دروس للشيخ صالح المغامسي

صالح المغامسي

آيات وعظات

آيات وعظات مما يحتاجه المسلم أن يتذكر بالمواعظ والآيات التي تجدد الإيمان وتحييه في القلب، وتنوع الآيات والعظات من الكتاب والسنة وحياة الناس يزود القلب بالمعارف وتفتح قلبه على مدارك لم يكن ليعرفها من قبل، مع ما يحصل له من العظة والاعتبار.

الهدف من درس (آيات وعظات)

الهدف من درس (آيات وعظات) الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته, ودلّت على وجوده آياته ومخلوقاته, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع كل شيء رحمة وعلماً, وقهر كل مخلوق عزة وحكماً, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل العباد إيماناً، وأعظمهم بِراً وإحساناً, بشر الله جل وعلا به في الإنجيل، ونوه به في دعوة أبيه إبراهيم, وأيده في حياته وحياً وقرآناً, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اتبع أثره واقتفى منهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه (آيات وعظات)، وهي عنوان واحد لمواضيع متنوعات متعددات, نرتوي بها من معين القرآن ونقف على أسراره، وننهل من فيض هذا الكتاب العظيم وأنهاره، آيات وعظات نذكّر بها قلوباً تحنّ إلى مولاها، وترقبه عز وجل في سرها ونجواها. آيات وعظات نطمع بإذن الله أن نهذب بها أنفساً تطمح للمعالي، وتنظر بعين البصيرة النافذة في قرون مضت وأيام خوالي. آيات وعظات نقدمها في المقام الأول لطلاب العلم وأهله, وللسائرين والسائرات على طريق الله المستقيم, وللمعلمين والمعلمات والمربين والمربيات، الذين جندهم الله جل وعلا ليكونوا دعاة إلى صراط الله المستقيم. وإني لأرجو الله جل وعلا أن يرزقنا فيها التوفيق والسداد, كما أسأله جل وعلا أن يجعلها عملاً يراد به وجهه, ويتقى به سخطه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, كما أرجوه جل وعلا أن يجعلها نافعة نافذة قريبة من قول لبيد: رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعِد جودها فرهامها من كل سارية وغاد مدجن وعشية متتابع إرزامها فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها والعين عاكفة على أطلائها عوذاً تأجل بالفضاء بهامها فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها وإننا بعون الله تعالى سنفصح في أول الأمر عن تلك العناوين, ثم نسأله جل وعلا التوفيق في عرضها، فعناوين العظات، وهن ست: خطيب الأنبياء. قهر الرجال. الصديقة مريم. أعظم الغبن. ماء المحيا. العرش والقلوب. وهي في المقام الأول كما بينت سلفاً للقائمين بالدعوة إلى الله، إذ يرجى من هذه المحاضرة لقائلها قبل سامعها أن تكون عوناً في بناء النفس إيمانياً وعلمياً ومعرفياً, وما ذاك ليتم إلا بتوفيق الله العزيز العليم:

خطيب الأنبياء

خطيب الأنبياء

سبب سلب أخوة شعيب لقومه في سورة الشعراء

سبب سلب أخوة شعيب لقومه في سورة الشعراء يأتي إشكال علمي في قصة شعيب: وهو أنه قد ذكر الله شعيباً في الأعراف وفي هود وفي الشعراء وفي العنكبوت, قال في ثلاث منها: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] أي: بعثنا إلى مدين أخاهم شعيباً. لكن في الشعراء قال جل ذكره: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:176 - 177]، ولم يقل جل وعلا: (أخوهم شعيب). فذهب قليل من العلماء والمفسرين منهم قتادة رحمه الله: إلى أن (شعيباً) المذكور في الشعراء غير شعيب المذكور في هود والأعراف, وهذا خلاف الصواب، وإنما كان ينبغي أن يُبحث عن السر الذي من أجله قال الله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] ولم يقل في الشعراء: (أخوهم شعيب). وقد قال ابن كثير: إن الجواب عن هذا من فرائد العلم، والجواب هو: أن الله لما نسبهم إلى القبيلة والأرض وهي (مدين) أرضهم وقبيلتهم قال (أخوهم)؛ لأنه فعلاً أخ لهم، فهو ابن الأرض التي نشئوا بها وابن للقبيلة التي ينتمون إليها. ولما نسبهم إلى ما يعبدون من دون الله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} [الشعراء:176] برأ الله نبيه من أن يكون أخاً لهم، فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]. فبرأه الله جل وعلا من أن يصبغ عليه صفة الأخوة بعد أن نسب أولئك الكفرة إلى ما يعبد من دون الله جل وعلا! هذه -على وجه الإجمال- أولى العظات والوقفات مع خطيب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وأعظم الدروس المستفادة منها: أن سلاح العلم أعظم ما ينبغي على الداعية الموفق أن يتزود به. والنظر في أحوال القرآن وأنبياء الله ورسله ومواقفهم مع أقوامهم، من خلال تأمله وتدبره والتفكر فيه، يهيئ للداعية أن يكون داعية موفقاً مسدداً، والكمال عزيز، وكلنا ذو خطأ، وقد قال مالك رحمه الله ورحم الأئمة من بعده: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم!

أهمية السلطة لحماية الدعوة والدعاة إلى الله

أهمية السلطة لحماية الدعوة والدعاة إلى الله واستنفذ عليه السلام ما عنده لكن ما زال القوم على إصرارهم؛ لأنهم اختاروا طريق الضلالة: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، رغم أنهم كانوا عرباً فصحاء يدركون معاني ألفاظه، ولكن كما قلت: ضُرب على قلوبهم الران، فلم يريدوا أن يفقهوا شيئاً من دعوته: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91]. وهذا من أعظم الأدلة لمن قال من العلماء إن الدعوة لابد لها من سلطان يحميها, فالداعية في مكان مخصوص يحسن به أن يشكل عصبة, وأن يكون الرأي العام معه حتى إذا احتاج إليهم أعانوه في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى. وذلك أن لوطاً عليه السلام كان في أرض العراق، وآمن مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان لوط ابن أخ لإبرهيم، ثم هاجر لوط إلى قرية سدوم فبعثه الله جل وعلا إليهم، فلما دعاهم وجاءت الملائكة على صورة شباب حسان إلى لوط عليه الصلاة والسلام، وتآمر قومه عليهم، لم يكن للوط عصبة يحمونه ولا يدفعون الشر عنه؛ ولذلك قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، هذا الأمر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (فما بعث الله نبياً بعده -أي: بعد لوط- إلا وهو منعة من قومه)، فإن قوم الرجل وإن لم يؤمنوا به فينصروه، تأخذهم العصبة والحمية في أنهم لا يقبلون للداعية منهم أن يناله أذى. وهذا قد حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل بعثه من بني هاشم، وقد كان من أعز بيوت العرب في الجاهلية -كما هو معلوم- فلما قررت قريش حصار بني هاشم في الشعب اجتمع بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب، بل نقل بعض المؤرخين أن أبا طالب وهو على كفره ولم تكتب له الهداية، إلا أنه منعة وعصبية وحمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم كان إذا نام عليه الصلاة والسلام في الشعب وأدركته عيون قريش، يأتي فيحمل النبي عليه الصلاة والسلام ويضعه في مكان آخر، ويأتي بأحد بنيه، فيضعه في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه إذا حصل أذى ينال ابنه ولا ينال النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ينهى الناس أن يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وينأى بنفسه أن يدخل في دين الله جل وعلا! والمقصود أن من التوفيق والسداد أن يكون للدعوة سلطان يحميها. فلما قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]، لجأ عليه الصلاة والسلام إلى بلاغة الخطاب، فحيناً يؤثر وحيناً يغير: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:92 - 93]. وصل معهم إلى النهايات، قدّم الحجج ذكر البراهين، ذكرهم بالله، رغّب حيناً ورهب أحياناً، لكن قد كتبت عليهم الضلالة من قبل, فنزل العذاب فنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الله أهل الكفر والطغيان، قال تعالى: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:94 - 95].

استخدام الترغيب والترهيب في الدعوة إلى الله

استخدام الترغيب والترهيب في الدعوة إلى الله فلما أكمل أمره لجأ عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبين لابد لكل معلم ومربّ وداعية منهما: أسلوب الترغيب, وأسلوب الترهيب. فبعد أن عرض ما عنده قال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، ذكرهم بأيام الله الخوالي ووعظهم بأهل القرون الخالية والسنين الغابرة، كيف نكّل الله جل وعلا بهم لما خرجوا عن أمر الله. وقوله: {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} [هود:89]، إدراك لما في النفس الإنسانية، أن النفوس إذا أحبت أحداً أقبلت عليه ولو سقاها العلقم, وإذا أبغضت أحداً أدبرت عنه ولو أعطاها العسل صافياً! علم أنهم أبغضوه -لأنهم حسدوه على أنه نبي رسول- عرف قطعاً أنهم لن يقبلوا منه فقال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} [هود:89]. وقبل أيام -وهذا من جيد القول- أجرت إحدى الصحف لقاء مع السفير الإيطالي في بلادنا، الذي أعلن إسلامه مؤخراً، فقال كلمة تنطبق قريباً من تفسير هذه الآية، قال: ليس الأصم من لا يسمع، ولكن الأصم حقيقة من لا يريد أن يسمع؛ لأن الأصم حقيقة تستطيع أن تصل له بطريقة أخرى، لكن الذي لا يريد أن يسمع يصعب عليك إيصال الخير إليه، وكثير من الناس والعياذ بالله يكتب على نفسه الصمم، وهذا يواجه الدعاة والمربين والمعلمين كثيراً. فالبعض يكتب على نفسه الصمم، فلا يريد أن يسمع، ولا يريد أن يقبل، بل إن من الناس من يريد ألا يفكر أصلاً، والناس في التفكير ثلاثة: شخص لا يستطيع أن يفكر، فهذا مجنون. وشخص لا يريد أن يفكر، فهذا متعصب لما هو عليه. وشخص لا يجرؤ أن يفكر، وهذا والعياذ بالله عبد من العبيد لا يستطيع أن ينفك عن السير الذي هو عليه. قال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} [هود:89]، ثم أفرد قوم لوط بالذكر قائلاً: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]. وهنا تظهر احتمالات ثلاثة: إما أن يكونوا غير بعيدين عنهم مكاناً، أو زماناً، أو صفات, وأراد شعيب الثلاثة كلها: فقوم شعيب كانوا قريبين أرضاً من قوم لوط فكلهم في أطراف الشام. وكانوا قريبين زمناً, قال المؤرخون: ليس بين لوط وشعيب كبير زمن. ثم إنهم قريبون في الصفات، فكلا الفريقين مشركان بالله جل وعلا، شائع فيهما المنكرات في أنديتهم ومجالسهم، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة. ثم لجأ إلى الترغيب بعد أن أخذهم بالترهيب, فقال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90] , وذيّل ذلك الاستغفار بأنه رحيم ودود، والله جل وعلا أرأف من ملك، وأجل من ابتغي، وأوسع من أعطى، وأرحم من سئل، ولا ينبغي لمن يتصدر للدعوة أن يقنط الناس من رحمة الله جل وعلا مهما بلغت ذنوبهم ومهما بلغت معاصيهم, قال الله جل وعلا على لسان الخليل إبراهيم: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، وقال الله جل وعلا على لسان يعقوب: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].

فصاحة شعيب عليه السلام وحكمته في دعوة قومه

فصاحة شعيب عليه السلام وحكمته في دعوة قومه العظة الأولى: خطيب الأنبياء. بعث الله جل وعلا الرسل رحمة بعباده، وكانوا كما أخبر عليه الصلاة والسلام جماً غفيراً، وخلقاً كثيراً، منهم أربعة من العرب فقط، ذكرهم عليه الصلاة والسلام حينما قال لصاحبه أبي ذر رضي الله عنه: (هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر). وشعيب عليه الصلاة والسلام دل ظاهر القرآن، وذهب كثير من العلماء إلى أنه منعوت موصوف بأنه (خطيب الأنبياء) إذ كان يقرع الحجة بالحجة، ويبين لقومه بلسان عربي مبين، ما هم فيه من الضلالة وما يدعوهم إليه من الحق، ومن تأمل مسلكه في كتاب الله جل وعلا وطريق دعوته لقومه تبين له إصابة ما ذهب إليه جماهير العلماء من نعته عليه الصلاة والسلام بأنه خطيب الأنبياء، قال الله جل وعلا: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]. دعاهم أول الأمر إلى ما دعت إليه الرسل أجمعون، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فلا معروف أعظم من التوحيد، ولا منكر أعظم من الشرك. ثم لما كان حصيفاً عاقلاً خاطبهم بالمنكر الظاهر فيهم غير الشرك وهو: (التطفيف في الكيل والميزان)، فكانوا قوماً يأخذون الزائد ويعطون الناقص. والداعية الموفق المسدد إنما يخاطب كل قوم بالمنكر الذي هم فيه, فقد تصلح خطبة جمعة في مكان ولا تصلح في مكان آخر، وتنفع هذا الحي وقد لا تنفع آخرين في حي آخر، وقد يكون في مدرسة أو دائرة حكومية منكر بعينه، يجب توجيه الخطاب إليه، لكنه غير موجود في دائرة أو مدرسة أخرى، وأنبياء الله عليهم السلام كل منهم يدعو إلى التوحيد ثم يحذر قومه من المنكرات الشائعة إبّان بعثته بينهم بأمر الله تبارك وتعالى. فلما عرض عليهم ما عنده نالوا منه بتهكم وسخرية: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]. كلام يراد به الاستفزاز وإخراج الداعية عن طوره؛ ولكنه صلوات الله وسلامه عليه بقي صلباً ذا سكينة وهدوء، يدرك ما يقول (وما كل من أذَّن لك يجب أن تقيم له) فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه دون أن يتغير خطابه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. كلمات جميلة في مبانيها ومعانيها، ذكرهم بنعمة الله عليه من النبوة والرسالة، وبأنه واضح المنهج، مؤيد بالوحي، وأنه لا يريد التميز عنهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، أي: فأنا منكم وبكم، حتى لا يشعر قومه أنه يريد أن يتفرد بمنصب أو أن يعلو عليهم لأمر أو لآخر.

قهر الرجال

قهر الرجال

عبقرية سيبويه رحمه الله تعالى

عبقرية سيبويه رحمه الله تعالى هذا الرجل الذي مات بهذا القهر، ترك للناس -كما قلت- كتابه (الكتاب)، ولا يعرف بعد كتاب الله جل وعلا كتاب شرحه العلماء أو حاموا حوله أو طافوا ببابه مثل (كتاب سيبويه) وقد ترجم في عصرنا هذا إلى أكثر لغات العالم، وجامعة هارفوريد الأمريكية -وهي أرقى جامعات العالم أكاديمياً- تحتفظ بنسخ منه وتضع شهادات أكاديمية وترقيات علمية لمن يستطيع أن يبحث في كتاب سيبويه، بل إن نحوياً أمريكياً شهيراً اسمه (تشو مسكي) ظهر في هذا العصر كانت أول حياته للسياسة ثم تفرغ للنحو، وأخرج لجامعات العالم ما يسمى عالمياً (بالنحو التحويلي) ونظرية (تشو مسكي) في النحو التحويلي سارت بها الركبان في هذا العصر وهو حي يرزق الآن في جامعات العالم، ما قاله (تشو مسكي) في النحو التحويلي، وجد له أصل في كتاب سيبويه، فقد نبه إليه سيبويه من قبل ألف سنة كما بينا. كما أنه رحمه الله تعالى ذكر للناس طريقة جميلة في التأدب مع المشايخ والعلماء فقد كان شيخه الأول: الخليل بن أحمد، فكان حتى يميز الخليل، شيخه الأكبر والأجل والأول عن غيره، يقول رحمه الله في الكتاب: وزعم عيسى بن عمر: وحدثني أبو الخطاب، وأخبرني يونس، فيذكر أسماء المشايخ، فإذا قال: (حدثني) وذكر الخبر دون أن يذكر الفاعل، أو قال (سمعته يقول) دون أن يصرح باسمه، فإنما يقصد في المقام الأول شيخه الخليل بن أحمد فكان يرى أن شيخه هذا أجل من أن يذكر وأكبر من أن يسطر اسمه إلا في بعض مواطن من الكتاب لا تخفى لمن اطلع عليها. ثم إنه ضرب مثلاً في قوة النفوذ العلمي للكتاب، فالكتاب الحق هو الذي إذا خرج إلى الناس تقنع الناس مادته العلمية لا ما فيه من تقريض العلماء، وثناء الفضلاء، فإن الله جل وعلا لما أنزل كتابه قال في أول صفحاته بعد الفاتحة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، أي: دونكم الكتاب فاقرءوه، والله جل وعلا صادق ولا يقاس به أحد من خلقه، لكن هذا منهج في أن الإنسان إذا أراد أن يؤلف فليعتن بمادة الكتاب ولا يعنى بتقديم غيره له، حتى يكون كتابه أوقع في النفوس، وأملأ لليد، ويحتف به الناس. ف سيبويه لم يجعل لكتابه خطبة ولا مقدمة ولا قافية، وقد يقال: إنه مات قبل أن يخرج كتابه، لكن أياً كان الأمر فإن كتابه فريد عصره. والشاهد: أن ما حصل له هو دليل من أدلة ما يسمى بقهر الرجال. على أنه ينبغي أن يعلم كذلك أن ميدان التنافس الدنيوي يدفع الإنسان لتصرفات لا يحب أن يعامل بها، فيريد أن يصل قبل أن يكتب له الوصول. وأعلم يا أُخيّ! إن كنت طالب علم أو عالماً أو مربياً، أن ما كتبه الله لك لن يمنعك منه أحد، وما لم يكتبه الله جل وعلا لك فلن يصل إليك أبداً ولو اجتمع أهل الأرض على أن يوصلوه إليك، فالحق الذي لا مريه فيه أن تتأدب مع الأئمة الأعلام والأكابر الماضين إذا ألفت كتيباً. ومن قرأ مقدمة الشيخ الوالد محمد المختار رحمه الله في (شرح سنن النسائي الصغرى) يتعجب، فقد ذكر أنه دفعه إلى التأليف: أن الناس لم يحتفوا بسنن النسائي، وإلا فهو يرى نفسه أقل من أن يكتب أو يؤلف مؤلفاً، وذكر أبياتاً جميلة في هذا تنسب لأحد المالكية: متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا وإن ترفع الوضعاء يوماً على الوضعاء من إحدى الرزايا ومن يثن الأصاغر من مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا

من السنة التعوذ من قهر الرجال

من السنة التعوذ من قهر الرجال العظة الثانية: قهر الرجال: أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال). وأخرج أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً فرأى رجلاً من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال له: ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟ فقال: يا رسول الله! همٌ نزل بي وديون لزمتني، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا أعلمك كلمة إن قلتها أذهب الله همك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم، ومن العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). من الحديثين: يظهر أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ وأمر بالتعوذ من قهر الرجال، فما قهر الرجال؟ قهر الرجال في قول كثير من العلماء: ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغم، لغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق، وخصمه على الباطل. وأردت بهذه العبرة أن أذكر إخواني أن الحياة الدنيا ميدان تنافس، فربما غلبت المطامع الدنيوية على العبد فكان سبباً في قهر إخوانه حتى يصل إلى مبتغاه وأمله، فيجعل الطريق إلى مبتغاه أن يمضي على أكتاف الناس، وهذا خلاف اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدره، وفيه ما فيه من معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم.

حياة سيبويه العلمية ونهايتها بقهر الرجال

حياة سيبويه العلمية ونهايتها بقهر الرجال وكنت كلما قرأت أو سمعت هذين الحديثين، تذكرت إمام النحاة سيبويه رحمه الله تعالى. وذلك أن سيبويه -عليه من الله الرحمة والغفران- فارسي الأصل، نشأ في البصرة، وكان أول حياته يطلب الحديث، فجلس إلى شيخ يقال له حماد بن سلمة، وأخذ يقرأ عليه، فمر على حديث -بصرف النظر عن درجة صحته- فقرأه: (إنه ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس أبو الدرداء)، فأجرى سيبويه ما بعد (ليس) على عمل ليس في الاسم وهو رفع ما بعدها، فقال له شيخه: أخطأت يا سيبويه إنما هو استثناء، كان ينبغي أن تقول: ليس أبا الدرداء. فأطبق الكتاب، وقال: لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد، فلزم شيوخ البادية وعكف عند الخليل بن أحمد الفراهيدي يطلب منه العلم، وأخذ عن غيره من الأقران كـ يونس، وعيسى بن عمر وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك، حتى علا شأنه وهو صغير، وبز أقرانه، وتفوق على كثير من طلاب العلم، حتى أصبح وهو في العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه في إمامة النحو أحد. وكان في تلك الفترة قد ألف كتابه (الكتاب) ولم يخرجه للناس، وكتابه المسمى والموصوف بـ (الكتاب) في النحو، ألفه في أوائل القرن الثاني تقريباً، ومنذ عصره إلى اليوم لم يؤلف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم من كتاب سيبويه، مما يبين بجلاء أن للرجل قدم صدق واضحة وعلو كعب في علم النحو، وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك. ثم سمع ببغداد وكانت يومئذٍ عاصمة الخلافة، وكان أقرانه من الكوفيين كـ الكسائي وغيره يذهبون إلى بغداد، فينالون حبوة الأمراء وأعطياتهم وشرف المنازل، فأراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته فانتقل من البصرة وتوجه إلى بغداد ونزل عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، وأراد أن يكون مرحلة جديدة من حياته، فلما دخل على يحيى أقام يحيى مناظرة بينه وبين الكسائي زعيم نحاة الكوفة. وكانت اللعبة السياسية آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجه؛ لأن البصرة كانت في الماضي حليفة لبني أمية، فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب بني العباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة! وأقيمت المناظرة، وكانت في حال الاسم الواقع بعد (إذا) الفجائية، فكان سيبويه يرى أن حقه الرفع حالة واحدة لا تقبل الوجهين، وكان الكسائي يرى جواز الوجهين: الرفع والنصب. فقال لهما يحيى بن جعفر: اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه وجوه الأعراب ببابك قادمة من كل صقع فاجعلها تحكم بيننا. وكانت الأعراب يومئذٍ لم تخالطها العجمة، فيحكمون بين النحاة لأنهم على السليقة، وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد، فأراد الأعراب أن يمالئوا ويجاملوا الكسائي على سيبويه رغبة في المال والجاه والأعطيات، فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده وهو يعلم يقيناً أنه على الحق، قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم: إن الحق مع الكسائي! فلما قيلت هذه الكلمة انخفض خاطره وكسر ظهره وما جاء من أجله، فزاده الكسائي نكالاً فقال لـ يحيى: أيها الأمير! أصلحك الله، إن الرجل قدم يرجو أعطياتك فهلا جبرته، فأعطى يحيى سيبويه بعضاً من المال يريد أن يجبر به كسره، فخرج رحمه الله من عنده وقد أصابه من الغم والهم وقهر الرجال ما أصابه، يتوارى من الناس من سوء ما لحق به حتى إنه لم يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ، رغم أنه رحمه الله كان إذا خرج لصلاة الفجر سحراً وهو في الثانية والثلاثين من عمره يجد طلاب العلم يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر. فذهب هذا المجد كله وهو قد جاء ليؤثل مجداً جديداً وعملاً خالداً، فذهب إلى قرية من قرى فارس، ومر في طريقه على تلميذه الأخفش فبثه شكواه، وقال له بنجواه، وأخبره بالقصة ولم يستطع بدنه أن يتحمل ما أصابه من قهر وهم، فدب به المرض ولم يلبث إلا يسيراً حتى توفي، وعندما احتضر وشعر بدنو الأجل ذكر بيتين من الشعر تناسب حاله وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بآخر، فقال رحمه الله: يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية دون الأجل وبات يروّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى بارئها، فرحمه الله!

الصديقة مريم عليها السلام

الصديقة مريم عليها السلام

واجب الأمة تجاه فتن الفضائيات

واجب الأمة تجاه فتن الفضائيات لقد كثرت الفتن في عصرنا هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة: (سبحان الله ماذا أنزل الله الليلة من الفتن)! فكأنه عليه الصلاة والسلام ربط الفتن بالسماء, وعصرنا هذا قد ذاعت فيه القنوات الفضائية وشاعت, وهي في أكثر ما تمليه وغالب ما تعطيه، تصرف شباب الأمة وفتياتها عن طاعة الله جل وعلا, في تحد لا يسع أحداً يدعو إلى الله جل وعلا أن يسكت عنه, وإن مسئولية ما تمليه تلك القنوات يقع على الأمة بأسرها, فيقع على سائر الحكام والسلاطين من غير استثناء، ويقع على العلماء والدعاة, ويقع على أهل الثراء, ويقع على العامة. أما وقوعه على السلاطين والحكام: فإنه ينبغي أن يكون هناك قرار سياسي على مستوى الأمة يمنع ما تمليه تلك الفضائيات. وأما على مستوى العلماء: فإنه ينبغي على العلماء أن يبينوا ليلاً ونهاراً خطر ما تبثه تلك القنوات من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين. وأما على مستوى أهل الثراء: فإن كثيراً من تلك القنوات إنما تقوم على الزخم المادي الذي يعود إليها من خلال الإعلانات. وأما ما يقع على العامة: فإن المسئولية يوم القيامة مسئولية فردية, والله جل وعلا سيسأل كل أحد عن تقصيره وفعله وسمعه وبصره وفؤاده. وقد كتب قبل أيام في إحدى الصحف: أن إحدى القنوات -عياذاً بالله- في يوم الحج الأكبر -يوم العيد- عرضت فلماً يصور مشهد اغتصاب لممثلة قد أفضت إلى ربها، فالقائمون على تلك القنوات، والمنتجون لتلك الأفلام لم تسلم منهم امرأة تائبة ولا امرأة ميتة ولا امرأة معتزلة لكبر سنها. فما أن ينطق أحد بالعورات ويجهر بالفحشاء إلا ويتلقفونه في تسابق مذموم، يريدون أن يصرفوا همم شباب الأمة وشاباتها عن صراط الله المستقيم، وإيضاح هذا الأمر للناس أمر قرآني بحت، قال الله جل وعلا: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. لكني أكرر ما قلت في الأول: إن الخطاب في محاضرتي هذه لنخبة من المجتمع، وإن علينا أن نعرف كيف ننقذ بناتنا وأبنائنا من شر تلك الفتنة. إن الغريق يحتاج إلى طرف الحبل, ومن الحماقة أن يرمى للغريق بالحبل كله؛ لأنك إذا رميت للغريق بالحبل كله صار طرفاه بيده فيبقى غريقاً كما هو, لكن ضع طرفاً بيده وطرفاً بيدك! فيكون التعامل مع الشباب والشابات من غير أن نقطع الطريق معهم, ولا نطلب منهم أن يكونوا حالاً واحدة نقبلها أو حالة أخرى نرفضها، ولكن لا نيأس بل نبقي على خطوط الاتصال الدعوي معهم، ونبعدهم عن الرذيلة شيئاً فشيئاً، ونعنى بالإيمانيات أكثر من الفقهيات, ونضع لهم بدائل حتى ننتشلهم من أوحال الرذيلة. وتطالب الدولة -وفقها الله- وأهل الثراء من أهل القطاع الخاص بتوفير فرص عمل لهم حتى يكون وقت الفراغ بالنسبة إليهم قليلاً, كل ما يمكن صنيعه لهم أمر نتحمل جميعاً مسئوليته حتى نبقي على عفاف بناتنا وعلى حياء أبنائنا, فإذا بقي لبناتنا حياؤهن وعفافهن ولأبنائنا تمسكهم بدين الله جل وعلا حُفِظَت الأمة في أعز ما تملك، وهم شبابها وشاباتها التي تؤمل منهم الأمة أعظم مما يدخره أولئك الفجرة لهم.

الأسباب التي استحقت بها مريم منزلة الصديقة

الأسباب التي استحقت بها مريم منزلة الصديقة العظة الثالثة: الصديقة مريم: ذكر الله جل وعلا في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، منهم ثمانية عشر في سورة واحدة هي سورة الأنعام، وسبعة متفرقون, وذكر الله جل وعلا من الرجال الصالحين غير أنبيائه ورسله بأسمائهم الصريحة: تبعاً وذا القرنين ولقمان وطالوت وزيداً رضي الله تعالى عنه, وهؤلاء ليسو بأنبياء ولا رسل على الصحيح أو الأظهر, ولم يذكر جل وعلا في القرآن اسم امرأة إلا امرأة واحدة هي مريم ابنة عمران , ذكرها في مواضع متفرقة باسمها الصريح: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12]، وذكرها بالنعت الجميل: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، وذكرها بالاصطفاء: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]. فما الذي نالت به مريم بعد فضل الله هذه المنزلة؟ وهذه العظة قد تكون أنفع للنساء من الرجال. و A نالت الصديقة مريم هذه المنزلة بسببين, كلاهما مندرج تحت رحمة الله: السبب الأول: إيمانها وعبادتها. والسبب الثاني: عفتها وحياؤها. قال الله جل وعلا: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12].

نشأة مريم عليها السلام في بيئتها الصالحة

نشأة مريم عليها السلام في بيئتها الصالحة الله جل وعلا أنشأها أصلاً في ذرية قوم صالحين, والبيئة الصالحة تنشئ نبتاً صالحاً عقلاً ونقلاً. فليس النبتُ ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي السافلات حنة امرأة عمران نُشَّئت في بيت صالح من سلالة داود عليه السلام، وكانت لا تحمل, فجلست ذات يوم تحت شجرة, فجاء طائر فأطعم صغيره, فحنت للولد، ونذرت إن رزقها الله ولداً أن تجعله خادماً للرب في بيت المقدس. فحملت بإذن الله, وبقيت على نذرها ونسيت أنه من الاحتمال أن يكون أنثى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] أي: ما يصلح للذكر قد لا يصلح للأنثى، وما تقوم به الأنثى مختلف عن الأعباء التي حملها الله جل وعلا الرجال، لكنها مع ذلك أسمتها مريم، أي: عابدة الرب، ومن اللحظة التي ولدت فيها مريم أرادت أن يعتني بها ربها فقالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] وهذا دعاء! فكان الرد الإلهي: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، وكان نبي ذلك العصر. تكفلها زكريا بعد إجراء القرعة, فنشأت عليها الصلاة والسلام وقد اتخذت موطناً في المسجد يعرف بالمحراب, تعبد ربها وتقنت وتركع وتسجد، وليس لها همٌّ إلا طاعة الواحد الأحد. فلما تهيأت للعطاء الرباني بما أظهرته لله جل وعلا من تقوى وصلاح, كانت مع تقواها وصلاحها محافظة على عفتها وحيائها, ولا تملك امرأة شيئاً أعز من إيمانها وعفتها وحيائها أبداً. فخرجت ذات يوم لتطرد عنها الملالة شرقي بيت المقدس، قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]. فلما خرجت إلى شرقي بيت المقدس إذا بجبرائيل في صورة شاب تام الهيئة, جميل المنظر، بهي الطلعة, فتذكرت حياءها فذكرته بالله. والإنسان يخاطب الناس بخلفيته الثقافية, فلأنها تخاف من الله ذكرته بالله، ولأنها تعرف معنى التقوى ذكرته بالتقوى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، أي: إن كنت تقياً فاتركني في حالي. فلما نجحت في الابتلاء ولم تتنازل عن حيائها وعفتها, قال لها الملك: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] فتعجبت! {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:20]. وقد يقول قائل: كان المفروض عندما بشرها بالولد أن تعرف أنها ستتزوج؛ لأنه لا ولد إلا من زوج؟ لكن الذي دعاها أن تفكر في أنه لن يكون من زوج أن الملائكة قالت لها من قبل: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران:45]، فنسبوه إليها ولم ينسبوه إلى أب, فعلمت أنها لن تتزوج. {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]، فأخبرها أن إرادة الله لا يمنعها شيء أبداً: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم:21]. ولو أن الناس فقهوا هذه الآية فقط لما يئس أحد وهو يرفع دعاءه إلى الله جل وعلا, فإن الله إذا أراد أن يرحمك فلن يمسك رحمته أحد, وإذا أراد أن يمسك عنك رحمته -عياذاً بالله- فلن يرسل تلك الرحمة أحد: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]. وغاية الأمر: أن جبرائيل عليه السلام نفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى رحمها، فحملت بعيسى بن مريم عليه السلام.

