت بغير اسمها، وعطلت الشريعة وإقامة الحدود وتطبيق أحكام الله في جميع الأمور، وقالوا: هذا لا يمكن تطبيقه في عصرنا الحاضر، وإنما هذا يصلح للعصر البدوي! قرأت لأحد الحداثيين يقول عن حكم السرقة: يجب أن نفهم حكم السرقة فهماً عصرياً حديثاً، ويجب أن نرجع إلى أسباب النزول، قال: نزلت آية السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، والعرب كانوا بدواً رحلاً ليس عندهم سجون ثابتة؛ لذلك عدلوا عن السجن إلى قطع اليد، لكن في عصرنا الحاضر بنيت الفلل والبيوت والخرسانة المسلحة؛ فينبغي لنا أن نرجع إلى الأصل فنعدل عن قطع يد السارق إلى السجن! أرأيتم إلى فهم هذا الحداثي! وهو أستاذ الحداثيين في بلادنا. أيها الإخوة! إننا حينما نعدل عن فهم السلف الصالح ونترك الحبل على غاربه لكل من يريد أن يفتي بلا علم شرعي؛ يتحول إسلامنا وديننا إلى أن يكون إسلاماً أملس شكلياً، وأعداؤنا يريدون أن يكون إسلامنا شكلياً، لكن يجب أن نعود إلى أصول العقيدة، وأن نرجع إلى المنهج الصحيح في فهم هذه العقيدة وفي تطبيقها، وإن غضب الكثير الكثير من بني جلدتنا وأبناء عمومتنا.

أولا: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

أولاً: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أولها: أن المصدر الأساس لهذه العقيدة: هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رتب الله عليهما الإيمان في مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وتحكيم الرسول إنما هو تحكيم لما جاء به من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، لا يتبعون المتشابه، ولا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما قال ربنا تبارك وتعالى عن المنافقين: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، الكتاب والسنة هما مصدر العقيدة، فكتاب الله {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لذلك الكتاب، ومن ثم فإننا نأخذ عقيدتنا من الكتاب والسنة، فإن أعظم مصدر للعقيدة هو الكتاب، ووالله لو تأملنا كتاب الله تعالى لوجدنا فيه القضايا العقدية المتعددة، سواء ما يتعلق بتوحيد الربوبية، أو الألوهية، أو الأسماء والصفات، أو الإيمان بالقضاء والقدر أو الإيمان باليوم الآخر، أو بالرسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ففي هذا القرآن ما يشفي الصدور، ويعمر القلوب، ويغذي النفوس بعقيدة صالحة. ثم بعد ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله أن الله هيأ لهذه الأمة من يمحص سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويميز صحيحها من ضعيفها؛ فجاءتنا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صافية، صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، صحيح مسلم هو الكتاب الثاني بعد صحيح البخاري، فكل ما فيهما من الأحاديث صحيحة، وهل فيهما عقيدة؟ نعم والله! فيهما عقيدة، بل أبواب من أبواب العقيدة، في صحيح البخاري تجد كتاب الإيمان، تجد كتاب التوحيد، تجد كتاب القدر، تجد كتاب الفضائل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد كتاب بدأ الخلق، تجد كتاب القيامة وما فيها، والجنة وما فيها، أبواب وكتب في صحيح البخاري، وكذلك أيضاً في صحيح مسلم، وكذلك أيضاً في غيرهما من السنن والمسانيد، وكل ذلك عقيدة صافية ممحصة. فنحن نجعل هذا الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدر؛ ولهذا أيها الإخوة في الله! سئل الزهري -الإمام المشهور- عن قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود)، ما معناه؟ فأجاب بجواب يبين كيف نتعامل مع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، نسلم بما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، فإذا اختلفنا في شيء فإلى من نرده؟ هل إلى أهواء البشر وإلى قوانين البشر وإلى عادات البشر؟ لا، بل نرد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه عقيدة، فإذا اختلفت الأهواء وتعددت البدع فإلى من نتحاكم؟ نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لنميز المنهج الصحيح من غيره، وحين تختلف الأمة في أحكام الحوادث النازلة بها، فيجب عليها عقيدة أن تتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وغيرها من الآيات التي تأمر بالتحاكم إلى الكتاب والسنة، يقول شيخ الإسلام: وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق -انتبهوا! - بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب. المنافقون يريدون التوفيق بين نصوص الوحي وبين أهوائهم، يريدون التوفيق بين العقل وبين النقل، يريدون التوفيق بين نصوص الشرع وبين السياسات الجائرة والقوانين الوضعية، فماذا يقول الله عنهم؟ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62]، ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق، فبين الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء منافقون. أيها الإخوة في الله! ومن هنا فإن التنازع يجب أن يرد حين يقع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن الناس تجاه الكتاب والسنة ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: يقبل الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً. القسم الثاني: يقبله ظاهرا ًولكنه يرده باطناً، وهؤلاء هم المنافقون الذين يقولون: نحن نريد الكتاب والسنة، ونعتمد على الكتاب والسنة، ونريد أن تكون عقيدتنا قائمة على الكتاب والسنة، لكنهم في الباطن مخالفون لهذا، ويجلسون مع أعداء الله من المنافقين ومن غيرهم ويقولون لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. القسم الثالث: من رده ظاهراً وباطناً، وهؤلاء هم الكفار. القسم الرابع: من قبله باطناً، ولكنه جحده ظاهراً لأمر طرأ عليه، وهذا قد يقع لبعض المستضعفين الذين أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. أيها الإخوة في الله! إن المصدر الأساس لهذه العقيدة هو الكتاب والسنة، وفي الكتاب والسنة ما يغني ويكفي والحمد لله.

السنة تشمل المتواتر وما صح من الآحاد

السنة تشمل المتواتر وما صح من الآحاد قد أشرت إلى أن مصدر العقيدة هو الكتاب والسنة، والسنة في منهاج السلف الصالح: هي كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فلم يكن السلف الصالح رحمهم الله تعالى يفرقون بين ما هو متواتر وآحاد، وعلماء الحديث يقسمون الحديث إلى قسمين: متواتر: وهو ما رواه جمع عن جمع يستحيل عليهم الكذب. والآحاد: وهو ما دون ذلك، إما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر لكن لم يبلغ حد التواتر. منهاج السلف الصالح أنهم يحتجون بالأحاديث إذا صحت دون أن يفرقوا بين المتواتر وغير المتواتر، لكن أهل البدع من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم قالوا: إن أخبار الآحاد تفيد الظن فلا يحتج بها في باب الاعتقاد، ونقول لهم: إن هذا ضلال وانحراف، ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون هذا التفريق بين أحاديث الآحاد وغيرها، ولم يكونوا يميزون بين العقيدة والأحكام، بل يأخذون بأحاديث الآحاد سواء كانت مما ترتب عليه حكم شرعي أو كان خبراً عن الله أو خبراً عن اليوم الآخر، أو أي قضية من قضايا العصر؛ ولهذا فإن منهج السلف الصالح رحمهم الله أن الحديث الصحيح إذا ثبت وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يفيد العلم، ويحتج به في باب العقيدة كما يحتج به في باب الأحكام الشرعية، والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا يتلقون الحديث ولو كان آحاداً، ولم يكونوا يفرقون بين ما هو عقيدة وما هو شريعة، فالصحابة وصدقوا بأحاديث عذاب القبر وهي أحاديث آحاد ليست متواترة، صدقوا بالأحاديث المتعددة المتعلقة بحوض النبي صلى الله عليه وسلم أو بالميزان أو بالصراط أو حتى فيما يتعلق ببعض صفات الله تعالى، وأثبتوها وإن كانت أحاديث آحاد ليست متواترة، لم يكونوا يفرقون بين هذا وهذا، النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، ولما بعثه علمه كيف يدعو فقال له: (يا معاذ إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، فهل قال المسلمون هناك في اليمن لـ معاذ: أنت أتيتنا بعقيدة أنه لا إله إلا الله، لكنك واحد، وهذا خبر آحاد لا نقبل هذا حتى يأتي معك جمع؟! لم يفعلوا ذلك، وإنما استجابوا لـ معاذ. وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الآحاد إلى الملوك وإلى القبائل معلمين لهم العقيدة شارحين لها، وكان أولئك يتقبلونها دون أن يفرقوا بين العقائد والأحكام. إذاً: ما عليه أهل البدع من المعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة وغيرهم من الطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مخالف تمام المخالفة لمنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

تحصيل الخوف من الله تعالى

تحصيل الخوف من الله تعالى Q أنا طالب علم أعرف كثيراً من الأحكام الشرعية، ولكنني أجد نفسي ضعيفاً في فعل الواجبات وترك المحرمات، فكيف أنمي في نفسي الخوف من الله عز وجل؟ A ندعو الله لك ولنا وللحاضرين، أن يقوي إيماننا، فكلنا نمر بهذا الضعف الذي تمر فيه، كلنا نمر بهذا ونقع في المحرم، ولهذا فإنني أقول لك أولاً: لا يدخل عليك الشيطان لييئسك من رحمة الله، الشيطان على الإنسان حريص يريد أن يضله، وله مع الإنسان في المعصية مرحلتان خبيثتان، إحداهما: قبل المعصية، يأتيه الشيطان ويزين له المعصية: هذه بسيطة وسهلة! ولا يدري عنك أحد! ولا كذا ولا كذا إلى آخره، حتى يورط الإنسان فيقع في المعصية، فإذا ما وقع في المعصية أتاه الشيطان مرة أخرى بطريقة ماكرة خبيثة، فقال له: أتدري ماذا صنعت؟ إنك فعلت كذا وكذا، إنك أغضبت الله، إنك إنسان منافق لا تصلح للإيمان، إنك إنسان يظن الناس فيك الخير لكنك خبيث النفس! ولا يزال به حتى ييئسه من رحمة الله! انظر كيف الخبث، قبل المعصية يزينها له، وبعد المعصية ييئسه من رحمة الله تبارك وتعالى؛ ولذلك فإنني أنصحك أولاً: ألا تخضع للشيطان لتقع في اليأس من رحمة الله. ثانياً: أن تبحث عن الوسائل التي تقوي إيمانك وأنت في هذه الحالة، والمريض أدرى بنفسه وبعلاجه، ابحث عن العلاج، الأدوية موجودة، القرآن شفاء، السنة النبوية نور، مجالسة الصالحين تقوي الإيمان، وعبادة الله ترفع الإنسان درجات وتقوي إيمانه، ذكر الله على كل حال يقوي إيمانك، الأدوية موجودة ومتوافرة والحمد لله، فابحث عما يصلح لك ويقوي إيمانك، وأنا أقول لك: إن هذه الأدوية تتفاوت فابحث عن الدواء الناجح، بعض الناس إذا قرأ القرآن استراح قلبه وقوي إيمانه، لكن بعض الناس إذا أخذ يقرأ القرآن أتاه وتسلط عليه الشيطان؛ فليبحث عن دواء آخر، ليبحث مثلاً عن الأخ الوفي الصادق الصالح ليجالسه كما قال عمر بن الخطاب لولا ثلاث لما أحببت البقاء في الدنيا -وذكر اثنين ثم قال:- وأناس يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب التمر، فاجلس معه، فإنك ربما تأتيه وأنت ضائق الصدر فتجده مرتاحاً، تجده مشمراً، عنده تفاعل عظيم وثقة في الله، فإذا ما جلست معه وتحدثت وإياه تأثرت به، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يقول لأخيه: يا فلان! تعال اجلس بنا نؤمن ساعة، لما يجد من أثر الأخوة الصادقة، فابحث عن هذه العلاجات وادع ربك، فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأن العبد إذا تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه باعاً، وإذا أتى الله يمشي أتاه هرولة، ولا يزال العبد يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه الله، فإذا أحبه الله فما أعظم سعادته! يتحول إلى إنسان رباني، تتحول حياته كلها إلى طاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هؤلاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

حكم تعليق الخيوط على البطون مع اعتقاد نفعها

حكم تعليق الخيوط على البطون مع اعتقاد نفعها Q بعض الناس يعلقون سيوراً على بطونهم، ويعتقدون أنها تنفعهم، فما حكم من فعل ذلك جهلاً، أفيدونا أفادكم الله؟ A هذه من التمائم، وهي من الشرك، وقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمها واضح، ونحن نقول: من علقها جهلاً يجب أن يعلم، فإذا رأى الإنسان شخصاً علق سلسلة في يده أو حلقة في عضده أو حبلاً أو سيراً على بطنه من جلد أو غير ذلك فهذه من التمائم التي هي شرك، وهذه التمائم إن اعتقد صاحبها أنها بذاتها تدفع عنه من دون الله فهذا شرك أكبر، لكن إن اعتقد أن الذي يرفع الضر أو المرض هو الله لكنها سبب، فهذا شرك أصغر، يخاف على صاحبه من العذاب.

الضابط في معرفة إجماع السلف

الضابط في معرفة إجماع السلف Q فضيلة الشيخ! لقد أشكل علي فهم المصدر الثالث وهو الإجماع، فهل المقصود به إجماع الصحابة أم إجماع من بعدهم حتى إجماع علمائنا في هذا العصر؟ A الإجماع يشمل العقيدة والأحكام، كانت هناك أحكام مجمع عليها في عهد الصحابة، أحكام شرعية في الصلاة والزكاة والحج والطلاق وغيرها، وكانت هناك أشياء وأمور أجمع عليها التابعون، وهناك أمور أجمع عليها العلماء في القرن الثالث، على خلاف بين العلماء في حجية الإجماع، فهذا إجماع في باب الأحكام الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية تقبل الاختلاف، ويختلف فيها نظر المجتهد، والصحابة اختلفوا، ومن ثم وجدت المذاهب الفقهية، فقيل المذهب الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي، ولم ينقطع الاجتهاد إلى عصرنا الحاضر، فلا يزال الاجتهاد قائماً لأهل الاجتهاد، فهم يجتهدون في المسائل، فإذا وقع الإجماع في أي عصر من العصور فإنه يكون حجة، ولا يجوز لأحد أن يخالفه. القضية الثانية: الإجماع في قضايا العقيدة، قضايا العقيدة ما فيها خلاف؛ ولهذا فإن الذي يخالف في العقيدة مبتدع، ليس لنا أن نقول: هل استوى الله على العرش؟ فيها قولان: قيل: يثبت أنه استوى، وقيل: استولى! ليس عندنا هذا، ما عندنا إلا قول واحد أجمع عليه السلف ألا وهو: أن الله استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، ومن قال: استولى أو نفى العلو فهو ظالم؛ لهذا فإنا نقول: إجماع الصحابة حتى نحتج على أهل البدع، فإن العقيدة أجمع عليها الصحابة ولم يختلفوا إلا في أمور يسيرة قابلة للاجتهاد، مثل هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج بأم عينيه أم لا؟ اختلف الصحابة في هذه المسألة، والقول الصحيح أنه لم يره بأم عينيه، والصحابي الذي قال: رآه بأم عينيه رجع عن هذا القول. إذاً: ما أجمع عليه الصحابة في أمور الاعتقاد، وما أجمع عليه السلف الصالح يحدد فهمنا للنصوص المتعلقة بالعقيدة، وهذا الإجماع حجة؛ ولذلك لا يأتي أحد الآن ينكر قضية من القضايا المتعلقة بأسماء الله أو صفاته أو الإيمان باليوم الآخر أو الملائكة، وهي أخبار غيبية واردة وموجودة نصوصها، ولا تختلف فيها النصوص، ولا يختلف فيها الصحابة، فلا يأتي أحد في يوم من الأيام ويقول: هل في هذه المسألة أقوال، ومن ثم فإننا نقول: ما أجمع عليه الصحابة وكذلك أيضاً ما أجمع عليه السلف الصالح في القرون المفضلة الثلاثة فهو حجة، من جاء بعدهم يوزن وتوزن أقواله بأقوال هؤلاء؛ ولذلك فإننا نعتبر المخالف من أهل البدع، مثلاً: الصحابة أجمعوا على الإيمان بالقضاء والقدر، ووجد في آخر زمن الصحابة من يقول: إن الأمر أنف، لم يسبق لله فيه علم، فهل نقول: هذا فيه خلاف وليس فيه إجماع؟! الصحابة أجمعوا على الإيمان بالقضاء والقدر، وخلاف هؤلاء لا يعتد به، ومن ثم فإن هذا هو الإجماع الذي يعتمد، ثم في القرن الرابع نشأ المذهب الأشعري، أو نشأ المذهب الماتريدي، أو نشأ مذهب الكرامية، أو غيرهم من أهل البدع، فإذا جاء أحدهم يقول: أنا عندي العالم الفلاني يقول: كذا وكذا ينفي العلو أو ينفي صفة من صفات الله أو نحو ذلك، فماذا نقول له؟ أنقول له: المسألة خلافية؛ لأن القضية اختلف فيها في القرن الرابع أو الخامس، وما دام قال العالم الفلاني كذا والعالم الفلاني كذا، فالمسألة خلافية، وكل واحد له اجتهاده، ومن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر؟! لا فهذه القضية لم يختلف فيها الصحابة، أجمع عليها الصحابة وإجماعهم حجة، فنقول: ائتني بدليل أو بقول واحد من هؤلاء يقول بقول هذا العالم! ولهذا قال العلماء حتى في باب الأحكام الشرعية: إن العلماء إذا أجمعوا على عمل لا يجوز لمن بعد زمنهم أن يخالف فيه، كذلك نحن نقول: أجمع الصحابة وأجمع السلف الصالح من القرون المفضلة على هذه العقيدة وعلى فهمها الصحيح، فمن جاء في القرن الرابع أو الخامس أو السادس أو العاشر أو الرابع عشر أو الخامس عشر ليقول بقول مخالف لهذا فإننا نرد قوله؛ لأنه مخالف لإجماع السلف.

الكتب والمتون التي ينصح بدراستها وحفظها

الكتب والمتون التي ينصح بدراستها وحفظها Q ما هي المتون التي ترشدنا إلى أن نحفظها في هذه العقيدة العظيمة؟ A لقد بينا أن مصدر العقيدة هو الكتاب والسنة؛ لذلك فإننا نقول: إن الذي يجب أن يعتمد عليه الإنسان أولاً في العقيدة هو مصدرها الأصلي، ارجع إلى الكتاب والسنة، والإنسان إذا وفق لحفظ كتاب الله أو حفظ ما تيسر منه، وواظب على تلاوة هذا الكتاب العظيم، ينبغي له أن يتجه أيضاً إلى الحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ منها ما شاء الله، وهذا الإنسان بدون شك أنه يرجع إلى حفظه ذلك؛ لذلك فأي مصدر آخر وأي كتاب آخر سنذكره فهو يرجع إلى الكتاب والسنة. وإذا أردت أيها السائل تحديداً للكتاب الذي ترى أن ترجع إليه في باب العقيدة فأقول: إن كتب العقيدة كثيرة والحمد لله، فارجع أولاً بعد الكتاب والسنة إلى كتب السنة التي تبين عقيدة السلف، ثم إلى كتب الأئمة الذين شرحوا وبينوا هذه العقيدة، مثل كتب ابن قتيبة، وكتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، وكتاب السنة للالكائي، وكتاب العلو للذهبي، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب التوحيد لـ ابن مندة، وكتاب الإيمان لـ ابن مندة، وكتاب الدارمي في الرد على الجهمية. وفي العصور التي تلت ذلك ارجع إلى كتب شيخ الإسلام، وبالأخص ما تجده في مجموع الفتاوى في المجلدات الأولى، فإن فيها العقيدة الواسطية، والتدمرية، والحموية، والمراكشية، وكتاب شرح الأصفهانية ليست موجودة فيها لكن هي مطبوعة مستقلة، وهذه الكتب لـ شيخ الإسلام هي كتب ذات منهج سليم في بيان عقيدة السلف الصالح رحمهم الله. وفي العصر الحاضر ارجع إلى كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وإلى شروحه، ومن أفضلها فتح المجيد، وإلى شرح العقيدة الواسطية للشيخ الفوزان أو للشيخ العثيمين أو لغيرهما من الفضلاء، فإن شروحها كثيرة، الشيخ عبد العزيز السلمان له شرح، والشيخ ناصر الرشيد له شرح، والشيخ زيد الفياض له شرح، فكل واحد من هذه الشروح كاف، وقد أجاد فيها أصحابها وفقهم الله جميعاً، وهي على منهاج السلف الصالح. ولابد أن تجمع بين كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرحه وبين الواسطية؛ لتجمع بين شرح توحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات. وأوصيك أخيراً بكتابين أحدهما: كتاب طيب جداً يصلح للمبتدئين من طلبة العلم، ألا وهو أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ حكمي فإنه أتى به على صيغة السؤال والجواب بما يقارب المائتي سؤال، وهو كتاب مبسط ممتاز، وهو -والحمد لله- مطبوع ومنتشر. الكتاب الثاني -وهو كتاب واسع الانتشار- ألا وهو معارج القبول للشيخ حافظ حكمي أيضاً، وهذا الكتاب متكامل فيه شرح لعقيدة السلف وتوضيح لها بشكل ممتاز جداً، شرح توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد الألوهية وما يضاده ومسائله والشرك وأنواعه والنفاق، شرح هذه الأمور بشكل ممتاز جداً فارجعوا إليه، والكتاب الأول (أعلام السنة) يكاد أن يكون مختصراً لهذا الكتاب، والكتب كثيرة يكفي منها ما ذكرناه. أما بالنسبة للمتون التي سأل عنها الأخ فإنها -والحمد لله- كثيرة، لكن أوصي بثلاثة متون أحدها: العقيدة الواسطية، الثاني: لمعة الاعتقاد، الثالث: سلم الوصول للشيخ حافظ حكمي، والأولان نثريان، أما الثالث -وهو سلم الوصول- فهو نظم، وهو الذي شرحه الشيخ حافظ حكمي في كتابه معارج القبول، وسلم الوصول يمتاز بتكامله وشموله للعقيدة وسهولته ووضوحه، وهناك متون مفيدة كثيرة.

حلقات تعليمية - السيرة النبوية في العهد المدني - غزوة تبوك

حلقات تعليمية - السيرة النبوية في العهد المدني - غزوة تبوك غزوة تبوك هي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لاقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المشاق والمتاعب، وعانوا من قلّة الظهر والزاد، ولهذا سميت غزوة العسرة، ولذلك ففيها دروس وعبر عظيمة، ومن خلالها ظهرت حكم وتشريعات جليلة.

غزوة تبوك مواقفها ودروسها

غزوة تبوك مواقفها ودروسها

سبب تسمية غزوة تبوك بهذا الاسم

سبب تسمية غزوة تبوك بهذا الاسم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فموضوع هذا الدرس عن آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي غزوة تبوك، وإن الإنسان لينظر اليوم إلى حال إلى الأمة الإسلامية فيرى عجباً، ويقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيرى فيها من العبر والعظات ما يجعل اقتفاء أثر تلك السيرة أمراً واجباًً علينا جميعاً، وحديثنا عن هذه الغزوة -إن شاء الله تعالى- سيكون حديثاً موجزاً؛ لأن هذه الغزوة تحتاج إلى عدد من الدروس، وما دمنا سنوجز فسنضطر أحياناً إلى الاختصار، سواء كان في السياق أو في بعض الدروس. وأقول في البداية: إن أول قضية سنعرض لها هو مجمل مختصر لسياق هذه الغزوة: هذه الغزوة سميت بغزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم متوجهاً إلى جهة الشام وكان في منطقة المنتصف بين المدينة ودمشق تقريباً قال صلى الله عليه وسلم: (إنا قادمون غداً إلى عين، فمن وصل منكم إليها فلا يمسها)، ولكن سبق إليها اثنان فمساها، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على العين وجدها تسرب سرباً ضعيفاً، فقال للرجلين: (هل مسستماها؟ قالا: نعم. فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد كانا يبوكانها -أي: يحركانها- ليزداد ماؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تمس حتى تبقى عيناً فائضة، فسميت الغزوة من هذه الحادثة؛ لأنهما كانا يبوكان العين، أي: يحركانها.

تاريخ وقوع غزوة تبوك

تاريخ وقوع غزوة تبوك وهذه الغزوة كانت سنة تسع من الهجرة في شهر رجب، وكانت في وقت القيظ والحر الشديد، حتى قال الواصفون لها: إن الحر كان قد اشتد، وطابت الظلال والثمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يتأهبوا لغزو الروم، والروم في عرف ذلك الزمان كانت أقوى دولة في العالم، سواء من جهة موقعها الجغرافي، أو من جهة نفوذها، فقد كانت متنفذة على كثير من نصارى العرب في شمال الجزيرة، بل وفي جنوبها. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالنفير، ولما كان الأمر كذلك، وكان النفاق قد اشرأب- كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى- أخذ يتباطأ بعض المنافقين، وأخذ المسلمون الصادقون يتهيئون للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحظ على النفقة، فأنفق الصحابة ما لديهم من مال، وتنافسوا في ذلك، ثم تجمع ذلك الجيش الكبير الذي بلغ -على أصح الروايات- أكثر من ثلاثين ألفاً، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الجيش قاصداً الروم في بلاد الشام. وفي أثناء سيره صلى الله عليه وسلم جرت له معجزات، وجرت له أحداث كثيرة جداً، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما وصل بجيشه إلى عين تبوك أقام في تلك العين قرابة عشرين يوماً، ولم يلق قتالاً، وإنما أرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل، فغزاه خالد بن الوليد، وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحه على أن يدفع الجزية، ثم صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب أيلة، وأهل جرباء، وأذرح، وأعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، أما الروم فإنهم لم يقع بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد أن بقي تلك المدة رجع إلى المدينة النبوية ظافراً منتصراً قد أظهر هيبة الإسلام أمام الروم وأمام غيرهم.

سبب غزوة تبوك، وسبب تسميتها بغزوة العسرة

سبب غزوة تبوك، وسبب تسميتها بغزوة العسرة كان للمسلمين في هذه الغزوة العظيمة دروس وأي دروس! ولما كان استعراض تلك الغزوة يطول بنا فإننا آثرنا أن نقف بعد هذا العرض الموجز السريع عدة وقفات تبين شيئاً من أحداثها. وأول وقفة نشير إليها هنا هي: سبب هذه الغزوة، ولماذا سميت بغزوة العسرة؟ قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة:117]. وقد ذكرت عدة أسباب لهذه الغزوة، لكن المتأمل لها يجد أنها أسباب ضعيفة. فقد قيل: إن نصارى العرب قالوا لـ هرقل: إن هذا النبي قد مات، فأدرك دينك واهجم على جزيرة العرب. فاستعد هرقل لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الجزيرة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قتالهم. وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أنك ذهبت إلى بلاد الشام لأنها بلد الأنبياء وبلد المحشر. فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هناك استجابةً لقول هؤلاء، ونزل في ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:76]، ولكن أيضاً هذا القول ضعيف؛ إذ كيف يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من يهود وهو يعرف كذبهم وخداعهم؟ كذلك أيضاً قيل: إن الروم جمعوا جموعاً لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الرسول أن يواجههم هناك. كذلك أيضاً قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما غزا هذه الغزوة ثأراً لابن عمه جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة. وكل هذه الأقوال ليس لها سند صحيح، فكل هذه الأسباب إما أسباب ضعيفة، وإما أسباب باطلة لا تليق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي السؤال هنا: إذاً ما هو سبب هذه الغزوة؟ و A الحقيقة أن المتأمل لأحداثها ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد يجد أن سبب هذه الغزوة هو مشروعية الجهاد في سبيل الله، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم أصحابه من بعده، وأراد أن يعلم هذه الأمة أنه لابد من الجهاد في سبيل الله امتثالاً لقول الله تعالى: {َوقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]. وامتثالاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة الروم لإثبات أن هذا الدين هو الدين الحق، وأن هذا الدين هو الذي يجب أن يسود في الأرض، وأن المسلمين واجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله، وأن لا يتركوا الجهاد أبداً، ومن ثَّم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا). إذاً: هو تخطيط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخطيط دقيق في آخر غزوة غزاها، حيث أراد أن يعلَّم المسلمين أن الإسلام وأن الفتوحات يجب أن تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الذي فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما توقفوا رضي الله عنهم بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في مكان، وإنما امتدت الفتوحات إلى بلاد فارس، وإلى بلاد الروم، وإلى مصر، وإلى مشارق الأرض ومغاربها، وصلوا إليها فاتحين مجاهدين في سبيل الله، ينشرون العدل والتوحيد والإيمان والحكم الإسلامي الذي يبنى على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حين تخضع البلاد لحكم المسلمين ولهيمنتهم لا إكراه في الدين بالنسبة لأهل الكتاب في غير جزيرة العرب، ولهذا فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة علم أمته ذلك. وهذه الغزوة سميت غزوة العسرة؛ لأنها تميزت بجوانب مختلفة عن غيرها من الغزوات، ومن ذلك: أولاً: أنها كانت في شدة الحر، وفي لهيب القيظ المحرق، ولقد وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما وجدوه، حتى قال قتادة: خرجوا إلى الشام في تبوك في لهيب الحر على ما يعلم الله من الجهد، حتى ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، وهكذا. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فنزلنا منزلاً، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع من شدة الحر). ثانياً: أنه كان في هذه الغزوة سفر بعيد، وليست غزوة يصلون إليها خلال يوم أو يومين، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42]، فكان السفر بعيداً. ثالثاً: أن العدو خطير، وهو الروم بجيوشهم وعتادهم وسلطانهم ونفوذهم، ولقد كانت قلوب المنافقين تتقطع في المدينة خوفاً من مواجهة الروم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. رابعاً: أن الجيش الإسلامي كان جيشاً ضخماً يحتاج إلى مؤن، ويحتاج إلى استعداد، والمسلمون في غاية الحاجة والفقر. ولهذه الأسباب كانت هذه الغزوة غزوة عسرة، وقد تربى فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيما تربية، ولهذا كانت هذه الغزوة فيها من العبر وفيها من الدروس وفيها من مواقع التربية الشيء الكثير.

بعض دلائل النبوة التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك

بعض دلائل النبوة التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك الوقفة الثانية: الآيات ودلائل النبوة التي وقعت في هذه الغزوة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الغزوة التي اشرأب فيها النفاق يؤيده الله سبحانه وتعالى بأنواع من المعجزات، ونذكر نماذج من ذلك: ففي بعض الأماكن وهم في سيرهم إلى تبوك أصبح المسلمون ولا ماء، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، فنشأت سحابة في الحال فأمطرت المسلمين حتى ارتووا، وكان ذلك آية من آيات صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ستهب في هذه الليلة ريح، فلا يخرجن أحدكم إلا ومعه رفيق له)، فهبت تلك الريح في تلك الليلة، والتزم المسلمون بذلك الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنين منهم، حيث ذهب واحد منهم وحده ليقضي حاجته، فأصيب بالخنق وهو يقضي حاجته فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد فشفي. وأما الثاني فحملته الريح إلى جبال طيء، ثم فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فدا الأسرى فيما بعد. كذلك أيضاً من الآيات المعجزات أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته، وبحث الصحابة عنها فلم يجدوها، فتكلم المنافقون وقالوا: هذا رسول الله يزعم أنه يوحى إليه من السماء ولا يدري أين ناقته، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله! إني بشر لا أعلم إلا ما يوحي الله إلي، وإن الله قد أوحى إلي الآن أن ناقتي في وادي كذا قد حبس خطامها في جذع شجرة)، فذهب الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الوادي فوجدوها كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها أيضاً أن المسلمين أصبحوا ولا ماء عندهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوه بماء قليل، فوضع يده المباركة فيه فنبع الماء من بين يديه عليه الصلاة والسلام. إنها آيات بينات، ومعجزات ودلائل تضيء لمن استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق خاصة في هذه الغزوة العظيمة التي بلغ فيها الجهد من المسلمين مبلغاً عظيماً، ولهذا كان من تلك الآيات البينات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل قال له الرسول: (إنك ستجد أكيدر يصيد البقر)، أي: بقر الوحش. يقول أكيدر نفسه: فلما كان من الليل سمعت البقر- أي: بقر الوحش- تضرب بقرونها باب القصر. تصور الغزلان التي تستوحش من كل شيء جاءت إلى باب القصر لتضرب بقرونها، فقالت له زوجته: يا أكيدر! أما تسمع؟ إن هذا لعجب! فقال لها: نعم. قالت: وهل يترك هذا؟ فحمل على فرسه، وأخذ معه بعضاً من أهل بيته، وذهب ليلحق ببقر الوحش فإذا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه قد أقبل عليه فأمسك به. ومنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بأنواع من علامات الساعة، ففي هذه الغزوة أخبرهم ببعض العلامات، وذكر منها موته عليه الصلاة والسلام، وفتح بيت المقدس، وذكر منها: (موتان يصيب الناس كقعاص الغنم). وذكر منها: (أن المال يكثر حتى يعطى الرجل مائة دينار ولا يزال ساخطاً). وذكر منها هدنة تكون بين المسلمين وبين بني الأصفر، كما أنه أيضاً قال عن عين تبوك: (لئن طال بك المقام لتجدن هذا المكان عيناً معيناً)، وهذا مشابه لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الآخر أنه: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً)، وهذا في صحيح مسلم.

بروز خطر النفاق في غزوة تبوك

بروز خطر النفاق في غزوة تبوك الوقفة الثالثة: هي أهم وقفة مع غزوة تبوك وأعظمها وأخطرها، ألا وهي بروز النفاق وخطره في هذه الغزوة. ونحن نعلم جميعاً أن النفاق إنما يوجد ويكثر ويشتد خطره حينما تكون مع المسلمين العزة والنصر، ففي مكة لما كان المسلمون مستضعفين لم يكن هناك منافقون، لكن لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وضرب الجاهلية والمشركين ضربته الكبرى في غزوة بدر بدأ النفاق، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: هذا أمر قد توجه. وأظهر نفاقه. ثم بعد ذلك ما زال النفاق ينقص قليلاً قليلاً حتى فتح الله على رسوله مكة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ودخلت القبائل في دين الله تعالى، فاعتز الإسلام وجاء نصر الله سبحانه وتعالى، فبدأ النفاق مرحلة جديدة. أيها الأخ في الله! إن من أخطر ما يمر بالمسلمين اليوم -والأخطار كثيرة- خطر النفاق الذي يتظاهر أصحابه بالإسلام وهم يحاربونه في الخفاء، ولهذا فإننا سنقف وقفات مع بعض أحداث هذه الغزوة، وننظر ماذا فعل المنافقون في هذه الغزوة، وسأقسم الكلام على النفاق إلى قسمين: القسم الأول: مواقف وأحداث من جانب المنافقين. والقسم الثاني: قصة مسجد الضرار.

قصة مسجد الضرار

قصة مسجد الضرار أما القسم الثاني فيما يتعلق بالمنافقين فهي تلك القصة العجيبة الغريبة المتعلقة بمسجد الضرار، ومسجد الضرار هذا مسجد بناه المنافقون قبل ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، حيث كان هناك رجل نصراني عربي اسمه أبو عامر الراهب؛ سمي الراهب لأنه كان نصرانياً، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، فهذا النصراني ذهب إلى هرقل ملك الروم وجلس معه يخططان لضرب المسلمين في داخل الجزيرة العربية، واتفقا على خطة معينة، فقال أبو عامر الراهب، لمن يسير على خطاه من المنافقين في المدينة: إنني لا أستطيع أن أرسل لكم الرسل يفضحون ويُعلم بحالهم، فما رأيكم لو أنكم بنيتم مسجداً؟ هذا المسجد يكون ظاهره أنه للصلاة، ولا يشك أحد فيه، ويكون في الحقيقة مكاناً نجتمع فيه، وإذا أرسلت إليكم رسولاً يجدكم في ذلك المسجد. فبنوا المسجد، وأتى المنافقون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! إنا بنينا مسجداً للضعفة، وللناس في الليلة المطيرة والشاتية، وإننا نريد منك -يا رسول الله- أن تصلي فيه، يريدون أن يجعلوا من صلاة رسول الله صلى الله علي وسلم شهادة لهم وتغطية للدور الحقيقي الخفي الذي يريدون أن يقوم به هذا المسجد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمه الله من أن يصلي فيه، فقال لهم: (إنا مسافرون غداً إلى تبوك، ونصلي فيه إذا رجعنا إن شاء الله)، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أعلمه الله بحقيقة هذا المسجد، وأنزل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:107 - 110]. فلما نزلت هذه الآيات أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً من الصحابة إلى ذلك المسجد فأمر بهدمه وإحراقه بما فيه. وهكذا حال مساجد الضرار التي ظاهرها للصلاة وللخير والدعوة، ولكن في باطنها ضرارٌ وكفرٌ وتفريقٌ بين المؤمنين وإرصادٌ لمن حارب الله ورسوله من قبل، وما أكثر مساجد الضرار في عالم المسلمين اليوم! وما أشد حاجتنا وحاجة المسلمين إلى أن نتدبر هذا الأمر ونتدبر هذه العظة من هذه الغزوة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: لأنه مسجد تعالوا لنغير القائمين على المسجد ونضع فيه إماماً من عندنا ومؤذناً من عندنا. وإنما أمر بإحراقه؛ لأنه بني على أساس فاسد، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه أن ما أنشئ لغير وجه الله لا يكون فيه الخير أبداً.

إرادة المنافقين قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك

إرادة المنافقين قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك وأخطر حادثة وقعت في هذه الغزوة هي ما فعلوه عند رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع منها وصل به المسير إلى عقبة، فتجمع عدد من المنافقين يزيدون عن العشرة وتلثموا، ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقود ناقته حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، فلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة يريدون قتله، فلما رآهم عمار بن ياسر لحق بهم وصار يطاردهم بحربته حتى فروا، فأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا عمار -وفي رواية: يا حذيفة! - هل تعلم القوم؟ قال: لا؛ إنهم كانوا ملثمين. فقال: هل تعلم ماذا كانوا يقصدون؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: لقد عزموا على أن يطرحوني في العقبة فيقتلوني). إنهم منافقون، وهكذا كانوا من قصة إلى قصة، ومن حادثة إلى حادثة يتنقلون فيها وهم داخل جيش المسلمين يصنعون ما ذكرنا من النماذج، وما أكثر النفاق في كل زمان وفي كل مكان! خاصةً حينما ترتفع للمسلمين رايةٌ وصحوة.

نماذج من أحداث المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم

نماذج من أحداث المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم لقد وقعت من المنافقين أحداث عجيبة، وهاك نماذج منها: فأول موقف منهم هو أنه لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد صار هؤلاء المنافقون يثبطون المسلمين، ويقولون -كما قال الله تعالى حاكياً عنهم-: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، فكان الواحد منهم يجتمع بالعدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو منافق، ولا يُعلم بأنه منافق؛ لأنه يتظاهر بالإسلام- فيقول لهم: كيف يخرج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحر الشديد؟ الحادثة الثانية: أن بعض المنافقين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني ومن هؤلاء الجد بن قيس الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جد! هل لك في جلاد بني الأصفر؟) فقال الجد بن قيس: يا رسول الله! إنك تعلم أنني مغرم بالنساء، وإنني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن فأفتن عن ديني. فأذن لي يا رسول الله. فأنزل الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] أي أنه قال: إنه يخاف من فتنة النساء وهو كاذب، فسقط في فتنة النفاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا الرجل هو الذي قال لولده -وكان له ولد صحابي فاضل اسمه عبد الله-: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر، فأنا أخالفهم في منزلي فأغزوهم، وإني لعالم بالدوائر! أي: ينتظر الدوائر برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ولده صاحب العقيدة الصلبة: لا والله! ولكنه النفاق، والله لينزلن بك قرآناً. فضربه أبوه ضربة على وجهه بنعله، فانصرف عنه ابنه ولم يكلمه. ومن الحوادث أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتهيأ لتلك الغزوة علم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن غزوة تبوك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم طلحة بن عبيد الله مع نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا ففعل، فاقتحم المنافقون جدران البيت وفروا. ومن الأحداث -أيضاً- أنه كان أولئك المتخلفون عن غزوة تبوك من المنافقين على قسمين: قسم منهم غلبهم الخوف والذعر والجبن والخور، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا بأن يكونوا مع الخوالف، وأذن لهم الرسول مع أنه يعلم نفاقهم، كما قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. وقسم آخر من هؤلاء المنافقين قعدوا ولم يعتذروا، ولا شك أن قعودهم هذا فيه ما فيه من التثبيط للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه. ولم يكتف المنافقون بمثل هذا، بل سار بعضهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجفون بالجيش الإسلامي كلما سنحت فرصة. ومن ذلك أنه لما خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في أهل بيته أرجف المنافقون، فقالوا: ما ترك علي بن أبي طالب إلا استثقالاً له! فلما سمع بذلك علي بن أبي طالب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أسمعت ما يقول أولئك؟! فقال صلى الله عليه وسلم له: أما ترضى -يا علي - أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، فرجع رضي الله عنه وأرضاه راضياً ممتثلاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك أيضاً لمزهم للمتطوعين من المؤمنين في الصدقات، فلما جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه بأربعة آلاف دينار قال المنافقون: ما جاء بها إلا رياءً. ولما جاء صحابي آخر لا يملك إلا صاعين من تمر، فأبقى صاعاً لأولاده طعاماً وأتى بالصاع الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضعه بين يديه قال المنافقون: إن الله ورسوله غنيان عن صاعك هذا، فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79]. ومن ذلك أيضاً أنه كان يقول بعض المنافقين للمسلمين: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟ والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. يقولون هذا إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، ولهذا كان هؤلاء الذين قالوا ما قالوا في أثناء الغزوة يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلص من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:65 - 66]. هكذا كانت أحوال المنافقين، ومن ذلك ما سبق ذكره قبل قليل حين أرجفوا بناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضلت، ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أين هي إلا بعد أن أخبره الله سبحانه وتعالى.

قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك

قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الوقفة الرابعة مع هذه الغزوة وقفة مع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وقصتهم مشهورة رواها البخاري في صحيحه عن كعب بن مالك أحد الثلاثة، ولما كانت القصة معروفة لدى الجميع فإنني أحب أن أقف معها وقفات، فأقول: أولاً: هؤلاء الثلاثة مؤمنون صادقون تخلفوا لأسباب من ضعف الإيمان في ذلك الوقت، وبقوا في المدينة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر من اعتذر من المنافقين، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذرهم، إلا هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما لنا من عذر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر هؤلاء الثلاثة، فهجرهم المسلمون لا يكلمونهم ولا يسلمون عليهم، وجرى لهم ما جرى، حتى أنزل الله عليهم التوبة، فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]. ونحب أن نقف مع قصة هؤلاء الثلاثة عدة وقفات؛ فإننا أحوج ما نكون في هذه الأيام إلى أن نقف هذه الوقفات، فأول هذه الوقفات هي مع أسباب تخلفهم. إن المتأمل لهؤلاء الثلاثة يرى عدة أنواع من الأسباب، أما أولهم -وهو مرارة بن الربيع - فإن سبب تخلفه أنه كان له حائط -بستان جميل-، وكان في ذلك الوقت قد أزهر وأينع وأثمر، فصار ينظر إليه ويتردد هل يذهب مع الرسول أو يبقى مع حائطه حتى فاته الغزو. وأما الثاني -وهو هلال بن أمية - فكان له أهل قد تفرقوا، ففي ذلك الوقت اجتمع أهله وجمع من أقاربه في المدينة، فأحب أن يمكث معهم ويأنس بهم، وتردد في الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاته الغزو. وأما الثالث -وهو: كعب بن مالك - فإن سبب تخلفه هو التردد، فقد كان كل مرة يريد أن يتأهب، ثم يحاول أن يتأهب فما يصنع شيئاً، فيعود مرة ثانية، وهكذا في اليوم الأول والثاني والثالث حتى فاته الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن أحد الصحابة -وهو أبو خيثمة - تداركه الله سبحانه وتعالى برحمته فلم يجعله مع هؤلاء الثلاثة، وإن كانت له قصة مشابهه لقصتهم، فإن أبا خيثمة لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ذهب إلى بيته، فوجد أن زوجتيه قد صنعت كل واحدة منهما عريشاً ورشته بالماء، وأتت بالطعام الطيب، فلما وقف نظر إلى هذه الزوجة وقد أحسنت في صنعها وهيأت أطايب الظلال والثمار، ونظر إلى الأخرى فإذا بها قد صنعت مثل ذلك، فتوقف، واستيقظ الإيمان في قلبه رضي الله عنه فقال: سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح وحر القيظ وأبو خيثمة مع زوجتيه في ظل بارد وثمر طيب، والله لا يكون هذا، والله لا دخلت بيت إحداكن إلا وقد هيأت لي ما أتزود به. ولم يدخل بيت واحدة منهما حتى هيأتا له زاده وراحلته، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما زال يسير ويسير حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في تبوك بين أصحابه، فأقبل رجل من بعيد، فقالوا: يا رسول الله! هذا راكب قد قدم. فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة)، فلما أقبل إذا به أبو خيثمة رضي الله عنه وأرضاه. وقارن بين هذه العزيمة وبين تردد كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكيف جرى لهذا ما جرى رضي الله عنهم أجمعين. الوقفة الثانية مع قصة الثلاثة هي أن هؤلاء خلفوا، ومعنى أنهم خلفوا: أنهم لم يبين حالهم، كما أخبر كعب بن مالك بذلك، أي أن أولئك المنافقين عذرهم الرسول ووكلهم إلى سرائرهم، لكن هؤلاء الثلاثة خلفوا، ولم يحسم ويقطع في الحكم فيهم إلا بعد خمسين ليلة، حيث أنزل الله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، وليس المقصود به: التخلف، كما قد يفهمه بعض الناس من ظاهر الآية. وقد كان في المتخلفين الثلاثة شيخان كبيران، وهما: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد مرور أربعين ليلة هؤلاء الثلاثة بأن يعتزلوا نساءهم قال كعب بن مالك لامرأته: الحقي بأهلك. وهلال بن أمية قال لامرأته: الحقي بأهلك. لكنه كان شيخاً كبيراً، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! هل تأذن لي أن أخدم هلالاً؛ إنه والله ليس له خادم، وهو شيخ ضائع، فهل تكره -يا رسول الله- أن أخدمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، على أن لا يقربك، قالت: وأين هو من ذاك؛ إنه لم يزل يبكي ليلاً ونهاراً). ولهذا فإن هؤلاء الثلاثة الذين امتحنوا هذه المحنة وهجرهم المسلمون جرى لهم من المحنة القاسية ما لا يمكن أن يصفه واصف، فـ هلال بن أمية ومرارة بن الربيع اعتزلا المسلمين، وصارا يبكيان ليلاً ونهاراً، أما كعب بن مالك فكان أجلدهم، وكان يأتي يصلي الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دروس ووقفات في قصة الثلاثة

دروس ووقفات في قصة الثلاثة هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى لهم ما جرى أنزل الله سبحانه وتعالى توبتهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ومن الواجب أن يقف الإنسان مع هذه الدروس وقفات.

أهمية الصدق

أهمية الصدق أما الدرس الأخير من دروس هذه الغزوة فهو أهمية الصدق، فإن هؤلاء الثلاثة لما صدقوا صدقهم الله سبحانه وتعالى. يقول كعب بن مالك: فلما أنزل الله توبتي علمت أن هذا هو الصدق، فعزمت على أن لا أقع في أي شيء من الكذب بقية عمري. وهكذا كان رضي الله عنه وأرضاه، فالصدق منجاة، فيجب على المسلم الصدق مع الله، والصدق مع النفس، والصدق مع الناس، وليحذر من الكذب والدوران والتمويه وغير ذلك، فإنه لا يمكن أن يفيد صاحبه أبداً. فقد جاء المنافقون وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! لدينا أعذار، ولدينا كذا، ولدينا كذا، فكان عاقبة ذلك أن جعل الله ذلك نفاقاً في قلوبهم، أما أولئك الصحابة الذين صدقوا ربهم سبحانه وتعالى فإن الله تبارك وتعالى قد أنزل عليهم توبة فرحوا بها فرحاً عظيماً. يقول سعيد بن زيد: لما نزلت هذه الآية أتيت إلى بني واقفة -أهل هلال بن أمية؛ لأن هلال بن أمية واقفي- فبشرته، فسجد لله شكراً، فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه؛ لما كان فيه من الجهد؛ ولأنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائماً لا يفتر عن البكاء. أما كعب بن مالك فإنه لما نزلت توبته نزع ثوبيه اللذين كان لا يملك غيرهما وأعطاهما البشير، ثم استعار ثوبين وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا عاقبة الصدق، حتى لو أن الإنسان امتحن، ولو أن الإنسان واجه ما واجه، إلا أنها عاقبة خير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ كعب بن مالك: (أبشر -يا كعب - بخير يوم من أيامك)؛ لأنه يوم التوبة الذي تاب الله سبحانه وتعالى فيه على هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم.

العقوبة بالهجر

العقوبة بالهجر ومن الدروس أيضاً أن هؤلاء الثلاثة قد عاقبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الهجر، فبقية المنافقين تخلفوا، لكن ما عوقبوا، لكن هؤلاء الثلاثة عاقبهم الله حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما أخبر الله سبحانه وتعالى. ومن هنا فإن هذه سنة الله سبحانه وتعالى مع عباده المؤمنين الصادقين، فإذا وقع الواحد منهم في ذنب كان من علامة محبة الله له أن يعجل الله عقوبته، وهذا ما يوجب أن يكون الإنسان حذراً من ذنوبه مستيقظاً.

تنكر الأشياء للعاصي

تنكر الأشياء للعاصي ومن الدروس أيضاً قول كعب بن مالك في قصة تخلفه: (حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف)، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض، وفي الشجر والنبات، حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنب العاصي بحسب جرمه، حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته، ويجده في نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب، وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة. فالمؤمن الصادق هو الذي إذا وقع في المعصية أحس بالذنب وتنكرت له نفسه وأحس بالوحشة، ولا ترجع له نفسه إلا بتوبة صادقة وعمل صالح.

استغلال أعداء الإسلام للخلاف إذا وقع بين المسلمين

استغلال أعداء الإسلام للخلاف إذا وقع بين المسلمين ومن الدروس أيضاً أن أعداء الإسلام يستغلون الخلاف بين المسلمين، فإذا ما رأوا بين المسلمين فرقة استغلوا هذا استغلالاً مشيناً، ويؤخذ هذا من قصة ملك غسان، فإنه لما سمع بقصة كعب بن مالك أرسل له رسالة، وجاء الرسول النبطي إلى المدينة يقول: أين كعب بن مالك؟ فلما دلوه عليه بالإشارة أعطاه الخطاب، فإذا خطاب ملك غسان يقول له فيه: يا كعب! إنا سمعنا أن صاحبك -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد هجرك وقلاك، وإنك لست في دار مذلة، فالحق بنا نواسك. يقول كعب: (فلما قرأتها رأيت أن هذا من البلاء) لكن ماذا صنع كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه؟ استغفر ربه، وذهب إلى التنور وأحرق الرسالة. فانظر إلى أعداء الإسلام كيف دخلوا إلى كعب في لحظة هجر النبي صلى الله علي وسلم له، وهكذا يدخلون على المؤمنين حينما يقع بينهم شيء من الخلاف، فليتق الله المسلمون، ولتتقوا الله -أيها المؤمنون- فيما بينكم، ولتكونوا يداً واحدة حتى لا ينفذ أعداء الإسلام إليكم.

تخلي المؤمن عن لذاته وشهواته في حال الجهاد

تخلي المؤمن عن لذاته وشهواته في حال الجهاد وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة باعتزال نسائهم درس لكل مؤمن أنه في حال الجهاد وفي حال العبادة عليه أن يتخلى عن لذاته وشهواته، فلما مضت أربعون ليلة على أولئك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتزلوا نساءهم حتى يتفرغوا للعبادة، وهذه سنة الله، كما في وقت الحج وكما في وقت الصيام وغيره.

وجوب استغلال فرص الطاعة والقربة

وجوب استغلال فرص الطاعة والقربة من تلك الوقفات والدروس أن الرجل ينبغي له إذا حانت له فرصة القربة والطاعة لله سبحانه وتعالى فعليه أن ينتهزها ولا يتردد، وهذا مأخوذ من قصة تردد كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.

دروس من غزوة تبوك

دروس من غزوة تبوك وفي الختام فإنني أختم الحديث عن هذه الغزوة التي استعرضنا فيها جوانب معينة ولم نستعرضها كاملاً بعدد من الدروس العامة في هذه الغزوة.

دعوة الإسلام دعوة عالمية

دعوة الإسلام دعوة عالمية الدرس الأخير: عالمية الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسلمين من هذه الغزوة التي لم يقع فيها قتال أن هذا الدين يجب أن ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ومن هنا فإن حقيقة الجهاد الإسلامي وحقيقة الدعوة الإسلامية يجب أن يعيها الداعون في كل وقت، خاصة في هذه الأيام، فإنها لا تقيدها قيود، ولا تقيدها نظم الأمم المتحدة ولا غيرها، إنها دعوة إيمانية ترتبط بهذا الإسلام، وقد بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستبلغ ما بلغ الليل والنهار. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمجاهدين في سبيله، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الصراع مع النصارى صراع عقائدي

الصراع مع النصارى صراع عقائدي الدرس السادس: أن نصارى العرب كانوا مع الروم في حربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل: هل نفعت القوميات؟ والعروبة والقومية التي تقول: يجب أن نجتمع على اللغة العربية، أو على الأرض، أو على التراب هل نفعت؟ إن المتأمل في تاريخ المسلمين قديماً وحديثا يجد أن الصراع صراعاً عقدياً، فهاهم نصارى العرب يتعاونون مع أعداء الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم معهم في العقيدة، فهل يعي المسلمون هذا الدرس؟ وهل يجعلون من أخوة الإسلام وأخوة الإيمان ما يجتمعون عليه ويوالون عليه ويعادون؟

أهمية الجهاد في سبيل الله بالمال

أهمية الجهاد في سبيل الله بالمال الدرس الثاني: أهمية الجهاد بالمال. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الجهاد في هذه الغزوة، وأنفق الصحابة نفقة عظيمة، فقد أنفق أبو بكر في هذه الغزوة كل ماله، وأنفق عمر رضي الله عنه وأرضاه نصف ماله، وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه جيش العسرة، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وقال: (اللهم! ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ)؛ لأنه جهز رضي الله عنه وأرضاه جيشاً كاملاً. والمال لا شك أن له أهميته الكبرى في الدعوة إلى الله في كل وقت وفي كل زمان، ومن هنا فإن من أعجب ما في هذه الغزوة هو حال أولئك الذين لم يجدوا النفقة، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، وهم البكّاؤون الذين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! ما عندنا نفقة ولا مال، ونريد أن نجاهد معك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكني لا أجد ما أحملكم عليه)، كما قال الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، فانظر إلى هذه النفوس المؤمنة، وكيف كان الواحد منهم يرجع وهو يبكي، وأما رؤوس النفاق فكانت فرائصهم ترتعد، وكانوا يبحثون عن المعاذير الكاذبة خوفاً، وهؤلاء يسح الدمع من أعينهم على وجوههم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد ظهراً يركبهم عليه، فشتان شتان بين المؤمنين الصادقين والمنافقين المخادعين، أسأل الله السلامة والعافية.

وجوب النفير على من استنفره الإمام

وجوب النفير على من استنفره الإمام الدرس الثالث: أن الإمام إذا استنفر المسلمين وجب عليهم جميعاً النفير. وهذه من الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين، فإذا استنفر الإمام الشرعي الأمة للجهاد وجب على الجميع الجهاد، وهذه إحدى الحالات الثلاث التي يكون الجهاد فيها فرض عين.

التحذير من دخول ديار المعذبين والمغضوب عليهم

التحذير من دخول ديار المعذبين والمغضوب عليهم الدرس الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل على ديار ثمود في الحجر قال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون) أي: لا تدخلوا على القوم الذين قد عذبهم الله سبحانه وتعالى. وهذا فيه درس، وهو أنه لا ينبغي أن يأتي الإنسان إلى ديار المعذبين والمغضوب عليهم، وأنه يجب عليه إذا مر بهم أن يسرع، أخذاً بهذا من هذه القصة، وقارن ذلك بما يفعله أهل الآثار اليوم الذين يقدسون آثار الكفرة والمعذبين، وينفقون في سبيلها الملايين والأموال، والناس يذهبون إليها سائحين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون) أي: لا تدخلوا على القوم الذين عذبوا مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

وجوب الثبات على طريق الدعوة

وجوب الثبات على طريق الدعوة الدرس الخامس: أن كثيراً من الناس يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إذا طال عليه الطريق، أو رأى بعض المشاق تردد، وهذا في الحقيقة مما ينبغي أن ينتبه له الجميع، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42]، وكثير من الناس أو بعض الناس يطول عليهم الطريق، فإذا طال عليهم الطريق بدأت تسقط عزائمهم ويترددون، وبدأت في نفوسهم ألوان من الضعف والخور، وهذا لا ينبغي، ولا يجب أن يكون عليه مؤمن صادق أبداً، فإن المؤمن الصادق هو الذي إذا رأى البلاء ورأى طول الطريق قال كما قال الله سبحانه وتعالى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ويلزم الثبات على الطريق مهما طال الطريق، ومهما عظم البلاء والامتحان، ومهما حاول أعداؤنا، ومهما حاربنا أعداؤنا، إنه الثبات على الطريق حتى يلقى العبد ربه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ألهمه الله سبحانه وتعالى ذلك.

وجوب الجهاد في سبيل الله عز وجل

وجوب الجهاد في سبيل الله عز وجل أولها: وجوب الجهاد في سبيل الله، فإن الله تعالى قال عن هذه الغزوة في سورة براءة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39]، فيؤخذ من هذا وجوب الجهاد في سبيل الله، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا في هذه الغزوة أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وعلمنا في هذه الغزوة أن الأمة إن لم تجاهد في سبيل الله فستكون العاقبة كما الله تعالى: {لَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] أي: عذاباً بالذل في الدنيا، وعذاباً بالهوان وغزو الأعداء لنا في هذه الدنيا، وعذاباً في الآخرة، وقال عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. ولهذا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا حينما يقرؤون هذه الآيات تتحرك في قلوبهم أشجان الجهاد في سبيل الله، فهذا أبو طلحة الأنصاري لما صار شيخاً كبيراً جداً قرأ سورة التوبة، فلما بلغ قول الله سبحانه وتعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] قال لأولاده: (جهزوني؛ إني أرى ربنا قد استنفرنا شيوخاً وشباناً) فقال له بنوه: يرحمك الله، لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر بن الخطاب حتى مات، ونحن نغزو عنك! فقال أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه: (لابد أن أركب) وركب وغزا في البحر، فمات وهم في السفينة، ومكثوا تسعة أيام يبحثون عن جزيرة ليدفنوه فيها فما وجدوا المكان إلا بعد هذه الأيام التسعة، فدفنوه في إحدى الجزر، ووجدوا جسده لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه. وحين تنظر إلى واقع المسلمين اليوم تجد الواحد منهم إذا بلغ سن الكهولة نزلت به وبدنياه تلك المثبطات، فتثبطه عن الجهاد في سبيل الله، ويقول: الجهاد للشباب ولا شك أن الشباب مرحلة قوة، لكن -أيضاً- الشيوخ يجب أن يكون لهم دور في خدمة هذا الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله في مواطن الجهاد.

الأسئلة

الأسئلة

تآمر أعداء الإسلام على المسلمين

تآمر أعداء الإسلام على المسلمين Q ما رأيكم فيما يحدث للمسلمين اليوم، وخاصة في البوسنة والهرسك؟ ولماذا لا يدعى للجهاد حتى ننقذ إخواننا هناك ونناصرهم؟ A الحقيقة أن سؤال السائل لا شك أنه دليل -إن شاء الله- على حرقة إيمان يجدها كل مؤمن في هذه الأيام، والمتأمل في قضية البوسنة والهرسك يجد أن العالم كله يكاد أن يكون متآمراً ضد المسلمين هناك، إما بالأصل وإما بالتبع، إما بالأصل وهذا الذي يقوم به الصرب لعنهم الله وقاتلهم، أو يقوم به من وراءهم من النصارى في أوروبا وأمريكا الذين يحافظون على النتائج، أو بالتبع من دول العالم الأخرى التي لا تستطيع أن تصنع شيئاً، ولا تريد أن تصنع شيئاً إلا إذا أذن أولئك الأسياد من خلال النظام العالمي الجديد الذي يقولونه، حتى رافضة إيران الذين هم حرب على الإسلام أشد من حرب اليهود والنصارى يطنطنون بالإسلام ومع ذلك ما صنعوا شيئاً، فنقول: هي مصيبة الأمة الإسلامية من أولها إلى آخرها، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظ الأمة لتقوم بواجب الجهاد في سبيل الله وتبعد عنها هذه الذلة والمهانة التي يجدها كل مسلم وهو يشاهد تلك الأحداث الرهيبة تجري على إخوانه المسلمين هناك. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين.

سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مس العين التي في تبوك

سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مس العين التي في تبوك Q ما سر منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس العين التي في تبوك؟ وهل ذلك يعتبر معصية لأمر الرسول عمداً؟ وهل ما زالت العين موجودة حالياً؟ A أما سر منعه فظاهر الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن تبقى هذه العين عيناً معيناً ينبع منها الماء ويجري، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يمسها أحد، وكان أمره واجباً، لهذا فإن الذين لم يأتمروا بأمره صلى الله عليه وسلم قد عصوه عليه الصلاة والسلام. أما هذه العين فليس عندي علم عنها الآن، ولا أدري هل هي موجودة أم لا.