أعظم الغبن

أعظم الغبن الوقفة الرابعة: أعظم الغبن: الغبن: لوعة في الصدر وحسرة وحرقة في القلب يجدها الإنسان على فوات مطلوب أو ذهاب مرغوب. وأهل الدنيا تصيبهم حالات الغبن إذا فقدوا شيئاً دنيوياً، إما تجارة كانوا يؤملونها أو عطاء لم يحضروا تقسيمه أو ما شابه ذلك. وأهل الآخرة سلك الله بي وبكم سبيلهم: إنما يصيبهم الغبن على أمور ربطها النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله بأحوال: فمن أعظم الغبن أن يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] , ويكتب للإنسان أن يقرأ القرآن سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً أزمنة مديدة وأياماً عديدة ولا تفيض عيناه مع أن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. ومن أعظم الغبن: أن يدرك الفرد منا أبويه أحدهما أو كليهما وهما أحوج الناس إليه, فلا ينال ببرهما الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الزمهما فثم الجنة). والله جل وعلا يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24]. ومن أعظم الغبن: أن يخرج الإنسان حاجاً إلى بيت الله الحرام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، فيكتب له أن يقف في يوم عرفة ويدعو الله ويغلب على ظنه بعد ذلك أن الله لن يغفر له. ومن أعظم الغبن: أن يقول الله جل وعلا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] , فيخبر الله أنها جنة عرضها السماوات والأرض ولا يجد أحدنا فيها موضع قدم. ومن أعظم الغبن: أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمن انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله جل وعلا بصالح أعمالهم, هذا ببره، وهذا بعفته، وهذا بأمانته, فتنزل على أحدنا النوائب وتحل به المصائب وتدلهم عليه الخطوب، ولا يجد في سالف أيامه عملاً صالحاً يتوسل به إلى الله. وإن من أعظم الغبن: أن يصدر الإنسان بين الناس ولا يكون له سريرة تعدل ما يجهر به، نعوذ بالله من الخذلان. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وكلنا اللهم إلى رحمتك وعفوك.

ماء المحيا

ماء المحيا

معنى ماء المحيا وأهمية الحفاظ عليه

معنى ماء المحيا وأهمية الحفاظ عليه الوقفة الخامسة: ماء المحيا تقول العرب: فكن رجلا رجله في الثرى وهمته في هام الثريا فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا ماء الوجه يرتبط بحالة الإنسان النفسية، فكلما خلا الإنسان من الهم والغم، ومن غلبة الدين وضيق الهموم كان وجهه صافياً. وقلة ذات اليد وغلبة الدين والفقر بوجه عام ليس عيباً قادحاً أبداً؛ لأنه مسألة قدرية، فالله -جل وعلا- يقول: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وقال سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27]، فلا يمكن أن يُقدح في أحد لأنه كان فقيراً أو قليل ذات اليد. وأقصد بـ (ماء المحيا): أن الكبار من الرجال، والأفذاذ من الأحرار، والأعزاء من العباد يعلمون أن من حولهم من الأهل، والقرابة، والإخوان، والأصحاب، والخلان قد يكونون قليلي ذات اليد، ويمنعهم إباؤهم وشيمهم وعزتهم أن يسألوا الناس، فيحاول ذلك القيّم، ذلك الأخ، ذلك الأب، ذلك المربي أن يبقى محيا أخيه محفوظاً، فيعينه دون أن يخدش حياءه؛ لأنه يعلم أن الاستجداء -وهو الإلحاح في الطلب- أمر غير مقبول.

أنموذج لإراقة الشعراء ماء وجوههم

أنموذج لإراقة الشعراء ماء وجوههم كان جرير أحد رموز الشعر العربي في عصر بني أميه، ولا يختلف أحد في أنه كان ذائع الصيت، ولديه من القدرة الشعرية ما لديه، لكنه مع ذلك لما استجدى بشعره وألحّ في الطلب وأراق ماء وجهه للسلاطين والخلفاء نزلت منزلته عند الناس. دخل على عبد الملك بن مروان ليقول له: أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح تقول العاذلات علاك شيب أهذا الشيب يمنعني مراحي؟ يكلفني فؤادي من هواه ظعائن يجتزعن على رماح عرابا لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح ولا خلاف في جمال المطلع، لكنه ينزل ليقول: تعزّت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوو امتياح أعلل وهي ساغبة بنيها بأنفاس من الشبب القراح أغثني يا فداك أبي وأمي بسيب منك إنك ذو ارتياح سأشكر إن رددت عليّ ريشي وأنبت القوادم من جناحي

محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على كرامة أصحابه

محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على كرامة أصحابه أقول: إن العقلاء لا يرضون هذا لمن حولهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أسوة في كل خير، فلما شعر عليه الصلاة والسلام بقلة ذات اليد عند جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في سفر له قال عليه الصلاة والسلام لـ جابر: (أتبيعني جملك؟ قال: نعم يا رسول الله بكذا وكذا). فاتفقا على السعر واشترط جابر أن يركب الجمل حتى يصل إلى المدينة فوافق النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم إلى المدينة أمر صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يعطي جابراً ثمن الجمل ثم رد الجمل إلى جابر، فكأنه أعطاه المال منحة وهبة لكن جعل البيع مدخلاً نفسيا إلى قلب جابر دون أن يخدش عزته وحياءه. والمرأة اللبيبة إذا شعرت أن إحدى جاراتها، أو زميلاتها، أو قريباتها قليلة ذات اليد انتهزت فرصة يتهادى النساء فيها في الغالب، كأن تضع المرأة مولوداً، أو تزف ابنة لها، أو تنتقل إلى دار جديدة أو ما شابه ذلك، فتأتي بالهدية على مستوى أعلى حتى تسدد شيئاً من فقر قريبتها أو غيرها من النساء، دون أن تجبر صاحبتها على أن تطلب ذلك الأمر جهاراً.

موقف المسلم مما يبذل له من مال

موقف المسلم مما يبذل له من مال وينبغي على الذين نهبهم ونعطيهم -إذا قُدر لنا ذلك- أن لا يصيب الإنسان غضاضة في ذلك الأمر، فإن الإنسان إذا أخذ مالاً دون أن يطلبه فقد وافق السنة، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر مالاً فقال: يا رسول الله! إن في المدينة من هو أفقر مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (يا عمر، ما جاءك من هذا المال من غير سؤال وإشراف نفس فخذه وتموله، فإما أن تنفقه على عيالك وإما أن تهبه لغيرك، وما كان لا فلا)، أي: وما لم يأتك فلا تطلبه ولا تسأله، قال سالم: فكان أبي لا يسأل أحداً شيئاً وإذا أعطاه أحد قبله. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أعطيات الحجاج بن يوسف رغم ما عرف عن الحجاج واشتهر أنه كان ظالماً غشوماً، وربما كانت غالب أمواله ليست من طريق شرعي سليم. والمقصود أن حفظ الإنسان لإخوانه وخلانه، ومراعاته لشئونهم، وتحمله لهم مادياً ومعنوياً مما يكتب له به الأجر، ومما يدل على السؤدد والمروءة وعلو القدر، وكلنا إن شاء الله طالب تلك الرفعة الدنيوية المشروعة.

العرش والقلوب

العرش والقلوب

كيف يعرف القلب اللين

كيف يعرف القلب اللين كيف يعرف الإنسان أن قلبه لين؟ يعرفه بطريقين: الأمر الأول: إجلال العبد لله جل وعلا. والأمر الثاني: متابعة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كان ابن عمر رضي الله عنهما له غلمان، فكان إذا رأى من أحد غلمانه التفافاً على الصلاة وانصرافاً إليها أعتقه حتى لا يحول بينه وبين العبادة، فكان باقي الغلمان يصلون أمامه وقريباً منه أملاً في أن يعتقهم رضي الله عنه وأرضاه فكان يعتقهم، فجاءه بعض خواص أهله وقالوا له: يا ابن عمر، إنهم يخدعونك وإنهم يصلون لتعتقهم! فقال رضي الله عنه وأرضاه: من خدعنا بالله انخدعنا له! فإجلاله لله جل وعلا يجعله يقبل خدعة هؤلاء الغلمان؛ لأن هؤلاء الغلمان جعلوا من تعظيم ابن عمر لله تبارك وتعالى وسيلة لنيل مآربهم، وتلك منزلة عالية، أين نحن منها؟ وأما اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القلوب اللينة التي فطرت على الطاعة لا يمكن أن تكون أعظم رقة وأقوم سبيلاً من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تنال تلك المنزلة إلا باتباعها لسنته صلى الله عليه وسلم وعكوفها حول شريعته عليه الصلاة والسلام. وقد يرى الإنسان بعض السنن أمراً يسيراً فلا يريد أن يصنعها، ظنا منه أنه يرقى إلى الأعلى. وليس الأعلى ما يوافق هواه، وإنما الأعلى ما وافق هدي محمد صلى الله عليه وسلم، أعني أنه ربما يجد المسافر أحياناً حرجاً أن يقصر الصلاة في السفر طمعاً في الكمال وهو أن يصليها أربعاً، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما أتم الصلاة في سفر قط! فالسنة والخير والهدى والسهولة واللين في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، فإذا أجلّ العبد ربه تبارك وتعالى واتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وغذّى قلبه بالذكر وتأمله بالفكر وألهمه الله عز وجل اليقين وحسن الطاعة، وجعل قلبه منزلة لمحبة الله ومعرفته فتلك أعظم المنازل وأعلى المراتب بلا شك، جعلنا الله وإياكم من أهلها. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تصلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وأن تبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم إنك خلقت جنة عدن بيدك، فأدخلنا اللهم الجنة برحمتك، اللهم إنك خلقت النار بأمرك فأجرنا اللهم من النار بقدرتك، اللهم إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك وحدك وملكك لا ينازعك فيها أحد، فاللهم فك أسر إخواننا المسجونين المأسورين في كوبا يا رب العالمين، اللهم نجهم بقدرتك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل لهم منجى ومخرجاً إنك أنت العزيز الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.

صفة العرش

صفة العرش الوقفة السادسة والأخيرة: ينبغي أن يعلم أن كل ما سلف مرهون بالوقفة السادسة! وهذه الوقفة عنوانها (العرش والقلوب). عرش الله جل وعلا سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو أعلى الموجودات وأعظمها قدرا وأطهرها ذاتاً، ولذلك صلح أن يستوي الله عز وجل عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، مع يقيننا أن الله مستغن عن العرش وعن غير العرش؛ لكنه قال سبحانه وهو أصدق القائلين: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأخبر سبحانه أنه رب هذا العرش العظيم فقال سبحانه: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون:86]. وقال جل ذكره: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]. وقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:14 - 15]. وهذا العرش يحمله ثمانية من الملائكة، إما أن يكونوا ثمانية أفراد، وإما أن يكونوا ثمانية صفوف. قال فريق من العلماء: إن أربعة من أولئك الملائكة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك! وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.

الرابط بين العرش والقلوب

الرابط بين العرش والقلوب قال ابن القيم رحمه الله: إن العرش لما طهُر صلُح لأن يستوي الله جل وعلا عليه، وخلق الله القلوب، فالقلب إذا طهُر صلح أن يملأ بمحبة الله جل وعلا ومعرفته وإرادته. وأقرب القلوب من العرش ومن الله جل وعلا أكملها طهارة وأعظمها نقاءً، وأبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]. قال العلماء: إنه ما من شيء يعذب به العبد أعظم من أن يجعل الله تبارك وتعالى، قلبه قاسياً. وقالوا: إنه إذا هبّ نسيم الشوق إلى الله جل وعلا أذهب ما في القلوب من التعلق بالدنيا وزخرفها. وهذه القلوب جعلها الله آنية، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله آنية من أهل الأرض، وآنية الله من أهل الأرض قلوب عباده الصالحين التي ملأها من محبته وطاعته ومعرفته جل وعلا). وحتى يكون الأمر أوضح: فإن الفؤاد هو عمق الدائرة النفسية كما يقول علماء النفس، وهذا له شاهد من القرآن، فإنه ينبغي عليك أن تتذكر كل آن وحين أن الله جل وعلا خلق النار ليذيب بها القلوب القاسية، قال سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:5 - 7].

من روائع القصص القرآني

من روائع القصص القرآني إن قصص القرآن معين لا ينضب وزاد لا يفنى في توجيه العباد وإرشادهم، وفي تنبيههم وتحذيرهم، وبلاغة القرآن وحسنه في صياغة تلك القصص لا تخفى على المتدبر والمتأمل، فربما ساق الله تعالى بعض القصص مراراً في عدة سور ولكنك تراها تختلف سياقاً وسجعاً وترتيباً من سورة إلى أخرى حسب ما يناسب كل سورة. فوجب علينا أن نتعظ بتلك القصص القرآنية، ونعرف الحكمة من ذكرها، فإن ذلك ينفع العبد في دنياه وأخراه.

تفسير آيات مقتطفة من سورة الحج

تفسير آيات مقتطفة من سورة الحج إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذا اللقاء المبارك الذي هو أول اللقاءات المنتظمة من المهم جداً أن ننبه على المنهج والطريقة والمقصود منه، عل الله أن ينفع به القائل والسامع. فنقول: هذه اللقاءات سنتأمل فيها ذكر كلام الله جل وعلا، وسنعرج فيها على بعض سور القرآن، والسورة نأخذها غالباً في لقاء واحد، فنقف عند بعض آيات منها مما يغلب على الظن أننا إذا فهمناه فهمنا كثيراً من السورة، أو عرفنا المراد العام من هذه السورة التي نحن بصدد التأمل فيها. والدرس لن يكون غالبه إيمانياً، ويقولون: مقدمة كل محاضرة كمقدمة كل كتاب، وهي عبارة عن عقد ما بين من يسمع وبين من يقول حتى يحاكم الإنسان على كلامه من الأول، فالمقصود من هذه اللقاءات في هذا المسجد المبارك التأصيل العلمي، والمعنى: أن طلبة العلم هم المخاطبون الأولون بهذه المحاضرة، فهذا درس علمي وليس وعظياً، والمقصود الأسمى منه بناء جيل علمي يفقه القرآن، ولا يوجد شيء أقوى في طلب العلم من ضبط القرآن حفظاً وفهماً؛ لأنه أول العلوم، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله وسنتي). وأنا أعلم أن في هذا المسجد دروس في شروح السنة كثيرة ولله الحمد، فمن المناسب أن يكون هناك درس في القرآن.

اختلاف العلماء في مدنية سورة الحج ومكيتها

اختلاف العلماء في مدنية سورة الحج ومكيتها والسورة هي سورة الحج، وقد اختلف العلماء فيها هل هي مكية أو مدنية، ولم يقل أحد بمكيتها كلها، ولم يقل أحد بأنها مدنية كلها، لكن الاختلاف هل أكثرها مكي وبعضها مدني أو العكس. وقد سميت باسم عبادة، فالعبادات أربع: الصلاة والصيام والزكاة والحج، ولا يوجد سورة في القرآن باسم الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة، ويوجد سورة الحج؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها أحكام الحج.

من المهم فهم أول السورة وآخرها

من المهم فهم أول السورة وآخرها قال الله في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. وقال في خاتمتها: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، وتستفيد بالتدريس أنك من المهم جداً أن تفسر فاتحة السورة وخاتمتها، فإذا أردت أن تتأمل سورة من القرآن من المهم جداً أن تفقه أولها وتفقه آخرها، ثم تعرج على بعض الآيات فيها.

تفسير مفردات قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)

تفسير مفردات قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) نبدأ بالمقدمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. الزلزلة في اللغة: التحريك، والحمل بكسر الحاء ما يكون على الظهر، والحمل بفتح الحاء ما تحمله المرأة في بطنها. والعرب تقول: امرأة مرضِع ولا حاجة لأن تقول: مرضعة، ويقولون: امرأة حامل؛ لأن الرجل أصلاً لا يرضع ولا يحمل، فلا حاجة لأن يضعوا التاء، لكن الله قال هنا: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) فأضاف التاء، ولا يمكن أن يكون إضافة التاء هنا لغير مقصد، بل لا بد من مقصد، لكن أنا أولاً أحرر الألفاظ قبل أن أجمع شتاتها، ولم يقل الله جل وعلا: وتضع كل حامل، قال: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا). فالمرضعة بالتاء هي من تلقم وليدها أو رضيعها الثدي، يعني: تباشر عملية الرضاعة، وأما المرضع فيطلق على كل امرأة قابلة لأن ترضع، فكل امرأة متزوجة قابلة لأن ترضع؛ لأن اللبن من الرجال من الأب من الزوج أب المولود، لكن الله قال هنا: مرضعة بالتاء، والمعنى حال كونها ترضع وتباشر الرضاعة. وقال جل ذكره: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ) أي: وقت أنها حامل ومباشرة للحمل، يعني: أن الجنين ما زال في بطنها، فهذا معنى قول الله جل ذكره: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا). (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) السكارى: هم من يتخبطون وهم مذهولون لا يدرون، وقول الله جل وعلا: (وما هم بسكارى) نفي لحقيقة السكر، أي: أنه ليس سكراً ناتجاً عن خمر. ثم قال الله جل وعلا: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) هذا مجمل ألفاظ الآية.

التفسير المعنوي لقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)

التفسير المعنوي لقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) وأما جمع شتاتها فعلى النحو التالي: قال الله: (يا أيها الناس) وهذا نداء عام، ولا يسمى نداء كرامة، إنما نداء الكرامة في القرآن (يا أيها الذين آمنوا)، أما (يا أيها الناس) فهذا نداء لكل الخلق، فيدخل فيه كل أحد مؤمناً كان أو كافراً. (يا أيها الناس اتقوا ربكم) تقوى الله هي الدين كله، ووقف صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء يوم حجة الوداع يقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم، وصلوا فرضكم) وذكر أموراً، لكن بدأها صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، وجملة ما يمكن أن يقال في معنى تقوى الله: ألا يفقدنك الله حيث أمرك، ولا يرينك الله حيث نهاك، فمن وفق أنه لا يفقد في مكان أمره الله فيه، ولم يوجد في مكان نهاه الله عنه فقد أخذ بالتقوى من حيث العموم، وفسرت التقوى بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.

اختلاف العلماء في وقت هذه الزلزلة

اختلاف العلماء في وقت هذه الزلزلة والمقصود أن الله دعا عباده أجمعين إلى تقواه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، وهنا خلاف واقع بين العلماء: متى تكون زلزلة الساعة؟ وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة قولان: فقال فريق منهم: إن زلزلة الساعة المقصود بها آخر أيام الدنيا قبل بعث القبور. وحجة من قال بهذا القول: أنه بعد البعث والنشور لا حمل ولا رضاع، وأن الزلزلة بمعنى التحريك إنما تكون قبل فناء الناس، وإنما يكون هذا في آخر أيام الدنيا، وهذا القول قال به طائفة من السلف، واختاره بعض المفسرين، وله حظ كبير من النظر، إلا أن هذا التفسير يعارض نصاً صريحاً، وما دام يعارض نصاً صريحاً فإنه يعتذر لمن قال به من العلماء، ويؤخذ بالنص الصريح. والنص الصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (إن الله جل وعلا يقول لآدم يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: يا رب! لبيك وسعديك، فيقول الله له: يا آدم! أخرج بعث الناس، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فقال صلى الله عليه وسلم: فعندها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الصحابة فبكوا رضي الله عنهم وأرضاهم، فرق لهم صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج كذا وكذا، ثم قال: إني لأرجو الله أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال: أرجو الله أن تكون ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو الله أن تكونوا شطر أهل الجنة فكبروا)، جعلنا الله وإياكم ممن يدخل في هذا الدعاء النبوي. قال الله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] هذه الزلزلة اتفقنا على أن المختار من أقوال العلماء أنها بعد البعث، فيأتي هنا إشكال وهو: كيف يكون هذا الزلزال والناس على أرض بيضاء نقية؟ وهنا يجب أن يقال: ليس المقصود بالزلزلة هنا تحريك الأرض، وإنما المقصود تحريك القلوب بما يقع فيها من فزع ورعب وخوف، هذا المقصود بزلزلة الساعة. فإن قال قائل: أين الدليل من القرآن على أن الزلزلة تأتي بالخوف؟ قلنا له: قال الله جل وعلا في سورة الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، ومعلوم أن معنى آية الأحزاب بالاتفاق زلزلوا زلزالاً شديداً بما كان هناك من خوف ورعب وفزع في القلوب جراء إحاطة الأحزاب بالمدينة، فهذا يدل على أن الزلزلة في القرآن تطلق على ما يقع في القلب من رعب وخوف وفزع، فينتهي بذلك الإشكال.

إذا توفيت المرأة وهي حامل فإنها تبعث وهي حامل

إذا توفيت المرأة وهي حامل فإنها تبعث وهي حامل {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2] الراجح عند العلماء أن المرأة إذا توفيت وهي حامل فإنها تحشر وهي حامل، وإذا توفيت وهي ترضع أو حالة وهي مرضعة فإنها تحشر وهي ترضع، فإذا رأت العرض يوم القيامة ذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها كما أخبر الله، هذا فك ما في الآية.

المشقة تجلب التيسير

المشقة تجلب التيسير {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، هذه قاعدة أن المشقة تجلب التيسير، والفقه الإسلامي مبني على خمس قواعد وهي: المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والأمور تبع للمقاصد، والعرف محكم، واليقين لا يزول بالشك. قد أسس الفقه على نفي الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر ونفي رفع القطع بالشك وأن يحكم العرف وزاد من فطن كون الأمور تبع المقاصد مع التكلف ببعض وارد فهذه الخمس عليهن قام الفقه الإسلامي، وهذه أولها، قال الله جل وعلا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] عليه السلام، وهو أبو الأنبياء، فالأمة تنسب إليه لكونه أباً لنبينا صلى الله عليه وسلم، وتنسب إليه الملة لأن الله جل وعلا حصر النبوة بعده فيه. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ} [الحج:78] الضمير ليس عائد إلى إبراهيم، كما في مثل: إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، فهو عائد على رب العزة، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح قال: (وأنا آمركم -يقول للصحابة- بخمس: بالسمع، والطاعة، والهجرة، والجماعة، والجهاد، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية، ثم قال: وإياكم ودعوى الجاهلية، فإن من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم، قالوا: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، تسموا بما سماكم الله به -هذا موضع الشاهد-: المسلمين المؤمنين عباد الله)، هذه الثلاثة قالها النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن القرآن، وعلى هذا لا يوجد عاقل يملك عقلاً كاملاً يخرج من سعة الكتاب والسنة إلى ضيق أي جماعة أو حزب أو أي شيء يحصر الناس في شيء واحد، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولا يوجد اسم أشرف من أن نتسمى بالمسلمين المؤمنين عباد الله، وهذه وصية نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي في القلب وعلى الرأس والعين. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] متى؟ {مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: في الكتب المتقدمة، كما في التوراة والإنجيل، {وَفِي هَذَا} [الحج:78] أي: القرآن، فيصبح معنى الآية: الله سمانا المسلمين في الكتب المتقدمة، وهذا معنى: (من قبل)، وسمانا المسلمين (في هذا) أي: في القرآن، لأي شيء؟ {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج:78]، فالرسول عليه الصلاة والسلام شهيد على أمته، وأمته عدل يوم القيامة يقبل الناس أن تكون شهيدة على غيرها من الأمم، كما قال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78]، وقرن بين عبادتين عظيمتين قلما تفترق إلا لحكمة في كلام الله، وهما: الصلاة والزكاة. ثم قال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] أي: على قدر اعتصامك بالله تكون نصرة الله جل وعلا لك، فينصر العبد ويحفظ ويكلأ ويسدد بمقدار قربه من الله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب جل جلاله، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].

الجهاد في سبيل الله أعظم النوافل على الإطلاق

الجهاد في سبيل الله أعظم النوافل على الإطلاق قال الله في الآية الأخيرة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، (جاهدوا في الله) الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو أعظم النوافل على خلاف بين العلماء، لكن نحن نعتقد والعلم عند الله أن الجهاد أفضل النوافل على الإطلاق، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الأيام العشر من ذي الحجة: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، قال الصحابة: ولا الجهاد في سبيل الله؟) والمعنى: أنه استقر في أذهانهم أنه لا شيء يعدل الجهاد، ولهذا حتى الجواب النبوي قال عليه الصلاة والسلام: (ولا الجهاد في سبيل الله، - ثم استدرك فقال -: إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء). وقد ورد الحق مرتين في القرآن: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وهذا باعتبار كل عبد لوحده، فإذا استفرغ الإنسان جهده وبذل كل ما في وسعه في تقوى الله فقد اتقى الله جل وعلا حق تقاته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ويقع على زيد ما لا يقع على عمرو، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن المكلفين يختلفون ما بين القدرة والعجز، وما بين العلم والجهل. فالناس متفاوتون، فكل من بذل وسعه في شيء فقد أداه حق ما أمره الله جل وعلا به. والجهاد أحد الأمور التي أسندها الله جل وعلا إلى ولي أمر المسلمين، فهو أبصر في إعلانه من عدمه، فأوكله الله جل وعلا إلى ولاة الأمر على مر الدهور وكر العصور. {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: هذه الأمة، فربكم اجتباكم واصطفاكم ليجعلكم آخر الأمم.

سبب تقديم الصابئين على النصارى هنا بخلاف ما في سورة البقرة

سبب تقديم الصابئين على النصارى هنا بخلاف ما في سورة البقرة والآية قبل الأخيرة قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ذكر الله هنا الأمم المعاصرة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين آمنوا هم أمة الإجابة، وهم الذين أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (والذين) فكرر الاسم الموصول، (هَادُوا) بمعنى رجعوا وتابوا كما في قوله: {هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، وهي لقب على اليهود، وكان لهم فضله ومعناه، فلما لم يؤمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الفضل وبقي المسمى، فهم يسمون اليهود. قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} [الحج:17] ولم يقل: والنصارى، وقال في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، ففي آية الحج قدم الصابئة على النصارى، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئة، فقدم النصارى على الصابئة في البقرة؛ لأنه جل وعلا ذكرهم باعتبار أن النصارى أهل كتاب، والصابئة لا كتاب لهم، فأهل الكتاب مقدمون على غيرهم من غير أهل الكتاب. وأما في سورة الحج فقدم الصابئين؛ لأن الله أراد التسلسل الزمني التاريخي، فاليهود كانوا على عهد موسى، ثم ظهرت الصابئة في العراق، ثم بعث عيسى عليه السلام فاتبعه النصارى، فمن حيث الظهور الزمني التاريخي الصابئة قبل النصارى، ولهذا قدمهم الله هنا. (والمجوس) هم عبدة النار، وهم يقولون: إن الليل أصل في كل شر، والنهار أصل في كل خير، قال المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب أي: أنهم كاذبون فيما يقولون، فهؤلاء هم المجوس عبدة النار ومنهم أبو لؤلؤة المجوسي الذي قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. (والذين أشركوا) يدخل فيهم كفار مكة ومن كان من مشركي العرب، وهذه الجملة: (إن الذين آمنوا إلى والذين أشركوا) جملة ابتدائية خبرها: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] وانتهت الجملة، ثم جاءت جملة استئنافية: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، فهذه جملة استئنافية جديدة لكنها مسوقة مساق التعريف، بمعنى: أن الله بما أنه جل وعلا هو الشهيد المطلع على أعمالهم جميعاً فهو وحده جل وعلا القادر على أن يحكم بينهم جميعاً يوم القيامة.

استواء الحج ماشيا وراكبا في الفضل

استواء الحج ماشياً وراكباً في الفضل {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] رجالاً جمع راجل، وراجل هنا بمعنى من يمشي على قدميه، (وعلى كل ضامر) الضامر: من التصق جانبا بطنه به، والمقصود أن الإبل والدواب لا تصل إلى البيت إلا وقد ضمرت من طول المسافات، ومكة منطقة جبلية. {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] والنون في يأتين ليست ممدودة، وإنما هي نون لوحدها نون النسوة، وسبب وجودها قوله جل وعلا: (كُلِّ ضَامِرٍ)، فهذه الظوامر جمع تكسير، والعرب تلحق تاء التأنيث ونون النسوة بجمع التكسير. وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] فهم منها بعض العلماء - كما هو ظاهر مذهب مالك - أن الحج ماشياً أفضل؛ لأن الله قدم الماشين على الركبان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه هذه الآية وهو أفقه الناس بالدين، وقد حج صلى الله عليه وسلم راكباً، فدلت الآية على جواز الأمرين، لكنها لا تدل على فضل المشاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً.

بناء الكعبة كان قبل إبراهيم عليه السلام

بناء الكعبة كان قبل إبراهيم عليه السلام والآية التي بعدها نختار قول الله جل وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:26 - 27] نتكلم عنها إجمالاً. يتكلم الله عن أب الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويقول جل ذكره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] بوأنا لإبراهيم: مكان البيت، وهذا فيه دلالة ظاهرة لمن قال: إن البيت بني قبل إبراهيم، وإنما أذهب معالمه الطوفان، فحدده الله لإبراهيم، فكيف حدده؟ نقل عن مسلمة بعض أهل الكتاب: أن ريحاً جاءت فكنست ما حوله فأضحت بقة البيت واضحة، فبنى إبراهيم عليها، قال الله في البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127]. {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26] هذا تقريع لكفار قريش الذين جعلوا من البيت الذي وضع ليوحد الله عنده جعلوه رمزاً للشرك، فعلقوا عليه الأصنام.

الأصل أن صحن البيت يكون للطائفين قبل غيرهم

الأصل أن صحن البيت يكون للطائفين قبل غيرهم {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] طهارة مادية ومعنوية، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وتقديم الله للطائفين يدل على أن الأصل أن صحن البيت للطائفين، فالذين يأتون قبل الأذان في صلاة الفجر أو في غيرها ثم يجلسون يقولون: نريد الصف الأول، ويعضد بعضهم بعضاً حتى يأتي الأئمة، فهؤلاء قد يؤجروا على حسن نيتهم لكنهم ما فقهوا مراد الله ولا مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قدم الله الطائفين هنا ولا في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] إلا لبيان أن الأصل أن الصحن للطائفين، وإنما يطوف هؤلاء الطائفون حتى تقام الصلاة، فإذا أقيمت الصلاة اصطفوا مع الناس كل بحسب قربه أو بعده عن الكعبة، لكن لا يجوز للناس أن يأتوا إلى هؤلاء الذين قدموا من أصقاع الدنيا ليؤدي العمرة، فيجلسون حتى يملئوا الصحن، فيتعذر على الطائفين أن يطوفوا، وبعضهم معه نساء أو رجال كبار في السن فيريد أن ينهي طوافه قبل الإقامة أو قبل الأذان، أو قبل زحمة الناس، ووراءه ما وراءه، ويجد أقواماً يعتقدون أنهم في هذا العمل تحديداً على السنة، وهم بعيدون عنها، فيفرق بين المسجد الحرام وغيره من المساجد، قال الله في آيتين: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) فالأصل أن صحن الكعبة للطائفين، فحقهم مقدم على حق غيرهم، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]. ثم قال الله: {وَأَذِّنْ} [الحج:27] هذا خطاب لإبراهيم، {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، فقال: يا رب! كيف أبلغ الناس وصوتي لا يُسمعهم ولا يبلغهم؟ فقال الله له: بل أذن وعلينا البلاغ، فقيل: إنه وقف على جبل أبي قبيس فقال: أيها الناس! إن الله قد اتخذ بيتاً فحجوا، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن كتب الله لهم الحج: لبيك اللهم لبيك.