علة الأمر بالإسراع عند المرور بمدائن صالح

علة الأمر بالإسراع عند المرور بمدائن صالح Q لماذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالإسراع وتغطية وجوههم عند المرور قرب مدائن صالح؟ ألا يكون الوقوف عندها هو من باب أخذ العبرة؟ وهل يجوز الآن زيارة تلك الأماكن من باب المعرفة بالشيء والاطلاع عليه؟ A سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال الذي سأله السائل، كما جاء في بعض الروايات أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنما ننظر إليها لنعتبر ونتعظ. فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ إني أخاف أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، فالعلة واضحة، وهي أن هذه ديار معذبين، ومن ثمَّ فلا يجوز للإنسان أن يمكث فيها، بل لابد أن يظهر على قلبه وعلى فعله الأثر من هذا العذاب، فكون الإنسان يذهب إلى هذا المكان ويضحك فيه ويلعب. وهو مكان قد أنزل الله فيه على قوم عذاباً بسبب كفرهم لا يليق. أما بالنسبة لمن أراد أن يزور هذه الأماكن فالأولى أن يمتثل لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه لا يذهب إليها، فإن مر بها فليمر بها وهو باكٍ متأثر حزين القلب، وليمر بها مسرعاً خوفاً من أن يصيبه ما أصاب هؤلاء.

الطريقة السليمة للتدريب على الصبر والجهاد

الطريقة السليمة للتدريب على الصبر والجهاد Q لقد كانت غزوة تبوك مدرسة ربى الرسول صلى الله عليه وسلم بها الصحابة على الصبر والجهاد، فما هي الطريقة السليمة لتدريب الشباب المسلم على الصبر والجهاد؟ A إن المسلم الصادق في هذه الأيام والشاب الصادق في هذه الأيام يعيش في كل يوم أحداث تربية وجهاد في سبيل الله، وقد لا يوجد الجهاد الصريح إلا في أماكن متفرقة من عالمنا الإسلامي، لكن المسلم اليوم يواجه من أعدائه أنواعاً من الحرب وأنواعاً من التشريد والطرد، مما يقارب بعض ما لاقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف تفسر هذه الحرب العالمية التي توجه إلى الإسلام في كل مكان باسم التطرف؟! لقد أصبح الشاب المسلم الملتزم بعقيدته وسلوكه يلاحق في كثير من بلدان المسلمين، فإن لم يقتل سجن، وإن لم يسجن طورد، حتى يطارد في رزقه وفي أمنه واستقراره، وهذا في كثير من بلاد المسلمين، وهذا كله موطن تربية، إنها تربية جهادية. لقد قال أحد الزعماء العرب: إن أخطر ما يواجه بلدنا هو التطرف الإسلامي! ثم قال: وإني أدعوكم - يخاطب شعبه- إلى أن تقتلوا كل متطرف بلا محاكمة! وإسرائيل أبعدت المجاهدين من أهل حماس، وتعيش مع منظمة التحرير العلمانية مرحلة سلام، أما المجاهدون المبعدون فلا؛ لأن المجاهدين تآمر عليهم اليهود وبقية العرب، فإسرائيل قالت للعرب لما قالوا لها: مشكلة المبعدين قالت لهم: هؤلاء المبعدون هم أهل التطرف الذين تحاربونهم في بلدانكم، لكنكم تحاربونهم بأساليب غير حضارية، ونحن نحاربهم بأسلوب حضاري، وهو إبعادهم عن البلد ونقول: اذهبوا إلى أي بلد تريدون، لكن أنتم تفعلون بهم ما هو موجود في بعض بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الأجر يشمل كل أنواع الجهاد

الأجر يشمل كل أنواع الجهاد Q هل الأجر المترتب على الجهاد في سبيل الله مقتصر على جهاد العدو، أم يشمل جهاد النفس والشيطان؟ A لا شك أن كل جهاد يؤجر عليه الإنسان، فمجاهدته لنفسه يؤجر عليها، وجهاده بالمال يؤجر عليه، وجهاده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤجر عليه؛ لأن كل ذلك جهاد، لكن الجهاد الأعظم هو الجهاد الذي هو موطن الشهادة الذي يقتل فيه الإنسان وهو يجاهد في سبيل الله، وهو قتال العدو، ولهذا فإن الأمور السابقة كلها تسمى جهاداً، لكن الجهاد في المصطلح الشرعي هو قتال الكفار، فمن قاتلهم لتكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الجهاد الذي ورد الأجر العظيم فيه من الله سبحانه وتعالى.

حكم الهجر أكثر من ثلاثة أيام

حكم الهجر أكثر من ثلاثة أيام Q نفهم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الهجر إلا لثلاثة أيام، فكيف هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا خمسين يوماً؟ A الهجر لثلاثة أيام هو إذا كان لغير سبب شرعي، أما إذا كان لسبب شرعي فيجوز أكثر من ذلك بشروط الهجر المعروفة، فلو هجر الأب ابنه أو الأخ أخاه لسبب شرعي فإنه يهجره أكثر من ثلاثة أيام، والنهي الوارد هو عن الهجر لغير سبب شرعي.

معنى قوله تعالى: ((وعلى الثلاثة الذين خلفوا))

معنى قوله تعالى: ((وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)) Q كلمة (خلفوا) تدل على أن شيئاً أجبرهم على التخلف، ولم نجد في عذرهم شيئاً، فما معنى ذلك؟ A ليس المقصود أنهم تخلفوا، وإنما (خلفوا) أي: من الله سبحانه وتعالى فلم ينزل في شأنهم قرآناً إلا بعد، ولهذا ورد في بعض الأقوال أن قول الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]، قال بعض المفسرين - وإن كان هذا القول فيه ضعف-: إنهم الثلاثة. فكلمة (خلفوا) أي: خلف الأمر فيهم، فلم ينزل فيهم القرآن إلا بعد مضي خمسين ليلة.

سبب تخصيص حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين

سبب تخصيص حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين Q ما هو السبب الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه بالمنافقين ويكتم ذلك عن بقية الصحابة؟ A هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ورد في بعض الروايات -وإسنادها حسن- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر حذيفة أنهم فلان وفلان وفلان وفلان، حتى عدَّ منهم اثني عشر، وقال: (لا تخبر بذلك أحداً)، حتى إنه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في زمن خلافته إذا جيء برجل قد مات وكان قد شك هل هو من أهل النفاق أم لا نظر، فإن وجد حذيفة صلى عليه صلى معه، وإن وجد حذيفة لم يصل عليه تنحى عمر مع حذيفة فلم يصل عليه وترك الناس يصلون عليه، فهذا الأمر اختصاص خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي الجليل ليكون صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

متى يكون العلم نافعا

متى يكون العلم نافعاً في خضم انشغال الكفار بعلومهم ومعارفهم المادية، ومتابعتهم لتطورها في كل ساعة وحين، نسوا قضية بدهية لابد أن يفكر فيها كل عاقل، ألا وهي: الغاية التي من أجلها خلق الإنسان والحكمة التي من أجلها وجدت الأكوان، فمن العجب أن ترى حضارة عالية كبرى بلغت من التطور العلمي مبلغاً عجيباً، ومع هذا لا يعرف الفرد فيها ربه وخالقه! ولا يعرف الحكمة من وجوده! ولا يعرف مصيره ومنتهاه! فعلى تلك العقول العفاء، وحسبنا الله وحده وكفى.

العلم الذي يتميز به المسلمون عن غيرهم هو علم الشرع

العلم الذي يتميز به المسلمون عن غيرهم هو علم الشرع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فاعلموا -أيها الإخوة- أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الإخوة في الله! نستقبل في هذه الأيام موسم الحصاد العلمي لأبنائنا وبناتنا، ولإخواننا من طلاب العلم، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما يتعلمونه عوناً لهم على طاعة الله، وبصيرة لهم في دينهم، ورفعة وعزة لأمتهم الإسلامية، كما أسأله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا جميعاً التوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة. أيها الإخوة في الله! إن طرائق الدراسة والامتحانات مما أطبقت عليه في الجملة الأمم كلها مؤمنها وكافرها، فما الذي يميز أمة الإسلام في هذا العلم على مختلف فروعه وتخصصاته؟ إن العلم في منهاج الإسلام قسمان: القسم الأول: علم شرعي، عماده الكتاب والسنة والإجماع وأقوال سلف الأمة، وهذا العلم مما تميزت به أمة الإسلام في كونه علم عقيدة وشريعة تشمل جميع نواحي الحياة، وفي كونه علماً نابعاً من مصادر صحيحة ثابتة لا يتطرق إليها شك، ولا يدخلها تحريف، ولا تأويل؛ لأن الذي جاء بها هو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الله تكفل بحفظ كتابه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ البلاغ المبين؛ فبلغ، ووصلت سنته صلى الله عليه وسلم إلينا بجهود علماء الإسلام قديماً وحديثاً. وهذه العلوم التي تميزت بها أمة الإسلام تختلف جذرياً في هذا الباب عن علوم وكتب أهل الكتاب المحرفة فضلاً عن علوم الأمم الأخرى الوثنية، هذا هو القسم الأول الذي تميزت به أمة الإسلام، وبه تفخر، وبه عزتها، وبتطبيقه والعمل به رفعتها إنه العلم الشرعي الذي ليس لأحد من أهل الأرض مثله إلا أن يؤمن بما آمنوا به ويتبع سبيلهم. أما القسم الثاني: فهو بقية العلوم غير الشرعية، العلوم المادية التي تتساوى فيها أمم الأرض متى ما أخذت بأسبابها، وهذه العلوم لابد فيها -في منهاج الإسلام- من أمرين حتى يتحول هذا العلم إلى علم مطلوب في أمة الإسلام: أحدهما: أن يكون هذا العلم مفيداً غير ضار، وبهذا تخرج العلوم الضارة، أو العلوم التي لا فائدة منها على الإطلاق؛ لأن الانشغال بها مضيعة للوقت إن لم تكن مضرة. الأمر الثاني: النية الحسنة بالنسبة لطالبه، وهذه النية مرتبطة بحاجة الأمة الإسلامية وضروراتها، وما يؤدي إلى استغنائها عن غيرها من الأمم، وهذه النية هي التي تحول تلك العلوم إلى علوم نافعة ينال أصحابها بها أجراً عند الله تبارك وتعالى، وبها تتحول جهودنا وما نبذله من أوقات ومال من أجل إغناء الأمة الإسلامية عن أن تحتاج إلى غيرها من الكفار عبادة، ويتحول هذا العلم في منهاج الإسلام إلى علم مطلوب ينال عليه أصحابه أجراً عند الله تبارك وتعالى. وكل من العلم الشرعي أو العلم المادي -في منهج الإسلام- لابد فيه من نية صالحة تقوم على الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي علمنا هذا، وهو الذي بلَّغ الشريعة، وهو الذي قال لأصحابه: (بلغوا عني ولو آية)، وهو الذي بعث البعوث، ونشر الرايات المجاهدة في سبيل الله، الداعية إلى الله تبارك وتعالى، لتشق طريقها في مشارق الأرض ومغاربها، وهو الذي أمر أحد الصحابة رضي الله عنهم أن يتعلم لغة غير اللغة العربية لما احتاج إلى ذلك، وهو الذي استفاد أيضاً من خبرة الفرس العسكرية في إحدى ميادين القتال، وليست هذه إلا نماذج، ولكن أحببت أن أشير إشارات، والأمر في ذلك يطول. أيها الإخوة في الله! ما مقياس العلم الذي ينفع والذي لا ينفع في منهاج القرآن، من العلم الحديث الذي يوجد أكثره عند الكفار اليوم، ويظهر كثيراً من شبابنا وبعض مثقفينا؟ ومتى يكون العلم المادي نافعاً وصحيحاً؟ نقف ثلاث وقفات مع ثلاث آيات في كتاب الله تبارك وتعالى:

العلم الحديث يكون نافعا إذا دل على الله وأورث خشيته

العلم الحديث يكون نافعاً إذا دل على الله وأورث خشيته الوقفة الأولى: قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28]. ففي هاتين الآيتين بيان لقدرة الله تعالى وكماله فيها، حيث يخلق الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو: الماء الذي ينزل من السماء، فيخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها، فيها الأحمر والأبيض والأصفر والأسود إلى بقية الألوان! كما خلق تعالى الجبال مختلفة الألوان، بل خلق الناس والدواب والأنعام وهي مختلفة الألوان! وهذا خلق الله لا مدخل للبشر فيه، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. ثم قال تعالى في نهاية هذه الآية: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، قال ابن عباس: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وهذه إشارة من ابن عباس إلى أن العلم المادي إذا دل على الله تبارك وتعالى يتحول إلى علم عبادة وطاعة، أي: أن علمهم بما في الكون والأنفس، وربطهم ذلك بالله تعالى القادر هو الذي يولد الخشية لله تعالى المقتضية لعبادته وحده لا شريك له. قال ابن عباس رضي الله عنهما: العالم بالرحمن: من لم يشرك به شيئاً، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله. وعلى هذا فأي علم لا يوصل إلى الإيمان بالله، وخشيته وعبادته، فليس بعلم في الحقيقة، قال ابن كثير في هذه الآية: أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة بالعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، أتم، والعلم به أكمل؛ كانت الخشية له أعظم وأكثر. وبهذا الميزان -أيها الإخوة! - يمكن أن توزن علوم الحضارة المعاصرة، هل قادت أصحابها إلى الإيمان بالله أم أنها ركزت في عقولهم غروراً؛ فتكبرت على ربها تبارك وتعالى، وصارت تحاربه بعلومها المادية ليلاً ونهاراً؟

الغاية من طلب العلم على مختلف فنونه هي عبادة الله عز وجل

الغاية من طلب العلم على مختلف فنونه هي عبادة الله عز وجل الوقفة الثانية: قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، هل يستوي القانت المطيع لله ورسوله ومن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ إنهم لا يفهمون أبداً. وقد وصف هذا المطيع بأنه آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هو بين الخوف والرجاء مع كثرة عمله وصلاحه، ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: قل -يا محمد- لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شراً؟ يقول: ما هذان بمستويين. ونقل القرطبي رحمه الله عن بعض العلماء أنه قال: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه، ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. أيها الإخوة في الله! وهذا يشمل العلوم الشرعية وغيرها، ومن ثم فإن هذه الآية تدل على عدة أمور: أحدها: أن العلم الذي لا يوصل إلى الله تعالى؛ فليس بعلم حقيقي مهما كان. الثاني: أن العلم الصحيح هو ما نقل صاحبه إلى العمل على وفق شرع الله تبارك وتعالى رغبة فيما عند الله تعالى، وحذراً من عقابه. الثالثة: أن غاية الحياة -ومنها: طلب العلم على مختلف فنونه وفروعه- هي عبادة الله تبارك وتعالى، وبهذا تضبط موازين الحياة.

الكفار يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

الكفار يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون الوقفة الثالثة مع قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1 - 5]. في هذه الآيات أخبر الله تعالى بنصر الروم على الفرس الوثنين الذين انتصروا عليهم أولاً، وفرح بذلك إخوانهم من مشركي مكة، فلما انتصر الروم فرح المؤمنون بذلك. قال القرطبي رحمه الله تعالى: وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم، وهمهم أن تغلب؛ إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان. قال النحاس: وقول آخر وهو أولى: أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى، إذ كان فيه دليل على النبوة؛ لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه. قال ابن عطية: ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر؛ لأنه أيسر مئونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه، وشرع الله الذي بعثه به، وغلب فيه على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدرٍ. قال تعالى بعد هذه الآيات: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، أكثر الناس لا يعلمون، ولو بدا في الظاهر لدى عامة الناس أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير من العلوم المتعلقة بالإنسان أو الأرض أو الفلك أو غير ذلك من العلوم، والسبب في ذلك أنهم كما قال الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وظاهر الحياة الدنيا محدود جداً، لا يستطيع البشر استقصاءه في حياتهم المحدودة، فنسبة علمهم كنسبة هذه الأرض إلى غيرها من الكواكب والمجرات، وهذه الأرض والحياة منها ما هي إلا طرف صغير من هذا الوجود الهائل البعيد من ناحية الزمان والمكان. والكفار وصفوا بأنهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وذلك لأمور: أحدها: أن علومهم مادية سطحية، تتعلق بظاهر الحياة دون سننها الثابتة التي أرادها الله تعالى، فعلومهم مقطوعة عن خالقهم واهب هذه العلوم وخالقها ومقدرها، فلا يعرفون منها إلا قوانينها المادية البحتة، أما كيف جاءت؟ ولماذا جاءت؟ ومن الذي خلقها؟ فهذا كله هم عنه غافلون. ثانياً: أنهم في خضم انشغالهم بعلومهم، ومعارفهم المادية، ومتابعتهم لتطورها في كل يوم نسوا قضية بدهية لابد أن يفكر فيها كل عاقل، ألا وهي: ما هي الغاية من خلق الوجود الإنساني؟ تأملوا حضارة عالمية كبرى، بلغت من التطور العلمي مبلغاً عجيباً، ومع هذا لا يعرف الفرد فيها الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة البدهية: من الذين خلقني؟ ولماذا خلقني؟ وإلى أين المصير؟ وصدق الله إذا يقول عن الكفار مهما بلغ علمهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وأشهر متخصص في أي فن من الفنون العلمية المادية مادام لا يؤمن بالله على الوجه الحق فهو داخل في حكم هذه الآية. ثالثاً: غفلتهم عن الآخرة والوقوف بين يدي الله تعالى للجزاء والحساب، قال تعالى في ختام هذه الآية: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وإنكار الآخرة والبعث بعد الموت والغفلة عن ذلك يؤدي إلى اختلال عظيم في موازين الحياة الدنيا، وأي إنسان لا ينظر إلا إلى الحياة الدنيا فقط؛ فلابد أن يكون علمه سطحياً ناقصاً، ولا يمكن أن يتصور الحياة تصوراً صحيحاً بكل ما فيها من أحداث، وكل ما ينبثق منها من أمور. أما المؤمن بالله واليوم الآخر فيختلف تماماً في ميزانه للأمور، وتعامله مع الحياة، ومقاييسه لها؛ حتى وهو يبني ويعمر، ويتقدم في علوم المادة؛ فهو يتعامل معها من خلال موازين وسنن ثابتة تربط الحياة الدنيا القصيرة الفانية بالحياة الأخرى الأبدية الباقية، وهذا هو الفرق بين ما تنتجه الأمة الإسلامية المؤمنة من حضارة، وما تنتجه حضارة العصر الكافرة من حضارة. وحين نقارن بين الأمتين في هذا المجال يتبين: أنه لا يمكن أن يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها، لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشئون، فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال، هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذلك -أي المؤمن- يدرك ما وراء الظاهر من روابط، وسنن شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان. لا يمكن أن تلتقي حضارة تبنى على الإيمان بالله واليوم الآخر، وحضارة تقوم على الكفر بالله وعدم الإيمان بيوم الحساب. أيها الإخوة في الله! يا طلاب العلم! أيها الدارسون! أيها المتعلمون في فنون المعرفة! إن الأمة الإسلامية تنتظر منكم علماً نافعاً يغنيها عن غيرها، تنتظر منكم أن تقوم هذه الأمة بعلمها الشرعي أولاً وبعلومها الأخرى، تنتظر منكم أن تتحول هذه الأمة إلى أمة كما عهدناها رافعة الرأس شامخة تقود الأمم ولا تقاد، ينظر إليها بعين الرفعة والمكانة، لا كما هو حالنا اليوم! أسأل الله تبارك وتعالى أن يوقظ أمة الإسلام؛ حتى ترجع إلى دينها رجوعاً صحيحاً، وحتى تتعلم علومها على منهاج شرعي صحيح. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم ارفع شأن هذه الأمة الإسلامية. اللهم إنا نسألك أن توفق كل طالب علم إلى منهاج سليم في حياته. اللهم إنا نسألك الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح. اللهم إنا نسألك أن تحبب إلينا الإيمان، وأن تزينه في قلوبنا، وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن تجعلنا من الراشدين. اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه يا رب العالمين! اللهم واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن ترحم موتى المسلمين جميعاً، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

معالم الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة المسلم

معالم الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة المسلم الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يقبل الله من عبدٍ صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمن به وفق ما جاءت به النصوص، وللإيمان به معالم منها: الإدراك الجازم بأن الله عز وجل حكم عدل لا يظلم أحداً، والاعتقاد الجازم بأنه سبحانه قد علم كل شيء أزلاً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وبهذا يصل العبد إلى كمال الراحة والطمأنينة فيما قدره الله تعالى له، فلا يجزع من مصيبة، ولا يضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.

الإيمان بالقدر وأهميته

الإيمان بالقدر وأهميته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فسنقف -بإذن الله تعالى- مع قضية من قضايا العقيدة الكبرى؛ لأن أثرها في حياة الإنسان وفي حياة البشرية كبير جدا، ومستمر مع الإنسان منذ ولادته إلى أن يلقى ربه تبارك وتعالى، ومن ثم كان عرض مثل هذا الموضوع وبيانه على منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى مما ينبغي أن تربى عليه الأمة ويعنى به الدعاة والمصلحون؛ لأن أثر الإيمان بالقضاء والقدر على حياة الإنسان والأمة كبير جدا، وأي إشراك فيه قد يؤدي إلى انحراف أو انحرافات في حياة الإنسان الحر، أو في حياة الأمة جمعاء. ولهذا فسأعرض هذه القضية من خلال القضايا التالية بعد المقدمة. أولاها: أحوال بعض الصالحين مع القضاء والقدر. وثانيها: المعالم الكبرى في مسألة القضاء والقدر. وثالثها: أهم مسألة في قضية القدر وأخطرها. ورابعها: أثر الإيمان بالقضاء والقدر في حياة الإنسان وحياة الأمة. وأقول فيما يتعلق بالمقدمة: إن هذا الموضوع كثر البحث فيه، حتى ألفت فيه كتب عديدة، وقد عني سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى بذلك عناية كبيرة، حتى بوب له الأئمة أئمة الحديث في كتبهم كـ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم. كما أن بعض العلماء ألفوا فيه كتباً مستقلة، كـ الكلابي والبيهقي وغيرهما من الأئمة رحمهم الله تعالى، ثم توالت بعد ذلك المؤلفات في هذا الموضوع لعلماء الإسلام قديماً وإلى عصرنا الحاضر، ومن ثم فلا يزال في الساحة كتب كثيرة في هذا الموضوع، وإن كان بعضها مما ينبغي أن يقرأه الإنسان بحذر؛ لأن أصحابها ربما تأثروا بمناهج الفلاسفة أو المتكلمين أو غيرهم، فلم تصبح دراستهم لهذا الموضوع المهم دراسة قائمة على منهاج سليم في جميع الوجوه. وقد سبق أن ألقيت في هذا الموضوع محاضرات، ومن ثم فسأحرص -إن شاء الله تعالى- على عرض هذه القضية من خلال قضايا مجملة أحس أن كثيراً من الناس بحاجة إليها. أما تفاصيل ما يتعلق بالقضاء والقدر وأدلته وقضاياه المتعددة فتلك موجودة في بطون الكتب، ويمكن أن نحيل على بعضها، وأقول: أيها الأخ في الله! إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، ولقد كانت الأمة الإسلامية عبر القرون مؤمنة بالقضاء والقدر، ولم تكن تشكو من هذه القضية، وإنما الذي كان يشكو منها نزرٌ يسير من الناس استهواهم الشيطان أو استهواهم أصحاب البدع فانحرفوا في هذا المجال. أما بقية الأمة فقد عاشت قروناً تؤمن بالقضاء والقدر وتعبد ربها وليس عندها مشكلة من هذه القضية، ونحن -والحمد لله- نشاهد أمثال ذلك فيما بيننا، فهل رأيت أباك أو أمك أو أحد أقربائك يوماً من الأيام يشكو من هذه المشلكة التي يشكو منها بعض الشباب؟ أم أنهم -والحمد لله- كانوا مؤمنين بالله مسلمين لقضائه وقدره عابدين لربهم تبارك وتعالى، إن أصابتهم مصائب تذكروا أنها بقضاء الله وقدره فصبروا، وإن وقعوا في معايب وذنوب عرفوا أنهم أخطئوا فلم يحتجوا بقدر وإنما رفعوا أكف الضراعة إلى المولى القدير ليتوب عليهم ويعفو عنهم، ثم أبدلوا سيئاتهم بحسنات يرجون بها محو تلك السيئات السابقات، والحمد لله أننا ما زلنا نشاهد نماذج عديدة ومتعددة وكثيرة من هذه الأنواع المؤمنة المسلمة، وهذا يدل على أن قضية الإيمان بالقضاء والقدر هي قضية إيمانية حقة لا لبس فيها ولا غموض. وإنما يحيط اللبس والشك والشبه حين ينحرف الإنسان عن منهج ربه سبحانه وتعالى.

منهج السلف الصالح تجاه القدر

منهج السلف الصالح تجاه القدر لقد كانت أحوال الصالحين -وهذه هي القضية الأولى- مع الإيمان بالقضاء والقدر أحوالاً تبنى على منهج سليم، مؤمنين بقضاء الله وقدره، يفعلون الأسباب ويتوكلون على رب الأرباب، ثم إنهم بعد ذلك يؤمنون بالله تبارك وتعالى ويعبرون هذا الكون. وتأمل تأملاً مجملاً في حياة الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وحياة صحابته من بعده فستجدها حياة مستقرة مؤمنة، حياة فيها الإيمان وفيها العمل، فيها الشجاعة وفيها الإقدام، فيها التقوى وفيها الإحسان، حياة مستقرة ليس فيها أمراض عصية ولا تعب ولا أحزان إلا ما يصيب الإنسان مما يبتلي الله سبحانه وتعالى به عباده، ومن ثم آمنوا بالله أولا، ودعوا إلى دين الله ثانيا، وفتحوا الفتوحات في مشارق الأرض ومغاربها ينشرون هذا الإيمان وهذا الدين بين الناس، وتلك حياة عاشوها رضي الله عنهم جميعاً تمثل تطبيقاً عملياً صحيحاً للإسلام عموما ولهذه القضية التي نتحدث عنها خصوصا. وتوالت على ذلك أحوال السلف رحمهم الله تعالى، فكانوا مؤمنين ومسلمين رادين على أهل البدع جميعاً ومنها بدع أهل القدر وغيرهم، ولقد كانت حياتهم رحمهم الله تعالى حياة رضا وتسليم وإيمان وعمل جاد. فهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يقول عن نفسه: ما أصبح لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله عز وجل. وهذا هو الإيمان والتسليم. وكان رحمه الله تعالى يدعو ويقول: اللهم! رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته. ورحم الله عمر بن عبد العزيز، فتلك -والله- صفات المؤمنين الذين لا يفرحون بما آتاهم الله ولا يحزنون على ما فاتهم من أمور، وإنما يسلمون للقدر المكتوب. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: يصبح المؤمن حزيناً ويمسي حزيناً ويتقلب في النوم -أي: يتقلب في النوم مما فيه من أحزان وأكدار- ويكفيه ما يكفي العنيزة. أي: يكفيه من البلاغ والطعام ما يكفي العنيزة. فلماذا الأحزان والأكدار؟ هذا معنى كلام الحسن رحمه الله تعالى. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيرا؛ فإنما له ما قدر له، ولا يأت أحدكم فيمدحه فيقطع ظهره. أي: لا يأتي إليه ليمدحه ويقطع ظهره حتى يعطيه أو يقضي له حاجته، بل إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيرا، فإن كان قد قدر فسيكون. هذه أحوال المؤمنين. ومن ثم قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: يا ابن آدم! لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ولا تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. كلمات فيها عبرة، إذا فاتك شيء لا تحزن، وكيف تحزن على شيء قد فاتك وهو لن يأتيك أبدا؟ ثم بعد ذلك لا تفرح بشيء موجود؛ لأن الموت أمامك، فإنه لن يتركه بين يديك، فكم من صاحب سلطان وجاه كان له في العالمين ذكر ثم إذا به يرحل؛ لأن الله كتب الموت على الجميع. فلا تفرح بما عندك ولا تحزن على ما فاتك، ولقد روي أن رجلاً كان يمتدح رجلاً مثله بشعره لينال العطاء والمكانة، ثم ابتلاه الله عز وجل بمرض أقعده، فهجره الممدوح وقلاه، فقال عن نفسه يصور حاله معه: أبعين مفتقر إليك نظرتني فرميتني من فوق أعلى شاهق لست الملوم أنا الملوم لأنني أنزلت حاجاتي بغير الخالق. ويقول جنيد بن أحمد الطبري رحمه الله تعالى وهو يصور أحوال العباد: العبد ذو ضجر والرب ذو قدرٍ والدهر ذو دولٍ والرزق مقسوم والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللؤم والشوم وصدق رحمه الله تعالى. فإن الإنسان يؤمن بالقدر المقدور والأرزاق المقسومة، فإذا آمن بذلك استراح، أما إذا فكر فيه واعترض على قدره شقي ولن يأتيه إلا ما قدر له، والعاقل البصير هو الذي يعرف ذلك.

المعالم الكبرى في الإيمان بالقدر

المعالم الكبرى في الإيمان بالقدر

اليقين بعدل الله تعالى

اليقين بعدل الله تعالى ثانياً: المعالم الكبرى في مسألة الإيمان بالقضاء والقدر. إن هذه المسألة لابد من ضبطها بتلك المعالم حتى يستقيم فهم الإنسان لهذه القضية وإيمانه بهذا الركن على الوجه الصحيح؛ لأن كثيراً ممن انحرف في هذا الباب إنما انحرف لاختلال معلم من هذه المعالم التي سأذكرها، وهذه المعالم هي ما يلي: أولاً: اليقين التام بعدل الله تبارك وتعالى وأن الله تعالى لا يظلم أحدا، وهذه قضية كبرى يجب على العبد أن يؤمن بها إيماناً عميقا من غير شك ولا ريب، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، ويبنى هذا على عدد من الأسس. أولاها: كمال صفات الله سبحانه وتعالى، فهو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو العليم القدير، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل، ومن ثم فالإيمان بهذه الأسماء والصفات يجعل قلب المؤمن يقر بأن الله كامل، ويقر بأن الله لا يمكن أن يظلم أحدا. والأساس الثاني في قضية عدل الله أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً من الناس، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، ويقول الله تبارك وتعالى عن نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، قضية يقينية لابد أن تكون مستقرة في قلب الإنسان، أن الله لا يظلمك، بل إنه تعالى حرم على نفسه الظلم فقال تعالى -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، والذي يحتج بالقدر ويعترض على ربه سبحانه وتعالى هو بلسان حاله أو بلسان مقاله متهم لربه سبحانه وتعالى بهذا؛ لأنه يعترض على ربه، فهو يزعم أن التقدير ظلم من الله تبارك وتعالى. والثالث من قضايا هذا العدل أنه تعالى غني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى عباده، ليس بحاجة إليهم حتى يظلمهم، ولو تأملنا أحوال العباد لوجدنا بعضهم يظلم بعضاً لأمور: إما لحب العلو في الأرض، أو لأجل أن يأخذ أموالهم، أو ليتسلط عليهم، أو لغير ذلك من الأسباب، أما ربنا سبحانه وتعالى فهو غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين، ومن ثم قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا). إذاً فربنا سبحانه وتعالى غير محتاج إلى أحد، ومن ثم فهو ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً من الخلق، وبهذه القضية وبهذا المعلم وهذا الميزان يستريح الإنسان؛ لأن قلبه في هذه الحالة يستقر على يقين تام أن الله تبارك وتعالى في عليائه بأسمائه وصفاته غني عن العالمين، فهو غير محتاج إليهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلمك أبدا، فإذا وقعت في معصية فتب إلى الله، وإذا أصابتك مصيبة أو رأيت الناس قد اختلفوا في أرزاقهم أو أحوالهم فلا تعترض على الله أبدا، وإنما أيقن يقيناً تاماً أن الله حكم عدل لا يظلم أحدا. وهذه القضية -أيها المسلم- وهذا المعلم من المعالم المهمة التي يجب على كل واحد منا أن يذكر بها نفسه وأن يربي عليها من حوله؛ لأن القلب إذا استقر على ذلك استراح، ومن ثم كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقررون هذه القضية مع أنها مقررة في الكتاب والسنة، لكن كانوا يقررونها ويعلمونها من حولهم. روى أبو داود وابن ماجه وابن أبي عاصم والإمام أحمد رحمهم الله تعالى بإسناد حسن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله جل ثناؤه أن يذهبه من قلبي. فقال: -أي: قال له أبي بن كعب -: (لو أن الله جل ثناؤه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار). فتأمل هذا التعليم، لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، قضية إيمانية؛ لأن الله غير محتاج إلى الخلق: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]. لهذا فإن الإنسان إذا استقر عنده هذا لا يكون في قلبه شيء، بل يؤمن بالقدر ولا يصبح في قلبه أي اعتراض على ما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه، وليس هذا منهج أبي بن كعب فقط، بل إن ابن الديلمي ذهب إلى مجموعة من الصحابة فقالوا له مثل ذلك، ذهب إلى عبد الله بن مسعود فقال له مثل ما قال أبي، وذهب إلى زيد بن ثابت فقال له مثل ذلك، وذهب إلى حذيفة بن اليمان فقال له مثل ذلك، فدل هذا على أن هذه الحقيقة مستقرة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى مسلم عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى قال: قال لي عمران بن حصين -وعمران بن حصين هو الصحابي الجليل المعروف-: أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق أو مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ يقول أبي الأسود: قلت لا. بل شيء قضي عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً وقلت: ليس شيءٌ إلا وهو خلق الله وملكه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فانظر إلى تسليم هذا التابعي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] بعد أن فزع من هذا الكلام، يقول: فقال لي عمران بن حصين: يرحمك الله! ني -والله- ما سألتك إلا لأحزر عقلك. أي: لأختبر عقلك. رجلاً من مزينة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت ما يعمل ويكدح الناس فيه اليوم أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقدمون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ قال: لا. بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم. قال: ففيم العمل إذاً؟ قال: من كان خلقه الله لواحدة من المنزلتين فسييسره، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]). إذاً هل هذا ظلم؟ لا. وهل يترك الإنسان العمل؟ لا. وإنما يعمل، وكل ميسر لما خلق له، فإذا عمل فكيف يعمل هذا الإنسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، كيف يعمل الإنسان وهو يجهل قدر الله؟ و A يعمل الإنسان على مقتضى شرع الله سبحانه وتعالى، فيعمل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي، والله سبحانه وتعال ييسر الجميع لما خلقوا له. هذا هو المعلم الأول من معالم الإيمان بالقضاء والقدر، وأهميته -أيها الأخ- تنبع من أن الإيمان به والتصديق يعين الإنسان على الرضا بالقضاء وعدم الاعتراض.

الإيمان بعلم الله تعالى السابق المحيط بكل شيء

الإيمان بعلم الله تعالى السابق المحيط بكل شيء المعلم الثاني: هو علم الله تبارك وتعالى الأزلي المحيط بكل شيء، وهذه قضية؛ لأن من كماله سبحانه وتعالى أنه العليم، وأنه متصف بصفة العلم أزلاً قبل أن يخلقنا وقبل أن يخلق السماوات وقبل أن يخلق العرش والكرسي وغير ذلك من المخلوقات؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه قد أحاط بكل شيء علماً منذ الأزل. وعلمه تبارك وتعالى كامل بما كان وما سيكون، بل إنه سبحانه وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وهذا الكمال لله سبحانه وتعالى خاصة، أما الخلق فمهما بلغوا فإنهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله سبحانه وتعالى، وعلم الله سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء وبما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون يجعل الإنسان يسلم بالقدر الصادق؛ لأن الله علم ما الخلق عاملون. ولهذا فإن الله تبارك وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى عن الكفار الذين يطلبون العودة إلى الدنيا إذا وقفوا بين يدي ربهم سبحانه وتعالى ورأوا حقائق الأمور، فرأوا انقسام الناس إلى أهل الجنة وأهل النار -أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة وأن يعيذني وإياكم من النار- إذا رأوا هذه الحقيقة قالوا: يا ربنا! أعدنا إلى الدنيا، فلو أعدتنا إلى الدنيا بعدما عرفنا الحقائق ورأيناها بأم أعيننا لرجعنا وتبنا وعبدناك حق عبادتك. فماذا قال الله سبحانه وتعالى وهو العليم بهم؟ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فهذا ليس تقديراً، وإنما هو خبر وعلم حقيقي بأن هؤلاء لو أعيدوا إلى الدنيا مرة ثانية لعادوا لما نهوا عنه ولعادوا إلى الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى. لأن الواحد منهم قد يتسلط عليه شيطانه فيما لو عاد إلى الدنيا، فيقول: انظروا! لقد قلنا لكم: إن البعث كذب، ها نحن قد عدنا إلى الدنيا مرة ثانية! ثم يعود إلى كفره وضلاله. لكن قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] حقيقة لا شك فيها. إذاً علم الله سبحانه وتعال قد أحاط بكل شيء، فما تصنعه أنت -أيها الإنسان- وما تفعله وما يعمله الناس جميعاً وما يقع من أي شيء من شجرة تنبت أو بحر يموج أو سمكة تغوص أو حشرة تمشي أو غير ذلك كل هذا في علم الله تبارك وتعالى الأزلي {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام:59]، فأي ورقة في شجرة في أي مكان من الدنيا في جزيرة أو جبل أو شعب أو فضاء أو غير ذلك إذا سقطت هذه الورقة فإن الله سبحانه وتعالى يعلمها، فكيف لا يعلم بحالك أنت أيها المخلوق المكلف؟! إذاً علم الله الأزلي أحاط بكل شيء، وعلم الله الأزلي يقتضي بقية المراتب الأربع التي هي أسس الإيمان بالقضاء والقدر. فمراتب القدر أربع: الأولى: العلم. الثانية: الكتابة. أي أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة على مقتضى علمه. الثالثة: المشيئة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الرابعة: الخلق. أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء. ومن هنا يتبين ضلال من أراد أن يخرج من قضية القدر مثل المعتزلة وغيرهم بقولهم: إن الإنسان له قدرة مستقلة وله إرادة مستقلة عن الله. هكذا زعموا أنهم يحلون مشكلة القدر بأن يقولوا: إن الإنسان له إرادة مستقلة، فإذا أراد الله أمراً وأراد المخلوق أمراً فالذي يقع إرادة المخلوق؛ لأن المخلوق هو الذي يريد الطاعات والمعاصي. ويقولون أيضاً: إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما الذي يخلق أفعال العباد هم العباد أنفسهم. فنقول لهم: ماذا تقولون في علم الله؟ فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال كلمة مهمة جداً في هذا الباب، وهي قوله: ناظروا القدرية -يعني المعتزلة- بالعلم، فإن أنكروه كفروا وإن أقروا به خصموا. هذه العبارة هي التي أردت أن أوضحها هنا في قضية أهمية علم الله سبحانه وتعالى والإيمان به كمعلم بارز من المعالم. فإننا نقول للقدري المعتزلي الذي يقول: إن الإنسان حر وله إرادة مستقلة نقول له: ماذا تقول في علم الله الأزلي الكامل؟ هل تؤمن به أو لا؟ فماذا سيقول؟ إن أنكره وقال: لا أؤمن بعلم الله الأزلي كفر؛ لأن هذا مذهب الغلاة من القدرية الذين أنكروا العلم فكفرهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وكفرهم أئمة السلف، فهم الذين يقولون: الأمر بالنسبة لله أنُفٌ، أي: لا يعلمه إلا بعد وجوده. فالمعتزلي إن أنكر العلم كفر، وإن أقر به -وهو أصلاً يقر به؛ لأنَّه يؤمن بالعلم ويؤمن بالكتابة- إن أقر بالعلم خصم، فنقول له: أنت قلت: إن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، فله أن يفعل هذا أو يفعل هذا. فنقول لك: علم الله بما سيفعله العبد واحد أو متعدد؟ فسيقول: علم الله واحد. فهل سيخرج العبد عن علم الله؟ هل سيفعل العبد فعلاً يخالف علم الله؟ فسيقول: لا يفعل العبد فعلاً يخالفه ما في علم الله. فنقول له: إذاً ما فائدة الحرية التي أعطيتها إياه إذا كان علم الله الأزلي السابق قد أحاط بكل شيء، وإذا كان العبد لم يخرج عما في علم الله سبحانه وتعالى. لهذا فلا مخرج في قضية القضاء والقدر إلا بالإيمان به على منهج السلف الصالح وإثبات علم الله الأزلي المحيط بكل شيء، إذاً عندنا معلمان بارزان: أولهما: عدل الله وأن الله لا يظلم. والثاني: علم الله المحيط بكل شيء، وأن كل ما يجري فإنما يجري على وفق علم الله الأزلي.

الإيمان بقيام حجة الله سبحانه وتعالى على عباده

الإيمان بقيام حجة الله سبحانه وتعالى على عباده المعلم الثالث: هو قيام حجة الله سبحانه وتعالى على عباده. فالإنسان لو تأمل حاله لوجد نفسه يفعل بإرادته وقدرته، ولوجد نفسه غير مكره، ولو أكره على أمر لم يحاسب عليه، وقيام حجة الله على عباده جاءت بأمور أربعة: أولها: أن العبد قد أعطاه الله قدرة بها يفعل، ولذلك يفعل العبد أفعاله بقدرته، فهو الذي يذهب ويصلي ويصوم، وهو الذي -أيضاً- يفعل المعاصي بقدرته. الثالث: أن له مشيئة {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، وهذه المشيئة أعطاه الله إياها، وهي خاضعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، لكن العبد له مشيئة بها يفعل، فلو فعل فعلاً بغير مشيئة فإنه لا يحاسب. الرابع: أن الله سبحانه وتعالى لا يكلفه إلا بعد البلوغ ووجود العقل، أي أن التكليف مربوط بالعقل والبلوغ، فغير العاقل لا يكلف، وغير البالغ أيضاً لا يكلف، فانتبه لمعالم قيام الحجة. الرابع من معالم قيام الحجة: أن الله سبحانه وتعالى بين لك الطريق، فأرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب، فبينوا لك الطريق بياناً واضحاً مثل الشمس، ومن ثم فإن رسل الله سبحانه وتعالى قامت بهم حجة الله تبارك وتعالى على عباده، فإذا تأملت هذا الإنسان وجدته عنده قدرة، وله إرادة، وهو بالغ عاقل، وقد بينت له الطريق والمحجة فقيل له: افعل هذا ولا تفعل هذا، إن فعلت ما أمرت به فلك الأجر، وإن عصيت وتركت أو فعلت ما نهيت عنه فعليك الوزر. بيان واضح أقام الله به الحجة على عباده، ومن ثم فهذا الإنسان لو تأملت أحواله في هذه الحياة لوجدتها تنقسم إلى قسمين: قسم يجري على الإنسان في هذه الحياة لا إرادة له فيه، فهذا لا يحاسب عليه، مثل كون الإنسان وجد وولد في يوم كذا من أبوين هما فلان وفلان، وعمره كذا، وطوله كذا، وشكله ولون بشرته كذا، فلا يحاسب الإنسان على هذه الأشياء فيؤتى به يوم القيامة فيقال له: لماذا أنت قصير؟ أو: لماذا أنت طويل؟ كذلك أيضاً ما يجري على الإنسان بغير إرادة منه، فإذا مرض وما استطاع أن يذهب إلى المسجد، أو إذا أصابته مصيبة أو غير ذلك من الأمور هل يحاسب الإنسان عليها؟ لا؛ لأنها أمور جرت عليه بغير إرادة منه فلا يحاسب عليها. فمن وقعت عليه مصيبة يؤمر بالصبر؛ لأنَّه يؤجر على ذلك، لكن لا يقال له: لماذا وقعت عليك المصيبة؟ فهذا هو القسم الأول من أقسام ما يجري عليك أنت أيها الإنسان، فهذا قسم لا تحاسب عليه؛ لأنه لا إرادة لك فيه، وإنما جرى عليك بغير إرادة. القسم الثاني: هو ما يفعله العبد بإرادته، أي: ما يقدم عليه الإنسان بإرادته وقدرته فيفعله، فهو يتكلم بإرادته، ويمد يده بإرادته، ويمشي برجله بإرادته، ويفعل بجسمه بإرادته، فهذه الأشياء التي تقع بإرادته هي موطن التكليف والحساب. إذاً فهنا يتبين أن الإنسان الذي يحتج بالقدر ثم يأتي ليقول: أنا مكره وأنا ملزم نقول له: لا. يأتي وقد فعل المعصية فنقول له: هل فعلت المعصية بإكراه؟ هل أكرهك أحد عليها وأنت فعلتها؟ فيقول: قطعاً أنا الذي ذهبت إلى المعصية. إذاً لا تلومن إلا نفسك، ولا حجة لك على ربك سبحانه وتعالى في هذا، وهكذا بقية أمور الدين.

حكم الله تعالى في القدر

حكم الله تعالى في القدر المعلم الرابع من معالم الإيمان بالقضاء والقدر هو: هل لله في القدر حكمة وسر؟ نحن نقول: يجب التسليم بالقضاء والقدر، والنبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه النهي عن الخوض في القضاء والقدر فقال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا). لكن هذا النهي لا ينصب على الإيمان بالقضاء والقدر ومعرفته بأنه ركن من أركان الإيمان مذكور في القرآن وفي السنة، فالإيمان به وتوضيحه على منهاج صحيح هذا أمر واجب؛ لأن القضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر على وجه الباطل، مثل أن يحتج به على المعاصي ولا حجة له، ومثل أن يتمادى في القدر ويقول: هذا مجبور، هذا مخير. أو يعترض على القدر وعلى ما قدره الله سبحانه وتعالى، فالخوض في القدر على منهاج أهل الأهواء أو على طريقة الاعتراض على قدر الله سبحانه وتعالى هو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه قضية. القضية الثانية: هي أن الله سبحانه وتعالى له حكمة في خلق عباده وابتلائهم وامتحانهم. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد العباد على هذه الحالة، أن يكون منهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، وإلا فلو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس كلهم مهتدين، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، ولو شاء لجعل الناس مثل الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. إذاً لماذا جعلهم هكذا؟ لله في ذلك حكمة قد ندرك بعضها وقد لا ندرك كثيراً منها، فهو سبحانه وتعالى له حكمة في أن يوجد هذا الصراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، حتى يبتلي عباده فيبتلي بعضهم ببعض. ومعرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا تجعل الإنسان يؤمن بقدر الله الأزلي، ومن ثم فإن الإنسان لا يعترض على سر الله في القدر، فما هو سر الله في القدر؟ يقول الأئمة رحمهم الله تعالى: سر الله في القدر كونه أمات وأحيا، وأفقر وأغنى، وأذل وأعز. أي: كونه سبحانه وتعالى أراد بحكمته أن يوجد الناس على هذه الحال، فكما أن الإنسان لا يعترض ويقول: لماذا فلان مات وعمره عشر سنوات بينما فلان مات وعمره تسعين سنة؟ وذلك لأن الموت والحياة لله، فكذلك كونه أفقر وأغنى، فهذا غني وهذا فقير، فهذا لله سبحانه وتعالى، وكذلك كونه سبحانه وتعالى أضل وهدى، وجعل الناس هكذا هذا لله سبحانه وتعالى فلا تعترض عليه، فلا يجوز لإنسان أن يقول: لماذا لم يجعل الله الناس كلهم أغنياء؟ ولماذا لم يجعلهم كلهم يعيشون ألف سنة مهتدين؟ فهذه أسئلة فيها اعتراض على أصل حكمة الله سبحانه وتعالى في المقدورات، ومن ثم فإن المؤمن هو الذي يسلم بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.

توهم التعارض بين الشرع والقدر ودفعه

توهم التعارض بين الشرع والقدر ودفعه بعد تلك المعالم الأربعة ننتقل إلى الأمر الثالث، وهو أهم قضية في مسألة القضاء والقدر، وهذه القضية هي توهم التعارض بين الشرع والقدر، فكل من انحرف في باب القضاء والقدر انحرف لأجل ما خطر بباله من وهم التعارض بين شرع الله وقدره. فتجد الإنسان -مثلاً- يقول: لماذا يأمرني الله وقد قدر علي؟ أليس هذا هو السؤال الذي يسأله كثيرٌ من الناس؟ نقول: هذا قائم على الظن بأن هناك تنازعاً بين الشرع والقدر، والمؤمن هو الذي يسلم، فالقدر من الله والشرع من الله، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالخلق هو القدر، والأمر هو الشرع، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون ما صدر من الله متعارضاً أو متناقضا، فالله هو الذي قدر الأقدار، وهو الذي شرع الشرائع، فهل يكون بينهما تعارض؟ نقول: لا. ومن ثم -والحمد لله- تجد المؤمن بالله سبحانه وتعالى مؤمناً بالقضاء والقدر مسلماً به، يعلم أن كل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره، ثم -أيضاً- تجده في نفس اللحظة مؤمناً بالشرائع، فيفعل ما أمره الله به ويشكر الله على توفيقه، ويجتنب ما نهى الله عنه، ويتوب إلى الله إذا وقعت المخالفة. هذه حال كل المؤمنين لا نزاع بينهم، والدليل على هذا أن الإنسان في حياته مأمور باتباع الشرع، أما القدر فلا علاقة له به، القدر أمر غيبي يسلم به، لكنَّه مأمور باتباع الشرع، ودعني أضرب لك مثالاً: حين يؤذن لصلاة فريضة ما نحن صانعون؟ وأولئك الذين سيسمعون الأذان هل يعلمون ما في قدر الله أو لا يعلمون؟ الحقيقة أنهم لا يعلمون، إذاً ماذا سيصنعون؟ فلو جاء أحد مسرف على نفسه وقال: يمكن في قدر الله أني لا أصلي، ثم ذهب ونام وما صلى، فهذا إنسان لا شك أنه مخطئ؛ لأنه ما الذي يدريك أنك في قدر الله وفي علم الله تصلي أو لا تصلي؟ لماذا لا يكون في علم الله أنك تصلي؟ ولهذا تجد الإنسان دائماً يستقبل أيامه بأحداث جديدة هو يجهلها، والواجب عليه أن يسير عليها على منهاج ربه، فإذاً أمرنا الله بالصلاة فنصلي، ونهانا الله عن ترك الصلاة أو عن فعل المعاصي فنجتنبها. وهكذا في حياة الإنسان، فهو في كل لحظة وفي كل ساعة يستقبل أمراً مجهولاً، وإذا كان يستقبل هذا الأمر المجهول فالواجب عليه أن ينظر إلى الشرع فينفذ.

طوائف المتوهمين

طوائف المتوهمين إذاً هل هناك صراع بين القضاء والقدر وبين الشرع؟ A لا صراع. ولهذا تجد أن الذين انحرفوا في هذه القضية -قضية التعارض بين الشرع والقدر- انحرفوا وانقسموا إلى أقسام، فقسم منهم مال إلى القول بحرية الإنسان حتى يقول: إن الشرع والأمر به صحيح، كما ذهب إليه المعتزلة وقالوا: الإنسان حر. ومثلهم أصحاب مذاهب الحرية في العصر الحديث وغيرهم الذين يقولون: إن الإنسان حر تماماً. وأخطر ما في هذا المذهب أنه يؤدي بالإنسان إلى الانسلاخ من الشريعة؛ لأن الإنسان إذا كان حراً عن قدر الله سبحانه وتعالى فهو أيضاً حر عن شرع الله، وإذا آمن الإنسان بقضاء الله وقدره وربوبيته على الخلق أجمعين آمن بأن الذي يملك هذا هو الذي شرع، فتجب طاعته في الشريعة. ومن هنا تجاوز هذا الانحراف في فهم هذه القضية إلى أن قالت طائفة بالحرية المطلقة للإنس، وقابلتهم طائفة أخرى فقالت بالجبر، أي أن الإنسان مجبور، وهؤلاء الذين قالوا بالجبر قوم قالوا به وأضافوا إليه القول في الإرجاء في مسألة الإيمان، فأدى بهم هذا إلى الانسلاخ من الشريعة. لأنه يقول لك: إنَّه مجبور. كما يصنع أولئك الذين يحتجون بالقضاء والقدر، فإذا وقع في معصية قال: يا أخي! هذا مكتوب علي. نقول له: هي مكتوبة عليك لكن أنت فعلتها. فالاحتجاج بالجبر احتجاج باطل؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يحتج به في جميع أحواله، ولهذا تجد الإنسان مع الناس قدري لا يؤمن بالقدر ومع الله جبري، هذا الإنسان المنحرف إذا اعتدى أحد على ماله أو ضربه أو اعتدى على عرضه وقيل له: هذا بقضاء الله وقدره أبى وقال: لا. بل هذا مجرم، هذا فعل كذا وكذا فيستحق العقوبة، ويجب أن يعاقب. أليس الإنسان يقول هذا؟ بلى. فإذا قيل له: هذا بقضاء الله وقدره قال: لا. ما علي من قضاء الله وقدره، هذا الذي فعل هذه الخطيئة أو هذا الذنب فأخذ مالي أو ضربني أو اعتدى على ولدي أو أهلي أو غير هذا يستحق العقوبة. فانظر إليه لا يحتج بالقدر مع أن الذي جرى هو بقضاء وقدر! فإذا ما جاءت القضية بينه وبين ربه سبحانه وتعالى اعترض وقال: قدر الله علي، فكيف يعذبني. فلماذا فيما بينك وبين الله تكون جبرياً معترضاً على قضاء الله وقدره وفيما بينك وبين الخلق تأبى، ولو قيل لك: إن هذا بقضاء الله وقدره ما رضيت، وإنما تقول: يجب أن يعاقب هذا المجرم. نقول أيضاً: أنت تستحق العقوبة؛ لأنك فعلت ما فعلت بإرادة منك وبقدرتك، ومن ثم أدت هذه المقالة -وهي قضية الانحراف في مسألة التعارض بين الشرع والقدر التي يظنها بعض الناس- أدت ببعض الطوائف مثل الصوفية إلى أن صاروا مع القدر حيث صار، أدى بهم الجبر -نسأل الله السلامة والعافية- إلى أن صاروا مع القدر حيث صار، حتى إنه إذا انتصر المسلمون قالوا: رضينا بانتصارهم لأن هذا من قدر الله. وإذا انتصر الكفار قالوا: رضينا بانتصارهم لأن هذا من قدر الله. وإذا وقع الكفر والفواحش قالوا: رضينا بها لأنها من قدر الله. فتأمل هذا الإلحاد والخروج عن شريعة الله سبحانه وتعالى ما الذي سببه؟ سببه الميل إلى الجبر الذي أدى بهم إلى إنكار الشريعة. ومن ثم فإننا نجد توهم التصادم بين الشرع والقدر هو الذي أدى بالكثير إلى نوع من الاضطرابات النفسية التي نراها ممن تسلط عليهم الشيطان فاحتجوا بالقدر على معاصيهم ولا حجة لهم، إذاً هذا الاعتراض في قضية علاقة الشرع بالقدر هذا الاعتراض هو الذي قد يؤدي ببعض الناس إلى الاحتجاج بالقدر، ونحن نقول: إن الذي يحتج بالقدر على المعاصي لا حجة له لأمور: أولها: أن الإنسان فعل ما فعل بإرادته ومشيئته، فهو غير مكره، والله قد أقام عليه الحجة. الثاني: أننا نقول لهذا الإنسان الذي فعل المعصية واحتج بالقدر عليها نقول له: هل تحتج بالقدر في جميع أمورك؟ فلو جاء أحد واعتدى على مالك المفترض أن تقول له: هذا بقضاء الله وقدره. فهل تصنع هذا؟ هو لا يصنع هذا. ثم نقول: لو أتانا وقال: إنني فعلت المعصية وهي مكتوبة علي فهي مقدرة نقول له: وماذا أنت صانع بعد الآن؟ هل تعلم ماذا في قدر الله؟ أليس من الممكن أن يكون في قدر الله أنك تتوب إلى الله وتعود إليه وتعمل الصالحات وتكون من المؤمنين؟ افعل هذا فستجد أن في قدر الله أنك من المؤمنين المتقين، لكن إذا اعترض وقال: تبين أن الله ما يريد لي الهداية. ثم أسرف على نفسه ومشى في العصيان نقول له: لا حجة لك.

منهج السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع الأقدار

منهج السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع الأقدار منهاج السلف رحمهم الله تعالى أنهم ينازعون القدر بالقدر، وهذه حياة الإنسان، كل قدر نازعه بقدر، فقدر الجوع تنازعه بالأكل والشرب، وقدر العطش تنازعه بالذهاب لأن تشرب الماء، وقدر حاجات الإنسان ينازعها بقدر آخر، وقدر المعصية ينازعه بقدر آخر وهو التوبة، وقدر الطاعة ينازعه بقدر آخر وهو طاعة مثلها، وهكذا، فلو تأملت حياة الإنسان لوجدته لا يمكن أن يتوقف لحظة عن القدر، فهو في قدر دائم، والمؤمن الموفق هو الذي ينازع الأقدار بالأقدار على منهاج الحق، أي: على وفق شريعة الله سبحانه وتعالى. فالإنسان في كل لحظة في قدر، ثم يستقبل اللحظات الأخرى وهي بقدر على وفق منهاج الله سبحانه وتعالى، فلو جاءنا عاصٍ وقال: هي بقدر نقول: نعم. ولا حجة لك، لكن نازع هذا القدر بقدر آخر وهو التوبة، فلو قال: تبين لي أن الله قدر علي أن أكون من العصاة وذهب إلى المعصية نقول: لا تلومن إلا نفسك؛ لأنه لا حجة لك، فلماذا تذهب إلى المعصية؟ لماذا لا تذهب إلى الطاعة؟ المؤذن يدعوك إلى الخير ولا تدري ماذا في قدر الله، ربك يناديك للصلاة فاذهب إلى الصلاة ستجد أن الله يعينك، وأن الصلاة التي تقوم بها طاعة لله هي بقضاء وقدر. وهكذا يتبين أنه لا حجة للعبد أبدا.

أثر الإيمان بالقدر في حياة المسلم

أثر الإيمان بالقدر في حياة المسلم

زيادة الإيمان وقوته

زيادة الإيمان وقوته الأمر الرابع: أثر الإيمان بالقضاء والقدر في حياة المسلم. الحقيقة أن أثر هذا عظيم جدا في حياة الإنسان وفي حياة الأمة جميعاً، وسأجمل هذه الآثار، لكن ينبغي أن تعلم أن قضية الإيمان بالقضاء والقدر قضية تربية وقضية أعمال قلوب، فالإنسان الذي يعبد الله ويتبع شرعه يعمر الله قلبه بالإيمان فيصبح مؤمناً بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره فيستريح في حياته. لهذا فهذه الأثار التي سأشير إليها ما هي إلا أثار سأذكرها بإجمال تبين لنا أهمية الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في الحياة. فمنها أولاً: زيادة الإيمان وقوته؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وكل ركن من أركان الإيمان إذا آمن به الإنسان وعمر قلبه به تصديقاً وإيماناً وعمل قلب زاد إيمانه وقوي قلبه.

دفع المؤمن نحو العلم والإنتاج

دفع المؤمن نحو العلم والإنتاج ثانياً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يدفع الإنسان ويدفع الأمة إلى العمل، وليس كما يظن الناس أن الإيمان بالقضاء والقدر يدفع الإنسان إلى الكسل، لا، بل الحاصل هو العكس تماماً، فالعمل والسعي مأمور به، والمؤمن هو الذي يعلم أنه لابد أن ينازع الأقدار بالأقدار، فهو يسعى ويعمل، لكنه يختلف عن غيره بأنه يسعى ويعمل وهو مرتاح الضمير، فلا يحزن ولا يغضب إذا فاته شيء، بخلاف غير المؤمن فإنه يتحسر على كل شيء يفوته وهو يطلب رزقه مثلاً. فإذاً الإيمان بالقضاء والقدر يجعل الأمة تعمل وهي تعلم أنها إنما تعمل على وفق قضاء الله وقدره، فهي تعمل مع الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان). فهل تأملت كيف أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله؟ إنَّ المؤمن القوي هو القوي في إيمانه، القوي في الخير، القوي في نفع الناس، القوي في العمل، يعمر الأرض ويعمر الكون، وهو مؤمن مصدق بقضاء الله وقدره، لكنه لا يحزن إذا فاته شيء أو لم يقع هذا الشيء الذي أراده، لا يحزن ولا يكون كبعض الناس يقول: لو أني فعلت كذا كان كذا ويتحسر؛ لأن (لو) تفتح عمل الشيطان.

إراحة المؤمن من أكدار الدنيا

إراحة المؤمن من أكدار الدنيا ثالثاً: الحياة أحزان وأكدار، والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فهو قد يفرح أياماً لكنه يحزن أياماً أخرى، وهذا عام لجميع الناس أعلاهم منزلة دنيوية وأقلهم منزلة دنيوية، فتش عن أحوالهم تجدها متشابهة، فالملوك والأغنياء والرؤساء المشهورون والأثرياء والفقراء المرضى كلهم فتش عن حالهم تجد أحوالهم متشابهة، يحزنون أياماً ويفرحون أياما. إذاً فمن هو الذي يستريح؟ لا يستريح إلا المؤمن الصابر على أقدار الله تبارك وتعالى.

الرضا بقضاء الله وقدره في المصائب

الرضا بقضاء الله وقدره في المصائب رابعاً: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره في المصائب، وهذا الرضا هو من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان ومن أشدها أثراً على استقراره النفسي، فالحياة مصائب، والإنسان دائماً معرض لها؛ لأنها أقدار وأحكام قائمة. فالمؤمن بقضاء الله وقدره هو الذي يرضى ويسلم ويؤمن بأن هذا قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره، ولهذا لو فتشت عن أولئك الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر تجدهم أمام هذه المصائب على أحوال عجيبة، فمنهم -كما هو الحال في كثير من بلاد الغرب- من ينتحر، يؤدي به حاله إلى الانتحار وإزهاق نفسه، نسأل الله السلامة والعافية. ومنهم من تتحول حياته إلى حياة بائسة، ينظر إلى الدنيا وإلى الحياة نظرة مظلمة، ومنهم من يتحول وتتحول حياته إلى مرض نفسي لوجود مصيبة، لكن المؤمن بالقضاء والقدر ليس هذا حاله، ومنهم من يتحول وتتحول حياته إلى النقمة من الآخرين. إذاً هذه الأحوال من يسلم منها؟ يسلم منها ذلك الذي يؤمن بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره ويسلم، فإذا سلم ورضي حول الله تبارك وتعالى تلك المصيبة إلى خير وإلى نعمة وإلى رضاً وإلى استراحة نفس واستراحة قلب، حتى إن الإنسان ربما لو خير بين وقوع المصيبة وبين ما أعطاه الله من الخير على صبره عليها فلربما اختار الثانية، وهذا هو الغاية، وليس ذلك إلا للمؤمن.

القضاء على داء الحسد في القلوب

القضاء على داء الحسد في القلوب خامساً: والإيمان بالقضاء والقدر يقضي على داء من أخطر الأدواء في المجتمعات، ألا وهو داء الحسد الذي هو داء عضال يأكل صاحبه ويولد الضغائن بين الناس، لكن المؤمن بالقضاء والقدر يعلم أن ما يراه على الآخرين وحرمه هو من جاه أو مال أو غير ذلك إنما هو بقضاء الله وقدره، فهو ابتلاء لهم، كما أن حرمانه ابتلاء له {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. وإذا كان كذلك فيسلم الأمر لله، فهو الذي يمن على عباده بما يشاء، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى هذا ومنع هذا بقضاء وقدر، وكل ذلك امتحان وتسليم، فلماذا تحسد الناس؟ ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، هذه هي القاعدة، ومن ثم فإيمان الإنسان بقضاء الله وقدره يجعله ينظر إلى ما يجري في الكون وإلى ما يجري على الخلق وإلى تفاوت أحوالهم وأرزاقهم ومراتبهم الدنيوية ينظر إلى ذلك نظرة إيمانية قدرية ربانية تجعله يسلم الأمر لربه سبحانه وتعالى ويعلم أنه تكييف. أما إذا اختل هذا عنده صار مسكيناً قلبه يتحسر، ينظر إلى هذا الرجل الغني فيتحسر حسداً له يود لو تلف ماله هذه اللحظة، وتحسره هذا كما قال الشاعر: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله تحسر الحسود لا يضر به إلا نفسه؛ لأن ذلك الذي أعطي هذا المال لن يزول عنه بحسده، ولأنك أيضاً لن تبلغ درجته، ولن يأتيك هذا المال بحسدك، فما الفائدة؟ لا فائدة. إذاً الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على هذا الداء العضال.

تربية المؤمن على الشجاعة

تربية المؤمن على الشجاعة سادساً: الشجاعة، فللمؤمن بالقضاء والقدر شجاعة في ساحات الجهاد وعند كلمة الحق، ولقد كانت هذه سمة المسلمين على مدار تاريخهم الطويل، كانوا أهل جهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى يخوضون المعارك لا يخافون؛ لأنهم يوقنون أن الأمر مقدر وأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، دخلت المعركة أو لم تدخلها، جاهدت في سبيل الله أو لم تجاهد، فأجلك محدد، فإذا جاء يأتيك سواءٌ أكنت في معركة، أم على فراشك، أم بين يدي الأطباء، أم بين يدي أحب الناس إليك {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. فإذا تكرر هذا عند المؤمن تحول إلى إنسان مقدام لا يخاف؛ لأنه يعلم أن الأجل مقدر، ولأنه يوقن أن الرزق مكتوب، ولأنه أيضاً يؤمن إيماناً تاماً أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوصي عبد الله بن عباس. ولهذا تجد مواقف المؤمنين أمام الطغاة وأمام الظلمة يواجهونهم بالحق لا يخافون في الله لومة لائم؛ لأنهم يعلمون أن هؤلاء لا يملكون من أنفسهم شيئاً فضلاً عن أن يملكوا من غيرهم شيئاً. فهذا موسى عليه الصلاة والسلام واجه فرعون الطاغية الذي كان يقول: (أنا ربكم الأعلى). وكان معه الجنود المجندة بالألوف المؤلفة، ومع ذلك نصره الله سبحانه وتعالى ونجاه، وأغرق الله فرعون وقومه وهو ينظر. ففي ميزان الماديات موسى ضعيف وفرعون ذو سلطان قاهر، لكن في ميزان الله سبحانه وتعالى نصر الله موسى وقومه وأذل فرعون وقومه. وهذا خالد بن الوليد البطل الشجاع الذي خاض المعارك كلها كيف كانت وفاته؟ كانت وفاته على فراشه، وقال كلمته المشهورة: خضت أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع أربعة أصابع إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر، يؤتي الإنسان شجاعة في الحق، ويجعله لا يخاف.

تعليق رجاء العبد وخوفه بالله تعالى وحده

تعليق رجاء العبد وخوفه بالله تعالى وحده والإيمان بالقضاء والقدر -وهذا هو الأثر السابع- يجعل العبد لا يخاف إلا الله ولا يرجو سواه، كيف هذا؟ لو تأملت في حياة الناس اليوم -مثلاً- لوجدت أن الأم تخاف على ولدها، والأب يخاف، والإنسان يخاف، وكذلك أيضاً يرجو غيره. لكن الإيمان بالقضاء والقدر يجعل خوفه ورجاءه لله سبحانه وتعالى، وهذا هو الاعتدال الصحيح في حياة المؤمن، فلا يخاف الإنسان -مثلاً- من شيطان أو جني أو ساحر أو ولي يزعم أن له كرامات أو غير ذلك؛ لأنه يعلم أن هؤلاء لا يملكون شيئاً إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً لا يرجو المخلوقين في رزق ولا في غيره، وإنما يرجو ربه سبحانه وتعالى، وهذا أثر عظيم في حياة الإنسان.

الشكر على النعمة والصبر على البلية وعدم التحسر على الفائت

الشكر على النعمة والصبر على البلية وعدم التحسر على الفائت الثامن: أن المؤمن إذا أصابته سراء شكر وإذا أصابته ضراء صبر، وهذا لا يكون إلا للمؤمن بقضاء الله وقدره. التاسع: عدم التحسر على ما مضى، بل ينظر الإنسان دائماً إلى أمامه فيعمل، وهذه حياة المؤمن بالقضاء والقدر، فالإنسان قد يفكر أحياناً فيما مضى، يقول: لو أنني فعلت كذا، لو أنني اشتريت الأرض الفلانية إلى آخره، فلا يتحسر على ذلك؛ لأنه يعلم أنَّ هذا أمر مقدر، وإنما ينظر إلى ما هو أمامه فيفعل. ومن ثم فإن الإنسان يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي استأثر بعلم الغيب، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- يأمره الله تعالى أن يقول: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]. العاشر: أن الإنسان قد يبتلى في هذه الحياة بمرض أو بولد معاق، أو يكون ممن لا يولد له إلا بنات، أو يكون عقيماً ممن لا يولد له، أو غير ذلك من أمور الحياة التي قد تبقى مع الإنسان طول حياته، فهذا كله بقضاء الله وقدره، لكن من هو الذي يستريح؟ لا يستريح إلا من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ورضي بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره فسلم؛ لأن هذه الأشياء تعيش مع الإنسان ليل نهار، فهل تحسره واعتراضه على قدر الله يغير من واقع الأمر شيئاً؟ لا يغير. لكن المؤمن هوالذي يرضى بقضاء الله وقدره، يقول: آمنا بقضاء الله وقدره، الحمد لله، اللهم! اؤجرني على مصيبتي. فإذا آمن بذلك استراح وتحولت حياته إلى حياة عمل وطاعة وبذل للخير بأي شيء ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، حتى يجد ذلك يوم السعادة العظمى يوم القيامة. إذاً فنظام الدنيا عنده ليس كل شيء، وإنما ينظر إلى ميزان العقيدة، فمتى نظر ذلك الإنسان الذي لا يولد له لا يعترض حينما يرى الناس لهم أولاد، وإنما يعلم أن الدنيا فانية والآجال محددة، وهذه الدنيا كلها هباء، فيعمل الطاعات ويحسن إلى الآخرين؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى إن رضي عنه وأدخله الجنة فإنه سيجد هناك من النعيم والحبور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. إذاً فالإيمان بالقضاء والقدر هو عماد الحياة المستقرة. أسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم للإيمان بقضائه وقدره على الوجه الصحيح، وأن يعيذني وإياكم من الفتن ومن المخالفات جميعاً.

الأسئلة

الأسئلة

القدر والسبب في الحوادث

القدر والسبب في الحوادث Q عندما يتكلم الناس عن الحوادث التي تقع ويحصل فيها وفاة وغير ذلك يقول بعض الناس: هذا حصل بقضاء الله وقدره فيأتي من يقول: إن هذا حصل لأسباب أخرى كعدم الانتباه وغير ذلك. فما القول الحق في هذه القضية؟ A القول الحق فيها أن ما كان منها مصيبة فهو بقضاء الله وقدره، ولا شك أن هذه الحوادث بقضاء الله وقدره، لكن هل يعني ذلك أن نغفل عن مسبباتها؟ لا. لا نغفل عن مسبباتها، فنحن نعلم أن الإنسان إذا كان مفرطاً ومسرعاً وحدث الحادث فإننا نقول: لا شك أن الحادث هو بقضاء الله وقدره، لكنَّه أخطأ في السرعة، فلابد أن يحاسب عليها. ولهذا لو توفي معه أحد في مثل هذا الحادث وجبت عليه الكفارة، أليس كذلك؟ بينما لو كان ليس له دخل في ذلك أصلاً لقلنا: لا تجب عليه الكفارة. إذاً تبين هنا أن هذه المصيبة التي وقعت على من وقعت عليه هي بقضاء الله وقدره، لكن المسببات نبحث عنها ولا مانع من ذلك ولا اعتراض.

أذكار الصباح والمساء ومدى حمايتها من المصائب

أذكار الصباح والمساء ومدى حمايتها من المصائب Q هل الحرص على أذكار الصباح والمساء مسلم من وقوع الحوادث والمصائب أم لا؟ وهل قولها بعد خروج الوقت ينفع أم لا؟ A ينفع -إن شاء الله- قولها بعد خروج الوقت، لكن الحرص عليها في أوقاتها أولى، إنما هل تنفع؟ نقول: هي من الأسباب التي أمر الله بها وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسباب إذا وجدت قد توجد مسبباتها وقد لا توجد، لكنك مأمور، فهي شبيهة بإنسان يقول -مثلاً-: أنا لن أتزوج، إن كان الله كتب لي أولاداً فسأجد الأولاد تزوجت أم لم أتزوج. فهذا نقول له: أنت عقلك فيه شيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرك بالنكاح على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النكاح من الأسباب التي تؤدي إلى وجود الأولاد، فافعل الأسباب، فإذا أعرضت عن السبب بالكلية فأنت مخطئ، لكن إذا فعلت السبب قد يأتيك الولد وقد لا يأتي. كذلك أيضاً نقول في الأذكار، فقد أمرنا الله بها وأخبرنا بأنها حصن تحمي هذا الإنسان، فنسمعه ونمتثل أمر الله بها، وهي عبادة، لكن هل معنى ذلك أن من فعلها لا يأتيه أي حادث أبداً؟ نقول: لا. فقد يتأخر السبب لوجود مانع، فالمؤمن يحرص على الأذكار، وهي -بإذن الله تبارك وتعالى- تحميه، لكن لو وقع عليه شيء لا يعترض، ولا يقول: أنا ذكرت الله، أنا دعوت في هذا الصباح. وإنما قد يدعو الإنسان بقلب غافل، وقد يكون الله أراد لك خيرا. فأنت تريد الخير بهذا الذكر لكن الله أراد لك خيراً بالذكر وبهذه المصيبة، فلا تعترض على ربك سبحانه وتعالى، بل ارض بما قسم الله لك.

الاكتفاء بالإيمان المجمل بأمور العقيدة

الاكتفاء بالإيمان المجمل بأمور العقيدة Q هل يكفي العامة إيمانهم المجمل بأبواب العقيدة؟ فمثلاً: هم يؤمنون بالقدر خيره وشره، ولكن لا يحفظون شيئاً في مهام القضاء والقدر، وكذلك في باب صفة الله وغيره من الأبواب؟ A نعم. يكفيهم.

نصيحة لفاقد والديه

نصيحة لفاقد والديه Q ما رأيكم في شاب فقد أحبابه أباه وأمه، بل نشأ وهو لا يعرف أباه ولا أمه، فيرجو أن توصيه بوصية تقع في قلبه موقعاً يستفيد منها في بقية حياته؟ A أقول لك ولغيرك ممن ابتلاه الله بمثل ما ابتلاك به أو بجزء منه: إنَّ الكثير منهم من فقد أباه ومنهم من فقد أمه، والله سبحانه وتعالى أرحم بهم من الوالدة بولدها، لكنَّه سبحانه وتعالى يبتلي عباده ويمتحنهم ليكون هذا الابتلاء والامتحان خيراً للمؤمنين. والذي أوصيك به -يا أخي- هو ثلاثة أشياء: أولها: الرضى بالقضاء، وأن توقن أن هذا مكتوب عليك قبل أن تخلق فلا تتحسر؛ لأنك لم تعرف أباك أو أمك، بل ارض بما قدر الله سبحانه وتعالى لك، واعلم أن الله رحيم بك قريب منك حينما تكون من أهل الخير والطاعة. الأمر الثاني: أن تعلم أن الدنيا فانية وأن الآخرة هي دار الحيوان، فالدنيا أحزان وأكدار، فمن الناس من ضحكت له الدنيا وازدهرت عنده شرفاً وجاهاً ومالا وإذا بالأقدار تخطفها منه أو تخطفه منها في لحظة عين، هذه هي الحياة، ولو فتشت -يا أخي- عن أحوال الناس لوجدت كل بيت من البيوت فيه ابتلاء وامتحان، فلو خيرت لاخترت ما أنت عليه. فالإنسان قد ينظر أحياناً إلى بعض الناس أو بعض البيوت -مثلاً- فيقول: سبحان الله! ما أسعدهم! ما أحسن أحوالهم! سيارات وأموال. لكن فتش عنهم، وادخل داخل البيت ستجد هذا البيت قد ابتلي ببلية أو بمصيبة لو قيل لك: نعطيك الدنيا كلها وتحمل معك هذه المصيبة لما قبلت ذلك. فأنت أنعم الله عليك بنعم عظيمة جدا لا تعد ولا تحصى، ولهذا دعني استطرد قليلاً وأسألك سؤالاً واحداً وأقول: لو جاء أعمى غير مبصر وقال لك: أنا عندي مليار ريال أو عشرة مليارات أريد أن أعطيك إياها وآخذ إحدى عينيك فهل أحدٌ يقبل هذا العرض؟ إذاً أنت بعينك هذه تملك أكثر من عشرة مليارات، فكيف بنعمة السمع والبصر وغير ذلك؟ إذاً أنت بنعم عظيمة، فلماذا يصبح عندك هذا الحصار في قلبك تنظر إلى الناس بهذه النظرة؟ لهذا سأقول لك: يا أخي! اعلم أن الدنيا أحزان وأكدار، والبيوت أسرار، وهي مملؤة بأحزانها وأكدارها، فارض بما قسم الله لك، فلربما لو قست نفسك على غيرك لوجدت أنك أحسن من كثير من غيرك، لهذا أقول: اعرف قدر الدنيا. ثم أقول لك ثالثاً: انظر إلى الآخرة، واعمل في الدنيا، فكما أنك فقدت أبويك فابحث عن زوجة صالحة، فلعل الله سبحانه وتعالى يجعل فيها خيراً ويرزقك الولد لتعيش حياة ملؤها الرضا، ومن ثم فاجعل طريقك طريق خير تسير فيه على شرع الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا علم منك حسن الإيمان بقضائه وقدره عوضك خيرا في الدنيا وفي الآخرة. لهذا فالتفت إلى الآخرة، فانظر إلى ما بعد الموت، فتلك الحياة الحقيقية والسعادة الحقيقية. هذه هي الأمور الثلاثة التي أحببت أن أذكرك بها. فاعمر حياتك ومستقبل حياتك بطاعة الله، والله يعوضك عما فقدت بزوجة وأولاد صالحين إن شاء الله تعالى تعيش معهم حياة إيمانية رخية. وأمامك أيضاً ما عند الله سبحانه وتعالى وما أعد لأهل النعيم من أهل الخير. أسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياك جميعاً ممن يسعد يوم القيامة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة في العقيدة

مقدمة في العقيدة خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في بداية نشأته كائناً متميزاً مفطوراً على التوحيد، وعلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وقد بقيت هذه الفطرة طيلة عشرة قرون، حتى جاءت الشياطين فاجتالت بني آدم عن عبادة الله إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كانت مهمة الرسل والأنبياء دعوة الناس إلى عبادة الله، وتحذيرهم من عقابه ومقته سبحانه إن هم استمروا على العصيان والتمرد، وبهذا تظهر مهمة النبوة والإرسال إلى الخلق، وما زالت الرسل تترى حتى ختمت بحبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم كان الأمر قائماً بعده والحجة مستمرة وباقية على ألسنة ورثة الأنبياء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

قضايا في أبواب العقيدة

قضايا في أبواب العقيدة

لماذا النبوة

لماذا النبوة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه الدروس ستكون في قضايا العقيدة المختلفة، وقد ترددت بين أمرين بالنسبة لمنهج الدرس: أحدهما: أن أجعله درساً يقوم على دراسة كتاب من كتب العقيدة وشرحه، كما كان في دروس شرح لمعة الاعتقاد لـ ابن قدامة رحمه الله تعالى. الأمر الثاني: أن نجعل هذه الدروس نظراً لقصر الوقت دروساً متفرقة حول قضايا مهمة في أبواب العقيدة، وقد رجحت أن يكون منهجنا في هذه الدروس هو المنهج الثاني، أي أننا سنعرض في كل درس إن شاء الله لقضية من قضايا العقيدة القديمة أو المعاصرة. وسأفتتح هذه الدروس بمقدمة حول العقيدة ومنهاج السلف؛ لأن هناك قضايا مهمة ومسلمة يجب أن يعيها المسلمون جميعاً والدارسون للعقيدة الإسلامية بشكل أخص، وكثيراً ما وقع الاختلاف والتفرق بين المسلمين بسبب أنه ليست لهم قواعد ولا أصول ثابتة ينطلقون منها جميعاً، فحينما تختلف بهم المناهج والقواعد سرعان ما يتمايزون يميناً وشمالاً: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، ومن رحمته بهم أن أرسل لهم الرسل، وأنزل لهم الكتب، وبين لهم المحجة، حتى ترك كل رسول أمته على مثل البيضاء -الشمس- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وإذا كان الأمر كذلك فإن الخطأ إنما يقع من جانب الناس في تعاملهم مع النصوص. أما النصوص من كتاب وسنة فهي وحي من الله سبحانه وتعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقد حفظ الله القرآن العظيم، فلم يترك حفظه لأحد، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً هي وحي يوحى، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. إذاً الكتاب والسنة مصدران أصيلان من تمسك بهما لا يمكن أن يزل ولا أن يطغى، ولا أن ينحرف يميناً أو شمالاً، ولقد شهدنا هذا وسمعناه وقرأناه من خلال تجربة عملية قوية غيرت مجرى تاريخ البشرية، حين تمسك أولئك الصحب الكرام بذينك المصدرين وعملوا بهما، فكان لهم من الشأن ما هو معلوم ومعروف، ومن ثم فإن أي عودة للأمة الإسلامية، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تكالب فيه أعداء الإسلام مشرقاً ومغرباً، بل ومن داخل بلاد المسلمين تكالبوا فيه جميعاً على الإسلام وعلى المنهج الحق الذي يعتمد منهاج السلف الصالح رحمهم الله تبارك وتعالى، وإذا كانت الحال كما نشاهد مما يحز في كل نفس مؤمن فإن العودة إلى العزة والكرامة وإلى الرفعة والتميز عن باقي الأمم جميعاً لن يكون إلا بالعودة إلى تلك الأصول الصحيحة، والله سبحانه وتعالى يقول -وهذا الخطاب يشمل الفرد ويشمل الأمة-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، أما من اتبع ذكر الله والتزمه فإن له الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة، لهذا فنحن في هذه المقدمات سنعرض لقضايا تتعلق بالعقيدة وبمنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

خلق الإنسان من بداية نشأته كائنا متميزا

خلق الإنسان من بداية نشأته كائناً متميزاً القضية الأولى: لماذا النبوة؟ ولماذا احتاجت البشرية إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدار التاريخ؟ نحن نعلم ونوقن أن نشأة الإنسان على هذه الأرض نشأة متميزة، وهذا خلاف لتلك النظريات الغربية وغيرها التي تزعم أن الإنسان كائن متطور، كنظرية دارون وغيرها من النظريات التابعة لها، ففي منهاج الإسلام وفي عقيدة الإسلام ونصوصه الصريحة أن هذا الإنسان كائن متميز خلقه الله سبحانه وتعالى بيده، خلق آدم أبا البشر بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، ثم إنه تعالى خلق حواء زوجه منه، وابتلاه وامتحنه، فلما عصى آدم وزوجه أهبطهما الله سبحانه وتعالى إلى الأرض، وجعل حياتهم في هذه الأرض حياة تكليف، تلك قصة نشأة البشرية، فلا قرود ولا تطور، ولا ما يذكره هؤلاء جميعاً، وهذه قضية بديهية تماماً في عقيدة الإسلام، وتعقبها قضية بديهية أخرى، ألا وهي أن آدم وزوجه لما أهبطهما الله سبحانه وتعالى إلى الأرض أهبطهما وهما على عقيدة التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له والتزام ما أمرهما الله سبحانه وتعالى بشرعه، وهكذا نمت ذريتهما من بعده. إذاً هنا قضيةً أخرى، ألا وهي أن آدم لما أهبطه الله من الجنة كان على المعرفة والتوحيد الخالص، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213] إلى آخر الآية، وقد روى البخاري عن ابن عباس موقوفاً عليه قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) فآدم وذريته من بعده كانوا على المعرفة الحقيقية اليقينية العلمية العبادية الصحيحة على منهج التوحيد الخالص، وهذا مقطوع به.

الإنسان نشأ عالما عارفا بالله

الإنسان نشأ عالماً عارفاً بالله وبذلك أيضاً تبطل نظرية أخرى عند كثير من دارسي الأديان الذين يزعمون أن الإنسان في معرفته بالله تطور، يقولون: إن الإنسان أول ما نشأ على هذه الأرض -بصرف النظر عن كيفية نشأته- نشأ بدائياً لا يعرف شيئاً -أي: جاهلاً- ثم بدأ يتحرك في هذه الأرض، فنظر فبدأت تنشأ عنده عقيدة، رأى جبلاً ضخماً أمامه فخافه فعبده، رأى شمساً أو قمراً فنظر إلى عظمته وتكرره عليه فخافه وعبده، ثم لم يزل به هذا، أي أنه ابتداء قام على الشرك بالله وعبادة غير الله، ثم لم يزل به عقله ونموه يتطور حتى انتهى به إلى تكامل العقل البشري، وذلك من خلال العقيدة الصحيحة التي هي عقيدة التوحيد. هذا المنهاج خاطئ من أوله إلى آخره، فالقول بتطور الإنسان كالقول بتطور الأديان أو تطور الدين عند الإنسان، فهنا قضيتان: القضية الأولى: أن الإنسان كائن متميز. القضية الثانية: أن الإنسان أول ما نشأ على هذه الأرض نشأ عالماً عارفاً عابداً لله على وجه الحقيقة، أي أن عقيدته كانت على التوحيد الخالص. ومن ثم نجد أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر الملائكة بقوله: {إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أي: علم آدم أسماء كل شيء. ثم اختبر الملائكة، فلما لم يكن للملائكة علم إلا ما علمهم الله ما عرفوا هذه الأسماء، فلما أنبأهم آدم بهذه الأسماء تبين فضل آدم عليه الصلاة والسلام. وهذه القضية التي تتعلق بنشأة اللغات أيضاً، وهي قضية عقدية فكرية طالما تكلم عنها الباحثون وخاصةً رواد الدنيوية وغيرها، هذه القضية المتعلقة باللغات نجدها قضية إيمانية موجودة في القرآن العظيم أن الله: {عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة:31] ومن ثم فلو فكرنا قليلاً فمن أعظم نعم الله علينا في هذه الحياة تعليم الأسماء واللغات، أرأيت لو لم يكن في نظام الحياة البشرية هذه الأسماء كيف ستكون حياتنا؟ لن نستطيع أن نتفاهم إلا بحقائق الأشياء، فحين أخبرك بقولي: فلان صنع كذا لا يمكن أن يفهم عني من هو فلان هذا إلا إذا أتيت لك به، وعندما أقول: فعل كذا لا بد أن أفعل نفس الفعل حتى يفهم الذي أمامي، وعندما أقول: اشتريت سيارة لا يمكن أن يفهم مني معنى سيارة إلا حين آتي بنفس السيارة، وعندما أقول: صنعت خبزاً لا يفقه معنى الخبز إلا لما آتي بالخبز، فمن الله على عباده بتعليم اللغات، هذا التعليم اللغوي منذ آدم عليه الصلاة والسلام به تستقيم حياة الناس، ولو لم يكن كذلك لأصبحت حياة الناس في غاية التعقيد والعناد، ولهذا كان تعليم اللغات يفتح آفاقاً من العلم والمعرفة في جميع جوانبها، سواء أكانت معرفةً بالله وأسمائه وصفاته وخلق السماوات ونشأة الكون وغير ذلك، أم فيما يتعلق برسل الله وتاريخهم، أم فيما يتعلق بالتاريخ عموماً، أم فيما يتعلق بالحياة كلها ماديةً وغير مادية. إذاً هنا قضية أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى لما أهبط آدم إلى الجنة مكث وذريته -كما في أثر ابن عباس - عشرة قرون على التوحيد، ثم نشأ فيهم الشرك، كيف نشأ الشرك فيهم؟ نشأ عن طريق الصور وتعظيم غير الله سبحانه وتعالى، ولا نطيل في ذكر قصة نشأة هذا الشرك، لكن كانت كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح الذين أرسل فيهم نوح، فهو أول الرسل، أما الأمم من قبله فقد كانوا على التوحيد، فنوح أرسل في قومه لما نشأ فيهم الشرك الأكبر الذي هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فإن رسالة نوح عليه الصلاة والسلام هي بداية الرسالات التي تعود بالأمة كلها إلى مسارها الصحيح من خلال العقيدة الصافية عبادة الله وحده لا شريك له.

لماذا كانت حاجة البشرية إلى الأنبياء؟

لماذا كانت حاجة البشرية إلى الأنبياء؟ وهنا تأتي عندنا قضية، وهي: ما هي مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ ولماذا كانت حاجة البشرية ماسةً إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ أظن أن الجواب وضح، ومن ثم فإنني يمكن أن أختصره في أمرين: أحدهما: تصحيح المسار، فكلما انحرفت الأمة عن منهاج ربها سبحانه وتعالى كان من رحمته تعالى أن يرسل إليهم رسولاً يصحح لهم هذا المسار، حتى تكون الأمة سائرة على منهاج واحد. الأمر الثاني: هو تربية هذه الأمة، بحيث تكون حياتها على منهاج حق في عبادة الله وحده لا شريك له، سواء أكان هذا عبادة محضة، أم كان في قضايا من قضايا الحياة المختلفة سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً أو غير ذلك، ومن ثم فإن البشرية لا تستطيع أن تستغني عن منهاج الأنبياء؛ لأن التعرف على الله وعلى كيفية عبوديته مما لا يدخل تحت قدرة البشر، ولهذا لما وجدت فئات من الناس تكبرت على الأنبياء ولم تسمع لكلامهم، وأرادت أن تتخذ لها منهاجاً خاصاً بها تصل به إلى الحقائق الكونية حقائق نشأة هذا الوجود، وحقائق وجود الله سبحانه وتعالى وعلاقته بخلقه إلى آخر القضايا العقدية وغير العقدية، هذه الفئة لما أرادت أن تنهج هذا النهج بعيداً عن منهاج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ضلت وانحرفت، وأصابت أصحابها ومن سار على منهاجهم بالحيرة والاضطراب طول حياتهم، وهذا هو المنهج الفلسفي الذي أدى بأصحابه إلى ما تعرف من مناهج الفلاسفة. إذاً عقول البشر ومناهج البشر مهما بلغت لا يمكن أن تستغني عن المنهاج الذي جاء به أنبياء الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي امتن على عباده بإرسال الأنبياء، وهو الذي اختارهم، أي أنه لا اختيار للعباد في الرسل والرسالات، وإنما ربنا سبحانه وتعالى هو الذي أرسل، وهو الذي أنزل مع هؤلاء الكتب والشرائع ليكون سبباً في قيام الحجة على عباد الله تبارك وتعالى، ومن ثم يتبين لنا أن النبوة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم ضرورة بالنسبة للبشرية أشد من ضرورتهم إلى الطعام والشراب وما سوى ذلك.

مدلول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم

مدلول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهنا ننتقل إلى القضية الثانية، ألا وهي ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومدلولاتها، والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قاطعة بذلك، والأدلة معروفة لا نعرض لها هنا، لكن ما مدلول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لها عدد من المدلولات نحب أن نقف عندها ونحن ندرس في هذه العقيدة. أولها: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وهذه القضية قد تجد في عصرنا الحاضر من يجادل فيها، وما الدعوة إلى الحوار بين الأديان التي نجدها في السنوات الأخيرة، ونجد لها صدىً إعلامياً واسعاً أحياناً إلا رسم لهذه القضية الكبرى، وهي قضية ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته إلى الناس كافة. ثانياً -وهي قضية كبرى أيضاً-: أن هذه الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي شريعة كاملة لا تحتاج إلى تكميل ولا إتمام، لا من شرائع سابقة ولو كانت تنتسب إلى الأنبياء ولا من مناهج شرقية أو غربية، وكمال الشريعة مقتضاه صلاحية هذا الدين الإسلامي للتطبيق في كل زمان ومكان، فأولئك الذين يتحدثون -مثلاً- هذه الأيام عن أن الإسلام تعداه الزمن، وأنه لا يمكن تطبيق الإسلام أولئك يطعنون في الإسلام، ويطعنون في ختم النبوة، ويطعنون في كمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن الدعاة إلى منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها يجب أن تكون هذه عندهم قضية يقينية، يجب أن يدركوا إدراكاً تاماً أن مسألة كمال الشريعة وصلاحيتها للتطبيق هي قضية ربانية ثابتة لا تتغير أبداً، وعلى هذا: فيجب عليهم أن لا ييأسوا، ويجب عليهم أن لا يفتروا، وأن لا تخدعهم نظريات الغرب أو الشرق، ولا هجوم الغرب أو الشرق على الإسلام، ولا هجوم العلمانيين وغيرهم من داخل بلاد الإسلام على الإسلام؛ لأن من أخطر الأشياء على الداعية إلى الله سبحانه وتعالى الذي يحمل عقيدةً ومنهجاً أن تهتز قناعته بما يدعو إليه، ومن ثم فإن التصميم الجاد القوي لا يكون إلا من إنسان لديه القناعة التامة الكاملة بما يدعو إليه من منهاج، ونحن حينما نعرض لهذه القضية التي تتعلق بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو لبيان أنه لا خيار لنا بين شيئين: إما أن نتهم هذه الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها ناقصة لا تصلح للتطبيق، ومن ثم فمدلول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا مدلول نظري وليس عملياً. وإما أن يكون رفضنا لهذه الشريعة بشكل مباشر، ونأخذ ممن جاء من الغرب أو الشرق أو غيرهما مناهجهم ولو ناقضت منهاج الإسلام، لهذا فإن ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم له مدلول في كل وقت، وله مدلول عظيم في زماننا هذا، هذا المدلول يتلخص في أنه ليس هناك منهج يمكن أن نبحث عنه إلا أحد منهجين: إما منهج الإسلام الذي جاء به الرسول، وإما مناهج أخرى غربية أو شرقية، فلا خيار للتدليس ولا للتلبيس ولا للترقيع ولا لغير ذلك من المناهج، وعلى هذا فإن الشيء الذي تيقنا به كمال هذه الشريعة ودوامها إلى أن تقوم الساعة هو حفظ الله تبارك وتعالى لهذا القرآن العظيم وحفظه لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهما وحي من الله، وهما مصدر التشريع في هذه الحياة، ولذا فإن منطلقنا ونحن ندعو إلى منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى هو منطلق واضح ممتد، يكون على ذلك المنهاج السليم الذي طبقه سلفنا الصالح، وسار عليه من تبعهم إلى عصرنا هذا، والقافلة سائرة إلى أن تقوم الساعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أخباره عن الطائفة المنصورة أنها قائمة بأمر الله مجاهدة، (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).

قضايا مهمة حول منهج السلف

قضايا مهمة حول منهج السلف بعد عرض تلك القضيتين المتعلقتين بنشأة الدين وبدء النبوات وختم النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم ننتقل إلى الأمر الثالث، ألا وهو منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ونظرة في بعض قضاياه، وهنا أشير إلى هذه القضية، وقد سبق أن ألقيت في ذلك وفي تفاصيله محاضرات متعددة، كما ألفت فيه عدداً من الكتب، لكني سأذكر هنا عدداً من القضايا التي أرى أن من المهم أن نقف عندها.

الزعم بأن الدعوة إلى منهج السلف رجعية

الزعم بأن الدعوة إلى منهج السلف رجعية يظن بعض الناس أن الدعوة إلى منهاج السلف الصالح ما هو إلا نوع نكوص إلى الماضي، وخروج من الواقع الصعب الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فيأتي بعض هؤلاء ليقول: إن هؤلاء الذين يدعون إلى منهاج السلف الصالح يريدوننا أن نعود إلى القرون الماضية، ويريدون منا أن نتخلى عن حياتنا المعاصرة، ثم هم أيضاً لديهم ناحية نفسية خلاصتها أنه حين يعيش في أزمته الحاضرة يحاول أن ينكص إلى الماضي ويرجع إليه ليتسلى بالماضي فقط. هذه الفكرة خطأ جسيم إن كانت من إنسان صادق، وإلا فهي ضلال وإضلال من أولئك الدعاة إلى محاربة منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولهذا فإننا نقول: إن المطالبة بالعودة إلى منهاج السلف الصالح إنما هو عودة إلى تأصيل المنهج العقدي للأمة، وهذا لا خيار فيه لها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سلف الأمة، وقبل ذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، وهذا الأمر بالتزام سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ليس نكوصاً إلى الماضي، وإنما هو عودة إلى ثوابت وأصول وجذور هذا الدين وهذه العقيدة التي لا تتغير مهما اختلف الزمان والمكان، وهذا هو الدعوة إلى منهاج السلف الصالح. إذاً الدعوة إلى منهاج السلف الصالح تقوم على الدعوة على تلك الأصول الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فعندما ندعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له إنما ندعو إلى منهج لا يتغير مهما اختلفت الظروف والأحوال، فالذي يطير في الطائرة أو في الصاروخ يجوب الفضاء أو يتعامل مع أدق الإلكترونيات والمخترعات العلمية وغيرها هذا هو نفسه مثل ذاك الذي يحلب الإبل ويشرب من ألبانها ويركبها، فالعبادة لله وحده لا شريك له لا تتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال، فالدعوة إلى منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ليست دعوةً إلى أن نرجع إلى الماضي، وإنما هي دعوة تأصيلية لأن تكون تلك الثوابت العقدية والتشريعية وغيرها كما عاش بها سلفنا الصالح نعيش بها نحن أيضاً، ومن ثم فإن التقدم الحضاري المادي مطلوب بشرط أن يضبط وأن لا يتعارض مع تلك الثوابت، وهذا الذي فعله المسلمون من خلال تعاملهم مع مستجدات عصورهم لما اتسعت فتوحاتهم في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا فإن هذه القضية التي نطرحها هي قضية فكرية طالما طرحها دعاة الفكر الغربي والعلماني والقومي وغيرهم حينما يفسرون العودة إلى الأصول وإلى منهاج السلف الصالح بأنه نكوص، وأحياناً يسمونها رجعية، لكن أظن أن الحقيقة قد وضحت، فالعودة إلى منهاج السلف الصالح هي عودة تأصيلية لثوابت، أما متغيرات الحياة فلا، فإن متغيرات الحياة مطلوبة، بل ربنا سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين وهو يبني فيهم روح الجهاد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] (قوة) نكرة {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، وعليه فواجب على الأمة أن تتقوى من جميع الجوانب، والقول بأن الدين يعارض العلم والتقدم العلمي هذه المقالة أظنها أصبحت مقالة قديمة كما يعبرون أحياناً، ولا أظن أن أحداً الآن يناقش في هذه القضية، منذ السنين الطويلة لما هجم الاستعمار الغربي والتبشيري النصراني على العالم الإسلامي -وهو لا يزال- كان في أول هجومه يتهم الإسلام بأنه عدو العلم والتقدم وغير ذلك، لكن قتلت هذه القضية بحثاً فأصبحت هذه القضية مما لا يحتاج إلى نقاش، فهذا الإسلام لا يتعارض مع العلم أبداً؛ لأن الكل من عند الله سبحانه وتعالى، لكن هذا الإسلام وهذه العقيدة والشريعة تضبط العلم، والحضارة الغربية لما تقدمت بدون ضابط صارت حالتها إلى ما نحن نشاهده هذه الأيام، ونحن ما تقدمنا علمياً ولا تقدمنا في مناهجنا وأصولنا وثوابتنا، فأصبحنا على هذه الحالة التي هي حالة أقل ما يقال فيها أنها حالة يرثى لها، والله المستعان!

التلازم بين العقيدة والشريعة وموقف الطوائف الأخرى منه

التلازم بين العقيدة والشريعة وموقف الطوائف الأخرى منه ومن القضايا في منهاج السلف الصالح التي يجب أن نقف عندها ويقف عندها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى قضية التلازم بين العقيدة والشريعة، ومن المؤسف حقاً أن هذه القضية لا تزال مجال أخذ ورد من بعض من لم يفقه منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والتلازم بين العقيدة والشريعة قضية كبرى من اختلت عنده اختل عنده النظر الصحيح إلى منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ومقتضى هذا التلازم أن عقيدة الإسلام بتوحيدها وأركان إيمانها تنبثق منها شريعة كاملة لازمة له، وأن الإنسان الذي يؤمن بتلك العقيدة لا بد أن يلتزم بتلك الشريعة، وأنه لا انفصام بينهما، لكن لو تأملت في هذه القضية لوجدت أن المناهج قديماً وحديثاً ضلت في هذا الباب. دعني أضرب لك مثالاً بالنسبة للزمان القديم حول هذه القضية: إن أئمة الإسلام منذ القرن الأول الهجري ردوا على طائفتين ضالتين من الطوائف التي تذكر في كتب الفرق الإسلامية، الطائفة الأولى: الخوارج، ومعهم المعتزلة، والطائفة الثانية: المرجئة، فما علاقة ردود أئمة الإسلام على هاتين الطائفتين بهذه القضية التي معنا، وهي قضية التلازم بين العقيدة والشريعة؟! الطائفة الأولى وهم الخوارج والمعتزلة جعلوا هذا التلازم تلازماً تاماً يؤدي إلى تكفير كل من خالف وعصى ربه تبارك وتعالى، ومن ثم فمن وقع في كبيرة أخرجوه من دائرة الإسلام، وهو ما يسمى بقضية (كفر مرتكب الكبيرة)، هذا الفهم للتلازم بين العقيدة والشريعة لا يتوافق مع طبيعة البشر؛ فإن كل بني آدم خطاء، فإذا ما قال أحد بهذا القول أن كل مرتكب لكبيرة فإنه خارج عن دائرة الإسلام فمعنى ذلك أن هذا الإسلام الحق سينحصر في فئة قليلة جداً هي فئة هذه الطائفة التي تزعم نفسها جماعة المسلمين، وعلى هذا فإن هؤلاء أخطئوا في فهم منهاج الإسلام وتلازم عقيدته وشريعته من الناحية النظرية في تعريف الإيمان، وجعلهم للأعمال جميعها شرطاً فيه، ومن الناحية العملية حينما انحازوا بأنفسهم وظنوا أنهم هم جماعة المسلمين، ومن لم يدخل في جماعتهم فهو كافر خارج عن دائرة الإسلام، ومن ثم أدى هذا المعتقد إلى منهجية غريبة في التعامل مع النصوص تحولت إلى منهجية أغرب في التعامل مع الناس، ومنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى يختلف عن منهاج الخوارج. إذاً عندنا نوعية من الطوائف كانت موجودة قديماً ولا تزال إلى الآن تفهم التلازم بين العقيدة والشريعة على أنه تلازم كلي، وأي خلل فيه سواء أكان خللاً في باب التكذيب أم خللاً في باب العمل مهما كان فإنه يؤدي إلى الخروج عن دائرة الإسلام، بينما في منهاج الإسلام ومنهاج السلف الصالح لا يوجد هذا، ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون بكل كبيرة من الكبائر، كما قال الطحاوي رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] أي: لا نكفرهم بكل الذنوب. فميزوا بين ذنب وذنب، ومن ثم تجد الواقعية في المنهاج الإسلامي وفي فهمه، فالمجتمع المسلم وهو يطبق هذا الإسلام لا يتحول إلى مجتمع ملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وإنما مجتمع مضبوطة أموره، وقضاياه مميزة، فإذا وجد من يعصي وتاب تاب الله عليه، وإذا وجد من يعصي وأقيم عليه الحد كان كفارة له، فجاءت أحكام الإسلام وحدوده لتبين كمال هذه الشريعة. وقد يقول قائل: إذا كانت الشريعة كاملة فلماذا حد السرقة وحد الزنا وحد القتل؟ نقول: هذا فهم خاطئ، من كمال هذه الشريعة وجود هذه الحدود؛ لأن طبيعة الإنسان أنه يخطئ ويصيب، وطبيعة التكليف الرباني للإنسان في هذه الحياة أن الله يبلوه بالحسنات والسيئات، ويبلوه بالخير والشر فتنة إلى أن يرجع، فلما كان الأمر كذلك تبين أن من كمال هذه الشريعة أن شرع الله سبحانه وتعالى هذه الحدود لتضبط مسار المجتمع. إذاً الطائفة الأولى أخطأت في فهم الإيمان وفهم التلازم بين العقيدة والشريعة. والطائفة الثانية: المرجئة، وهؤلاء أمرهم عجيب أيضاً، فصل بين اعتقاد القلب وبين عمل القلب والجوارح، فصار الإيمان عندهم مجرد التصديق القلبي الخالي عن العمل، بل أحياناً يقولون: إنه مجرد المعرفة، وإن هذا كافٍ في وجود الإيمان وتحقيق الإسلام ومقتضى هذا المذهب أن الشريعة والعمل لا علاقة لهما بالعقيدة، فكل من صدق بالله بقلبه فهذا هو المسلم وإن رفض شريعة الإسلام، وإن رفض أحكام الله سبحانه وتعالى، ولهذا تجد أن هذا المذهب الإرجائي الذي وجد في زمن قديم انتشر في الأزمنة المتأخرة انتشاراً عظيماً، فتجد الكثير من الناس يقول لك: ما دام أنه انتسب إلى هذا الدين فهو مسلم، ولو كذبه، ولو انتسب إلى مبادئ علمانية إلحادية، ولو رفض شريعة الله، ولو أنه شرع من دون الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا الفهم نجد عند هؤلاء لا علاقة للشريعة بالإيمان، سواء علاقة نظرية أو علاقة تؤثر في مدلول الإيمان وفي قضيته واعتقاده، وهذا أمر عجيب وغريب وخطير، ولهذا لما انتشر المذهب الإرجائي في الأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة وجدنا من يكتفي بالهوية لينتسب إلى الإسلام فقط، وإذا فتشت عن حاله وعن خلقه عن سلوكه وعن قضاياه الأخرى كلها لا تجد فرقاً بينه وبين غيره من الكفار. وأقول: عن طريق هذا المنهاج تسلل الغرب إلينا في العصور المتأخرة ليفرض علينا حياة غربية، ومناهج غربية، وقوانين جاهلية، ولا مانع مع ذلك بالبقاء على الانتساب إلى الإسلام، ومن ثم ترتب على هذا الفهم وعلى هذا الواقع العملي الذي عاشته الأمة الإسلامية أن تلك الفئة التي عرفت بمصطلح (العلمانية) وجدت في الغرب، ولكن الغريب جداً أن تنتقل إلى العالم الإسلامي؛ لأن العلمانية مقتضاها فصل العقيدة عن الحياة، ويسمونها أحياناً (فصل الدين عن الدولة)، ويسمونها أحياناً (فصل الدين عن الحياة)، وهي في الحقيقة فصل بين انتسابك إلى الإسلام وبين حياتك، وأن تكون على أي منهج، والأخطر من ذلك أن يكون لهذه العلمانية دعاة ومدارس تتبنى مبادئ قومية، أو مناهج أدبية، أو غيرها من المناهج لتركب عليها وتقود الأمة إلى هذا المنهج العلماني. إذن لما نتحدث في منهاج السلف الصالح عن التلازم بين الشريعة والعقيدة لا نتحدث عن قضية جزئية، ولا نعرض لمسألة جانبية، وإنما نعرض لقضية كبرى تميز بها السلف الصالح رحمهم الله تعالى من خلال منهج مؤصل في هذا الباب. وبهذا ينقض قول الخوارج وغلوهم وضلالهم، وبه ينقض قول المرجئة وتساهلهم وبدعتهم، وبه أيضاً تنقض العلمانية المعاصرة التي تريد أن تفصل بين عقيدة الإسلام وبين شريعة الإسلام، ومن هنا فإن الدعوة إلى منهاج السلف الصالح لا بد أن ينتبه إليها.

التمييز بين البدع والمصالح المرسلة

التمييز بين البدع والمصالح المرسلة الأمر الآخر قضية البدعة والتمييز بين ما هو بدعة في الدين وبين ما هو مصلحة مرسلة جائزة، وهذه القضية أيضاً تعتبر من الأصول في منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فقد أخطأ فيها طائفتان: إحداهما جعلت كل ما هو جديد بدعةً، فحكمت على كل جديد بذلك، وأعرضت عنه ودعت إلى رفضه، فلما رفضته دخل في ذلك ما هو بدعة حقاً -وأصابت في ذلك- لكنها أدخلت ما ليس ببدعة مما هو من الأمور المباحة في باب البدع وهذه قضية -أي: التعامل مع الحياة المعاصرة- استجدت حتى في حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما انتقلوا من جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق وما وراء ذلك، استجدت لهم أشياء مادية وغير مادية. كذلك أيضاً نحن في عصرنا الحاضر استجدت للحياة المعاصرة أشياء كثيرة، فما هي طبيعة التعامل معها؟ الطائفة الأولى ترفض كل ما هو جديد مسميةً له بالبدعة. فلما كان رأي هذه الطائفة بهذا العرض قابلتها الطائفة الثانية التي فتحت الباب على مصراعيه، فقبلت كل ما وجد، وأدخلت في ذلك كل ما هو مستجد من بدع مختلفة، وهكذا تميع الإسلام عند هؤلاء -أعني الطائفة الثانية- حتى أصبح الإنسان لا يميز في منهج هؤلاء بين الإسلام وبين الكفر. أما منهاج السلف الصالح في ذلك فقد كان منهاجاً علمياً وسطاً مبنياً على الأدلة الصحيحة واستقرائها، ومن ثم فقد ميزوا بين البدع في باب العقائد التي هي عندهم ثوابت وبين غيرها مما استحدث وابتدع، فأنكروا بدع العقائد كلها، وبينوا منهاج الكتاب والسنة في ذلك، ومنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في تصفيتها، وعلى ذلك تجد المنهاج السلفي واضحاً, فهو الذي رفض فلسفة أرسطو لما ترجمت في القرن الثالث الهجري، وهو الذي يرفض في عصرنا الحاضر الفلسفات الوجودية والعبثية والوضعية وغيرها من الفلسفات الإلحادية؛ لأن العقيدة ثابتة، ومصدرها واحد، ولا حاجة بنا إلى عقائد أخرى. ثانياً: ميزوا أيضاً بين ما هو من أصول الشريعة العبادية الثابتة سواء أكانت عبادات أم كانت أصول معاملات، ومن ثم جعلوا أي إحداث فيه تغيير أو ظن أنه يكمل ما يعتقد أنه ناقص جعلوه بدعة مرفوضة، ولهذا نجد أن التعريف الصحيح للبدعة أنها إحداث في الدين على وجه القربة. فهو يريد أن يبتدع عبادة أو يتبع أصولاً تناقض أصولاً شرعية فتتحول القضية هذه إلى قضية بدعة، ولذلك تجد -مثلاً- أن من أراد أن يبتدع للأمة عبادة -ولو كانت نيته طيبة- جديدة من صلاة أو ذكر أو غير ذلك فإن فعله هذا بدعة مرفوضة، لأن البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة إضافية، وبدعة حقيقية، حسب التقسيم المعروف. أقول: بدعته هذه بدعة مرفوضة؛ لأنه أراد أن يكمل هذا الدين بمكمل من عنده يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا يخالف القضية الكبرى التي ذكرناها سابقاً، وهي كمال هذا الدين، ومثله لو أراد أن يبتدع بدعةً ينقض فيها أصلاً من أصول الإسلام، وأضرب مثالاً على الوجه الثاني: الآن توجد دعوة في عالمنا الإسلامي تزعم أن الربا قضية عصرية ضرورية، ومن ثم فلا بد من أن نبحث في أدلة الإسلام عمَّا يدل على أنها جائزة، لماذا؟ قالوا: لأنها ضرورة عصرية، فهنا في هذا الحالة هل يساوم المؤمن على أصل من الأصول؟ لا يساوم، بل إن المتأمل اليوم لمشكلة العالم كله في عصره الحديث -بصرف النظر عن انحرافاته العقدية والفكرية والأخلاقية وغيرها- إذا نظرنا إليها من الناحية الاقتصادية فإنه يجد أن أكبر مشكلة هي مشكلة الربا، فالأزمات العالمية للدول الصناعية والدول الفقيرة إذا فتشنا عنها نجد أن سببها الربا، إذاً هذا أصل، فمن أراد أن يستبدل بهذا الأصل أصلاً آخر فإن هذا الاستبدال مرفوض. ثالثاً: أن ما عدا ذلك من أمور الحياة مما يستجد من أشكالها وأنماطها فإن هذا يؤخذ به بشرط أن يتلاءم مع أصول العقيدة وقواعد الشريعة، وهذه أيضاً قضية في عصرنا القديم والحديث، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما أتوا إلى أمور استجدت في البلاد التي فتحوها أخذوا بها. أقول: الصحابة رضوان الله عليهم تعاملوا مع ما استجد مما واجهوه في البلاد التي فتحوها تعاملاً مبنياً على منهاج صحيح، فرفضوا ما يصادم أصول العقيدة، وأخذوا بمستجدات الحياة بما يتلاءم معها. وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحديث وجدنا أيضاً أن المنهاج السليم منهاج العقيدة لا يتعارض مع الحضارة، لقد مضى قبل خمسين سنة أو أربعين سنة ذلك الزمان الذي كان يقول فيه القائل: إن الإسلام يرفض الحضارة، ويرفض الاختراعات والسيارات والطائرات وغيرها. مضى هذا الزمن، بل ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد أن كثيراً من شباب الصحوة -وفقنا الله وإياهم، وثبتنا وإياهم جميعاً- يتخصصون بتخصصات علمية دقيقة، وتجد الواحد من هؤلاء يحمل منهاجاً سلفياً صحيحاً، وفي نفس الوقت أيضاً يحمل أعلى التخصصات العالمية، ولا تعارض بين القضيتين، وهذه ما هي إلا نماذج عملية نشاهدها على مستوى الفرد، ويجب أن تكون على مستوى الأمة، بحيث يكون منهاجها في التعامل مع ما هو جديد منهاجاً مضبوطاً بمنهاج الكتاب والسنة على قضية ما سبق أن ذكرناه في مسألة البدعة. فما هو من البدعة فإنه يتجنب، وما ليس ببدعة فلا يتجنب وإنما يستفاد منه، وهذه القضية تحتاج إلى مواقف عملية؛ لأن دعاة التغريب والعلمانية في بلاد الإسلام يصفون الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بأنهم إنما يريدون طمس الحضارة والقضاء على الحضارة، ويصفونهم أحياناً بصفات بشعة، منها أنهم ظلاميون، وأنهم متوحشون إلى آخر الصفات التي تسمع، ولا يزال الإعلام في كل حين يأتي بمصطلحات جديدة، فهذه العبارات الموجهة ضد الصحوة المعاصرة إنما هي موجهة إلى المنهاج الحق منهاج السلف الصالح رحمهم الله، لكن لا بد من شماعات يعلقون عليها تهمهم وهجومهم على الإسلام والسلفية. أما الغرب فإنه يريد إسلاماً غير مطبق، يريد للعالم الإسلامي أن يبقى على هويته الإسلامية في الشكل فقط، أما حياته ونظمه وعلاقاته وولاؤه وبراؤه وأحكامه وتشريعاته وغير ذلك فهي تبقى على ما هي عليه من علمنة وبعد عن الله، هذا الذي يريده الغرب، ومن هنا فإن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى الذي يدعو إلى منهاج السلف الصالح عليه أن يبصر هذه القضايا ويتدبرها، وأن يعلم ويوقن أن هذه القضايا المعاصرة التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام وتوجه فيها السهام إلى الإسلام أن هذا الأمر إنما يدل على عظمة هذا الدين وصحة ذلك المنهاج، المسلمون اليوم ضعفاء ومتفرقون، وحالهم يرثى لها كما يشاهد، ومع هذا فلا تزال السهام ترسل قوية جداً إلى المسلمين، أرأيت لو عدنا إلى منهاج صحيح، وعدنا إلى ديننا وإلى عقيدتنا وإلى شريعتنا وطبقناها من خلال فهم صحيح مؤصل كيف ستكون الحال؟ لا شك أن الحالة ستتغير: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. إذاً العودة إلى منهاج السلف الصالح لا خيار للأمة الإسلامية فيها، والأمة الإسلامية إن ظنت أنها تستطيع أن تلحق بالغرب في تقدمه المادي فأظن أن مفكريها يدركون أن الغرب قد سبقهم إلى ذلك أشواطاً بعيدة، وأن الغرب حتى هذه اللحظة لا يسمح بنقل تلك الحضارة المادية وأصولها إلى المسلمين، لا يزال يحتفظ بمفاتيح مخترعاته على مختلف أنواعها وأشكالها، فمن ظن أنه يمكن بهذه الطريقة أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها فهو مخطئ، لكن ما هي الطريقة الصحيحة التي تجمع بين الأمرين؟ هي العودة أولاً إلى هذا الدين وإلى هذا المنهاج، والعودة إلى هذا المنهاج ستكون أول سبب من أسباب الاستقلال والتميز لهذه الأمة عن مشرق أو مغرب، ومن ثم فإن هذه الحقيقة الناصعة يجب أن يدركها الجميع.

الأسئلة

الأسئلة

التلازم بين العقيدة والشريعة عند أهل السنة وغيرهم من الفرق

التلازم بين العقيدة والشريعة عند أهل السنة وغيرهم من الفرق Q الخوارج يرون التلازم التام بين الشريعة والعقيدة، والمرجئة ينفون التلازم، ومنهاج السلف وسط بينهما، فكيف يرون التلازم بين العقيدة والشريعة؟ هل هو تلازم ناقص؟ A السلف يرون التلازم التام بين الشريعة والعقيدة، فمن الناحية النظرية قد يقرب منهاج الخوارج من منهاج السلف، ولذا تجد في كتب العقيدة الإيمان عند أهل السنة هو قولٌ واعتقاد وعمل. وعند الخوارج: الإيمان هو قول واعتقاد وعمل. فتعريفهم في الظاهر واحد، لكن اختلف في مقدار مدى نقض هذا التلازم للعقيدة، تجد الخوارج ينقضون العقيدة بمجرد ارتكاب الكبيرة، والسلف يخالفونهم في هذا، لهذا فالتلازم بين العقيدة والشريعة أصل من أصول الإسلام، فما هناك تلازم ناقص بالنسبة لأهل السنة والجماعة، لكن فهمهم لهذا التلازم ثم تطبيقهم العملي له يختلف عن منهاج الخوارج، كما أنه يختلف عن منهاج المرجئة.

الاستفادة الجائزة والممنوعة من التعليم الغربي

الاستفادة الجائزة والممنوعة من التعليم الغربي Q ما حكم من يستفيد من الحياة الغربية من سلوك وأفكار تربوية واجتماعية لا تعارض العقيدة والشريعة كنظام التعليم وغيره؟ A القضية سهلة، كل شيء يرجع إلى أصوله، ومن ثم فأنت حينما تأتي بنظام التعليم من عند الغرب لتستفيد منه نقول: نظام التعليم القائم على جهة من نظام التعليم الغربي، يقوم إما على الإلحاد، أو على مبدأ دين النصرانية، أو على الفلسفة الإغريقيه أو غيرها، فحينئذ سواء أكان هذا علماً أم منهاج تعليم فإنه حين يعلمك منهجية التعليم بتلك المناهج الغربية تكون مرفوضة في منهاج الإسلام، هذا القسم الأول. القسم الثاني: منهاج ترتيبي تنظيمي يمكن أن يستفيد منه الإنسان، كأن يستفيد في ترتيبه المكتبة أو ترتيب بعض القضايا الإدارية التي تتعلق بالتدريس أو التعليم أو غير ذلك، سواء أكان الإنسان يجلس على البسط -على ركبتيه- للتعلم، أو يجلس على الماسة، أو يستخدم الكمبيوتر، أو يستخدم الكتابة اليدوية أو غيرها، كل هذه من الأشكال يستفيد منها المسلمون ما استطاعوا، لكن يفرق بين الحالة الأولى والثانية.

الفرق بين العقيدة والشريعة

الفرق بين العقيدة والشريعة Q ما الفرق بين الاصطلاحين: العقيدة والشريعة؟ وهل يشمل أحدهما الآخر؟ A العقيدة: هي ما اعتقده الإنسان، والشريعة: هي عبادات الإنسان ومعاملاته في هذه الحياة، هذا عندما نجمع بينهما، فإذا قلنا: العقيدة والشريعة صار للعقيدة معنى وللشريعة معنى آخر، لكن عند إطلاق أحدهما فإنه يدخل فيه الآخر، فإذا قلت: العقيدة الإسلامية فالشريعة الإسلامية داخلة فيها، وإذا قلت: الشريعة الإسلامية فالشريعة الإسلامية داخلة فيها العقيدة؛ لأنها لا بد أن تقوم على أساس عقدي.

معنى قول عمر: (نعمت البدعة)

معنى قول عمر: (نعمت البدعة) Q كيف نوفق بين كون الشريعة الإسلامية كاملة وقول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هي) عندما سئل عنها؟ A أبداً ليس فيه تعارض؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال: (نعمت البدعة) قالها رداً لمن ظن أنها بدعة، فقال: (نعمت البدعة) وعمر رضي الله عنه أراد بقوله: (نعمت البدعة تلك) ما يدل على أن عمر متيقن منها ومن صحتها، ودليل يقينه أن أصل التراويح شرعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما أم الصحابة خوفاً من أن تفرض عليهم، فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى زال ذلك الخوف، فبقيت هذه الشرعة، فأعادها عمر رضي الله عنه وأرضاه، وجمع الناس على قارئ واحد، فلما اعترض معترض بأن هذا ما كان موجوداً قال عمر: (نعمت البدعة تلك)، إذاً تسميتها بالبدعة سواءٌ أكانت تسمية لفظية أم تسمية من باب المشاكلة فإنها ليست بدعة؛ لأنها لها أصل في الشريعة.

متى يحكم على المفرط في الشرع أنه مرجىء

متى يحكم على المفرط في الشرع أنه مرجىء Q هل يمكن أن نقول عن بعض الشباب الذين يؤمنون بالله ولكنهم لا يصلون ولا يتمسكون بالشريعة: إنهم مرجئة؟ A كونهم لا يصلون هذا يأتي في الخلاف في حكم تارك الصلاة، ولا نصفهم بالإرجاء فحسب، بل قد يوصفون بالخروج من الإسلام، وهذا على القول الراجح في أن تارك الصلاة بالكلية يكفر، أما إذا كان عن كونهم لا يتمسكون بالشريعة فهذه بحسبها، لكن ما منبع عدم تمسكهم بالشريعة في شئون حياتهم؟ نقول: إن كثيراً من الناس تقول له: يا أخي! اعمل. فيقول لك: يا أخي! التقوى ها هنا، تقول له: يا أخي! افعل الخير. يقول لك: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، فهذه عقيدة ومذهب المرجئة، فإذا كان يحتج بهذا المنهاج فهو متأثر بمذهب المرجئة، أما إذا كان لا يحتج وإنما تغلبه نفسه وهواه فيفرط في بعض الواجبات ونحو ذلك فالأمر -والحالة هذه- قد يكون مبنياً على نوع من الفسق لا على اتباع لمذهب المرجئة.