طوائف الناس في الدنيا في مقابل هدى الله

طوائف الناس في الدنيا في مقابل هدى الله ثم ذكر الله بعد ذلك بآيات ثلاث طوائف، وفهم القرآن مهم جداً لمن أراد أن يفسر، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:8 - 10]، فهذه طائفة. وقال بعدها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:10 - 13]، وهذه طائفة. ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وهذه الطائفة الثالثة. نبدأ بالأولى: الطائفة الأولى أهل شرك ظاهر وكفر بواح، وهؤلاء والعياذ بالله ليسوا أهل كتاب، بل لا يعترفون بالله أصلاً، فإنهم يجادلون في الله - كما قال الله - بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فهؤلاء العلم والهدى والكتاب دوائر، فدائرة العلم أوسع من دائرة الهدى، ودائرة الهدى أوسع من دائرة الكتاب، أو بتعبير أخص: العلم أعم، ثم الهدى، ثم الكتاب، فالعلم قد يعطاه أي أحد، والهدى يعطاه المؤمنون، والكتاب لا يعطاه إلا الأنبياء. فهؤلاء يجادون في الله وفي وجود الله وهم لا علم معهم ولا هدى ولا كتاب، ويدخل في هذا المقام بصورة أولية كفار قريش كـ الأخنس بن شريق، والنضر بن الحارث وغيرهم ممن كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يدخل فيه كل أحد سلك مسلكهم إلى يوم الدين، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. يقول الله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] فالإنسان له عطفان، والثني هواء حالة الشيء، وهذا كناية عن الكبر والإعراض عن دين الله. {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] اللام تحتمل معنيين: تحتمل أن تكون لام التعليل، فيصبح المعنى أنه يتكبر ليضل، وتحتمل أن تكون لام العاقبة، وهو أقوى، ويصير لمعنى أنه بإعراضه أعقبه ذلك ضلالاً عن دينه. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] بما يناله من المكارة والمصائب، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:9 - 10]، والباء في (بما) سببية، أي: بسبب ما قدمت يداك. {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] ظلام على وزن فعال، وتأتي في اللغة على معنيين: تأتي على صيغة المبالغة، وتأتي على أنها مصدر صناعي، وهي هنا مصدر صناعي، والمعنى: ليس من صناعة الله الظلم، ولا يمكن حملها على أنها صيغة مبالغة؛ لأن نفي الكثرة لا يعني نفي القلة، فمن قال: إن ظلام صيغة مبالغة نسب إلى الله الظلم من حيث لا يشعر. وبتقريب جيد حتى تبين لك الصورة نقول: مثل أن يكون هناك إنسان يحتاج أنه يطبخ لنفسه طعاماً، وهناك إنسان صناعته الطبخ، وهناك إنسان كثير الطبخ لكنه ليس صناعة له، فالأول يطبخ مرة أو مرتين في العام، فهو طابخ، وأما الثاني فهو كلما ذهب مع زملائه إلى مكان فهو يطبخ، فهو ليس صناعته الطبخ، بل له عمل آخر، لكن يقال له: طباخ على وزن فعال، بمعنى أنه كثير الطبخ، فعندما تنفي عن الأول تقول: فلان ليس بطباخ وإنما الآخر هو الطباخ، فلا يعني أن الأول لا يطبخ بتاتاً، فهو يقع منه الطبخ لكن لا يقع منه بكثرة، فإذا قلت: إن ظلام صيغة مبالغة فمعناه من حيث لا تشعر أن الله لا يقع منه كثرة الظلم، لكن الظلم يقع منه أحياناً، وهذا محال في حق الله. وأما الثالث الذي عنده مطبخ فهذه صناعته، فهذا سواء طبخ أو لم يطبخ فإنه يقال له: طباخ، فظلام مصدر صناعي، والمعنى: أنه ليس من شأن الله أبداً أنه يظلم، فتحرير المعاني نحوياً يساعد على فهمها، فالقرآن نزل بلغة العرب. فهذه هي الفئة الأولى. والفئة الثانية قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:11]، و (من) هنا بعضية مثل الأولى، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قيل: على ريب، وقيل: على شك، والأظهر أن يقال: أنه على غير يقين. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وليس معنى (انقلب على وجهه) أنه أتى على وجهه ثم انقلب، لكن هو قادم أصلاً من الضلالة، فلما افتتن وارتد انقلب على وجهه، أي: عاد إلى الوجه الذي جاء منه، ورجع إلى نفس المكان الذي قدم منه، وهذه أصلها نزلت في بعض الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فلم يكن عندهم كثير إيمان، فيقدم أحدهم المدينة فيقول إذا رزق ولداً ذكراً أو نتجت خيله قال: هذا الدين دين جيد، وإذا أسلم ولم يولد له مولود ذكر ولم تنجب خيله رجع عن هذا الدين وتركه، وقال: هذا دين سيئ، قال الله: {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]. {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] خسر الدنيا لأن ما يطلبه من الدنيا لم يتحقق، فلم يولد له مولود، ولم تنتج خيله، وخسر الآخرة لأنه ارتد عن الدين، قال الله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. فهذه هي الفئة الثانية. والفئة الثالثة: قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:14] وهم أهل الإيمان والعمل الصالح، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14] أي: أن هؤلاء اهتدوا بهداية الله وأولئك ضلوا؛ لأن الله جل وعلا كتب الضلالة عليهم فساءت طينتهم، وشقيت سريرتهم، والله يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، ولا يهلك على الله عز وجل إلا هالك. فهذه هي الأقسام الثلاثة.

فرار الناس من بعضهم يوم القيامة وعلة ذلك

فرار الناس من بعضهم يوم القيامة وعلة ذلك وأما ما دلت عليه الآية فإن الله بهذه الآية يخوف عباده، ويبين لخلقه أنه لا نجاة إلا بتقواه، وأن الإنسان لن يأمن في ذلك اليوم إلا إذا كان خائفاً قبله، والله جل وعلا لا يجمع لأحد أمنين ولا يجمع على أحد خوفين، فمن خاف الله جل وعلا وعظمه وأجله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن كان آمناً مستقراً معرضاً عن الله غير مبالٍ لا يأمن مكر الله في الدنيا فلا يمكن أن يكون آمناً يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل. قال الله جل وعلا: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أي: الذي جعل هؤلاء القوم كأنهم سكارى وما هم بسكارى هو ما يرونه من عذاب الله وشدة وفزع وأهوال ذلك اليوم، فتدنو فيه الشمس، ويلجم فيه الناس العرق، ويرى الناس فيه ما يرون مما لا يعلمه إلا الله. وقد جرت العادة أن الإنسان إذا دخل محفلاً في أي مكان، فإنما يذهب إلى الذين يعرفهم، ويبتعد عمن لا يعرفه، وهذا جبلّة في الخلق، من دخل مسجداً أو دخل بلدة وهو غريب عنها أو مطعماً أو دخل حفل زواج يبحث عمن يعرفه، حتى يجلس معهم، ففي يوم القيامة ينعكس هذا الأمر؛ لأن الناس في عرصات يوم القيامة يقول الله عنهم: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. فلماذا يفر الإنسان ممن يعرفهم، ولم يذكر الله أنه يفر ممن لا يعرفهم؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا يتعامل مع من يعرفهم، فيخشى يوم القيامة إذا رآهم أنه يكون قد ظلمهم، فيفر منهم خوفاً من أن يطالبوه بحسنات، وهو يومئذٍ حريص كل الحرص على حسناته، فالزوجة تطالبه، والأب يطالبه، والأم تطالبه، والأخ والجار وكل من يعرفهم، فالذين جرت بيننا وبينهم معاملات نحن عرضة لأن نظلمهم، وهم عرضة لأن يظلمونا، فيوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12]. وأما الذي جرت العادة أنك لم تره في حياتك، ولم تجر بينك وبينه معاملة فيوم القيامة لا يحدث فرار منه؛ لأنك في الغالب في مأمن منه وهو في مأمن منك، والإنسان -وهذا نقوله مراراً في دروسنا ومحاضرتنا- أعظم ما يلقى به الله ممن يؤمن به الخوف أن يفر من مظالم الناس. روى الإمام البخاري في تاريخه من حديث محمد بن سيرين قال: كنت عند الكعبة فسمعت رجلاً يدعو ويقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، قال: فقلت له: ما رأيت أحداً يدعو بمثل هذا الدعاء، قال: إنك لا تدري! إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا لقيت عثمان بن عفان أن ألطم وجهه ولحيته، فمات عثمان قبل أن ألطمه، فلما قتل ووضع على سريره في بيته ليصلي الناس عليه دخلت عليه في جملة من أراد أن يصلي عليه، حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه ولحيته فلطمته، فما رفعت يدي إلا وهي يابسة كالخشبة، قال ابن سيرين رحمه الله: وأنا والله نظرت إلى يده وهي يابسة كالعود. فمن تحرر من مظالم العباد، ومنّ الله عليه بالفوز الأعظم وهو التحرر من الشرك بالله، وأعطى اليقين بالله مع توحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة فهذا آمن جملة يوم القيامة فهذا ما يمكن أن يقال أيها الأخ المبارك عن الآية الأولى.

الأسئلة

الأسئلة

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه Q لماذا قال الله عن شعيب عليه السلام في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] ولم يذكر أنه أخوهم في سورة الشعراء: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]؟ A هو أخوهم نسباً، قال الله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وقال في الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:176 - 177]، وما قال: أخوهم؛ لأنه نسبهم إلى العقيدة، فقد نسبهم إلى الشجرة التي يعبدونها، لكن لما نسبهم إلى القرية إلى المدينة قال أخاهم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سبب تقديم الصابئين في سورة الحج وتأخيرهم في سورة البقرة

سبب تقديم الصابئين في سورة الحج وتأخيرهم في سورة البقرة Q لماذا قدم الله الصابئين في الحج وأخرهم في البقرة؟ A لأنه ذكرهم في الحج حسب التسلسل الزمني، وظهور الصابئة قبل ظهور النصارى، وأخرهم في البقرة عن النصارى لأن النصارى أهل كتاب. وصبأ في اللغة بمعنى خرج، ولهذا كانت قريش تقول للمسلمين: صابئة؛ لأنهم خرجوا عن دينهم الذي كانوا يعتقدونه.

القواعد الخمس التي أسس عليها الفقه

القواعد الخمس التي أسس عليها الفقه Q ما هي القواعد الخمس التي أسس عليها الفقه؟ A اليقين لا يزول بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة في المواثيق والعهود، والأمور تبع للمقاصد.

معنى قوله تعالى (وطهر بيتي للطائفين)

معنى قوله تعالى (وطهر بيتي للطائفين) Q ما الذي يفهم من قول الله جل وعلا: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]؟ A يفهم أن الأصل أن البيت بني ليطاف به، وهي عبادة لا تتم إلا عند البيت، الطواف عبادة لا تتم إلا عند البيت. وهناك عبادة لا يمكن أن يؤديها اثنان في وقت واحد وهي: تقبيل الحجر الأسود، فلا يمكن أن يقبل الحجر الأسود اثنان في وقت واحد.

حكم تسمية سورة الفاتحة بسورة الصلاة

حكم تسمية سورة الفاتحة بسورة الصلاة Q ما حكم تسمية سورة الفاتحة بسورة الصلاة؟ وهل تسميات السور وقفية أو لا؟ الشيخ: تسمى الفاتحة سورة الصلاة باعتبارها تسمية غير وقفية، ولا تسمى سورة الصلاة باعتبار أنها وقف، فالتسميات فيها الوقف ومنها غير الوقف، فالتسميات الوقفية ما ثبتت بنص، فتسميتها أم القرآن هو بوقف، وأما تسمية بالصلاة فهذا بغير وقف، وذلك باعتبار أنها تكرر في الصلاة.

الألفاظ التي تطلق على الزوجة

الألفاظ التي تطلق على الزوجة Q ما هي الألفاظ التي تطلق على الزوجة؟ A إذا كان الإنسان يتكلم عن زوجته أحياناً في حالة غير التحاكم وغير القوانين وغير الشروط يقول: أهل، وقد حكى الله جل وعلا عن موسى أنه: {قَاَلَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:10]، وقال للوط: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت:33]، فلا يقال زوجة إلا في محكمة أو في بطاقة أو في التعريف أو ما إلى ذلك، ولا بأس بذلك، لكن ليس معناه أنه ممنوع في غير ذلك، فلا أتكلم عن أنه ممنوع فهذا يحتاج إلى نص ولا نملك نصاً، لكن في الجوالات الإخوان يكتبون: أم فلان أو اسم زوجته، فاكتب الأهل وارتاح، فهذا الذي قاله الله جل وعلا.

تفسير قوله تعالى (ثاني عطفه)

تفسير قوله تعالى (ثاني عطفه) Q ما معنى قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9]؟ الشيخ: قلنا: ثاني اسم فاعل من ثنى، يعني: عَوَج، وهي كناية، العرب عندها شيء في البلاغة يسمى كناية، والكناية بمعنى أنهم يقولون الشيء ويقصدون غيره، فمثلاً يقولون: فلان كثير الرماد، وكثرة الرماد ما يأتي إلا من كثرة إيقاد النار، وذلك معناه أنه يأتيه ضيفان كثير، وهنا: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] يعني: عَوَج عطفه، وكأنه أعرض عنها، وليس المقصود الحركة الحسية، وإنما المقصود أنه إذا سمع آيات الله استكبر وأعرض عنها.

هل يقال للشيعة إخوان أو لا؟

هل يقال للشيعة إخوان أو لا؟ Q هل يقال للشيعة إخوان أو ما يقال لهم إخوان؟ A إذا قلنا: إن فلاناً مسلم فهو أخ سواء كان شيعياً أو غير شيعي، وإذا قلنا: إن فلاناً كافر فمستحيل أن يكون أخاً، حتى ولو كان ابن أمنا وأبينا، فالشيعة من حيث العموم مندرجون ضمن الفرق الإسلامية، وأما من حيث الأفراد فكل بحسبه، وما تستطيع أن تقيم الأمر على نفسه. لكن هنا نقطة مهمة جداً في تبصير الناس، يقول شوقي: من الناس من ينطقه مكانه الذي يأتي في موقف سياسي أو ولي أمر أو أمير مسئول عن أشياء عامة لا يتكلم كالذي ليس وراءه مسئولية، وليس كالذي يتكلم بأي شيء آخر، فهناك أمور ما كلفك الله بها، فلا يحسن الانشغال بها، وليس المقصود أن كون الشيء حقاً أن تتكلم به، فقد يكون وراءه مفاسد أعظم منه. والإنسان ينبغي أن يفقه هذا، وهذا يفهم من كتب التراجم، وذكرنا مراراً: إن رجاء بن حيوة كان من رءوس التابعين في عصره، وكان وزيراً لـ سليمان بن عبد الملك، وقد جلس مع مجموعة يتذاكرون نعم الله، فجاء رجل لابس بُرد أخضر فوقف عليهم، فقالوا: لا يوجد أحد يقدر أن يكافئ نعم الله، وهذا حق، فجاء هذا الرجل وقال: ولا أمير المؤمنين؟ وهذه تسمى في العامية لقافة، فما دخله من أمير المؤمنين، لكن قال: ولا أمير المؤمنين؟ قالوا: ولا أمير المؤمنين. فذهب وأخبر أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين وهو سليمان كان جباراً جداً، حتى يقال: إنه قطع رأس محمد موسى بن نصير ابن موسى بن نصير ووضعه في صحن، ثم أدخله من تحت الباب في السجن، وأعطاه لأبيه لـ موسى بن نصير وهو في الثمانين، يكيده بولده؛ لأن موسى بن نصير كان قد أشار على الوليد أخي سليمان أنه يولي ابنه ولاية العهد ويترك سليمان، فمات الوليد قبل أن ينجز هذه المهمة، وآل الأمر إلى سليمان. فجاء ذلك الرجل إلى سليمان وأخبره أن هناك أناساً يذكرونك ويسبونك ويقولون كذا وكذا ومعهم رجاء، ورجاء مبجل ووزير رجل صالح، وقد أخرج له البخاري في الصحيح، فاستدعى الملك سليمان استدعى رجاء، فقال: يا رجاء! يسب أمير المؤمنين وأنت تسمع؟! قال: ما سب أمير المؤمنين. قال: بلى يا رجاء جلست أنت وفلان وفلان وفلان. قال: يا أمير المؤمنين! ما وقع هذا. فقال سليمان: يا رجاء! ألله ما وقع هذا؟ قال: والله! ما وقع. فلما حلف صدقه، وصار الرجل كاذباً، فتحول على الرجل وأمر بجلده فجلد، فجلس الرجل في الساحة والدم ينزل من ظهره، فمر رجاء من عنده، وهذا الرجل يعرف أنه صادق، ورجاء رجل صالح تقي، فقال له: يا رجاء بن حيوة هل أنت تكذب؟ قال: يا ابن أخي! ثمانية أسواط في ظهرك لا تلبث أن تقوم منها خير والله من ضرب أعناق المسلمين. والمقصود من هذا: أن كل شيء له وقت، فتعرف متى تتكلم أو تسكت، فالقضية ليست قضية أن الإنسان يظهر نفسه، فالله يقول عن مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} [غافر:28] فقدمها على الصدق وكأنه ليس مع موسى، وهو مؤمن، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} [غافر:28] وهذا شك، لكنه ما قصد الشك، وإنما قصد أن يبين لفرعون من غير مجابهة، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ} [غافر:28] ما قال كل شيء، {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:28 - 29]، فهو مسلم لكن وضع نفسه مع فرعون وضع من يريد أن يوصل الخطاب، فالمواضع والأمور تختلف من حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، ومن مصر إلى مصر، لكن أهم شيء أن الإنسان يتقي الله، ويتكلم على بينة، وعلى نور من الله.

الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إن الوجل والخوف من الله علام الغيوب منزلة عظيمة لطالما سمت إليها نفوس الصالحين من عباده، فيها يعظم قدر العبد عند ربه وترتفع درجته وتعلو منزلته، ولا يتم للعبد حقيقة الوجل إلا بمعرفة الله تعالى، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثار السلف من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ورجاء تحقق وعد الله بورود حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.

اعتراف بالنعمة وثناء على المنعم

اعتراف بالنعمة وثناء على المنعم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفي أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن وجل القلوب من علام الغيوب منزلة عالية، ومطلب رفيع طالما سأله الصالحون ربهم جل وعلا، وقد جعل الله جل وعلا الوجل منه قرينة من أعظم قرائن الإيمان الحق، كما جعله تبارك وتعالى خصلة أعطاها لأئمة الدين وسادة الخلق، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة المكرمين في ظلال عرش رب العالمين: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فسبحانك ربنا وبحمدك كيف لا نقدسك، ولا نسبح بحمدك، ولا نرجوك ونحن نعلم أنك أنت الله لا إله إلا أنت أهل الحمد والمجد والثناء، لا رب غيرك، فاطر الأرض والسماء؟! سبحانك ربنا وبحمدك كيف لانحبك ونحن نعلم أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو أوجدتنا من العدم، وربيتنا بالنعم، واسبغت علينا من فضلك وعطائك، وأعطيتنا من كرمك وسخائك؟! سبحانك اللهم ربنا وبحمدك كيف لا نعبدك وحدك ونحن نعلم أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو ولا رب غيره ولا إله سواه، ولا شريك معه؟! سبحانك ربنا وبحمدك كيف لا نفزع إليك في الملمات ونرغب إليك في النائبات ونحن نعلم أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو وسع سمعك الأصوات، وقهرت جميع المخلوقات، ما من نعمة إلا وأنت وليها، وما من نقمة إلا وأنت القادر على دفعها؟! سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، كيف لا توجل قلوبنا عند ذكر اسمك ونحن أعلم أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو الحي حين لا حي، ليس لك سمي ربنا وخالقنا ورازقنا ورب كل شيء؟! يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4] جعلني الله وإياكم أجمعين برحمته منهم، وأعاذنا الله من أن نتكل على أعمالنا أو أقوالنا أو سرائرنا طرفة عين، وأحالنا الله وإياكم إلى رحمته وعفوه وكرم ورضوانه؛ إن ربي لسميع الدعاء.

الوجل من علام الغيوب

الوجل من علام الغيوب

تحقيق معرفة الله تعالى

تحقيق معرفة الله تعالى إن الوجل من علام الغيوب لابد له من أمور أربعه: معرفة الله، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هناك سلف نقتفي آثارهم ونتبع هديهم، وأن يكون هناك وعد نرجوه ونأمل أن يحققه الله جل وعلا لنا، وسنحاول في هذا الدرس أن نعرِّج على شيء من هذا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وسل من ربك التوفيق فيها وأخلص في السؤال إذا سئلتا وناد إذا سجدت به اعترافاً بما ناداه ذو النون ابن متى وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا أما أول ذلك فإن الإنسان ما قدر له أن ينعم بشيء كما ينعم بأن يعرف ربه تبارك وتعالى، فإن الله نعى على أهل الكفر أنهم لم يعرفوا قدره فقال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، ولا أحد أعلم بالله من الله، والقرآن هو كلام الله، فمن أراد العلم بالله فليتدبر هذا الكتاب العظيم الذي بين أيدينا.

ذكر بعض ما نعت الله تعالى به نفسه

ذكر بعض ما نعت الله تعالى به نفسه وإن من الآيات التي نعت الله بها ذاته العلية قوله جل ذكره في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. فبين جل وعلا فيها أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فبدأ جل وعلا بخلق الأرض أولاً في يومين، ثم استوى إلى السماء وهى دخان فسواها في يومين، ثم أكمل خلق الأرض جل وعلا، قال سبحانه: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] ولم يقل: (خلقها) لأنه سبق أن خلقها من قبل، كما بين جل وعلا ذلك في سورة فصلت، فخلق ذلك جل وعلا في ستة أيام ليعلِّم خلقه الأناة، وإلا فهو تبارك وتعالى قادر على الخلق بقوله سبحانه: (كن) فيكون. ثم قال جل ذكره: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] والفعل (استوى) في القرآن جاء على ثلاثة أنماط: جاء متعدياً بحرف الجر (إلى)، ومعناه الانصراف إلى الشيء، قال سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11] وهذا بعد أن خلق الأرض أولاً في يومين. وجاء غير متعد، وهذا معناه النضج والكمال والتمام، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص:14]. وجاء متعدياً بحرف الجر (على) والمقصود منه العلو، قال جل وعلا: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13] أي: إذا علوتم، وهنا قال جل ذكره وعز ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- مؤمنون بأن الله جل وعلا مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته بائن عن خلقه، وأن الله تبارك وتعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، وغني عن كل خلقه، بل كل خلقه -حملة العرش وسائر الخلق- مفتقرون إليه جل جلاله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] أي: يجعل الليل غاشياً للنهار مذهباً لنوره وبهائه، وقال في سورة أخرى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ} [الحديد:6] والليل والنهار مخلوقان من مخلوقات الله أجراهما الله جل وعلا وجعلهما موئلاً للأعمال الصالحة، والموفق المسدد من جعل النهار مقاماً لمعاشه وجعل الليل مقاماً للوقوف بين يدي ربه تبارك وتعالى، قال الله يؤدب نبيه ويعلم سيد خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:6 - 7] أي: اجعل النهار لمعاشك وقضاء حوائجك، والليل قف فيه بين يدي ربك وخالقك ومولاك. ونعى الله جل وعلا على أهل الكفر أنهم لم يعرفوا قدر الليل فيقوموا فيه بين يدي الله، فقال سبحانه وبحمده: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]. ولله عبادات في النهار لا تقبل في الليل، وله طاعات في الليل لا تقبل في النهار، وأفضل الليل جوفه الآخر، والليل جملة أفضل من النهار، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17])، ثم قال جل ذكره: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فما الشمس والقمر والنجوم إلا آيات من آيات الله تجري بقضائه وقدره، لحكمة اقتضتها مشيئته وإرادته جل وعلا. قال سبحانه يبين إذعانها لأمره وانقيادها لمشيئته: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40]. بعد أن ذكر هذه الآيات قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] واللام هنا لا الملك المطلق الذي لا يكون إلا لله. ثم قال جل وعلا: {الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ففصل بينهما بواو العطف، والواو في اللغة الأصل فيها أنها تقتضي المغايرة، والخلق غير الأمر، فالخلق المراد بها جميع المخلوقات، وأمره: كلامه تبارك وتعالى، قال جلا ذكره: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] صدقا في أخباره وعدلا في أوامره ونواهيه؛ وبهذه الآية. احتج الإمام أحمد رحمه الله على المعتزلة على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فاحتج بقول الله جل وعلا: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فإن الله جل وعلا فرَّق بين الخلق وبين الأمر، فالقرآن كلام الله جل وعلا وهو من أمره تبارك وتعالى. ثم قال سبحانه خاتماً هذه الآية التي عرّف فيها بذاته العلية وأثنى بها على ذاته جل وعلا: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] والفعل (تبارك) لا يأتي منه مضارع ولا أمر، ويسميه علماء النحو فعلاً جامداً، أي: غير متصرف، ولا يقال إلا للرب تبارك وتعالى، فلا يقال لأحد غير الله تبارك؛ لأنه جل وعلا وحده الذي تعاظم وتقدس، ومنه البركات، ومنه الخير العميق، كما جاء في الحديث (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت ربنا وتعالي).

زيادة العلم بالله وأثرها في الخشية

زيادة العلم بالله وأثرها في الخشية فهذه آية واحدة تبين ما لله جل وعلا من نعوت الجلال وصفات الكمال، وأنه سبحانه وبحمده هو الرب الواحد الكبير المتعالي، وقد بيَّن الله جل وعلا ماله تبارك وتعالى من جليل العظمة وعظيم الصفات في آيات عدة منثورة في القرآن العظيم، كأول سورة الحديد، وخواتيم سورة الحشر، وآية الكرسي والفرقان، وغيرها من السور، والمقصود من هذا جملة أن وجل القلوب من الله لابد يسبقه علم بالله، ولهذا قال السلف: من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وقال صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبريل كالحلس البالي من خشية الله) والذي جعل جبريل بهذا المقام أو بهذه الحالة علمه بربه تبارك وتعالى، والإنسان كلما ازداد علماً بالله وبأسمائه وصفاته كان أكثر وجلاً وأعظم رجاءاً وأشد محبة لله، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] وجاء في حديث داوود أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك). والمقصود جملة أن معرفة الرب تبارك وتعالى لها على العبد من الآثار الحميدة والخصال المطلوبة المرغوبة شرعاً ما الله به عليم، ولقد كان لسلف الأمة -نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه- في هذا أرفع المقامات وأجل العطايا ألحقنا الله بهم ورزقنا الله وإياكم حسن اتباعهم.

تحقيق الوجل من الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم

تحقيق الوجل من الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عرف العبد هذا فإنه ينبغي عليه أن يعلم أن الله جل وعلا تعبده باتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه آخر الأنبياء عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات، فحبه دين وملة وقربة، واتباع شرعه واقتفاء هديه ولزوم سنته هي الدين كله. هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديانِ هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفانِ هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيرانِ وبه فدى الله الذبيح من البلى لما فداه بأعظم القربانِ وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن وهذا النبي الأمي كان في هيئته الخلقية ربعة من القوم لا بالطويل ولا بالقصير، سبط الشعر، بمعنى أنه لم يكن شعره مسترسلاً ولا جعداً، في جبهته عرق يجره الغضب، فإذا غضب صلى الله عليه وسلم في ذات الله امتلأ عرقه دماً، أزج الحواجب في غير قرن، طويل أشفار العينين، أشم الأنف كبير الفم، كث اللحية، الشيب فيه ندرة، بمعنى أنه قليل متفرق في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه، بعيد مابين المنكبين، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس، أي: عظام المفاصل، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: (سبحان الله)، وعند البخاري في الأدب المفرد أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه، إذا مشى مشى يتكفأ تكفؤاً كما ينحدر من مكان عال، قال جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه كما عند مسلم في الصحيح: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى -أي: صلاة الظهر- فجعل غلمان أهل لمدينة يتبعونه، فسلمت عليه فسلم عليَّ فوجدت لكفه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار) وقال محمد بن عمار للربيع بنت معوذ رضي الله عنها: يا أماه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. بعثه ربه بعد أن أتم له أربعين عاماً في غار حراء، وجاءه الملك وكان يتحنث الليالي ذوات العدد حتى يقترب حساً ليقترب بعد ذلك معنى، فكأن الله جل وعلا -لحكمته- أراد أن يتحنث نبيه فوق الجبل كأنه ينظر من علو إلى حقارة الدنيا وعلى اختصام أهلها. وإن تجتنبها تجتنبها بعزة وإن تجتذبها نازعتك كلابها فهو صلى الله عليه وسلم في مكان عال كأنما يرقب الدنيا تهيئة من غير أن يدري بما يعده الله جل وعلا له من كريم الرسالة وعظيم النبوة، ثم جاءه الملك فخرج فزعاً في أول الأمر يقول: (دثروني دثروني)، والدثار: الثوب الذي فوق الثوب الداخلي، والشعار ما لاصق الجسد، وقد كان عليه الصلاة والسلام علية ثياب، ولكنه يقول: (دثروني دثروني) فدثرته خديجة فأرسله الله بالمدثر قائلاً: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] ثم بيَّن له طريق الدعوة {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:3 - 7]، فأعطاه هذه الوصايا حتى يسير على دعوة الله، فبلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته حتى أتم الله له من العمر ثلاثة وستين عاماً قضاها صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله بسنانه ولسانه، مجاهداً في سبيل الله، قائماً في فلق الأسحار، صائماً في أكثر أيام النهار، مقيماً للفرائض والنوافل على الوجه الأتم والنحو الأكمل، وما عبد الله أحد أكمل من عبادته صلوات الله وسلامه عليه. فمعرفة هديه يعين على لزوم سنته، ولزوم سنته من أعظم الدلائل على الوجل من رب العالمين تبارك وتعالى، ومن تأمل سيرته العطرة وأيامه النضرة عليه الصلاة والسلام خرج بعلم نافع وطريق قوي ومنهج مستقيم. وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

انطواء الأيام ورحيل رسول الله عن الدنيا

انطواء الأيام ورحيل رسول الله عن الدنيا هذا النبي الأمي خرج من الدنيا وقد نظر نظرة إلى أصحابه وهم صفوف خلف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقرت عينه واطمأنت نفسه وتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف صلوات الله وسلامه عليه بعد أن أدى الرسالة وبلَّغ الأمانة ونصح الأمة على أكمل وجه. أوذي في الطائف فرجع إلى مكة، فلما صده الإنس منّ الله عليه بالجن يستمعون إليه، فوقف في وادي نخلة قائماً يصلي يقرأ القرآن أطيب كلام من أطيب فم، وهو لا يشعر بالجن وهم يحفون حوله ويركب بعضهم بعضاً، قال الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] يستمعون القرآن، وإن قلباً لا يتأثر بالقرآن لحري ألا يتأثر بغير القرآن، قال جل ثنائه: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]. فلما انصرفوا عنه أخبره ربه بالأمر الذي كان فقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30] ثم هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، ثم مكث عليه الصلاة والسلام يجاهد في الله حق الجهاد في بدر وأحد وغيرها من المواقع والغزوات حتى دخل الكعبة فاتحاً بعد ثمان سنين من خروجه من مكة، فكبَّر في نواحي البيت وأعطى بني شيبة مفتاحه وقال: (خذوه خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلى ظالم) ثم حج في العام العاشر وودع الناس وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) واستشهدهم على أنه بلغ الرسالة فشهدوا، فلما كان آخر صفر وأول ربيع شعر بدنو الأجل وقرب الرحيل، وتوالت الساعات ومضت الليالي والأيام حتى كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول اليوم الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه، فدخلت عليه أول الأمر ابنته فاطمة فأخبرها بأن جبريل كان يراجعه القرآن في كل عام مرة، وأنه راجعه القرآن في هذا العام مرتين وقال: (وما أراه إلا حلول أجلي) فبكت، ثم أخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة وأنها أول أهله لحوقاً به ففرحت، فلما خرجت دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له فلم يستطع -وهو إمام الفصحاء وسيد البلغاء- أن يرفع صوته بالدعاء، وإنما رفع يديه حتى تقر عين أسامة، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة وفي يد عبد الرحمن سواك، فلم يستطع -وهو نبي الأمة ورسول الملة- أن يقول: أعطوني مسواكاً، سنة الله جل وعلا في خلقه لا تتبدل لا تتغير {الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] ففهمت عائشة رضي الله عنها مراده، فأخذت السواك وطيبته، ثم أعطته إياه صلوات الله وسلامه عليه فاستاك، وسمعته عائشة وهو يخير يقول ({مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]) ثم قال: (بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً، ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه، وغسِّل كما يغسل أي ميت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] وتولى غسله أهل بيته، ثم بعد ذلك كُفِّن، ثم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، ونزل قبره علي وقثم والفضل وأسامة وشقران، ثم وضع صلى الله عليه وسلم في لحده ووضع عليه تسع لبنات، ثم حثي التراب بعد أن صلى عليه الناس أفراداً قبل دفنه، ولم يتخذوا إماماً لهم حتى يؤدي كل منهم الصلاة مباشرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى صلوات الله وسلامه عليه، فجسده في الأرض وروحه في عليين، وهو يحيا حياة برزخية الله أعلم بها، لا يملك لنفسه ولا يملك لغيره -من باب أولى- ضراً ولا نفعاً، وإنما ترك ديناً يقوم على توحيد الله وإخلاص العبادة له، وهدياً عظيماً وطريقاً قويماً، قال الله له: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] هذا على وجه الإجمال أيها الأخ المبارك في حياة نبيك صلوات الله وسلامه عليه. وإلى جانب هيئته الخَلْقية وسيرته العطرة ترك صلى الله عليه وسلم منهجاً وسنة من أعظمها تعظيمه لربه تبارك وتعالى؛ فلم يكن أحد من الخلق يعظم الله ويوحده ويجله كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك بمحافظته صلوات الله وسلامه عليه على الصلوات الخمس في الجماعة حضراً وسفراً، حرباً وسلماً، وقيامه في الليل بين يدي ربه يناجيه ويسأله ويدعوه، تقول عائشة: فقدته ذات ليلة فإذا هو في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) إلى غير ذلك مما هو ظاهر بيِّن في مواطنه من خصاله وهديه صلوات الله وسلامه عليه.