قضية إبراهيم في سورة الأنعام كانت على سبيل المناظرة لا البحث

قضية إبراهيم في سورة الأنعام كانت على سبيل المناظرة لا البحث Q كيف نرد على ما اشتهر من قصة إبراهيم عليه السلام مع القمر والشمس، حيث قال: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] إلى آخره، فهل الناس مروا بفترة انقطع فيها الدين عن الحياة، أم أنه فقط أسلوب من أساليب الدعوة؟ A قول الله تعالى عن إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75 - 79]. هذه الآيات اختلف فيها المفسرون على قولين: القول الأول: إن هذا فهم وتدرج من إبراهيم نفسه. أي أن إبراهيم نفسه ظن أن هذا الكوكب ربه، فلما غاب قال: (لا أحب الآفلين)، ثم لما رأى القمر قال كذلك، ثم لما رأى الشمس إلى أن تبين لإبراهيم نفسه أن هذه لا تستحق العبادة من دون الله، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض. القول الثاني للمفسرين: إن هذا من إبراهيم من باب المناظرة والرد على قومه الذين كانوا يعبدون الكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يبين لهم أن هذه لا تستحق العبادة من دون الله، فلما رأى الكوكب قال وقومه يسمعون: (هذا ربي)، فلما غاب الكوكب قال: (لا أحب الآفلين) كيف يكون ربي ويغيب؟! وهكذا علمهم إلى أن قال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)، فهذه الكواكب لا يجوز أن تعبد من دون الله. والقول الثاني هو الصحيح، أما القول الأول وإن أورده بعض المفسرين فهو قول ضعيف؛ لأن إبراهيم مفطور على فطرة الإسلام، ولأن رؤية إبراهيم للكواكب والشمس والقمر لم تكن في يوم من الأيام حدثت له ولم تكن قبل ذلك، فإبراهيم كان يرى القمر ويرى الكواكب في كل يوم، فلماذا في هذا اليوم ينتقل وهو يعلم أن الكوكب سيغيب، ويعلم أن الشمس ستغيب، ويعلم أن القمر سيغيب؟! إذاً القول الصحيح أن هذا من باب المناظرة بالنسبة لإبراهيم مع قومه، وعليه فلا تدرج في الأديان ولا في غيرها، وهو شبيه بموقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما كسر الأصنام وجعل الفأس معلقاً على رقبة كبيرهم، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]، فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسرة، فقالوا: من فعل هذا؟! تداولوا الرأي والأمر فقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، فقالوا: ائتوا به على أعين الناس حتى نفضحه أمام العالمين، ونبين كيف أنه فعل جريمته الشنعاء حين كسر الأصنام، وجمعوا الناس جميعاً حينما أراد الله خزيهم وفضيحتهم، وأتوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام للمحاكمة. والقضية شبيهة بقصة الغلام والساحر، فلما اجتمعوا قيل لإبراهيم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء:62] هل أنت الذي كسرت الأصنام؟ وهنا جاء الجواب: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، وهنا وقعوا في المأزق، ولذلك قال تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64] أنتم الذين جمعتم الناس وأوقعتم أنفسكم في هذا المأزق فافتضحتم. فهذا منهاج دعوي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

وصايا وتوجيهات للمرأة المسلمة

وصايا وتوجيهات للمرأة المسلمة خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يعم الرجال والنساء، وما خوطب به الرجل فهو خطاب للمرأة، إلا ما خصه الدليل، وقد أعطى الإسلام في تشريعاته المرأة حقها، ولم يظلمها شيئاً؛ بل كرمها ورفع شأنها، ولهذا يجب الحذر من أصحاب الدعوات المنحلة الذين يريدون أن ينزلوا المرأة من علياء رفعتها، وأن يستخدموها سلعة لقضاء شهواتهم ورغباتهم الشيطانية المقيتة.

حال الناس في الدنيا

حال الناس في الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيتها الأخت المسلمة! كثيراً ما يفكر الإنسان في هذه الحياة ومشاكلها وتفاوت الناس تجاهها وصراع الأمم والشعوب حولها، سواءٌ أكان صراعاً عالمياً أم صراعاً محلياً، وكل ذلك منطلقه الدنيا وما فيها من جاه أو منصب أو مال أو زينة من زينة الحياة الدنيا. ويلتفت المرء المسلم والمرأة المسلمة إلى هذا الذي يجري من حوله فيرى عجباً! يرى الناس يتطاحنون على أمور الدنيا ويتنافسون فيها، وتتحول أخلاقهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم -بل أحياناً قراباتهم- إلى أن تكون الموازين موازين دنيوية. والدنيا كل إنسان يعيش فيها في كبد، كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، ويتساوى في ذلك المؤمنون والكفار، فكلهم يعيشون حياتهم فرحاً أياماً وحزناً أياماً، وكلهم يمرضون ويشفون، ويفرحون ويحزنون، ويغضبون ويرضون، وهذه هي سنة الحياة التي لا تتخلف؛ لأن هذه الدنيا فانية وليست باقية. أيتها الأخت المسلمة! كنا نرى هذا عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر فما بالنا نراه أيضاً عند المؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر؟! فما الفرق بين المرأة المسلمة المؤمنة بربها العابدة المصلية الخائفة لمقام ربها وبين غيرها ممن لا يؤمن بذلك كله، ولا يعمل شيئاً من ذلك كله؟ ولماذا نرى كثيراً من المسلمات حالهن شبيه بحال هؤلاء الذين لا يخافون الله ولا يرجون اليوم الآخر؟ إنه سؤال ينبغي أن تقف عنده المرأة المسلمة، فما أثر الإيمان بالله؟ وما أثر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وما أثر الإيمان بالملائكة والكتب والنبيين؟ وما أثر الإيمان باليوم الآخر الذي لا شك فيه؟ ثم ما أثر الإيمان بالقضاء والقدر؟ وهذه هي أركان الإيمان.

القدوة في نساء الصحابة رضي الله عنهن

القدوة في نساء الصحابة رضي الله عنهن إن المؤمنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الواحدة منهن قد تكون عاشت في جاهلية وكفر وشرك بالله سبحانه وتعالى وعمل لما يغضبه، ثم تتحول إلى الإسلام، وعندما تقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) تتغير حياتها من أولها إلى آخرها. إنه تصديق وإقرار يتبعه عمل في حياة هذه المرأة المسلمة، ثم تنظر في حالها وفي طموحاتها في هذه الحياة فتجد الموازين عندها قد تغيرت، وقبل ذلك كانت تنظر إلى الدنيا على أنها كل شيء، وعلى أن شهواتها وزينتها وأموالها وأطماعها هي الغاية في هذه الحياة. أما الآن فلا، لقد تحولت إلى امرأة أخرى لا تنظر إلى الدنيا على أنها شيء، وإنما تنظر إلى الآخرة؛ لأن الميزان قد تغير، والقلب والعواطف والأحزان والأفراح بعدما كانت توجه إلى دنيا دنية صارت توجه إلى أخرى رخية، وصارت توجه إلى مراقبة تعيشها المرأة المسلمة لربها سبحانه وتعالى في كل أفعالها في السراء والضراء، وفي السر والعلانية، وفي كل حال تعيش عليها، ونظرت إلى ما بعد الموت والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى فراقبت كل حركة من حركاتها في الدنيا. أيتها الأخت المسلمة! هذه هي النقلة التي تعطيها العقيدة الإسلامية، وهذه هي النماذج التي رأيناها من نساء عشن في الكفر، فلما انتقلن إلى الإسلام تحولن إلى مؤمنات قانتات عابدات داعيات إلى الله سبحانه وتعالى، فقد كانت الواحدة منهن تضرب المثل في خدمة هذا الدين، وفي خدمة زوجها إذا كان مسلماً، وفي تربية أولادها، وتتحول الأسرة إلى أسرة مؤمنة مجاهدة تسمع ماذا يقوله الله وماذا يقوله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فتنفذ. وبعض الصحابة كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها في المدينة النبوية، فأتى رجل وقال لهؤلاء: أنا أشهد أن الخمر قد حرمت. فألقوا ما معهم من الخمر في الحال منفذين. ولقد نزلت آية من كتاب الله تعالى فرتلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلمها أصحابه فرجع الأصحاب إلى بيوتهم وزوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم يتلون عليهن هذه الآية. فماذا في هذه الآية من حكم؟ هذه الآية فيها حكم الحجاب، فسارعت المرأة المسلمة إلى لبسه دون أن تتردد ودون أن تنظر إلى صديقاتها أو رفيقاتها، ودون أن تعبأ بسخرية أو استهزاء، وذهبت مسرعة لتنفذ أمر الله تبارك وتعالى وتلبس الحجاب، وقد كنَّ يصلين الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أول صلاة بعد نزول هذه الآية وافينه كالغربان؛ لأنهن لبسن السواد متحجبات، حيث أسرعن الامتثال لأمر الله وأمر رسوله، ولماذا لا تنفذ المرأة المسلمة أمر سول الله صلى الله عليه وسلم الله ورسوله وهي تخاف الله واليوم الآخر؟ ولماذا لا تنفذ وهي ترجو ما عند الله تبارك وتعالى في الآخرة؟ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فهذا هو عنوانك -أيتها المرأة المسلمة- في حياتك من أولها إلى آخرها. وكذلك أيضاً المسلم عليه أن يكون كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، ولهذا كانت الصحابيات لا يقلن: لماذا أمر الله؟ ولأي شيء نهانا؟ ولا يبحثن عن العلل وغيرها، وإنما يقلن: بمَ أمر الله حتى ننفذ؟ وما الذي أمر الله تبارك وتعالى به حتى ننفذه؟ هذا هو عنوان المؤمن والمؤمنة. أيتها الأخت! هذه العقيدة هي التي صنعت أولئك الأمهات والزوجات والأخوات اللاتي وردن أمثالاً عظيمة في تاريخ الأمة وفي تاريخ الأمة الإسلامية بصفة خاصة، وهذه العقيدة هي نفسها العقيدة التي يمكن أن تصنع الرجال، وأن تصنع النساء المؤمنات العابدات القانتات، فالعقيدة واحدة، والقرآن موجود، وهو باقٍ إلى آخر الزمان، وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجودة محفوظة مصححة، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد غاب عنا بشخصه فإنه لم يغب عنا بسنته عليه الصلاة والسلام. وإذا كان كذلك فإن العقيدة أيضاً بالإيمان بالله واليوم الآخر وما يتبع ذلك هي عقيدة باقية، وهي أيضاً ذات أثر في كل جيل متى ما صدق هذا الجيل بذلك وعمل به.

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا أيتها الأخت المسلمة! لماذا نحزن على هذه الدنيا؟ ولماذا أحياناً ننسى الآخرة ونصارع على الدنيا غيبة ونميمة وحسداً وكلاماً ومشكلات وغيرها؟ إن الدنيا كلها لا تساوي شيئاً، وتأملي -أيتها الأخت- هذا الحديث الصحيح الذي يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة المسلمة وللأمة المسلمة كلها قيمة الدنيا وقيمة الآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة المؤمنة التي تدخل الجنة -أسال الله أن يجعلني والقارئين والقارئات من أهل الجنة- وما لها من النعيم: (ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، والنصيف هو ما تغطي به المرأة رأسها ونحرها. هذا النصيف أو غطاء الرأس للمرأة المؤمنة من أهل الجنة يقول عنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: (خير من الدنيا وما فيها)، فهو خير من الفلل والسيارات الفارهة وكل أنواع الحلي والماس واللؤلؤ وغيره مما يباع بأغلى الأثمان، وخير من اللباس، وخير من كل شيء في هذه الدنيا، وهذا هو الفرق بين ميزان الآخرة وميزان الدنيا. وأما لماذا هو خير من الدنيا وما فيها فلأن هذا النصيف للمرأة المسلمة في الجنة باقٍ أبد الآباد، وأما هذه الدنيا فهي فانية ولم ولن تبقى لأحد أبداً، وكم من إنسان بلغ القمة في الملك أو القمة في الشهرة أو القمة في الغنى بالمال أو القمة في الجاه والسؤدد أمام الناس ولكنه رحل عن ذلك كله! وهذه سنة الله تبارك وتعالى في الدنيا الدنية، فإما أن يرحل عنها العبد بالموت، أو إما أن ترحل عنه وهو ينظر، فهل يطمئن إليها إنسان عاقل؟! إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبرنا هذا الخبر يبين لنا كيف تكون قيمة الدنيا، وكيف تكون قيمة الآخرة، وتأملي -أيتها الأخت المسلمة- يا من تغفلين أحياناً وتنافسين على دنيا، تأملي هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها)، فركعتان تركعينهما في الليل خير من الدنيا وما فيها، فأين المتاجرات مع الله سبحانه وتعالى؟ وأين النساء العاقلات اللاتي يعرفن الدنيا وغدرها ويعرفن الآخرة وقدرها؟ وأين المرأة المسلمة التي تزن الأمور بميزان العقل والحكمة والكياسة؟ والله إن نصوص الكتاب والسنة لتبين لنا قيمة الدنيا وقيمة الآخرة، إن المرأة المؤمنة إذا عرفت قيمة الآخرة عملت لها، وإذا عرفت قيمة الدنيا أخذت منها ما تحتاجه، لكن تصبح هذه الدنيا في يديها وليس في قلبها، فلا تحزن وتخاصم وتظهر مشكلات من أجلها؛ لأنها ربما تخسر بيتاً وأسرة بسبب مشكلات تافهة. أيتها الأخت! إن المرأة التي تعرف قدر الدنيا تعطيها حقها، وهذا في الحقيقة يعود عليها هي بالنفع والفائدة، فقد يظن الظان أن الإنسان الذي يحرق أعصابه لأجل الدنيا هو الذي يستفيد، بينما هو لا يستفيد شيئاً، وإنما يتضرر بإحراق نفسه إما حسداً للآخرين وإما بحثاً عن الدنيا وإما إثارة مشكلات أو نحو ذلك، وكل ذلك لن يغير من واقع الأمر شيئاً؛ لأن الإنسان لا يأخذ من الدنيا إلا ما كتب له، ولا يمكن أن يأخذ الإنسان أي شيء من الدنيا إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يربي الأسرة المسلمة ليعلمها كيف تعرف قدر الدنيا وقدر الآخرة.

كيفية التعامل مع الأولاد

كيفية التعامل مع الأولاد أيتها الأخت! ابنك أو أخوك البالغ من العمر عشر سنوات أو اثني عشر عاماً كيف تخاطبينه في أمور الدنيا والآخرة؟ أظن أن كثيراً منهم لا يفقه كثيراً من الكلام، نظراً لأن أطفالنا وأولادنا شغلوا بمتع الدنيا، فصار حديث الواحد منهم عنها، وصارت حياته فيها، فيعيش وكأنه لا يؤمن باليوم الآخر أو كأنه لا يعرف اليوم الآخر، ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم كان يربي الصغار على الأمور الكبار، ويخاطبهم مخاطبة الكبار، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحد غلمان الصحابة: (يا غلام!)، والغلام: هو الذي دون الخمسة عشر عاماً، أي: بلغ اثني عشر أو ثلاثة عشر أو أحد عشر عاماً، وهذه كانت سن ابن عباس رضي الله عنهما. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات. احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). فما رأيك -أيتها الأخوات- في هذا الخطاب الإيماني الذي يُخاطب به غلام من الغلمان؟ إنها التربية التي تبين قدر الدنيا وقدر الآخرة، إنها التربية التي تعلق الصغير بالله سبحانه وتعالى، ولهذا إذا نظرت المرأة إلى ما يحدث على هذه الدنيا من نزاع وخصام وعرفت قدر الآخرة فإن المرأة العاقلة هي التي تزن الأمور بموازينها الصحيحة، وتعطي كل ذي حق حقه.

الحذر من الهجوم الموجه ضد المرأة

الحذر من الهجوم الموجه ضد المرأة أيتها الأخت! إن من أشد ما تلاقيه المرأة المسلمة في هذه الأيام هو هذا الهجوم المكثف عليها لإغرائها وإغوائها وإخراجها، ولتحويلها إلى امرأة لا تربي أسرة، وإنما هي امرأة مشغولة بتلك الأمور والقشور الدنيوية، فهي لا تعمر بيتاً، وهي لا تقدم خدمة لأمتها، وهي قبل ذلك وبعد ذلك لا تعمل صالحاً لنفسها تلقاه يوم تلقى ربها تبارك وتعالى، ولابد أن تلقاه.

الإيمان عماد التربية

الإيمان عماد التربية أيتها الأخت المسلمة! إن عماد التربية الإسلامية لدى البيت والأسرة هو الإيمان بالله تبارك وتعالى وباليوم الآخر، بحيث نعرف قدر هذه الدنيا، فلا تصبح هي الغاية، ولا تتحول مشاكلنا وعلاقاتنا كلها من أجل هذه الدنيا. أيتها الأخت لقد عرف سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى قيمة هذه الدنيا، وسأتحدث باختصار عن قصة امرأة صالحة في عهد التابعين، هذه المرأة كانت عالمة فاضلة صالحة، جمع الله لها بين الجمال وبين العلم، وبين الدين والخوف من الله سبحانه وتعالى، وكان أبوها سيداً من سادات التابعين رحمهم الله تعالى. وكان أبوها في المدينة النبوية، وكان ذلك في زمن بني أمية، وكان الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان ولي عهده الوليد بن عبد الملك، وكان عبد الملك بن مروان يحكم الدنيا من أولها إلى آخرها، يحكم مشارق الأرض ومغاربها، حيث كان يحكم الشام والجزيرة والعراق وبلاد فارس وما وراء النهر ومصر والمغرب وأفريقيا. والدها هو سعيد بن المسيب التابعي الجليل، وبينما هو في بيته أو مسجده إذا بأمير المدينة يأتي إليه، فدخل عليه، فلما سلم عليه قال له: يا سعيد، لقد جئتك بعز الدنيا من أولها إلى آخرها. قال له: جئتني بعز الدنيا من أولها إلى آخرها؟! ماذا عندك؟! قال: أبشر يا سعيد، لقد جئتك بشيء يتمناه كل إنسان موجود الآن على ظهر الأرض. قال له: وما الذي تقول؟! وما الذي جئت به؟! قال له: أبشر؛ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يخطب بنتك لولده وولي عهده الوليد بن عبد الملك، وقد تولى الخلافة بعد ذلك. هذا هو عز الدنيا، أن تنتقل بنتك لتكون زوجة لولي عهد المسلمين، وتكون هناك في قصر الخلافة التي لا تحكم بقعة محددة، وإنما تحكم مشارق الأرض ومغاربها التي بلغها الإسلام في ذلك الوقت، فماذا كان جواب سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أمام هذا الإغراء؟! هل قال: أزوج بنتي من ابن أمير المؤمنين، وأعقد صداقات وعلاقات لأتحول إلى داعية وإلى وإلى وإلى؟! لم يقل هذا أيتها الأخت، أتدرين ما الذي قاله للأمير الذي جاء يخطب ابنته لولي عهد المسلمين في ذلك الوقت؟! قال له: اسمع أيها الأمير، وأجبني عن هذا Q إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) , وأنت تقول: جئتك بالدنيا بحذافيرها، فإذا زوجت بنتي من ابن أمير المؤمنين فاقسم لي من جناح البعوضة! وما الذي ستعطيني من جناح البعوضة إذا زوجت بنتي من ابن أمير المؤمنين؟! إنه كلام الحكماء العارفين بالله، وأبى أن يزوجها لابن أمير المؤمنين، ورفض الدنيا من أولها إلى آخرها؛ لأنها عنده لا تعدل جناح بعوضة، فإذا زوج بنته فما الذي سيقسم لها من جناح البعوضة؟! وأبى حتى إنه أوذي رحمه الله تعالى في سبيل ذلك. ثم هذه البنت ممن زوّجها؟! كان عنده عدد من الطلاب، وبعد هذه القصة بقليل افتقد واحداً من طلابه، فسأل عنه، فلما جاءه بعد أيام قال له: لماذا غبت عنا؟ قال: توفيت زوجي، وأنا مشغول بنفسي، وليس عندي إلا أمي، أي: ليس عنده في البيت لا أولاد ولا شيء، وليس عنده إلا أمه. فظن الطالب أن المدرس سيعينه بقليل من المال ليبحث له عن زوجة، وإذا به يفاجأ حين يقول له سعيد بن المسيب: هل أحدثت في هذا الأمر شيئاً -يعني: هل خطبت أو هل تريد أن تخطب-؟ قال: لا. ومن يزوجني وليس عندي شيء؟ فقال له سعيد بن المسيب: أنا أزوجك ابنتي. فصعق الرجل، يرفض زواجها من الوليد بن عبد الملك ويزوجني إياها أنا الفقير! وما أكمل دهشته وإذا بـ سعيد في الحال يحضر من طلابه الشهود ويزوجها إياه، ورجع الرجل لا يكاد يصدق إلى بيته، وصرخ في أعلى داره على جيرانه قائلاً: زوجني سعيد بن المسيب، يقول هذا الرجل: لقد زوجني ووالله ما في بيتي شيء. فجاءت أمه فأخبرها الخبر، فلما أرخى الليل سدوله إذا بقارع يقرع عليه بابه بعد العشاء، فلما قرع عليه بابه قال: من الطارق؟ فقال له: سعيد، فكل إنسان اسمه سعيد خطر بباله إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه منذ أربعين سنة لا يخرج من بيته إلا إلى المسجد، وما دخل دار أحد، وإذا به يفاجأ عندما فتح الباب بـ سعيد بن المسيب واقفاً، فصعق الرجل مرة أخرى، وظن أن الحال كما هي حالنا أحياناً نوافق على الرجل ذي الخلق والدين ونذهب إلى البيت فترفض الأم والأخوات وتنسف القضية، فالرجل قد يكون شجاعاً مع الناس وإذا رجع إلى البيت يتغير الموضوع، ويصير ليس له كلمة ولا أي شيء، فظن الرجل أن سعيداً لما ذهب إلى بيته قالوا له: كيف تصنع هذا! ترفضها من ابن أمير المؤمنين وتزوجها هذا الفقير؟! أي: على الأقل ابحث عن شاب غني ثري طيب طالب علم، فصعق الرجل مرة أخرى وظن أن سعيداً قد تغير له رأي، ويريد قبل أن تكتمل الفرحة أن يلغي الموضوع، فقال له وهو يتلعثم: يا شيخ! لو أرسلت إلي لأتيتك. فقال له سعيد: أنت أحق أن يؤتى إليك، وأنت شاب ليس عندك أهل، وقلت: لا يصلح أن تبيت هذه الليلة بدون أهلك، وهذه هي زوجتك. وإذا بها بجانبه، فدفعها إلى داخل الدار وأغلق الباب ورجع. قال: فدخلت بها فرأيت امرأة عاقلة صالحة عالمة، ومكثت أياماً ما أتيت سعيد بن المسيب. أي أنه شغل بنفسه؛ لأنه يقول: والله ما كان في داري شيء. أي: لا أملك شيئاً. يقول: وأتيته بعد أيام وحضرت الدرس، فانتظر حتى خرج جميع الطلاب وبقيت أنا وإياه، فقال لي: كيف حال ذلك الإنسان -يعني: بنته-؟ فقلت له: إنه بخير. يقول: فقال لي سعيد بن المسيب العالم الفاضل: إن كان ذاك وإلا فعليك بالعصا! وهل تستحق هذه الفتاة العاقلة العصا؟! لكنها تربية الآباء، إنها تربية الأسرة. فـ سعيد بن المسيب لا تظنوا أنه فعل شيئاً خطأً، لا والله، إنها معرفة حقيقية بقيمة الدنيا والآخرة، ولو رحلت بنته إلى دار الخلافة وخدمتها في تلك القصور الخادمات من جميع النواحي فلربما فتنت عن دينها، وكيف تكون حالتها إذا فتنت عن دينها، أما مع صاحبها هذا فلعلها تعيش بقية عمرها في ديانة وعبادة إلى أن تلقى الله، وما عند الله تبارك وتعالى خير وأبقى. أيتها الأخت! هذا هو ميزان الدنيا والآخرة، لهذا فأنا أعجب أحياناً من أن بعض النساء هداهن الله تنافس وتشاقق على الدنيا، وأحياناً تثير مشكلة في البيت، وأحياناً تحسد بعض أخواتها، وأحياناً تغتابهن، والدنيا كلها لا تساوي شيئاً.

وصايا نافعة

وصايا نافعة أيتها الأخت إن الدنيا راحلة، ونحن عنها راحلون بغير شك، فاعملي للآخرة، ولهذا فإنني في كلمتي هذه أوصيك بعدد من الوصايا:

أهمية التقوى

أهمية التقوى الوصية الأولى: تقوى الله تبارك وتعالى في السر والعلانية، وفي الغيب والشهادة؛ فإن تقوى الله هي أعظم زاد تأخذينه معك -أيتها الأخت- في هذه الحياة، في كل تصرف وفي كل كلمة تقولينها وفي كل عمل تفعلينه. وتذكري -أيتها الأخت- أن الله سبحانه وتعالى فوقك يراك ويطلع عليك، فاتقي الله تبارك وتعالى في نفسك، واتقي الله سبحانه وتعالى فيمن وليت رعايته.

المرأة الصالحة سراج البيت

المرأة الصالحة سراج البيت الوصية الثانية: احرصي -أيتها الأخت- على أن تكوني نبتة خير في البيت، سواءٌ أكنت أماً أم زوجة أم أختاً أم بنتاً. أيتها الأخت المؤمنة! احرصي كل الحرص على أن تكوني نبتة نور في هذا البيت، ليس نور المساحيق والألبسة الجميلة، وإن كانت مما تتزين به المرأة بحدود الشرع، لكن هناك نورٌ هو أعلى وأغلى من ذلك بكثير، وهو نور الإيمان، ونور المحبة في الله، نور الخوف من الله، نور يضيء الطريق لأقرب الناس إليك. أيتها الأخت! أنت في بيتك تتحملين مسئولية، فاحرصي كل الحرص على أن تكوني أداة خير لأهل البيت، فإن رأيت خيراً فزيديه، وإن رأيت شراً فعالجيه بحكمة، وكوني داعية إلى الله داخل البيت؛ فإن الأقربين أولى بالمعروف، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وأنت -أيتها الأخت- في هذا البيت بيت الألفة والمحبة من أقرب الناس إلى معرفة مشاكله، فحاولي أن تعالجيها بنور الإيمان ونور القرآن. أيتها الأخت! احرصي كل الحرص على أن يكون القرآن وسماع الشريط الإسلامي وقراءة الكتيب الإسلامي هو عنوان هذه الأسرة.

أهمية قيام المرأة بالدعوة إلى الله

أهمية قيام المرأة بالدعوة إلى الله الوصية الثالثة: أيتها الأخت في الله! احرصي على أن تكوني داعية خير لكل من تتصلين به من الأقارب أو الزميلات أو غيرهن بحدود الشرع، فكوني داعية خير -أيتها الأخت- تأمرين بالمعروف وتنهين عن المنكر. واعلمي -أيتها الأخت- أن تأثيرك أحياناً يكون أقوى من تأثير الرجال، فكم من أسرة حاول الداعون إلى الله مع الرجال فما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً في هذه الأسرة المنحرفة، فهيأ الله لها بنتاً صغيرة هداها الله سبحانه وتعالى، فتحولت إلى نور في هذا البيت بسبب صديقتها أو زميلتها أو مدرستها، فهدى الله بها هذه الأسرة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من دعا إلى هدىً كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة).

وجوب طاعة المرأة زوجها

وجوب طاعة المرأة زوجها الوصية الرابعة: احرصي -أيتها الأخت- على طاعة زوجك، إنها وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن تطيع المرأة زوجها عبادة لله تبارك وتعالى ترجو بها ثواب الله، حتى ولو كانت قوية الشخصية فعليها أن تستذل لزوجها حتى تطيع؛ لأن الله تعالى أوجب طاعتها للزوج، وإذا أطاعت زوجها تحول البيت إلى بيت محبة وألفة، والمرأة التي تعاند زوجها وتعصيه وهي تظن أنها تفرض نفسها فهي في الحقيقة إنما تظلم نفسها، وتسبب الشرور في النهاية لنفسها. أما إذا أطاعت زوجها واحترمته وقدرته وحفظت حقوقه فإنه -والحالة هذه- يتحول البيت إلى بيت إيمان وإلى بيت راحة وطمأنينة نفسية. فالله سبحانه وتعالى حين يسخر لك زوجك ويسخر لك ولدك ترجع الأمور إليك وإلى طمأنينة لك أنت وإلى حالة صحية طيبة. ثم احرصي على أن تكوني عوناً له على الطاعة، فإنه قد يكسل أحياناً أو تكسلين، فليعن أحدكما الآخر، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة التي توقظ زوجها أو الزوج الذي يوقظ زوجته لصلاة الوتر. ووالله -أيتها الأخت- إنك في نعمة بهذا الدين وبهذا الإيمان، وليس فيها إلا من كان مثلك، وتأملي هذا الحديث الذي هو بشرى ويتمناه الرجال، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة المسلمة: (إذا صلت المرأة فرضها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، قيل لها يوم القيامة ادخلي من أي أبواب الجنة شئت). أرأيت سهولة الأمر، فالرجال عليهم مسئوليات، ويتحملون ويكدون، وأما أنت -أيتها الأخت المسلمة- فتعملين هذه الأمور التي هي هينة والحمد لله، ثم تكونين من أهل الجنة، فإذا حافظت على الصلاة والصيام وطاعة الزوج وحفظ النفس فإنك تدخلين الجنة بسلام.

ضرورة إصلاح المرأة علاقتها مع أهل زوجها

ضرورة إصلاح المرأة علاقتها مع أهل زوجها الوصية الخامسة -وأفردها وإن كانت متعلقة بالزوج لأهميتها-: أن تحرصي على أن تكون علاقتك بأهل زوجك طيبة، وعلى أن تكوني ممن يأمر زوجها بأن يبر بأهله وبوالديه بصفة خاصة، وأم زوجك -أيتها الأخت- احرصي على أن تكوني لها بنتاً مطيعة، ولا تنظري إلى كلام الأخريات ولا إلى كلام البنات ولا إلى أي شيء، فإن كنت تبحثين عن السعادة في الآخرة فالسعادة في الآخرة هي بأن تطيعي زوجك، وأن تجعليه عوناً لك، وأن تعينيه على طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن طاعته لله سبحانه وتعالى أن يكون براً بوالديه، وإني لأتعجب من المرأة التي تحرص على أن الزوج ينقطع عن والدته وعن أهله، وأنا أقول: لا تفعل هذا إلا امرأة مجنونة غير عاقلة فعلاً، وإلا فهل هناك خير في زوج يعق والديه؟! والأمر قد انعكس عليها فعلاً، فهي تظن أنها كسبت القضية وكسبت الجولة وقطعت زوجها عن أهله وعن والدته وتفرغ لها، لكن الذي يحدث أحياناً هو أن الله يسلط زوجها عليها في النهاية، أو أن الله يسلط عليها أولادها فيما بعد ذلك، فزوج لا يبر بأمه وأبيه وأهله هو زوج لا ينفع؛ لأنه بالنسبة له لا تزال المسئولية في بر الوالدين باقية عليه، فأنت صرت مع زوجك فخفت عنك المسئوليات الأخرى، وصارت طاعة زوجك مقدمة، لكن زوجك ليس كذلك، بل عليه مسئوليات متعددة، وبره بوالديه باقٍ، فإن عقهما فهو عاق، وأنت -والحالة هذه- تكونين متزوجة تعيشين مع زوج عاصٍ يعق والديه، فهو شبيه -مع بعض الاختلاف- بامرأة تتزوج بزوج يشرب الخمر أو يرتكب نحو ذلك من الكبائر، بل قد يكون هذا أشد. فيا أيتها الأخت العاقلة! إن الدنيا فانية، فكوني عوناً لزوجك حتى ولو كانت أم زوجك أو أهله أو غيرهم يتصرفون أحياناً تصرفات غير طيبة، فكوني أنت طيبة معهم، وراقبي ربك، ولا تراقبي الخلق، وناقشي هذا الأمر مع زوجك بصراحة.

أهمية تعلم العلم الشرعي

أهمية تعلم العلم الشرعي الوصية السادسة: تعلمي العلم الشرعي المبني على العقيدة الصحيحة البعيدة عن البدع؛ فإن البدع كثرت في هذه الأيام، ووالله إن قليلاً على سنة -والسنة موجودة في الكتاب والسنة- خير لك ألف مرة من بدعة حتى ولو زينها المزينون. فيا أيتها الأخت! كوني على منهاج السلف الصالح، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر عمن ينجو من العذاب من النار قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). إذاً من ابتدع بدعاً فليعلم أنه على غير منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فاحرصي -أيتها الأخت- على أن تتعلمي العقيدة، وعلى أن تعلميها، لأن العقيدة هي الأساس في التربية وفي الفهم وفي الخلق وفي السلوك وفي كل شأن من شئون الحياة، فاحرصي على تعلمها وتعليمها لكل من حولك، وأخص بذلك أم الأسرة، فربي أولادك على العقيدة، وإذا جئت لتعلمي ولدك فعلميه الأمور التي تنفع من أمور الدين وأمور الخلق، ولا تكوني كما كان يفعل بعض النساء أو بعض الآباء حين يقول لولده: أنت ممتاز، وغداً تنجح وتصبح لك سيارة وفلة. وهذا عجيب وهذه هي أطماح الحياة، ولكن هل تأمنون أن تعيشوا إلى ذلك؟ وهل هذه الدنيا بلغت هذا القدر؟ A لا. فعلقي ولدك بالله، وعلقي ولدك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتعلم سنته ويتأدب بآدابها، وذكريه بالإيمان بالله وباليوم الآخر وبالجنة وبالنار، وعلميه بتبسيط من خلال القصة، ومن خلال الكلمة، ومن خلال الموعظة. وخير ما يتفتق به ذهن الصبي وفمه هو أن يتلو كتاب الله تبارك وتعالى، وأن يتحفظه، فاحرصي على أن تجعلي ابنك يذهب إلى مدارس تحفيظ القرآن في المساجد. وكوني -أيتها الأخت- نوراً للأسرة ولغيرها، وكوني ربة بيت عاقلة تضفي على البيت عمل العقلاء من النساء ديناً وأدباً وخلقاً وعقلاً وكرماً، بحيث تصبح هذه المرأة مضرب المثل لغيرها من النساء الأخريات، ووالله ليس بينك وبين هذا إلا أن تعزمي عزيمة صادقة على أن تتعاوني مع زوجك على أن تبني هذه الأسرة. وإياك والمشكلات! فلا تثيري المشكلات لأتفه الأسباب، ولاتعيشي ليلك في حمق وغضب لأن فلانة قالت أو قال فلان أو نحو ذلك، فهذه أمور تافهة، فاغفري لأصحابها، وقولي: غفر الله لهم. وأريحي قلبك ونفسك. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن رجل ثلاثة أيام وهو يقول فيه: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) فالصحابة تعجبوا من هذا الرجل، فذهب واحد منهم إليه، وبات عنده ليعلم ما في عبادته، فلم يجد عنده كثير عبادة ولا قيام ليل، فقال له: ما الذي بلغ بك أن يقول فيك النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك من أهل الجنة وأنا ما رأيت عليك مزيداً؟ قال له: ما هو إلا ما رأيت، غير أني أبيت وليس في قلبي حسد ولا غل لأحد. فالذي ينام مستريح القلب مطمئن النفس ينال هذه المنزلة، ويعينه هذا على صحته، ويعينه على معالجة مشكلاته. أما هذا الذي يأكل نفسه حسداً وغيظاً ونظراً إلى الآخرين فهذا يحرق نفسه، ولن يجد إلا ما كتب الله له.

خطر جهاز الدش

خطر جهاز الدش ثم أختم هذه الوصايا -أيتها الأخت- بوصية تتعلق بداء عضال بلينا به في هذه الأيام، ألا وهو داء أجهزة الدش التي تنقل من المحطات العالمية من بلاد الكفر أقبح ما عند الكفار ليلقوه علينا. أيتها الأخت! بالله عليك لو وجدت فتاة طيبة مصلية جالسة في خدر بيتها حصاناً رزاناً متحجبة فأنى يأتيها الفساد؟! إن هذا البلاء أتاها من فوق، ودخل عليها من وراء الجدران، لتشاهد أقبح مما تشاهده المرأة الغربية في بلادها، فكيف يؤثر هذا على خلقها وسلوكها؟! وكيف يؤثر على خلق وسلوك الأولاد؟! بل كيف يؤثر على خلق وسلوك النساء والرجال، والمتزوجين والمتزوجات؟! إنه والله -أيتها الأخت- داء عضال ومرض فتاك، وقد نكون الآن نضحك ونتكلم ولا ندري، لكن والله إنه مرض يسري، وقد لا ندري بالمشكلة حتى تقع، فاتقي الله أيتها الأخت، واحذري من هذه الأجهزة، واعزمي عزماً على زوجك أن ينزع هذا الدش، واعزمي عزيمة أكيدة وقوية على أن تزيلي من بيتك هذا البلاء وهذا الداء العضال، فوالله إنه لمرض عضال، وإنه سم يفتك ولكن لا نشعر به؛ لأنه يعطى لنا بشكل أبيض ومعه قليل من الحلاوة والمتعة الدنيوية. أيتها الأخت هذه وصايا أوصيك بهن، وأوصي بها نفسي وكل مسلم ومسلمة. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعاً من عباده الصالحين الأبرار، وأن يحيينا حياة طيبة، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا علماً نافعا وإيماناً خالصاً وعملاً صالحاً وتوبة نصوحا، وأن يجعلنا ممن يموت وينتقل من هذه الدنيا على كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأن يحشرنا في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشرب من يده ومن حوضه شربة في العرصات لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يجعلنا جميعاً من أهل جنته، وأن يعيذنا من نيرانه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صبغة الشعر ولبس البنطال الواسع والتصوير للمرأة

حكم صبغة الشعر ولبس البنطال الواسع والتصوير للمرأة Q ما حكم الصبغة غير السوداء؟ وما حكم لبس البنطلونات الواسعة للنساء؟ وما حكم التصوير؟ A أما الصبغة لشعر الرأس إذا لم يكن فيها تشبه بكافرة معينة فالذي يظهر أنه ليس هناك دليل يمنع من ذلك. وأما البنطلونات الواسعة فالظاهر أن شرطها هو شرط اللباس، فاللباس إذا كان ساتراً ولا يبين حجم أعضاء المرأة فلا بأس به، لكن الذي يظهر لي أن غالبية البنطلونات حتى ولو وسعت ففيها نوع تشبه أولاً، وثانياً فيها إظهار لحجم جسد المرأة، فهي -بحسب ما أعرف- لا تجوز بالنسبة للمرأة في خارج بيت زوجها. وأما التصوير فالكلام حوله كثير ومعروف، والذي أرى أن التصوير حرام بكل صوره، إلا ما دعت إليه الضرورة والحاجة الماسة؛ لأن بعض الناس ظن أنه إذا أفتي بجواز صورة التابعية يتحول التصوير كله إلى حلال، ونحن نقول: لا؛ فإن النصوص دلت على أن التصوير حرام، وسبب التصوير -كما ورد في الأحاديث- إما الخوف من الشرك؛ لأنها قد تعظم، أو أن فيها مضاهاة خلق الله، ولهذا فالذي نوصي به إخواننا وأخواتنا جميعاً أن يبتعدوا عن هذا إلا ما كان منه ضرورة.

حكم تكشف المرأة عند أخي زوجها

حكم تكشف المرأة عند أخي زوجها Q أعيش أنا وزوجي، ويعيش معنا أخو زوجي منذ عشر سنوات، وليس له مكان آخر عند غير أخيه، فما حكم الكشف عند أخي الزوج في هذه الحالة؟ A لا يجوز الكشف عند أخي الزوج مطلقاً، سواء عاش معكما أم لم يعش، واتقي الله سبحانه وتعالى في نفسك، ولا يقل لك الشيطان: قد رآك وانتهى الأمر. فإن الشرع حينما يأمر بأمر فهو يأمر به لحكمة، وهذه الحكمة باقية.

المصحف الذي على جانبيه تفسير يسير لا يخرج عن كونه مصحفا

المصحف الذي على جانبيه تفسير يسير لا يخرج عن كونه مصحفاً Q هل يعتبر المصحف الموجود في السوق الذي على جانبيه تفسير قليل من الآيات مصحفاً أو يعتبر تفسيراً؟ وإن كان تفسيراً فهل يجوز للحائض أن تمسه أو تمسك به؟ A الذي يظهر لي أنه مصحف علق عليه تفسير بعض الآيات، فالأصل هو المصحف، وإنما يسمى تفسيراً إذا كان الأصل هو التفسير، لذا فهذا المصحف نرى أنه لا يجوز للمرأة الحائض أن تمسه.

حكم الإحرام من جدة

حكم الإحرام من جدة Q امرأة أتت هي وزوجها من الرياض لزيارة الأهل في جدة، وتقول: كنت أتمنى أن أؤدي العمرة قبل الوصول إلى جدة، ولكن لم يرد زوجها أن يؤديها، تقول: وبعد أن أتينا إلى جدة أراد زوجي أداء العمرة، فهل يجوز أن أحرم من جدة أم من الميقات؟ A تحرمين من جدة من نفس البقعة التي أنتم فيها، فتغتسلون وتلبسون ثياب الإحرام وتلبون.

خطر تعليق الصور والصليب على الملابس

خطر تعليق الصور والصليب على الملابس Q أيهما أشد خطورة الصليب أم الصور التي على الملابس أو الأدوات المنزلية؟ A كل له خطورته، فهذا خطر وهذا خطر، ونشر الصلبان وغيرها فيه دعاية لدين النصارى الكفار الذين يزعمون أن عيسى رسول الله صلب، والله يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، والصواب فيه أنه ما صلب، ولكن رفعه الله إليه، والقصد أن الكل خطر.

حكم إظهار الوجه والكفين

حكم إظهار الوجه والكفين Q نرى من النساء من تكون متسترة إلا أنها تبدي يديها في الأسواق وأمام غير المحارم بحجة أنها ليست عورة، فما الحكم؟ A الذي يظهر لي -والله أعلم- أن الوجه واليدين عورة، لذا فننصح الأخت أن تستر يديها، وإذا ما ظهرت دون قصد بأن لفها هواء أو غير ذلك فهذا -إن شاء الله- معفو عنه، لكن الأصل فيها أن تستر يديها، هذا الذي ننصح به أخواتنا.

حكم العمرة عن الغير

حكم العمرة عن الغير Q ابن خالي توفي، فهل يجوز أن أقوم له بعمرة أم يفعلها زوجي؟ A إذا كان هذا القريب غالياً عليكم فيجوز أن تفعليها أنت أو يفعلها زوجك، وتهدونها إليه.

حكم صلاة النساء في مصلى منفصل عن مصلى الرجال

حكم صلاة النساء في مصلىً منفصل عن مصلى الرجال Q إذا كان مصلى النساء ينفصل تماماً عن الرجال ولا يرونهم فهل تجوز صلاتهن؟ A إذا كان داخل المسجد وبينهما جدار فقط فتجوز. أما إذا كان بينهما طريق أو شارع تمر منه السيارات أو يعبر منه الناس فلا، والذي أعرفه من المساجد أنها منفصلة، لكن ليست منفصلة بأن يكون بينهما طريق ونحوه، وإنما بينهما جدار، فلا يرى أحد أحداً ولا يسمع أحد أحداً، وهذا كله من المسجد فصلاتها صلاة في المسجد.

كيفية التخلص من الشيطان ووسوسته

كيفية التخلص من الشيطان ووسوسته Q كيف يمكن التخلص من الشيطان ووسوسته غير قراءة سورة الفلق والناس؟ وهل يمكن أن يتأثر الإنسان بشيء من السحر من شخص آخر؟ A أما كيف يتخلص الإنسان من الشيطان ووسوسته فقد ذكر في السؤال شيء من ذلك، وهو قراءة المعوذات، وكذلك أيضاً قراءة القرآن؛ فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول -كما في الحديث الصحيح-: (البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان)، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قرأ في ليلة آخر آيتين من سورة البقرة -وهي قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة- كفتاه)، واختلف العلماء في عن أي شيء كفتاه؟ فقيل: كفتاه عن قيام الليل. وقيل: كفتاه من الشيطان. وكذلك أيضاً احرصي كل الحرص على أن لا تدخلي على نفسك وسائل الشيطان، فإن الشيطان سيبتعد عنك، وعملك في الطاعة يطرد الشيطان؛ لأن الشيطان مخلوق مثل غيره، فإذا وجد صاحب الطاعات ابتعد عنه، لكن إذا وجد الفارغ اللاهي تسلط عليه، وتعوذي بالله دائماً من الشيطان الرجيم، خاصة إحضار قلبك وقت الصلوات. وأما ما يحدث من وسواس في الصلاة فهذا أمر يشترك فيه الجميع، ولا يكاد يخلو منه أحد. أما بالنسبة للسحر فالسحر هو حقيقة، وقد يضر الإنسان، لكن الشيء الذي يجب أن يقطع به المؤمن والمؤمنة هو أن هذا الساحر أو غيره لا يستطيع أن يضر أحداً بأي شيء إلا بإذن الله، وقد ينشأ عند بعض الناس الخوف من غير الله، فتجد المرأة تخاف من الرجل، وهو يخاف من المرأة، يخاف أحدهما من الآخرة أن يصيبه بالسحر، والله تعالى لما تحدث عن السحرة قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فلا يجوز أن يخاف الإنسان إلا من الله، وعليه أن يفعل الأسباب، ولهذا فالمرأة إذا كانت مؤمنة صالحة فعليها أن تطمئن، وأن تعتمد على الله، وأن تتوكل على الله، وأن تستعين بالله من كل عين لامة ومن كل سحر ومن كل شيطان، والله سبحانه وتعالى يحمي عباده المؤمنين.

حكم نتف المرأة شعر حاجبيها ووجهها للزينة

حكم نتف المرأة شعر حاجبيها ووجهها للزينة Q ما حكم نتف بعض شعر الحاجب للزينة كطرف الحاجب؟ وما هو النمص؟ وما حكم نتف الشعر من وجه المرأة للزينة؟ وهل تدخل فاعلته في حكم النامصة؟ A لا يجوز نتف طرف شعر الحاجب؛ لأنه من النمص، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللاتي يفعلنه، ولذا فنتف شعر العين أو شعر الحاجب لا يجوز، وكذلك أيضاً بقية شعر الوجه إلا ما كان فيه شبهاً بالرجال، مثل أن يكون في المرأة شعرات في الشارب أو في اللحية، فلا بأس بنتف ذلك، أما ما يتعلق بالحاجبين وغيرهما فلا يجوز.

كيفية نصيحة المرأة لزوجها

كيفية نصيحة المرأة لزوجها Q مشكلتي تحيرني ليلاً ونهاراً، وتشل تفكيري، وأنا -والحمد لله- على خير بفضل الله ونعمته، ومشكلتي هي أن زوجي على خير -والحمد لله-، ولكنه ينشغل كثيراً جداً عن مجالس الخير والصالحين، ينشغل عنهم بالدنيا وما فيها، وهو أيضاً يظن في نفسه خيراً، ويزكي نفسه دائماً، ويظن أنه خير الناس، ولقد حاولت معه بشتى الطرق ولكن لا فائدة، فما علاج هذه المشكلة؟ A هذه ليست -إن شاء الله- مشكلة، فما دام أنك وإياه على خير وهو مشغول بالدنيا فهذا -والحمد لله- أمر أهون، ولهذا لا تضخمي المسألة في نفسك، ولا تحولي هذه المسألة إلى مشكلة، بل عليك أن تكوني مع زوجك حتى ولو كان عنده مثل هذه العيوب؛ وقلّ رجل أو امرأة يخلو من عيوب، فعليك أن تنظري إلى المسألة نظرة هادئة طبيعية، ثم عالجيها من بعيد، فمثلاً: يمكن بدون أن ينتبه زوجك أن يأتيه شريط من بعيد بدون أن يكون منك، ويسمع -مثلاً- شريطاً فيه بيان وتقوى، ويسمع أو يقرأ كتيباً أو غير ذلك من الوسائل، فلا تحاولي أن تجعليها مشكلة حادة تذكرين وتتكلمين بها في كل وقت أو في كل يوم، ثم عليك مع ذلك -أيتها الأخت- بالدعاء له بظهر الغيب أن الله يهديه وأن الله يبصره وأن الله يزيل عنه عجب نفسه، ونسأل الله لك وله التوفيق والهداية.

أهمية تكرار النصيحة

أهمية تكرار النصيحة Q لدي زوجة أخي أنصحها بعدم مشاهدة التلفزيون وسماع الأغاني وتبدي لي اقتناعها بالشيء، وبعد ذلك علمت بمشاهدتها للتمثيليات، فكيف يمكن أن أنصحها؟ A لا تيأسي، وكرري بأسلوب طيب معها، فهذه المرأة التي توافقك فيها خير، لأن بعض النساء عنيدات، لكن هذه فيها خير إن شاء الله تعالى، فلا تظني أنك إذا نصحتي انتهى الأمر، أو أنها استجابت وانتهى الأمر، ليس كذلك، فإن الشيطان حريص على كل الناس، وهي بغير شك متأثرة بك، لكن ضعفت أمام مغريات الشيطان، لهذا فالذي ننصحك به أن تكرري وتعددي الأساليب، وأن تكثري من زيارتها وتدعي لها بظهر الغيب. المهم أن الإنسان لا ييأس من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكم من إنسان دعي فلم يستجب، ثم دعي فلم يستجب، ثم دعي فلم يستجب، ثم إن الله سبحانه وتعالى هداه، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منهم من دعا أمه إلى الهدى فما استطاع. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه الصحابي الجليل الذي هو أكثر الصحابة رضوان الله عليهم رواية لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلم رضي الله عنه وأرضاه أبت أمه أن تدخل في الإسلام، وعاش هو وإياها، وبقي مع الرسول يسمع الأحاديث ويحفظها، وكان إذا جاء إليها يقول لها: أسلمي، ادخلي في الإسلام. فتأبى، وتصوروا حال أبي هريرة الصحابي الجليل الذي عرف الله وعرف الإيمان والتقى برسول الله يدخل فيرى أمه على غير الإسلام، لا شك أنه يخاف عليها من عذاب الله إن ماتت على ذلك؛ لأن الذي يموت على الشرك خالد مخلد في النار، ومع هذا كان يحاول ويحاول ويحاول فما استطاع. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم من الأيام وهو حزين، وقال: يا رسول الله! ادع لأم أبي هريرة بأن الله يهديها. وهو يعلم أن الرسول لا يملك من الأمر شيئاً؛ إذ لو كان الرسول يملك الهداية لأعطاها عمه أبا طالب الذي مات على الكفر، فـ أبو هريرة يعلم أن الرسول لا يملك، والله تعالى يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، لكن أبا هريرة أراد أن يتوسل بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من أنواع الدعاء المشروعة، يتوسل الإنسان بأسماء الله وصفاته، أو يتوسل إلى الله بإيمانه بالله وبعمله الصالح كما فعل أصحاب الثلاثة الذي انطبق عليهم الغار، أو يتوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الحاضر الحي، فيقول له: ادع الله لي. أو: ادع الله لأخي. فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: يا رسول الله! ادع الله أن يهدي أمي. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم! اهد أم أبي هريرة)، فـ أبو هريرة رجع إلى بيته يريد أن يحاول مع أمه لعل الله سبحانه وتعالى أن يهديها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقرع عليها الباب فوجدها مغلقة الباب، وسمع خضخضة ماء داخل البيت، فلما أراد أن يطرق قالت: قف يا أبا هريرة. فانتظر حتى انتهت من غسلها ولبست ثيابها، فقابلت ابنها وهي تقول له: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فيا أيتها الأخت! احرصي على الدعوة إلى الله، وعلى الدعاء، فإن الدعاء سلاح المؤمنين في كل وقت، فاحرصي عليه، وأنت إن لم يستجب لك الدعاء فإنك تلقين بذلك أجراً عند الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (ما من عبد يدعو بغير إثم ولا قطيعة رحم إلا كان على الله أن يعطيه إحدى ثلاث خصال: إما أن يستجيب دعاءه، أو أن يدفع عنه من الشر مثله، أو أن يدخر له ذلك أجراً عند الله يوم القيامة، فقال الصحابة: إذاً نكثر من الدعاء، -أي: ما دام أن الأمر فيه نتيجة وفائدة إما في الدنيا أو في الآخرة فلنكثر من الدعاء- فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكثر). فلا ينبغي لمؤمن أن يقول: دعوت فلم يستجب لي. ثم ييأس فلا يدعو ليلاً ولا نهاراً؛ لأن الدعاء عبادة.

موقف المرأة من وجود الدش في منزلها

موقف المرأة من وجود الدش في منزلها Q يوجد لدينا دش في منزلنا، وأنا لا أريده، ولكن زوجي أحضره ونصحته فلم يستجب لي، فماذا ترون لي أن أفعل؟ A احرصي على أن تدعي زوجك، وإذا أمكن أن تعزمي عزماً أكيداً على أن هذا منكر لا يجوز فافعلي ذلك، وهناك زوجة كان زوجها لا يصلي، فنصحته ثم نصحته ثم نصحته فأبى، فذهبت إلى بيت أهلها وقالت: أنا لا أجلس مع رجل لا يصلي، وبقي الرجل قراب سنة يأبى أن يتزوج ويأبى أن يصلي، وطلب منه أهله أن يتزوج امرأة أخرى فأبى، فلما مضى عليه زمن استسلم لهذا الشرط الشرعي وقال: أعود وأصلي. وفعلاً عاد يصلي، وعادت إليه زوجته، وما مضى عليه شهران إلا وهو يدعو لها ويقول: جزاك الله خيراً، يا ليتني أطعتك منذ زمن طويل حتى أكون من أهل الصلاة. لذا فالذي أدعوك إليه هو أن تدعيه، وأن تحاولي معه بشتى الوسائل، وتبيني له الأضرار، وتخوفيه من عذاب الله، وإن عزمت عزيمة قوية عليه فلعله يتعظ، لا أقول بفراق أو بنحوه، ولكن بعزلة قوية تدل على أنك غضبت غضباً شديداً لله تبارك وتعالى، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافيكم من هذا الداء، وأن يعافي المسلمين جميعاً.

الميزان الذي ينظم حياة المرأة

الميزان الذي ينظم حياة المرأة Q ما هو الميزان الذي ينظم للمرأة المسلمة حياتها بحيث لا تنسى نصيبها من التمتع بالدنيا ولا تسوف في أمر آخرتها؟ A هذا الميزان -والحمد لله- ميزان واضح، فالله سبحانه وتعالى لم يحرم الزينة، قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، ولذا فالمرأة التي رزقها الله مالاً لها أن تتمتع بما أعطاها الله من فلة كبيرة جميلة ومن سيارة طيبة ومن ألبسة طيبة في حدود وضوابط الشرع، ثم إنها لا تنسى ربها ودينها، فهي تأخذ من الدنيا ما يعينها على طاعة الله تبارك وتعالى، فلا تترك الدنيا من أولها إلى آخرها، بل تأخذ منها بما أعطاها الله سبحانه وتعالى، لكن لا ينسيها ذلك الآخرة. ولتعلم الأخت أنه كلما تعلق قلبها بالآخرة كلما نظرت إلى الدنيا نظرة تليق بها، حتى ولو كانت ثرية أو غير ذلك ما تجد ثراءها يولد عندها غروراً وتكبراً على الناس أو تعلقاً بالمادة أو حزناً عليها أو خوفاً على فواتها، وإنما إذا حصلت تستخدمها، وهؤلاء النساء موجودات، تقابل واحدة منهن فتجد عندها عقلاً وحكمة وثياباً ساترة، ومع ذلك تنظر إلى بيتها وأناقته وأثاثه فتجد خيراً كثيراً، لكن هذه المرأة العاقلة تضفي عليه بدينها وخلقها وحرصها، وتعلم أن هذه الدنيا ما هي إلا متاع لا تفاخر بها، ولا تجعل من هذه الأشياء مقياس المرأة، فلا تستقبل المرأة الثرية لتفاخرها وإذا جاءتها امرأة فقيرة ولو كانت صالحة لا تنظر إليها، وإنما تعامل الناس بخلق وأدب؛ إذ ليس مقياسها هو الدنيا، ولذا فهي تأخذ من الدنيا ما أحل الله لها. هذه هي الحال الصحيحة، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

كيف نحيا بالقرآن؟ [1]

كيف نحيا بالقرآن؟ [1] إذا أردنا أن ننتفع بالقرآن في حياتنا فعلينا أن نستشعر أننا نحن المخاطبون به، وأننا نحن المعنيون بأحكامه، وأن نعتقد أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وأن نجعله المقدم على أهوائنا في جميع شئوننا وحياتنا. ولقد علم أعداء الله في القديم والحديث أثر القرآن على المجتمع المسلم، فحرصوا على إبعاد الأمة الإسلامية عنه؛ ليحل محله حب الدنيا، والتطلع إلى الشهوات والملذات، فتصبح الأمة أمة شهوانية بعيدة عن الدين، وحينئذ لا يستحقون النجاء، ولا النصر على الأعداء.

كيف نتلقى القرآن؟!