تحقيق الوجل من الله باقتفاء آثار السلف

تحقيق الوجل من الله باقتفاء آثار السلف الأمر الثالث: لا بد من أن يكون لنا سلف نقتفي آثارهم ونتبع هديهم، ومن أولئك السلف أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا مثنياً عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] الأنصار: اسم رباني جاء ذكره في القرآن، وهم قبيلتان من اليمن سكنتا المدينة في العهد الأول يقال لهما: الأوس والخزرج، والأوس والخزرج في الأصل ولدان لرجل يقال له: حارثة، وأمهما اسمها قيلة بنت كاهل، ولذلك كانوا ينادون كثيراً (يا بني قيلة) فسكنوا المدينة بقدر الله حتى يكون بعد ذلك استقبالهم لنبي آخر الزمان صلوات الله وسلامه عليه. فقد كان النبي في مكة يعرض دعوته على القبائل في موسم الحج، فقابله نفر من الخزرج قبل بيعتي العقبة الأولى والثانية، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (من أنتم؟ قالوا: نحن من الخزرج قال: من موالي اليهود؟ -أي: من حلفاء اليهود- قالوا: نعم. قال: أنصتوا إليَّ) فأنصتوا فتلا عليهم صلى الله عليه وسلم آيات من سورة إبراهيم، فكتب الله لهم أن آمنوا وقبلوا، ثم لما رجعوا إلى المدينة أخبروا قومهم، فلما كان العام الذي بعده جاء وفد من الأوس ومن الخزرج وكانت بينهما حروب واقتتال عظيم، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بايعوه بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير معهم، ثم كانت بيعة العقبة الثانية، ثم أذن الله لنبيه بأن يهاجر إلى المدينة، فاستقبلوه رضي الله عنهم وأرضاهم، ودخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة بعد أن قطع بطن وادي ريم في جنوب المدينة الآن، فدخلها من الجنوب من جهة قباء، فمكث في قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي يوم الجمعة قبل الزوال دخل المدينة بعد أن بعث إلى أخواله من بني النجار، فجاءوا متقلدين السيوف، فدخلها صلى الله عليه وسلم وسمع في نواحيها التكبير وهو على ناقته القصواء يقول: (خلو سبيلها فإنها مأمورة)، فإذا كانت ناقته صلى الله عليه وسلم تسير بأمر الله فما بالك بهديه صلوات الله وسلامه عليه؟! الله قسَّم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله لا منك أو نعم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم وبركت الناقة في موضع المنبر اليوم ولم ينزل، ثم قامت فجالت جولة، ثم رجعت إلى مبركها الأول، ثم نزل صلوات الله وسلامه عليه، فبادر أبو أيوب الأنصاري وأخذ رحل رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله) ومن ذلك اليوم أخذ الأنصار يقدمون النماذج الإيمانية في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من جاهد بلسانه، ومنهم من جاهد بسنانه، ومنهم من جاهد بالاثنين وهم كثير، وكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- نعم السلف لنا مع إخوانهم من المهاجرين. مضي السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واصنعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الواقع الزاهي بناء مرفع

نماذج من رجال الأنصار

نماذج من رجال الأنصار

الثناء على الأنصار

الثناء على الأنصار ولقد أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يعجب من صنيع الأنصار بالمهاجرين وإكرامهم لهم وإيوائهم إياهم، فكان يقول: إن مثلنا ومثل إخواننا من هذا الحي من الأنصار كما قال الأول: أبوا أن يملوا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت وهذه تزكية لهم من الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وهؤلاء الأخيار أخبر النبي عنهم صلى الله عليه وسلم أنهم سيجدون أثرة بعده، فلم يول أنصاري إمرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعدهم صلى الله عليه وسلم الحوض، وسيأتي الحديث عنه. وفي غزوة حنين لما جمعت الغنائم قسّمها صلى الله عليه وسلم على أقوام يتألف بها قلوبهم إلى الإسلام، ولم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم شيئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي عليه الصلاة والسلام سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما مقالة بلغتني عنكم يا سعد؟) فأخبره سعد بالأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنت ماذا تقول؟) قال: يا نبي الله وهل أنا إلا رجل من قومي؟! فقال: (اجمع لي الأنصار في حظيرة) أي: في مكان مسور، فلما جمعوا قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله، وعالة وأغناكم الله؟) وأخذ يعدد ما أفاء الله به عليهم بسبب رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهم يقولون: لله ولرسوله المن والفضل. فقال: (ألا تجيبونني؟) فقالوا: بماذا نجيبك يا نبي الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال: (أما إنكم لو قلتم لصدقتم ولصدّقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك) وذكر غير ذلك مما من الله به على رسوله بسبب الأنصار، ثم قالوا: لله ولرسوله المن والفضل، فقال صلى الله عليه وسلم يخاطب تلك القلوب المؤمنة: (يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) فقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً.

ذكر ما يحصل به العطاء الإلهي

ذكر ما يحصل به العطاء الإلهي إن الله جل وعلا له سنن لا تتبدل ولا تتغير، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، والعطاء الإلهي لأي أحد يكون بمقدار ما في قلب ذلك العبد لله تبارك وتعالى، ألا ترى أن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وطئ على صخر ليرقى عليه ليكمل بنيان الكعبة، والصخر لا يؤثر فيه شيء، فلما ألان إبراهيم قلبه لله ألان الله جل وعلا الصخر تحت قدميه، فأصبح مقام إبراهيم آية ينظر إليها الناس يرون فيها أثر قدمي إبراهيم على صخر فانشغلوا بهذا الأثر حساً، ونسوا المعنى العظيم الذي وراءه، كما قال أبو طالب: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل لقد كان أمراً مشهوداً، وإن اندثر من كثرة مسح الناس عليه ممن لا يعرف الأحكام الشرعية. فالغاية من هذا أن يعرف المرء أن لله جل وعلا سنناً لا تتبدل ولا تتغير، وحظك من الرب تبارك وتعالى بناءاً على ما يكون في قلبك من حبك لله، ورغبتك فيما عند الله جل وعلا من النعيم، وصدق سريرتك، وكمال إخلاصك، وحسن طويتك، وبمثل هذا يستجدى ما عند الله من النعيم. لقد قالت هاجر وهي تتبع زوجها إبراهيم: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. فبقيت عليها السلام هي وابنها، فلما انتقص الماء ونفد أخذت تمشي بين الصفا والمروة، فجعل الله جل وعلا ماء زمزم كرامة لـ هاجر وفرجاً لإسماعيل، وهذه عطية إلهية، ثم توالت أقدام الأنبياء على هذا الموطن تسعى بين الجبلين الصفا والمروة كما كانت هاجر تسعى بينهما من قبل، فأحيا الله جل وعلا سنتها وأقام الله جل وعلا شريعة ابتدأتها لما كان من في قلبها من قنوت واستسلام ورضاً بالرب تبارك وتعالى. وعلى الضد من ذلك فإن الذنوب شؤم على أصحابها، ووبال على أهلها، قال سبحانه: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25] وقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:38 - 40]، فنجأر إلى الله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من ذل الفضيحة يوم العرض عليك.

الخصلة الحسنة الباقية لتابعي الصحابة الكرام

الخصلة الحسنة الباقية لتابعي الصحابة الكرام فالمقصود أن اتباع هؤلاء الأخيار حجة عليك من الله، ولا تقل: هذا الدين لا أقدر عليه، فتكاليفه شاقة، أو ما إلى ذلك من وساوس الشيطان ونزغات الأصحاب، ولكن اعلم أن الطريق قائم، والله جل وعلا يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] ثم قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14] ولم يحرم جل وعلا من كان آخراً من أن يلحق ذلك السبق ويدرك الركب وإن كان لم يبلغ مبلغهم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنه وأرضاهم، ورزقنا حسن الاقتداء بهم. أيها الأخ المبارك! يقول ربنا جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] ولو سألنا أنفسنا: هل نحن من المهاجرين؟ لقلنا جمعياً لا، ولو سألنا أنفسنا: هل نحن من الأنصار؟ لقلنا جميعاً: لا، فنحن لسنا مهاجرين ولا أنصاراً؛ لأن هذا أمر قد فات ومضى، فبقي طريق واحد، وقلادة واحدة، وتاج واحد إما أن تكساه وإما أن تتركه، قال الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] فبقيت هذه {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فإذا أراد الله بعبد فضلاً وكرامة وعطاء جعله من المتبعين بإحسان. جادل شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله بعض الرافضة، فقال لهم: قبل أن ندخل في أي نقاش علمي أسألكم بالله: هل أنتم من المهاجرين؟ فقالوا: لا، قال: وأسألكم بالله: هل أنتم من الأنصار؟ قالوا: لا. فلف عباءته وقام وهو يقول: وأنا أشهد عند الله أنكم لستم ممن تبعهم بإحسان. فالمقصود من هذا أن هذه الخصلة هي التي بقيت، فالله يقول: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] ولكي تكون ممن تبعهم بإحسان وحد الله ولا تعبد غيره ولا تشرك معه، وأحب نبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه جميعاً بلا استثناء، وسر على نهجهم وهديهم حتى تلقى الرب تبارك وتعالى، واصبر والزم جماعة المسلمين، فهذه وصية نبينا صلى الله عليه وسلم (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، فهذا هو المنهج الحق الذي ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أمته.

تحقيق الوجل من الله بتذكر الحوض المورود

تحقيق الوجل من الله بتذكر الحوض المورود بقيت الرابعة، وهي أن يكون هناك موعد، وأن يكون هناك رجاء، وهذا الموعد هو الحوض المورود حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيح وغيره (أنه صلى الله عليه وسلم تلا: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3] ثم قال لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر في الجنة عليه خير كثير وعدنيه ربي، ترد عليه أمتي يوم القيامة) والناس يحشرون يوم القيامة عراة ليس عليهم ثياب، عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء، تدنوا منهم الشمس فهم أحوج ما يكونون إلى الظل، والموفق من جمع الله له حلل الإيمان وورد حوض نبي الرحمن، وجعل تحت ظلال عرش رب العزة والجلال جل جلاله، أسأل الله أن يجمعها لي ولكم. والكوثر نهر في الجنة له ميزابان يصبان في الحوض المورود، والحوض خارج الجنة في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخل الناس الجنة، وأما الكوثر فالأصل أنه في الجنة، وترد هذه الأمة على هذا الحوض، قال عليه الصلاة والسلام بعد أن زار المقبرة: (وددت لو أني رأيت إخواني، فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم ياتوا بعد) قال: (وأنا فرطهم على الحوض) أي: سابقهم إليه. فقالوا: (يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟! قال: أريتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل دهم بهم أكان يعرف خيله؟! قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض) صلوات الله وسلامه عليه. وفي أيام بني أمية ظهرت طائفة تنكر الحوض، منهم عبيد الله بن زياد أحد الأمراء، كان في أول أمره ينكر الحوض، فدخل عليه أبو برزة الأسلمي أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فقال عبيد الله بن زياد لـ أبي برزة الأسلمي أأنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الحوض؟ قال: لم أسمعه مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً، بل سمعته أكثر من ذلك، ولما بلغ أنساً رضي الله عنه وأرضاه أن عبيد الله بن زياد ومن معه ينكرون الحوض ويمارون فيه دخل عليهم، فلما سمعهم كذلك قال: والله ما كنت أظن أن يأتي عليَّ يوم أسمع فيه من يماري في الحوض، والله لقد تركت في المدينة خلفي عجائز ما صلت إحداهن لله صلاة إلا وسألت الله فيها أن يسقيها من حوض نبيهن صلى الله عليه وسلم. فما عند الله يطلب بالعمل الصالح، يطلب بالإيمان، ويطلب بدعائه جل وعلا، فإن بالدعاء تذلل به الصعاب وييسر كل أمر عسير، فالله جل وعلا يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] وأعظم من الحوض دخول الجنة، وما الحوض إلا مقدمه لمن سقي منه لأن يدخل الجنة. والجنة -أدخلنا الله وإياكم إياها- ثمانية أبواب، مابين مصراعي كل باب مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام، وإن من أعظم الغبن أن يقول الله: إنها جنة عرضها السموات والأرض ثم لا يجد أحد منا فيها موضع قدم جعلنا الله وإياكم من أهلها. وفي الجنة باب لهذه الأمة، وأبوابها حسب الأعمال، فباب للمتصدقين، وباب لصائمين، وباب للجهاد، وأول من يطرق بابها نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فيقول له الخازن: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها صلى الله عليه وسلم، ثم الأنبياء والمرسلون، ثم الصالحون الأمثل فالأمثل حتى إذا دخلوا فيها قيل لهم: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا، ألم يجرنا من النار، ألم يدخلنا الجنة؟! فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى.

حتمية لقاء الله تعالى

حتمية لقاء الله تعالى اعلم -يا أخي- أن الدنيا أنفاس معدودة وأيام محدودة، وأن الخلق -بربهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم- سائرون على هذا الطريق، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فإذا منَّ الله عليك وجعلت الأمل في رؤية وجه الله تبارك وتعالى مناك ومطلبك وغايتك هانت عليك كل طاعة أن تأتيها وكل معصية أن تجتنبها، وزدت توفيقاً إذا كنت تريد بعملك الصالح وجه الله والدار الآخرة. فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله في هذا الدرس وهذه الموعظة المختصرة، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

إشراقة

إشراقة الذي ينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه عاش حياة عطرة، مليئة بالمواقف الشريفة والأخلاق الكريمة، والتي ينبغي على المسلم أن يقتدي ويتأسى بها.

من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31] إلى آخر الآيات. ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة، ثم عرج به ربه إلى سدرة المنتهى، وذلك أنه لما أغلقت في وجهه أبواب الطائف عنه فتح الله جل وعلا له أبواب السماء. وكان رفيقه إلى الطائف زيد بن حارثة فجعل الله جل وعلا رفيقه إلى سدرة المنتهى جبريل، كل ذلك إكراماً من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فكانت رحلة المعراج: أسرى الله بك ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأواك به التفوا بسيدهم كالشهب في البدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته، ثم كانت أحداث وأحداث، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دخلها يوم الإثنين، وكان قد هاجر يوم الإثنين، وولد يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين كيومنا هذا. فدخلها صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب من جهة قباء، ثم ركب ناقته بعد أيام متوجهاً إلى داخل البلدة وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة). فإذا كانت ناقته عليه الصلاة والسلام تسير بهدي الله فكيف به كله صلوات الله وسلامه عليه؟ فدخل المدينة وبنى مسجده، وحول مسجده بنى حجرات أمهات المؤمنين التي كان يأوي إليها عليه الصلاة والسلام. ثم كان يوم بدر، وفي يوم بدر حقق التوحيد في أعظم غاياته، ذلك أن الله جل وعلا وعده بالنصر، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7] فكان يعلم أنه لن يهزم؛ لأن الله وعده إحدى الطائفتين، والطائفتان إما العير وإما النصر، والعير قد فرت ونجت فلم يبق إلا النصر، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام وقف يدعو ويلح على ربه في الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر. ثم كان يوم أحد، وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته وسال الدم على وجهه، فنظر إلى قريش وهو يقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم). شجوه وهو يدعوهم إلى الله ليبين الله جل وعلا لكل أحد أن كل وجه وإن كان وجه محمد عرضة للتغير، عرضة للفناء، عرضة للنقص، إلا وجه الحي القيوم جل جلاله. قال الله جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. فالشمس يراها الناس مثالاً لكل خير لكنها تخسف أو تكسف، والقمر يضرب به المثل في الجمال لكن يعتريه الكسوف، فكل كامل إلى نقصان وكل حي إلى موت، إلا وجه العلي الأعلى جل جلاله. ثم إنه كان بعد ذلك أحداث أخر حتى كان يوم الفتح فدخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأً رأسه تواضعاً لربه، ثم دخل الكعبة فكبر في نواحيها وصلى فيها ركعتين ثم خرج، ثم أعطى مفتاح الكعبة لبني شيبة قائلاً: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم). ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه رأى قبل ذلك صورة أبيه إبراهيم يستقسم بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام) فسمى صلى الله عليه وسلم إبراهيم شيخه، وهو لم يقل لأحد من الأنبياء غيره أنه شيخه إلا لأبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه حدثت له معارك وحروب في الطائف وتبوك، حتى إذا كان العام العشر أذن في الناس أن نبي الله سيعزم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يصحبه، فحج حجة الوداع، وأنزل الله جل وعلا عليه فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فعلم صلى الله عليه وسلم أنه سيموت فودع الناس، وأخذ يقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وكان جبريل يدارسه القرآن كل عام، ودارسه القرآن في ذلك العام مرتين. ثم عاد إلى المدينة وبقي فيها إلى أن دخل أول شهر ربيع فدخل على عائشة وهي عاصبة رأسها تقول: (وارأساه، قال: بل أنا وارأساه) ثم أخذ يشكو المرض، فخرج إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم وأثنى عليهم وذكرهم بخير. ثم أتى بقيع الغرقد ودعا لأهله وقال: (ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها). ثم عاد إلى بيته فدبت فيه الحمى، فتصدق بدنانير تسعة كانت عنده وأعتق غلمانه، ولم يبق له من متاع الدنيا إلا سيفه عليه الصلاة والسلام وحجرات أمهات المؤمنين. وفي اليوم الذي مات فيه -وكان يوم الإثنين- دخلت عليه أول الأمر ابنته فاطمة ولم يزل فيه شدة، فأجلسها بجواره وأخبرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقاً به وأنها سيدة نساء أهل الجنة فرضيت وقرت ثم خرجت. ثم دخل عليه أسامة بن زيد حبه وابن حبه وقد وهنه المرض، فطلب منه أن يدعو له فلم يستطع وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء أن يرفع صوته بالدعاء، لكنه رفع يديه حتى تقر عينا أسامة. ثم خرج أسامة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك، فنظر صلى الله عليه وسلم إليه ولم يقدر وهو في تلك الحالة أن يطلب السواك، وإنما اكتفى بتحديق النظر فيه، ففهمت عائشة مراده، فأخذت السواك من أخيها فقضمته وطيبته ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ليكون فوه رطباً قبل أن يلقى الله. ثم أتاه الملك فخيره بين الخلد في الدنيا ولقاء الله ثم الجنة، وما ملئت قلوب الأنبياء بشيء أعظم من الشوق إلى الله، فسمعته عائشة يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] بل الرفيق الأعلى. قالها ثلاثاً، ثم مالت يده وفاضت روحه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى. ثم غسل، وتولى شرف غسله علي بن أبي طالب والعباس وابناه قثم والفضل يقلبان الجسد الشريف، وأسامة وشقران مولاه يسكبان الماء من غير أن تكشف لرسول الله عورة. ثم كفن في ثلاث أثواب، ثم استعظم الصحابة أن يقدموا أحداً بهم إماماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا عليه أرسالاً أي: متفرقين. أول من صلى عليه عمه العباس كبير بني هاشم، ثم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس. ثم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، ونزل في قبره علي وقثم والفضل وأسامة وشقران، ثم وضع صلى الله عليه وسلم في لحده ونصبت عليه تسع لبنات، ثم حثي التراب على قبره عليه الصلاة والسلام، فوقعت الأمة بموته في أعظم مطيبة ابتليت بها، قال حسان رضي الله عنه وأرضاه: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشد المسدد صلوات الله وسلامه عليه.

الاقتداء بالرسل في محبة الله ورجائه وإجلاله

الاقتداء بالرسل في محبة الله ورجائه وإجلاله أيها الأخ المبارك! هذه على وجه الإجمال سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، لكن ما الغرض من طرحها في لقاء كهذا؟ ينبغي أن يعلم أن الناس يحشرون يوم القيامة أحوج ما يكونون إلى ثلاثة أمور: يحشرون عراة. أحوج ما يكونون إلى الكسوة. ويحشرون عطشى، أحوج ما يكونون إلى الماء. ويحشرون فتدنو منهم الشمس فهم أحوج ما يكونون إلى الظل. فالموفق من كساه الله، ومن سقي من الحوض المورود، ومن أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، جمع الله لي ولكم هذه الثلاثة كلها. وحتى ينال المرء ذلك لا بد أن يقتدي بسيرته، وحتى نقتدي بسيرته لا بد أن نعرف الطريق الإجمالي الكلي لحياته صلى الله عليه وسلم وحياة الأنبياء من قبله، قال الله جل وعلا ذاكراً إبراهيم وثمانية عشر نبياً بعده {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:83 - 87]. ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فالعبرة كل العبرة بالاقتداء بهدي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على تعظيم الله جل جلاله، إنه لا تدرك غاية ولا ينال مطلوب ولا يدفع مرهوب إلا بالرب تبارك وتعالى، وأسعد الناس برب العباد أعظمهم وأشدهم تعظيماً له. وما فطر الله قلب أحد على شيء أجل وأعظم من أن يفطره على أن يحب الله ويجل الله ويرجو الله، فمن جمع الله له أن يحبه ويجله ويرجوه هو العبد الموفق المسدد، وكل قلب خلا من محبة الله أو من رجاء الله أو من إجلال الله فلا خير فيه أبداً. وما أعطى الله أنبياءه ورسله ولا الصالحين من بعدهم شيء أعظم من أن يجعل في قلوبهم أنهم لا يحبون أحداً مثله، ولا يرجون أحداً مثله، ولا يخافون أحداً مثله، ولا أحد أعلم بالله من الله، فمن أراد أن يعرف الله فليقرأ القرآن وليقرأ ثناء الله على ذاته العلية وتمجيد الرب لنفسه سبحانه وتعالى. قال الله جل وعلا في آية جامعة مانعة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:43 - 44]. هذه الآية من أعظم آيات القرآن دلالة على الرب؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً هو السحاب، فجمع الله جل وعلا بالسحاب أربع نقائض: فالسحاب يكون منه الغيث، وفي نفس الوقت تكون منه الصواعق، والصواعق نار، والماء والنار لا يجتمعان فجمعهما الله جل وعلا في السحاب. والسحاب تكون منه الظلمة إذا تراكم بعضه على بعض حتى يحجب الشمس ويحجب القمر، ويكون منه البرق، والبرق ضياء، والضياء والظلمة لا يجتمعان. فجمع الله الماء والنار والظلمة والضياء في مخلوق واحد، ولا يقدر على هذا إلا الله. ومن دلته المخلوقات على عظمة الله عرف الله، لأن الله عرف نفسه بطريقين: إما بذكر أسمائه أو بذكر صفاته التي منها صفات ذاتية وصفات فعلية، وكل هذه الجملة تدل على الخلاق العظيم والرب الجليل جل جلاله، فمن عرف الله لم يجهل شيئاً، ومن جهل الله لم يعرف شيئاً، وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على محبة الله جل وعلا وتعظيمه، قال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال ربنا تبارك وتعالى يخبر عن حال الصالحين مع ربهم تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83 - 84] فالغاية الأولى في الاهتداء بهدي الأنبياء المعرفة بالرب تبارك وتعالى. لقد قبل إبراهيم أن يلقى في النار عرياناً من أجل الله، والجزاء من جنس العمل، فيكون إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] هذه محبة الله وتعظيمه ورجاؤه وهي أعظم صفات الأنبياء والمرسلين.

الاقتداء بالرسل في قيام الليل

الاقتداء بالرسل في قيام الليل الحالة الثانية في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم: أن يجعل الإنسان من ليله مطية إلى القرب من الرب تبارك وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (ألا أنبئك بطرائق الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]). أخفوا العمل عن الناس إكراماً لله فأخفى الله مثوبتهم وجزاءهم عن الناس إكراماً لهم، والله جل وعلا خير من يثيب ويعطي وخير من يمنع جل جلاله. فصلاة الليل أعظم هديه عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة: (فقدته ذات ليلة فإذا هو في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم صلوات الله وسلامه عليه.

فضيلة بر الوالدين

فضيلة بر الوالدين مما جاء به هذا النبي الخاتم بر الوالدين، وبر الوالدة على وجه الخصوص من أعظم أسباب التوفيق. ومن أعظم الأسباب التي ينال بها العبد غاياته ويحقق بها المرء مطلوبه أن يكون باراً بوالديه جملة وبأمه على وجه الخصوص، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. فمن رزقه الله جل وعلا حناناً على والديه وشفقة على أبويه فهذا الموفق، ولما أنطق الله عيسى بن مريم في مهده وهو نبي الله قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:30 - 31] ثم قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:32 - 33]. والغاية أن النبي الخاتم بين أن بر الوالدة من أعظم أفعال الخير، وفي المسند بسند صحيح: (أنه جاءه رجل يشكو ذنوبه فقال له صلى الله عليه وسلم: ألك والدة؟ قال: لا. قال: ألك خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) فجعل صلى الله عليه وسلم بر الوالدة أو بر الخالة مطية لتكفير الذنوب وستر العيوب وتحقيق الفوز من لدن علام الغيوب جل جلاله. من هديه صلى الله عليه وسلم أنه حذر أمته من الشهوات، قام عليه الصلاة والسلام ذات ليلة كما في الصحيحين من حديث أم سلمة فزعاً يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله الليلة من الفتن، سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). فذكر صلى الله عليه وسلم التحذير من الفتن ودعا إلى صلاة الليل والفرار من رق الشهوات، وما من أحد إلا سيوسد في الترب وتحل عنه أربطة الكفن وسيواجه عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. هذا أيها المباركون ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وإن كان قد بقي شيء من الوقت، والأفضل أن يترك لأسئلتكم، فأحياناً يكون في الإجابة على الأسئلة حل لما يبتغيه الناس ويرتضونه، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زكاة عروض التجارة

حكم زكاة عروض التجارة Q اشتريت دكاناً في الهند قبل أربع سنوات وأجرته، فهل علي فيه زكاة؟ A عروض التجارة مما تؤدى فيه الزكاة، وتنقسم على الصحيح من أقوال العلماء إلى قسمين: عروض مديرة وعروض مربصة، فالعروض المربصة مثل البيوت والأراضي، فهذه لا تزكى إلا إذا بيعت لعام خلا. أما العروض التي يتداولها الناس بيعاً وشراء ولا تمكث ثابتة، وتسمى مديرة عند المالكية، فهذه تجب فيها الزكاة إذا حال الحول، فمثلاً إذا حال حول على البقالة فإن صاحبها يقوم ما يباع فيها ويزكيه. أما الأشياء الثابتة مثل الثلاجات والخزانات فهذه لا تدخل، وإنما يدخل ما يباع ويتداول، ثم بعد أن تقيم قيمته تخرج زكاته في كل ألف خمسة وعشرون ريالاً. وإذا كان الدكان مؤجراً فالمال الذي يقبضه ليس فيه زكاة حتى يحول عليه الحول، فمن يؤجر عمارة أو دكاناً أو استراحة فالمال المقبوض ليس فيه زكاة حتى يحول حول على قبضه.

الابتلاء بالشهوات

الابتلاء بالشهوات Q إذا ابتلى الله سبحانه وتعالى عبده بالشهوات فهل هو دليل على محبته له؟ A الله جل وعلا يبتلي بكل شيء، والحياة دوائر، ومعنى (دوائر) أن الله إذا أراد أن يبلغ عبداً منزلة عالية يجعله في هذه الدوائر، فيبتلى بشيء قليل، فإذا نجح زاد في ابتلائه وهكذا، وكلما أعد الله لعبده منزلة عظيمة كان الوصول إليها بطريقة أعظم، برهان ذلك في كلام الله، فإن الصديقة مريم عليها السلام كانت تقية وهي في المحراب في بيتها لم يقع منها سوء، فلما أراد الله أن يجعلها صديقة بحق خرجت من قومها، فلما خرجت من قومها قال الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] شرقي بيت المقدس، والنصارى إلى اليوم يعظمون جهة الشرق. موضع الشاهد: أنها لما أصبحت منفردة لوحدها جاءها جبريل ليبلغها منزلتها عند الله، لكن حتى تعطى هذه المنزلة لا بد من اختبار، فتمثل لها جبريل في صورة شاب تام الخلقة حسن الوجه حتى يفتنها، فتعوذت بالله منه: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم:18] فلما تعوذت نجحت فقال لها جبريل: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]. فلا نطلق القول بأن الابتلاء بالشهوات دليل على حب الله، لكن أي منزلة عظيمة لا يرقى إليها الإنسان حتى ينتصر على شهواته، والشبهات في المقام الثاني. د

أفضل وسيلة لفهم العلم النبوي

أفضل وسيلة لفهم العلم النبوي Q ما هي أفضل وسيلة لفهم العلم النبوي؟ A هذا باب طويل، لكن سآتي بمثال: النبي عليه الصلاة والسلام كان يتجنب مسألة العموم، يعني: التقعيد العام، من أخطائنا مثلاً أن يرقى إنسان على كرسي فيأتي سؤال: ما هي وسائل الثبات؟ ما هي وسائل طلب العلم؟ بماذا تنصحني من كتب التفسير؟ كيف أفسر القرآن؟ فيأتي جواب عام، وهذا خطأ، ولا بد أن يكون جواب هذه الأسئلة على معرفة بالسائل فردياً. ونأتي بمثال من السنة: النبي صلى الله عليه وسلم تبعه سراقة بن مالك في يوم الهجرة وكان سراقة يومها كافراً، والذي أخرج سراقة هو المال والطمع في الجائزة (مائة ناقة) فلما عرف أن النبي صادق لكنه غير مقتنع أنه نبي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا سراقة، كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟). وذلك أنه إذا رجع إلى المنزل وغير رأيه وقال: أنا أخطأت فلو تبعته وفزت بالمائة ناقة، يتذكر سواري كسرى شخصية دنيوية، فردها بمثلها! ولما دخل عليه عمر وقد أثر الحصير في جنبه فقال عمر: (يا رسول الله، كسرى وقيصر في ما هم فيه وأنت في هذا الحال) ما قال: يا عمر، غداً أنت تفتح المدائن ويأتي كسرى تحت قدميك وتأخذ سواري كسرى فتعطيه سراقة، لم يكلمه بالدنيا؛ لأن شخصية عمر غير شخصية سراقة، فقال له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك أقوام عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا). هذه طرائق لفهم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل. في يوم الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب قال: (يا نبي الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فقال صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فهذا بيان للطريقة التي كان يتعامل بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.

كيف نتعامل مع القرآن

كيف نتعامل مع القرآن Q ذكرت في معرض كلامك: من معرفة الرب سبحانه وتعالى العودة إلى القرآن، ومما يرى في الواقع انصراف الناس عن القرآن، ومن أقبل على القرآن أقبل عليه حفظاً أو قراءة فقط بلا تدبر، فما الوسائل الحقيقية لمعرفة القرآن ومعرفة حقيقة هذا المصحف؟ A القرآن الطريق الأول والأوحد لفهم الدين، والسنة كلها في آية واحدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ولا يمكن الفصل بين القرآن والسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي). ومشكلة الأمة اليوم في أنها لا تتدبر كلام الله، تجد طالب علم يحفظ متوناً ويحفظ قصائد ويجلس على الكرسي ولو سئل عن تفسير آية لم يعرف شيئاً، وهذا قدح في العلم. الطريق الأول هو القرآن، وفي حديث حذيفة عند البخاري: (فعلموا من القرآن ثم علموا من السنة) بهذا الترتيب، ثم تأتي المتون والشروح. ثم إن قلوب الناس لا تغير بشيء إلا بالقرآن، قال الله جل وعلا لنبيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء:79] أي: بالقرآن في الليل. وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]. وقال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] فالمؤمن في كل حياته يلتزم القرآن. أما قضية التدبر فيقرأ بتمعن ويفهم أقوال أئمة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في فهم كلام ربهم، وهذا كلام طويل صعب أن يقال باختصار في مجلس كهذا.

حكم زكاة الأسهم

حكم زكاة الأسهم Q هل تجب الزكاة في الأسهم؟ A الأسهم من عروض التجارة تقوم إذا مر عليها حول بسعر يومها ثم تزكى سواء انخفضت أو ارتفعت.

أسباب الخشوع

أسباب الخشوع Q ما هي الطرق التي تعين الشخص على الخشوع؟ A الطريق للخشوع أن يعظم الله خارج الصلاة، فمن عظم الله خارج الصلاة باتباع أمره واجتناب نهيه يرزقه الله الخشوع إذا وقف بين يديه. أما من يعرض عن الله خارج الصلاة كمن يعق والدته أو والده وهو ذاهب إلى المسجد، ويظلم جاره أو صديقه وهو ذاهب إلى الحرم، أو يسب هذا ويلعن هذا، أو يمنع الأجراء والعمال الذين تحت يده حقهم، ثم يقف بين يدي من أمره بهذا كله وينتظر خشوعاً أنى له أن يخشع؟ يقول بعض الفضلاء: الاستعداد للصلاة والوضوء مبكراً والذهاب إلى المسجد مبكراً هذه عوامل ثانوية، والعوامل الحقيقية أن يعمل الإنسان بالقرآن والسنة قبل أن يقف بين يدي الله. أنى لقلب أن يخشع وقد ترك وراءه والدة غاضبة وأجيراً يدعو الله جل وعلا عليه! أنى لقلب أن يخشع وهو يسب فلاناً ويلعن فلاناً. أنى لقلب أن يخشع وهو يسهر الليل على ما حرم الله؟ لا يمكن لهؤلاء أن يخشعوا، لكن من عظم أمر الله حق التعظيم إذا وقف بين يدي الله يرزقه الله الخشوع حتى ولو كان خصمك عاصياً، والله لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تطيع الله فيه. يقولون: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه مر على بستان للأنصار وفيه ثلاثة شبان أو أربعة يشربون الخمر، فصعد على السور ونزل عليهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن جئنا بواحدة وأنت جئت بثلاث إن الله يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] والله يقول: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] والله يقول: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] وأنت تجسست وأتيت من فوق السور ولم تستأذن فرجع عنهم لأنهم حاجوه بالقرآن رغم أنهم يشربون الخمر. قال حافظ: وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فائت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذه الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها من نفذ أوامر الله خارج الصلاة يرزق الخشوع والبكاء بين يدي الله، والله يقول: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].

مصادر السيرة النبوية

مصادر السيرة النبوية Q ما هي المنابع التي يوجد فيها سيرة خير البشر؟ A السيرة من أعظم ما عني به العلماء، ولا بد أن تفهم السيرة مع القرآن والقرآن مع السيرة، فمن أراد أن يفهم السنة من غير القرآن فلن يفهم شيئاً، ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنة فلن يفهم شيئاً، لكن النبي أنزل عليه القرآن فكان المثال العظيم لتنفيذ ما جاء في القرآن. هذا من حيث الإجمال. أما من حيث الكتب فهناك كتاب اسمه: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله، سوداني الجنسية. هذا الكتاب من أفضل ما كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. الروض الأنف للسهيلي. سيرة ابن هشام هذا كذلك جيد في بابه.

حكم الصلاة على السقط

حكم الصلاة على السقط Q قبل أربع سنوات أسقطت زوجتي طفلاً بعد أربعة شهور من حمله في بطنها ولا أعلم ماذا يجب علي فعله تجاهه من الصلاة عليه والعقيقة؛ لأني استلمته من المستشفى ولم؟ A السؤال ليس كاملاً؛ لكن إذا كان الجنين الذي سقط قد دبت فيه الروح فهذا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وأما إن لم تدب فيه الروح فهذا قطعة لحم تدفن دون أن يصلى عليها، ولا يجب على الزوجة ولا على الزوج شيء غير ذلك.

حكم الشراء من بائع الدخان

حكم الشراء من بائع الدخان Q ما حكم الشراء من سوبر ماركت يبيع دخان؟ A يجوز الشراء ممن يبيع الدخان، فالمسألة منفكة، النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود، وقد ذكر عنهم أنهم أكلة ربا، فإثمه في بيع الدخان عليه لا عليك إذا اشتريت منه شيئاً مباحاً.

حكم حج من تاب وعليه ديون

حكم حج من تاب وعليه ديون Q أنا تبت من ذنوب كثيرة -نسأل الله الثبات- وأنا أريد أن أحج وعلي ديون من أيام الجاهلية، ونسيت أهلها ولا أستطيع سدادها؟ A الآن استمر في التوبة وحج، وإذا أغناك الله بعد ذلك فتصدق بما يغلب على الظن أنه يكافئ ما عليك من ديون بنية أصحابها.

كيفية التعامل مع النساء

كيفية التعامل مع النساء Q أريد بعض الأدلة التي تشجع أن يتجنب الرجل مشاكله مع زوجته ولو كانت هي المخطئة؟ وما هي الطرق التي تمكن الواحد أن يجلب زوجته إلى الهداية؟ A المرأة لا يمكن أن يستمتع بها استمتاعاً كاملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن أردت أن تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها). وهذا أمر معلوم، قال علي رضي الله عنه: يتمنعن وهن الراغبات، ويتظلمن وهن الظالمات، فاستعيذوا بالله من شرارهن وكونوا من خيارهن على حذر! هذه جملة ما يقال في المرأة، فالعاقل يعاملها على أنها مخلوق ضعيف وعلى أنها أسيرة عنده، فيتنازل عن بعض حقوقه التي لا تضره. نبيكم صلى الله عليه وسلم حلف أن يفارقهن شهراً، فاعتزل مشربة له، ثم عاد بعد تسعة وعشرين يوماً، فقابلته عائشة فقالت له: بقي يوم، ولم تقل: أهلاً وسهلاً وحياك الله، تعني: أنت حلفت على شهر وقد مر تسع وعشرون فقط، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً) فالمرأة مرأة مع إجلالنا لها، لكن الله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]. وقال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم، فاطمة، خديجة، وفضل عائشة على النساء) المقصود أنها بطبعها مخلوق ضعيف تحتاج إلى ملاطفة، تحتاج إلى احتواء، والعاقل لا يضع عقله بعقل امرأة، لكن هناك أمور يتجنبها وأمور يقبلها وأمور يغض الطرف عنها، والعاقل من يتغافل عما يشتهي. أما الهداية فبين لها أنك تكون رقيقاً عليها من أجل الله، فمن عظم الله أمام المخلوق كان ذلك أعظم سبب لهدايته.

معنى قوله (احفظ الله يحفظك)

معنى قوله (احفظ الله يحفظك) Q ما معنى: (احفظ الله يحفظك)؟ A من اتقى الله حفظه الله، فإن الله تكفل لأهل تقواه بالرزق من حيث لا يحتسبون وبالأمن مما يخافون، وبالنجاة مما يحذرون، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3].

أحاديث منتقاة

أحاديث منتقاة يشتمل القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام على أعظم الفوائد وأجمل التعليمات، والذي يتفكر فيهما يستخرج فوائد عظيمة، وقبسات كريمة.

وقفة مع فاتحة سورة فاطر

وقفة مع فاتحة سورة فاطر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فسنعمد إلى آيات ثم نأخذ حديثاً حتى نجمع ما بين القرآن والسنة. قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]. هذه فاتحة سورة فاطر, وقد مر في دروس مضت, أن خمس سور استفتحهن الله جل وعلا بحمده, وهي: الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر. قال الله في فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] الألف واللام في قول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [فاطر:1] تعني الاستغراق, والمعنى: جميع المحامد أولها وآخرها ظاهرها وباطنها لله. واللام الجارة نحوياً في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [فاطر:1] هي لام الاستحقاق، فيصبح معنى الآية: أن الله جل وعلا مستحق لجميع المحامد. وهذه اللام تأتي للاستحقاق وتأتي لغير الاستحقاق, فتأتي للاختصاص وتأتي للملك. فمثال الاختصاص: المحراب للإمام، والكرسي للمدرس. وقول الله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] اللام هنا في قوله: ((لَهُ)) هي لام الملك ومثله قوله جل وعلا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]. أما قوله: {فَاطِرِ} [فاطر:1]: فهو اسم فاعل من فطر بمعنى خلق على غير مثال سابق، أي خلق لأول مرة، ففاطر تجمع معنيين. المعنى الأول: الخلق. المعنى الثاني: الخلق على غير مثال سبق، أي: خلق ابتداء. يروى عن حبر القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه جاءه أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي: أنا ابتدأت حفرها, قال ابن عباس: فلم أكن أعلم أن فاطر بمعنى خلق وابتدأ إلا من هذا الأعرابي! هذا يدل على شيء مهم إذا صحت الرواية عن ابن عباس، وهو أن كلمة ((فَاطِرِ)) كانت غير ذائعة عندهم، لأن هذا حبر القرآن عربي قرشي فصيح وكان لا يعرفها، فدلت القصة على أن الكلمة لم تكن دارجة, ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن القرآن أول ما نزل بها، قيل: إن الأعرابي أخذها من القرآن، لكن أياً كان المعنى فالقصة تدل على أن كلمة ((فَاطِرِ)) ليست دارجة, وإلا لما جهلها ابن عباس. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر:1] أي: رسلاً بين الله ورسله، أي: بين أنبيائه. {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1] أي: أصحاب أجنحة. ثم قال: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]. ثم قال جل ذكره: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. قال بعض العلماء: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] بمعنى: الملاحة في الوجه والسعة في العينين, وهذا التقييد لا داعي له، بل إن الآية متصلة، لأن الله قال: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]. وهذا يسمى عند النحويين عدولاً، أي: أن (مثنى) معدولة عن اثنين اثنين. والآية تدل على الملائكة بصورة أولية, ويؤيدها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]. هذه الوقفة الأولى أخذناها من فاتحة سورة فاطر.

الفرق بين الماء الملح والماء المالح

الفرق بين الماء الملح والماء المالح الوقفة الثانية: قال الله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر:12]. وقال في الفرقان: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]. وقال في فاطر: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12]. الذي أريد أن أقف عليه هنا أن الله قال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ} [الفرقان:53] ولم يقل ربنا (وهذا مالح) فما الفرق بين مالح وملح؟ و A الماء إذا كان الملوحة في الماءمتأصلة يسمى ماء ملحاً مثل البحر. أما الماء الذي هو عذب وألقيت فيه ملحاً فيسمى مالحاً.

الفرق بين معنى (لو) ومعنى (لولا)

الفرق بين معنى (لو) ومعنى (لولا) قال الله في آخر السورة: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]. المعنى: أن الله أخر الناس إلى أجل مسمى، ولا أريد أن أقف عند الشيء الواضح, لكن هذه وقفة لغوية تقودك إلى مسألة إيمانية عظيمة, وذلك أنه يوجد حرفان: (لو) و (لولا). وفقه المسألة أن أي إنسان إنما يكون تفاعله قلبياً وخشوعاً وخضوعاً مع أي مسألة إذا كان يفهمها, أما إذا كان لا يفهمها فلا يمكن أن يتفاعل معها إلا في حالة واحدة, وهو أن يكون الكلام كلام الله فقط, يسمعه العجم فيبكون دون أن يعرفوا معناه لأنه كلام الله، فنقول: الحرفان (لو) و (لولا). حرف (لو) حرف امتناع لامتناع. وحرف (لولا) حرف امتناع لوجود معنى حرف امتناع لامتناع: أي لم يتحقق الجواب لعدم تحقق الشرط, فمثلاً: أنت تعد أخاك أن تزوره، تقول له: إذا توفرت لدي سيارة سأزورك، فلم تتوفر لديك سيارة, فلو سألك لم لم تزرني؟ ستقول له: لو وجدت سيارة لزرتك. فالذي امتنع هو الجواب -وهو الزيارة- لامتناع الشرط, وهو وجود السيارة. أما (لولا) فهو حرف امتناع لوجود, فمثلاً: إنسان واقف في المطر ثم من الله عليه برجل يحمله, فيقول: لولا أن مر علي زيد لابتلت ثيابي, أي فامتنع الجواب -وهو البلال- لوجود الشرط وهو مرور زيد. هذا كله صناعة نحوية, لكن الصناعة النحوية آلة لفهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. أهل الجنة إذا قعدوا فيها يرون أماكنهم في النار التي نجاهم الله منها, وأهل النار إذا مكثوا في النار عياذاً بالله يرون مقاعدهم من الجنة التي حرموها. الآن نأتي بـ (لو) ونأتي بـ (لولا). يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] هؤلاء المباركون -جعلني الله وإياكم منهم -وقعت عليهم الرحمة والهداية, ووجود الرحمة والهداية منعهم من دخول النار. هذا معنى حرف امتناع لوجود, فالذي امتنع هو دخول النار، لوجود الهداية والرحمة من الله! أما أهل النار فيأخذون مقاعدهم من النار, وعندما يرون أماكنهم في الجنة التي لم يصلوا إليها يقولون كما قال الله عنهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] فامتنع أن يكون تقياً من أهل الجنة لامتناع الهداية من الله تبارك وتعالى, لهذا يعرف العاقل أنه لا شيء يطلب أعظم من رحمة الله جل وعلا, وما الهداية إلا شيء من رحمة الله تبارك وتعالى.

وقفة مع فاتحة (ص)

وقفة مع فاتحة (ص) قال الله في فاتحة سورة ص: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:1 - 2]. هناك قاعدة عند العلماء: فإذا قالوا في تفسير قول الله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]. أو قول الله: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]. أو قول الله: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]. أو قول الله: {وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات:1]. أو قول ربنا: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1]. يقولون: لله جل وعلا أن يقسم بما شاء من مخلوقاته, وليس للعبد أن يقسم إلا بالله، وهذا حق. لكن هل يناسب أن يأتي مفسر فيقول هذه القاعدة عند قول الله جل وعلا: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]؟ و A لا يناسب؛ لأن القرآن ليس مخلوقاً, بل هو كلام الله وصفة من صفاته, فالعبارة: (ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته) وإن كانت صحيحة, لكن إيرادها هنا يوهم أن القرآن مخلوق, والقرآن منزل غير مخلوق. واختلف العلماء في جواب القسم على ثمانية أقوال, سنأخذ واحداً هو الراجح عندي والعلم عند الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] جواب القسم محذوف، والتقدير: ليس الأمر كما تزعمون. قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:2 - 3]. يخاطب الله مشركي قريش و (كم) , من حيث التأصيل العلمي تنقسم إلى قسمين: كم خبرية، وكم استفهامية, تتفقان في أمور: تتفقان في أن كليهما اسمان، وكليهما مبنيان، وكليهما له الصدارة في الكلام. وتختلفان في أمور من أشهرها: أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب, يراد بها التعبير عن الكثرة. وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب لأنها سؤال واستفهام. و (كم) هنا قول العزيز الحميد: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] خبرية، استفهامية؟ يخبر الله عن أمم كثيرة لا يعلمها إلا الله, أهلكها الله من قبل، عندما أهلكها {فَنَادَوْا} [ص:3]. ولم يذكر الله هل نادوا مستغيثين أم نادوا مؤمنين, لكن تكلم الله عن أمم أهلكها بعذاب، فالله يذكر أنهم عندما جاءهم العذاب نادوا مستغيثين، كفرعون عندما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أو طلبوا الاستغاثة أو طلبوا الإيمان. ثم قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] يعني: ليس الوقت وقت ينفع فيه الندم, أي أنهم نادوا فعلاً لكن الذي منع الفائدة من مناداتهم أن الوقت ليس وقت مناداة لأنه إيمان إجباري، وليس اختيارياً وللعلماء تعبير آخر يقولون: إيمان اضطراري، والإيمان الاضطراري لا يقبله الله, وإنما يقبل الله الإيمان الاختياري. قوله: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] التاء زائدة و (لا) نافية تعمل عمل ليس عند سيبويه وأتباعه. ويقول النحويون: إنها إذا عملت عمل ليس فلابد من حذف أحد جزأيها، أي المتبدأ -أو الخبر، والمحذوف هنا هو الاسم؛ لأن ما جاء بعدها منصوب، واسمها يكون مرفوعاً، والمرفوع غير مذكور لأن الله قال: {وَلاتَ حِينَ} [ص:3] بالنصب فدل على أن الاسم محذوف.

وقفة مع حديث جابر في مقتل أبيه وزواجه من امرأة ثيب

وقفة مع حديث جابر في مقتل أبيه وزواجه من امرأة ثيب روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (لما كانت ليلة أحد دعاني أبي فقال: يا بني لا أراني غداً إلا أول من يقتل في سبيل الله, فإذا أنا مت فأوصيك بديني فاقضه, وأوصيك بأخواتك, قال جابر: فلما أصبحنا كان أول من قتل, فدفنته مع رجل آخر فلم تطب نفسي أن أدفنه مع غيره, فحفرت عنه بعد ستة أشهر فوجدته كما هو هنية غير أذنه). جابر رضي الله عنه صحابي ابن صحابي، وإذا أنت نظرت نظرة كلية للصحابة تجد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: صحابة كبار في السن مثل: الصديق , العباس , عثمان , أما عمر فإنه أسلم وعمره ست وعشرون سنة, لكن الصديق كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سنتان, فهذا جيل يدخل فيهم عمر. هناك جيل آخر وسط أدركوا النبي وهم في الرابعة عشرة والخامسة عشرة شهدوا بعض الغزوات مثل جابر، وعبد الله بن عمر. هناك جيل صغير جداً ما أدرك شيئاً، أي: ما قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مثل: الحسن والحسين , عبد الله بن الزبير. قوله: (دعاني أبي) أبوه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري. قوله: (لا أُراني) يعني لا أظن إلا أن أكون أول من يقتل غداً, وقع في قلبه واستقر في نفسه أنه غداً سيموت في المعركة، والآن الإنسان عندما يريد أن يسافر فيقع في قلبه أنه يموت في السفر يترك السفر، أما هذا فإنه أخذ يوصي ابنه جابراً قال: يا بني أول شيء أوصيك بالدين -كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يفرون كل الفرار من مظالم الخلق-. وأنا والله لقد تأملت كثيراً ممن أدركتهم من الأخيار ما كتب الله لهم قبولاً ولا عرفت فيهم صلاحاً, إلا لأنهم متحررون من مظلمة الناس، فغير الله فيهم إلى الخير تغييراً كثيراً، والإنسان يتعلم مما يراه. فرغم أنه يعلم في غالب ظنه أنه سيقتل في سبيل الله لكن يهتم بالدين، ثم قال: (وأوصيك بأخواتك)، قلنا: إن عبد الله ما ترك إلا جابراً من الذكور والباقون بنات. يقول جابر: فلما أصبحنا -يعني جاءت المعركة- كان أبي أول من قتل رضي الله عنه وأرضاه, فدفنته في أحد. وأحد جبل حصلت عنده المعركة يبعد حوالي ثلاثة أو أربعة كيلو عن الحرم. وقد أراد الأنصار يحملوا القتلى إلى داخل المدينة, لكن منعهم الرسول، وقال: (ادفنوا القتلى في مصارعهم ووقف عليهم وقال: أنا شهيد على هؤلاء). أي زعيم عاقل في بيته أو في مدرسته أو في شيء يلقى أشياء لا يمكن تنفيذها كلها، وليس من المعقول تركها بالكلية؛ لأن تركها بالكلية إهمال, وتنفيذها بالكلية إرهاق لمن حولك، لكن سدد وقارب، فكيف سدد النبي وقارب؟ هؤلاء الصحابة خرجوا مثخنين بالجراح يقول الله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] أصابهم قرح, صلى بهم نبيهم الظهر وهو قاعد, وصلوا خلفه فريضة وهم كلهم قعود, من شدة ما أصابهم من الجراح والأسى والقرح، فقال: (احفروا وأعمقوا). يعني: أنتم لا تستطيعون أن تحفروا سبعين قبراً, وفي نفس الوقت لا أريد أن تحملوا الموتى إلى داخل المدينة, فما الحل الوسط؟ نحفر قبوراً معدودة أقل من سبعين, وندفن اثنين وثلاثة في قبر واحد، وهذه مناسبة لحال الصحابة وهم يحفرون؛ لأن الحفر مشقة. لأنهم لو كانوا منتصرين لنشطوا، لكن كانوا يشعرون بمرارة الخطأ، فعدل النبي صلى الله عليه وسلم الوضع , فقال: (احفروا وأعمقوا). هذا السبب الذي جعل جابراً يدفن أباه مع رجل أخر. الرجل الآخر لم يذكر في روايات البخاري , لكن رواه مالك في الموطأ بسند منقطع، قال ابن عبد البر: ورد من عدة وجوه تشهد بالصحة أن الصحابي الآخر هو عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه. ويمر معك في السيرة أن النبي قال: (قدموا أكثرهم قرآناً) حتى يعلم فضيلة القرآن. المهم أن جابر بن عبد الله دفن أباه مع عمرو بن الجموح. يقول: (لم تطب نفسي) أي إنسان حر ينشد العلو والكمال، ودفن الرجل لوحده ليس مثل دفنه مع الناس, فحفر قبره بعد ستة أشهر، قال: فوجدته كأني دفنته هنية غير أذنه. صحح الحافظ ابن حجر الرواية بهذه الطريقة - يعني شيء يسير تغير في أذنه -. موضوع الشاهد منها: إكرام الله للشهداء. ونحن نضم الأحاديث بعضها إلى بعض، وقد مر بنا حديث (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك). إذا ضممت هذا الحديث لحديث (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) عرفت لماذا لم يتزوج جابر رضي الله عنه وأرضاه بكراً, أي: لأن عنده أخوات صغاراً. فتزوج ثيباً فلم يضيع حقه ولا ضيع حق أخواته اللاتي وصى بهن والده. وهذه القصة حصلت في سفر مع النبي عليه الصلاة والسلام, وكان جابر على جمل بطيء، وكان الرسول شفيقاً على أصحابه يتفقدهم, فأخذ النبي قضيباً ضرب به الجمل فأسرع الجمل، قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (هل تبيعه؟) قال: نعم، فاشتراه بأربعة دنانير. واشترط جابر ألا يسلم الجمل حتى يصل المدينة؛ لأنه لو أعطاه الجمل سيرجع مشياً وهذا سيؤخره أكثر! فوافق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وصل جابر , وكأنه تأخر قليلاً في الطريق لبعض أمره فوصل النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فجاء جابر ليسلم الجمل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت؟). وهذا والله كتاب توحيد كامل، وأنا أقول للناس: من أراد أن يدرس التوحيد فليدرسه من القرآن والسنة فهو هنا يعلمه أن حق الله مقدم على حق كل أحد. إذا جئت لتربي فأشعر من تخاطبه أنك لا تطالبه بحقك , وإنما تطالبه بحق الله. إذا رأيت من أي أحد تعظيماً لله فعظمه لا لذاته, لكن لأنك رأيته يعظم الله. قال له: (أصليت؟ قال: لا، قال: ادخل المسجد وصل ركعتين). فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم جاء فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه الجمل قائلا (خذ جملك). ففهم جابر أن الرسول هون من الجمل. يقول جابر: فو الله ما شيء أبغض إلي من الجمل! فأعطاه النبي الأربعة دنانير التي اتفقا عليها، ثم أمر بلالاً أن يزيده قيراطاً, فوضع جابر القيراط في جيبه وقال: هذه زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما فارقته حتى فقدها في موقعة الحرة التي حصل فيها ما حصل من قتل كثير من أهل المدينة. نعود إلى حديث: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) فنقول: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جابراً عن سبب حرصه على السرعة؟ قال: إنني حديث عهد بعرس, أي قريب عهد بالزاوج. فقال له: (هل تزوجت بكراً؟ قال: لا يا رسول الله، قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك! قال: يا رسول الله إن لي أخوات, فما أحببت أن أدخل عليهن امرأة مثلهن, وإنما أردت ثيباً حتى ينتفعن بها). من الفوائد التربوية قبل أن أختم في القضية: أن جابراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه نصحه أبوه، فإذا أردت أن تنصح أحداً فهيئ لكلامك قبل أن تلقيه، فإن عبد الله بن عمرو بن حرام قال لابنه جابر: (يا بني! ولا أترك بعدي نفساً أعزك علي منك)، يبين أن لابنه مقام عظيماً عنده، ولا بد للوالد أن يظهر حفاوته وعنايته بابنه. ثم قال مستدركاً: (غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم) - والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا عظيمي الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. التعامل مع ما يحدث من أحداث ينبغي أن ينطلق من ركائز. فمثلاً للرد على ما حصل في الدنمارك وغيرها من قدح في النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون على ثقة أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصل إليه هؤلاء. فقد ثبت في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم سمت له شاة ثم قدمت له ليأكلها- سمتها له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم - فلما أكل منها صلى الله عليه وسلم ولاك منها يسيراً لفظها ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم). هذه امرأة يهودية على بعد أمتار أو أشبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعت له الشاة المسمومة وأكثرت السم في موضع يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذراع, وعجزت أن تنال منه أذى، فكيف يقدر أن يؤذيه من بعدت ديارهم لا قربها الله، وفسدت أخلاقهم لا أصلحها الله، فلا يمكن أن يضروه شيئاً! هذا يجعلك مطمئناً أن النبي محفوظ بحفظ الله له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]. ثم تنطلق بخطوات عملية في نصرته صلوات الله وسلامه عليه.

الأسئلة

الأسئلة

المخلوقات التي عاشت في الأرض قبل الإنسان

المخلوقات التي عاشت في الأرض قبل الإنسان Q هل صحيح أن هناك مخلوقات قبل ابن آدم يعيشون في الأرض؟ A المشهور أنهم الجن، أما غير ذلك فلا أدري.

حروف القسم

حروف القسم Q ما هي حروف القسم؟ A الواو والتاء والباء، هذه حروف القسم.

استثناء قوم يونس حيث نفعهم الإيمان الاضطراري

استثناء قوم يونس حيث نفعهم الإيمان الاضطراري Qيقول الله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98] فنفعهم الإيمان الاضطراري؟ A هذا تأكيد لما قلناه من أن الإيمان الاضطراري لا يقبل، إلا ما كان من قوم يونس وهو من فضل الله عليهم، ولهذا استثناهم الله فقال: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98] أي: لا يوجد قرية آمنت إيماناً اضطرارياً فنفعها إيمانها: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس:98] أي: اضطرارياً {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. قال بعض العلماء: ينفعهم في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة. والأظهر نفعه في الدنيا والآخرة, لكن لماذا استثنوا؟ هذا فضل من الله محض والله أعلم به.

حكم تعاطي العلاج من أجل جلب النوم

حكم تعاطي العلاج من أجل جلب النوم Q ما رأيك في رجل وقع في معصية أخلاقية فندم عليها، فأصبح لا ينام، فوصف له الطبيب ما يعينه على النوم؟ A لا حرج أن يأخذ شيئاً يعينه على النوم, ولا ينبغي أن يترك العمل الصالح من أجل ذلك.

نصيحة من تلعن أولادها

نصيحة من تلعن أولادها Q ما نصيحتك لمن تلعن أولادها؟ A نسأل الله أولاً أن يتوب علينا وعليها, واللعن شديد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير). نصيحتنا أن تتعود على الكلم الطيب, وتختلط بصحبة صالحة حتى تتعود كلمات طيبة تسمعها منهم.

معنى الأمر في قوله تعالى (له الخلق والأمر)

معنى الأمر في قوله تعالى (له الخلق والأمر) Q { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ما المقصود بالأمر؟ A الأمر كلامه جل وعلا والقرآن منه, وهذه الآية احتج بها الإمام أحمد على من عارضه في أن القرآن مخلوق, فبين رحمه الله أن القرآن ليس مخلوقاً لأنه من أمره وليس من خلقه بآية الأعراف {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

الشرف العظيم

الشرف العظيم اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالاً، كان لهم الحظ الأوفر والشرف العظيم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، وقد شهد الكتاب العزيز والسنة المطهرة بفضلهم وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الأوس والخزرج بذرة الإسلام الأولى

الأوس والخزرج بذرة الإسلام الأولى الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسموات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: في هذا اللقاء المبارك المتجدد سنشرع الليلة في ذكر علم من أعلام القرآن المجيد، علم على قبيلتين ممن نصروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فسماهم الله جل وعلا في محكم كتابه: الأنصار، قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، والأنصار اسم قرآني أطلقه الله جل وعلا، ثم أطلقه رسوله صلى الله عليه وسلم على قبيلتين من قبائل العرب أصلهما من اليمن كانتا تسكنان المدينة هما: الأوس والخزرج، ولن يكون معهم في هذا اللقاء أي علم آخر سنعرج عليه، وعلى هذا فإن الحديث عن الأنصار في هذا اللقاء المبارك سيكون حديثاً مستفيضاً أرجو الله أن يكون ثرياً بالمعلومات، مليئاً بالمعارف، محققاً للهدف، والله جل وعلا وحده هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

معنى كلمة أوس وخزرج في اللغة العربية

معنى كلمة أوس وخزرج في اللغة العربية نقول: كلمة أوس في اللغة الأصل: أنها تطلق على الذئب، قال الراجز: ليت شعري ما فعل أويس بالغنم أي: ما فعل الذئب بالغنم، لكنها جاءت هنا معرفة بالألف واللام فتحمل عند الكثير على أنها بمعنى: العطية، والأصل أن الاسم لا تلحقه الألف واللام إذا كان علماً، لكن قد شذت بعض الكلمات عند العرب مثل هذا، مثل: الحسن؛ فإن الأصل فيه: أنه حسن إذا أردت به علماً على أحد، ويقال في حسين: الحسين، وهذا بخلاف القواعد القياسية، لكنه أمر سمع عن العرب. أما الخزرج فمعناها في اللغة: الريح الباردة. والأوس والخزرج أصلهما أخوان، كلاهما أبناء الحارث أحد رجال العرب اليمنيين، كان ابنان أحدهما: الأوس، والآخر: الخزرج، وأمهما امرأة من قضاعة يقال لها: قيلة بنت كاهل، ثم تفرع عن الأوس وأخيه الخزرج بيوت ودور عدة سكنت المدينة بعد هدم سد مأرب، ثم لما سكنت المدينة واستوطنت كانت المدينة آنذاك مرتعاً لليهود، أو بمعنى: أن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يخرج نبي آخر الزمان فيكونوا نصراءه على ما عندهم في الكتب، وقد أصابوا في أن النبي يخرج من المدينة أو يهاجر إلى المدينة، لكن لم يوفق لقبول دعوته إلا قليل منهم صلوات الله وسلامه عليه. هاجرت القبيلتان إلى المدينة، وكان بينهما من التنازع وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، حتى إنه قبل هجرته صلى الله عليه وسلم بيسير كان (يوم بعاث) وهو: يوم اشتدت حربه بين الفريقين، وقتل فيه كثير من سراة القوم، وجرح فيه الكثيرون، فكان الناس أحوج ما يكونون إلى من يؤلف بينهم، فوافقت هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة افتراق الناس وتضجرهم من سفك الدماء والجراح والقتل وما أصابهم من النزعات، فكان صلى الله عليه وسلم رحمة بالناس عامه ورحمة بهاذين الفريقين خاصة رضوان الله تعالى عليهم، هذا كتأصيل لمعنى الأوس والخزرج، وهذا اسمهما في الجاهلية، أما الله جل وعلا فقد سماهم الأنصار في نص كتابه، وقد ورد اسم الأنصار كثيراً في الأحاديث كما سيأتي. هؤلاء قبلوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر، والقابل لأي شيء في أول الأمر ليس كمن يقبله بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض نفسه على قبائل العرب ويتوخى مواطن الاجتماع ويأتي أسواق العرب كسوق عكاظ وذي المجنة وغيرها، ثم كان يعرض نفسه على القبائل فعرض نفسه أول الأمر على نفر من الخزرج، هذا قبل بيعة العقبة الأولى، وقبل بيعة العقبة الثانية، فسألهم: (من أنتم؟ قالوا: نحن نفر من الخزرج، قال: من موالي يهود)، ومعنى: من موالي يهود أي: من حلفاء يهود، وقلنا: إن الأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة، وهم حلفاء لليهود بمعنى: نصراء، وكلمة (موالي) في اللغة كلمة واسعة: تطلق على المعتق وعلى المعتق، وعلى الحليف وعلى ابن العم، وعلى النصير وعلى الرب جل شأنه، قال الله جل وعلا: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، وتأتي بمعنى: النصير، قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، أي: لا نصير لهم، فقبل هؤلاء النفر من الخزرج دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر دون أن يكون هناك عقد أو بيعة بينه وبينهم، ثم لما رجعوا إلى المدينة زاد العدد فبايعوه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم رجعوا ومعهم مصعب بن عمير، ثم عادوا وبايعوا مرة ثانية، فسميت: بيعة العقبة الثانية تمهيداً لهجرته صلى الله عليه وسلم إليها، فكان من كرامة الله بالأوس والخزرج أن الله جل وعلا ألقى الصدود في جميع قبائل العرب أن ترد نبيه وأعطى القبول لهذه الفئة المباركة حتى تقبل دعوة نبيه؛ ليكون ذلك سبباً في هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وليبقى لهم ذلك الفخر مدى الدهر رضوان الله تعالى عليهم، وقد قلنا: إن الأمور بقبولها، والله جل وعلا يلقي الفراسة في بعض عباده في قبول أمر، ويحرم بعض عباده من قبول أمر، ثم إذا جاءت العواقب أدرك المتفرس بنور الله فرحه بأن قبل الأمر لأول مرة، وقد قلنا في هذا الدرس المبارك مراراً: إنه يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يتحنث قبل البعثة صعد جبلاً غير حراء، فقال له الجبل بلسان الحال لا بلسان المقال: إليك عني، فإني أخاف أن تقتل علي فأعذب بسببك، فيقال: إن حراء ناداه: هلم إلي يا رسول الله! فألقى الله في قلب نبيه أن يرقى حراء دون غيره من الجبال، فكانت في حراء بعثته صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي أول مرة، وكان لحراء فضل تاريخي على مر الدهر لم يرق إليه جبل غيره. وكذلك النفر من الخزرج فقهوا أن هذا نبي الأمة فقبلوا الدعوة مع أن الحج آنذاك كان يجمع أشتات القبائل العربية التي عرض النبي صلى الله عليه وسلم دعوته عليها، إلا أنه لم يظفر به أحد إلا أولئك الأخيار من أهل المدينة الأولين.