كيف نتلقى القرآن؟! الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن صار على نهجهم واهتدى بهداهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأخ المؤمن! كيف نحيا بالقرآن؟ وقبل الجواب ينبغي أن نعني بقضية مهمة في هذا الموضوع، وهي القضية التي تتمثل في الثقة المطلقة في هذا القرآن، وبما فيه من حقائق متنوعة، سواءٌ أكانت أخباراً عن الماضي أو المستقبل، أم أموراً تشريعية، أم آداباً كتب الله لها الكمال والبقاء والثبات، أم مسائل عقدية متنوعة تتعلق بالله واليوم الآخر وما بين ذلك، أم إشارات عملية تتعلق بالكون والإنسان ونحو ذلك. ونستكمل اليوم جانباً من الجواب عن هذا السؤال الكبير: كيف تحيا أمة الإسلام بالقرآن؟ ولذا نقول: ينبغي أن نعيش مع القرآن تلاوة وتعلماً وتعليماً وكأننا نحن المخاطبون به بكل ما فيه من أمثال وقصص وأحكام وآداب، فنقرأ القرآن ونحن على ثقة مطلقة به، نقرؤه على أنه موجه إلينا، كما أنه موجه إلى من قبلنا وإلى من سيأتي بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أيها الأخ المسلم! إن من أكثر الأخطاء التي نقع فيها أحياناً ونحن نتعامل مع القرآن شعورنا بأن هذا القرآن خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقط؛ حيث نزل عليه القرآن مفرقاً حسب الأحوال والحوادث والمناسبات، ثم لما جمع القرآن صار وكأنه يحكي تاريخاً سابقاً وحوادث ماضية، وليس لنا من ذلك إلا مجرد أخذ العبرة من الحادثة وملابستها والآيات التي نزلت فيها كما نأخذ العبر من بعض حوادث التاريخ. إن هذا من أكبر أخطائنا ونحن نتعامل مع القرآن العظيم، نتعامل معه على أنه قرآن نزل في حوادث خاصة، وانتهت تلك الحوادث والأحوال والمناسبات، أما نحن فنحن في عهد جديد وعصر جديد، ولا نتلو القرآن، ولا نتعلم القرآن على أنه يعالج أحوالنا ومشاكلنا نحن أيضاً. ومع أن معرفة أسباب النزول والمناسبات التي نزلت فيها بعض الآيات من صلب وقواعد التفسير وفهم كتاب الله تعالى على الوجه الحق إلا أن الاقتصار على هذا -إذ العبرة بعموم اللفظ كما تعلم- بل حصر القرآن كله في أنه نزل على قوم آخرين سابقين أوجد فجوة كبرى بيننا وبين القرآن والتعامل مع القرآن والحياة بالقرآن بكل صوره وآياته وقصصه ومواعظه وأوامره وأحكامه. إن هذه قضية يجب أن نقف معها طويلاً؛ لأن من الواجب أن نقرأ القرآن وأن نتلقاه كما تلقاه الصحابة رضي الله عنهم، وكما كان يتلقاه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، نتلقاه أفراداً، ونتلقاه أمةً، ونتلقاه من خلال الأحداث التي نمر بها في كل يوم، وفي كل فترة، وفي كل مرحلة زمنية تمر بها أمة الإسلام. نتلقاه ونحن نواجه كل يوم أنواع الشهوات والشبهات، نتلقاه ونحن نربي نفوسنا الجامحة المائلة إلى الدنيا وشهواتها وملذاتها، نتلقاه ونحن نعبد الله تعالى كما يحب ويرضى في عباداتنا وأذكارنا وفرائضنا ونوافلنا. نتلقاه ونحن نجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تقعد بنا في كل يوم عن طاعة الله والدعوة إلى دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله. نتلقاه ونحن نواجه شياطين الجن والإنس الذين يسعون جاهدين بشتى الوسائل في غوايتنا وإضلالنا، نتلقاه ونحن نواجه الأعداء من المشركين واليهود والنصارى وأذنابهم وغيرهم من الكفار وهم يشنون حرباً على الإسلام على مختلف الأصعدة، وبأنواع الأساليب. نتلقاه ونحن نعاني من النفاق المتسلل داخل صفوف المسلمين، يظهر الإسلام ويبطن الكفر والزندقة، ويبطن حرب الله ورسوله وعباده المؤمنين، نتلقاه في مجاهدة النفس من الداخل، وفي مجاهدة الأعداء من الخارج، نتلقاه في زمن الغربة والفتن التي أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمنا كيف نخرج منها. نتلقاه والمسلمون في المشارق والمغارب يواجهون الأذى والابتلاء على مختلف صنوفه وأشكاله، نتلقاه والمسلمون تتقلب بهم الأحوال بين القوة والضعف، والقلة والكثرة، والأمن والخوف في المشارق والمغارب، نتلقاه ونحن نعبد الله تعالى في أماكن وأزمنة نعبد الله سبحانه وتعالى بمختلف درجاتها الفاضلة. نتلقاه ونحن نربي الأسرة داخل البيت المسلم، ونحصنها من وسائل التدمير والفساد، نتلقاه في حلق التعليم رسمية وخيرية، ابتدائية وجامعية، على مستوى الأمية والمتعلمين، نتلقاه في مجالات تطبيق أحكام القرآن لا نخاف في الله لومة لائم ولا اعتراض معترض في أحكام القرآن، وفي الحدود، وفي العلاقات الاجتماعية والأسرية، وفي القضايا السياسية والعسكرية، وفي أمورنا الاقتصادية وغيرها. نتلقاه في جميع شئون الحياة؛ لأنه كتاب ربنا أنزله الله علينا رحمة وهدى للعالمين، نتلقاه ونحن نطلب الشفاء به على الوجه المشروع لجميع أمراضنا النفسية والعضوية والاجتماعية. نتلقى هذا القرآن ونحن أمة إسلامية لا تعرف مصدراً غير القرآن في التربية والأحكام والآداب والأخلاق والتوجيهات وغيرها، لا تعرف لها مصدراً إلا هذا القرآن العظيم، نتلقاه بعزة المؤمنين وهم يحملون هذا القرآن فوق أيديهم ليقولوا للعالمين جميعاً مشرقاً ومغرباً: إن معنا ما يكفينا ويحيينا. نتلقاه في كل شأن من شئون الحياة، وكأننا اليوم مخاطبون به كما خوطب به من قبلنا، ونتلقاه كما تلقوه بنفس المشاعر والإيمان، وأعمال القلوب وخشوعها وخضوعها لمن تكلم بالقرآن وأنزله رحمة للعالمين. إن هذا بيت القصيد في قضيتنا الكبرى (كيف نحيا بالقرآن)، لن نحيا بالقرآن ونحن إنما نقدس أوراقه كقرابين، لا نحيا بالقرآن ونحن نتخذه قراطيس كما اتخذه اليهود قراطيس: {قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91]. لن نحيا بالقرآن ونحن ننشغل ونعتمد في أمور حياتنا على غير القرآن العظيم، إن حياتنا بالقرآن مرهونة بأن نرجع إلى هذا القرآن في آياته وسوره وأحكامه، وكأنه يتنزل علينا هذه اللحظة، نتلقاه نعالج به مشاكلنا في كل وقتٍ وآن، في كل حادثة ووقعة، نتلقى هذا القرآن على أنه كلام رب العالمين وكفى. نتلقاه على أنه أحكام قاطعة من عند العليم الخبير وكفى، نتلقاه على أنه لا حياة لنا ولا عزة ولا رفعة إلا بهذا القرآن العظيم، نتلقاه على أنه توجيهات حاضرة تعالج أوضاعنا ومشاكلنا، ونبني عليه خطط مستقبلنا، نتلقاه وكأننا نخاطب به أول مرة، وكلنا ثقة وتعظيم وتصديق بهذا القرآن المبين. يتلقاه المؤمن في خاصة نفسه وشجونه وأحزانه ورضاه وفرحه، وزيادة إيمانه ونقصه، وفي مشاكله الصغيرة المحدودة، وفي مجاهدته لنفسه وهواه، وتتلقاه الأمة الإسلامية كلها بمواقفها وجهادها وأحكامها وعلاقتها، كلهم يتلقونه بتلك الروح والإيمان العظيم الذي به تلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، فكان من أمرهم ما كان. إن هذه الأمة قد أكرمها الله تعالى بحفظ هذا القرآن وبقائه، وتلك نعمة ومنة كبرى، فما علينا إلا أن نتوكل على ربنا، وأن نعود إلى هذا القرآن عودة حقيقية لا شكلية، عودة جادة لا تردد فيها، عودة عملية تنبثق من كل واحد منا في خاصة نفسه، ومن ولاه الله تبارك وتعالى ولاية من أهل أو ولد أو غير ذلك. نعود إلى هذا القرآن عودة عملية، نعود لنشبع منه، ولنتزود منه، ولنرجع إليه، ولنعالج به شتى أمراضنا وأكدارنا وأحزاننا، لنعالج به شتى الأمراض الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الأمراض. نعود إلى هذا القرآن بخلاصة شديدة هي أن نعود إليه كما عاد إليه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، فكانوا أمة ظاهرة في العالمين.

جهود أعداء الله في محاربة القرآن وإبعاده عن المجتمعات الإسلامية

جهود أعداء الله في محاربة القرآن وإبعاده عن المجتمعات الإسلامية لقد أدرك أعداء الإسلام هذه الحقيقة المتمثلة في أن هذه الأمة لديها موطن عزها ورفعتها ونهوضها، وذلك باعتصامها بالقرآن وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم عمل هؤلاء الأعداء على صرف المسلمين عن هذا القرآن حتى لا يتلقوه كما ينبغي ويجب، وحتى يعرضوا عنه ويهجروه وينشغلوا بغيره. وتأمل قول الله تبارك وتعالى بعد ذكره لصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه أنهم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:30 - 33]. فجهود المجرمين من الأعداء متواصلة لصد المؤمنين عن هذا القرآن الذي هو منار هداية ومصدر قوة، ولقد صدوا عن هذا القرآن لما نزل، وهاهم اليوم وفي كل وقت يبذلون الجهود لصد هذه الأمة عن كتابها، ولإشغالها بمختلف وسائل اللهو والعبث، حتى لا تجد لقلوبها، بل ولا لأوقاتها، بل ولا لمشاعرها وعواطفها مكاناً لهذا القرآن الذي يقول الله فيه: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:32 - 33]. ومهما حاول الأعداء فسيبقى هذا القرآن مصدر قوة لهذه الأمة، ومتى؟ حين تتلقاه على أنه منهج كامل للحياة، وسيبقى هذا القرآن أيضاً مصدر قلق للأعداء مهما نجحوا في مخططاتهم وصرف هذه الأمة عن هذا القرآن، سيبقى مصدر عزة وقوة لهذه الأمة، وسيبقى في مقابل ذلك مصدر قلق لأعداء الله في المشارق والمغارب، مهما حاولوا، ومهما ظنوا أن مخططاتهم نجحت لصرف هذه الأمة عن القرآن العظيم. ويقول الله تبارك وتعالى عن هذا القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:50 - 52] (وجاهدهم به) أي: بالقرآن. تأمل في هذه الآيات نهي الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يطيع الكافرين، وأمره أن يجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً، فلا تطع الكافرين الذين يسعون لصرفك عن هذا لقرآن بشتى أساليب الصرف، ولقد كان كبراء قريش يقولون للناس: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. وإن هذا ليدل على مبلغ الخوف والذعر الذي به تضطرب نفوسهم ونفوس بقية الناس من تأثير هذا القرآن العظيم، وكيف لا وهم يرون الناس في كل يوم وليلة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى عصرنا الحاضر يؤخذون بعظمة وبلاغة هذا القرآن وعظمة تشريعه، فيدخلون في دين الله تعالى زرافات ووحداناً، حتى في وسط عواصم الكفر والشرك.

معرفة الأعداء قدر القرآن والإسلام

معرفة الأعداء قدر القرآن والإسلام إن الإنسان ليعجب من تأثير هذا القرآن حتى على كبار الأعداء، ولولا أنهم أحسوا بعظمة هذا القرآن وروعته وعظيم أثره لما حذروا منه هذا التحذير الذي يدل على مبلغ معرفتهم بأثر هذا القرآن في النفوس، وإنها والله لمفارقة عجيبة أن يدرك أعداؤنا من عظمة هذا القرآن ما لا ندرك، وأن يعملوا جاهدين على طمس ومحو آثاره في العباد والبلاد؛ لأنهم يخافون من هذا القرآن، ولأنهم يعرفون عظيم أثره في الأمة حين تعود إليه وتحيا به. إنها لمفارقة عجيبة أن يعرفنا أعداؤنا قدر القرآن والإسلام، ونحن في مقابل ذلك لا ندرك من ذلك إلا قليلاً، وتأمل هذه القصة في السيرة النبوية، فقد روى ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا؛ فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفوسهم شيئاً ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود. وتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة! والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، وما عرفت ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم! ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه وحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نطيعه. لقد كان هؤلاء الصناديد في وقت الشرك -ومنهم من مات على الشرك بعد ذلك، ومنهم من هداه الله إلى الإسلام- يغالبون أنفسهم أن تهفوا إلى هذا القرآن، فتغلبهم إلا أن يتعاهدوا على عدم العودة إليه مرة أخرى، لقد أدركوا وسحروا، لقد أدركوا عظمة هذا القرآن، فصاروا يتعاهدون ويرجعون وهم قادة قريش وقادة الكفر والجاهلية في ذلك الوقت، فيجتمعون على سماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا كفار الأمس أدركوا حقيقة القرآن، فعملوا على صرف الناس عن القرآن، وكفار اليوم -أيضاً- أدركوا هذه الحقيقة العظيمة. فهل تعلم أن من الكفار اليوم من يحفظ القرآن عن ظهر قلب وهو كافر؟! وهل تعلمون أن من الكفار من يفني عمره في دراسات عن القرآن؟ هل تعلم أن من الكفار من يعلمون حقيقة عظمة هذا القرآن وأثره في نفوس الناس وفي نفوس المسلمين؟! ومن ثم فهم يحذرون من هذا القرآن، ويعملون جاهدين على صرف أمة الإسلام عن هذا القرآن، لقد صرحوا بذلك في عدد من المناسبات، وقال بعضهم: مادام هذا القرآن والكعبة منصوبة في بلاد المسلمين لا نستطيع القضاء عليهم، ولن يقر لنا قرار. هكذا قال أعداء الإسلام. أيها الأخ الحبيب! إنها مفارقة عجيبة أن يعلم أعداؤنا عن عظمة ديننا وقرآننا ما لا نعلمه، وأن يدركوا ما لا ندركه، إنها مفارقة عجيبة ينبغي أن نتأمل فيها، ونحن نحاول أن نحيا بالقرآن مرة أخرى. إنه -كما قلنا ونقول وسنقول- لا خيار لهذه الأمة وهي اليوم على مفترق الطرق، فإما أن تعود إلى ربها وقرآنها ودينها وإلا كانت الأخرى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. اللهم! اجعلنا ممن يحيا بالقرآن، اللهم! اعمر قلوبنا بالقرآن، اللهم! املأ قلوبنا وقلوب أسرنا وأولادنا بالقرآن، وأفرغها من الأغاني واللهو العبث، واجعل مكانها قرآناً يتلى ويحفظ ويعمل به يا رب العالمين. اللهم! أبرم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر رشد تعود فيه إلى دينها وإلى كتابها. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين المجاهدين في كل مكان. اللهم! دمر أعداء الدين؛ اللهم! دمر أعداء الدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه يا رب العالمين، اللهم! اشغله بنفسه، اللهم! اشغله بنفسه، اللهم! اجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء. اللهم! إنا نسألك أن تكفي المسلمين جميعاً شر أعدائهم مشرقاً ومغرباً. اللهم! اكف المسلمين في البوسنة والهرسك وفي كل مكان شر أعدائهم يا رب العالمين. اللهم! دمر اليهود وأعوانهم، والنصارى وأشياعهم، والمنافقين والعلمانيين، وكل ملحد لا يؤمن بالقرآن ولا بيوم الحساب. اللهم! إنا نسألك أن تقر أعيننا وأعين المسلمين جميعاً بنصرة الإسلام يا رب العالمين، وخذلان أعدائه يا قوي يا عزيز. اللهم! إنا نسألك أن تصلي على نبينا محمد، اللهم! صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأخص منهم الأربعة الخلفاء، والعشرة المبشرين، وأزواجه وآل بيته الطيبين الطاهرين، وبقية الصحابة أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. اللهم! واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.

كيف نحيا بالقرآن؟ [2]

كيف نحيا بالقرآن؟ [2] لقد عاش الصحابة مع القرآن حياة تدبر وتمعن وحفظ وتطبيق وعمل وإيمان وسعادة، فقد تلقوه بلهف وشوق إلى تلاوته، وإلى سماع عبره وقصصه، وكان ذلك مع كونهم يعيشون حالة الاستضعاف والاضطهاد من قبل كفار قريش، فكان لذلك أعظم الأثر في ثباتهم وصبرهم وإصرارهم على دينهم، وكان له أعظم الأثر في مواجهة أعدائهم.

كيفية حياتنا بالقرآن

كيفية حياتنا بالقرآن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. هذا هو الدرس الثالث من دروس (كيف نحيا بالقرآن؟).

نتلو القرآن تلاوة تدبر وتمعن

نتلو القرآن تلاوة تدبر وتمعن حقائق القرآن عند المسلمين لا تتغير؛ لأنه كلام الله تعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:115 - 116]. ويقول تعالى مبيناً أن العاقبة والنصرة لرسل الله تعالى ولأتباعهم: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. ويقول تعالى مبيناً اطلاعه وشهوده لجميع أعمال العباد -ومنها قراءتهم وتلاوتهم للقرآن- وكل شأن من شئونهم، ثم مبيناً أن أولياء الله لهم الأمن والبشرى في الدنيا والآخرة: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:61 - 64]. ويأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن تلاوة تدبر وتمعن، فيقول تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، والمعنى: اتبع القرآن؛ فإنه لا مبدل لكلمات الله، ولا خلف فيها، ولن تجد إن أعرضت عن اتباع القرآن وخالفته ملتحداً، أي: ملجأً تلجأ إليه وتميل. وصدق الله تبارك وتعالى، فمن أعرض عن القرآن العظيم فإلى أين سيذهب؟! لن يجد، ولن تجد أمة الإسلام إن أعرضت عن القرآن العظيم ولم تتبعه وخالفته ملجأ آخر تلجأ إليه فينفعها في دنياها وأخراها، فكلمات الله الشرعية لا تبديل فيها ولا تغيير. هكذا نتلو القرآن ونحن نعلم ونوقن بذلك يقيناً كاملاً أنه لا تبديل لكلمات الله ولا تغيير، فهي حق وصدق، وما أخبرت عنه من أخبار، وما ذكرت به من مواعظ وأمثال، وما بينته من أحكام وآداب كله كلمات الله لا تغيير ولا تبديل فيها أبداً. كلمات الله الشرعية لا تبديل فيها، كما أن كلمات الله الكونية واقعة ولا تغيير فيها، ولا يملك لها أحد من الخلق مهما كان تحويلاً ولا تغييراً ولا تبديلاً. أيها الأخ في الله! كلمات الله الكونية في أقداره بين العباد واقعة على الجميع، الحياة والموت، الصحة والمرض، الفقر والغنى، تحولات الأمم وتقلباتها، آيات الله المتنوعة التي يبتلي بها عباده في كل مكان، كل ما قدره الله تعالى كوناً فهو واقع لا محالة، ولا يستطيع أحد أن يرد شيئاً منه. كذلك أيضاً كلمات الله الشرعية نقرؤها ونتلوها ونؤمن بها على أنها حق وصدق، ولا تبديل لها أبداً، ولقد كان من ضمن الآيات التي لا تبديل فيها قول الله تعالى عن إخوان القردة: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]. وجاءت أحداث الجدار الفاصل لتؤكد هذه الحقيقية القرآنية، وصدق الله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34]، فهل تعي هذا أمة الإسلام؟ هل يعي هذا المسلمون؟ هل يعون هذه الحقائق القرآنية وأنه لا مبدل لكلمات الله؟ إننا سنقدم هذه النصيحة لجميع إخواننا المسلمين، ونقول لهم: اقرؤوا القرآن، وتدبروا معانيه، وأحضروا له قلوبكم، وافتحوا له صدروكم، تدبروه وأنتم على يقين أن هذا القرآن أولاً نورٌ ينير القلب والفؤاد، وينير للعبد حياته في جميع أحوالها، وينير للأمة الإسلامية مسيرها، قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16].

نتلو القرآن على أنه فرقان بين الحق والباطل

نتلو القرآن على أنه فرقان بين الحق والباطل ثانياً: نتلوه على أنه فرقان يفرق به بين الحق والباطل، وينير للإنسان طريقه حين تختلط عليه الطرق في وسط الفتن والشبهات، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].

نتلو القرآن على أنه برهان قامت به الحجة على العباد

نتلو القرآن على أنه برهان قامت به الحجة على العباد ثالثاً: نتلوه ونتدبره على أنه برهان قامت به الحجة على العباد، وهو برهان واضح في دلالاته وحقائقه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:174 - 175].

نتلو القرآن على أنه بصائر للناس

نتلو القرآن على أنه بصائر للناس رابعاً: نتلوه على أنه بصائر للناس تهدي قلوباً حية لينة خاشعة، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:22 - 23]. والقرآن بصائر في جميع الأوقات وعلى مختلف الأحوال، قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]، وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:203]، ثم أمر تعالى بعد ذلك بالإنصات لقراءة القرآن. وقال تعالى في شمول الشريعة وكمالها ووجوب اتباعها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:18 - 20].

نتلو القرآن على أنه شفاء لما في الصدور

نتلو القرآن على أنه شفاء لما في الصدور خامساً: نتلوه على أنه شفاء لما في الصدور، وموعظة لها، تشفى به الصدور من وساوسها وشكوكها وأمراضها، أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، والآية التي قبلها مباشرة: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. وهذا الشفاء يمتد من الفرد إلى الأمة في أمراضها الاجتماعية والنفسية والأخلاقية وغيرها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].

نتلو القرآن على أنه كلام الله

نتلو القرآن على أنه كلام الله سادساً: نتلوه على أنه كلام الله تعالى، تكلم به الذي خلق السماوات والأرض وكل شيء، والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، تكلم به الذي يسبح له ما في السماوات والأرض، ويسجد له من في السماوات ومن في الأرض، تكلم به من بيده ملكوت كل شيء، تكلم به من إذا أراد شيئاً فإنه يقول له: (كن) فيكون، تكلم به من قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء. نتلوه ونحن نؤمن بأن الذي تكلم به الملك الجبار، العزيز الحكيم، القوي المتين، أخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر، أخذ عاداً لما كفروا بالريح العقيم، وأخذ ثمود لما طغوا بالصيحة التي قطعت قلوبهم داخل صدروهم، وأغرق فرعون والناس ينظرون، وخسف بقارون وهو في زينته ومن حوله لا يكادون يصدقون. تكلم به الذي أخذ طواغيت قريش في بدر فأصبحوا صرعى، فرماهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في القليب وخاطبهم: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً). تكلم به الذي رد الأحزاب وقد تحزبوا وتجمعوا في جيوش جرارة، فأنزل الله وأرسل إليهم ريحاً وجنوداً لم يروها فكان ذلك نصر الله لعباده المؤمنين. تكلم به الذي أنزل اليهود من صياصيهم وحصونهم {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]. تكلم به الذي نصر المؤمنين الصادقين في معارك الإسلام الفاصلة في القادسية واليرموك وعين جالوت وحطين، فكانت آيات وعبراً للمعتبرين. نتلوه على أنه كلام الله ملك الملوك ومالك الملك، جميع الخلق فقراء إليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. نتلوه ونحن نؤمن بالله بأسمائه وصفاته وبكماله تبارك وتعالى، نتلو هذا القرآن على أنه كلام الله تبارك وتعالى، نستحضر هذا مع كل كلمة وآية وسورة من القرآن العظيم.

كيف عاش الصحابة مع القرآن

كيف عاش الصحابة مع القرآن سنعرض لنماذج عن حياة السلف بالقرآن، ونبدأ بالصحابة الذين عايشوا وشاهدوا التنزيل مع من نزل عليه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كانوا يتلقونه؟ وكيف كانوا يؤمنون به ويصدقونه ويعملون به؟ وأرجو أن لا يعجب أحد فيقول: إن الصحابة عاشوا مع القرآن وهو ينزل على حسب الأحداث التي عاشوها وراعوها، فكيف يمكن أخذ العبرة من أحوالهم ومواقفهم؟ وجواباً على ذلك نقول: كيف كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفترة المكية التي نزل فيها كثير من القرآن؟! بل كيف كان حالهم في شطر كبير من العهد المدني حيث الحروب والغزوات وتحزب الأحزاب على المسلمين؟ لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لهذا القرآن، وصدٌ لغيرهم عن الإصغاء إليه، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم المقاطعة له ولعشيرته، ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله صلى الله عليه وسلم أو نفيه أو أسره، وفيما بين ذلك هجرة طويلة شاقة إلى الحبشة من جانب بعض أصحابه، ورحلة دامية إلى الطائف، ووصف له بأبشع الصفات تمثلها وسائل الإعلام القرشية في مواطن تجمعات الناس، في الحج، وفي سوق ذي المجاز، وفي سوق عكاظ، وفي غيرها من مجامع القبائل، واصفةً رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بأنه مجنون، ومرة بأنه ساحر، ومرة بأنه كاهن، ومرة بأنه كذاب، ومرة بأنه صابئ، ومرة بأنه مفرق للأمة، وأصحابه صلى الله عليه وسلم معه يعانون ما يقال. عاشوا في هذه الأجواء وهم بعد لا يعلمون ما في غيب الله المجهول، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدري ما الذي يفعل به، وقد قص الله عليه أن من الرسل من قتل، فلا يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ستكون النتيجة عملياً لدعمه، ولا يدري أصحابه من بعد كيف تنزلت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه السور والآيات المكية تحمل حقائق التوحيد والألوهية وقصص الأنبياء ووعد الله بنصر عباده المؤمنين. فكيف كانوا يستقبلون ويتلون هذه الآيات والسور وهم في تلك الأحوال مستضعفين مطاردين من جانب الكفار وأعوانهم؟ إن دارس السيرة النبوية ينبغي أن يقف مع هذا Q كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة يستقبلون القرآن؟ كيف كانوا يتلقون الوحي من الله سبحانه وتعالى وهم بعد لم يجدوا مكاناً آمناً، ولم ينتصروا على المشركين، ولم تفتح لهم مكة، ولم يدخل الناس في دين الله أفواجاً؟ كيف كانوا يتلقون القرآن في أيام العهد المكي والمسلمون مطاردون، بل يعذبون في بطحاء مكة، ورسول الله وأصحابه ينظرون، بل وفيهم من يموت تحت وطأة التعذيب ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرون هذه الحقائق؟ كيف كانوا يتلقون الآيات القرآنية؟ أيها الإخوة في الله! إن الموضوع يطول جداً، ولكنني أقول لكم: في تلك الأجواء والمضايقات والمطاردات في مكة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستقبلون سورة الأنعام المكية؟! كيف كانوا يستقبلون قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:35 - 36]؟ كيف كانوا يستقبلون: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36]؟ كيف كانوا يستقبلون: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]؟ أين الآيسون من رحمة الله ونصر الله؟ كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل هذه الآيات؟ وكيف كانوا يستقبلون قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]؟ كيف كانوا يستقبلون هذه الآيات في سورة الأنعام المكية؟ كيف تلقوا قول الله تعالى في هذه السورة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] وغيرها من الآيات في هذه السورة العظيمة؟! أيها الإخوة في الله! كيف تلقى المسلمون مثل هذه الآيات في سورة الأعراف المكية: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:196 - 197]؟! كيف تلقى المسلمون والرسول معهم قول الله تعالى في سورة يونس المكية: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:46]؟ وقوله تعالى في هذه السورة: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] أين المتوددون؟ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]، وقوله في هذه السورة أيضاً: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:94 - 97]. انتبهوا واستحضروا أن هذه الآيات نزلت في مكة، والمسلمون فيها على ما تعلمون -أيها الإخوة في الله- في مطاردة وتشريد وتعذيب، فكيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع هذه الآيات وهم لا يعلمون غيب الله المكنون؟! أيها الأخ المسلم! لما جرى على المسلمين في غزوة أحد ما جرى، ورأى المسلمون فيها من العبر والدروس العظيمة قال الله تعالى بعد هذه الغزوة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، فواجهوا الأحداث مواجهة مباشرة حتى تكون التربية ويكون الإيمان ويكون العيش مع القرآن. وتأمل قوله تعالى في هذه السورة المكية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:99 - 103]. كيف تلقوا هذا الوعد الصادق وهم مطاردون في مكة؟ كيف سمع الرسول وتلقى الصحابة هذه الآيات في سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، إنه كتاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وهم مستضعفون فقراء في المدينة، يقول الله له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:112 - 115]. ثم يقول في آخر السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:120 - 123]. كيف تلقى الصحابة قصة يوسف وما جرى فيها، وقول الله تعالى في أواخرها: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وهي سورة مكية؟! كيف تلقوا قول الله تعالى في سورة إبراهيم المكية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ ي

مقدمة في السيرة

مقدمة في السيرة معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أهم الأمور التي ينبغي أن يعرفها على كل مسلم؛ لأن العلم يشرف بشرف معلومه، والمعلوم في هذا العلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولابد لمن يريد معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقيها من المصادر المعتمدة، وأن يحذر من دسائس المستشرقين، وأن يتبع المنهج الصحيح في دراستها.

أهمية السيرة النبوية

أهمية السيرة النبوية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلاشك أن مثل هذه الدروس العلمية لها فائدتها الكبيرة؛ لأن مدارسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في عهدها المكي أو فيما تلا ذلك من العهد المدني بتفاصيله الكبيرة، هي من الإيمان ومن مقتضيات محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلاقاً من هذا فسيكون هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- عن المقدمات التي ينبغي أن نستوعبها ويستوعبها الدارسين لسيرة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. وسنعرض إن شاء الله تعالى ثلاث قضايا: أولاها: أهمية السيرة النبوية. وثانيها: مصادرها. وثالثها: المنهج الصحيح لدراسة هذه السيرة. فأما القسم الأول وهو المتعلق بأهمية هذه السيرة، فلاشك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، وهو أفضلهم عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن هذه السيرة تعنينا نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم عناية خاصة؛ فهو رسولنا ونحن أمته، وهو خاتم الرسل، ولا ننتظر رسولاً بعده أبداً، وعيسى عليه الصلاة والسلام أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل في آخر الزمان، ولكنه إذا نزل يكون متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاكماً بالقرآن، وقاتلاً للخنزير، وكاسراً للصليب، ورافعاً للجزية، فلا يقبل من اليهود والنصارى إلا الإسلام على شريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أو السيف، ثم إنه يدفن بعد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.

الأمور التي تبرز من خلالها أهمية السيرة النبوية

الأمور التي تبرز من خلالها أهمية السيرة النبوية وأهمية سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تبرز من خلال عدة أمور: منها: عناية السلف رحمهم الله تعالى بهذه السيرة النبوية الكريمة: ولو أن الإنسان تدبر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون هذا النبي الكريم لوجد أنهم كانوا يحبونه محبة عظيمة جداً، حتى إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعلموا أنهم قد فقدوه، وأنه انقطع الوحي بينهم وبين السماء، أصيبوا بصدمة عظيمة ذهلت لها عقولهم، حتى إن أحد الصحابة يعبر عن ذلك ويقول: (فلما أن دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكرت لنا قلوبنا؛ فما هي والله بالتي نعرف). وصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنقلون في الشوارع والطرقات في المدينة، وكأنهم طير بلله المطر ينتقل من زاوية إلى زاوية؛ من شدة ما لقوا من الحزن لفقد هذا النبي الكريم والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه عناية هؤلاء الصحابة فعناية سلفنا الصالح من التابعين ومن بعدهم كانت على مثل ذلك، فحرصوا على متابعته، وحرصوا على مدارسة سيرته صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن أحد أئمة التابعين -وهو الإمام الزهري الذي يُعتبر أحد من دون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يقول عن علم المغازي: إنه علم الآخرة والدنيا. وقد روي عن إسماعيل بن محمد بن سعد قال: (كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ويعدَّها علينا، ويقول: يا بني! هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها)، يربي رحمه الله تعالى عليها أولاده. وعن علي بن الحسين قال: (كنا نعلم مغازي نبي الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن). وهذا منهم رحمهم الله تعالى دليل على حرصهم على أن يربوا أولادهم على معرفة هذه السيرة النبوية الكريمة، وعلى معرفة تفاصيلها؛ حتى تمتلئ قلوبهم محبة لهذا النبي العظيم وعظمة لهذا الدين وهذا الإسلام، ولئلا تمتلئ قلوبهم بمحبة الخرافات والأساطير وقصص الممثلين والممثلات وغيرهم مما لا فائدة منه أبداً، فيجب أن تملأ قلوب الصغار وتملأ قلوب الأولاد بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وسيرته وتفاصيلها، وإن قلباً امتلأ محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماً بسيرته وبسراياه ومغازيه وأموره كلها، لقلب قمن أن يكون قلباً تواباً أواباً رجاعاً إلى ربه تبارك وتعالى عاملاً بالإسلام داعياً إليه خادماً له معتزاً به. وما أحرانا أيها الإخوة المسلمون! في عصرنا الحاضر أن نغرس في قلوب أولادنا هذه السيرة النبوية الكريمة! بدل أن يغرسها وتغرسها وسائل الإعلام بقصص الكافرين والكافرات والفاسقين والفاسقات، نسأل الله السلامة والعافية. ولقد كتب ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) مقدمة عظيمة عن أهمية سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن منزلة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ومما قاله بعد مقدمة طويلة: ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر؛ فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فُرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء؟! وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف هديه وسيرته وشأنه وما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشريعته وحزبه. وعلى هذا فإن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما هي سيرة خاصة، ونحن محتاجون إليها إذا أردنا أن نكون من المؤمنين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والعجيب! أن كثيراً ممن يهتم بتاريخنا الإسلامي تجده يركز على قضايا مادية، كالزخرفة والفنون والبنايات وغيرها، ويجعلها هي رمز الحضارة الإسلامية، ويؤلف في ذلك المؤلفات الطويلة، ثم يغفل عن إظهار وإشهار سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها من عظمة، وما فيها من جهاد، وما فيها من دروس وعبر، فلاشك أن هذه السيرة النبوية مليئة ومليئة للمسلمين بأن يكون هذا النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لهم؛ فكلٌ يقتدي به عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن الذي يريد أن يهتدي بهدى الله يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا يقتدي به المجاهد الذي يقود الجهاد في سبيل الله، والداعية الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، والزوج الذي يريد أن يربي أسرته على المنهج الصحيح، والرجل الذي يريد أن يعلم أصحابه وأولاده ما يريدونه من العلم، وهكذا. فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتميز بشمولها التام، وبأنها سيرة متكاملة شاملة لجميع مناحي الحياة، قد نجد عند الناس في تواريخهم من برز في القتال، أو من برز في العلم، لكن أن نجد من هو قدوة يجب اتباعه ومن برز في جميع الأمور؛ فلا نجد ذلك إلا في هذا النبي الحبيب الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

أهمية دراسة سيرة الخلفاء الراشدين

أهمية دراسة سيرة الخلفاء الراشدين وأود بهذه المناسبة أن أشير في ختام هذه المقدمة القصيرة عن أهمية سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أن من المهم مدارسة سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بهم فقال: (اقتدوا باللذين من بعدي)، وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين). والأمر الثاني -وهو المهم جداً- أن الخلافة الراشدة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أول تطبيق عملي للإسلام بدون الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى لا يأتي قائل ويقول: أين نحن من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهو رسول الله مؤيد بالوحي ومؤيد بالمعجزات إلى آخره؟ فنقول له: نعم، هذه سيرة واجب اتباعها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بذل الأسباب، وكان بشراً عليه الصلاة والسلام، لكنه كان نبياً، أما خلافة الخلفاء الراشدين فهي تطبيق عملي قريب متكامل لما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نهتم بدراسة تاريخهم وسيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن نمحصها. وننتقل بعد ذلك إلى الفقرة الثانية وهي المتعلقة بمصادر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

القرآن الكريم مصدر من مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

القرآن الكريم مصدر من مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً. وأولها: القرآن الكريم، والقرآن الكريم هو كتاب الله ووحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولأن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً حسب الأحوال والحوادث فإن هذا الكتاب الكريم كان تطبيقاً عملياً لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بدءاً بدعوته إلى أن انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ومن ثمَّ فإن القرآن الكريم يتميز عن غيره من المصادر بعدة ميزات: أولاها: أنه كلام الله، فمدارسته عبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (من قرأ حرفاً من كلام الله كان له به عشر حسنات)، فكون الإنسان يقرأ القرآن ويتدارسه هو عبادة أولاً. الميزة الثانية: أن في القرآن العظيم إشارات تفصيلية لبعض الأحداث في السيرة النبوية لا يمكن أن نجدها في كتب السيرة الأخرى، ومن تدبر كلام الله سبحانه وتعالى سيجد ذلك واضحاً بيناً، فمن قرأ سورة التوبة وكيف قص الله علينا ما جرى في غزوة تبوك، أو قرأ سورة آل عمران وما جرى في غزوة أحد، أو قرأ سورة الأحزاب وما جرى في غزوة الأحزاب؛ سيجد في هذه الآيات القرآنية من التفاصيل ما لا يجده في كتب السيرة النبوية. والميزة الثالثة للقرآن وكونه مصدراً مهماً لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام: أن القرآن فيه ربط عجيب بين سير الحدث وقصة الحدث وربطه بالعقيدة والإيمان والقضاء والقدر، بمعنى: أن كتب السيرة تسرد عليك الأحداث سرداً، لكن إذا قرأتها من القرآن العظيم تجده يعقب عليها بتعقيبات تزن هذه الأحداث وتقومها، وتربطها بالملك العلي جل جلاله، وما دام الأمر كذلك فأنت حينما تقرأ الآيات المتعلقة ببعض أحداث سيرته صلى الله عليه وسلم، تجد ربطها بالإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وبما كتبه الله وقدره وبعلامات الإيمان، وتجد فضح المنافقين وأحوالهم وأوصافهم إلى آخره. الميزة الرابعة: أن السيرة أحياناً تكون مرتبطة بزمان أو مكان أو حدث معين، ولكن في القرآن العظيم تتحول هذه الحادثة من قصة معينة إلى درس كبير ومنهج متكامل يتعدى ظروف الزمان والمكان، ويتعدى ظروف الحدث، ومن ثمَّ يأتي في هذه الآيات الكريمات تحليل لهذا الحدث وتعقيب عليه؛ بحيث يتحول إلى درس يقرؤه الإنسان ولا يمله إلى يوم القيامة، وهذه ميزة القرآن العظيم أنه لا يمله الإنسان، ولا يخلق من كثرة الرد أبداً. الميزة الخامسة: أن هناك أحداثاً جاءت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن جاء تفصيلها في القرآن أكثر مما جاء في السيرة، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش وزواجها قبله من مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله ذكر ذلك في قصة الأحزاب بما لا نجد تفاصيله وتعقيباته في غيره من كتب السيرة. الميزة السادسة: أن كتاب الله سبحانه وتعالى وهو يذكر هذه الأحداث يركز على خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيركز على عموم رسالته، وعلى أن مهمة الرسول هي البلاغ، كما أنه يركز على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر وليس ملكاً، كما أنه يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وهكذا. وينبغي أن نعلم أن مدارسة هذا القرآن العظيم وتتبع السيرة النبوية من خلاله لابد لها من أمور، فلابد من مراجع، ومن أهم هذه المراجع كتب التفسير، ومن أهم كتب التفسير تفسير الطبري وتفسير ابن كثير رحمهما الله تعالى، ثم يأتي بعد ذلك كتب أسباب النزول وغيرها. وأود أن أشير بهذه المناسبة إلى أن أحد الكتاب حاول أن يكتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم فقط، وهو الأستاذ محمد عزت؛ وذلك في كتابه (سيرة الرسول) التي كتبها في مجلدين، فأراد أن يقتصر على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام من القرآن الكريم، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يُكتفى بالقرآن العظيم؛ لأن كثيراً من التفصيلات لابد من الرجوع فيها إلى كتب الحديث النبوي وإلى كتب السيرة؛ ليتبين المراد منها، لكنها محاولة جيدة منه.

الحديث النبوي مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث النبوي مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المصدر الثاني من مصادر سيرة النبي عليه الصلاة والسلام هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: وينبغي أن نعلم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي عني المسلمون بتدوينه عناية تامة، فيه من تفاصيل أحداث السيرة الأمر العجيب، ولدينا ما صح من الحديث النبوي، أقصد ما أُلف بقصد جمع الصحيح، فهناك من ألف كتابه وجعله صحيحاً، كـ البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وفيهما من أحداث السيرة النبوية الشيء الكثير والكثير جداً، وعليك أن تقرأه بثقة واطمئنان؛ لأنه ثابت صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجد في البخاري وفي مسلم أبواباً في فضائل الصحابة، وتجد أبواباً في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجد أبواباً في المغازي، وتجد أبواباً في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، وجهاده للكفار، وهكذا، ففيها من التفصيلات ما قد لا تجده في غيرها من المصادر الأخرى، إضافة إلى كتب السنة الأخرى كبقية السنن الأربع: الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهكذا مسند الإمام أحمد وكتب المعاجم، كمعاجم الطبراني الصغير والكبير والأوسط، ومسند أبي يعلى الموصلي، وغيرها من دواوين السنة الكبرى، والأجزاء الحديثية الصغرى، فهذه كلها فيها الكثير والكثير مما لو جمع لكان سيرة متكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه الكتب الحديثية منها ما هو مرتب على الأبواب فيسهل أحياناً الوصول إليها، كما في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي؛ حيث يسهل وصول الإنسان إلى الأبواب التي يريدها وتتعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك كتب أخرى ليست كذلك، بل تحتاج إلى العلماء، وتحتاج إلى الفهارس؛ حتى نستفيد منها، كمسند الإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد جعله على مسانيد الصحابة، ومن ثمَّ فإن الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذا المسند لابد أن يتتبع المسند من أوله إلى آخره، ويستعين -مثلاً- بالفتح الرباني وإن كان لم يذكر الأحاديث المكررة، لكن الفتح الرباني حول المسند إلى الأبواب. وكذلك أيضا المعجم الكبير للطبراني أو المعجم الأوسط أو مسند أبي يعلى الموصلي أو غيرها، فهذه كلها مسانيد جاءت على ترجمة الصحابة، وأحياناً على ترجمة شيوخ أولئك المحدثين، فالوصول إلى أحداث السيرة فيها يحتاج إلى فهرسة، ويحتاج إلى جهود العلماء في ذلك. وينبغي أن نعلم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما صح منه -كما في البخاري ومسلم مثلاً- فيه من البيان والتوضيح لبعض الأحداث المشكلة الشيء الكثير، وسأذكر بعض الأمثلة المتعلقة بالعهد المدني: مما كان في العهد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة بني المصطلق التي تُسمى غزوة المريسيع، فتجد -مثلاً- في سيرة ابن إسحاق أنه يذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ثم قاتلهم، لكن تجد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم داهمهم وهم غارون، فبحث العلماء هذه القضية: هل لابد قبل القتال من الدعوة إلى الإسلام؟ وكيف نجمع بين حديث البخاري وما قاله ابن إسحاق في سيرته؟ فهنا نجد أن البخاري رحمه الله تعالى أوثق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً هجم على بني المصطلق وهم غارون، حيث هجم عليهم هجوماً صاعقاً، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، وجرى في تلك الغزوة ما جرى، لكن يبقى Q هل معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم وفيه: (وإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال أو إحدى ثلاث خصال: إلى الإسلام)، يعني: ادعهم قبل ذلك، فهل معنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري - داهمهم ولم يدعهم؟ A لا، بل الراجح أنه داهمهم، لكن كان بنو المصطلق قد بلغتهم الدعوة، وإذا كان الأمر كذلك يزول الإشكال في هذه المسألة، وهكذا إذا حلل الإنسان يجد في كتب الحديث النبوي من الترجيحات الشيء الكثير والكثير جداً.

كتب الشمائل المحمدية مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

كتب الشمائل المحمدية مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القسم الثالث من مصادر سيرة النبي عليه الصلاة والسلام: كتب الشمائل المحمدية التي تشرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وصفاته الخلقية والخلقية عليه الصلاة والسلام: ومن أهم المراجع في هذا الباب: كتاب الترمذي صاحب الجامع الصحيح، فله كتاب اسمه (الشمائل المحمدية)، وهذا الكتاب طبع، وقد اختصره وحكم على أحاديثه الشيخ ناصر الدين الألباني جزاه الله خيراً، فمختصره موجود، وفيه شرح لشمائل النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الكتب التي طبعت في الشمائل ولكن إلى الآن لم تحقق: كتاب (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه) لـ أبي الشيخ الأصبهاني المتوفى سنة (369هـ)، لكن هذا الكتاب حتى الآن -على حد علمي- لم يحقق تحقيقاً متكاملاً. والكتاب الثالث -وهو كتاب مشهور عند كثير من الناس- هو: كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض المتوفى سنة (544هـ)، وهذا الكتاب خرج أحاديثه السيوطي رحمه الله تعالى في كتاب مطبوع اسمه (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا)، وهو مطبوع، ولكن ينبغي أن نعلم أن كتاب (الشفا) للقاضي عياض وإن كان أجاد فيه في بعض المواضع إلا أنه رحمه الله قد وقع في الخطأ في بعضها، ومن ثمَّ نجد للصوفية عناية كبيرة بهذا الكتاب، فالكتاب فيه أشياء جيدة، لكن من الملاحظات عليه أنه تكلم -مثلاً- عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والسفر إليه، ورجح جواز ذلك، وهذا كما هو معلوم مخالف لعقيدة السلف رحمهم الله تعالى. الأمر الثاني: أنه لما ذكر أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم صار يقرنها بأسماء الله، فيقول أن الله من أسمائه: الأول والآخر، ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أول من تنشق عنه الأرض إلخ. وأقول: إن في مثل هذه المسائل نوع مبالغة لا تنبغي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بألا نرفعه فوق منزلته. ومن الكتب الجيدة الممتازة جداً: (الشمائل) للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وهذا الكتاب جزء من البداية والنهاية، وقد طبع مستقلاً، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان عن سيرة ابن كثير رحمه الله تعالى.

كتب دلائل النبوة مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

كتب دلائل النبوة مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الرابع من مصادر السيرة: كتب دلائل النبوة التي فيها شرح لدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته: لأن النبي صلى الله عليه وسلم له معجزة هي القرآن الكريم، وله عليه الصلاة والسلام معجزات أخرى كثيرة جداً كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرونها كبيرة، وقد عني العلماء بذكر هذه الدلائل وتفاصيلها؛ لأنها دالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وفي أثناء هذه الدلائل شرح كبير لكثير من أحداث السيرة النبوية. ومن كتب الدلائل -وهو أهمها-: كتاب دلائل النبوة للفريابي وقد طبع أخيراً، وهو كتاب صغير، لكنه جيد. وهناك كتاب آخر مطبوع اسمه: (دلائل النبوة) لـ أبي نعيم الأصبهاني. وهناك أيضاً كتاب ثالث طبع أخيراً واسمه (دلائل النبوة) للبيهقي، لكن كتاب البيهقي هذا كتاب كبير يقع في عدة مجلدات، وفيه بعض الأحاديث الضعيفة، فينبغي لمن اطلع عليه أن يميز صحيحها من ضعيفها. وللسيوطي رحمه الله تعالى كتاب اسمه: (الخصائص الكبرى) وقد طبع هذا الكتاب قديماً، ثم طبع أخيراً بتعليقات للشيخ محمد خليل الهراس رحمه الله تعالى.

كتب السيرة النبوية مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

كتب السيرة النبوية مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القسم الخامس من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: كتب السيرة النبوية: وبدء تدوين السيرة النبوية ليس هذا مناسبة شرحه، وربما أنها سبقت في مناسبة أخرى، لكن نعرض لبعض كتب السير المشهورة، ومن أهمها: سيرة ابن إسحاق المتوفى سنة (150 أو سنة 151هـ)، وسيرة ابن إسحاق رحمه الله تعالى كانت مسطورة، ثم هذبها ابن هشام، وعرفت عند الناس جميعاً باسم: سيرة ابن هشام، وفيها اعتماد كامل على سيرة ابن إسحاق، مع بعض الحذف والاختصار في بعض المواضع. وسيرة ابن إسحاق الأصل وجد منها قطعة تقع في مجلد، طبعت أخيراً بتحقيق محمد حميد الله، ثم طبعت طبعة أخرى بتحقيق سهيل بكار. وسيرة ابن هشام هذه هي السيرة النبوية المشهورة بين الناس، والتي عمل العلماء لها شروحاً، وممن شرح غريبها الخشني، وشرحه مطبوع، وممن شرحها الإمام السهيلي واسم شرحه (الروض الأنف)، وقد طبع قديماً في أربعة أجزاء، ثم طبع أخيراً قبل سنوات في سبعة مجلدات بتحقيق عبد الرحمن الوكيل طباعة جيدة، وقد حرص السهيلي على بعض التعليقات وبعض التعقيبات، وشرح بعض الغوامض. وينبغي أن يعلم أن سيرة ابن هشام هذه هي سيرة ينبغي التثبت من أحداثها تصحيحاً وتضعيفاً، فليس ما فيها كله صحيح، وإنما يجب مقارنتها بغيرها من السير وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيها بعض الروايات الضعيفة، وخاصة ما يتعلق بعهد الجاهلية أو بحياة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى وما يتعلق بولادته ونحوها، لكن ابن إسحاق ثقة في باب المغازي، فإذا لم نجد ما يعارضه من الأحاديث الصحيحة فإننا نعتمد ما قاله ابن إسحاق رحمه الله تعالى. وهناك جزء من السيرة لـ أبي إسحاق الفزاري المتوفى سنة (186هـ)، وأبو إسحاق الفزاري روى له الجماعة، فهو أحد الثقات، وقد طبع أيضاً جزء من كتابه هذا، وهو كتاب جيد لم يقتصر فيه على السيرة النبوية، وإنما ذكر فيها ما يتعلق بالأمور المتعلقة بمعاملة الناس في أثناء الجهاد والغنائم، ففيه تفصيلات وأحكام أخرى. ومن المغازي المشهورة مغازي الواقدي المتوفى سنة (207هـ)، لكن الواقدي هذا متروك، ولما كان ضعيفاً نجد المستشرقين عنوا عناية كبيرة بسيرة الواقدي ومغازيه، وتركوا سيرة ابن إسحاق رحمه الله تعالى، وكان الأولى هو العكس: تقديم سيرة ابن إسحاق على مغازي الواقدي. ومن كتب السيرة أيضاً: ما كتبه محمد بن سعد كاتب الواقدي المتوفى سنة (230هـ) -وهو ثقة- مقدمة لكتابه (الطبقات الكبرى)، ففيه تفصيلات بالأسانيد لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرجع مهم. ومن كتب السيرة أيضاً: (الدرر في اختصار المغازي والسير) لـ ابن عبد البر القرطبي الإمام المشهور المتوفى سنة (463هـ) وكتابه مطبوع، وقد تابع فيه ابن إسحاق، لكنه رحمه الله تعالى زاد على ذلك بروايات من الحديث النبوي من صحيح البخاري ومن سنن أبي داود ومن غيرها من الكتب. وهناك كتب أخرى فيها عناية بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلة، ومنها: (شرح المواهب اللدنية) للقسطلاني، وهو كتاب كبير جداً حاوٍ لكثير من المسائل المتعلقة بشمائل الرسول وسيرته ومغازيه وصفاته وأحواله، ففيه تفصيل كبير، ويتميز أن فيه تحقيقات حديثية وترجيحات، فتجده إذا ذكر الحديث يرجع إلى كتاب البخاري أو إلى كتاب مسلم، ويذكر الروايات، ويناقشها، ويرجح بينها، فهو مرجع مهم في هذا. ومن كتب السير المشهورة: كتاب (السيرة الحملية) وهي مطبوعة، لكن يُحذر مافيها من روايات ضعيفة؛ لأن فيها روايات إسرائيلية كثيرة. ومن السير أيضاً: كتاب (سبل الهدى والرشاد) لـ محمد بن يوسف الدمشقي الشامي المتوفي سنة (942هـ)، وقد طبع من الكتاب ستة أجزاء وهو كتاب كبير، لكنه كتاب شامل، وفيه ما يجب أن يحذر منه من بعض القضايا العقدية، ومن بعض الروايات الضعيفة.

كتب تراجم الصحابة رضي الله عنهم مصدر من مصادر السيرة النبوية

كتب تراجم الصحابة رضي الله عنهم مصدر من مصادر السيرة النبوية السادس من مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: الكتب التي ألفت عن الصحابة، وترجمت لهم: ففيها تفاصيل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والكتب المؤلفة عن الصحابة كثيرة، منها (معرفة الصحابة) لـ أبي نعيم الأصبهاني. ومنها (أسد الغابة) لـ عز الدين ابن الأثير، ومنها (الإصابة) لـ ابن حجر العسقلاني، رحمهم الله تعالى، وغيرها كتب كثيرة، وهي مشهورة، وفيها تفاصيل حياة الصحابة المتعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

كتب التاريخ مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

كتب التاريخ مصدر من مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن المصادر لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي يستفاد منها: كتب التاريخ. وكتب التاريخ نوعان: النوع الأول: الكتب التي دونت لتاريخ الحرمين الشريفين، مثل (تاريخ مكة) للفاكهي، ومثل (تاريخ مكة) للأزرقي، ومثل (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين)، ومثل (خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى) للسمهودي، فهذه الكتب وإن كانت كتباً تاريخية هامة إلا أن من يريد أن يبحث في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيجد منها ما يفيده، على أن يمحص هذه الروايات ويدرسها. القسم الثاني من كتب التاريخ هي: كتب التاريخ العامة، مثل (تاريخ الطبري)؛ فإن تاريخ الطبري هذا فيه من التفاصيل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، لكنه رحمه الله كان يسوقها بأسانيدها، ومن أسندك فقد أحالك، فعلى الإنسان ألا يأخذ ما يرد في تاريخ الطبري على أنه قضية مسلمة، وإنما عليه أن يدرس أسانيدها، ويمحصها، ويقارن بينها وبين الروايات الأخرى، ومثلها كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري؛ فإن في مقدمة هذا الكتاب ترجمة وافية للرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: كتاب (البداية والنهاية) لـ ابن كثير؛ فإنه أسند سيرة مطولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد طبعت مستقلة باسم (السيرة النبوية لـ ابن كثير)، ويُعتبر هذا الكتاب من أهم كتب السيرة؛ لأن ابن كثير رحمه الله تعالى كان مهتماً بالحديث، وكان مهتماً بمقارنة أحداث السيرة التي يذكرها ابن إسحاق أو غيره بما في صحيح البخاري ومسلم والترمذي وغيرها من الروايات، فكتابه هذا مفيد جداً، ونقول: إنه من أفضل كتب السيرة التي يجب أن يُعتنى بها. وهناك أيضاً كتاب آخر وهو: كتاب (التاريخ) للذهبي رحمه الله تعالى، فإنه أفرد مجلدين كبيرين أحدهما للسيرة النبوية، والثاني لمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الذهبي إماماً محدثاً، ومن ثمَّ فإنه رحمه الله تعالى حرص حرصاً شديداً على مقارنة هذه السيرة بغيرها والحكم على كثير من رواياتها، فهو كتاب مهم جداً، وقد طبع ما يتعلق بالسيرة وما يتعلق بعهد الخلفاء الراشدين من هذا الكتاب، كما طبعت منه أجزاء أخرى فيما بعد ذلك. وأيضاً: كتب التاريخ المختلفة، ولا نريد أن نتتبعها.

كتب يجب الحذر منها

كتب يجب الحذر منها ونحن نتدارس مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن أن نحذر من الكتب التي يسمونها: كتب الأدب، وكتب دواوين الشعر، ونحوها، ككتاب (الأغاني) لـ أبي الفرج الأصبهاني أو (العقد الفريد) أو غيرها من الكتب؛ فإن هذه فيها تفاصيل بأحداث السير وبأحداث جرت بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه التفاصيل يجب ألا تؤخذ قضية مسلمة، وأن نعلم أن فيها كثيراً من الدس والكذب على أولئك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. فلا يجوز لمسلم أن يجعل مثل هذه الكتب مصدراً له، لا في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ولا في تاريخ الصحابة، ولا في تاريخ عهود الخلفاء الراشدين وما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

أقسام الدراسات المعاصرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

أقسام الدراسات المعاصرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أما الكتابات المعاصرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نعلم أن هذه الكتابات قسمان: منها قسم تأثر فيه أصحابه بدراسات المستشرقين والمبشرين. وينبغي أن أشير في هذه المناسبة إلى أن المستشرقين والمبشرين ألفوا كتباً كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من هذه الكتب وبعضها قد ترجم إلى العربية، وكثير منها مملوء حقداً وبغضاً وسباً وشتماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فينبغي أن نحذر من هذه الدراسات الاستشراقية، وتبعهم على ذلك بعض أذنابهم ممن ينسبون إلى المسلمين، وكان من الدراسات التي تأثرت بهم ما كتبه طه حسين في كتابه (على هامش السيرة)، فهذا الكتاب مملوء بالخرافات، ولا ينبغي أن يعتمد عليه أبداً. وكذلك أيضاً هناك كتب أخرى وإن كانت أقل خطورة من هذا الكتاب إلا أنها تأثرت بتلك الدراسات الاستشراقية وبالغزو الاستعماري. ومنها ما كتبه محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد)، أو في كتابه الآخر (في منزل الوحي)، فالكتابان وإن كانا جميلين بديعين إلا أنه قلد فيهما مناهج المستشرقين والمبشرين، فمثلاً: أراد أن يجعل من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه واحداً من البشر العاديين، ومن ثم سمى كتابه (حياة محمد)، يعني: يريد ألا يجعل هناك معجزة إلا القرآن، فيبعد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يسميه هؤلاء مخالفاً للعقل من المعجزات ومن المغيبات، ويريد أن يعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً كما يقول: ليتناسق مع مقتضيات الحياة ومع بذل الأسباب البشرية، فجاء عرضه في سيرته بعيداً عن تلك القضايا المهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي من معجزاته ودلائل نبوته عليه الصلاة والسلام. ومثله ما كتبه العقاد في كتابه (عبقرية محمد)، وعنوانه يدل على مقصده منه! فمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُقاس بغيره من العظماء، وإنما يجب أن تختص دراسته بكونه نبياً ورسولاً من عند الله تبارك وتعالى. ثم إنه بدأت دراسات جادة وجيدة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولنقد كتب السيرة، ومن تلك الدراسات الجيدة ما كتبه عدد من الباحثين في جامعة أم القرى وفي الجامعة الإسلامية، فإن هؤلاء كتبوا عدة رسائل درسوا فيها بعض المسائل المتعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم دارسة حديثية نقدية ممتازة، فمثلاً: درسوا بيعة العقبة وأحداثها، ودرسوا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحداثها، ودرسوا غزوة بدر، ومن هذه الدراسات ما يتعلق بغزوة بني المصطلق، وما يتعلق منها بصلح الحديبية، وما يتعلق منها بغزوة تبوك، وقد طبعت أكثر هذه الدراسات، وهي دراسات مهمة جداً. وكان للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله تعالى فضل في ذلك بعد الله تعالى؛ فإنه أول من اقترح هذه الدراسات، وأشرف على عدد من هذه البحوث، وتوفي رحمه الله تعالى منذ زمن، ثم تابع الإشراف على هذه الرسائل الأستاذ الشيخ الدكتور أكرم العمري، وهو موجود الآن في المدينة، وقد حرص الدكتور أكرم العمري على متابعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى متابعة هذه الرسائل لإخراج سيرة جيدة متكاملة مبنية على الدراسة الحديثية المؤصلة. ومن الدراسات التي اهتمت بالسيرة النبوية ما كتبه الأستاذ محمد سرور زين العابدين (دراسات في السيرة النبوية)، فإن هذا الكتاب قد طبع، ودرس فيه كثيراً من مناهج السيرة النبوية، ونقد نقداً ممتازاً كثيراً من مناهج المستشرقين وأذنابهم من المستغربين، ودراسته هذه مطبوعة. ومنها أيضاً ما كتبه أكرم العمري الذي أشرت إليه قبل قليل؛ فإنه له دراسات ممتازة جداً، حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الدراسات الممتازة له ما كتبه بعنوان: (المجتمع المدني في عهد النبوة)، وهو جزءان: جزء يتعلق بخصائص هذا العهد وتنظيماته الأولى، والجزء الثاني يتعلق بالجهاد ضد المشركين، وقد طبعت هذين الجزأين الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفيه دراسة ممتازة جداً وتأصيل جيد لدراسة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام. وهناك دراسات كثيرة ومتعددة اختلفت مناهجها وسبلها، وتعدادها يطول بنا.

أهم الكتب والمصادر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

أهم الكتب والمصادر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل في ختام المصادر: فما أهم المصادر لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأود أن أشير إلى أن من أهم كتب السيرة الكتب التالية: الكتاب الأول: (تاريخ الإسلام) للذهبي، ففيه المقدمة التي أشرت إليها قبل قليل، وهي قسمان: قسم في السيرة النبوية، وقسم في المغازي. الكتاب الثاني: (السيرة النبوية) لـ ابن كثير. الكتاب الثالث: (زاد المعاد) لـ ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا كتاب عجيب عجيب جداً، فكتاب (زاد المعاد) الذي ألفه ابن القيم رحمه الله تعالى وهو في طريقه إلى الحج فيه من التفاصيل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته وفقهها ما يعتبر من الكتب الفريدة في بابه، فينبغي ألا يخلو بيت من هذا الكتاب بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب التفسير. وابن القيم رحمه الله تعالى فيما يتعلق بالسيرة النبوية أعقب كل حدث بذكر الدروس المستفادة منه، وهذا الكتاب مهم جداً، وقد طبع محققاً في خمسة مجلدات، وسادسها هو الفهارس، فاحرصوا على اقتناء هذا الكتاب والقراءة فيه؛ فإن فيه فوائد جمة، وإن فيه من التحقيقات الكثيرة الكبيرة ما يحتاج إليه المسلم في حياته. وهذا الكلام كله بعد سيرة ابن إسحاق؛ لأن ابن إسحاق له من التفاصيل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعتبر من جاء بعده تلميذاً له يستفيد منه. ومن هذه الكتب أيضاً: (فتح الباري) لـ ابن حجر العسقلاني، وأود أن أشير إلى أن هذا الكتاب فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مهم جداً؛ لأنه لما شرح الأحاديث المتعلقة بالسيرة سواء في الأبواب التي بوبها البخاري رحمه الله فيما يتعلق بالمغازي والسير والجهاد ونحوها وفضائل الصحابة ونحوها والمناقب ونحوها، أو ما يتعلق بالأحاديث التي بوب لها البخاري في باب الأحكام لكنها متعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تميز ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه (فتح الباري) بشرح الأحاديث وتمحيصها، ومقارنة الروايات ومدارستها، وفي هذا ما يحتاج إليه أي إنسان يريد أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتفاصيلها، فالكتاب مليء ومليء بالفوائد العلمية الكبيرة، ومنه ما يتعلق بسيرة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ومن الكتب الجميلة جداً والمهمة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب (مختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ووالده محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له كتاب مختصر في السيرة؛ ركز فيه على ما يتعلق بالجاهلية وعادات المشركين؛ ليبين كيف كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حرباً على الشرك وعادات الجاهلية وأحوالها، لكن ولده عبد الله له مختصر في مجلد كبير، اقتصر فيه على ما ورد عن ابن إسحاق رحمه الله تعالى، إلا أنه أضاف إليه تعليقات وتحقيقات أخذها من ابن القيم ومن غيره. هذه أهم مصادر السيرة، وننتقل الآن إلى القسم الثالث والأخير من هذا الموضوع ومن هذه المقدمات، ألا وهو ما يتعلق بمنهج دراسة سيرة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

منهج دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

منهج دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تقوم على عدة أسس وصفات، ومن أهمها: أولاً: ينبغي أن تكون الدراسة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم منطلقة من عزة الإسلام وأحقيته في الحكم والسيادة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غيره. وهذه قضية مهمة جداً، فمن يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يبنيها على هذا الأساس؛ إذ ليست سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرة رجل من الناس، وإنما يبنيها على أن هذا الإسلام لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، وعلى أن هذا الإسلام لا يمكن أن تتم معرفته إلا بمدارسة سيرة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وينبغي البعد عن الروح الانهزامية في تحرير وتحليل قضايا السيرة النبوية، فجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرسه الإنسان على أنه دين أمر الله سبحانه وتعالى به، لا على أن المسلمين لم يقصدوا به كذا، ولم يقصدوا منه كذا، وإنما كان دفاعاً، ولم ينتشر الإسلام بالسيف، ولم ولم إلى آخر العبارات التي جاءتنا من سموم المستشرقين والمبشرين. نعم قال الله تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، لكن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فالجهاد ليس فيه روح انهزامية، ونحن ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الأحكام الشرعية التي تبين كيف أن هذا نبي من عند الله، وأن الله سبحانه وتعالى أمره بأن يبلغ دينه فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. ومن الأمثلة على الروح الانهزامية لبعض من يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعله بعضهم حينما مر على قصة بني قريظة حينما خانوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، وقصتهم طويلة وهي مفصلة في كتب السيرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هزم الأحزاب رجع إلى بني قريظة، وكانت له مع جبريل قصة حينما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم السلاح فدخل عليه جبريل فقال: (يا محمد! ألقيت السلاح؟ قال: نعم. قال: فإن الملائكة لم تلق بعد السلاح. قال: وماذا؟ قال: اذهب إلى بني قريظة)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته وذهب إلى بني قريظة وحاصرهم حتى استسلموا، فلما استسلموا أرادوا أن تكون حالهم كحال بني النضير الذين وهبهم النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أبي ابن سلول؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وافق على أن يُؤخذ منهم السلاح، وتُسلم لهم نفوسهم وأموالهم، فأرادوا ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم في أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وقبلوا هم ذلك، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا سعد بن معاذ، وكان قد أصيب بجرح، فلما أقبل سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزلوه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد آن لـ سعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: احكم في بني قريظة يا سعد)، أي: احكم في هؤلاء الخونة، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه: (أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم وأموالهم). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)، أي: أن حكمك هو حكم الله الجبار جل جلاله، وأتي بهؤلاء الملاعين، وكانوا قرابة السبعمائة رجل.