فضل الأنصار وعظمتهم

فضل الأنصار وعظمتهم قال الله عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، ونحن الآن وكل مسلم اليوم لسنا من المهاجرين ولسنا من الأنصار، لكن نرجوا الله برحمته أن يجعلنا ممن تبعهم ويتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قال الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ومن جميل ما يروى في هذا المقام: أن الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله لما جاء يجادل الشيعة -فيما نقل إلينا ولم أره- قال للعلماء الذين معه: أتركوهم لي أجادلهم، وهذا أيام شاه إيران قبل الثورة الخمينية فقال: أنا أسألكم سؤالاً: هل أنتم من المهاجرين؟ قالوا: لا، قال: هل أنتم من الأنصار؟ قالوا: لا، فقام الشيخ وهو يقول: وأنا أشهد عند الله أنكم لستم مما تبعهم بإحسان ومضى، فإذا خرج الإنسان من هذه الثلاثة لم يبق شيء؛ لأن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستقبلوه أعظم استقبال وأحبوه، وجعلوه في بيوتهم، في بيوت بني النجار، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيره: (خير دور الأنصار بنو النجار)، وبنو النجار: من الخزرج وهم أخوال عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وبنو عبد الأشهل)، وهؤلاء الذين منهم: سعد بن معاذ، فلما نزل إلى المدينة وأناخ مطاياه صلى الله عليه وسلم أول الأمر في قباء بعث إلى أخواله من بني النجار، والإنسان أعظم ما يعتز بعصبته، فجاءوا متقلدين السيوف رضي الله عنهم وأرضاهم يحيطون بنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء بنو النجار، وبنو عبد الأشهل، وبنو عبد ساعدة، وبنو الحارث، وغيرهم من بيوت الأنصار مما يذكر عنهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام وإن كان هذا متأخراً: (إن الأنصار سيجدون أثرة بعدي)، أي: أن الناس لا يعطونهم قدرهم بعد ذلك، وستوزع أمور لا ينالون منها شيئاً كثيراً، وقد وقع هذا حتى إنهم أوذوا على لسان الأخطل أحد الشعراء الثلاثة في بني أمية، الأخطل وجرير والفرزدق. وقد سمي الأخطل؛ لصغر أذنيه، وكنيته: أبو مالك غياث بن غوث، وكان رجلاً تغلبياً من حيث القبيلة، نصرانياً من حيث الدين، وما دام أنه كان نصرانياً فلا يرجى منه أن يمدح أحداً من المؤمنين، فقد هجا الأنصار إرضاء لأحد الناس فقال: ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار فذروا المكارم لستمُ من أهلها وخذوا مساحيكم بني النجار ولك أن تقارن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار)، وقول هذا الكافر: وخذوا مساحيكم بني النجار، وقوله: واللؤم تحت عمائم الأنصار. لكن هذه سنة الله جل وعلا في خلقه، يبتلي الكامل بالناقص، والأمثل بالبعيد، والمؤمن بالكافر. وموضع الشاهد: أن ما ذكر في بني النجار تاريخياً أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وما حصل لهم بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم لهم مواقف عبر التاريخ سنتكلم عن بعض تلك المواقف على وجه الإجمال: فهذا موقف عام: وهو استقبالهم للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفرحهم أعظم الفرح بدخوله إليها، قال أنس رضي الله عنه يصور هذا اليوم: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يوماً أنار منها الله به كل شيء. ووصف يوم وفاته فقال: أظلم فيها كل شيء عليه الصلاة والسلام. وهناك موقف جماعي من مواقفهم المشهورة: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم قبل أن يخرج إلى بدر؛ لأن العقد الذي بينهم وبينه أن يحموه ما دام في المدينة، وبدر خارج المدينة فتكلم سعد بن معاذ وتكلم غيره وأظهروا ولاءً عظيماً لله ورسوله نصرةً جليلةً للدين، وكان مما قالوا: والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، ووالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك، كنايةً عن أي أمرٍ خطير، ففعلوا ما فعلوا رضي الله عنهم وأرضاهم.

من أسود الأنصار

من أسود الأنصار وفي يوم أحد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم سيفه فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام الزبير بن العوام، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه الزبير، ثم قام: أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: يا رسول الله وما حقه؟! قال: حقه أن تأخذه فتضرب به القوم حتى ينثني أو كلمة نحوها)، فأخذه رضي الله عنه وأرضاه وأخرج من جيبه عصابة حمراء وربط بها رأسه، فقالت الأنصار: لبس أبو دجانة عصابة الموت، قال الزبير رضي الله عنه وأرضاه: فوقع في نفسي قلت: أنا ابن عمته، أي: ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن قريش وأول من طلبه فلا يعطيني إياها، ثم يعطيه هذا، فلننظر ماذا يصنع؟ فأصبح الزبير يحاول قدر الإمكان وهو يقاتل أن يرى إلى صنيع أبي دجانة رضي الله عنه وأرضاه، قال: فأخرج عصابة حمراء فربط بها رأسه فسمعت الأنصار تقول: أخرج أبو دجانة عصابة الموت وأخذ ينشد: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل أضرب بسيف الله والرسول. ثم قال: فوالله ما قابل أحداً إلا قتله، قال: وفي القوم -أي: في الكفار- رجلٌ كلما قابل مؤمناً انتصر عليه، فسألت الله أن يلتقيا -أي: أبو دجانة وهذا الكافر- قال الزبير -في رواية ابن هشام - قال: فلما التقيا ضرب ذلك الرجل أبا دجانة فاتقاه بدرقة كانت في يده، ثم ضربه أبو دجانة فقتله، ثم مضى في الناس فسمع امرأة تحمس الناس -أي: تحث أهل الكفر من قريش على الحرب، وهو لا يدري أنها امرأة- فرفع السيف عليها، فلما رفع السيف عليها أحدثت صوتاً فعرف أنها امرأة، قال الزبير: فرأيته رفع السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم يعني: الله أعلم ورسوله أعلم لمن يعطيان السيف، ثم بعد ذلك أجاب أبو دجانة عن سبب امتناعه عن ضربها فقال: أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أضرب به امرأة، وهذا من أقدار الله التي لا يعلمها أحد، فقد كانت تلك المرأة: هند بنت عتبة أم معاوية زوجة أبي سفيان، والتي كتب الله لها أن تموت على الإيمان، فحماها الله بقدره جل وعلا. موقف آخر: في غزوة المريسيع أو بني المصطلق وقعت حادثة الإفك، فلما كثر الحديث في المدينة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: (من يعذرني من رجل آذاني في أهلي)، يقصد: عبد الله بن سلول، فقام أسيد بن حضير من الأوس رضي الله عنه وأرضاه وقال: يانبي الله! قل لنا من هو؛ فإن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أخذناه وقتلناه، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وقال: كذبت، والله لا تقتله ولا تستطيع قتله، وكل ذلك أمام نبي الأمة، الآن نحي الحديث هذا جانباً حتى تعرف أن العلم يحتاج إلى رجل موسوعي، لا رجل في قلبه هوى، بل رجل يطبق الأحكام كما يريد كتاب الله، كل الناس تقول: الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله، لكن الأمة لا تحتاج إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط فهما موجودان، بل تحتاج إلى رجل يطأطئ رقبته أمام كتاب الله وسنة رسوله، ويفهمها فهماً صحيحاً، فمن لا يفهمها لا يستطيع أن يقود الأمة، ومن فهمهما ولم يذعن لهما فلن يستطيع أن يقود الأمة، لكن يقود الناس من فهم الكتاب والسنة وطأطأ رأسه لا هواه أمام كتاب الله وسنة رسوله. لقد كان ابن باز رجلاً محبوباً في الناس، ولن أتكلم عن حي حتى لا يفتن، الآن لو جاء ابن باز وقال: إن فلان الصحفي يؤذيني، فجاء رجل وقال: أنا أنتقم لك -يا شيخ- من هذا الصحفي فرضاً، فجاء رجل آخر من قرابة هذا الصحفي وقال: والله ما تؤذيه، لقال الناس: أنت علماني أو ليبرالي، فهذا رجل يؤذي ابن باز وأنت تدافع عنه! هذا وهو ابن باز يخطئ ويصيب، ومع ذلك قال سعد بن عبادة لـ أسيد بن الحضير والرسول حاضر: كذبت، والله لا تستطيع أن تقتله، فسكّت النبي صلى الله عليه وسلم الناس، ونزل من المنبر، ولم يقل كلمة سوء في سعد بن عبادة؛ لأن الدافع عند سعد هو نصرته لعشيرته، وولائه الزائد لقبيلته، وحبه للخزرج؛ لأنه كان سيد الخزرج، ومعاذ الله أن يكون سعد بن عبادة يريد إيذاء الله ورسوله، وإلا لكفر وخرج من الملة، ومن هنا تفهم أن كثيراً من الناس قد يفعل الخطأ، لكنه لا يفعل الخطأ بناءً على النية التي تراها أنت، فمثلاً: يأتي شخص ما ويشرب الدخان عند الحرم، وقد يكون هذا الذي يشرب الدخان يعرف أنه حرام ومنكسر في قلبه ونادم لكنه لا يستطيع أن يتغلب على هذه المعصية في نفسه، فلا تأتي إليه أنت وتقول: أنت تحاد الله ورسوله عند مسجد رسول الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (مابين عير إلى ثور المدينة حرم، من أحدث فيه حدثاً أو آوى فيه محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، فتنزيل هذا الحكم على هذا الشخص خرق واضح للمعتاد، بل يلزمك أن تطبق الإيجاب عليه كما طبقت المنع، فلو قال لك هذا الرجل: أنا لا أفوت صلاة الفجر ولا العصر في حياتي كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى البردين دخل الجنة)، فطبق عليّ المنع كما طبقت عليّ الإيجاب، وأنت لا تستطيع أن تشهد له بالجنة، فتطبيق الأحداث على الأعيان جزافاً أمر لا يقدم عليه إلا جاهل، ويجب أن تعلم أن طالب العلم هو من يتكلم في الأوصاف لا في الأعيان، فالذي يتكلم في الأعيان هم: القضاة، فهو يحكم على شخص بعينه لأنه قاضٍ، أما الذي يتكلم علمياً فهو يتكلم على الوصف لا على العين، وقد تجد إنساناً يكفر شخصاً لم يره في حياته ولم يجلس معه، فالمقصود من هذا: أن الإنسان يفهم علمياً مراد القائل، والسبب الدافع للعمل قبل أن يطلق أحكامه.

لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار

لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار وهناك موقف حصل في غزوة حنين: عندما نصر الله جل وعلا نبيه وأعطاه الغنائم فقسمها صلى الله عليه وسلم على أقوام حديثي عهد بالإسلام؛ يتألف بها قلوبهم صلى الله عليه وسلم، فلما علم الأنصار بهذا وكانوا أعظم الجيش أصابهم شيء في أنفسهم، وقد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الوضوح، فأخذوا يقولون: كيف يعطيهم ويتركنا ونحن الذين نصرناه، ونحن أكثر الجيش إلى غير ذلك؟! وكان صلى الله عليه وسلم واضحاً مع أصحابه كالشمس، فجاءه سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟)، فأخبره الخبر فقال عليه الصلاة والسلام لـ سعد: (وأنت يا سعد؟!)، يعني: ما هو رأيك الشخصي؟ قال: يا رسول الله! وهل أنا إلا رجل من قومي، فقال: (اجمع لي الأنصار في هذه الحظيرة)، والحظيرة: مكان مسور، فجمعهم سعد رضي الله عنه، وأقبل عليهم نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وهم مجتمعون أوسهم وخزرجهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتيكم ضُلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟)، وأخذ يبين فضل نبوته عليهم، وهم يرددون ويقولون: لله ورسوله المن والفضل، وكلما قال قولاً، قالوا: لله ورسوله المن والفضل، ثم قال: (أجيبوني يا معشر الأنصار!)، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله! لله ورسوله المن والفضل؟ قال: (أما إنكم لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، ومخذولاً فنصرناك، ومحروماً فأعطيناك)، وكلمات نحوها فسكتوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! أوجدتم عليّ في أنفسكم لعاعة -يعني: سراباً- من الدنيا أوكلت بها أقواماً رجاء أن يسلموا، وأوكلتكم إلى إسلامكم، والله لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، الناس دثار والأنصار شعار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار!)، فبكوا رضي الله عنهم وأرضاهم حتى بللوا لحاهم؛ لأن نبي الأمة يقول لهم: (أما ترضون يا معشر الأنصار! أن يعود الناس بالشاء والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟)، فقالوا بلسان رجل واحد: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً. وهذا من أعظم ما أعطاه الله لهذه الفئة المباركة، وقد علم النبي أنه سيؤثر عليهم بعده، بل قال لهم عليه الصلاة والسلام: (أما إنكم ستجدون أثرةً بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، يعني: الحوض المورود، وهذا من تعلقهم بالإيمان الذي في قلوبهم، والآن لو قلت لواحد من أهل الدنيا: اصبر والموعد الحوض لتذمر ولما رضي بذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لعلمه بعظيم إيمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، هذه منازل بلغنا الله وإياكم إياها.

نبي الرحمة يوصي أصحابه بالأنصار رضوان الله عليهم

نبي الرحمة يوصي أصحابه بالأنصار رضوان الله عليهم نقول: هذا الموقف الإيماني العظيم لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بقي في قلبه عليه الصلاة والسلام حتى مرض مرض الموت، فلما مرض مرض الموت خرج العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمروا على مجلس للأنصار وهم يبكون، فقال العباس وأبو بكر لهم: ماذا يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلسنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكينا، أي: أنه في مرض الموت ونخاف ألا يتكرر هذا المجلس، فلما دخل الصديق والعباس رضي الله تعالى عنهما على رسول الله أخبراه الخبر هذا في أول المرض، وكان عليه الصلاة والسلام أعظم الأوفياء مع هذه الفئة المباركة فصعد المنبر وعليه عصابة وكانت آخر مرة ارتقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فأثنى على الأنصار وأوصى بهم وقال: (اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، ودعا لهم صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (إنهم سيقلون كما يقل الملح في الطعام)، وأثنى عليهم خيراً صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر أن الموعد الحوض، ونزل عن المنبر وكانت آخر مرة ارتقى فيها المنبر صلوات الله وسلامه عليه كالموصي لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والمثبت لقلوبهم لما سيكون بعده صلوات الله وسلامه عليه. هذا مجمل لبعض الأحداث التاريخية والإيمانية التي مر بها أولئك الرهط الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا الحديث الذي مر كله حديث إجمالي لا حديث أفراد، وحديث الأفراد: أن هؤلاء القوم نصروا الله ورسوله بلسانهم وسنانهم -يعني سيوفهم- فممن نصر رسول الله بلسانه: حسان بن ثابت: وهو خزرجي من بني النجار، وقد عاش مئة وعشرين عاماً، ستون سنة في الجاهلية، وستون في الإسلام، حتى عمي بصره رضي الله عنه وأرضاه، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يبارين الأسنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا فكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اهجهم وروح القدس معك)، ولما أراد أن يهجو حسان أبا سفيان بن الحارث، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنه أحد الخمسة الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئتهم، فلما أراد أن يهجوه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوه وأنا منه؟)، قال: لأستلك منهم أي: من بني عبد مناف كما تستل الشعرة من العجين، قال: (اذهب إلى أبي بكر فإنه أعلم بأنساب قريش)، فأخذ أبو بكر يعلم حسان أنساب قريش حتى لا يقع حسان في نسب يدل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان يهجو بني عبد الدار، ويتجنب بني عبد مناف جملة: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء إلى أن قال: وعبد الدار سادتها الإماء ومنهم كذلك: سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وهذا سعد اهتز عرش الرحمن عند موته؛ فرحاً بصعود روحه رضي الله عنه وأرضاه، ورغم كل المجد الذي تسمعه عن سعد فإنه مات وعمره ستة وثلاثون سنةً بنى فيها كل هذا المجد، وكان رجلاً سيداً في الأوس، كما كان سعد بن عبادة سيداً في الخزرج، ولما تمت بيعة العقبة سمعت قريش منادياً ينادي: فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ يقصد بالسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وأهديت له صلى الله عليه وسلم قطيفة من حرير، فأخذ الصحابة يتعجبون منها فقال عليه الصلاة والسلام -وهذا بعد موت سعد - قال عليه الصلاة والسلام: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)، فهو أحد الصحابة الكبار المشهود لهم بالفضل، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم دفنه وسابق إليه خوفاً من أن تسابقه الملائكة أو تسبقه إلى دفن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه. ومن سادتهم كذلك: أبي بن كعب، وهو أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ القرآن منهم، وبقية الأربعة هم: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب هو الرابع، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة: لم يكن الذين كفروا)، فالله جل جلاله يأمر نبيه عليه السلام أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل سيد القراء: أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه. ومنهم رضي الله عنهم وأرضاهم: معاذ بن جبل، وقد مات بعد الثلاثين بقليل، وأظنه في الأربع والثلاثين، وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام، قال عليه الصلاة والسلام: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وكان رجلاً سخياً أهلكه الدين حتى اشتكاه دائنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحجر عليه؛ لأن الحدود الشرعية ليس لها علاقة بفضل الرجل وبكرمه، ثم رق له وبعثه إلى اليمن معلماً، وفي نفس الوقت جابياً للزكاة حتى يكون له منها نصيب، قال تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60]، وهذا من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن فقدم المدينة ودخل المسجد وبكى تذكراً لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد مات رضي الله عنه في طاعون عمواس في الشام. ومنهم: سعد بن عبادة سيد الخزرج، الذي مرت معنا قصته قبل قليل، فقد سكن الشام في أواخر حياته ومات فيها رضي الله عنه وأرضاه. ومنهم: أبو دجانة، وقد مرت معنا مواقفه الشهيرة. أما بيوتهم: فقد ذكرنا بني النجار وتحدثنا عنهم، أما بنو عبد الأشهل: فهم القوم الذين منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ذات يوم في بني عبد الأشهل، فلما سلم انصرف من صلاته، فقاموا يتنفلون ويصلون ركعتي المغرب، وكل منهم يأخذ سارية أو مكاناً في المسجد يصلي فيه، فنظر صلى الله عليه وسلم إليهم وقال: (هذه صلاة البيوت)، أي: ركعتا المغرب الأفضل أن تؤدى في البيت، قال: (هذه صلاة البيوت يا بني عبد الأشهل!)، لكن لا يعني ذلك: أنه لا يجوز أداؤها في المسجد، لكن إذا أستطاع المرء أن يؤديها في البيت فهو أفضل وأكثر اتباعاً وإذعاناً للسنة، هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن الأنصار، ولعل في الإجابة عن أسئلتكم ما يوضح كثيراً مما تركناه. عموماً نقول: إن المقصود من مثل هذه الدروس أمور عدة، لكن أعظمها: الحرص على اتباعهم رضي الله عنهم وأرضاهم كما قال الله في مدح تابعيهم: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، والمعنى الإجمالي للتابعين بإحسان أي: اتبعوهم بإخلاص، واتبعوهم بأن صاروا على نهج بين وطريق واضح في اتباع سنة الله جل وعلا، واتباع سنة رسوله في إتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

أصناف الشباب في هذا العصر

أصناف الشباب في هذا العصر والناس في زماننا -وفئة الشباب على وجه الخصوص- تكتنفهم طرق: فمن الشباب من ابتلاه جل وعلا بالمخدرات والمسكرات، وهذا ناجم عن أمرين: عن ضعف الإيمان، وضعف الشخصية، فضعف الإيمان لأنه ارتكب معصية، وضعف الشخصية لأنه لا يستطيع أن يواجه الواقع الذي يعيشه، والمخدرات بأنواعها تجنح به إلى عالم الخيال، ثم لا يزال في ذلك الأمر حتى يهلك عياذاً بالله، نسأل الله لنا ولهم الهداية. وفئة أخرى: قد لا تصل إلى مرحلة المخدرات، لكنها فتنت بحضارة الغرب، فتراهم في بعض الطرقات المعينة كشارع السلطانة في المدينة، وشارع التحليه بجدة، وشارع الملك خالد في الخبر، وغيرها يلبسون الألبسة التي لا تليق بشخص مقتنع برجولته فضلاً على اقتناعه بإيمانه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)، وقال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]. وجعل لكل الناس شرعةً ومنهاجاً وطريقاً بيناً، وهؤلاء فيهم ضعف إيمان، وفيهم مركب نقص، ومركب النقص: أن الإنسان كلما شعر بالنقص في نفسه حاول أن يغطيه بشيء آخر، فهو يحب أن يلتفت الناس إليه، والتفات الناس يبحث عنه الإنسان بأي طريقة، فهذا شيء جبل الخلق عليه، لكن أولئك الفئة تحتاج إلى نوع من الرعاية من المربين والآباء لكونهم ظلموا أنفسهم ظلماً كثيراً بتلك الأجساد العارية، والسلاسل التي تلبس وأمثالها، عافانا الله وإياكم من ذلك. الفئة الثالثة: فئة قد لا تكون من هؤلاء، لكن ليست لديهم همة، صحيح أن الله حماهم من المخدرات ومن التزين والتميع، لكنهم يسمون في عرف الناس: أشخاصاً عاديين، فهو لا يريد أن يرتقي بنفسه، والعاقل ينبغي أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه: رأيتك أمس خير بني لؤي وأنت اليوم خير منك أمسِ وأنت غداً تزيد الخير خيراً كذاك تزيد سادتنا وتمسي فالإنسان يرتقي بنفسه إلى المعالي يوماً بعد يوم، لكن هؤلاء الفئة راضية بوضعها، ولا يحسن بالمرء أن يرضى بوضعه في طريق المعالي. وفئة -جعلنا الله وإياكم منهم- وأظن أن أكثركم منهم: هؤلاء يصدق فيهم كثيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وشاب نشأ في طاعة الله)، وهؤلاء هم الذين بهم تفخر الأمة، وهم تعتمد عليهم الأمة بعد الله جل وعلا. لأن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وأنا أقول لهم وصية واحدة مهمة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، قالها بعد أن قال: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، هذا حديث العرباض بن سارية، ذكر فيه صلى الله عليه وسلم: تقوى الله، والسمع والطاعة، والبعد عن البدع، والبعد عن البدع أكثر الشباب محفوظون منه ولله الحمد. بقيت قضية الخروج على ولاة الأمر، وهذه مهلكة من المهالك؛ لأن اتباع ولي الأمر أصلاً جعله الله ديناً وملة وقربة، وقد قلت قبل قليل بحماس زائد قليلاً: عرف دينه من طأطأ رأسه لكتاب الله وسنة رسوله، فلا تجعل هوى قلبك هو الذي يقول، وقد ترى أخطاء لا تستطيع أن تطيقها، لكن يمنعك ويلجمك حكم السمع والطاعة لمن أمرك الله بالسمع والطاعة لهم، ولا يعني هذا ترك النصح أوترك الدعوة أو بيان الحق معاذ الله! لكن الله جل وعلا أمر رسوله بجماعة المسلمين، وحذر من الافتتان واصطدام الرأي، وسفك الدماء بين الأمة الواحدة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). فهؤلاء الشباب الذين منّ الله عليهم بدور العلم، وحلقات التحفيظ، والصلوات في الليل، وبرّ الوالدين، هؤلاء هم أفضل هذه الأمة في عصرنا هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم: (إمام عادل)، ثم ثنى بقوله: (وشاب نشأ في طاعة الله)، ولا يوجد شيء أعظم من أن تنشأ في طاعة الله، وعلى قول بعض الأخيار -ممن أدركناهم في المدينة- يقول: إذا أذن المؤذن الأول رأيت أولياء الله يخرجون من جحورهم، ورأيت إخواننا الموريتانيين الشباب يتجهون إلى الحرم -ولا نزكي على الله أحداً- لكن هؤلاء الفئة هم أقرب الناس إلى ربهم، الذين ينتظرون وقت فتح أبواب الحرم ليدخلوه، بينما غيرهم نائم أو على لهو، أو على مجون أو سهر، أياً كان نوع حياتهم مباحاً أو حراماً، لكن لا يقاس هذا بهذا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. ختام ما نريد أن نقوله: إن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن الدنيا عموماً أيام معدودات، وأنفاس محدودة، وما مضى من يومك إنما هو بعضك، ولقاء الله حق لا بد منه، قال عليه الصلاة والسلام: (وما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، لكن على الإنسان في الختام أن يتقي الله في نفسه وفيمن حوله، ويحاول أن يسلم المسلمون من لسانه.

حلية طالب العلم

حلية طالب العلم طلب العلم من أشرف المقامات ومن أجل القربات، فبالعلم يقوم الدين في قلوب المؤمنين، ويهدى الناس إلى صراط الله المستقيم. ولا بد لطالب العلم أن يتحلى بآداب وأخلاق وفضائل يزين بها علمه؛ حتى يكون مقبولاً عند الله وعند الناس.

الحقوق الواجبة على طالب العلم

الحقوق الواجبة على طالب العلم هذا مما يجب أن يتحلى به طالب العلم مما دونه الأكابر، وذكره الفضلاء، وسطره العلماء من قبل، وليس لنا فيه إلا استحضار ذكره للناس. مضى الحديث وسبق القول في قضية بناء الإنسان نفسه إيمانياً ومعرفياً وسلوكياً، فإذا قدر للإنسان أن يبني نفسه إيمانياً ومعرفياً وسلوكياً، فإنه ينطلق بعد ذلك إلى ما يسمى بالجانب العملي في حياته. وهذا الجانب العملي في حياة طالب العلم له شواهد وقرائن تدل عليه، أو له معايير يحكم له بها، فلا مشاحاة في الاصطلاح. والذي نريد أن نذكره بعون الله تعالى أن يعرف طالب العلم لكل ذي حق حقه، وهذا من دلائل يقينه بربه، وسيره على هدي نبيه، واحتكامه إلى العقل، ومعرفة ما يجب عليه، وما يملى عليه من الواجبات. وقولنا: أن يعرف لكل ذي حق حقه من أهم ذلك حق الوالدين. ثم حق ولاة الأمر، وأن يكون المرء العالم والسالك لطلب العلم لبنة خير في مجتمعه، يألف ويؤلف، يحب أن يجتمع الناس على كلمة سواء، يحبب الناس في ولاة أمرهم، ويحبب ولاة الأمر إلى الناس، ويسعى بين الجميع بالمنطق الحسن، وتآلف القلوب، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ويلتمس الأعذار، ويقبل المعاذير، ويقيل العثرة، ويتغافل عن بعض الأمور، بهذا وأمثاله تعرف الحقوق، ويقوم الإنسان بما عليه؛ لأن أهل العلم هم المنوط بهم أن يتولوا ركاب الأمة قيادة وسعياً إلى الخير، وحتى يكون الإنسان مؤهلاً لذلك عملياً يجب أن يكون قد وطن نفسه على أن يعرف لأهل الفضل فضلهم فقراء المسلمين، ومساكينهم، وأهل الضعفة والعوز منهم، يجب على طالب العلم أن يعرف وصية الله جل وعلا بهم، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم في حقهم، فيقربهم ويدنيهم، ويرأف بهم قدر ما يستطيع، وأن يعلم أنهم سبيل إلى رحمة الله، وطريق إلى مرضاته، بل إنهم جميعاً في أداء حقهم طريق إلى أن يحسن الرب تبارك وتعالى إلينا، ويرحمنا، وذلك من أعظم أسباب التوفيق، ويقاس على ذلك معرفة فضل أولي الفضل، وإنزال الناس منازلهم، وهذا كله مبني على تلك الأسس التي يجب أن يعنى بها وهي ثلاثة: البناء الإيماني والمعرفي والسلوكي.

أمور يجب على طالب العلم أن ينأى بنفسه عنها

أمور يجب على طالب العلم أن ينأى بنفسه عنها ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما يمكن أن يكون سمتاً، وهو مندرج في الجانب العملي، ثمة أمور يجب على طالب العلم أن ينأى بنفسه عنها، وأن يجتنبها، لأنها تفقده مروءته، أو تفقده مصداقيته، أو تدفعه لئن يقول ما لا يعلم. وهذه الثلاث المحاذير مما يجب أن ينأى المرء عنه. قد يكون الشيء مباحاً، لكنه لا يليق بمن سلك منهج العلماء، وطريق القادة، وسبيل الربانيين من الكبار، وكنموذج من واقع الناس، كالأناشيد مثلاً، أو ما يعرف بالأناشيد الإسلامية، وإن كان في وصفها بالإسلامية محل نظر، لكنها تكون مباحة عند أكثر العلماء إن لم تكن مصحوبة بآلة عزف، فهذه قد يقبل أن يستمعها شاب أو طالب في مركز، أو رجل في سفر، قد لا يكون هناك حرج كبير في ذلك، لكن لا يليق بطالب علم أن يعزف على تلك الأناشيد، ينتقل من كتف إلى آخر، يتغنى بها أو يرددها، فهذا يقدح غالباً في مروئته، وينأى به عن سمت العلماء وهديهم، ذلك أن للعلماء سمتاً وهدياً خاصة في المحافل والأماكن، والإنسان يتأثر بما يسمع ومما يقول. مما ينبغي أن ينأى طالب العلم بنفسه عنه: أن يتحدث في كل شيء، وأن يرى أنه أهل لئن يتكلم في كل قضية، وإنما العاقل وطالب العلم في المقام الأول، وطالبة العلم في المقام الأول كذلك، فلا يتحدث إلا في الشيء الذي ملأ يده منه، وأحكمه وأجاده. والإنسان إذا كان أكمله الله بالإيمان والمعرفة والسلوك الحسن لا يتحدث بكل قضية، ولا يخطب في كل نادٍ، ولا يهيم في كل واد، وإنما إذا تحدث رأى الناس على حديثه سمت الصدق، ونجم عن حديثه النفع، وكان تحريره للقول تحرير رجل عالم بما يقول، ولهذا لا يمكن أن يتحدث الإنسان في كل قضية، ويخوض في كل مسألة رغبة في أن يتصدر بمجلس، أو أن يشار إليه بالبنان. كما ينبغي أن ينأى طالب العلم بنفسه عن مزاحمة الناس في أمر دنياهم، قال الشافعي رحمه الله: فإن تجتنبها تجتنبها بعزة وإن تجتذبها نازعتك كلابها أي: الدنيا. وقال الحسن البصري رحمه الله: اترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك. وليس المقصود أن الإنسان يحيى فقيراً على السؤال والمسكنة، لكن الإنسان إذا كان في دائرة ما حكومية، أو غيرها فلا يأخذ غير حقه، أو يشارك في مسألة الأسهم كما في عصرنا، أو يدخل بما يسمى بالجمعيات، أو يأتي إذا كان معلماً في الجدول الدراسي يطالب بأكثر من حقه، أو ما أشبه ذلك مما يشعر الناس فيه أنه حرص على الراحة، أو بحث عن مطالب دنيوية محضة، أو منافسة للناس، وصراع معهم في أمور دنيوية، سواء كانوا زملاء في وظيفة، أو جيران في الحي، أو ما إلى ذلك، هذا كله يقدح في شخصيته، ويقلل في قبول الناس منه، وهو يحمل هماً عظيماً وعلماً جماً، ولا بد أن يتخذ كل الطرائق التي تعينه على تبليغ دعوة الله جل وعلا إلى الناس. فلا يجب أن يجعل هناك حاجزاً وحاجباً بينه وبين الناس في أنه يخوض في دنياهم، وينافسهم فيها، هذا ينأى به عن طريق الله المستقيم على الوجه الأكمل، وأنا لا أتحدث عن الحلال والحرام، إنما أتحدث عن معالي الأمور كيف تنال. وقد قيل: ما انتصف كريم قط، فكرام الناس لا يأخذون حقهم، إنما يشقون؛ لأنهم يتحملون أثقالاً عديدة لا يتحملها غيرهم، وهذا من أسباب صدارتهم في الناس.

تحمل طالب العلم تقصير من له حق عليهم

تحمل طالب العلم تقصير من له حق عليهم ومما يجب على طالب العلم في الجانب العملي أن يتحمل تقصير من له حق عليهم في حقه، والمعنى: إذا كان أهلك وقرابتك، وأهل حيك، وزملاؤك، وجيرانك، لم يعرفوا لك قدراً، وهذا من سنن الله، في الناس، فإذا قبلت ذلك التقصير ولم تشكوه، وأعطيت الذي عليك من الحق، ولم تبادلهم بالقطيعة، ولم تبحث عندهم عن منزلة ذات شرف، ثق أن الله سيعوضك خيراً من ذلك الذي فقدت، فمن صبر على هجران قلوب أصلها أن تحبه فتح الله له قلوباً ليس عليها واجب شرعي أن تحبه. وهذا بالاستقراء ظاهر للناس، فكم من علماء كتب الله جل وعلا لهم القبول في الأرض، لو تأملت كثيراً من حياتهم لوجدت تقصيراً كثيراً ممن حولهم بهم، لكنهم صبروا على ذلك، ففتح الله جل وعلا لهم قلوباً لا تخطر لهم على بال، ولم يرجفوا عليها بخيلٍ ولا ركاب، ومن أعظم الأمثلة الدالة على هذا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قصر قومه في حقه، قال الله جل وعلا: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66] فلما كذب به قومه وصبر صلوات الله وسلامه عليه فتح الله له قلوب أهل المدينة فآواه الله إلى الأنصار إلى الأوس والخزرج، ونجم عن ذلك الخير العظيم، وانتشار الإسلام انتشاراً عم كثيراً من الأقطار في حياته، وبعد حياته صلوات الله وسلامه عليه. فقد يكون بعض من حولك يقصر في حقك، أو يحسدك على مكانتك، فصبرك عليه مما يورثك الله جل وعلا به الأرض، وأماكن لم تكن تخطر لك على بال. والله لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تطيع الله فيه، لكن الأمر كما قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].

لا يشتت طالب العلم نفسه

لا يشتت طالب العلم نفسه كذلك من الجانب العملي: أن لا يشتت طالب العلم نفسه، وكثير من الفضلاء ممن اختلطنا بهم أو رأيناهم أو أشرفنا عليهم لا ينقصهم ذكاء، ولا جلد على طلب العلم، ولا نية صادقة، فيما يظهر لنا، صحيحة نواياهم، وعظم صبرهم، واشتد ذكاؤهم، ومع ذلك لم يبلغوا حاجتهم، والله جل وعلا خلق أسباباً ورتب على تلك الأسباب نتائج، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فإذا تأملت في نفسك، أو فيمن حولك تجد أن بعض الفضلاء يشتت نفسه، ولا يجمعها، يريد أن ينجز كل شيء، ومن يريد أن ينجز كل شيء لم ينجز شيئاً، ومن يريد أن يجلس ليقول كل شيء لم يقل شيء. إن مما أضاع طلبة العلم أنهم يشتتون أنفسهم، فيأتي طالب العلم يريد أن يشرف على حلقة التحفيظ، ويريد أن يرتب لقاءات مع المشايخ، ويريد أن يقوم بخدمة المشائخ ذهاباً وإياباً، ويريد أن يقيم احتفالات لأهل حيه في المناسبات الدينية، ويريد أن يقود حملة في الحج، ويريد أن يرأس لجنة توزع الإعلانات، ويريد أن يفعل هذا كله، الجمع بين هذا وطلبه للعلم وهذا محال، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. وسأضرب مثلاً بسيطاً، وقبل أن أضرب المثل اعتذر بأن المثل بسيط جداً، لكن أنا رجل من الله عليه بالتعلق بالقرآن، فلا أجد غضاضة أن أقول المثل؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:73] ضرب الله مثلاً بالذباب لئلا يأتي أحد يسأل ما هو الذباب؟ فالذباب يعرفه كل أحد، فالمثل لا بد أن يكون قريباً من الناس. المثل هو أن الهر الحيوان المعروف الأليف يقول صلى الله عليه وسلم عنه: (من الطوافين عليكم والطوافات)، فلو حجزته في مكان ضيق، وأردت أن تؤذيه فأراد أن يتخلص منك، أول شيء يعمله ينكفئ على نفسه، أي: يجمع نفسه ثم بعد ذلك يفر عنك، فقبل أن يفر عنك يجمع نفسه، جمعه لنفسه ترتيب منطقي عقلي هو الصحيح، لم ينجز حتى يجمع نفسه. فإذا شتت مطالبك وتنوعت أهدافك وغاياتك ضاعت كلها وأنت شخص واحد، الإشراف على التحفيظ قربة من القربات، وسبيل عظيم إلى رحمة رب العالمين، ومنارة من منائر الدين، وشعيرة من شعائر الإسلام، وتعليق الإعلانات دعوة إلى الله، وقيادة الناس في الحج من أعظم السبل إلى رحمته، لكن محال أن يأتي إنسان واحد بهذا كله. والعلم يحتاج في مراحل العمر الأولى، وفي مراحل الطلب إلى جمع، وإلى تدوين، وإلى مراجعة، فلسنا أنبياء يوحى إلينا، كل أحد غير الأنبياء مطالب أن يجمع العلم ويثني الركب، ويحرر ويراجع، وهذا يحتاج إلى مساحة من الوقت، فإذا ذهب الوقت في أمور كثيرة، والذهن اشتغل بعدة أمور لن ينجز شيئاً، فطالب العلم مطالب أن يحدد هدفه، ولا يعني ذلك أنه يحارب أو يعادي إخوانه الذين على تلك الثغور، هذا خطأ عظيم، وسوء ظن بالمسلمين، وعدم معرفة بالشرع، لكن كل ميسر لما خلق له. أيها المبارك، أيتها المباركة: أول الأمر حدد الهدف، ثم لا بد من سنين تمضي حتى تصل إلى هدفك، فإذا حددت الهدف والغاية، ثم صبرت ستصل بإذن الله ورحمته إلى غايتك، لكن لا يعني ذلك أن تفر من هذه الأمور إذا وقعت عارضة، فلا يستنكف المسلم أن يسلم في نشر الإسلام في شيء، فمرة تذهب مع زملائك في حلقة التحفيظ إلى رحلة، أو تأتيهم بعد مغرب أو عشاء تعظهم، ومرة تلصق إعلاناً، ومرة تستضيف شيخاً، المقصود أن الدأب العام، الذي تتولاه في أكثر أوقاتك ينبغي أن يكون محدداً واضحاً بيناً لك، حتى لا تتشتت بك السبل، ولا تحتار في سلوك الطريق. فالأمر الذي يحول بينك وبين هدفك ولو كان صواباً تجنبه، والأمر الذي لا يحول بينك وبين هدفك، ولا يؤخرك من الوصول إلى غايتك فلا بأس أن تأخذ منه بطرف، وبشيء يسير دون أن يكون ملتصقاً بك التصاقاً كلياً، وهذه مسألة يجب التنبه لها، وأنت تطلب العلم.

يحرص طالب العلم على أن ينتفع بكلامه ووعظه

يحرص طالب العلم على أن ينتفع بكلامه ووعظه مما يتعلق بالجانب العملي: أن يحرص الإنسان أن يكون في كلامه ووعظه ودرسه ما ينفعه هو قبل أن ينفع الناس، ويكتشف الإنسان أنه سائر على الطريق الحق إذا وجد أنه يزداد كل يوم علماً، أو وجد أن يومه خير من أمسه، وأن غده خير من يومه، ولهذا فإنه يحسن أن تتخذ طريقاً في العلم من طريقة تعليم الناس، تراقب نفسك أن تعلمها فيكون درسك الذي تلقيه درساً علمياً، وإن خالطه وعظ وإنشاء، فأنت أول المستفيدين مما تحرره، ولي تجربة شخصية، فقد بدأت في مسجدي مسجد السلام عام 1408هـ تقريباً، وكنت أدرس الناس كل خميس، وأجتهد قدر الإمكان اجتهاداً عظيماً في أن يكون الدرس علمياً يشعر من يسمعه أنه يسمع شيئاً جديداً، واكتفيت بأن يكون مرة في الأسبوع، والشهر أربعة أسابيع، وفي السنة ثمانية وأربعون درساً، فلنقل: ثمانية عشر أسبوعاً حال بيني وبين الدرس أعذار، فيبقى ثلاثون أسبوعاً في العام، لو مضيت على هذا الحال خمس سنين في أربعين درساً ثق أنك إذا أعددت مائتي درس تحضيراً جيداً وأخلصت النية ورزقت الفهم ستصبح شخصية أخرى. وأحرص قدر الإمكان أن يكون الدرس ذا زاد علمي، يتعلق بالقرآن في المقام الأول، ثم بالسنة دون أن أخوض في الإنشاءات والخطابات العامة التي قد يؤدي بعض الفضلاء الدور فيها، والعاقل لا يكرر ما ألقاه غيره، وهذا من أعظم الوصايا. يقول أحد أصحاب الهمم العالية: لا يراني الله أرعى روضة سهلة الأكناف من شاء رعاها ولهذا فـ السهيلي رحمة الله تعالى عليه لما شرح السيرة سمى كتابه: (الروض الأُنُف) روض ما كل أحد يرعاه، فالعاقل يعلم أنه لا يوجد وحي، فقد انقطع بموت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هي نفسك فارعها، فيطلب العلم بجدية، ولا يقبل أن يجذبه كل فرد ممن حوله كل يوم في قضية، وكل ليلة في منحى، ويغير الكتاب في الأسبوع أكثر من سبع مرات، ولكنه يتخذ سبيلاً بيناً، ويكون الحديث إلى الناس، وتعليمهم الشرع، رغبة فيما عند الله من الأجر. واقطع العلائق بينك وبينهم، إلا أنك تحتويهم بخلقك، هذا الذي يجعل لك بعد رحمة الله الصدارة مع الأيام، إن الأمور على قسمين: أمر يتعلق بك، وأمر يتعلق بالله، فما يتعلق بالله لا تحمل همه، فالله أرحم بك من نفسك، ولكن احمل هم الشيء الذي أوكله الله إليك، وهو جمع العلم، والتقرب إلى الله بالعمل الذي تعمله، أما متى تفتح لك أبواب الناس؟ متى تفتح لك قلوبهم؟ متى تهيأ لك المساجد؟ متى تعطى المنبر الذي تريد؟ متى يستمع الناس إليك؟ هذا يا أخي لا تحمل همه طرفة عين، احمل هم نفس ستقف بين يدي الله، فبادر وخذ بالجد فيه فإن أتاكه انتفعت. فإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رؤستا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا يحرص الإنسان على أن لا يفضح يوم العرض على الله، وليكن ظنه بالله حسناً، فعبد السوء من يظن بالناس أحسن من ظنه بالله، لكن من عرف الله لا يمكن أن يحسن بأحد ظناً كما يحسنه برب العالمين جل جلاله. فنقول: اسع في الأمر الذي يعنيك، فإذا قال لك أحد من المثبطين حولك: لم يحضر أحد، أو لا يدري عنك أحد، أولم ينتفع بك أحد، أولم يسمع لك أحد، فلا تلتفت إليه، لكن من حقك أن تراجع نفسك: هل تقول كلمات تهيج بها أقواماً وتثير بها شباباً، وتلفت إليك بها الأنظار، أو تقول علماً مبني على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن كانت الأولى عياذاً بالله فستقف أو تتأخر ولن تصل إلى مرادك، ولو وصلت لن تؤجر؛ لأن همك قد كان لفت الأنظار إليك، وقد حصل، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16] نسأل الله العافية. أما إذا كنت تريد بذلك وجه الله فلا تلتفت إلى المثبطين، لكن راجع نفسك. ما عاتب الحر الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح وراجع موادك العلمية، ولا تكرر على الناس حديثاً حتى يملوه، وابحث في طيات المراجع، وهذا مبني على التأسيس الأول في الزاد المعرفي؛ حتى تقدم للناس شيئاً جديداً ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، وثق بعد ذلك أن الله جل وعلا سيقبلك عنده إذا أخلصت نيتك. أما مسألة معرفة الناس لك، أو عدم معرفتهم، فهذه لا تحمل همها إن وقعت، فاسأل الله أن يعينك على شكرها، وإن لم تقع فاسأل الله جنته، فهي أعظم غاية، وأجل مطلوب، وهي التي شمر إليها الصالحون، وسعى في طلبها عباد الله وأولياؤه المتقون.

لا ينتهج طالب العلم أسلوبا قهريا في حمل الناس على وصاياه

لا ينتهج طالب العلم أسلوباً قهرياً في حمل الناس على وصاياه ومما يجب أن يتحلى به طالب العلم: ألا يتخذ في بثه للمعلومة، وتحديثه للناس، أسلوباً قهرياً أسلوب من يحمل وصاياه على الخلق، لكن أسلوب من يحسن الظن بإخوانه المؤمنين، من لا يظهر الشماتة بهم، ولا يريد أن يظهر نقصهم للناس، وإنما أسلوب من يستر عيوبهم، ويرحم حالهم، ويرجو لهم الجنة، ويخشى عليهم النار. أسلوب عبد يتقرب إلى الله جل وعلا بنفع عباده، لا بإظهار نفسه، فيعطيهم الموعظة دون أن تنقص من قدرهم، أو أن تقلل من شأنهم في الناس وصية محب، ونصيحة مشفق يرأف بالخلق، ويعرف أن المؤمن لا يخرجه من دائرة الإيمان كبائر ولا معاصٍ، اللهم! إلا إذ وجد من يجاهر بالمعاصي، ويبالغ فيها ويعلنها، فهذا له نوعية خطاب خاص، قال الله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، لكن من حيث الجملة: في الكلمات الوعظية، أو في الخطب المنبرية، أو في الدروس التي تلقى للناس، ينبغي أن يقدم الدين برفق إلى عباد الله؛ حتى يقلبوه {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن تسعوهم بأخلاقكم) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه. وليس شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، فمثل هذه الطرائق يصل الإنسان إلى مقصوده، لكن خطأنا الأكبر أننا ضحايا لبعض من نتوهم أنه ينصحنا، يدخل أحدنا مع باب المسجد يؤم المنبر ليخطب، فيتسابق إليه رجل أو رجلان، يقولان له: الله! الله! في الذين يفعلون كذا، الله! الله! في الذين يفعلون كذا، يسمي له بعض المعاصي التي يفعلها بعض الناس ممن يحضر جمعة، فيعجب هذا الخطيب بوصية أولئك، فإذا صعد المنبر حتى ما كان قد أعده من لين الخطاب، خرج عنه إلى أقساه لتلك الوصية، فيأتي للناس ولا يرى فيمن حوله إلا أولئك النفر الثلاثة أو الأربعة الذين أخطئوا فيوجه الخطاب إليهم. والعاقل المتبع للسنة لا يقسم الناس حوله، وإنما لا يُدرى من المقصود بخطبته، لكن إذا كانت الخطبة في الغالب يدرى من المقصود بها انقسم الناس بالخطبة إلى متضرر وإلى شامت، فتكون الخطبة قدر الإمكان لا تعنى بموضوع واحد، ومع إجلالنا واحترامنا لكثير من أهل العلم فينا، إلا أنني أقول على بينة من الأمر في أن الخطبة إذا كانت عن موضوع واحد ليست صواباً أبداً، وسأذكر مثلاً: حضرت مرة خطبة لأحد الفضلاء يشهد الله أنني أتقرب إلى الله جل وعلا بحبه، وأتمنى من الله أن يبلغني ما بلغه من العمل الصالح، لكن خطبته وفقنا الله وإياه، كانت في آخر العام، وآخر العام يطالب المأجرون بالإيجار. فكان يتكلم عن وجوب الشفقة بالمستأجرين، فوفى الموضوع حقه، وجمع فيه أدلة بالغة بنية وقلب مخلص، ولا نزكي على الله أحداً، لكني أقول: لا يمكن أن تكون الخطبتان كلاهما عن موضوع المستأجرين؛ لأن نصف المسجد ليس بمؤجر ولا مستأجر، فلم ينتفع من الخطبة بشيء، لكن كان بالإمكان أن يتكلم عن طرائق الرحمة بالمؤمنين، فيذكر منها في آخر العام الرحمة بالمستأجر، والرحمة بالوالدين، والرحمة بالأجراء والعمال أن يعطوا حقهم، والرحمة بالزوجة إذا كان الإنسان عنده أكثر من زوجة، فيشمل الرحمة بالطلاب إن كان معلماً، فبهذه الطريقة يمكن إيصال المغزى من الخطبة إلى أكثر فئات المجتمع. أما أن تكون الخطبة كلها أولها في موضوع، وثانيها نكرر ما قلناه في الأول لا يمكن أن ينتفع الناس منها بشيء، لكن يكون الإنسان جامعاً في كلامه قدر الإمكان، وهذا جانب عملي في قضية كيف يخاطب المؤمن كيف يخاطب المؤمن طالب العلم من حوله من الناس. هذه يا أخي! ما تيسر الحديث عنه من نتف متنوعة، أرجو الله جل وعلا أن ينفع بها، وأن يبلغنا فوق ما نؤمل من الخير، وأن يدفع عنا وعنكم أكثر مما نخاف من السوء إن ربي لسميع الدعاء، وصل الله على محمد وعلى آله.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة من تحريم لحم الخنزير

الحكمة من تحريم لحم الخنزير Q أخت من إيطاليا تقول: أنا مسلمة وأتقابل مع أمهات من ديانات أخرى، ويطرحون عليّ عدة أسئلة، أريد من فضيلتكم معرفة إجاباتها. Q ما الحكمة من تحريم لحم الخنزير؟ A حتى تجيبين أيتها المباركة من سألك هذا السؤال، حاولي في أول الأمر أن تبيني لمن سألك التدرج في الأمر، فتقولي: نحن مخلوقون، والذي خلقنا هو ربنا، وإذا اتفقنا على أنه لا خالق إلا الله وجب ألا نعبد إلا الله، فإذا وجب ألا نعبد إلا الله فمن عبوديتنا له تبارك وتعالى امتثالنا لأمره، وعلمنا أن ربنا جل وعلا أدرى بمصالحنا منا، وما دمنا قد اتفقنا أن الله أرحم بنا منا، وأنه هو خالقنا، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ عَلِيمًا} [النساء:147]، ونحن المسلمين نؤمن أن الله جل وعلا هو الرب، وأننا عبيده وخلقه، وأنه يريد بنا الخير، ولا يريد بنا السوء {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فمعنى إسلامنا: أننا أسلمنا أنفسنا كلها لله، نختار ما يختاره الله لنا، فحرم الله علينا لحم الخنزير، والله هو الذي خلق الخنزير، فلو كان في لحم الخنزير خير لنا لما حرمه الله جل وعلا علينا، وما دام الله جل وعلا قد حرمه علينا، فلا بد أن فيه ضرر علينا سواء علمنا هذا الضرر أو لم نعلمه، وبعض من يعنى بالطب يقول: إنه يذهب الغيرة، وأياً كان الأمر صدقوا، أو لم يصدقوا، فنحن نتعبد الله بعدم أكله.

الحكمة من الصيام ومن تحريم شرب الخمر

الحكمة من الصيام ومن تحريم شرب الخمر Q تقول: لماذا يصوم المسلمون رمضان، وما الحكمة من تحريم شرب الخمر؟ A إن الذي نريد أن نهديه لا بد أن يعلم المعتقد الذي نؤمن به، ما هي منطلقاته؟ فنبين له في المقام الأول قبل الخمر، وقبل رمضان، وقبل أي شيء أننا لا بد أن نعلم أننا مخلوقون، فإذا أقر أن الخلق خلق الله جل وعلا، والأمر أمره، قلنا له: نحن هذا الذي نؤمن به، ونعتقده، ونحن هذا الذي نحاسب عليه، وهذا هو القسيم بين أهل الجنة والنار، فالله اختار من الشهور شهراً، أمرنا أن نصوم فيه؛ حتى نتقرب بذلك الصيام إليه. وكذلك تحريم الخمر، ويقال له: فيه حفظاً لعقولنا التي بها نعرف بها ما حولنا.

صلاح القلوب

صلاح القلوب Q سائل آخر يقول: فضيلة الشيخ! كيف نصلح قلوبنا، وكيف نجعلها عامرة بذكر الله؟ A القلوب لا يصلحها شيء أعظم من كلام ربها، وتدبر القرآن السبيل الأول إلى صلاح القلوب، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فتدبر القرآن ومعرفة مراد الله جل وعلا من آياته مما يجعل القلوب صالحة مصلحة عامرة بذكر الرب تبارك وتعالى.

كتب ينصح بقراءتها لطالب العلم

كتب ينصح بقراءتها لطالب العلم Q فضيلة الشيخ نريد أن تذكر بعض الكتب، وتنصح بعض طلاب العلم في شتى العلوم؟ A إذا كان الطالب مبتدئاً فعليه بتيسير العلام لشرح عمدة الأحكام في الفقه، أنا أتكلم في المبتدئين؛ لأنه مشروح للشيخ: عبد الله البسام وفقه الله، وشرح العقيدة الواسطية للعلامة: ابن عثيمين غفر الله له ورحمه، وسلسلة الشيخ: عمر الأشقر في العقيدة (الجنة والنار) (القيامة الكبرى) و (القيامة الصغرى) و (الرسل والرسالات) وتفسير الحافظ ابن كثير، والروض الأنف للسهيلي في السيرة، وإن تعذر عليه روض الأنف عليه بكتاب: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لـ مهدي رزق الله، وإن كان تاريخه كثيراً، والروض الأنف مظنة أخبار، أو السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة لـ محمد أبو شهبه ومن باب الفتاوى: فتاوى الشيخ: عبد العزيز بن باز غفر الله له ورحمه، بعد ذلك شرح الزاد للروض الممتع للشيح ابن عثيمين غفر الله له ورحمه إلى الآن في اثني عشر مجلداً، هذه نوافع مما ينفع الله جل وعلا بها طالب العلم. Q هذا سائل يقول: قررت الجدية في طلب العلم، وترك التشتت فبماذا تنصحونني؟ A الجدية في طلب العلم وعدم التشتت لا يعني أن تفرط فيما عليك من واجبات، وتغيب عن أمك وأبيك وأمور كثيرة بحجة طلب العلم. لا تطلب العلم لتعظم، أو بتعبير أصح: عش حياتك حياة طبيعية حياة الأنبياء، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أئمة في المحاريب، يحركون القلوب إذا وعظوا، موسى عليه الصلاة والسلام لما وعظ الناس حرك القلوب فقال له نفر من بني إسرائيل: هل هناك أحد أعلم منك؟ فنسي أن ينسب العلم إلى الله قال: لا، فعاتبه ربه. كن في درسك ضابطاً قائماً بمنهجك، وبين يدي شيخك مؤدباً، لكن لا تأتي عند والديك أو عند أبنائك على أنك طالب علم تنتظر منهم أن يجلوك؛ لأنك الآن ابن ولست طالب علم، أنت طالب علم في المسجد بين أقرانك، لكن حق الوالدين عليك عظيم، عش كما كان الأنبياء يعيشون. تسئل أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تقول: كان في مهنة أهله، العظيم يعيش عظيم أينما كان لأنه لا يستمد عظمته من الناس، وإنما عظمته بالعظائم من المعتقدات التي يحملها في قلبه. في صلح الحديبية كتب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، قال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب أسمك وأسم أبيك، فأمر النبي علياً أن يمحها فرفض علي، فقال صلى الله عليه وسلم: (دلني عليها) علم الله به أمماً وهو لا يعرف يخط بالقلم، لا يدري أين محمد من رسول من الله، فدله علي عليها فمسحها. موضع الشاهد قال عليه الصلاة والسلام (إني رسول الله وإن كذبتموني) أنتم رضيتم أو لم ترضوا، صدقتم أو ما صدقتم أنا رسول الله، فأنت إن شاء الله إذا كنت تحفظ القرآن تطلب علم، وافق الناس أو لم يوافقوا، فإن جئت في محفل لم يأبه بك أحد، ولم يستمع لك أحد فأنت طالب علم، النقص فيهم ليس فيك. ثم لا تقل كل علمك لكل أحد، الشافعي يقول: أأنثر دري بين سارحة الغنم! لأن قطع الدرر تخرجها لمن يعرف قدرها، عش حياة عادية، لكن إن كنت تبحث عن إجلال من الناس ستتعب كثيراً، ومن أحب شيئاً عذبه الله به. موسى عليه السلام قال له ربه: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وماذا قال الله عن الخضر قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] هذا مقامهما عند الله، موسى والخضر دخلوا على أهل القرية: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] ما وجدوا لهما قدراً، لكن لم يغير بشخصية موسى، ولا بشخصية الخضر أن أصحاب القرية لم يعرفوا لهما قدراً، فإذا كانت عظمتك في نفسك المبنية على إيمانك وثقتك بربك لم تلتفت إلى الناس، إذا أتوا لك بسيارة عند باب المسجد فاركبها، فإن لم يكن هناك سيارة فامش على قدميك كل هذا لا يغير فيك إن كنت عظيماً في داخلك، أما إن كنت تبحث عن هذه الأشياء ستتعب كثيراً، سيأتيك ما لا تطلبه. لا تنتظر من الناس أن يعظموك أو يجلوك، العظيم كما قلت عظيم في نفسه، هذه أحد أعظم أسباب عظمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

التحدث بأعمال الآخرين في وجوههم

التحدث بأعمال الآخرين في وجوههم Q يقول: هل يجوز أن أظهر عملاً صالحاً رأيته في الغير كأن أرى صديقاً لي يقوم الليل، فعندما أراه من الغد أمام الملأ أقول: ما شاء الله ما هذا البكاء؟ البارحة رأيتك تقوم الليل. A لا يحسن، لا تقصم ظهر أخيك.

سماع المنظومات العلمية الملحنة

سماع المنظومات العلمية الملحنة Q يقول: إن طالب العلم لا يتبع الأناشيد، ولكن هناك بعض المنظومات العلمية ينشدها ويستمعها لكي ترسخ في ذهنه، وأيضاً بعض المعلقات؟ A مثل هذا لا بأس به إن شاء الله. اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة، فالق الحب والنوى، أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن على العرش استوى، نسألك اللهم! بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن تغفر لنا خطأنا، وذنوبنا أجمعين، ما قدمنا منها وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وأن تجعل هذه اللقاءات شاهداً لنا يوم نلقاك لا شاهداً علينا، وأن تخلص نياتنا، وتصلح أعمالنا، وتتقبل ما قلناه، لك الحمد ربنا على أن وفقتنا على أن نقول: لا حول لنا ولا قوة إلا بك، سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم! علمنا جميعاً ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا يا ربنا! مباركين أينما كنا، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، أنت ربنا لا إله إلا أنت، تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، فنحن عبيدك وبنو عبيدك، وبنو إمائك، نسألك اللهم! بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في أحد كتبك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب غمومنا، وألا تفتنا اللهم برأي الناس فينا، وأن تجعلنا اللهم! خيراً مما يظنه الناس بنا، وأن تغفر اللهم! لنا أجمعين ما لا يعلمه الناس عنا، وأن لا تكلنا اللهم! إلى أحد غيرك، كلنا اللهم! إلى رحمتك وفضلك، وأن تجعلنا جل وعلا ممن يقطع العلائق عن الخلائق يا رب العالمين! اللهم! أعذنا أن نفتن بأحد من خلقك، أو أن يكون في قلوبنا أحد أحب إلينا منك يا رب العالمين! إنك سميع الدعاء. أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

العبد الصالح

العبد الصالح وصف العبد بالصلاح مرتبة عظيمة عند الله تعالى، وقد جاء هذا الوصف في القرآن والسنة على الإجمال وعلى التعيين، لكن هناك أمور لا يكون العبد صالحاً إلا إذا حققها إيماناً وعملاً، فيجب أن يتعلمها ويعمل بها كل من ابتغى إدراج اسمه في قائمة الصالحين.

سليمان عليه السلام من عباد الله الصالحين

سليمان عليه السلام من عباد الله الصالحين أيها المؤمنون: وإن الله جل وعلا أفاء على عبده سليمان بن داود بالنعم العظيمة والآلاء الكريمة يوم إن استجاب الله له عندما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، فسخر له الله جل وعلا الجن والإنس والطير، قال الله تعالى في معرض قصصه عن هذا النبي الكريم عليه السلام: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:17 - 19]. مّر سليمان عليه السلام في المنعة والعزة والجند الذي أعطاه الله إياه حتى أتى على وادي النمل فسمع نملة تنادي في أصحابها: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، فأعجبه عليه السلام رفقها بقومها، وتأدبها مع سليمان وجنده، فرفع يديه يدعو ربه جل وعلا بثلاث دعوات: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]، فدعا في الأولى أن يمنّ الله عليه بأن يكون قادراً على شكر ما أفاء الله عليه من النعم وعلى والديه. ثم سأل الله جل وعلا في الثانية: أن يعينه على العمل الصالح الرشيد في قوله عليه السلام: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]، ثم ختم تلك الدعوات الثلاث عليه الصلاة والسلام بسؤاله أن يدخله الله برحمته في عباده الصالحين، مع أنه مقرر شرعاً أن سليمان عليه السلام نبي كريم، ولا يخفى أنه لا يكون نبياً كريماً حتى يكون في المقام الأول عبداً صالحاً.

فضيلة أن يكون الإنسان عبدا صالحا

فضيلة أن يكون الإنسان عبداً صالحاً والمقصود من هذا السياق: أن الدخول في عباد الله الصالحين مطلب عظيم ومرتقى صعب طالما طلبه أنبياء الله ورسله، والأخيار من العباد، والمتقون من الخلق يفزعون إلى الله في أدبار الصلوات وأثناء السجود وغير ذلك من أماكن وأزمنة الإجابة أن يجعلهم في زمرة عباد الله الصالحين، فمرتبة العبد الصالح غاية عظيمة جليلة؛ لأن الله جل وعلا وعد عليها جنات عدن في الآخرة، ووعد عليها عظائم الأمور في الدنيا. والعبد الصالح لفظة شرعية مباركة جاءت في القرآن وفي السنة، جاءت في القرآن وقفاً على أعلام، وجاءت في السنة وقفاً على أعلام، وجاءت في القرآن والسنة صفات مطلقة لعباد غير مذكورة أسماؤهم كما سيأتي بيانه. النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالشرع وأحرص العباد على أن ينتفع الخلق، يذكر بالله ويدعو إليه ويعرف به، ومما كان صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه: أنه صلى الله عليه وسلم مر بهم ذات يوم فسمعهم يقولون في التشهد: السلام على جبريل وميكال السلام على فلان وفلان. فلما فرغ من صلاته التفت إليهم وقال: (لا تقولوا هذا، قولوا: التحيات إلى الله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ثم قال صلى الله عليه وسلم: فإنكم إن قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء أو في الأرض). فهذا مما قصد صلى الله عليه وسلم أن يعلمه أصحابه، أن يكون من الفوز الذي ينشدونه والغايات التي يطلبونها أن يكون من عباد الله الصالحين، فإن كان الإنسان عبداً صالحاً فإن قول المصلي في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصاحين يدخل هذا المؤمن التقي النقي في زمرة من دعا له ذلك المصلي في صلاته. هذا الأدب النبوي ينجم عنه أمور لا بد من ذكرها، في المقام الأول الملائكة فإيمانهم لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ} [التحريم:6] فينقص الإيمان {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فقد جبلوا على الخير وحرموا من الشر، فلا يزيد إيمانهم ولا ينقص. وأما الأنبياء والمرسلون عليهم السلام فإن إيمانهم لا ينقص؛ لأنهم لا يعصون الله، وإيمانهم يزداد لأنهم يطيعون الله تبارك وتعالى، وأما غير الأنبياء والمرسلين وغير الملائكة من الجن والإنس فإن إيمانهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بالعمل الصالح وينقص بترك العمل الصالح والجنوح إلى المعاصي، ولا يعني ذلك أن العبد الصالح لا يعصي الله أبداً؛ لكنه أقرب إلى زمرة الفلاح منه إلى زمرة الذين ابتعدوا عن طريق الله المستقيم. والعبد الصالح ينبغي أن يعلم أن العباد يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في عبادتهم لربهم جل وعلا، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي من يدخل الله بشفاعته أكثر من مضر الجنة)، ومضر هي القبيلة العربية المعروفة، فيوجد من صالحي الأمة من يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من قبيلة مضر. ثم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث - وهو عند أحمد بسند صحيح -: (وإن من أمتي من يعظم في جهنم حتى يصبح زاوية من زواياها) فالناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً.