نماذج من أحوال السلف مع القرآن [1]

نماذج من أحوال السلف مع القرآن [1] الحياة الحقيقية هي الحياة مع القرآن، والعيش الهنيء هو العيش في ظلاله، فإن ذلك يورث المجد والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، وخير مثال لذلك تلك الحياة التي عاشها ذلك الجيل الرباني العظيم في تلك القرون المفضلة، وسيقف القارئ الكريم على متفرقات من وصاياهم وأحوالهم مع القرآن الكريم؛ ليرى تلك الحياة السعيدة الطيبة التي عاشوها مع القرآن يوم أن أعطوه حقه من التلاوة والعمل.

الصحابة الكرام وعيشهم مع القرآن الكريم

الصحابة الكرام وعيشهم مع القرآن الكريم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فاعلم أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأخ المسلم! هذا هو الدرس الرابع من دروس (كيف نحيا بالقرآن الكريم)، فأقول: كيف كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يحيون بالقرآن العظيم؟ فانظر إلى نماذج من مواقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسولهم الكريم حول هذا القرآن والثقة بالقرآن. لقد كانت ثقتهم بوعد الله تعالى في القرآن وأخذهم ما جاء فيه على أنه حقائق مسلمة ينتظرون حصولها ووقوعها حسبما وعد الله لهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لقد كانت هذه الثقة كاملة ومطلقة، وكانوا يتعاملون معها في واقعهم وفي أحوالهم وفي تلقيهم للأحداث التي يمرون بها. كان المسلمون في مكة قبل الهجرة مستضعفين، وكان من حرب المشركين للمسلمين أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، ومما جادلوهم به في مكة أنهم قالوا لهم في يوم من الأيام: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل إليكم! هكذا احتج المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحدث واقع في زمنهم، ألا وهو انتصار الفرس الوثنين على الروم النصارى الذين كانوا ينتسبون إلى الكتاب، فاهتدى لها المشركون وأتوا إلى المسلمين ليثيروا فيهم الشكوك ويقولوا لهم: نحن وثنيون، وأنتم تزعمون أنكم أهل كتاب أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وانظروا إلى حقائق التاريخ، فهؤلاء الفرس المجوس الوثنيون قد انتصروا على النصارى وهم أهل كتاب! فأنزل الله تبارك وتعالى قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:1 - 7]. وتلقى الصحابة رضي الله عنهم هذه الآيات على أنها وعد صادق لا شك فيه أبدا، مع ما كانوا فيه في مكة من ضعف وتشريد وتضليل، ومع هذا فإنها متضمنة للإخبار بالنصر وبأنه كائن في وقت معين. ومع أن هذين الأمرين -أعني النصر وتوقيته- كل منهما خارج عن متناول الظنون، وذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حداً يكفي من تلاحقه أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها، كما قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:2 - 3]. فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة فضلاً عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر وهو أقل من عشر سنين؛ لأن البضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك كذب به المشركون وراهنوا على تكذيبه بعد نزول هذه الآيات. ومع هذا فإن الله تعالى عزز هذا بوعد آخر يتعلق بالمسلمين أنفسهم فقال تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5]، وهذا إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه هاهنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعداً عند الناس في ذلك الوقت أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم واحد؟! وقد أكد الله تعالى ذلك أعظم التأكيد في قوله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6]. ولقد بلغ من يقين الصحابة في هذا الوعد أن أبا بكر الصديق -كما روى الترمذي عنه في سننه- لما نزلت هذه الآيات خرج يصيح في نواحي مكة ويتلوها {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]، فقال ناس من قريش لـ أبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى. وتراهنوا. ولقد صدق الله وعده، حيث تمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين، وليس كذلك فقط، بل كان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما روى ذلك الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه. نصر من الله سبحانه وتعالى في يوم بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، مواكب لنصر وقع للروم على الفرس، وكل هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم ونصرة الله له. ولكن كيف عاش الصحابة مع هذا الوعد من الله تعالى وهم مستضعفون؟ إنه النضج لعيش الصحابة مع القرآن واليقين بالقرآن، فلم يتلوا هذه الآيات وهم مستضعفون مشردون في مكة تلاوة شك وتردد كما يفعله أحياناً بعض ضعفاء الإيمان، يتلو القرآن ويعلم أنه كلام الله تعالى وهو حق لا شك فيه أبداً، ولكنه يتلوه وكأنه شاك بوعد الله تعالى. هكذا كان الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم يعيشون مع القرآن، وهكذا يجب أن يعيش المسلمون مع حقائق القرآن إذا أرادوا أن يحيوا في القرآن حياة حقيقة.

الوعد القرآني للصحابة بدخول مكة آمنين وأين حل منهم

الوعد القرآني للصحابة بدخول مكة آمنين وأين حل منهم وهناك نموذج آخر، ففي عام الحديبية منع المسلمون من دخول مكة، وكان الاتفاق وعقد الصلح، وكان من بنوده أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد ساق الهدي- إلى بلده من عامه ذلك، وأن يعتمر هو وأصحابه في العام المقبل، واشترط المشركون شرطاً على المسلمين، هو أن يدخلوا مكة عزلاً من كل سلاح إلا السيوف في القرب، أي: في أغمادها. فكيف يثق المسلمون بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نقض العهود، وقطع الأرحام، وانتهاك شعائر الله، والصد عن سبيل الله، والصد عن المسجد الحرام؟ فهل سيصدقون في تمكينهم من الدخول إلى مكة لعمرة القضاء؟ ولو صدقوا في تمكينهم من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا ديارهم مجردين من دروعهم وقوتهم؟ ألا يمكن أن تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ، وعلامة هذه المكيدة اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيوف في القرب وهو سلاح لا يصد الرمي بالسهام والنبال؟ أيها الأخ المسلم! إن المسلمين لم يخافوا من ذلك كله؛ لأن وعد الله الصادق قد جاء قبل ذلك بقول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]. فكان وعداً بثلاثة أمور: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة، وقد تحقق ذلك كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه كما هو معلوم -والحديث في الصحيحين- ثقة بوعد الله وبنصره، وثقة بالقرآن، وثقة بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا كانوا يعيشون مع القرآن ويحيون في ظل القرآن.

الوعد القرآني للصحابة بالتمكين والأمن بعد الخوف

الوعد القرآني للصحابة بالتمكين والأمن بعد الخوف وهناك نموذج آخر: فقد كان الله تعالى يقص في القرآن على المسلمين من أنباء الرسل وهم في مكة يثبت أفئدتهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وبمثل قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. فلما هاجر المسلمون إلى المدينة فراراً بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكن ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانطلقوا من خوف إلى خوف، وأصبحت أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الحال كان يعدهم الله في القرآن بما سيحصل لهم من النصر والأمن والاطمئنان، بمثل قول الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]. روى الحاكم في مستدركه -وصححه- عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟! فنزلت هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55]). وروي عن البراء رضي الله عنه قال: (نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد). فكيف عاش الصحابة مع هذا الوعد الرباني بأن الله سيمكن لهم في الأرض، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ولكنه وعد مشروط بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فكيف عاش الصحابة مع هذا الوعد الرباني المشروط بعبادة الله وحده لا شريك له؟! لقد تلقوه بالتصديق، فحققوا الشروط، فعبدوا الله وحده لا شريك له، ونبذوا الأصنام، وحققوا الولاء والبراء، وعملوا بأحكام الله تبارك وتعالى، وصاروا أناساً يتلقون القرآن ليعملوا به، يتلقاه الفرد وتتلقاه الأمة للعمل، فالفرد حين يسمع آيات من كتاب الله تعالى في أمر أو نهي، ينقلب إلى أهله وأولاده يتلو عليهم كتاب الله تعالى فينفذون في الحال، لا انتظار ولا شكوك ولا قساوة قلوب، لأنها قلوب حية تلين مع القرآن، وتعمل بالقرآن، وتحقق ما أمرها الله سبحانه وتعالى به، فلما حققوا ذلك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وفعلوا الواجبات وتركوا المحرمات؛ حقق الله سبحانه وتعالى لهم ذلك الوعد، فبدلوا في وقت قصير من بعد خوفهم أمنا، واستخلفوا في مشارق الأرض ومغاربها، وقد تم ذلك في وقت قصير من السنين. هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يعيشون مع القرآن، كانوا لحبهم لهذا القرآن ولثقتهم بما فيه لا يملون من تلاوته، يتعلمونه ويعملون به، كانوا وهم في ساحات الجهاد يحيون لياليهم بالقرآن الكريم، وكانوا يتلذذون بقراءة القرآن العظيم، وكان الواحد منهم إذا اشتدت عليه الهموم أو جاءه الخوف من كل جانب لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وهو يتلو القرآن العظيم، يتلوه تلاوة المؤمن الواثق، تلاوة المؤمن العامل، تلاوة المؤمن الذي صدق ربه فصدقه الله سبحانه وتعالى. يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هل تريدون أن نكون كما كانوا؟ إن الأمر واضح وضوح الشمس، فإن كنا نريد أمناً، وإن كنا نريد عيشاً رغيداً، وإن كنا نريد حياة طيبة، وإن كنا نريد أن يعصمنا الله من أعدائنا مشرقاً ومغربا، فعلينا بهذا الدين عقيدة وشريعة ومنهاجا، وعلينا بهذا القرآن نجعله حياتنا، وذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.

وصايا السلف في التعامل مع القرآن

وصايا السلف في التعامل مع القرآن لقد كان من وصايا السلف بهذا القرآن والتزامه وتلاوته والعمل به دروس لمن جاء بعدهم، دروس عملية ودروس قولية كانوا يوصون بها أصحابهم، أما كونها دروساً عملية فكان السلف الصالح رحمهم الله تعالى نماذج للعمل بالقرآن يقتدي بهم من كان بعدهم، فالصحابة كانوا دروساً عملية للتابعين، والتابعون كانوا دروساً عملية لتابعي التابعين، وهكذا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تخل في كل وقت من خير وإلى خير إن شاء الله تعالى. ولقد أعطوا دروساً قولية تصدق أفعالهم، فلم تكن أفعالهم تخالف أقوالهم، واستمع إلى بعض كلماتهم ووصاياهم وزواجرهم حول القرآن العظيم. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله. ولقد صدق رضي الله عنه وأرضاه في هذا، فإذا أردت أن تعرف قدر الله عندك وبالعكس قدرك عند الله سبحانه وتعالى؛ فانظر إلى قدر القرآن العظيم عندك، هل تحبه وتتعلق به؟ هل تلازمه وتتلوه؟ هل أنت تفرح بهذا القرآن أم لا؟ ويقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -وهو الخبير بالفتن ومواقعها- يقول موصياً أهل القرآن: يا معشر القراء استقيموا. يا معشر القراء استقيموا. يا معشر القراء استقيموا؛ فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. ولما كان أبو موسى الأشعري أميراً على البصرة رضي الله عنه كيف كانت عنايته بإمارته؟ لقد اعتنى أول ما اعتنى بالقرآن، فبعث إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن العظيم، فقال لهم رضي الله عنه يوصيهم: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤها، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. ويا لها من وصية، وصية من أمير البصرة في ذلك الوقت يوصي القراء ويعطيهم منزلة بين المجتمع، ثم بعد ذلك ينصح لهم فيأمرهم بالقراءة والتلاوة والعمل، وينهاهم عن أن يطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا معشر القراء! ارفعوا رءوسكم؛ فقد وضح لكم الطريق فاستبقوا الخيرات. وصدق رضي الله عنه، وكثيراً ما أوصى السلف بالعمل بالقرآن الذي هو دليل الإيمان، فهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لقد عشنا دهراً طويلاً وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل. أيها الأخ المسلم! لقد أوتي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، فكانوا يعملون بالقرآن، وكانوا لا يتجاوزون آيات حتى يتعلموها ويعملوا بما فيها، وهذه هي الحياة الحقيقية بالقرآن، فالحياة بالقرآن -أيها الأخ المسلم- هي أن نعيش مع القرآن بقلوبنا وأنفسنا، أن نعيش معه في أسرنا، أن نعيش معه في تعليمنا، أن نعيش معه في إعلامنا، أن نعيش معه في كل حالة من حالاتنا، أن نعيش معه وأن لا نلهو ونعرض عنه. أيها الأخ المسلم! يقول أبو هريرة رضي الله عنه -وهو يعلم الأسرة-: البيت الذي يتلى فيه كتاب الله كثير خيره، والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله وقل خيره، وحضرته الشياطين وخرجت منه الملائكة. وصدق رضي الله عنه وأرضاه. ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أحداً من خلق الله أعطي أفضل مما أعطي فقد حقر ما عظم الله، وعظم ما حقر الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يجهل فيمن يجهل ولا أن يحد فيمن يحد، ولكن يعفو ويصفح. وصدق عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فمن أعطي القرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي بشر على الإطلاق؛ لأنه أعطي النور المبين الذي به حياة القلوب في الدنيا والآخرة.

أنموذج من حياة السلف مع القرآن

أنموذج من حياة السلف مع القرآن ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى يعيشون حياتهم للقرآن ولتعليم القرآن، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي التابعي رحمه الله تعالى جلس سبعين سنة يعلم الناس القرآن، ومثله كثير في كل زمن، وفسر مجاهد قول الله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] بأن قال: يعملون به حق العمل. وهذه هي الغاية من تلاوة القرآن، أن يعمل به صاحبه. فأين نحن من القرآن العظيم؟ أين نحن من هذا الكتاب المبين الحق الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]؟ أين نحن من هذا القرآن يا أمة الإسلام؟ أين نحن من تلاوته وتعلمه وتعليمه؟ أين نحن من العمل به؟ أين نحن من العيش في ظل هذا القرآن؟ اللهم إنا نسألك أن تعمر قلوبنا وأن تملأها بالقرآن العظيم، اللهم رد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا القرآن لتعمل به حق العمل يا رب العالمين، اللهم اعمر قلوبنا وبلادنا بالقرآن، اللهم أجرها من الفساد وسوء الأخلاق، اللهم أملأها بالقرآن يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر عبادك الموحدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر عبادك المؤمنين الموحدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم من أراد عقيدتنا بسوء فاشغله بنفسه يا رب العالمين، اللهم من أرادها بهدم أو تغيير فاشغله بنفسه يا رب العالمين، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم من أراد أمننا بسوء فاشغله بنفسه يا رب العالمين، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم احفظنا واحفظ أمننا بالقرآن والعمل بالقرآن، اللهم احفظنا واحفظ أمننا وأمن المسلمين جميعاً بالقرآن العظيم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم من أراد أخلاقنا وأخلاق شبابنا وبناتنا بسوء فاشغله بنفسه، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك أن توفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأخص منهم الأربعة الخلفاء وبقية العشرة وآل بيته الطيبين الطاهرين، وبقية الصحابة أجمعين، واجعلنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

نماذج من أحوال السلف مع القرآن [2]

نماذج من أحوال السلف مع القرآن [2] كان سلفنا الصالح قرآناً يمشي على الأرض، فقد وهبوه وجدانهم، وأنفقوا فيه أغلى أوقاتهم، فانتفعوا به ونفعوا غيرهم، وبين يدينا نموذج فريد من تلك النماذج التي يحيي ذكرها مكانة القرآن في النفوس.

حياة علم من أعلام القرآن

حياة علم من أعلام القرآن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأخ المسلم! هذا أحد أعلام التابعين كان مشركاً كافراً من بلاد فارس، ثم أسر أخيراً في إحدى معارك الإسلام زمن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فأسلم وتعلق قلبه بالقرآن. يقول هذا التابعي رحمه الله تعالى عن نفسه: وقعت أنا ونفر من قومي أسارى في أيدي المجاهدين، ثم ما لبثنا أن غدونا محفوفين بطائفة من المسلمين في البصرة، فلم يمض علينا وقت طويل حتى آمنا بالله، وتعلقنا بحفظ كتاب الله. وهكذا كانت أمة الإسلام، وهكذا كان سلفنا من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، كانت بيوتهم عامرة بالإسلام والقرآن، وكان كل من عاش معهم يتأثر بهم وبأخلاقهم ومعاملاتهم وحياتهم الطيبة المعمورة بالقرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان هؤلاء الذين يعيشون معهم عبيداً لهم مملوكين يأمرونهم وينهونهم ويبيعونهم ويشترونهم، فكانت حياتهم دعوة إلى الله تبارك وتعالى بأقوالهم وأفعالهم، وكان كثير من المشركين أو أهل الكتاب لا يمضي عليهم وقت حتى يدخلوا في دين الإسلام، وكيف لا يدخلون والإسلام هو دين الحق، والذين يعملون معهم ويعاملونهم يتخلقون بأخلاق القرآن؟ فكانت القدوة والمعاملة تنتقل مباشرة إلى هؤلاء. هكذا كانت أمة الإسلام، وقارنها اليوم بأوضاعنا نحن المسلمين، وكيف نعامل غيرنا في بيعنا وشرائنا وأخلاقنا ونحو ذلك، حتى ولو لم يكونوا عبيداً مملوكين وإنما هم أجراء بيننا وبينهم عقد الإجارة. هذا الإمام التابعي كان مشركاً مقاتلاً في صفوف المشركين فوقع أسيراً، ولما عاش في البصرة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين رأى الإيمان والقرآن، فما لبث أن دخل في دين الله تبارك وتعالى.

حياة أبي العالية مع سيده ومع ربه وخالقه

حياة أبي العالية مع سيده ومع ربه وخالقه يقول بعد أن ذكر إسلامه وتعلقه بالقرآن وهو عبد مملوك، يقول: وكان منا -أي: من العبيد المملوكين- من يؤدي الضرائب لمالكيه، ومنا من يقوم على خدمتهم، وكنت واحداً من هؤلاء -يعني: من هؤلاء الذين يقومون على خدمة أسيادهم- ولكن كنا نختم القرآن كل ليلة، فشق ذلك علينا فجعلنا نختمه مرة كل ليلتين، فشق ذلك علينا فجعلنا نختمه كل ثلاث، فشق ذلك علينا لما كنا نعانيه من جهد في النهار وسهر في الليل. فهل تعقد نفسياً وهو عبد مملوك؟! لا. بل رفعه القرآن محلقاً إلى السماء، فصار يؤدي حق سيده وحق ربه؛ لأنه يعلم أنه إذا قدم يوم القيامة إلى ربه فلا فرق بينه وبين سيده في الحساب والجزاء. عبد مملوك يحيي القرآن كل ليلة، ويخدم أسياده بإخلاص في النهار، ويشق ذلك عليه ويتحول إلى الحفظ والقراءة كل ليلتين ثم إلى كل ثلاث. قال: فلقينا بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وشكونا لهم ما نكابده من السهر وقراءة كتاب الله مع قيامنا بخدمة موالينا فقالوا لنا: اختموه كل جمعة مرة فأخذنا بما أرشدونا إليه فجعلنا نقرأ القرآن طرفاً من الليل وننام طرفاً فلم يشق ذلك علينا. أيها الأخ في الله! هؤلاء عبيد مملوكون حدثاء عهد بالإسلام فأين أمة الإسلام من القرآن؟! وبقيت في حياته حكايات وقصص، فقد آل أمره إلى امرأة من بني تميم، وكانت سيدة فاضلة مؤمنة، فكانت لا تشق عليه في الخدمة، حيث كان يخدمها بعض النهار ويرتاح في بعضه الآخر، فأخذ مع حفظ القرآن يتعلم القراءة والكتابة وطلب العلم وعلى رأسه القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأت عبادته خرجت معه في صلاة الجمعة وقالت أمام الناس في الجمعة: اشهدوا -يا معشر المسلمين- أني أعتقت غلامي هذا رغبة في ثواب الله وطمعاً بعفوه، وليس لأحد عليه من سبيل إلا سبيل المعروف. ثم نظرت إليه وقالت: اللهم إني أدخره عندك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

أبو العالية الرياحي بين يدي أكابر الصحابة

أبو العالية الرياحي بين يدي أكابر الصحابة فمن هو هذا الإمام الذي قال عن نفسه: تعلمت الكتابة والقرآن فما شعر بي أهلي ولا رئي في ثوبي مداد قط؟ إنه أبو العالية رفيع بن مهران الإمام المقرئ الحافظ المفسر أبو العالية الرياحي البصري أحد أعلام التابعين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلتق به، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق ودخل عليه، وسمع من عدد من الصحابة، منهم عمر وعلي وأبي وأبو ذر وابن مسعود وابن عباس، وغيرهم كثير، وقرأ القرآن على أبي بن كعب وعلى ابن عباس، وقرأ القرآن أيضا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أحلى القرآن من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه! روي عنه أنه قال: قرأت القرآن على عمر رضي الله عنه ثلاث مرار. فيا للعجب؛ خليفة المسلمين مشغول بالفتوحات وبالأحوال الدقيقة لأمة الإسلام مغرباً ومشرقا ويقرأ عليه القرآن عبد مملوك ثلاث مرات! أيها الأخ في الله! هذا الإمام التابعي رفعه الله تبارك وتعالى بالقرآن كما رفعه بالعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. دخل مرة على عبد الله بن عباس وهو أمير البصرة لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فرحب به ورفع منزلة، وأجلسه على سريره عن يمينه، وكان في المجلس طائفة من سادة قريش، فتغامزوا به وتهامسوا بينهم، وقال بعضهم لبعض: أرأيتم كيف رفع ابن عباس هذا العبد على سرير؟! فأدرك ابن عباس ما يتغامزون به فالتفت إليهم وقال: إن العلم يزيد الشريف شرفاً. رحمك الله يا ابن عباس. نعم، إن العلم يزيد الشريف شرفا، ويرفع قدر أهله بين الناس، ويجلس المماليك على الأسرة، وقد رفع الله أبا العالية بالقرآن، حتى قال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير.

منهج أبي العالية في التعلم والتعليم

منهج أبي العالية في التعلم والتعليم هؤلاء أعلامنا وأعلام القرآن، فتعال نقف عند بعض وصاياه وأحواله مع القرآن. أولاً: كان يعلم أصحابه كيف يقرءون القرآن ويحفظونه، روى عنه أبو نعيم أنه كان يقول: تعلموا القرآن خمس آيات؛ فإنه أحفظ لكم، وإن جبريل كان ينزل به خمس آيات خمس آيات. وهذا منهج تعليمي تربوي. ثانياً: وكان مع اهتمامه بالقرآن مهتماً بالصلاة وإقامتها؛ لأنها عمود الإسلام، وكان من شدة اهتمامه بها أنه يزن بها الناس. روى عنه أبو نعيم أنه قال: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام لأسمع منه -أي: ليسمع منه الحديث- فأتفقد صلاته، فإن وجدته يحسنها أقمت عليه -أي: سمعت منه العلم والحديث- وإن أجده يضيعها رحلت عنه ولم أسمع منه، وقلت: هو لما سواها أضيع. أرأيت الميزان الذي يزن به الرجال! إن الصلاة لميزان صحيح دقيق للرجال، حتى إنه يميز بين المنافقين وغير المنافقين، فكيف بالكفار وغيرهم! وكم من رجل يقال له: ما أعظمه، وما أذكاه، وما أبصره بالأمور! وغيرها من صفات المدح، ثم تفتش عنه فتجده لا يعرف المساجد. رابعاً: ولقد أوصى بلزوم القرآن وتعاهده، ونهى في مقابل ذلك عن الأهواء والبدع، روي عنه رحمه الله تعالى أنه قال: تعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع العداوة والبغضاء بينكم، ولا تحيدوا عن الأمر الذي كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما نقل هذا إلى الحسن البصري قال: لقد نصحكم أبو العالية والله وصدقكم. وكان أيضاً يربي أصحابه على القرآن ويعلمهم حقائقه في جوانب الحياة كلها، فقد روي عنه أنه قال لأصحابه: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، وأن من توكل على الله كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {َمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وأن من أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، وأن من استجاره من عذابه أجاره، وتصديق ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، وأن من دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. هذه هي الأصول التربوية في حياة الإنسان وحياة الأمة تستنبط من القرآن، وهكذا كانت أمة الإسلام تربي وتعلم على ضوء القرآن، فكان من أمرهم ما كان.

أبو العالية العالم المحدث المجاهد القدوة في الابتلاء

أبو العالية العالم المحدث المجاهد القدوة في الابتلاء إمامنا أبو العالية الرياحي كان عالماً بالقرآن، وثقة إماماً حافظاً محدثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معلماً ومربياً، وكان مع ذلك إماماً مجاهداً، حارب الروم في بلاد الشام كما حارب الفرس في بلاد ما وراء النهر، ويقال: إنه أول من رفع الأذان في تلك الديار بعد فتحها. ولقد ابتلاه الله سبحانه وتعالى وامتحنه، وهكذا المؤمنون يبتلون ويمتحنون، يقول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسل ابتلوا، ومحمد خاتمهم ابتلي، ومن جاء بعدهم واتبع سبيلهم فلابد أن يبتلى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. أبو العالية ابتلي وامتحن رحمه الله تعالى، ولكن بلاءه كان في نفسه، أي: مرضاً في جسده. في إحدى السنين استعد للمسير للجهاد في سبيل الله تعالى، ولما جهز عدته للجهاد وأخذ معه ما يحتاج إليه في هذه العدة والسفر الذي قد لا يرجع بعده إذا به يحس بآلام مبرحة في رجله، ولم يزل الألم يشتد به حتى أقعده عن الخروج، واشتد الألم به حتى جاءه الطبيب، فلما نظر إليه وفحصه قال له الطبيب: إنك مصاب بالآكلة، فقال له: رفيع بن مهران: وما الآكلة؟ قال: داء يأكل العضو الذي يحل به ثم ينتقل إلى ما فوقه حتى يأتي على الجسد كله. وأظنه مرضاً معروفاً في عصرنا الحاضر، أجارنا الله وإياكم من كل سوء. وأخبره الطبيب بأنه لابد من بتر ساقه، فأذن له وهو كاره لذلك، ولما حضر الطبيب ومعه مناشيره لنشر عظم ساقه وما يتبع ذلك، قال له الطبيب: أتريد أن نسقيك جرعة مخدر؛ لكي لا تشعر بالألم وهو شديد عليك؟ فقال أبو العالية رحمه الله تعالى: بل هناك ما هو خير من ذلك. فقال: أحضروا لي قارئاً يتقن كتاب الله، واجعلوه يقرأ علي ما تيسر من آياته، فإذا رأيتموني قد احمر وجهي واتسعت حدقتاي وثبت نظري في السماء فافعلوا بي ما شئتم. وقرأ القارئ القرآن، فلما وقع ما ذكر، ونظر وثبت بصره في السماء نفذوا أمره ونشروا ساقه وبتروها، فلما أفاق قال له الطبيب: كأنك لم تشعر بآلام الشق والبتر؟ فقال: لقد شغلني برد حب الله وحلاوة ما سمعته من كتاب الله عن حرارة المناشير. ثم أخذ رجله بيده ونظر إليها. وقال: إذا لقيت ربي يوم القيامة وسألني: هل مشيت بك منذ أربعين سنة إلى محرم أو مسست بك غير مباح؛ لأقولن: لا، وأنا صادق فيما أقول إن شاء الله.

التاريخ والأحداث عظات وعبر

التاريخ والأحداث عظات وعبر هذه نماذج لأحوال الصالحين مع كتاب الله تبارك وتعالى، وهي أحوال تدخل ضمن تاريخ أمة فيها عبر وعظات لمن أراد أن يتذكر، والتذكير -أيها الأخ المسلم- يكون بالقرآن، ويكون بأيام الله تبارك وتعالى، وقد أمر الله بذلك رسله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]، فما هي أيام الله أيها الأخ المؤمن؟ لقد فسرها بعض الصحابة بنعم الله، فسرها بذلك ابن عباس ومجاهد، وفسرها بعض التابعين بنقم الله على أهل الكفر وأهل المعاصي، وهذا قول مجاهد، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج: والصواب أن أيام الله تعم النوعين، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه ونعمه التي ساقها إلى أوليائه. أيها الأخ في الله! ألا تتذكر أيام الله تبارك وتعالى بنوعيها؟ نِعَم لا تعد ولا تحصى أنعم الله بها علينا، ألا نتذكر هذه النعم العظيمة ونخشى أن تزول عنا؟ ثم ألا نتذكر أيام الله ونقمه على أعدائه ممن مضى قبلنا. إن الله سبحانه وتعالى يرسل إلى المسلمين وإلى العالمين نذراً حتى يستيقظوا، ومن هذه النذر التي نسمع بها هذه الأيام الزلازل التي تقع في بعض بلاد المسلمين، فمن الذي خلقها ومن الذي أوجدها؟ خبراء الزلازل يقولون: هي ضغوط تحت الأرض، ثم تحتاج الأرض إلى متنفس فيحدث الزلزال. ونحن نقول: من الذي خلق الأرض ودحاها وجعلها على هذه الحال؟ إنه الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، نعم هو الذي يمسكها، وهو الذي يحركها، وهذه آيات لكم ونذر أيها المؤمنون، فاتقوا الله أيها المؤمنون. يا أهل الإعلام! وأنتم تعرضون لهذا الخبر اربطوه بآيات الله وأيام الله والقرآن، ولا تفصلوا الدين عن الحياة، فهذه آيات بينات، فمن الذي خلقها؟ من الذي أوجدها؟ الكسوف يحدث، وقد نعلم به قبل حدوثه، لكن من الذي أوجده هكذا؟ ولماذا فزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأتيه الغيب من السماء؟! إنها آيات لله سبحانه وتعالى، فاتقوا الله يا عباد الله المؤمنين، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في دينكم، واتقوا الله في إخوانكم المسلمين، وراقبوا ربكم في جميع الأمور، فليس بيننا وبين الله شيء، فمن آمن بالله فالله معه، ومن أعرض عن الله فإن الله يعرض عنه، وهذه حقيقة قرآنية يجب أن لا يشك فيها أي مسلم. أيها الأخ في الله! قف مع القرآن وآياته وتدبر العظات. اللهم أحي قلوبنا بالقرآن، اللهم اعمر قلوبنا بالقرآن وبمواعظ القرآن، اللهم اجعلنا ممن يتذكر بأيام الله، اللهم اجعلنا ممن يتذكر بأيام الله، اللهم قنا وقِ المسلمين جميعاً شر الفتن والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا شر الفتن والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر عبادك المؤمنين المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم اشغله بنفسه، اللهم اشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يا كريم، اللهم ارحمنا جميعاً واغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وأزواجنا وأولادنا ومعلمينا وكل من كان له فضل علينا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

الإجازة الصيفية وتربية الأبناء

الإجازة الصيفية وتربية الأبناء الأبناء أمانة في أعناق الآباء وأولياء الأمور، فيجب على الأولياء والآباء أن يحافظوا على هذه الأمانة، وأن يرعوها حق رعايتها، ويتأكد ذلك الأمر في مثل هذه العطل الصيفية التي يطغى فيها الفراغ على الأبناء فيشغلونه بما يضرهم ولا ينفعهم، ويملئونه بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالشر المستطير، فيجب على الآباء أن يستغلوا مثل هذه الأيام فيوجهوا أبناءهم إلى العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يشغلوهم بما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعهم.

المقارنة بين امتحانات الدنيا وامتحان الآخرة

المقارنة بين امتحانات الدنيا وامتحان الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بعد أيام قليلة ينهي أبناءنا عامهم الدراسي بإنهاء الامتحانات وظهور النتائج، ولست بحاجة إلى التنبيه إلى ذلك، والوصية به؛ لأن البيوت مهتمة بهذا الأمر بما لا نزيد عليه، ودواعي الاهتمام المادية والمعنوية لدى الطلاب وأهلهم متوافرة، فنتائج الامتحانات تترتب عليها أمور كثيرة معروفة، وهذا الاهتمام مطلوب ولا اعتراض عليه، وكثيرٌ ما يقبل الدعاة إلى الله والموجهون في مثل هذه المناسبة إلى عقد مقارنة صحيحة وعظيمة ومهمة بين امتحان الدنيا ونتائجه، وامتحان الآخرة ونتائجه. وامتحان الآخرة سيقع على الجميع، المتعلم وغير المتعلم، الكبير والصغير، العامي والجاهل، الذكر والأنثى، بل يتعدى ذلك إلى الحيوانات كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه سيشمل المتمردين والمنكرين لذلك الامتحان، وسيقف الجميع بين يدي الله تبارك وتعالى للحساب والجزاء، حسابٌ وميزان توزن فيه مثاقيل الذر، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وينتهي هذا إلى الجزاء الحاسم الذي لا مفر منه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، ولا ثالث لهما مطلقاً. ووالله! إنه لا مقارنة بين الامتحانين، ويكفي في الامتحان الثاني أن نشير إلى ما ثبت في حديث الشفاعة العظمى لطلب فصل القضاء بين العباد، حين يحول كل نبي المسئولية إلى أخيه، ويقول -ويا لهول تلك المواقف! -: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، إنه غضب الجبار تبارك وتعالى لا غضب المخلوقين، وهو غضب خاص في ذلك اليوم، فأنى لنا -نحن المساكين- أن نقف، وأن نواجه ذلك الامتحان العظيم، ذلك الامتحان الذي ليس بين أي واحد منا وبينه إلا أن يقال: فلانٌ مات، وما أكثر أسباب الموت في كل زمان، وخاصة في هذا الزمان.

خطأ التركيز على الجانب العلمي المعرفي على حساب الجانب التربوي

خطأ التركيز على الجانب العلمي المعرفي على حساب الجانب التربوي أيها الإخوة المؤمنون! اسمحوا لي أن أعالج الموضوع من خلال زاوية أخرى، مع أن هذه الزاوية العظيمة السابقة زاوية لها أثر تربوي عظيم في حياة الإنسان على مختلف أحواله وعمره. اسمحوا لي أن أنتقل إلى معالجتها من خلال زاوية أخرى تعود نتائجها إلى نفس الموضوع، المقارنة بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة، فأقول: إن الملاحظ على كثير منا فيما يتعلق بأولادنا ذكوراً وإناثاً هو تركيزنا على جانب واحد، وإهمال جانب آخر له أهمية كبرى، والجانب الذي نركز عليه ونعول عليه فيما يتعلق بأولادنا ودراستهم هو: الجانب العلمي المعرفي فقط. وأهم مظاهر هذا التركيز ما يلي: أولاً: التركيز والتأكيد باستمرار على الشهادة ومستوى الطلاب فيها، فأهم شيء لدينا هو التفوق علمياً. ثانياً: كون هذا الجانب هو المعول عليه في تقويم الطلاب لدى أهلهم وأسرهم، ولدى بقية المجتمع. ثالثاً: حصر مهمة التعليم في جميع مراحله تقريباً بهذا الجانب، ويتم هذا بنسبة كبيرة أبدت أحياناً إلى إهمال الجوانب الأخرى، أو إضعافها بشكل كبير. رابعاً: انتهى الأمر إلى أن أهم شيء لدى الشباب والشواب، ولدى أهلهم ومعارفهم هو النجاح في الامتحان ونيل الشهادة، وصار هذا هو المقياس، فكم من شاب يعتبر ناجحاً في الحياة؛ لأنه متفوق دراسياً، وإن كان يحمل مع ذلك أفكاراً فاسدة تناقض دينه، أو أخلاقاً رديئة لا يقبلها دين ولا خلق، ولما تحول الأمر إلى هذا المقياس، وصار التفوق العلمي والنجاح في الشهادة هو الذي يدندن عليه الجميع؛ حتى تحول إلى أن يكون هو القضية الكبرى عاطفياً لدى الابن والبنت، ولدى الأسرة، ولدى جميع الناس. ولما كان الأمر كذلك تحول إلى إضعاف الجانب الآخر في حياة أولادنا، ألا وهو الجانب التربوي، ونعني بشكل أخص: التربية على العقيدة والمنهج والخلق الإسلامية.

ما يواجهه الأبناء في أيام الإجازات الصيفية

ما يواجهه الأبناء في أيام الإجازات الصيفية نحن نستقبل الإجازة الصيفية ذات الأثر العميق على أحوال وأخلاق أبنائنا جميعاً، فأدعوكم إلى التفكير جيداً في هذه القضية، وأهم ما يواجهه أبناؤنا تربوياً في هذه الأيام، ويشتد الأمر في وقت الإجازة ما يلي:

البث المباشر وخطره على الأبناء

البث المباشر وخطره على الأبناء أولاً: البث المباشر الذي غزا كثيراً من البيوت، وهذا البث المباشر نوعان: النوع الأول منه: تلفزيوني؛ حيث تنوعت المحطات العالمية الموجهة إلينا، وهي: محطات -بسبب قدراتها وبسبب دعمها- مختلفة التخصصات، منها: الفنية، والرياضية، بل والإباحية الخالصة، والتنصيرية، والمحطات الجادة -إن وجدت- لا تخلو من فواصل دعائية تحمل في طياتها ما عند الغرب من إباحية وأخلاق فاسدة، وهذا البث المباشر له أثر غائر وعميق على بيوتنا وأسرنا، وكم من فتى أو فتاة تحول منهج حياته الخلقي بسبب سهرة في ليلة واحدة على هذه المحطات. النوع الثاني من البث المباشر: الإذاعي، فهناك محطات تنصيرية خالصة موجهة إلينا بشكل واضح وقوي، وتبث على مدار الساعات، وهناك محطات أخرى تجلب كل ما أنتجه العالم العربي والغربي من أقصاه إلى أقصاه من أغانٍ ماجنات، ومسلسلات مغرية؛ بحيث أدت إلى أن يتجه كثير من الناس إليها تاركين لغيرها.

المجلات والصحف وخطرها على الأبناء

المجلات والصحف وخطرها على الأبناء ثانياً: مما يواجه أبناؤنا وتواجه أسرنا المجلات والصحف، وهذه لا جديد فيها؛ لأنها من زمن قديم، ولكن الجديد ما يظهر كل يوم مما يتفنن فيه أصحابها بالإغراء، وطرق القضايا الحساسة من نواحي الخلق والعلاقات بين الرجل والمرأة والقضايا الأخرى.

الزملاء والأصدقاء وأثرهم على الأبناء

الزملاء والأصدقاء وأثرهم على الأبناء ثالثاً: الأصحاب والزملاء: وهؤلاء لهم أثر كبير جداً على أولادنا، ونحن نعلم أن الإنسان مدني بطبعه يحب الاختلاط، وشبابنا يحبون الاختلاط، وليس هناك بد من هذا الاختلاط، والزمالة والصداقة على نوعين لابد أن تنتهي إليهما: إما صداقة طيبة تثمر ثماراً خيرة، وإما على الضد والعكس من ذلك تثمر مالا يحمد عقباه، ولما كان الأمر كذلك كان دور هؤلاء الأصحاب والزملاء في حياة أبنائنا كبيراً جداً.

السياحة وخطرها على الأبناء

السياحة وخطرها على الأبناء رابعاً: السياحة، وخاصة السياحة الخارجية في فترة الصيف، ويتولى البث المباشر والمجلات والصحف الدعاية المغرية لذلك. وعوداً على بدء فاسمعوا واعجبوا -أيها الإخوة! - لما يفعله بعضنا حين يتفوق ولده علمياً، ما هي جائزة الشهادة؟ جائزته السياحة في بلد غربي، هذه هي الجائزة! انظروا كيف ترتبط المؤثرات بعضها ببعض، من خلال هذه الجوانب المتعددة، والأساس هو أننا ركزنا -فيما يتعلق بأولادنا- على الجانب العلمي فقط، أما الجانب التربوي المتعلق بالعقيدة والخلق والسلوك فهذا جعلناه أمراً ثانوياً إلا ما عصم الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

كيف نواجه هذه المؤثرات التربوية على أبنائنا؟

كيف نواجه هذه المؤثرات التربوية على أبنائنا؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! وأمام هذه المؤثرات التربوية على أبنائنا ما هو الحل؟ هل نستسلم للأمر الواقع ونقول: أعداؤنا غزونا فماذا نصنع بهم؟ ألسنا مأمورين شرعاً باتخاذ الأسباب؟ أيها الإخوة في الله! إن شبابنا -والحمد لله- لا يزال يحتفظ بقدر كبير من الفطرة السليمة واليقظة الإيمانية متى ما حرك ذلك الشعور الإيماني، ووسائل التربية الذاتية في البيت والمسجد والمدرسة وغيرها حين تكون صالحة ومركزة وحين تستوي على سوقها؛ تؤدي -بمعونة من الله- إلى أنواع من الحصانة التي تجعل الشباب المسلم يتعالى بإيمانه، ودينه، وخلقه الإسلامي عن هذه الدناءات. وسأضرب لكم مثالاً على هذا الذي أقوله: كم من شاب ذهب سابقاً للدراسة في بلاد الغرب، وما دفعه إلى ذلك إلا حب الحرية، والاستمتاع هناك بكل أنواع اللهو والفساد، وكثيراً ما كان هذا الشاب يكلم زملاءه، ويتحدث معهم قبل سفره عما سيواجه هناك، وما سيلاقيه ويتمتع به من لهو وعبث، وفعلاً يذهب الشاب إلى هناك؛ حيث لا رقيب ولا حسيب من أهل أو نظام يمنع من ذلك، بل إن نظام تلك البلدان يحمي ذلك. ويعيش فترة طويلة أو قصيرة يرى فيها بأم عينية بلاد الحرية، ويتمتع إن أراد بما شاء دون أن يحاسبه أحد، ولكن الذي يحدث أحياناً، بل يحدث كثيراً والحمد لله، أن هذا الشاب سرعان ما يستيقظ عنده إيمانه وعقيدته؛ فيرجع إلى ربه رجوعاً صحيحاً، ويعود إلى بلاده أصلب وأقوى إيماناً، بل يعود إلى بلاده داعية إلى الله تبارك وتعالى! أيها الإخوة! هذه نماذج شاهدتموها جميعاً، ونحن نقول بالنسبة لما نشكوه من مشكلات البث المباشر ونحوه: حين نربي أولادنا على المنهج الصحيح، هل سيتعامل معها أبناؤنا كما تعامل بعض الشباب الذين عاشوا في بلاد الحرية؟ إن هذا البث المباشر يجب الوقوف دونه عملياً ونظرياً، والذي أقوله هنا هو توجيه لنا نحن الأسر نحن الآباء، بحيث لا نستسلم للأمر الواقع، ولا ندع الأمور تسير كما يراد لها. علينا أن نصنع شيئاً تجاه هذا الغزو الخلقي والعقدي لأولادنا، فنعمل ونجد ونجتهد في تربية أولادنا، وإيقاظ إيمانهم، وتوجيههم التوجيه السليم؛ وهذا سيتحول -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى رد فعل قوي جداً، يجعل الشاب يكون أكثر تمسكاً بإيمانه وصلتاً بربه. كان الزنا مباحاً في الجاهلية، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان حلالاً مباحاً عند الناس، وكان الزواني أنواعاً، وكان لهن رايات، بل كان الزوج يأمر زوجته حين يريد ولداً نجيباً أن تذهب إلى فلان أو فلان؛ لتعيش معه في الحرام لعله يولد له ولد شجاع، ومع ذلك حين بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وحين تحولت تلك الدعوة إلى منهج تربوي؛ سرعان ما تخلى أولئك عما كانوا عليه؛ لأنهم وجدوا العقيدة والإيمان والطمأنينة النفسية، وجدوا السعادة الحقيقية، السعادة التي تعتمد أول ما تعتمد على قول الله تبارك وتعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] هذا هو مقياس السعادة، يحبهم ويحبونه، وحين يكون الأمر كذلك يكون القلب سعيداً، وتكون النفس مطمئنة، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من أولئك. وهناك -أيها الإخوة! - أمور أخرى أحب أن أشير إليها في هذه المناسبة، وهي ذات أثر تربوي منها:

التربية المبكرة للأولاد

التربية المبكرة للأولاد أولاً: التوجيه والتربية المبكرة لأولادنا؛ حتى ينشئوا على الإيمان والخلق، ويجب أن يكون هذا الاهتمام منذ الصغر، وأن يستمر إلى ما بعد ذلك، وهذه المسئولية يتحملها بشكل كبير البيت.

الدروس العلمية المتنوعة

الدروس العلمية المتنوعة ثانياً: الدروس العلمية المتنوعة، وهذه لها أثرها وأهميتها التي لا تخفى، ولعل كون هذه الدروس ليست إلزامية، إضافة إلى أنه لا حوافز لها مادية مباشرة؛ لعل هذا يجعل حضور الإخلاص وطلب العلم لوجه الله تعالى أقوى وأكبر نفعاً.

الاشتراك في الأنشطة المتنوعة الموثوقة

الاشتراك في الأنشطة المتنوعة الموثوقة ثالثاً: الاشتراك في الأنشطة المتنوعة الموثوقة، التي توجه التوجيه الطيب، ومنها: حلق تحفيظ القرآن الكريم، والمراكز الصيفية، والجولات الدعوية، والأنشطة الأسرية التي يرتبها الأب مع أولاده من خلال أسفار العمرة أو غيرها، والمهم أن الأب يرتب هذه الرحلة؛ ليستفيد منها جميع أفراد الأسرة.

الزواج المبكر للأولاد

الزواج المبكر للأولاد رابعاً: الزواج المبكر لأولادنا ذكوراً وإناثاً، وهذه وسيلة شرعية عظيمة تجنب أولادنا -بإذن الله- مزالق عديدة، ولقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشباب قائلاً: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج). والزواج المبكر له آثار تربوية خاصة، لعل من أهمها: إكمال نصف الدين، وأرجو أن تفكروا في هذا ومدلوله في حياة الفتى أو الفتاة خلقاً وسلوكاً، كيف يتم إكمال نصف الدين؟ من خلال الزواج؛ لأن الزواج يقطع شروراً وآفات وأفكاراً ومنحدرات في حياة الإنسان لا يعلم مداها إلا الله تعالى، وحين يتم هذا الزواج تقطع هذه الوسائل ليتجه الإنسان اتجاهاً جديداً. ومن آثاره: التعود على تحمل المسئولية، وهذا يؤدي إلى التخلي عن كثير من الأمور التي كان يفكر فيها ويفتح فيها خياله، فإنه مع الزواج ينتقل إلى واقع عملي يواجه فيه عدد من المسئوليات اليومية التي لا تنتهي، ومع مجيء الأولاد تكون المسئولية والإحساس الأبوي قد جعلت هذا الأب الجديد -ولو كان صغيراً- يتحول إلى معلم ومربي وموجه، مهما حاول التخلي عن ذلك. ومن آثاره أيضاً: نقل الشباب والفتيات من أصدقاء ومحاضن كانوا عليها سابقاً إلى أجواء جديدة، وحين يكون الاختيار في الزواج على أساس من الشرط الشرعي (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، (وإذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه؛ فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)؛ حين يكون ذلك تتحول هذه المحاضن إلى محاضن تربوية عظيمة، ولكن المهم هو تسهيل أمر الزواج، حتى لا يتحول -كما هو الحال- إلى عقبة كبرى لا يجتازها إلا القلائل، وهذا مما ينبغي أن يتنبه له الجميع، وأن يطبقوه عملياً.

إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله

إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله نقول للشباب: أقبلوا على الزواج، ولا تعوقنكم الأمور المادية؛ فسيغنيكم الله من فضله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وكم من شاب تحمل بعض الديون بسبب زواجه، وما انتهت سنته الأولى أو الثانية إلا وقد رزقه الله سبحانه وتعالى كفافاً، بل ما هو أعلى من الكفاف. والزوجة إذا أتت إلى البيت تأتي ورزقها معها، والولد إذا جاء يأتي ورزقه معه، لست أنت الذي ترزقه حتى تقول: من أين أصرف لأولادي؟! افعل الأسباب الشرعية والمادية، وأقبل على هذا الباب العظيم؛ فإنه -والله- يسد فتناً عظيمة لا يعلم قدرها إلا الله. أيها الإخوة الآباء! يجب علينا أن ننتبه إلى ذلك من خلال مراقبتنا لأولادنا وسلوكهم، ومن خلال تسهيل أمر الزواج لهم، فإنكم مأجورون على ذلك، إضافة إلى أنها مسئولية تتحملونها أمام الله تبارك وتعالى. أيها الإخوة في الله! هذه لمحات وإشارات تتعلق بهذه المسألة التي تحدثنا عنها من خلال ما سنقبل عليه من الإجازة الصيفية، وما فيها من عقبات وعقبات، تتعلق بأخلاق أولادنا وتوجهاتهم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه الشباب إلى أمور ربما نشير إليها في مناسبة لاحقة، ونعرض بنماذج منها حتى نستفيد منها تربوياً. اللهم! إنا نسألك أن تصلح أولادنا، اللهم! أصلح أولادنا ذكوراً وإناثاً، اللهم! جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم! إنا نسألك أن ترزقنا وإياهم الإيمان، اللهم! إنا نسألك أن ترزقنا وإياهم الإيمان والخلق الفاضل، اللهم! طهر بيوتنا من كل رجس ودنس يا رب العالمين! اللهم! إنا نسألك أن تحبب إلينا وإليهم الإيمان، وأن تزينه في قلوبنا وقلوبهم، وأن تكره إلينا وإليهم الفسوق والعصيان، يا رب العالمين! اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم! انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم! قوِّ عزائمهم، اللهم! أنزل السكينة على قلوبهم. اللهم! دمر أعداء الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم! إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم. اللهم! اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا وأساتذتنا، وكل من كان له فضل علينا يا أرحم الراحمين! اللهم! إنا نسألك أن توفق أولادنا جميعاً إلى النجاح في الدنيا والآخرة، اللهم! اجعل نجاحهم في الدنيا عوناً لهم على نجاح الآخرة، اللهم! اجعله بصيرة لهم في دينهم؛ حتى يكونوا عزاً لأمة الإسلام. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ورتل القرآن ترتيلا

ورتل القرآن ترتيلاً القرآن الكريم له مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة؛ لأنه كلام الله عز وجل، ولذلك فإن الاهتمام به وتلاوته وتدبره والعمل به أمر مهم جداً، فيجب على كل مسلم أن يوثق صلته بكتاب ربه جل وعلا، وأن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وأن يجعله قدوته ودستوره في كل شيء.

وجوب تدبر كلام الله وتطبيقه والخشوع عند تلاوته

وجوب تدبر كلام الله وتطبيقه والخشوع عند تلاوته {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، امتن علينا بأن أنزل علينا أفضل كتبه، وأرسل إلينا أفضل رسله وخاتمهم، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله الذي نزل عليه القرآن في غار حراء أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]، فتلقى وحي الله وبلغه إلى أصحابه، وجاهد في ذلك أعظم جهاد، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى أصحابه الكرام البررة الذين حلموا هذا القرآن فحفظوه، ووعوه، وعملوا به، وبلغوه إلى الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، فرضي الله عنهم جميعاً، وعن التابعين لهم وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة في الله! نحن على مقربة من قدوم ضيف عزيز جداً، ضيف طالما ترقبه المؤمنون الصادقون تبعاً للسلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ فإنهم كانوا قبل قدومه بشهور يتحرونه، ويدعون الله سبحانه وتعالى أن يبلغهم هذا الشهر العظيم شهر القرآن، شهر قيام الليل والتراويح، شهر الصيام، شهر تتلى فيه آيات الله في كل مكان في المساجد والبيوت وفي كل مكان، شهر القرآن والصيام والصبر، ولو لم يكن في هذا الشهر الكريم إلا أن ربنا تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وعدنا بالمغفرة في هذا الشهر، وذلك من خلال ثلاثة أحاديث: أولها: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). ثانيها: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). ثالثها: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه يا رب ممن صامه وقامه على الوجه الذي يرضيك عنا. أيها الإخوة! وماذا نقول عن كلام رب الأرض والسموات؟ وماذا نقول ونحن نتحدث هذه الليلة عن القرآن العظيم؟ إن القرآن العظيم تكفل الله بحفظه؛ فهو محفوظ إلى أن يرفع في آخر الزمان، كما ورد بذلك بعض الآثار، فالقرآن العظيم هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس كلام بشر، سواء كان ملكاً، أو رئيساً، أو غنياً، أو شريفاً، أو مشهوراً، أو أديباً، أو غير ذلك. ومن هنا أيها الإخوة! فإننا لن نستطيع أن نقف معه الوقفة التي تتناسب مع قدره وعظمته، ولكن حسبنا الذكرى ببعض المسائل، والذكرى تنفع المؤمنين. أيها الإخوة في الله! أقول في البداية: لقد وقفت مع عدد من الآيات فرأيت أن من تأملها وجد فيها عجباً، وهي آيات بينات واضحات، ولكنها تحتاج من القلوب المؤمنة إلى وقفات: يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، في أربع آيات في سورة واحدة. وقال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وأقول: إن من أعظم نعم الله أن هذا القرآن يتلوه الجميع، يتلوه العالم والمتعلم والعامي والمرأة والرجل، كل منهم إذا تعلم مبادئ القراءة والكتابة تلاه؛ بل قد يتلوه ولو لم يتعلم مبادئ القراءة والكتابة. وكم من عامي لا يقرأ ولا يكتب يحفظ القرآن كاملاً، أليس هذا دليلاً على هذا التيسير العظيم؟! الآية الثانية: يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، ألم يأن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم للقرآن؟ كلا! والله! لقد آن لقلب كل مؤمن أن يخشع للقرآن ولقراءة القرآن. الآية الثالثة: يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، أي: لو أنزل الله هذا القرآن على جبل صخر أصم لا تهده إلا الآلات الضخمة لرأيت هذا الجبل خاشعاً متصدعاً متشققاً منهداً من خشية الله، فكيف لا تخشع قلوبنا وهي من لحم ودم؟! الآية الرابعة: يقول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، تقشعر قلوب المؤمنين لأن هذا القرآن مثاني يشبه بعضه بعضاً في البلاغة والإعجاز والفضل والعظمة، وإن كانت بعض الآيات أفضل من بعض، لكن كله فضيل؛ لأنه كلام رب العالمين. الآية الخامسة: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58]. فإذا رأيت الناس يتنافسون على جمع الدنيا فأقبل على قراءة القرآن؛ فإنك تجمع من الحسنات والفضل العظيم ما ترتاح له نفسك يوم تقف بين يدي ربك يوم القيامة.

وجوب معرفة عظمة القرآن العظيم

وجوب معرفة عظمة القرآن العظيم إن من المهم جداً ونحن نتلو هذه الآيات وغيرها من كتاب الله تبارك وتعالى أن نعلم ونوقن به يقيناً عملياً؛ فإن اليقين النظري نحن مصدقون به جميعاً، لكن لابد أن نعلم وأن نوقن يقيناً يؤثر على أعمالنا وحركاتنا وأفعالنا أن هذا القرآن العظيم حق لا ريب فيه، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فالقرآن كلام الله ليس كلاماً مخلوقاً ولا كلاماً لغيره كما يدعي بعض أهل البدع، بل هو كلام الله؛ تكلم الله سبحانه وتعالى به إلى جبريل فأوحاه إليه، ثم أوحاه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، ويقول تعالى عن هذا القرآن العظيم: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]، فالقرآن العظيم تصدعت له القلوب لما نزل أول مرة، تصدعت له قلوب عباد الله المؤمنين، فاستجابوا وصدقوا وتغيرت حياتهم كلها، ومن لم يعظه القرآن، ومن لم يخشع بالقرآن، ومن لم يتصدع إيماناً ويقيناً وخشوعاً بالقرآن فبأي شيء يتصدع؟! قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]. ويقول سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]. ويقول سبحانه وتعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة:1 - 3]. ويقول سبحانه وتعالى مميزاً أهل العلم الذين يعرفون قدر هذا القرآن: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48 - 49]، والذين أوتوا العلم هم الذين قرءوا القرآن وفقهوه في جميع أموره؛ ولهذا فإن من المهم جداً أن توقن أيها الأخ المؤمن وأنت تتلو كلام الله سبحانه وتعالى أنه كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:1 - 3]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. ومن هنا أيها الإخوة في الله! فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، كما قالت عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.

ذكر فضائل القرآن وفضائل حملته

ذكر فضائل القرآن وفضائل حملته وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لنا فضل القرآن العظيم، وسأذكر في ذلك بعض الأحاديث: منها: ما رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله تعالى أهلين من الناس -انظروا إلى التعبير- أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم، وهو حديث صحيح. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كلام الله كان له به عشر حسنات، أما إني لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. وقد روى البيهقي في (شعب الإيمان) حديثاً حسنه بعض العلماء ومنهم الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو جمع القرآن في إهاب ما احترق)، أي: لو جمع القرآن في جلد ما أحرقه الله في النار، وهذا فيه إشارة وبشرى وأمل ورجاء لمن يحفظ كلام الله ألا يحرقه الله في نار جهنم. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). وقد روى أبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار)، أي: أنه مغبوط على ما وهبه الله ووفقه من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى. وأختم هذه الأحاديث بحديث رواه الترمذي والحاكم وهو حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله -حله: من الحلية-، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق فيزداد بكل آية حسنة)، ففي هذا فضل عظيم لكلام الله سبحانه وتعالى.

فضل تعليم القرآن الكريم

فضل تعليم القرآن الكريم وقد ورد الفضل العظيم في تعليم القرآن، والأحاديث في هذا كثيرة يجب أن ينتبه لها الآباء ومدرسو حلق القرآن في المساجد وغيرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولهذا سئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى عن الجهاد وإقراء القرآن أيهما أفضل؟ فرجح إقراء القرآن، واحتج بهذا الحديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي الثقة: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا، وأبو عبد الرحمن هذا هو الذي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. وأبو عبد الرحمن السلمي هذا هو غير السلمي الصوفي المتأخر، فهذا تابعي جليل، ولذا يقول: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا. وعلم القرآن منذ زمن عثمان حتى بلغ عهد الحجاج بن يوسف. ولهذا روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: أيكم يغدو كل يوم إلى بطحان العقيق أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين -أي: ناقتين عظيمتي السنام- في غير إثم ولا قطيعة رحم، فقلنا: يا رسول الله! كلنا نحب ذلك. فقال: لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)، سبحان الله! ما أبخلنا على نفوسنا ونحن نهجر هذا القرآن العظيم، ما أبخلنا على نفوسنا ونحن نهجر كتاب الله سبحانه وتعالى شهوراً متطاولة! والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، ولهذا فإن مما يعظم قدر منزلة هذا القرآن عند المؤمن أن يعلم وأن يوقن أنه إنما يتلو كلام الله، وهو بتلاوته يعبد الله سبحانه وتعالى.

أثر قراءة القرآن وترتيله

أثر قراءة القرآن وترتيله ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ما يدل على أثر قراءة القرآن وترتيله، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، رواه مسلم. وعن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما). فيا أيها الإخوة! تذكروا هذا الموقف يوم القيامة، تذكر أيها الأخ حينما تأتي يوم القيامة وقد يبس منك لسانك، وشخصت عيناك، وبلغ منك الخوف مبلغه؛ لأن الجميع يخاف، ولا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل حين تزفر جهنم إلا خاف، فتذكر يا عبد الله! حين تأتي يوم القيامة في تلك العرصات وقد غضب الجبار غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ثم تأتي وأمامك القرآن، فهل يمكن أن تعذب وأمامك القرآن؟ بل وأمامك سورة البقرة وآل عمران تحاجان عنك، فتدبر يا أخي هذا الموقف، واجعل القرآن في قلبك حفظاً وتلاوة وعملاً وتدبراً. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة وهو عند أحمد والترمذي وأبي داود وهو حديث حسن قال: (إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له)، هذه السورة هي: ({تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1])، أي: سورة الملك. وروى ابن حبان والبيهقي وصححه الألباني رحمه الله تعالى من حديث جابر رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق -ماحل: أي مدافع- من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار). ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أهل القرآن؛ حتى إنهم كانوا حينما يستشهدون في سبيل الله يدفنون في مكان واحد يقدم صاحب القرآن. وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يجعل شوراه في أهل القرآن شيوخاً وصغاراً، ولهذا كان معهم ابن عباس، وكان ممن يحضر مجلس شورى عمر بن الخطاب وهو يومئذ حدث صغير رضي الله عنهم جميعاً؛ لأنه كان حبر الأمة وترجمان القرآن.

القرآن شفاء للأمراض

القرآن شفاء للأمراض ومن أعظم آثار القرآن أنه شفاء للأمراض الحسية والمعنوية، ولهذا ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الإنسان أن يجعل الله القرآن العظيم ربيع قلبه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصيبه هم أو حزن أو غم فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وحزني، إلا أذهب الله عنه ما يجد)، رواه أحمد والحاكم، وهو حديث صحيح. ولهذا فإن من أعظم ما يرقى به الإنسان في أمراضه كلها كلام الله سبحانه وتعالى.

الأمور الواجبة على حامل القرآن

الأمور الواجبة على حامل القرآن المسألة الثالثة: ماذا يجب على حامل القرآن العظيم؟ يجب على من تلا كتاب الله سبحانه وتعالى سواء كان ممن يتلو هذا القرآن أو ممن يحفظه أو يحفظ آيات منه يجب عليه أن يراعي عدة أمور: أولها: الإخلاص لله تعالى في تلاوته وحفظه وتعلمه وتعليمه، وذلك بأن يكون مقصده ربه سبحانه وتعالى. الثاني: أن يأخذ نفسه بتلاوة القرآن، وأن يكون ممن عرف بتلاوته ليلاً ونهاراً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون). وهذه كلها آثار على قارئ القرآن، وعلى تالي القرآن، وعلى حافظ القرآن، وعلى من يعمل بالقرآن. الثالث: أن يحذر من أن يقصد بحفظه للقرآن أو تلاوته له شرف المنزلة عند أبناء الدنيا، وإذا دخله شيء من ذلك مما يوسوس به الشيطان فليتق العبد الله، وليراجع قلبه ونفسه، ليتق الله سبحانه وتعالى؛ بحيث يكون بتلاوته للقرآن وحفظه له قاصداً به وجه الله، لا يريد به شرفاً، ولا ليقال: القارئ الفلاني، ولا ليقال: ما أحسن صوته! أو ما أجمل قراءته! فكل هذه الأمور خداعات يُخدع بها الإنسان؛ فإن كانت مدحاً من مؤمن صادق فعليه أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويجعلها عاجل بشراه، لكن بشرط ألا يؤدي به ذلك إلى الغرور، وألا يؤدي به ذلك إلى العجب، وألا يؤدي به ذلك إلى الترفع على عباد الله سبحانه وتعالى؛ بل قراءته للقرآن، وحفظه له، وتلاوته له، ينبغي أن يزيده خضوعاً لله سبحانه وتعالى وزهداً فيما عند الناس ورغبة فيما عند الله تبارك وتعالى. الأمر الرابع: أن يعمل بالقرآن؛ لأن فائدة التلاوة والقراءة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: فضيلة التلاوة، وهو عبادة لله سبحانه وتعالى. القسم الثاني -وهم المهم وهو الذي يؤثر حتى على القسم الأول هو-: العمل بما تقرأ وتتلو، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، أي: استمسك به عملاً، واستمسك به اتباعاً، واستمسك به تحكيماً. ويقول الله سبحانه وتعالى عن أولئك الذين يكتمون بعض آيات الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]، فاحذر يا عبد الله! أن تكون ممن يقرأ القرآن ولكن لا يعمل به؛ بل اعمل بالقرآن، واحرص على العمل به، ولكن هذا جزء من تدبره وجزء من آثار تدبره، كما سيأتي. الأمر الخامس: خطورة هجر القرآن العظيم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]؛ وهجر القرآن على أنواع: النوع الأول: هجر تلاوته والتعبد به، وهذا كثير، وهو ذو أثر خطير على الناس. فلماذا تكثر المشاكل، وتكثر الأمراض النفسية؟! ولماذا يغلبنا الهوى؟! ولماذا نحس بضعف الإيمان؟! إن هذه الأمور من أسبابها الكبار هجر كتاب الله سبحانه وتعالى، أي: هجر تلاوته والتعبد به، ولو تعلق قلب المؤمن بهذا القرآن يتلوه كل يوم لأثر في قلبه، ولأثر على أفعاله، ولأثر في كل تصرف من تصرفاته. النوع الثاني من الهجر -وهو أخطرها-: هجر العمل به وتحكيمه، ومن المؤسف حقاً أننا نجد المسلمين اليوم إلا ما عصم ربي قد هجروا كتاب الله، أي: هجروا الحكم به؛ وكم من بلد ينتسب إلى الإسلام اتخذ كتاب الله وراءه ظهرياً، واستبدل به قوانين وأنظمة البشر في جميع شئون الحياة، أو في غالب شئون الحياة، ويدعوهم الداعون المخلصون ويقولون لهم: هلموا إلى تحكيم كتاب الله، وإلى تطبيق شريعة الله، فإن العزة والنصر من الله، وإن الاستقلال من التبعية لأعدائنا، وإن نصرنا وتغير أحوالنا، ونزول البركات على مجتمعاتنا؛ إنما يكون بتحكيم هذا القرآن العظيم، ويصرخ الدعاة إلى الله ولكن يا للأسف! لا يستمع إليهم من بيده الأمر، إلا ما عصم ربي، بل مما يجعل في النفس حزازة وأي حزازة ألا يشكر هؤلاء الدعاة، وألا يقال لهم: جزاكم الله خيراً. وإنما يقابلون بالحرب والتشريد والسجون، ويقال لهم: أنتم أصوليون إرهابيون وأنتم وأنتم وأنتم! حقاً إن مما يؤسف له أن كثيراً من بلاد المسلمين هجروا كتاب الله وتحكيمه، فجاءت نظمهم ودساتيرهم وأحكامهم في الحدود وفي مسائل الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والسياسية وغيرها لا ترجع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، وإنما تعتمد على أنظمة وأعراف وقوانين البشر! إذاً: أيها الإخوة في الله! الأمة الإسلامية أصيبت بمصيبتين: إحداهما: هجر كتاب الله وتلاوته إلا ما عصم الله، والثانية: هجر الحكم به والعمل به إلا ما عصم الله. الأمر الثالث من أنواع هجره وهو تابع للأمرين السابقين: هجر التأدب به والتخلق بأخلاقه، فالقرآن العظيم كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت حياته عليه الصلاة والسلام حياة المؤمن الصادق في كل قولة أو فعلة أو كلمة أو ذهاب أو مجيء أو إلى آخره. فكان عليه الصلاة والسلام في جميع أموره متخلقاً بخلق القرآن، ومتأدباً بأدب القرآن، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم، فإن مما يؤسف له أن يهجر كثير من المسلمين التخلق بأخلاق القرآن وآدابه. الأمر السابع: وجوب تدبر القرآن العظيم، وتدبر القرآن العظيم جاءت فيه أكثر من آية، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

الأمور المعينة على تدبر القرآن

الأمور المعينة على تدبر القرآن تدبر القرآن مهم جداً، ولهذا فإن مما يعين على تدبر القرآن أمور ثلاثة: الأمر الأول: طهارة القلب من الكبر والهوى والتكذيب والتعلق بغير الله سبحانه وتعالى، فطهارة القلب من هذه الأمور يجعل الإنسان حينما يقرأ القرآن يستفيد منه ويتدبره، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]. الأمر الثاني: طهارة ظاهر البدن، وذلك بأن يقرأ القرآن وهو على طهارة غير محدث، وأن يقرأ القرآن في المكان الطيب وهو متوضئ؛ فإن ذلك أجمع لقراءة القرآن وتفهمه وتدبره. الأمر الثالث: الإنصات، فلابد من الإنصات تعظيماً وهيبة وتدبراً للقرآن العظيم. الأمر الرابع: الخشوع عند تلاوة القرآن، والحقيقة أن مما يؤسف له أن الناس في رمضان يبكون ويخشعون في دعاء الوتر، ولكنهم لا يبكون ولا يخشعون وهم يسمعون تلك الآيات العظيمة تتلى عليهم، فيجب أن نبحث عن السبب -وقد يكون هناك أكثر من سبب- هو: أن منزلة القرآن في نفوسنا ليست عظيمة، ولو عظمنا هذا القرآن حق تعظيمه وتفهمناه وتدبرناه حق التدبر لخشعت له قلوبنا، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فلماذا لا تخشع قلوبنا؟ أما إذا جاء عند الدعاء وسؤال المغفرة والإقرار بالذنب والخوف من الموت ومن القدوم على الله سبحانه وتعالى فإن من الطبيعي أن تخشع النفس، وليس هذا بغريب، لكن الغريب أن تخشع عند الدعاء ولا تخشع عند قراءة القرآن وسماع الآيات الكريمة.

الأمور المعينة على الخشوع في القرآن الكريم

الأمور المعينة على الخشوع في القرآن الكريم مما يعين على الخشوع في القرآن عدة أمور: أولها: تطهير النفس من الذنوب؛ فإنها تثقل النفس وتكدرها فلا تتدبر ولا تخشع. الثاني: الكسب الحلال؛ فإنه يصفي النفس والجسم. الثالث: العلم بما يتلى؛ فإن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، فإذا عرف الإنسان معاني الآيات وأسباب النزول وما جرى فيها وتدبر ذلك فإنه عند تلاوة القرآن يتأثر؛ لأنه يعلم. ثم إن العمل بالقرآن يؤدي إلى الخشوع، فالعمل بالقرآن سبب للخشوع ونتيجة للخشوع، فمن عمل بالقرآن وصار مؤمناً تقياً، يعمل الصالحات، ويجتنب المحارم، وصار مؤمناً يتأدب بأدب القرآن فلابد أن يخشع، ولابد أن يتأثر.

أحوال السلف عند قراءة القرآن

أحوال السلف عند قراءة القرآن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانت لهم أحوال عند قراءة القرآن: فعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ فقالت: (تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، كما نعتهم الله). وقال قتادة رحمه الله تعالى: ما أكلت الكراث منذ قرأت القرآن. أي: تعظيماً للقرآن الكريم، وإن هذه والله للطيفة من قتادة الإمام التابعي رحمه الله تعالى. وقال رجل لـ سليم بن عيسى المقرئ: جئتك لأقرأ عليك القرآن، جئتك لأقرأ عليك التحقيق. فقال سليم: يا ابن أخي! شهدت حمزة -ويقصد به حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة المتوفى سنة 156هـ- وأتاه رجل في مثل هذا فبكى، وقال: يا ابن أخي! التحقيق: صون القرآن، فإن صنته فقد حققته.

نماذج من أحوال بعض حملة القرآن المعاصرين

نماذج من أحوال بعض حملة القرآن المعاصرين لقد كان لحملة القرآن في عصرنا الحديث نماذج، وسأذكر نموذجين لبعض الأحوال: أحدهما يتعلق برجل صالح من عباد الله، نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً، والثاني يتعلق ببهيمة من البهائم. أما القصة الأولى المتعلقة بذلك الرجل الصالح فقد حدثني فيها من أثق به قال: كانوا قديماً يقرءون القرآن في ليالي رمضان، وكانوا في العشر الأواخر منه لا يكادون ينامون، بل كانوا يحييون الليل، قال: وكان من عادتهم أنهم في ليالي العشر الأواخر من رمضان يقومون الليل، فإذا جاءت صلاة الفجر لا يطيل الإمام القراءة، وإنما يقرأ عليهم سورة وسطى من القرآن؛ لأنهم متعبون، ويريدون أن يرجعوا ليستريحوا قليلاً، وفي إحدى صلوات الفجر في العشر الأواخر من رمضان قام الإمام ليصلي بالناس فأطال القراءة، بدأ بسورة طويلة واستمر يقرأ ويقرأ ويقرأ، وكأنه في قيام الليل، وركع وأتى بالركعة الثانية وأيضاً أطال القراءة حتى أسفروا جداً وكادت تطلع الشمس، فلما سلم، قال له بعض أحبابه: يا فلان! لقد أطلت علينا اليوم القراءة! فاستيقظ وقال لهم: هل أنا أطلت القراءة؟ قالوا: نعم. قال: سبحان الله! والله! لقد نمت وأنا أقرأ القرآن! أي: أنه نام ونسي أنه في صلاة الفجر، وصار يقرأ القرآن وهو نائم أو بين النائم واليقظان، أرأيتم كيف عمروا قلوبهم بالقرآن؟! فهل رأيتم إنساناً يقرأ القرآن وهو نائم؟! أما القصة الثانية: فلقد كان هناك جماعة كانوا مسافرين، وكان معهم عدد كبير جداً من الإبل، وكانوا يسرون في الليل، قال أحدهم: وكانت عندي ناقة هزيلة، دائماً هي في المؤخرة، ولا ألحق بأصحابي إلا بعدما ينزلون، قال: فأخذ واحد من القراء يقرأ القرآن وهو راكب ناقته في جوف الليل، ورفع صوته بالقراءة، قال: فصرت أنا أسمع القراءة من بعيد؛ لأنني كنت بعيداً منهم، ثم أحسست بأن ناقتي تنشط شيئاً فشيئاً، وتعجبت لنشاطها، قال: وإذا بها تقدم شيئاً فشيئاً، وتعجبت من أمرها إلى أين ذاهبة! وتعجبت من نشاطها وهي هزيلة! قال: وما زالت تقدم شيئاً فشيئاً حتى جاءت إلى الناقة التي فيها القارئ فوضعت رقبتها على رقبة الناقة وصارا يسيران سوياً، وصدق الله القائل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. أيها الإخوة المؤمنون! يجب أن نعرف قدر هذا القرآن العظيم؛ فنحن في زمن المهلة يجب علينا أن نستغلها بقراءة القرآن والعمل بالقرآن.

مسائل هامة لقارئ القرآن

مسائل هامة لقارئ القرآن وأختم هذه الكلمة بذكر بعض الملحوظات، خاصة ونحن بعد أيام قليلة نستقبل شهر رمضان، فأقول: إن مما يلاحظ عدة أمور:

قراءة القرآن الكريم قراءة سليمة

قراءة القرآن الكريم قراءة سليمة أولها: ضعف كثير من الناس في تلاوتهم للقرآن العظيم، وإنك لتعجب أن يجلس بجانبك إنسان -وهذا على مختلف الأعمار- يقرأ القرآن فيلحن لحناً عجيباً! حتى تضيق، فإن صححت له أخطاءه شغلك ولم يعدل؛ لأنه مستمر في أخطائه، وإن تركته أتعبك نفسياً وأنت تسمع لهذا اللحن العجيب، مع أننا في بلاد -والحمد لله- وفقها الله سبحانه وتعالى بوجود كثير من القراء والحفظة والمدارس، فالمساجد -والحمد لله- في كل قرية ومدينة، سواء كانت مما يشرف عليها الجمعيات الخيرية أو غيرها، وأغلبها يدرس فيها كلام الله سبحانه وتعالى، ولكن للأسف أنه يصلي في المسجد صفان أو ثلاثة، ثم بعد ذلك تجد هذين الصفين يكاد يكون نصفهم عامة، أو قراءتهم للقرآن ضعيفة، ثم لا تجد المقرئ في المسجد يجلس عنده أحد، وما رأيت واحداً من هؤلاء يجلس ويقول: أريد أن أقرأ عليك القرآن، حتى ولو تلاوة لا حفظاً إذا كان لا يستطيع، حتى تصبح ممن يتلوه تلاوة صحيحة؛ فيفقه معناه ويتأثر به. فيا أيها الإخوة الآباء! ويا أيتها الأمهات! ويا أيها الإخوة الشباب والكهول والشيوخ! عليكم ألا تحتقروا هذه المسألة العظيمة، بل عليك أن تجلس لقارئ القرآن فتقرأ ليعدل أخطاءك، فاجلس واقرأ القرآن، فلقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يقرءون القرآن ويتدبرونه على مقرئين؛ حتى تكون قراءتهم له سليمة، ولهذا تجد بعض الناس يقرأ القرآن -مع أنه عامي- قراءة ممتازة، فتسأله: كيف كانت قراءتك صحيحة وسليمة وأنت لا تقرأ ولا تكتب إلا القرآن تستطيع قراءته؟ فيقول: الحمد لله لقد قرأناه على الشيخ فلان أو الشيخ فلان.

تدبر الآيات عند التلاوة

تدبر الآيات عند التلاوة الأمر الثاني: مما يلاحظ أن كثيراً من الناس يحرص في رمضان على كثرة الختمات، وينسى التدبر بالآيات، حتى إنه أحياناً يقرأ الآيات تلو الآيات وقلبه غافل. فيا أيها الإخوة! أحضروا قلوبكم وأنتم تقرءون القرآن، واتلوه وأنتم حاضرو القلوب؛ فإن ذلك مما يزيد في إيمانكم ومما يزيد في تفهمكم ومما يزيد أجركم.

استمرار تلاوة القرآن طيلة شهر رمضان

استمرار تلاوة القرآن طيلة شهر رمضان الأمر الثالث: أيضاً مما يلاحظ أن الناس ينشطون في الأيام الأولى في رمضان لقراءة القرآن، ثم يفترون ويضعفون، فحين تأتي في اليوم الأول والثاني تجد المسجد ضاجاً بقراء القرآن، وتجد الناس يجلسون ويقرءون، ثم لا يزالون يتناقصون، حتى لا يبقى في النهاية إلا عدد قليل، وهذا مؤشر محزن؛ إذ كيف تمل القراءة؟! وكيف تمل قراءة القرآن يا عبد الله؟! فهي أيام يسيرة ستمضي، ورمضان إن أدركت أوله قد لا تدرك آخره، وإن أدركت هذا الشهر من رمضان فقد لا تدرك رمضان القادم. فيا أخي! احرص كل الحرص على استغلال وقتك في قراءة القرآن وتلاوته.

قراءة القرآن في ليالي رمضان

قراءة القرآن في ليالي رمضان الأمر الرابع: أن كثيراً من الناس يقرأ القرآن في نهار رمضان ولا يقرأه في الليل في رمضان؛ لأنه صائم متعب يقرأ القرآن، فإذا جاء الليل أمضى ليله في الحديث والسمر والسهر، والله تعالى يقول: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] فاحرص يا عبد الله! أن يكون لك في الليل قراءة، خاصة في آخر الليل وفي الأسحار، ولابد أن تقرأ القرآن وأن تحفظه وأن تتلوه وأنت نشيط، ولا تجعل نشاطك للكلام الذي لا ينفع وفي وقت صومك وتعبك لقراءة القرآن.

تقسيم الوقت في حفظ القرآن ومراجعته

تقسيم الوقت في حفظ القرآن ومراجعته الأمر الخامس: بعض الإخوة الشباب يسألون: كيف أقضي وقتي في رمضان؟ هل أقضيه في حفظ القرآن ومراجعته أم في تلاوة القرآن؟ وأيهما أقدم؟ فأقول: إن هذا سؤال مهم جداً، ولا شك أن كثرة قراءة القرآن مع التدبر مطلوبة؛ لأنها تزيد في رفع الدرجة، لكن أيضاً تفهم القرآن وحفظه وتدبر معانيه مطلوب أيضاً؛ لأنه يزيدك مهارة في القرآن، ومن هنا فإنني أقول: بالنسبة للإنسان الحريص على الأمرين جميعاً الأولى له أن يقسم وقته قسمين: القسم الأول: حال النشاط مثل آخر الليل أو بعد الفجر، فهذه الحالة يخصصها لحفظ القرآن ومذاكرته. القسم الثاني: الحال التي يكون فيها عنده بعض التعب، وفي هذه الحالة يجعلها لتلاوة القرآن مثل آخر النهار أو بعد الظهر أو نحو ذلك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وغمومنا، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتلاوته وحفظه والعمل به، كما أسأله تبارك وتعالى أن يوفق الأمة الإسلامية لأن تعمل بكتاب ربها وأن تحكمه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية حفظ القرآن الكريم في بداية طلب العلم

أهمية حفظ القرآن الكريم في بداية طلب العلم Q ما رأيكم في بعض الشباب الذين اتجهوا إلى السنة المطهرة، وبدءوا يحفظون بعض الأحاديث ولا يحفظون القرآن، أو لا يحفظون إلا قليلاً من القرآن؟ A منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يبدءون بحفظ القرآن العظيم، والإنسان الذي وهبه الله قدرة على الحفظ تظهر هذه الموهبة في الغالب في سن مبكرة حينما يبدأ في طلب العلم، سواء يبدؤه هو أو يوجهه أهله إلى ذلك، فأول ما يبدأ به حفظ كتاب الله، لهذا فإني أقول: مدارسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة، لكن ينبغي للمؤمن أن يحرص على حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا وهبه الله قدرة على الحفظ فليتوجه أول ما يتوجه إلى حفظ كتاب الله، والله سبحانه وتعالى يسر هذا القرآن، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].

تقييم كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب رحمه الله تعالى

تقييم كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب رحمه الله تعالى Q هل تنصح بقراءتي كتاب (في ظلال القرآن) لـ سيد قطب؟ A كتاب (في ظلال القرآن) لـ سيد قطب كتاب جيد، وهو من الكتب التي تقرب الإنسان إلى العيش في ظلال القرآن، ومن هنا فإنني أنصح بقراءته، مع ملاحظة ما عليه من ملاحظات؛ فإنه رحمه الله قد وقع في بعض الأخطاء خاصة المتعلقة بصفات الله سبحانه وتعالى، فقد أول صفة الاستواء وصفة اليد وبعض الصفات، كما أن له تعبيرات لا نوافقه عليها مثل: تسميتها بالموسيقى ونحو ذلك، ولهذا فإننا نقول: يجب أن يكون موقف المسلم من هذا الكتاب لا إفراط ولا تفريط، فبعض الناس يقرأ هذا الكتاب ويظن أنه لا خطأ فيه أبداً، والبعض الآخر يرى أن فيه بعض الأخطاء وأنه لا ينبغي قراءته، وأقول: ينبغي أن يكون الإنسان -والحالة هذه- ناظراً في مثل هذا الكتاب هل نفعه أعم أم لا؟ فإذا كان نفعه أعم والأخطاء ممكن أن تتدارك فينبغي تدارك الأخطاء والاستفادة من هذا الكتاب، ولو أن كل كتاب عليه ملاحظات تركناه لتركنا كتباً لأهل العلم عظيمة وكثيرة لا يستغني عنها أي طالب علم. وأقول: كنا نتمنى أن يطبع هذا الكتاب طباعة جيدة؛ وتذكر عليه تعليقات توضح الأخطاء التي فيه؛ حتى يكون القارئ لمثل هذا الكتاب يستفيد منه بدون أن يترتب عليه أثر سيئ.

كيفية استغلال الوقت في رمضان

كيفية استغلال الوقت في رمضان Q أنا شاب أطلب العلم، ومتردد ماذا أصنع في رمضان؟ هل أراجع حفظي أو أحفظ شيئاً جديداً أو أراجع في كتب أهل العلم أو أجعل كامل وقتي أو جله للتلاوة فقط؟ A ذكر العلماء أن هذه المسائل مما تختلف فيه الأفضلية؛ فأحياناً يكون هناك وقت الأفضل فيه الجهاد في سبيل الله، ووقت آخر الأفضل فيه قراءة القرآن، ووقت آخر الأفضل فيه -بالنسبة لبعض الناس- طلب العلم، ومن هنا فإنني أقول: بالنسبة لرمضان ولأنه وقت محدود أنصحك بأن تركز فيه على قراءة القرآن وحفظه ومذاكرة ما سبق من حفظه والزيادة في تلاوته، وتجمع إلى ذلك شيئاً من طلب العلم، بمعنى: ألا تغفل عن طلب العلم؛ لأنني أظن -والله أعلم- أن الإنسان ربما يمل فيما لو استمر -في رمضان أو غيره- على وتيرة واحدة، فإذا جعل غالب وقته لحفظ القرآن وتلاوته وجعل أيضاً له بعض الوقت لمدارسة بعض أنواع العلم فهذا لا بأس به.

حكم تحري الصلاة خلف إمام معين لأجل صوته، والتنقل في المساجد لذلك

حكم تحري الصلاة خلف إمام معين لأجل صوته، والتنقل في المساجد لذلك Q ما رأيك في اختيار إمام مسجد للصلاة خلفه من أجل صوته أو التردد على مساجد متعددة؟ A أما أن الإنسان يختار إماماً من أجل صوته فنقول: هذا حق له، فله ذلك؛ لأن الإنسان إذا حضر عند إمام حسن الصوت يخشع في القراءة ويتأثر، لكن أن يتردد على عدد من المساجد فهذا الذي لا ينبغي، بل على الإنسان أن يلتزم مسجداً ويستمر فيه؛ ليتابع القراءة، ولتهدأ نفسه، أما إذا تنقل فإن المشاغل الكثيرة وتغير المسجد وتغير الصوت وتغير الآيات وربما تكررت عليه في مسجدين في ليلتين مختلفتين، فهذا لا ينبغي، هذا رأيي، والله أعلم.

حكم تقليد الأصوات في تلاوة القرآن الكريم

حكم تقليد الأصوات في تلاوة القرآن الكريم Q ما رأيك في تقليد بعض الأصوات، ليحسن المسلم تلاوته وتجويده؟ A ما أظن أنه يشترط أن يحسن الإنسان تلاوته بتقليد الصوت، بل على القارئ أن يقرأ بصوته، وإنني سمعت كثيرين يقولون: إذا صلينا خلف إمام يقلد أحداً لا نخشع خلفه؛ لأننا أحياناً نكون قد عرفنا كيف ستكون قراءته لهذه الآية التي سيقرؤها، بينما إذا كان القارئ حسن الصوت وقرأها بدون أن يتأثر أو يتصنع التأثر فهو أفضل له.

وجوب صرف الوقت فيما ينفع

وجوب صرف الوقت فيما ينفع Q الإنسان أحياناً يكون عنده وقت فراغ فتتشاغل نفسه عن قراءة القرآن، فيصرف الوقت فيما لا ينفع، فما سبب ذلك؟ A لا يوجد شك أن سبب ذلك هو: أن الإنسان لم يعرف قيمة الوقت ولا قيمة هذا الشهر الكريم، فلو عرف قيمته وقيمة الزمن وراقب نفسه ما ضيع وقته فيما لا ينفع، بل يصرفه فيما ينفع، وقد يغيره من نفع إلى نفع، لكن أن يغيره من نفع إلى ما لا ينفع فهذا مما لا ينبغي للمسلم.

كيفية تعظيم القرآن الكريم في نفوس الأطفال

كيفية تعظيم القرآن الكريم في نفوس الأطفال Q كيف نعظم القرآن العظيم في نفوس الأطفال خاصة؟ A يكون تعظيم القرآن في نفوس الأطفال بأن يحترم المصحف في البيت، وأن تغرس في نفوسهم أن هذا القرآن يرفع، فتقول للطفل: ارفعه، ولا تجعله يقع على ما لا ينبغي، ولا تمزقه إلى آخره فتعظمه في نفسه بإعظامك له. وأيضاً: أن تقرئه القرآن دائماً، وأن تعطيه الجوائز على قراءته للقرآن؛ بحيث يعظم هذا القرآن في نفسه، وأن تتدرج معه شيئاً فشيئاً بلا إفراط ولا تفريط؛ وبلا إهمال للأطفال؛ بحيث لا يقرءون القرآن إلا قليلاً، وأيضاً في الطرف المقابل لا ينبغي للإنسان أن يثقل على الطفل بحيث يمل ويضجر من قراءته للقرآن الحكيم.

الفترة التي ينبغي أن يختم فيها القرآن الكريم

الفترة التي ينبغي أن يختم فيها القرآن الكريم Q إذا لم يختم الإنسان القرآن في شهر فهل يعتبر هاجراً للقرآن الكريم؟ A ورد أن: (من قرأ عشر آيات كان من الذاكرين)، ولعله يستأنس في مثل هذا بأن الإنسان يكون له في كل يوم قراءة، لكن كان السلف رحمهم الله تعالى يقسمون القرآن ويحزبونه، وكان كثيراً منهم لا يزيد عن شهرين؛ يقرأ في كل يوم حزباً -نصف جزء- لا ينقص عن ذلك، أما بالنسبة لأكثر ما يقرأ القرآن فإن الإنسان إذا قرأ القرآن كله في أقل من ثلاث ليال ربما لا يتدبر ولا يفهم، فيقرأ القرآن بين ثلاثة أيام وستين يوماً، والأولى للإنسان أن يكون له في كل يوم جزء كامل من القرآن يحافظ عليه.

كيفية الجمع بين قراءة القرآن والمشاغل الدنيوية

كيفية الجمع بين قراءة القرآن والمشاغل الدنيوية Q كيف يوفق الإنسان بين مشاغله الدنيوية والدعوية وقراءة القرآن، خصوصاً أنه ليس بحافظ للقرآن؟ A قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالسلف الصالح رحمهم الله تعالى ما كانوا يكسلون في رمضان، بل كانوا يشتغلون، وكانوا يطلبون الرزق ويبيعون ويشترون، لكن أيضاً كان لهم في هذا الشهر حظاً من القرآن يقرءونه، فأنت يا أخي إذا كنت ممن يدرس ويقضي وقتاً كبيراً في الدراسة فعليك ألا تغفل عن القرآن، وإذا كنت تاجراً فعليك ألا تغفل عن القرآن، ولا يحز في نفسك؛ فأنت -إن شاء الله- مأجور بدراستك أو بتجارتك أو بغير ذلك، المهم أن تحرص في هذا الشهر الكريم على أن تكون من أهل القرآن، وأن تحرص على تلاوته وتدبره، وألا تكون كما يفعل بعض الناس هداهم الله الذين يكونون في رمضان أقل قراءة للقرآن من غير رمضان؛ لأن أحدهم ينشغل بتجارته أو بغير ذلك، ونحن نقول: لا بأس بالتجارة على ألا تشغلك عن قراءة القرآن، والحمد لله من الممكن أن يجمع الإنسان بينهما.

المفاضلة بين تلاوة القرآن وحفظه

المفاضلة بين تلاوة القرآن وحفظه Q أيهما أفضل: حفظ القرآن أو تلاوته؟ مع العلم أن نصيب التلاوة أكثر بكثير من الحفظ؟ A أما كلمة أفضل فهذه علمها عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه ورد في الفضل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً فله به عشر حسنات)، هذا ميزان، وورد ميزان آخر: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له به أجران). إذاً: عندنا بالنسبة للفضل أمران: كثرة القراءة، ونوع التدبر والعلم بها وتدبر أسماء الله وصفاته، والخوف من وعيده، فلا يمكن أن نقول: هذا أفضل أو هذا أفضل، لكن على الإنسان في رمضان خاصة أن يحرص على كثرة التلاوة مع التدبر.

المفاضلة بين تلاوة القرآن بتدبر وبين تلاوته على عجل

المفاضلة بين تلاوة القرآن بتدبر وبين تلاوته على عجل Q أيهما أفضل: التلاوة على عجل؛ ليقطع الإنسان جزءاً كبيراً من القرآن، أو تلاوته بتدبر ولو قلَّت؟ A بل يتدبر القرآن ولو قلت قراءته؛ لأنه إذا عجل بالقراءة ربما سها وغفل، فعلى الإنسان أن يقرأ القرآن، وأن يكون وسطاً في تلاوته للقرآن، فلا يمدده تمديداً طويلاً جداً، وإنما يقرأه بتدبر وتمعن؛ فإنه يحصل له الأمران: التدبر، وكثرة القراءة، وهذا -والحمد لله- حاصل.

فضل ختم القرآن في كل شهر في رمضان وغيره

فضل ختم القرآن في كل شهر في رمضان وغيره Q هل من السنة ختم القرآن الكريم في رمضان خاصة، فإني أرى أكثر الناس يحاولون ختمه؟ وما نصيحتكم للذين لا يقرءون القرآن إلا في رمضان؟ A أما بالنسبة للذين لا يقرءون القرآن إلا في رمضان فنصيحتنا لهم: أن يتقوا الله، وأن يقرءوا القرآن، وأن يعودوا إلى القرآن العظيم؛ ففيه راحة للصدور وشرح لها. أما بالنسبة للختمة فلا شك أن ختم القرآن ورد فيه فضل، بل ورد في بعض الآثار: (الحال المرتحل) والحال المرتحل هو المؤمن الذي يقرأ القرآن ويختمه ويبدأ من جديد، هذا هو الحال المرتحل، أي: أنه يقرن آخر القرآن بأوله، وأيضاً ورد أن الدعاء عند ختم القرآن فيه دعوة مستجابة، فالإنسان إذا ختم القرآن ودعا ربه سبحانه وتعالى فلعل الله سبحانه وتعالى أن يفتح له ويستجيب دعاءه.

كيفية قضاء الوقت في رمضان

كيفية قضاء الوقت في رمضان Q أرشدوني جزاكم الله خيراً إلى برنامج إيماني أقضي به وقتي في رمضان، علماً بأني عاقد العزم على تعديل حالي إلى الأفضل، وسأجعل بدايتي من رمضان إن شاء الله، فبماذا تنصحوني؟ A أولاً: أنصحك بأن تبدأ من الآن وليس من رمضان، فابدأ من الآن يا أخي! وإذا رجعت الآن فاقرأ قليلاً من القرآن، وعود نفسك على القرآن. أما برنامجك في رمضان فيا أخي! حاول أن يكون لك إخوة زملاء، أو جيران مسجد من الأخيار، حتى تكون معهم، وحبذا لو رتبت معهم برنامجاً في وقت تأنس بهم، ويأنسون بك، وتجعلون لكم وقتاً لقراءة القرآن، ووقتاً لشيء من مدارسة تفسير القرآن، ووقتاً آخر أيضاً لمدارسة شيء من العلم إذا أمكن ذلك، فضع لك برنامجاً في قضاء وقتك، واجعل الجزء الأكبر في تلاوة القرآن، وإذا حدث عند الإنسان نوع ملل فيجعل جزءاً من وقته في مدارسة شيء من العلم ومدارسة السنة والأحكام الفقهية.

أهمية مجاهدة وساوس الشيطان

أهمية مجاهدة وساوس الشيطان Q إني -ولله الحمد- جيد الصوت في قراءة القرآن، وأجيد أحكام التجويد، ولكني إذا قدمت للإمامة أخاف المدح والرياء، ولكنني أدفع هذه الوساوس وأحاول أن أجعل من حسن صوتي دعوة، فهل تضرني هذه الوساوس، أو أمتنع عن الإمامة؟ A بل عليك أن تراغم شيطانك الذي يأتي بهذه الوساوس، وتستمر في قراءة القرآن، واطلب ربك، وادع الله سبحانه وتعالى أن يحميك من هذه الوساوس، واستمر في القراءة، وراغم الشيطان، وراقب قلبك، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلك من عباد الله المتقين، وأن يجعل حفظك للقرآن وتلاوتك له في ميزان حسناتك يوم أن تلقى ربك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في شهر رمضان الكريم من المقبولين، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان. اللهم اجعلنا يا إلهنا! ممن صامه إيماناً واحتساباً، اللهم اجعلنا ممن قام لياليه إيماناً واحتساباً، اللهم اجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً. اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا. اللهم اجعله سائقنا ووالدينا إلى جناتك جنات النعيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

العقيدة وأثرها في تربية الأسرة

العقيدة وأثرها في تربية الأسرة أمر العقيدة أمر عظيم جدّ عظيم، فعليها قامت السماوات والأرض، وهي أصل الدين وأسّه، وبها أرسل الأنبياء والرسل عليهم السلام إلى أقوامهم، وهي سر نجاة العبد في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فإذا تحلى بها المرء صلح شأنه، وسعدت حياته، وإذا تحلت بها الأسرة صلحت شئونها، واجتمعت أمورها، ونجت من التخبطات والبدع والخرافات، وإذا تحلى بها المجتمع علا شأنه، وارتفع ذكره.

أهمية العقيدة في حياة الإنسان والأسرة

أهمية العقيدة في حياة الإنسان والأسرة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة! اعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الإخوة! حديثنا في هذه الليلة عن العقيدة وأثرها في حياة الأسرة المسلمة، ونحن بادئ ذي بدء نقول للإخوة الذين أشرفوا على مثل هذه الدورة المباركة: جزاكم الله خيراً، وأجزل لكم المثوبة، ورزقنا وإياكم الإخلاص. أيها الإخوة! لا تظنوا أن أمر العقيدة -في حياة الإنسان عموماً، وفي حياة الأسرة خصوصاً- هين ويسير، إن العقيدة قامت عليها السماوات والأرض، وربنا تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] تبارك وتعالى؛ ولهذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يعنون بالعقيدة أولاً فيما يتعلق بالأمة كلها، ويعنون بالعقيدة فيما يتعلق بالأسرة في داخل البيت ثانياً وخصوصاً، ولقد كان الواحد من هؤلاء يعيش حياته كلها في ظل هذه العقيدة، داعياً إلى الله، وموجهاً ومربياً لأسرته، وبانياً لها على أسس عقدية ثابتة، وكان منهج سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى هو المنهج الحق الذي اتبعوا فيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على ضوء فهم ومنهاج سلف الأمة رحمهم الله، الذين لم يغيروا ولم يبدلوا. أيها الإخوة! إن كل واحد منا مسئول أمام ربه تبارك وتعالى عن هذا الدين، ومسئول عن هذه الأسرة، وقد قال سفيان بن حسين الواسطي: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: والسند والهند والترك؟ -أي: أغزوت هذه؟ - قلت: لا، قال: فسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم! قال سفيان: فلم أعد بعدها. إذاً كانوا أمة لها اهتمامات كبرى لا تجعل شغلها فيما بينها حسداً وعداءً، وإنما تتحول الحياة كلها في هذه الأمة إلى بناء للأسرة، وبناء للأمة. أيها الإخوة في الله! حديثي حول هذا الموضوع سيدور حول عدد من النقاط أبدؤها واحدة تلو الأخرى فأقول: أولاً: العقيدة لها أهمية كبرى في حياة الإنسان، ويكفي في بيان أهميتها أنه لا نجاة للعبد يوم القيامة حين يقف الخلق جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى إلا لمن مات على عقيدة صحيحة قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] والعقيدة ليست تصديقاً قلبياً خاصاً داخل القلب لا يخرج عنه، بل العقيدة تشمل الحياة كلها، الأسرة وغير الأسرة، تشمل الأسرة والمجتمع، وتشمل الدولة، وكل شأن من شئون الحياة؛ لأن أي شريعة ونظام في هذه الحياة لابد أن ينبثق من عقيدة كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.

أصل الأسرة وبمن يناط التكليف

أصل الأسرة وبمن يناط التكليف ثانياً: أصل الأسرة وبمن يناط التكليف. هل الأسرة عادة أو نظام قبلي أو غير ذلك؟ إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]، هذا هو أصل الأسرة في منهج الله تبارك وتعالى، فالناس جميعاً خلقهم الله بمقتضى مشيئته تبارك وتعالى، فلم يأتوا بإرادة أنفسهم، وإنما بإرادة الواحد القهار تبارك وتعالى، فهو المالك لكل شيء، وهو الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، ثم إن الناس كلهم يرجعون إلى نفس واحدة هي آدم، فلماذا الفروق بين أبناء النفس الواحدة؟! ولماذا قطع الرحم؟! لماذا هذه الفروق التي هي فروق جاهلية؟ ثم بعد ذلك أيضاً المرأة تعود إلى هذا الأصل: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، والذين ضلوا من أمم الأرض فيما يتعلق بالمرأة، منهم من جعل المرأة حقيرة ونجسة، وجعلها أصل الشر والبلاء، ومنهم من أطلق لها العنان لتستقل تمام الاستقلال عن أسرتها وعن الحياة كلها، ونسي هؤلاء جميعاً أن المرأة إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وأن بعضهما يكمل بعضاً، فهما زوجان متكاملان. إذاً النتيجة: أن قاعدة الحياة البشرية في منهج الله سبحانه وتعالى هي الأسرة، وليست الفوضى كما يريد أعداء الإسلام، وكما هو منهج الذين انحرفوا عن المنهج الصحيح في مشارق الأرض ومغاربها. ومن هنا فإن هذه الأسرة تبدأ بالزواج، وتثنى بالأولاد؛ ولهذا حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على النكاح، ونهى من أراد أن يتبتل وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني)، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على تكثير الأولاد؛ لأن الأولاد الصالحين إذا وجدوا كانوا خيراً: (أو ولد صالح يدعو له) يدعو لوالديه، ولذلك ثبت أن الولد إذا مات وهو صغير يكون شفيعاً لوالديه يوم القيامة، وستأتي الإشارة إلى ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإكثار النسل؛ لأجل أن يباهي بنا الأمم يوم القيامة. وعلى هذا: فالدعوة إلى تحديد النسل أو ما ترتب على مؤتمر الإسكان الذي سبق قبل أيام معدودات، كلها دعوات جاهلية تخالف أصل الإسلام ومنطلقه في منهجه في قيام الأسرة ونشأتها وتكاملها.

بمن يناط التكليف

بمن يناط التكليف إن الطفل -وكل منا نشأ طفلاً- له ثلاثة أطوار: طور يكون فيه خلواً من المسئولية، تجري عليه أحكام الله القدرية القهرية، لا شأن له ولا لأمه ولا لأبيه، وهذا يكون وهو في بطن أمه حين ينتقل من نطفة إلى علقة إلى مضغة، ثم يكون خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم يأتي الطور الثاني: وهو طور خروجه من بطن أمه إلى دار التكليف، فهنا تتعلق به الأحكام الشرعية، لكن قبل البلوغ لعدم قدرته على تحقيقها يخاطب بها الأبوان، فهما المسئولان عن هذا الطفل؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: فطرة الإسلام (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)؛ إذاً: الأطفال هم مسئولية الأبوين؛ فليتقوا الله سبحانه وتعالى في أطفالهم. ثم يأتي الطور الثالث: وهو طور البلوغ، أي: بلوغ سن الرشد، وحصول التكليف، فحينئذٍ تتعلق التكاليف بهذا الإنسان مباشرة دون واسطة والديه. إن مسئولية الأسرة -أيها الإخوة- إنما تقع أساساً على عاتق الأب، فهو أبو الأسرة وربها، وهو المسئول عنها، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن راعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته) إلى آخر الحديث. إذاً: الأب هو الذي يتحمل المسئولية؛ وبهذا يتحقق نظام يمكن ضبطه؛ لأن التربية -ولو كانت تربية عقدية مؤصلة- لا تأتي إلا من خلال منهج مضبوط أسري، وإلا فسوف تتحول الأمور إلى فوضى، كما نشاهد في بلاد الغرب، وفي غير بلاد الغرب، لكن حينما تضبط الأسرة يتحول تكوينها ونظامها التربوي إلى وضع قابل للتربية والتوجيه حسب المنهج الذي يراد لها، فإذا كانت على هذه الحالة، وجاءت العقيدة الصافية الصريحة على منهاج السلف الصالح، وربيت عليها الأسرة، فإنه والحالة هذه تنشأ أسرة متكاملة عظيمة التأثير في حياة المجتمع وحياة الناس.

حماية الأسرة من منهج الإسلام

حماية الأسرة من منهج الإسلام ثالثاً: إن من منهج الإسلام حماية الأسرة وتحصينها في أول الأمر، قبل أن توجد الأسرة، وقبل أن تنشأ، وهذا أساس عقدي. إن الله سبحانه وتعالى أمر وشرع أنه لا يجوز لكافر أن يتزوج بمسلمة، ولا يجوز لمسلمة أن تتزوج بكافر، هذا الأصل يعطينا أن الإسلام يبث الجانب التربوي المؤصل في حياة الأسرة من البداية، فإذا ما جاء مشرك ملحد نصراني يهودي زنديق يتظاهر بالزندقة والإلحاد -ولو كان من بني جلدتنا- لا يصلي فلا يجوز أن تنشأ معه الأسرة، يجب أن تعلم الأسرة المسلمة من بدايتها أنه لا علاقة لهذا الشخص بها، ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يوجه الأمة إلى تكوين الأسرة من بدايتها- يحض على جانب الأصل وهو الدين والعقيدة، فمن جانب الرجل يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لدينها، ولجمالها، ولشرفها، ولمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) إذاً: ذات الدين هي ذات الإيمان، وهي صاحبة العقيدة الصافية الواضحة، فهذه بداية صحيحة لتكوين الأسرة، فإذا اختار الشاب ذات الدين بدأ التكوين العقدي السليم للأسرة. وفي المقابل يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأولياء المرأة: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وبهذا تنشأ الأسرة من بدايتها نشأة صحيحة، ويا للأسف كم من شاب طيب تزوج بفتاة، ولم يراعِ فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فلما تزوج بها جرفته معها في التيار فانحرف! وبالمقابل ويا للأسف الشديد كم من فتاة خيرة طيبة، لم يتق الله ولي أمرها فزوجها من شاب لا يعلم عنه الدين والخلق، وإذا بها بعد شهور قد انجرفت معه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! إذاً: هذا التكوين الأسري من البداية للأسرة.

عقيدة التوحيد أساس الأسرة وقوامها

عقيدة التوحيد أساس الأسرة وقوامها رابعاً: عقيدة التوحيد هي أساس الأسرة وقوامها. ونحن نقول: نعم، عقيدة التوحيد هي الأساس في حياة الأمة كلها، وفي حياة كل إنسان، وأيضاً هي أساس حياة الأسرة، عقيدة التوحيد الصافية القائمة على مفهوم وأصل لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه العقيدة إذا استقر مدلولها علمياً وعملياً في حياة الأسرة استقراراً عميقاً تحولت الأسرة إلى وضع وشأن آخر؛ لأن مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله: هو الانخلاع من عبودية غير الله تبارك وتعالى؛ من الشركيات والوثنيات، والعادات الجاهلية، وطاعة أهل الإلحاد والفسق وأهل الفجور، والانخلاع من ذلك إلى طاعة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعته طاعة لله تبارك وتعالى. إذاً: أساس الأسرة الذي تبنى عليه هو عقيدة التوحيد، لكننا -ويا للأسف- لا نربي أسرنا على عقيدة التوحيد، ولهذا تجد كثيراً من الأسر لا تفقه عقيدة التوحيد، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى -وإنما ضربت به المثل لأنه من القرون المتأخرة- لما أعاد وجدد لهذه البلاد عقيدتها وما اندرس من دينها، بدأ بمنهج تربوي ينطلق من الأسرة في أبسط مسائل العقيدة، الأصول الثلاثة، تعريف الإنسان بالله وبالرسول، كتاب التوحيد، وكانوا في الزمن السابق فعلاً يرددونه، ولقد عهدت من آبائنا وأعمامنا العوام -وأقول: العوام- من يحفظ منهم هذه الأصول وهذه العقيدة حفظاً كاملاً، ويناقشك عليها مناقشة الفاهم الواعي، فلماذا -أيها الإخوة- تخلينا عن تربية أسرنا على عقيدة التوحيد؟! لماذا لا نربي الأسرة على فهم معنى لا إله إلا الله وعلى فهم معنى شهادة أن محمداً رسول الله؟! لماذا لا نربي الأسرة على العقيدة القائمة على الإيمان بالله والكفر بالطاغوت؟! إن هذا هو الأساس، لكن لما تساهلنا في هذه التربية ضعف تأثير العقيدة في نفوسنا ونفوس أسرنا وأزواجنا وأولادنا. أيها الإخوة! إن تعليم الأسرة لهذه العقيدة يربي فيها جوانب عظيمة يرتاح فيها الأب مربي الأسرة، إذا ما ربى الأب أسرته على عقيدة التوحيد الصافية، وعلمها حتى استقرت في خلدها وتربت عليها تربية صحيحة، فإنه والحالة هذه يستريح في جوانب كثيرة جداً في الحياة، فمثلاً: هذه الأسرة إذا تربت على العقيدة أفردت ربها تبارك وتعالى بالخوف والتوكل والمحبة، فصارت أسرة لا تخاف إلا الله، ولا تتوكل في جميع شئونها إلا على الله سبحانه وتعالى، لكن انظر إلى أسرنا كم من مشكلة نشأت في الأسرة؛ لأن الأم أو الزوجة خافت من الفقر، أو خافت من غير الله سبحانه وتعالى، نعم إذا تربت الأسرة تعلقت بالله، فاستقامت الحياة، فتنام الأسرة وهي مرتاحة لا تخاف من عين إلا بإذن الله، لا تخاف من جن إلا بإذن الله، لا تخاف من مخلوق إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، فإذا تعلقت الأسرة بهذا أصبحت فعلاً أسرة مطمئنة مستكينة منشرحة الصدر. ثم بعد ذلك أيضاً يبعدها عن التعلق بكثير من الشركيات التي تقلق النفس كثيراً، فبعض الأسر لما ضعف فهمها لعقيدة التوحيد ومقتضياته، ووجوب البعد من الشرك وأنواعه، بدأت تقع في أنواع من الشركيات، وفي أنواع من الرقى والتمائم المحرمة، هذه التمائم المحرمة التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها إذا وجدت تحولت هذه الأسرة إلى أسرة مضطربة، فتجد الأم دائماً تخاف على ولدها فتعلق عليه التمائم، تخاف عليه من العين، ولربما توهمت أن ابنها مريض وقلقت، ودارت على المستشفيات، وأقلقت زوجها وأقلقت أسرها، والطفل ليس فيه شيء إنما هي أمه التي فيها شيء؛ نظراً لضعف إيمانها وعقيدتها. ثم بعد ذلك أيضاً يبعدها عن الوقوع في أنواع من الشرك الأصغر والأكبر التي تحبط الأعمال، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. أيها الإخوة! إن تربيتها على العقيدة يجعل حب الله تبارك وتعالى مقدماً على حب غيره ولو كان زوجاً أو زوجة، حينما يتعارض حب الله وحب الزوجة، أو حب الله وحب الزوج بالنسبة للمرأة، أو حب الله وحب الولد أو الوالد فأيهما يقدم صاحب العقيدة الصافية؟ أيهما يقدم من غرست في قلبه هذه العقيدة السليمة؟ إن المشاهد -ويا للأسف- أن غلبة حب الزوج أو الزوجة أحياناً يؤدي إلى مآسي، فقد تجد امرأة مؤمنة بالله، لكنها وقد تزوجت وأحبت زوجها -وخاصة إذا وجد لها منه أولاد- قدمت حب زوجها وأولادها على حب الله ورسوله، فإنك قد تجد زوج المرأة زنديقاً، ما معنى زنديق؟ معنى ذلك: أنه يتفوه بالإلحاديات، إما الاستهزاء بدين الله، أو أنه لا يصلي، أو غير ذلك من الأمور التي هي نواقض الإسلام تجده واقعاً فيها، وتجد هذه الزوجة قد أحنت رأسها له، ولم تحن رأسها للواحد الجبار، فبقيت عنده. وكذلك أيضاً بالنسبة للرجل، فقد تكون عنده امرأة لا تصلي فيبقيها عنده، ولا يقدم حب الله على حب الخلق ولو كان أقرب الناس. أيها الإخوة! إن حب الله سبحانه وتعالى وحده، والإخلاص له في ذلك أساس دستور الأسرة، فكمال الحب يكون بعبادة الله وحده لا شريك له؛ ولذلك كان أعظم الذنوب الشرك بالله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]؛ فإذا ما قدم حب غير الله على حب الله سبحانه وتعالى فإن هذا من الشرك الأكبر، وأعظم مقتضيات الحب لله طاعة الله واتباع رسوله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فحب الله يقتضي تقديم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على طاعة الخلق ولو كان أقرب الناس إليك، ولو كان أباً أو أماً، ولو كان زوجاً أو زوجة، ولو كان غير ذلك، هذا هو أساس عقيدة التوحيد؛ فحينما تصفى هذه العقيدة وتسلم تنشأ الأسرة وتكون التكوين الصحيح.

من مقتضيات التوحيد طاعة الله ورسوله

من مقتضيات التوحيد طاعة الله ورسوله خامساً: من مقتضيات التوحيد طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه قضية كبرى في جانب العقيدة في حياة الأمة عموماً وفي حياة الأسرة خصوصاً، نظام الأسرة بكل تفاصيله هو شرع من الله، وشرع الله ينبثق من العقيدة، فلا ينظرن الإنسان إلى جزئيات من جزئيات شرعية الله في باب الأسرة على أنه مسألة فرعية، لا إن نظام الأسرة شرع من الله واجب الطاعة؛ لأن عقيدة (لا إله إلا الله) تقوم على العبودية لله، ومقتضى العبودية الحب لله، والذل لله، والخضوع له، وكمال ذلك كله ينتهي بكمال الطاعة لله تبارك وتعالى، ومن هنا فإن كل ما في تشريع الإسلام من كمال وشمول وصلاحية للزمان والمكان يدخل فيه نظام الأسرة؛ لأنه تشريع من العليم الخبير، فإذا ما جاء ملحد أو زنديق أو حداثي أو فوضوي أو علماني أو غيره ليقول: النظام الفلاني القضية الفلانية المسألة الفلانية التي تتعلق الزمان تطور، نقول: لا، ما تطور الزمان؛ لأن هذه الشريعة وضعها العليم الخبير الذي علم ما كان وما سيكون، فهي شريعة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، وأي إنسان يرفض شريعة الله في أي جانب من جوانب الحياة -ومنها جانب الأسرة- فإن هذا الذي يرفض هذه الشريعة خارج من دائرة الإسلام. أيها الإخوة في الله! إن شريعة الله في الأسرة وفي غير الأسرة واجبة التطبيق، ولا خيار للأمة ولا خيار للمسلم في ذلك أبداً، ودعوني أضرب لكم أمثلة، وإلا فشريعة الله في الأسرة كلها داخلة في هذا: قوامة الرجل على المرأة؛ هذا تشريع رباني، الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]؛ إذاً: هذه القوامة لا يجوز لإنسان أن ينقضها؛ لأنها تشريع إلهي، ولو كانت مطبقةً عند الغرب أو غير الغرب، القوامة للرجل فهو مدير الأسرة، وهو الذي بيده عقدة الطلاق؛ لأن الأسرة كالسفينة لا بد أن يكون له ربان واحد، وإلا لم تجر كما ينبغي؛ ولأن الأسرة إذا تسلطت فيها المرأة تنتهي إلى الفشل غالباً، ولأن علم النفس أيضاً يقول: إن الأطفال الذين يتربون في ظل أبوين يتنازعان السيادة تكون عواطفهم مختلة، وتكثر في نفوسهم العقد والاضطرابات، ونحن لسنا بحاجة إلى علم نفس أو غير علم نفس، لكن (ليطمئن قلبي) وإلا فشريعة الله سبحانه وتعالى كافية في هذا. مثال آخر يتعلق بهذه القضية المهمة: المرأة المسلمة ما هو موقفها تجاه ما شرعه الله سبحانه وتعالى بالنسبة لها؟ في ظل العقيدة، وفي ظل وجوب الطاعة لله ولرسوله المنبثقة من (لا إله إلا الله) تكون المرأة المسلمة مطيعة لربها، متبعة لشرعه، لا تعترض على شرع الله، إن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فإذا قضى الله ورسوله أمراً فليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيار، ولهذا فإننا نقول للمرأة المسلمة: الحجاب شريعة من؟ وهل لك خيار في أن تطيعي أو لا تطيعي؟ إنه شريعة الله، ولو زين لك أعداء الإسلام وأعداء المرأة المسلمة ألف تزيين؛ فإن الواجب عليك أن تتبعي شريعة الله، لا خيار للأسرة لا للزوج ولا للمرأة في وجوب الحجاب. ومن الأمثلة بالنسبة للمرأة: شريعة الله في إباحة تعدد الزوجات، نقول: المرأة من طبيعتها أنها تأبى هذا، وهذا طبع مركب فيها، لكن لا يجوز لها أن تعترض على شريعة الله تبارك وتعالى، شريعة الله أباحت تعدد الزوجات، وأثبتت الدراسات المتعددة أن الأمة كلها -لا أقول: الأمة المسلمة، وإنما أمم الأرض- لا يمكن أن تستقيم حياتهم الأسرية كما ينبغي إلا بشريعة تعدد الزوجات، فلا يجوز للمرأة -مهما كانت محبة لزوجها راغبة في أن تحتفظ به- أن تعترض على شريعة الله، وأحذر أختي المسلمة وأقول لها: إياك أن تتلفظي بكلمات تقولينها أحياناً حين تسمعين عن أختك أو جارتك أن زوجها تزوج عليها! لا تتفوهي بكلمات خطرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن الرجل -والمرأة داخلة في ذلك- ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، والمرأة أحياناً تقول كلمات تعترض فيها على دين الله وشريعته، فإذا كانت جاهلة ينبغي أن تعلم، وينبغي أن تربى، والمسألة ليست سهلة، المسألة مسألة شريعة لله تبارك وتعالى واجبة الطاعة. كذلك أيضاً فيما يتعلق بالمرأة: ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من التشبه بالكفار، هذا شريعة، فليس للمرأة المسلمة خيار في أن تتزيا بما تشاء، نقول: لها أن تتجمل، لكن إذا كان الزي فيه مشابهة للكفار حرم عليها بالشريعة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا بقية الأمور. إذاً: طاعة الله سبحانه وتعالى أساس العقيدة الذي تبنى عليه وتربى عليه الأسرة.

الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وأثرها في حياة الأسرة

الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وأثرها في حياة الأسرة سادساً: الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وأثرها في حياة الأسرة. وهذا -أيها الإخوة- باب عريض، فإن المتأمل للأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى فإنه سيجد في كل اسم من أسماء الله وفي كل صفة من صفات الله -إذا عرف الإنسان اسم الله وعرف مدلوله، وآمن به وأثبته لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل- يجد أثراً عظيماً جداً على حياة الإنسان وعلى حياة الأسرة بصفة خاصة؛ ولو أننا أفردنا المحاضرة لهذا الموضوع لما كفى، لكنني سأشير إشارات لأنتقل إلى موضوع آخر؛ فأقول من الأمثلة على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، الإيمان بأن الله هو الرزاق ما أثره في حياة الأسرة؟ له أثر عظيم، فهذا الاسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، إذاً: ليس الملوك هم الذين يرزقون، ولا الأغنياء هم الذين يرزقون، ولا التجارات هي التي ترزق، ولا غيرهم هو الذي يرزق، إن الله هو الرزاق، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]؛ الإيمان بأن الله هو الرزاق يضفي الطمأنينة على حياة الأسرة، ويبعد عنها شبح الخوف من الفقر، فالأب لا يأنف أن يزوج ابنته من شاب فقير إذا كان صالحاً في دينه؛ لأن الله هو الرزاق؛ ولأن الله يقول عنهم: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]؛ فلماذا أيها الآباء إذا أتاكم الشاب الصالح تمتنعون أحياناً لأنه فقير أو من أسرة فقيرة؟ هل تخافون على ابنتكم الفقر؟ لا والله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] نعم والله! إن الأب حين يبحث لابنته عن غني فلربما يضعها في قصر تعيش فيه فقيرة طول عمرها، وحينما يزوجها من شاب صالح ولو كان فقيراً فلربما يغنيهما الله سبحانه وتعالى من فضله، ولو عاشت معه فقيرة فلربما عاشت غنية، والغنى غنى النفس، لماذا اختلت الموازين في حياة الأسرة المسلمة وهي تؤمن بأن الله هو الرزاق؟ والشاب أيضاً يقبل على الزواج ولا يخاف الفقر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناكح يريد العفاف حق على الله سبحانه وتعالى عونه، فلماذا أيها الإخوة لا نيسر الزواج؟ ثم نقول ثالثاً: لماذا الخوف من كثرة الأولاد؟ لماذا تحديد النسل؟ لماذا تغضب المرأة حين تحمل؟ نعم هناك حالات خاصة تكون المرأة متعبة أو مريضة، لكن نتكلم عن عموم الناس، أيخافون الفقر؟ أيخافون العيلة؟ أيخافون التربية؟ إن المولود إذا جاء يأتي ورزقه معه، لست أنت الذي ترزقه، إن الزوجة إذا دخلت هذا البيت تأتي ورزقها معها لست أنت الذي ترزقها؛ بل أنت أيها الأب! وأنت أيها الزوج! إن الله هو الرزاق لك، هذه حقائق العقيدة، هذه حقائق الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأثرها في حياة الإنسان والأسرة. أيها الإخوة في الله! أنتقل إلى مثال آخر ولعلي لا أطيل فيه: من أسمائه تبارك وتعالى العليم، والسميع، فهذا الاسم -العليم- يعني أنه يعلم ما كان وما يكون، والسميع يسمع كل شيء، ما أثره حينما تربى عليه الأسرة؟ يضفي على الأسرة كمالات الأخلاق حتى في حال غياب الأب والزوج، فالأسرة التي تربت على أن الله ينظر إليها ويراقبها وعليم بها هل يمكن أن تخون؟ هل يمكن أن تخون الزوجة التي غاب عنها زوجها لكنها تعلم أن الله لا يغيب؟ لا، وكذلك أيضاً الابن، وكذلك أيضاً البنت، نعم، إن الأب له مسئولية في الأسرة، لكن الأب لا يستطيع أن يسيطر مائة بالمائة، لأنه يذهب ويأتي ليطلب الرزق، لكن إذا خلف في البيت أسرة ربيت على الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وأنه عليم بذات الصدور، مطلع على ما فيها، وأن الله سبحانه وتعالى يرى الإنسان على أي حالة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]؛ إذا ربيت الأسرة على هذا فعلاً تحولت الأسرة إلى أسرة تقية مؤمنة، أسرة تخاف الله واليوم الآخر، وكذا بقية أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

الإيمان باليوم الآخر وأثره في حياة الأسرة

الإيمان باليوم الآخر وأثره في حياة الأسرة سابعاً: الإيمان باليوم الآخر له أثر عظيم أيضاً في حياة الأسرة، وأنا أقول: إن عماد تربية الأمة عموماً، والأسرة خصوصاً، والفرد وحده هو الإيمان باليوم الآخر، فالذي لا يؤمن باليوم الآخر، أو لا يستحضر الإيمان باليوم الآخر، تتحول حياته إلى حياة مادية بحتة يكذب يخادع يرتكب المعاصي يرتكب الفواحش يظلم يقهر غيره إلخ، لكن إذا آمن الإنسان باليوم الآخر تحولت نظرته إلى الحياة كلها؛ لأنه يعلم أن الموت قريب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هادم اللذات؛ فإنه يذكركم بالآخرة)؛ لأن الموت يأتي على الإنسان في أي وقت ولا ينتظر، ولا يفرق بين الصغير والكبير، لكن ماذا بعد الموت؟ إذا آمن الإنسان بالوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، والحساب والجزاء، والميزان والصراط، ثم الجنة والنار، تغيرت موازينه للحياة، إذا جاءه واحد وظلمه فإنه يصبر ويصابر، إذا دعته نفسه إلى المعصية تذكر عقاب الله سبحانه وتعالى، يتحول إلى إنسان إيجابي، فالأسرة التي تربى على الإيمان باليوم الآخر تتحول إلى أسرة محافظة على نفسها، وأسرة مؤثرة على غيرها صلة الرحم؛ لأنه يقرب إلى الله ويرجون ثوابه، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإحسان إلى الجيران، سبحان الله! تنقلب حياة الأسرة إلى أسرة فاعلة ومؤثرة، وموجهة في المجتمع، ولكن متى؟ إذا ما أيقنت هذه الأسرة أنها سوف تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، لكن إذا غفلت -نعوذ بالله- كثر الظلم، وكثر البهتان، وكثرت الإساءة إلى الجيران، وكثرت الخصومات، وشهادة الزور، وكثر أكل الربا والحرام وغير ذلك من الفسوق والعصيان. ولهذا فإن من الواجب أن توقن أن الأسرة يجب أن تربى على الإيمان باليوم الآخر، وتدرس الدروس اليومية أو الأسبوعية على الإيمان باليوم الآخر، ولدك الصغير ذكره دائماً بالإيمان باليوم الآخر، ذكره بالإيمان بالله، حتى أشراط الساعة، كان السلف رحمهم الله تعالى يعلمون أطفالهم ويربونهم على تعليمهم لأشراط الساعة؛ لأن أشراط الساعة تحث الناس إلى ما بعد أشراط الساعة، اجلس مع أولادك، وقص عليهم ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي في آخر الزمان، قص عليهم قصة الدجال، وقصة نزول عيسى بن مريم، وقصة الدابة، وقصة يأجوج ومأجوج، قص عليهم ما بعد ذلك من القيامة والحساب والجزاء، ذكرهم بالله، فإذا استيقظت الأسرة وتيقظت في هذا المعنى العظيم تحولت موازينها، وانقلبت من موازين مادية جاهلية قريبة إلى موازين أعلى وأسمى يرجون فيها ما عند الله سبحانه وتعالى. ومن هنا أيها الإخوة في الله! كان لا بد من بيان هذا الأصل العظيم، وتربية الأسرة عليه، ينبغي أن تكون المناهج مركزة على الإيمان باليوم الآخر وتفاصيله، فمن المؤسف حقاً أن كثيراً منا وكثيراً من أسرنا لا يعلمون تفاصيل ما يجري في اليوم الآخر، لو جئت إلى شخص وقلت له: ماذا يحصل في اليوم الآخر؟ لقال لك: يحصل حساب وجزاء، ويوجد حوض وصراط، لكن ما تفاصيل ذلك؟ خروج الناس من قبورهم كيف يكون؟ اجتماعهم للمحشر الشفاعة العظمى دنو الشمس من العباد الحساب وكيف يتم الحساب؟ يجتمع الخلائق من أولهم إلى آخرهم بين يدي الله للحساب، ثم يحاسب الله كل واحد لوحده، ويحاضره محاضرة ما يظن أن الله يحاسب أحداً غيره.

الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة الإنسان

الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة الإنسان ثامناً: الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة الإنسان. أيها الإخوة! إن من أبرز أركان الإيمان التي لها أثر في حياة الأسرة: الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بالقضاء والقدر مقتضاه أن يؤمن الإنسان أن كل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره، كل ما يجري عليك أنت أيها الإنسان فهو بقضاء الله وقدره، أولادك وجودهم سفرهم ذهابهم رزقك وإياهم فقرهم غناؤهم طول عمرهم قصر عمرهم مرضهم موتهم إلخ، كلها بقضاء الله وقدره، ليس لك إرادة في ذلك، مكتوب قبل أن تخلق أنت أيها الإنسان، فلماذا تعترض على ما قدر الله عليك؟ ولهذا كان الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم أسباب استقرار النفس المطمئنة، ومن أعظم أسباب استقرار الأسرة المسلمة. أيها الإخوة في الله! دعوني أضرب لكم أمثلة، لأننا لو أطلنا في هذا لطال بنا المقام، ولكن أشير إشارات تتعلق بالأسرة، فأقول مثلاً: الذي لا يولد له لماذا يعيش حياته كئيباً؟! يرضى بما قدر الله له، وربما أراد الله له الخير، ولو قيل له: ما رأيك أن يوجد لك ولد يشقيك في بقية عمرك أو لا يوجد، أيهما سيختار؟ سيختار عدم وجود هذا الولد؛ فلماذا يا من ابتليت بأن الله سبحانه وتعالى قبل خلقك بل قبل خلق السماوات والأرض قدر لك هذا، لماذا تعترض على قدر الله؟ ولماذا لا توجه حياتك توجيهاً صحيحاً لتنعم بنعيم الله في الجنة، نعيم ما بعده نعيم، مع الحور العين والقصور، قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] لماذا لا تشمر إلى الآخرة؟ لماذا تعيش حياتك معقداً؟ لماذا تحسد الناس؟ أقبل على ربك سبحانه وتعالى، أرأيتم كيف يكون الإيمان بالقضاء والقدر؟ ثانياً: الرجل الذي ولد له بنات ولم يولد له أولاد، لا بد أن يرضى بقضاء الله وقدره، بعض الناس يغضب -كما هي عادة الجاهلية- إذا جاءته بنت غضب! لا يا أخي! هذه البنت مقدرة، ولو أنك صنعت ما صنعت، ولو أنك تزوجت بنات الناس كلهم واحدةً تلو الأخرى إذا كان الله لم يكتب لك ولداً ذكراً فلن يأتيك ولد ذكر، فارض بما قسم الله لك، ارض يا عبد الله بما قسم لك، واعلم أن هذه الأنثى التي رزقك الله إياها هي نفس إنسانية مكرمة كرمها الله سبحانه وتعالى، ولهذا قدمها تبارك وتعالى في كتابه العزيز حينما قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50]، فقدم في الآية الإناث، وهذا كان للرد على عادات الجاهلية، وللأسف الشديد أنه يقع فينا أحياناً من عادات الجاهلية، وفي البنات خير، فهن أمهات الأطفال، ومربيات الأجيال، فيا أصحاب البنات! يا من عندهم بنات فقط أو عندهم بنات وأولاد لكن قد يضيقون أحياناً بالبنات! اسمعوا لهذا الحديث الذي رواه مسلم عن أنس يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا، ثم ضم النبي صلى الله عليه وسلم أصبعيه)، أرأيتم البركة في البنات؟! إذاً: هو الرضا بقضاء الله وقدره، يؤدي بالإنسان إلى أن يرضى فيبارك الله سبحانه وتعالى له. الإمام أحمد بن حنبل روى عنه ابنه صالح قال: كان أبي أحمد بن حنبل إذا ولد له ابنة يقول: الأنبياء كانوا آباء بنات، فهل حط من قدرهم؟ هل حط من وزنهم؟ لا أيها الأخ المسلم. وأيضاً: من أثر الإيمان بالقضاء والقدر: موت الولد وهو صغير، فإن بعض الناس يحزن لذلك حزناً شديداً، لا يا أخي! ارض بما قضى الله لك، يا صاحب الأسرة! يا أيتها الأم! يا أيها الأب! إذا ما أخذ الله لكم ولداً فارضوا بما قضى الله وقدره لكم، واسمعوا إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي حسان قال: توفي ابنان لي، فقلت لـ أبي هريرة: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً تحدثناه تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال أبو هريرة: (نعم، صغارهم دعاميص الجنة)، ما هو الدعموص في اللغة العربية؟ الدعموص: هو الدخال الذي يدخل ويخرج ولا أحد يرده، ومعنى الحديث: أنهم سياحون في الجنة لا يردهم أحد، يدخلون كل بيت في الجنة، يقول أبو هريرة -وهذا له حكم الرفع-: (صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بناحية ثوبه أو يده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا)، متى هذا؟ يوم القيامة، يوم عظيم يوم الفزع الأكبر تأتي أنت أيها الأب، وتأتي الأم أيضاً وقد فزعوا وضاقت عليهم الدنيا كلها، واشرأبت لهم الأعناق: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] الكل ذليلون أمام عظمة الجبار؛ لأنه الحساب الأكبر، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (فيأخذ بناحية ثوبه أو بيده فلا يفارقه)، يمسك به فلا يفارقه حتى يدخله الله وإياه الجنة سبحان الله! حتى ولو كانت له ذنوب ومعاصٍ، يشفع له ولده، يقول الابن الذي مات ولم يذنب ذنباً: يا رب! أنا لا أدخل الجنة إلا ومعي أبي وأمي، أرأيتم يا من تحزنون على موت الأولاد؟! إنهم بركة، ولذا روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: (ما منكن امرأة يموت له ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت له امرأة: واثنان؟ فقال: واثنان) والحديث متفق عليه، إذاً هذا أثر من آثار التسليم والإيمان بالقضاء والقدر. وأثر الإيمان بالقضاء والقدر أثر عميق في حياة الأسرة إذا توفي أحد الأبوين، إذا رضوا بالقضاء والقدر فإن الله يتكفل ببقية الأسرة، فكم من أسرة مات ولي أمرها فعاشت أسرة عزيزة، وإن لم يوجد له راع، وكم من أسرة ماتت الأم -وكل ذلك قضاء وقدر- فالله سبحانه وتعالى رعى أولادها من بعدها، إنه الرضا بالقضاء والقدر. كذلك أيضاً حينما يوجد معوق داخل البيت، بعض الأسر تحزن وتتحول حياتها إلى حياة جحيم وقلق نفسي، لماذا؟! حتى ولو وجد المعوق فإن هذا بقضاء الله وقدره، فارض بما قسم الله سبحانه وتعالى لك، أرأيتم كيف أن الإيمان بالقضاء والقدر يضفي على الأسرة ويضفي على نفسية المعوق جواً إيمانياً وحياةً مطمئنة؟! إنها العقيدة! إذا ربطت وترابطت وشائجها تحولت الأسرة إلى أسرة مؤمنة طيعة مخبتة لربها تبارك وتعالى.

عقيدة الولاء والبراء وأثرها في حياة الأسرة

عقيدة الولاء والبراء وأثرها في حياة الأسرة تاسعاً: عقيدة الولاء والبراء وأثرها في حياة الأسرة. وهذه القضية للأمة عموماً، ولن أدخل في تفاصيلها؛ لأن الولاء والبراء أساساً من أسس العقيدة، ويا للأسف في أزماننا الأخيرة بدأ كثير من الناس يتخلى عنها، صار الدين هو الإيمان بالله فقط؛ وليس البراءة من الطواغيت، وليس البراءة من الشرك، صار الدين معنا كما نشاهد اليوم: آمن بالله، واجعل دينك بينك وبين نفسك، وصل لوحدك، أما البراءة من الطواغيت والشرك، ومن أعداء الله فلا، وهذه والله مصيبة تربوية في مجتمعاتنا الإسلامية، إن أساس العقيدة يقوم على البراءة من الطواغيت كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وهي ملة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، ملة البراءة من الشرك ومن أهل الشرك. إن الكلام حول الولاء والبراء طويل، لكنني أشير إلى جوانب منه باختصار فأقول: إذا ربيت الأسرة على الولاء والبراء تعلقت هذه الأسرة بالمؤمنين ولم تتعلق بالكافرين، بل أبغضت الكافرين، لماذا أيها الإخوة نشاهد الابن أو البنت أحياناً يتعلق بكافر لأنه لاعب كرة، أو لأنه ممثل أو ممثلة، أو صاحب أزياء أو صاحبة أزياء؟! لماذا نشاهد هذا التعلق بالكفار وهم كفار؟! إنه بسبب الضعف في عقيدة الولاء والبراء، إن تربية الأسرة على عقيدة الولاء والبراء ينظفها من التعلق بالكفار والكافرين، وينظفها من التعلق بالفساق والمجان وغيرهم، ويعلقها بالأمثلة الصالحة من المؤمنين الصادقين قديماً وحديثاً، عقيدة الولاء والبراء ضرورية جداً لحماية الأسرة من المؤثرات الخارجية، إنها الحصن الحصين للأسرة أيها الإخوة في الله! ثم أخيراً لمحة أقول فيها: لماذا يربي بعضنا أسرته على الفخر والخيلاء بالنسب والآباء والأجداد؟ نعم! إن هذا موجود، إنه يربي فيهم على أنهم الأسرة الفلانية، وأبوهم فلان، وجدهم فلان إلخ، لماذا هذا الفخر والخيلاء بالآباء والأجداد؟ إنه يولد الغرور بالنسبة للآباء، ولهذا كان في منهج الإسلام بيان لهذه الحقيقة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذا هو الميزان، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، هذا هو الميزان، ولهذا فإن تربية الأسرة على عقيدة الولاء والبراء يجعلها تتعامل مع الناس تعاملاً صحيحاً، وتزن الناس بميزان التقوى، وليس بموازين أخرى جاهلية من الأرض أو الوطن أو التراب أو القبيلة أو الجنس أو العرق، فهذه كلها جاهلية.

الأم ودورها في الأسرة

الأم ودورها في الأسرة عاشراً: الأم ودورها في الأسرة. أيها الإخوة! إن الأم والزوجة داخل البيت لهن أثر كبير جداً في حياة الأسرة، ولهذا فإننا أحياناً نجد نماذج تقوم فيها الأم بدور عظيم، إن كون الأم تقوم بدورها المكمل للزوج هذا هو الطبيعي، أن يقوم الأب بدوره، وتقوم الأم بدورها، وكل منهما يكمل الآخر، لكن هناك أحوال فعلاً تقوم فيها الأم بدور عظيم، فمثلاً: قد يوجد نموذج الأب المنحرف والأم الصالحة، والزوجة الصالحة، ويعظم الخطب حين يكون الأب منحرفاً وحريصاً على أن يسلك بأولاده وأسرته مسلكه المنحرف، لماذا يحرص على ذلك؟ إما رغبةً في الانحراف وتزيين الشيطان، أو لأن الأب يريد لأسرته الانحراف حتى لا يضايقوه في انحرافه، هذه الحالة يأتي فيها دور الأم إذا كانت صالحة، هنا دور عظيمات النساء، فالأم أولاً: يكون دورها في نصح زوجها، وتصحيح مساره، تعالجه وهي تعايشه ليلاً ونهاراً حتى يصحح المسار، وكم من زوجة كان لها أثر كبير على الزوج فصححت مساره وعقيدته. ثانياً: دورها في حماية الأسرة من الانحراف، خاصة من هذا الأب الذي يمتلك من الإمكانات ما لا يملك غيره. أيها الإخوة! إن لنا في قصة إحدى الصحابيات عبرة وعظة، قصة صحابية جليلة واجهت ما تواجهه مثل هذه المرأة التي ذكرناها قبل قليل، أم سليم الرميصاء بنت ملحان بن خالد بن يزيد الأنصارية والدة أنس بن مالك، اسمعوا إلى هذا النموذج حينما يستيقظ حس العقيدة في نفس الأم، وفي نفس الزوجة؛ روي عنها أنها آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجابت لداعي الهدى والخير، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فتحولت إلى امرأة مسلمة مستسلمة لربها تبارك وتعالى، ولكن في أول الأمر كان زوجها كافرًا، فجاء زوجها مالك والد أنس بن مالك -وكان غائباً- فكان أول سؤال سألها أن قال لها مغضباً: أصبوت؟! فقالت: ما صبوت ولكني آمنت، فلما رأت زوجها مغضباً ينكر عليها إيمانها خافت على وليدها أنس، فجعلت تلقن أنس الشهادتين وهو صغير رضيع، تقول له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أرأيتم الأم حينما تخاف على ابنها من الانحراف! فصار أبوه يقول لها: لا تفسدي علي ابني، لا تفسدي علي ابني، فتقول له: إني لا أفسده. ونسأل الله السلامة والعافية! ثم خرج مالك ولقيه عدو له فقتله على الكفر بالله، نسأل الله السلامة والعافية! فلما قتل قالت هذه الأم وهذه الزوجة: لا جرم، لا أفطم أنساً حتى يدع الثدي هو، حتى تربيه على الحنان وعلى رضاع الإيمان، ثم قالت: ولا أتزوج حتى يأمرني أنس. نعم أيها الإخوة! إنه الحرص على هذا الابن الصغير، خوفاً عليه من أن تتلقفه الأيدي التي لا تربيه على منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فتفرغت للطفل، ولهذا لما شب قليلاً وصار عمره قرابة سبع سنوات نقلته إلى بيت النبوة، وأتت بابنها أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! هذا أنس خويدمك، أريد أن يخدمك يا رسول الله. وبقي أنس بن مالك في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه عشر سنوات، حتى انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. هل انتهت قصة هذه الصحابية الجليلة؟ لا، لم تنته بعد؛ لقد خطبها أبو طلحة الأنصاري وهو على الشرك، فأبت عليه، لكن هل أبت واكتفت؟ لا، أبت إباء المرأة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، روى ابنها أنس بن مالك قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، ثم قالت له: يا أبا طلحة! أما تعلم أن آلهتكم -الأصنام- ينحتها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت؟ كيف تعبد يا أبا طلحة هذا الخشب وهذا الحجر من دون الله؟! إنها دعوة إلى التوحيد، قال أنس: فانصرف وفي قلبه ذلك، ثم أتاها بعد ذلك وقال: الذي عرضت علي قد قبلت، فتزوجها، فكان مهرها الإسلام، فما أعظمه من مهر يا دعاة المادية! يا دعاة غلاء المهور! كان مهرها هو الإسلام! دخل في الإسلام فكان مهراً لها. ومن أصحاب النبي ومن غيرهم من أمهر بالقرآن العظيم، منهم من أمهر بسورة من القرآن، ولقد سمعت قصة شاب خطب امرأة فقالت له الزوجة: ما أريد منه إلا حفظ القرآن، فرجع إلى بيته -وهو الفقير- يحفظ القرآن، فلما أتم حفظه وجاء، قالوا: نعم إذاًً. فتقدم، فكان مهرها القرآن، أرأيتم النفوس كيف تربى؟! وأم سليم امرأة مجاهدة قصتها طويلة.

أهمية التدرج في تعليم الطفل

أهمية التدرج في تعليم الطفل أيها الإخوة! أختم هذه المسائل بالمسألة الحادية عشرة: وهي أهمية التدرج في تعليم الطفل خاصة العقيدة، وإنما ذكرت هذه المسألة لأن كثيراً من الناس قد يخطئ فيها، فمن الناس من يهمل طفله ولا يعلمه العقيدة ولا مبادئها، وإنما يتعلم من الشارع والتلفاز والتمثيليات، ومن الرياضة وغيرها، ولا يربيه هو على العقيدة، وبعض الناس حرصاً منه على تربية ولده يتعجل في تعليمه مسائل العقيدة وتفاصيلها، وأحياناً يعلمه أشياء لا يستوعبها الطفل، لذلك جاءت هذه الملحوظة التي أختم بها هذا الدرس فأقول: ينبغي التدرج في تعليم الطفل العقيدة، والإتيان بالأمثلة العملية، وألا تعطيه ما هو فوق مستواه، فإنه أحياناً يتفوه بكلمة أنت لا ترضاها؛ لأنه لا يعقل، فأحياناً تعلم الطفل، ثم إذا غضب عليك أنكر هذه الأشياء التي علمته إياها، وصار أحياناً ربما يشتمها أو نحوها، فالواجب على الإنسان أن يتدرج في تعليمه لطفله، وأن يراعي مستواه. أيها الإخوة! هذه لمحات من أثر العقيدة على الأسرة المسلمة، أسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم هداة مهتدين، وأن يرزق أسرنا الصلاح والاهتداء، وأن يثبتنا وإياكم جميعاً على دينه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الشرع في استخدام العمال الأجانب

حكم الشرع في استخدام العمال الأجانب Q نجد الكثير من الأسر تستخدم الخدم من الكفار من أنواعهم وأشكالهم، ويعيشون في بيوت وأسر مسلمة، ومن هذه الأسر من لا يبالي بهذا الأمر ولا يوليه أي اهتمام، فما توجيهكم نحو ذلك؟ وما حكم الشرع في استقدام العاملات الأجنبية؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. الذين يفعلون هذا يقعون في أنواع من المنكرات. أولها: استقدام الكفار إلى جزيرة العرب بهذا الشكل لا يجوز؛ لأنه لا يجوز دخول الكفار جزيرة العرب إلا لضرورة، وليس هذا من الضرورة، بل هناك عاملة مسلمة، فهذه القضية تشمل الأسر والشركات وغيرها، فالذي يستقدم عمالاً كفاراً ويترك المسلمين هو مرتكب لمنكر، ومتعرض لغضب الله سبحانه وتعالى، فليتق الله في الأمة وليتق الله في هذا المال الذي يجمعه من هؤلاء. ثانياً: يزداد الأمر خطورةً ونكارة حينما يستخدم الخادم أو الخادمة في الأسرة ويكون كافراً، وهذا حقيقة أمر مؤسف أن توجد امرأة كافرة أو رجل كافر داخل الأسرة المسلمة، ومآسي الخدم كتب عنها الكثير، لكن أخطرها مآسي الخدم الكفار، الذين يأتون بعاداتهم وتقاليدهم وكفريتهم إلى أسر المسلمين، ولهذا فإنني أقول لمن عنده أسرة ولو قال: إنها مسكينة طيبة ما تفعل شيئاً ولا تقول شيئاً، أقول: أنت مرتكب لما يغضب الله سبحانه وتعالى حينما تدخل أسرتك هذه الكافرة بإرادتك، فليتق الله كل فرد مسلم، فإن خطرها على الأسرة عظيم.

حكم من يربي أولاده على الخوف من المخلوقين

حكم من يربي أولاده على الخوف من المخلوقين Q ما حكم من يربي أبناءه على الخوف من المخلوقين؛ خوفاً عليهم من الضياع، أرجو بيان هذا الموضوع وجزاكم الله خيراً؟ A هذا الخوف على أشكال، إذا كان المقصود أن يعلمهم أن يخافوا من المخلوقين في جميع الأمور فهذا لا ينبغي؛ لأنه أولاً: يولد فيهم نقصاً تربوياً، فيصبح الابن أو الابنة ضعيف الشخصية. ثانياً: من الواجب أن يربيه على الخوف من الله لا على الخوف من المخلوق، أما إن كان المقصود أنه يخوفهم من الفجرة والفسقة فهذا من جوانب التخويف الطيبة المهمة احذر من هذا الشاب السيئ احذري من صديقاتك السيئات، فإن هذا من الجوانب التي هي مطلوبة، فيفرق بين هذا وهذا.

حكم من يغلبها البكاء والصياح عند المصيبة

حكم من يغلبها البكاء والصياح عند المصيبة Q أنا امرأة إذا مات أحد من أقاربي لا أتمالك نفسي، وأرفع صوتي بالصياح، وقد يغمى علي، وأعرف أن هذا لا يجوز، ولكني لا أملك نفسي، فهل علي شيء؟ وهل يعذب الميت في قبره بسببي أرجو إفادتي؟ A إذا كان كما ذكرت أنك لا تملكين نفسك، وأنك منكرة لذلك بقلبك قبل وبعد، إلى حد أنه يصل إلى الإغماء، فنرجو إن شاء الله أنه ليس عليك بذلك شيء؛ لكن روضي نفسك على أن تتبعي السنة في الصبر على أقدار الله تعالى، وما لا يملكه الإنسان من البكاء، فإن البكاء جائز، أما أن يتحول إلى رفع الصوت فإنه نياحة محرمة، فروضي نفسك على اتباع السنة وفقك الله.

حكم بدء الكفار بالسلام والابتسامة لهم

حكم بدء الكفار بالسلام والابتسامة لهم Q هل يجوز أن نبدأ الكفار بالسلام؟ وإذا سلموا علينا فهل نرد عليهم؟ وهل لنا أن نبتسم لهم ونتودد إليهم؟ خاصة إذا كانت هناك علاقة عمل كبناء دار أو في شركة ونحوها، وهل يؤثر ذلك في عقيدتنا؟ A الثابت أنه لا يجوز بدؤهم بالسلام، وإذا سلموا فيرد عليهم، فإن كان تسليمهم بالسلام فيقال: وعليكم، وإن كان تسليمهم بغيره فلا بأس بالرد، فلو قال: صبحك الله بالخير مثلاً، فترد عليه بمثلها داعياً له بالهداية، كما كان السلف رحمهم الله تعالى يصنعون هذا؛ أما بدؤهم بالسلام فإن الله هو السلام، ولا يلقى هذا إلا على المؤمنين، وكذلك أيضاً لا يجوز للإنسان أن يبتسم في وجوههم ابتداء، وينبغي للإنسان أن يجعل علاقته بهؤلاء منطلقها علاقة دعوة، وإذا كان ذلك جاز الكلام وجازت الابتسامة أحياناً؛ لأجل الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم أكل الطعام عند اليهود، ومن غير المعقول أن يكون الرسول أكل طعامه وهو صامت عابس بوجهه، والناس في هذا الباب يجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هؤلاء، وينبغي أن تعلموا أن إظهار عزة المؤمنين للكفار هو منهج دعوي، بعض الناس يقول: ينبغي لنا أن نضحك في وجوههم ونتودد حتى ندعوهم إلى الإسلام، فنقول: إذا احترمناهم وقدرناهم ورغبناهم وربما قدمناهم على غيرهم، فلماذا سوف يدخلون في الإسلام؟! لماذا سيدخل في الإسلام وهو إذا كان كافراً صار أعز منه إذا كان مسلماً في موازين الناس؟! لذلك كان من شريعة الله أن الذمي يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، ويلبس لباساً خاصاً، كما كان موجوداً في زمن الدولة الإسلامية، وإلى سنوات قريبة مضت في بعض البلاد الإسلامية، حتى يشعر أنه ذمي، ومتى يخرج من الإهانة؟ يخرج من الإهانة إذا دخل في الإسلام، فأنت كأنك تقول له: ستبقى بين المسلمين لا عزة لك إلا إذا دخلت الإسلام، لكن نعوذ بالله في هذه الأيام اختلت الموازين، فصار إذا جاء من بلاد الكفر وهو كافر نصراني أو غير نصراني قدمناه وقربناه، فكأننا نقول له: بقاؤك على الكفر أعز لك من الإسلام! أرأيتم كيف أن حال المسلمين أنهم يصدون عن دين الله وهم لا يشعرون! نسأل الله العافية.

التحذير من ظاهرة حب الكفار والتعلق بهم

التحذير من ظاهرة حب الكفار والتعلق بهم Q يكثر في هذا الزمن التعلق بالكفار، واعتقاد أن بيدهم المنفعة والمضرة، وحبهم بحجة أن عندهم إنسانية وإنصافاً، وكذلك حب بعض الشباب وتعلقهم باللاعبين الكفار والتشبه بهم، وحب التسمية بهم، نريد كلمة في ذلك. A سبق الإشارة إلى هذا الأمر، لكن التعلق بالكفار في الأزمنة الأخيرة عم وطم، وشمل كثيراً من الناس، وهذا يؤذن بوضع خطير في حياة الأمة، لماذا التعلق بالكفار؟ هؤلاء الكفار عندهم إنسانية؟! سبحان الله! والله إن تاريخ الحضارة الحديث في هذه السنوات مليء بأبشع أنواع اللاإنسانية عند هؤلاء الغرب الكفرة، لكن ماذا نقول للبلهاء؟! وماذا نقول لوسائل الإعلام التي صورت هؤلاء الكفرة بصور الأبطال؟ وبصور المنقذين للأمم أمنياً واقتصادياً وسياسياً؟! أيها الإخوة! إن الركوع أمام اليهود والاستسلام لليهود أمنياً واقتصادياً وعسكرياً صار بطولة في هذه الأيام، ومتى كان أحفاد القردة والخنازير فيهم خير لنا نحن المسلمين؟! متى كان ذلك؟! والله ما كان ولن يكون، وإنهم الآن يخططون لما هو أعظم وأعظم، واليهود يريدون من مرحلة السلام أن تكون مرحلة الاستسلام الفكري والثقافي والعقدي لشباب المسلمين، وأسر ومجتمعات المسلمين، هذه هي قيمة السلام التي يخطط لها أعداؤنا اليهود، إنهم يخططون للاقتصاد للهيمنة العسكرية للهيمنة المائية لغيرها، لكن قبل ذلك يخططون لحرب هذا الإسلام، فيأتي بصورة حرب أصولية، يحاربون الإسلام الحق -عقيدة الولاء والبراء- باسم الأصولية، ولكن نقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. إن المشكلة فينا نحن أيها الإخوة! وإلا فلو عدنا إلى ديننا وعقيدتنا، وربينا أسرنا وأنفسنا ومجتمعاتنا على العقيدة الصحيحة، والله لن يضرنا يهود ولا أذناب يهود؛ لأن الله معنا، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] إن الله هو ناصر رسله وعباده المؤمنين، لكن إذا عصينا الله وتخاذلنا فمن سوف ينصرنا؟ ما عندنا قوى مادية، أعداؤنا أقوى منا مادياً، فإذا بقينا بدون نصر من الله تساوينا نحن وإياهم في الجوانب المادية فانتصروا علينا، وهذه سنة الله في الحياة، فلماذا التعلق بالكفار وهم كفار؟! والله سبحانه وتعالى يبين لنا في كتابه العزيز في آيات بينات أصولاً عظيمة في هذا الباب، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، هذا ليس كلامي، ولا كلام مفكر، ولا عملاق، ولا كلام أحد من رجالات الفكر أو الإعلام أو غيرهم، إنه كلام ربنا تبارك وتعالى، حقيقة من حقائق الإيمان والتوحيد، وحقائق الصراع بين الأمم، حقيقة كبرى أن هؤلاء الكفار لا يريدون إلا أن نرجع كفاراً فنكون نحن وإياهم سواءً، فهل نقبل؟ هل نقبل أيها الإخوة هذا؟ نعم إنها المسئولية يتحملها الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نحن أحق بموسى منكم [1]

نحن أحق بموسى منكم [1] إن أولى الناس بالأنبياء هو من اتبع ما جاءوا به من الحق المبين، واقتفى آثارهم فيما يرضي رب العالمين، فمن كان كذلك فهو حقيق أن ينتسب إليهم، وأن ينال شرف ذلك، والانتساب إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام ليس بالتمني ولا بالتحلي ولا بالدعاوى الكاذبة، بل هو قول وعمل.

أخوة الأنبياء عليهم السلام

أخوة الأنبياء عليهم السلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموه أنتم). وفي رواية: (كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً، ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم) أي: زينتهم وعلاماتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصوموه أنتم). وروى الشيخان أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟! قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم) فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه. وفي رواية: فقال لهم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟! قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر بصيامه). وفي رواية لـ أبي داود: (حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام القادم -إن شاء الله- صمت اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال العلماء: المعنى: لأصومن التاسع مع العاشر؛ مخالفة لليهود. أيها الإخوة في الله! وقفتنا في مناسبة عاشوراء ومشروعية صيامه لا تختص بهذا اليوم، وإنما تمتد لتقعد قاعدة من قواعد الصراع العقدي بين الإسلام وغيره من الملل والنحل. وقفة مع قول الهادي البشير صلى الله عليه وسلم لما رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء؛ لأن الله نجى فيه موسى ومن معه: (نحن أحق وأولى بموسى منكم). إن هذا الحديث -وغيره من أدلة الكتاب والسنة- يدل على عدد من القواعد والأصول، وسنقف عند بعضها هذا اليوم.

أخوة الأنبياء في العقيدة

أخوة الأنبياء في العقيدة العقيدة تجمع الأنبياء والرسل جميعاً، فهم على عقيدة واحدة تقوم على عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم، وشريعة كل نبي تبع لهذه العقيدة ومنبثقة منها، ولا تصح العقيدة لأي قوم إلا باتباع الشريعة التي جاء بها نبيهم، ومن ثم قال كل نبي لقومه كما أخبر الله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، فالتلازم بين الشريعة والعقيدة جاء به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام بلا استثناء.

عدم جواز التفريق بين الأنبياء عليهم السلام

عدم جواز التفريق بين الأنبياء عليهم السلام الأنبياء أخوة فيما بينهم، ونحن المسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم نؤمن بهم جميعاً دون استثناء، ودون أن نفرق بينهم كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. أما من فرق بين الرسل فإنه كافر كائناً من كان، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:150 - 152].

صور من أخوة الأنبياء فيما بينهم

صور من أخوة الأنبياء فيما بينهم لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم كيف تكون مدرسة الأنبياء واحدة، وهذه وقفات نقفها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء: أولاً: روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى له: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب! فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول نوح: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال صلى الله عليه وسلم: فنشهد أنه بلغ، وهو قول الله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143])، فآخر نبي وأمته يشهدون لأول الرسل نوح أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة. ثانياً: لقد كان صلى الله عليه وسلم يدافع عن إخوانه الأنبياء، ويبرئهم مما رموا به، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت -أي: الكعبة- فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وهذا إبراهيم مصور، فماله يستقسم؟!) رواه البخاري. وفي رواية أخرى له أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام فقال: (قاتلهم الله! والله! إن استقسما بالأزلام قط) أي: ما استقسما بالأزلام قط. ثالثاً: لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). فهذه شهادة من نبينا الكريم بأن أتقى الناس يوسف ابن نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم كما ثبت ذلك أيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا تكون مدرسة الأنبياء جميعاً مدرسة واحدة. رابعاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته من بعدهم بقتل الوزغ كما في صحيح البخاري أنه قال: (إنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام) أي: أنه كان ينفخ عليه حين ألقي في النار؛ لتزداد النار عليه إيقاداً. وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة: (أن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها). فتأملوا هذا الحكم الشرعي: مشروعية قتل الوزغ، وتأملوا العلة؛ لأنه كان ينفخ على إبراهيم، فأي آصرة هذه التي تجمع بين أنبياء الله جميعاً عليهم أفضل الصلاة والتسليم؟! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن موسى: (نحن أحق بموسى منكم). خامساً: رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، فقلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصله، فإن الفضل فيه). رواه البخاري. وعلى هذا فبناء سليمان عليه السلام لبيت المقدس إنما هو تجديد لمسجدٍ بُني قبله، وليس كبناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام للكعبة. وهكذا تتفق مدرسة الأنبياء، فهي مدرسة عقيدة واحدة تتبعها شريعة يأتي بها كل نبي، فكل شريعة أتى بها نبي فهي تابعة لعقيدته، حتى ختمت الشرائع بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فصار لا يقبل من أي أحد شريعة إلا الشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

امتداح النبي صلى الله عليه وسلم ليوسف عليه السلام بالتقوى والصبر

امتداح النبي صلى الله عليه وسلم ليوسف عليه السلام بالتقوى والصبر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. وبعد: وتستمر هذه المدرسة. سادساً: ويمتدح النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً عظيماً من مواقف يوسف عليه الصلاة والسلام وهو في السجن، حيث إنه عليه الصلاة والسلام سجن ظلماً بمكيدة امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، وصرحت للنسوة اللاتي تحدثن عنها، فاحتالت عليهن حتى رأينه فقطعن أيديهن، وقالت لهن بعد ذلك كما ذكر الله عنها: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:32 - 33] فسجنوه، ومكث في السجن بضع سنين، وجرى له في السجن مع بقية المسجونين ما قصه الله علينا، ثم رأى ملك مصر رؤياه وطلب تعبيرها، فتذكر أحد أصحاب يوسف الذين خرجوا من السجن يوسف وتعبيره للرؤى، فطلب مقابلته في السجن، فقابله وعبر له رؤيا الملك، وكان تعبيره لها ذا أثر عظيم في اقتصاد مصر في ذلك الوقت لسنين طويلة، فأعجب الملك هذا التعبير للرؤيا وأمر بالإفراج عنه، بل وأمر أن يأتوا به إليه ليقابله فوراً، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، لكن هيهات أن يقبل يوسف الخروج من السجن إلا بعد أن تكشف الحقيقة في سبب سجنه؛ لأن المعلن للناس أمر عظيم يتعلق بالعرض، حيث اتهم بمراودة امرأة العزيز، وسجن لأجل ذلك، ولهذا أبى يوسف أن يخرج مع أنه ذاق السجن وأهواله بضع سنين، قال الله تعالى عن يوسف: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، وإنما قال يوسف: ما بال النسوة؛ لأنهن شواهد على تصريح امرأة العزيز وكشفها للحقيقة أمامهن، حيث ذكرت لهن أنها راودته عن نفسه، وأنه استعصم عنها، وأنه إن لم ينفذ هذه الجريمة فسيكون مصيره السجن. واستدعى الملك النسوة، وكشفن الحقيقة كاملة كما قص الله ذلك، واعترفت امرأة العزيز بفعلتها واعتذرت، فلما كُشفت الحقيقة وظهرت براءة يوسف خرج يوسف عليه السلام من السجن معززاً مكرماً، قال الله تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] إلى آخر الآيات حيث مكن الله ليوسف كما هو معلوم من قصته. ولقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم موقف يوسف عليه الصلاة والسلام بأسلوب يدل على مبلغ التواضع الذي بلغه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبأسلوب يدل على امتداحه لهذا الموقف الكريم من يوسف عليه الصلاة والسلام، حيث أبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد إثبات البراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى عنه البخاري: (يرحم الله لوطاً! لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي). قال ابن حجر رحمه الله: أي: لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولما قدمت طلب البراءة، فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً.

امتداح النبي صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام

امتداح النبي صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام أما حديثه صلى الله عليه وسلم عن موسى عليه الصلاة والسلام فكثير، ومنه هذا الحديث الذي قاله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء: (نحن أحق بموسى منكم). ومن ذلك حديثه عن إيذاء بني إسرائيل له حين اتهموه بعيب في بدنه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يُرى من جلده شيئاً استحياءً منه، وآذاه من آذاه من بني إسرائيل فبرأه الله تعالى) وذكر بقية الحديث الذي رواه البخاري. ولما قسم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قسماً قال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فلما أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائل، قال عبد الله: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: (يرحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فهذا اعتراض من منافق على قسمة قسمها رسول الله، وإنها لكلمة كبرى قالها هذا المنافق في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصبر ويتصبر، ويذكر إخوانه الصابرين من المرسلين، ومنهم موسى، والله تعالى يقول له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]. وكم في هذه الأيام من معترض على شريعة الإسلام، وحدودها، وأحكامها، في تحريم الزنا، والربا، والقتل، وشرب الخمر، وفي تشريع الحجاب للمرأة المسلمة، وفي غيرها من أحكام الإسلام التي تشمل جميع نواحي الحياة. ويدافع النبي صلى الله عليه وسلم عن أخيه موسى عليه السلام، ويمنع من تفضيله عليه إذا كان على وجه الحمية والعصبية وانتقاص المفضول، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها شيئاً فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر! فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه وقال: تقول: لا والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبا القاسم! إن لي ذمة وعهداً، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لِمَ لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤي الغضب في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من أبعث فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي؟). فانظروا إلى هذا التواضع من نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، وهذا الدفاع عن موسى كليم الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم. ولا شك أن الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والآخرين، وهو سيد ولد آدم، ولكن المفاضلة الخاصة بين نبيين إذا جاءت على وجه الحمية والعصبية والتنقص للمفضول فلا تجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا يعلمنا دروساً تربوية كبرى، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه كيف يكون احترام أنبياء الله ومعرفة منازلهم. وإن بغضنا لليهود أو النصارى لأجل كفرهم وشركهم، وتحريفهم لكتبهم، وكفرهم وتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ كل ذلك لا يجعلنا نتعدى أو نظلم فنتكلم بكلام قد يشم منه التنقص لأنبياء الله الصادقين. وتلك -والله- دروس تربوية من هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام تعلمنا كيف تكون مدرسة الأنبياء مدرسة واحدة. ولكن لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: (نحن أحق بموسى منكم؟) هذا ما سنعرض له إن شاء الله لاحقاً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والوثنيين وأتباعهم يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى الإيمان، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا على الإيمان، اللهم أعذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح أولادنا، وبيوتنا، وجميع المسلمين يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

نحن أحق بموسى منكم [2]

نحن أحق بموسى منكم [2] إن هذه الأمة يوم أن تؤمن بالله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتستقيم على أمر الله، فهنالك تكون أحق بالأنبياء من الأمم التي كذبتهم، وأعرضت عما جاءوا به. وإن الناظر في حال اليهود مع أنبيائهم ليرى عجباً! فقد عصوهم، واعترضوا على كثير مما جاءوا به، وطلبوا منهم ما لا يجوز طلبه، وأدى بهم الأمر إلى أن قتلوا بعضهم، وحرفوا دينهم؛ لذلك حلت عليهم اللعنة والغضب، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وفرقهم أمماً في بقاع الأرض، فمثل هؤلاء لا حق لهم بالانتساب إلى الأنبياء عليهم السلام، إلا من آمن منهم بنبيه، وآمن بنبينا محمد خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام.

أحقية النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة بموسى من اليهود

أحقية النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة بموسى من اليهود إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا في هذه الخطبة هو: لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه وأمته أحق بموسى من اليهود؟ وما الذي صنعه اليهود حتى لم يكونوا أهلاً للانتساب إلى نبي الله موسى وغيره من الأنبياء؟ إن اليهود الذين بعث فيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قد رفضوا الهدى بحجة اتباع الآباء والأجداد، فقد ورد أنه لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم من عذاب الله ونقمته، قال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف -وهما من أحبار يهود بني قينقاع-: بل نتبع -يا محمد- ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيراً منا، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فهذا هو التقليد الأعمى الذي يقوده الهوى والتعصب لقوميتهم وعرقهم، وهو التاريخ الممتد لهؤلاء اليهود منذ عهد يعقوب عليه السلام وإلى أن يخرجوا مع الدجال حين يخرج، حيث يخرج معه سبعون ألفاً من يهود أصبهان كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ويستثنى منهم المؤمنون الصادقون أتباع أنبيائهم، ومن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه.

اليهود وكفرهم ومكرهم وما حل بهم

اليهود وكفرهم ومكرهم وما حل بهم حتى لا يطول بنا المقام -فالحديث عنهم طويل- نجيب عن التساؤل السابق بما يلي: أولاً: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: (نحن أولى بموسى منكم) قائم على أدلة جاءته من ربه تبارك وتعالى، فيها ذم اليهود، والحديث عن طبيعتهم، ومكرهم، وكيدهم، وكفرهم، وتكذيبهم بأنبيائهم، بل وقتلهم لهم إلى آخر ما ورد فيهم في كتاب رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فالعداء معهم ليس سببه قضية أو أزمة معينة إذا انتهت زال العداء، واسمعوا إلى قول الله تعالى عنهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167] وهذا التأذن -وهو: الإعلام- مبني على ما علمه الله من طبيعة هؤلاء. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية: وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة؛ ولهذا تلقيت باللام في قوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي: على اليهود (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، ويقال: إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج. ثم كانوا -أي: اليهود- في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجزية والخراج. ثم جاء الإسلام ومحمد عليه أفضل الصلاة والسلام فكانوا تحت صغاره وذمته يؤدون الخراج والجزية. قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه -أي: عن ابن عباس -: هي الجزية، والذين يسومونهم سوء العذاب هم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة. قلت -القائل ابن كثير -: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصاراً للدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك آخر الزمان. فهذا خبر الله عن ملاحمنا مع اليهود، فهل نعي -أمة الإسلام- هذه الحقائق القرآنية التي لا يتطرق إليها شك ولا ريب أبداً؟!

خيرية هذه الأمة

خيرية هذه الأمة اسمعوا إلى هذه الآيات التي تبين الفرق بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب من اليهود وغيرهم، وكيف يكون الصراع بينهم: قال الله تبارك وتعالى عن المؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] انظروا إلى هذا الوصف: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:110 - 112]. فخيرية هذه الأمة في نفسها، وخيريتها للناس حين تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله تبارك وتعالى، ومن ثم فإن خيريتها المتعدية تصل حتى إلى أهل الكتاب، وإلى الكفار، وإلى غيرهم ممن يقع في أسر المسلمين؛ لأن أسرهم بيد المسلمين خير، فقد يكون سبباً لإسلامهم، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: (خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام)، ورواه البخاري مرفوعاً بلفظ: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل) قال العلماء: هؤلاء قوم كفار أسرهم المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، فعرفوا بعد ذلك صحة الإسلام، فدخلوا فيه، فيدخلون في الجنة يوم القيامة، والسبب الأول أنهم أُتي بهم أسارى مقيدين. فأنتم خير أمة في أنفسكم حينما تؤمنون بالله، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، ثم تنتقل هذه الخيرية لتتعدى إلى العالمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كان يوم كنا نقوم بما أمر الله، ونحقق مدلول هذه الآية. لقد انتقل المسلمون وعلى رأسهم الصحابة والتابعون إلى مشارق الأرض ومغاربها يبينون للناس، ويدلونهم إلى الهدى والحق حباً لنشر دين الله ورغبة في هداية الخلق أينما كانوا. فهذه هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما أهل الكتاب فمن آمن منهم -وهم قلة- فهم إلى خير وفلاح، أما من فسق منهم وكفر -وهم الأكثرون- فقد كتب الله عليهم الهزيمة حين يقابلهم المؤمنون الصادقون، قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أي: بعهد من الله، وعهد من الناس. وقال ابن كثير رحمه الله: أي: ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون إلا (بحبل من الله) أي: بذمة من الله، وهو عقد الذمة، وضرب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة، (وحبل من الناس) أي: أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة وكذا عبد على أحد قولي العلماء. (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي: ألزموا فالتزموا بغضب من الله، وهم يستحقونه. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي: ألزموها قدراً وشرعاً؛ ولهذا قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد، فأعقبهم ذلك الذل والصغار والمسكنة أبداً متصلاً بذلة الآخرة. إن من يحارب الله ورسوله وعباده المؤمنين، فلابد أن يكتب الله عليهم الهزيمة والذلة والصغار، ولهذا عاش اليهود في ذلة وصغار، وسيعيشون -إن شاء الله- في ذلة وصغار إلى أن يقتلهم عيسى بن مريم ومن معه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، حتى أن الشجر والحجر في تلك الملاحم لينطق ويقول: يا أيها المسلم! إن ورائي يهودياً فتعال فاقتله. لقد ابتلى الله تعالى اليهود بسبب خبثهم ففرقهم، قال الله تعالى عنهم: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف:168]. أيها الإخوة المؤمنون! إن هذه الحقائق ثابتة لا تتغير أبداً؛ لأنها لم تستق من كلام بشر، ولا من معاهدة ولا من غيرها، وإنما استُقيت هذه الحقائق من كلام رب العالمين تبارك وتعالى، وسواء منها ما يتعلق بدين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه كائناً من كان، أو ما يتعلق بطبائع أهل الكتاب عموماً واليهود خصوصاً، فنحن -والحمد لله- أحق بموسى وداود وسليمان وعيسى وغيرهم من أنبياء الله تبارك وتعالى من هؤلاء الذين كفروا وأشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطاناً.

عصيان اليهود وانحرافهم مع وجود أنبيائهم بين أظهرهم

عصيان اليهود وانحرافهم مع وجود أنبيائهم بين أظهرهم إن اليهود قد برزت انحرافاتهم الخطيرة واعتراضاتهم على شرع الله وأمره حتى وأنبياؤهم بين ظهرانيهم! فكيف بهم بعد موت أنبيائهم، وتحريف أحبارهم ورهبانهم لكتب الله المنزلة عليهم؟! وهذه نماذج مختصرة أشير إليها مع أنكم تعلمونها، لكنها من باب الذكرى؛ لأننا في زمن نخاف فيه أن تتغير الحقائق. حينما نجى الله موسى وبني إسرائيل من فرعون الطاغية بمعجزة عظيمة باهرة، وهي تحويل البحر إلى يبس يمرون عليه، ثم إغراق فرعون بعد ذلك؛ طلب بنو إسرائيل من موسى حين رأوا قوماً يعبدون الأوثان أن يجعل لهم إلهاً كما لهؤلاء آلهة، ولكن موسى نصحهم وبين لهم عقيدة التوحيد وخطر الشرك، وبين لهم بطلان ما يفعله هؤلاء؛ فكفوا عن ذلك مؤقتاً، فلما غاب عنهم موسى لمناجاة ربه عند جبل الطور سرعان ما عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري. وهذا أمر عجيب! نبي الله بين أيديهم يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك ويبينه لهم في قصة واقعية رأوها من هؤلاء القوم العاكفين على أصنام لهم، ثم يطلبون آلهة؟! ولكن سرعان ما نسوا هذا ليكونوا عبدة للعجل عندما غاب موسى عنهم، مع أن نبي الله هارون كان بين أظهرهم عليه الصلاة والسلام. وتعنتوا على موسى فقالوا له يوماً من الأيام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأخذتهم الصاعقة بكفرهم، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، ورجعوا إلى الطاعة. وقد كانوا أهل شهوة وعبادة مال، قالوا لموسى وقد منّ الله عليهم بأطيب الطعام المن والسلوى: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة:61] ماذا تريدون؟ يريدون البقل والفوم. ولما حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت احتالوا على ذلك بما قصه الله عنهم. ولما حرم الله عليهم الشحوم احتالوا فأذابوه وباعوه وأكلوا ثمنه. ولما سار بهم موسى إلى الأرض المقدسة لفتحها، وتقدموا إليها واستطلعوا أحوالها وأخبارها؛ قالوا لموسى: يا موسى! إن الأرض المقدسة تدر لبناً وعسلاً إلا أن سكانها من الجبارين. وأبوا الجهاد، بل قالوا -ويا عظم ما قالوا! -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فابتلاهم الله تبارك وتعالى بالتيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، قيل: إنهم كانوا يسيرون يوماً وليلة أو أكثر يبحثون عن مكان أو مدينة يأوون إليها، فإذا انتبهوا وجدوا أنفسهم في مكانهم الأول. فهذه حالهم ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم.

تعاظم انحراف اليهود بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام

تعاظم انحراف اليهود بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام لقد استمرت انحرافاتهم الخطيرة، بل وعظمت وطمت بعد موسى عليه الصلاة والسلام، فقتلوا عدداً كبيراً من أنبيائهم قال الله تعالى عنهم: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70]، وممن قتلوا يحيى وزكريا عليهما السلام، وآخر من حاولوا قتله عيسى الذي نجاه الله ورفعه، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي نجاه الله منهم وسلمه. وحرفوا دين اليهودية والنصرانية، فأما تحريفهم لدين اليهود وللتوراة فأمر معلوم، وأما تحريفهم لدين النصارى فبسبب بولس الذي يعظمه النصارى إلى اليوم، وقد كان له الدور الأكبر في تحريف الديانة النصرانية وتحويلها إلى التثليث والشرك، وهو يهودي من الفريسيين، وكان من ألد أعداء عيسى عليه السلام، فلما رفع دخل بولس في النصرانية، وادعى أن عيسى أوحى إليه أن يدعو إلى الديانة المسيحية، فنشط في الدعوة إليها، وزعم أنه يتلقى التعاليم من عيسى ومن الله إلهاماً، وصار أحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقاد النصارى، وصار بولس هذا معلماً لـ مرقس ولوقا صاحبي الأناجيل المعروفة المحرفة عند النصارى إلى اليوم، وهكذا بعد تحريف اليهود لديانتهم حرفوا الديانة والملة التي جاء بها رسولهم عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.

من عجائب استدلالات اليهود

من عجائب استدلالات اليهود من أعجب ما رأيت من تعلق اليهود بموسى وبما جاء به أمران: أحدهما: تعلقهم بما أخبر الله عنهم وامتن عليهم به من أن الله اصطفاهم على العالمين، فصاروا يزعمون أنهم شعب الله المختار، مع أن الله كتب عليهم الذلة والصغار وسوء العذاب إلى يوم القيامة، وإنما فضلهم الله تعالى على عالمي زمانهم فقط لما آمنوا واتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام، وهكذا نشأت هذه العقيدة العرقية العنصرية عندهم تحريفاً وتكذيباً بما أخبر الله تبارك وتعالى. الثاني: احتجاجهم على عنصريتهم لبني جنسهم، وجواز الاعتداء على غيرهم بقصة موسى حينما وكز المصري الفرعوني حين استنصر به الإسرائيلي الذي كان يختصم معه، فلما وكزه موسى قضى عليه، ولم يكن يقصد قتل الرجل وإنما أراد أن يدفع هذا الفرعوني عن الإسرائيلي بضربة تكفه عن الأذى، ولكن هذه الضربة -لقوة موسى- أدت إلى قتله، فلما رآه موسى قتيلاً {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، ثم أخذ يستغفر الله مما فعل، فغفر الله له، وكل ذلك كان قبل النبوة. لكن اليهود يحتجون بهذا على ما هو معروف من طبيعتهم ومواقفهم من غير اليهود، من جواز الاعتداء عليهم، وأكل أموالهم، وقتلهم ونحو ذلك، وليس هذا بغريب منهم فتلك طبيعتهم، وهذا منهجهم مع كتب الله، ومع أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.

موقف اليهود من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

موقف اليهود من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أما موقفهم من صاحب الرسالة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو معروف، فهم يعلمون علم اليقين أنه نبي ورسول إلى العالمين، ومع ذلك كفروا به، وآذوه، وحاربوه، وحاربوا أتباعه، ولا يزالون يحاربوهم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يقول لليهود: (نحن أحق بموسى منكم) إنما يقرر قاعدة عقدية كبرى لهذه الأمة الإسلامية، إن هذه القضية قضية كبرى بالنسبة لنا نحن المسلمين وخاصة في هذه العصور المتأخرة، فهل نعي حقيقة ديننا؟ وهل نعي حقيقة أعدائنا؟ اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بديننا، اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بديننا يا رب العالمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أحقية المؤمنين الصادقين بكل حق وخير ممن ادعاه كذبا وزورا

أحقية المؤمنين الصادقين بكل حق وخير ممن ادعاه كذباً وزوراً

أحقية المؤمنين بعيسى من النصارى

أحقية المؤمنين بعيسى من النصارى الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على صاحب الرسالة الخاتمة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: إن القاعدة التي هي نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) خطاباً لليهود، نستطيع أن نطبقها على غير اليهود من أهل الملل والنحل والفرق، فنطبقها على النصارى فنقول لهم: نحن المسلمين أحق بعيسى منكم، فهو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو نبي رفعه الله إليه إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان ليحكم بالقرآن، ويدعو إلى الإسلام وإلى الشريعة التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولن يقبل من اليهود ولا من النصارى جزية ولا عهداً ولا ذمة، وإنما سيقرر لهم ما يقرره المسلمون مع الكفار الوثنيين: إما الإسلام، وإما السيف، وذلك حين يقوم سوق الجهاد إذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام. فنحن أحق بعيسى من هؤلاء النصارى، ونحن نبرأ إلى الله ممن عبده من دون الله، أو من زعم أنه قتل وصلب، أو من حرف هذه الديانة وتلك الشريعة التي جاء بها هذا النبي الكريم، ومن ثم فنحن نبرأ إلى الله من الاعتراف بدينهم، أو تصديقهم به، ونؤمن ونصدق أن هؤلاء الكفار خالدون مخلدون في النار، ولا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى ولو وحدوا الله، ولو عملوا بما عندهم من التوراة أو الأناجيل، فهي منسوخة بالقرآن، ولن يكون أحد منهم مسلماً مؤمناً موحداً حتى يتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووالله! إني لأقرر هذه القضية من هذا المكان وأنا خجل؛ لأنها قضية بدهية، ولكن ماذا نصنع وبعض المسلمين اليوم بدأت تتغير عندهم هذه المفاهيم حتى في قضية تكفير اليهود أو النصارى، ولقد سمعنا من يقول: هؤلاء أهل كتاب، هؤلاء يدينون بكتابهم، هؤلاء أهل دين محترم، ونحن نقول: إن هؤلاء من الكفار، ولم يتميزوا عن الملحدين والوثنيين إلا بشيء واحد وهو: أنه تقبل منهم الجزية والأمان، وذلك رحمة بهم؛ حتى يدخلوا في دين الله تبارك وتعالى. أيها الإخوة في الله! إن ضرب الجزية والصغار على أهل الكتاب هو منهج دعوي عظيم إلى الإسلام؛ لأن هؤلاء لما كانوا بين ظهراني المسلمين، وكانت تفرض عليهم شروط الجزية والذلة والصغار، كان الواحد منهم يشعر بذلك، فإذا أراد أن ينتقل إلى عزة وكرامة فلا طريق له إلى ذلك إلا أن يدخل في الإسلام، فكان ذلك سبباً في دخول كثير منهم في دين الله تبارك وتعالى. إن هذه القضية تحتاج إلى بسط وبيان، لكنني أشير إليها هنا إشارة: إن اليهود أو النصارى ليسوا بمؤمنين ولا مسلمين، وليسوا من أهل الجنة حتى يؤمنوا بهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي بشر به أنبياؤهم من قبل، والذي نسخت شريعته شرائع الأنبياء من قبله، قال الله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

أحقية المؤمنين الصادقين بآل البيت من الرافضة

أحقية المؤمنين الصادقين بآل البيت من الرافضة يحق لنا أن نطبق هذه القاعدة: [نحن أولى بموسى منكم] على الرافضة الذين يلتقون مع اليهود في أشياء كثيرة منها: أنهم في يوم عاشوراء يقيمون المآتم لأن الحسين رضي الله عنه قتل في هذا اليوم، ونحن نقول للرافضة: نحن أولى بـ الحسين وبآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فنحن نحبهم، ونترضى عنهم، ونشهد لهم بما شهد الله، وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحب فاطمة وعلياً والحسن والحسين، ونحب خديجة أم فاطمة وبقية أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحب عائشة أم المؤمنين، ونحب بقية زوجاته الطيبات الطاهرات، فحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من منهاج أهل السنة والجماعة واقرءوا أي كتاب من كتب العقيدة التي تنهج نهج أهل السنة والجماعة، فستجدون فيها التصريح بموالاة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تفريط ولا إفراط، ومن هنا: فنحن أولى بآل بيت رسول الله من صحابته الكرام وغيرهم من هؤلاء الذين عبدوهم من دون الله، ونحن أولى بهم من هؤلاء الذين غلوا فيهم غلو اليهود والنصارى في أنبيائهم. أيها الإخوة في الله! يجب علينا -أهل السنة والجماعة- أن نعرف لأصحاب رسول الله، ولآل بيته الطيبين الطاهرين حقهم وقدرهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنحبهم، ونترضى عنهم، وندافع عنهم، ونكافح، ومن ذلك أن نبعد عنهم كل غلو أو تفريط. إن هذه الأمة وسط، وهي أحق بأنبياء الله؛ لأنهم آمنوا بجميع الأنبياء، وقد رفع الله هذه الأمة بالإسلام، ورفعها الله بالقرآن، ولا يكون ذلك إلا إذا عرفت قدر نفسها، وقدر دينها، واستيقظت من سباتها، وعلمت يقيناً حقائقها وعقائدها الثابتة التي لا تتغير ولن تتغير أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. إنها حقيقة كبرى يجب أن نعيها وعياً عملياً لا نظرياً، ويجب أن نربي عليها أنفسنا وأولادنا والمسلمين جميعاً، ويجب أن نقررها، وأن ندعو إليها. إن عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهاجهم مما يجب في هذه الأيام خاصة أن يقوم الداعون إلى الله بدور كبير في نشره بين العالمين بشتى الوسائل. اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين الموحدين في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم -يا إلهنا- نسألك أن تنصر كل مؤمن ومؤمنة في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أنزل على المستضعفين منهم السكينة والنصر المبين يا رب العالمين! اللهم انصر المؤمنين المجاهدين في بلاد البوسنة، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك -يا إلهنا- أن تدمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم إنا نسألك أن ترينا فيهم عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا، ولوالدينا، ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الثبات في الدنيا والآخرة، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة يا كريم! اللهم إنا نسألك أن تعيذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن. أيها الإخوة المؤمنون! يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأخص منهم الأربعة الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين، وآل بيته الطيبين الطاهرين، وبقية الصحابة أجمعين، ومن سار على منهاجهم يا رب العالمين! اللهم واسلكنا في سبيلهم غير مفرطين يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

§1/1