توحيد الله ومعرفته وتقديره حق قدره

توحيد الله ومعرفته وتقديره حق قدره أولى هذه اليقينات وهن سبع: أن يعلم الإنسان أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه خلق خلقه وهداهم النجدين فمنهم قريب ومنهم بعيد، وأنه جل وعلا خلقهم وسخرهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد. وأن الأمر أمره، والخلق خلقه، والكل عنده عبيد قهر وذلة شاءوا أم أبوا. وفي الحديث القدسي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله جل وعلا: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل ذي سؤل مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). إذا أدرك المؤمن هذا يدرك أنه لا عز إلا بالتذلل لعظمته، ولا فوز إلا في طاعته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له مع توحيده وحبه جل وعلا. هذا ربنا تبارك وتعالى خلقنا وهو غني كل الغنى عنا، فمن تعامل مع الله وهو يعلم أن الله قادر على كل شيء، وأنه إن اهتدى فبفضل من الله ونعمة، وإن ضل فبعدل وبما جنت يداه، وتعامل مع الله على أن الله مطلع عليه، إن قدم الحسنى فسيجازيه عليها، وإن عمل السيئة فسيجازيه عليها إن لم يغفر له؛ كان هذا من أعظم طرائق الوصول إلى الصلاح. والإنسان إذا كان لا يعلم ربه فلن يحسن التعامل معه، ولذلك عرف الله جل وعلا بذاته العلية في آياته وعلى ألسنة رسله، وبين لرسله كيف يعرفون بربهم ويدلون الخلق على خالقهم حتى يحكموا عبادته تبارك وتعالى، يقول سبحانه بعد أن عرّف بذاته العلية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فما من شيء إلا وخزائنه بيدي الله، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يقبض ويبسط، يعز ويذل، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وأعظم الناس فرحاً بربهم وصلاحاً في أعمالهم هم أعلم الناس بربهم جل وعلا، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن روح العبودية يتمثل في محبة الله تبارك وتعالى، قال العلماء: إن المحبة كلما عظمت في القلب كان التوقير لله أعظم، وكان الإنسان إلى الطاعة أكثر إقبالاً وكان الأنس والسرور بالله جل وعلا أكمل. قال ابن القيم رحمه الله: من قرّت عينه بالله قرّت له كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. فالمؤمن لا تقر عينه بأعظم من رضوان الله تبارك وتعالى عليه، وهو يعلم أن الله جعل الدنيا مراحل مطوية يبتلي ويختبر عباده فيها، حتى إذا قام الأشهاد وحشر العباد أدخل الله جل وعلا في رحمته أهل الصلاح الجنة، وأدخل أهل النار النار، كما أن المؤمن يعلم عن ربه جل وعلا أنه خالق الأسباب وخالق مسبباتها، فلا يكون شيء إلا إذا أراداه الله، ثم هذا الشيء - مما أحبه الله ومما كرهه - إذا وقع يكون بإرادته تبارك وتعالى. لما تعطلت الأسباب عند زكريا طلب من الله الولد، فلما بشره الله بالولد تعجب قائلاً: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران:40] فجاء الجواب القرآني: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]. ولما انتفت الأسباب في قصة مريم وأخبرتها الملائكة بأن الله سيرزقها الولد تعجبت قائلة: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47] فكان الجواب الإلهي: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47]. فهذه يا أخّي! أول الحقائق وأعظم اليقينيات وأجل المدركات أن تعلم هذا العلم عن ربك تبارك وتعالى حتى يتيسر لك بعد ذلك أن تكون عبداً صالحاً.

الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا

الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً الأمر الثاني: أن تعلم أن الله جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيباً، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. والجسد إما أن ينبت من طعام حلال ومال مباح، وإما أن ينبت من سحت محرم، فإن بُني على محرم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما جسد نبت على السحت فالنار أولى به)، وإن بني على المباحات فإن الجنة أولى به، فإذا أنفق تقبل الله منه، وإذا غدا أو راح تقبل الله جل وعلا منه. فعلمك بربك أنه طيب لا يقبل إلا طيباً يجعلك تحرص - إن كنت تريد أن تكون عبداً صالحاً - على أن يكون مطعمك ومشربك ومأكلك وملبسك من الحلال، وتتوخى الطرائق الشرعية التي ينجم عنها الرزق غير مبال بكسب الناس وعلو درجاتهم في الدنيا، فإن أي جسد بني على السحت فالنار أولى به. أمر الله النبيين بما أمر به الناس، وأمر الناس بما أمر به النبيين، قال الله تبارك وتعالى في حق المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وقال في حق النبيين: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، فأمر بالأكل من الطيبات حتى تنبت الأجساد على حلال. والجسد إذا بني على حلال كانت دعوته مجابة، وأينا لا يفتقر إلى الدعاء؟ قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (يا نبي الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة. قال: يا سعد، أطب مطعمك تجب دعوتك). فالإنسان إذا كان مطعمه حلالاً طيباً كان دعاؤه مقبولاً، يمشي ويغدو في رضوان الرب تبارك وتعالى.

الله تعالى يكره الكبر ويحب التواضع

الله تعالى يكره الكبر ويحب التواضع الحقيقة الثالثة: أن الله يكره الكبر ويحب التواضع. وقال جل وعلا في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قبضته)، ولا يوجد أحد إلا وفي نفسه شيء من الكبر مخلوق معه، فإن ضبطه بضابط الشرع وأخرجه من نفسه سلم ونجا، وإن أبقاه فإنه لا يزال يتمادى في الناس ويعلو حتى يقوده - والعياذ بالله - إلى التسلط على الخلق كما دعا فرعون أن يقول كبراً وعناداً: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى). وقد يزين الشيطان للإنسان أن الكبر نوع من قوة الشخصية، فيخلط المرء بين قوة الشخصية وحب العلو والتكبر على الناس والتعالي عليهم، وهذا كله ممقوت، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر). والجزاء من جنس العمل، قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يطؤهم الناس). والتاريخ الإنساني شهد كثيراً ممن طغوا وتجبروا، فهذا أبو طاهر القرمطي أحد أتباع القرامطة كان يزعم أنه على الحق وكان يسكن البحرين. ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم طأطأ رأسه عند البيت الحرام، وأمر الناس أن يكونوا أعظم ما يكونوا خاشعين وخاضعين ومخبتين لله، لكن ركب ذلك المتجبر المتكبر فرسه ثم أخذ يطوف بالبيت حتى بال فرسه عند باب الكعبة، وصعد على باب الكعبة وخطب في الناس قائلاً: أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا ثم قتل ثلاثين ألفاً من الحجاج، وردم بهم بئر زمزم - عياذاً بالله - ثم ما زال طغيانه وجبروته يقوده حتى قلع الحجر الأسود من مكانه وأخذه على فرس له وغدا به إلى البحرين، فبقي الحجر الأسود في بلاد الهجر- البحرين الآن - عشرين عاماً ثم رد إلى بيت الله العتيق. فالذي دفعه إلى هذا الكبر والتعالي، ولذلك ثبت في السنن بسند صحيح: (أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة جمع بنيه) ولن تجد أحداً أعلم من الأنبياء ينصح الناس. قال نوح لبنيه: (يا بني! أوصيكم باثنتين وأنهاكم عن اثنتين, أوصيكم بلا إله إلا لله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن كحلقة مفرغة لقصمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق، ثم قال: وأنهاكم عن اثنتين: الشرك والكبر)؛ لعلمه صلوات الله وسلامه عليه أن الشرك والكبر قرينان، وأن أول ذنب عصي لله جل وعلا به هو الكبر يوم أن امتنع إبليس عن السجود لأبينا آدم. وهذا يوجد في حياة الناس إلى اليوم، فمن الناس من ترى فيه التعالي على عباد لله إن كان أميراً أو ذا سلطان، أو كان غنياً أو ذا جاه، أو حتى إن كان إماماً أو خطيباً، أو كان مسئولاً إدارياً رفيعاً أو قائداً عسكرياً مسموع الكلمة تختلف وظائف الناس، لكن ما في القلوب يحكي هذه الوظائف. ومن الناس من يكون الكبر داخله لكن لفقره ولعدم الوظيفة لا يجد فرصة لأن يتعالى على الناس، فما أن يجد فرصة إلا ويبدأ يخرج ما في قلبه من الكبر. فلا يمكن أن يجتمع صلاح عبد مع كبر في القلب، قال عليه الصلاة والسلام: (ومن تواضع لله رفعه الله)، فالتواضع للرب تبارك وتعالى من أعظم المناقب ومن أعظم أمارات صلاح العبد.

الله تعالى يكره الفواحش

الله تعالى يكره الفواحش الحقيقة الرابعة: أن الله جل وعلا يكره الفواحش، ولما نسبها القرشيون إلى الرب نزه الله تبارك وتعالى ذاته العلية عنها، قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فقال الله جل وعلا في جوابه عليهم: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. فالفواحش من زناً ولواط وما شاكلهما من المعاصي كل ذلك مما حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجتمع مع الصلاح أبداً، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فنفى النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عن الزناة، ولا يمكن أن يوصف عبد اقترف الزنا أو اقترف الفاحشة الأخرى بأنه عبد صالح. ونبيكم صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في أيامه خرج يجر رداءه حتى إنه صلى الله عليه وسلم من هول الآية أخطأ في الإزار والرداء فلبس أحدهما مكان الآخر ثم تنبه ولبس، ثم خرج إلى الناس وقد نودي الصلاة جامعة وهو أعرف الناس بآيات ربه، ثم لما صلى بالناس خطبهم بعد ذلك خطبة عظيمة، وكان مما قال فيها عليه الصلاة والسلام: (وإنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته). وفي هذا العصر أخذت هذه الفواحش طرائق متعددة كالاتصالات الهاتفية والخلوات المحرمة واللقاءات المذمومة وما أشبه ذلك مما يحصل في الطرق أو الأسواق أو غيرها. ومن الناس من يخرج بجسده وماله، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين يخرجون لا يرجعون بشيء، ويذكر منفقين ينفقون الليل والنهار حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أفئدة معلقة بالمساجد، ينتظرون متى يفتح المسجد ليدخلوه ولا يخرجون إلا بإلحاح من يقوم عليه، ومع ذلك يأتي قوم يخرجون بأجسادهم وأموالهم إلى حانات الشرق وبارات الغرب من أجل الزنا والشواطئ التي عليها من العراة ما عليها، أو من القنوات المحرمة والأفلام الإباحية يمتع أحدهم بها نفسه ليلاً ونهاراً يظن أنه ينجو من عذاب لله، لا يمكن أن يوصف هذا بأنه عبد صالح ولو صلى وصام وزكى وحج؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]. والعلماء يقولون: إن الكبائر في المراتب ثلاث: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والزنا. قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فذكرها الله جل وعلا من باب الترتيب في أظهر أقوال العلماء. أعاذنا الله وإياكم من الفواحش كلها.

الله تعالى يكره أذية الناس وظلمهم

الله تعالى يكره أذية الناس وظلمهم في التعامل مع الرب تبارك وتعالى ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا حرم أذية الناس، وقال جل وعلا كما سمعنا في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً). الظلم للناس إما أن يكون بسفك الدماء، وإما أن يكون بانتهاك الأعراض، وإما أن يكون بأكل الأموال، وكله حرمه النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا). ومن أشد الظلم أن يأخذ الإنسان أموال الناس بالقوة إن كان ذا سلطان، أو ذا إمرة، أو ذا منصب، أو يقع في وظيفة تسمح له وظيفته أن يأخذ ما عند الناس من أموال فيقول: لا أفعل حتى تدفعوا، لا أمنع حتى تدفعوا، لا أصنع حتى تعطوني مالاً وما أشبه ذلك مما هو قريب من المكس، وصاحب المكس -والعياذ بالله- من أعظم من يكونون بعيدين عن الرب تبارك وتعالى. نبيكم صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة غامدية زنت بعد أن زنا ماعز فردها صلى الله عليه وسلم، فلما ردها جاءته في اليوم التالي قائلة: (يا نبي الله! إنك لتردني كما رددت ماعزاً بالأمس؟ إني لحبلى من الزنا. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تضعي، فعادت بعد أن وضعت ومعها غلامها في خرقة فقالت: يا رسول الله! ها قد وضعت. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تفطميه، فذهبت وعادت بعد أن أتمت رضاعته وقد فطمته وفي يده كسرة خبز حتى تبرهن أنه يأكل فقالت: يا رسول الله! ها هو ذا قد فطمته، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم -أي الغلام- لرجل من الصحابة وأمر برجمها، فلما رجمت كان ممن شهد الرجم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فلما أصابها حجر نزح الدم من رأسها فأصاب ثياب خالد فسبها غضباً، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبها يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بالصلاة عليها ودفنها). موضع الشاهد كما قال النووي في شرح صحيح مسلم: أن الله قبل توبتها، ولو أن هذه التوبة تابها صاحب مكس لغفر له، وصاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالقوة، وقريب منه من يأخذها بالخداع ويأخذها بالتحايل، أو يأخذها ديناً فلا يردها ولا يعبأ بأصحابها. فالله جل وعلا حرم أذية الناس، ولا يجتمع صلاح مع عدم احترام للعباد، وعدم العناية بهم كما سيأتي في الأمر السادس، فأذية المرء لغيره من المؤمنين تتنافى مع صلاحه، إن تكلم في أعراضهم أو أخذ من أموالهم أو وصل إلى مرحلة أكبر فسفك دماءهم فهذه أشد وأشد. والمقصود: أن الله جل وعلا حرم أذية الناس، قال الله جل وعلا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وقال الله على لسان شعيب: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183].

الله تعالى يحب الإحسان إلى الخلق

الله تعالى يحب الإحسان إلى الخلق الأمر السادس أيها المؤمنون: أن الله جل وعلا كما حرم أذية الناس جعل من أعظم طرائق الصلاح والقرب منه الإحسان إلى الخلق، وكم من أنفس قد لا يكون منها كثير صلاة ولا صيام ولكنها جبلت على الإحسان إلى الخلق، يقول عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). ويخبر صلى الله عليه وسلم: (أن بغياً من بغايا بني إسرائيل رأت كلباً يلهث من العطش فسقته، فلما سقته غفر الله جل وعلا لها). وذكر الله في القرآن تأديباً لعباده قصة نبيه موسى عليه السلام فقال عنه: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. والإنسان يتساءل: إلى من نحسن؟ هذا أجاب عنه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك)، ويجاب عنه بأن الناس تختلف حقوقهم، فأعظم الناس حقاً الوالدان والمعلم والجيران وذوو الأرحام من القرابة، ثم يأتي بقية من له حق خاص أو عام، فهؤلاء الإحسان إليهم أفضل من الإحسان إلى غيرهم، كما أن الإساءة إليهم أعظم من الإساءة إلى غيرهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟! قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك)، فجعل صلى الله عليه وسلم الزنا بحليلة الجار من كبائر الذنوب، أي: أن الزنا محرم في ذاته لكنه إذا وقع على جارة لها حق الستر وأن يراعيها الإنسان أكثر من غيرها لقرب الدار كان ذلك أعظم وبالاً وأشد خسراناً.

الاقتداء بالصالحين

الاقتداء بالصالحين الأمر السابع: من اليقينيات التي يجب أن تدرك أن من سنن الله جل وعلا أنه شرع للخلق الاقتداء بالصالحين فقال في حق سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر جملة من الأنبياء: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإخوانه من النبيين، وأمرنا نحن المسلمين أن نقتدي بنبينا صلى الله عليه وسلم، فقال ربنا جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وإن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم من أعظم أمارات وقرائن ودلائل الصلاح، خرج عبد الله بن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي وكان للمسجد في ذلك الزمان أبواب غير محددة أي: غير مخصوصة للرجال أو للنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب -وأشار إلى باب قريب- للنساء) قالها من باب الرأي ولم يقلها من باب الأمر، قال نافع رحمه الله: فما دخل عبد الله بن عمر من هذا الباب حتى مات. وابن عمر عمّر بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابة خمس وخمسين سنة ومع ذلك لم يدخل مع هذا الباب؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تركنا هذا الباب للنساء). ومن تأسيه رضي الله عنه بنبيه عليه الصلاة والسلام أنه كان يمسح على الركنين اليمانيين فسأله رجل: لماذا تفعل هذا؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسحهما فما تركته منذ أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. فهذا عبد صالح ظهرت لنا علامة من علامات فوزه بالصلاح والتزكية النبوية أنه كان عظيم التأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم. وأنت أيها الأخ المبارك السنة أمامك مفتوحة، وكتب الحديث منشورة، وهديه صلى الله عليه وسلم ظاهر بين في كل الكتب جعلها العلماء بياناً للناس، فالتأسي به صلى الله عليه وسلم طريق عظيم للوصول إلى الصلاح؛ لأن الله جل وعلا سد كل طريق موصل إليه إلا طريق نبينا صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يذكر بعض سننه عليه الصلاة والسلام: نام نبينا عليه الصلاة والسلام على الأرض، ونام على الحصير، ونام على السرير، ونام على الفراش، وركب البغل، وركب الحصان، وركب الحمار، وركب الفرس مسرجة وغير مسرجة، وأكل صلى الله عليه وسلم القثاء بالرطب، وقال: (نذهب حر هذه ببرد هذه)، وأكل صلى الله عليه وسلم البطيخ، وأكل صلى الله عليه وسلم العسل، وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله، وإذا مشى يتكفأ كأنما ينحدر من مكان عال، وإذا ناداه أحد من الخلف التفت صلى الله عليه وسلم ببدنه الشريف كله، وإذا أشار إلى شيء أشار بيده كلها، وإذا وضع يده لينام جعل يمناه تحت جبينه الأيمن وقال: (باسمك اللهم أحيا وأموت)، وإذا قام من الليل قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ومسح النوم عن عينيه وتلا خواتم آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] حتى يختمها، ثم يعمد إلى وضوئه فيتوضأ ويستاك، ثم يقف بين يدي ربه جل وعلا يذكره ويدعوه ويهلل ويقرأ القرآن ويصلي حتى يقرب الفجر ثم يضطجع صلوات الله وسلامه عليه، ثم يصلي راتبة الفجر القبلية في بيته، ثم يضطجع قليلاً قبل أن يذهب إلى المصلى. هذه بعض السنن التي كان عليها نبيكم صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه)، كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية إلى غير ذلك من سننه صلوات الله وسلامه عليه التي دعا إليها وجعل الاقتداء بها من عظيم المطالب وأجلّ ما يدرك به الإنسان أن يكون عبداً صالحاً.

جبل الله الناس على الخطأ وشرع لهم الاستغفار

جبل الله الناس على الخطأ وشرع لهم الاستغفار خاتمة اليقينيات: أن تعلم أن الله جل وعلا خلق الخلق وهو يعلم أن دأبهم التقصير والخطايا والذنوب، فقال الله جل وعلا عن عباده: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، فشرع الله لهم الاستغفار، وشرع لهم كثيراً من الأعمال الصالحة التي يسدون بها الخلل، ويوارون بها النقص، ويزدادون بها أجراً، ويتقربون بها إلى الله جل وعلا، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). وقال: (الصلوات الخمس والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الذنوب). وأخبر أن تقبيل الحجر الأسود ومسحه يحط الخطايا حطاً، وأخبر الله جل وعلا عن الحمى إذا أصابت الإنسان وبلغت منه مبلغاً وصبر عليها أنها تحط ذنوبه إلى غير ذلك مما كتبه الله وشرعه حتى يتلافى به العباد ما يعتريهم من نقص، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

ما أعده الله لعباده الصالحين

ما أعده الله لعباده الصالحين هذه الثمانية أو التسعة الأمور اجتهدنا قدر الإمكان أن نصل إليها، فإذا تبين هذا يتساءل المؤمن: ما الذي أعده الله جل وعلا لعبده الصالح؟ و A أعد الله جل وعلا للعبد الصالح في الآخرة جنات النعيم، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، أعد الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أعد لهم رؤية وجهه الكريم وهو أعظم الهبات وأجل العطايا، أما في الدنيا فإن من تأمل القرآن والسنة وجد أن الله جل وعلا وعد عباده الصالحين بأمور منها: أولها: أن الله جل وعلا يتولاهم في الدنيا والآخرة، قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]، وإذا تولاك الله فلن يصيبك شيء يضرك في دنياك وآخرتك إلا شيء من ورائه منفعة لك من حيث لا تدري؛ لأن ولاية الله جل وعلا سد منيع وعطايا عظيمة لا يبلغها أحد، والإنسان إذا تولاه الله تبارك وتعالى فأعظم ما يرزق التوفيق، قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، وقدمه التي يمشي عليها، ويده التي يبطش بها). والمقصود من هذه الأربع التوفيق الذي يناله العبد من ربه تبارك وتعالى، وأنت ترى حولك من الناس من رزقهم الله جل وعلا الكثير من التوفيق؛ لأن الله تبارك وتعالى تولاهم بولايته. العطية الثانية من الله: أن الله جل وعلا يجعل العبد الصالح مقبولاً محبوباً في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم يقول جبريل لأهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يكتب الله جل وعلا له القبول فيحبه أهل الأرض)، وهذا من أعظم العطايا، والمؤمن الحق يألف ويؤلف، ويسمع، ويطيع، ويأخذ ويمنع، ويعيش مع الناس حياتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيشها وهو سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه. كما أن من عطايا الرب تبارك وتعالى لعباده الصالحين التثبيت؛ فإن الإنسان في طريقه إلى الله لن يسلم من نزغات الشيطان، يأتيك الشيطان فيشكك في الدين الذي أنت فيه، يشكك في الرب الذي تعبده، والرسول الذي أرسل إليك، والعمل الصالح الذي تفعله، والأئمة الذين تقتدي بهم. ولا يرد ذلك إلا الاستعاذة واللجوء إلى الرب تبارك وتعالى، والله جل وعلا يقول لنبيه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب المقلوب ثبت قلبي على دينك)، ولا يخلو إنسان من نزغات تأتيه ووساوس تعتريه ليس لها إلا الاستعاذة بالرب تبارك وتعالى، فإذا أراد لله به خيراً ثبته على الصلاح ووقاه جل وعلا شر النزغات وإثم الوساوس. نبيكم صلى الله عليه وسلم في منقلبه من الطائف أصابه الهم؛ لأن أهل مكة منعوه وأهل الطائف ردوه فلما رجع وأصابه من الكرب والضيق ما أصابه جاءه جبريل في رسالة من الله يراد بها التثبيت، فلما جلس عليه الصلاة والسلام وقد أصابه الحزن قال له جبريل وأشار إلى شجرة بعيدة: (ادع تلك الشجرة، فناداها صلى الله عليه وسلم فتركت مكانها ووقفت بين يديه، ثم فقال له جبريل: ردها كما كانت فقال عليه الصلاة والسلام للشجرة: اذهبي إلى حيث كنت، فقامت الشجرة تمشي حتى رجعت إلى مكانها)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدرك أنها تثبيت من لله له في رسالته: (حسبي ما قدر رأيت). وأنت يا أخي! قد تخرج من هذه المحاضرة فيأتيك الشيطان من قبل أو من بعد يوسوس لك، فالإنسان في مثل هذه الحالات إن كان عبداً صالحاً له عمل صالح ونية صادقة يأتيه التثبيت من الله، فإما أن يفتح المذياع فيسمع آيات يثبته الله جل وعلا بها، وإما أن يلقى أخاً مباركاً يخبره بحديث سمعه، وإما أن يفتح كتاباً فيقرأ فيه ما يثبته ويدله على صراط الله المستقيم، أو يجد أخاً يحمله إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه، ولن يعدم أمراً يثبته الله جل وعلا به إن صدقت نيته وخلصت سريرته وصلح أمره وأذعن لربه تبارك وتعالى. مما يرزقه العبد الصالح قبل مماته: أن الملائكة تأتيه في أحرج اللحظات التي يكون فيها قريباً من الله، والإنسان تكون أيامه الأخيرة خلاصة لأيامه كلها لا يظهر فيها إلا ما كان الإنسان منكباً عليه منشرح الصدر له يريده بقلبه وجوارحه، فيوفق المؤمن لقول الشهادة أينما كان وحيثما حل. أما إن كان -والعياذ بالله- ليس من أهل العمل الصالح ولا من أهل الطاعة فهو إلى الخذلان أقرب منه إلى التوفيق، ولا يهلك على الله إلا هالك، قال الرب تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. هذا أيها المؤمنون ما تهيأ إيراده، ووفقنا الله جل وعلا إلى قوله، فإن وجدت فيه خيراً فاقبله، وإن وجدت فيه نقصاً فسده. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، أنت ربنا لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا سواك، جمعتنا من غير ميعاد وأنت الرب الرحيم الرحمن في بيت من بيوتك، اللهم فارزقنا عملاً صالحاً زاكياً ترضى به عنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. اللهم إنا نسألك السريرة الصادقة، والدمعة الخالصة، والعمل الصالح، والحياة الطيبة. اللهم إنا نسألك مرداً إليك غير مخز ولا فاضح يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري عنه سواك، اللهم كما سترتها علينا في الدنيا فامحها عنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقرب إلى حبك، اللهم ارزقنا محبة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أحينا في الدنيا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا يوم القيامة في زمرته، اللهم أوردنا حوضه واسقنا من يده يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة، ونستجير بوجهك الأكرم وباسمك الأعظم من النار يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا يا رب العالمين، اللهم اغفر لأمهاتنا وآبائنا ومن له حق علينا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إننا نخطئ ونصيب، اللهم إنا أطعناك في أعظم ما أمرتنا به فلا إله إلا أنت، وانتهيا عن أعظم ما نهيتنا عنه، فنعوذ بك أن نشرك بك غيرك، اللهم اغفر لنا ما بين ذلك يا رب العالمين. اللهم إننا أطعناك في أعظم ما أمرتنا به فلا إله إلا أنت، واجتنبنا أعظم ما نهيتنا عنه فنشهد أنه لا شريك لك فاغفر اللهم لنا ما بين ذلك من الذنوب. اللهم اجعلنا أحسن مما يظنه الناس بنا، واغفر لنا ما لا يعلمه الناس عنا، وارزقنا اللهم القبول عندك لا إله إلا أنت. اللهم اجعلنا ممن قرت أعينهم بك فتعلقت بك ولم تنقطع إلى غيرك يا رب العالمين، اللهم اقطع علائقنا مع كل أحد غيرك يا رب العالمين، اللهم لا تجعل لأحد غيرك من أعمالنا حظاً ولا نصيباً ولا ذكراً يا رب العالمين، واجعلها اللهم برحمتك خالصة لوجهك، اللهم من حضر مجلسنا هذا يريد التوبة والإنابة إليك فبلغه مراده، اللهم من حضر مجلسنا هذا يريد التوبة والانتفاع فبلغه مراده. اللهم أصلحنا أجمعين واجعلنا من عبادك المخلصين، واغفر لنا لا إله إلا أنت أنت ربنا ومولانا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا سواك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أهل الله وخاصته

أهل الله وخاصته أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، يتلون آياته ويتدبرون في مفرداته، ويقفون عند عبره وعظاته فيعتبرون ويتذكرون، وفي هذه المادة وقفات مع آيات، منها آية الملكين هاروت وماروت، وكذلك الباقيات الصالحات، وإلقاء المحبة على موسى.

عظمة القرآن

عظمة القرآن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما عرف بالله ووحده ودعا إليه وعلى آله وأصحابه وعلى سار من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:40 - 43]. أيها المؤمنون! ما أنزل كتاب من السماء على نبي من الأنبياء أعظم ولا أجل من القرآن العظيم الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فما بين دفتي المصحف مما يراه المؤمن اليوم ويقرؤه هو كلام رب العزة والجلال جل جلاله، نزل به أمين السماء جبريل على قلب أمين أهل الأرض محمد صلى الله عليه وسلم، في خير ليلة هي ليلة القدر، وفي خير شهر هو شهر رمضان، أنزله الرب تبارك وتعالى ولم يكل إلى أحد من الخلق حفظه، وإنما أوكل جل وعلا حفظه إلى ذاته العلية، فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فكتاب بهذه المنزلة حري بأن يكون من يحفظه، ويتدبره، ويعلمه، ويقرؤه، ويتلوه، ويقوم به، ويعمل به، ويؤمن بمتشابهه، ويعمل بحكمه، حري أن يكون من أهل الله وخاصته. جعل الله جل وعلا لأهل القرآن في الدنيا صدور المجالس، وجعل لهم في المساجد صدور المحاريب، وجعل لهم في حياة البرزخ أول القبر، وجعلهم يوم القيامة أهل الله وخاصته جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم ولقد عرف التاريخ الإسلامي منذ أن جمع القرآن في عهد أبي بكر إلى يومنا هذا أفذاذاً من الرجال وأئمة من الأخيار أفنوا أعمارهم وقضوا أيام حياتهم في كلام ربهم تبارك وتعالى، إما يتلونه وإما يعلمونه وإما يتدبرونه وإما يفسرونه وفي ذلك كله كانوا يعملون به؛ لأنهم يعلمون أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب إلا العمل الصالح، استفتح شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسير قول الله جل وعلا: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، في الحرم بعد صلاة المغرب، فمكث رحمه الله رحمة واسعة يبكي لا يقدر على أن يفسرها إلى أن أذن العشاء، كيف يتصور أن يفسد أحد في الأرض بعد أن أصلحها الله! وفسر قول الله جل وعلا: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة:61]، في 4 ساعات دون أن يكرر كلامه أو يخرج عن معنى هذه الآية رحمه الله وعفى عنه، وهو آخر من أدركنا من الأئمة الكبار الذين يؤخذ عنهم العلم في كلام الرب تبارك وتعالى أخذاً كلياً. غاية المقصود من هذا كله أننا في هذا اللقاء المبارك سنتأمل آيات متفرقات من كلام الرب جل وعلا، أحياناً نتأملها تأملاً علمياً محضاً وأحياناً نتأملها تأملاً وعظياً محضاً، وأحياناً نحاول أن نجمع بين العلم والوعظ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

وقفة مع آية: (وما أنزل على الملكين ببابل)

وقفة مع آية: (وما أنزل على الملكين ببابل) الآية الأولى: قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101 - 102]. أيها المؤمنون! هذه الآية بمجملها اخترناها عمداً لكثرة الأسئلة التي ترد إلينا عن الإشكال في قوله جل وعلا: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:102]. وذلك أن (ما) هنا تحتمل أن تكون نافية، وتحتمل حسب اللغة أن تكون موصولة، لكننا سنبدأ في تفسير الآيات من أولها. الآيات جاءت في سورة البقرة في ذكر اليهود، والله هنا يقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101]، هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما معهم هي التوراة، وفي التوراة وصف لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، ذلك أن الله جل وعلا وصف محمداً وأصحابه في التوراة والإنجيل ثم ابتعثه من أعز قبيل في أكرم جيل وأمثل رعيل، صلوات الله وسلامه عليه. ولما قيل لـ عبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم أتعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم هو بعينه ووصفه ونفسه؟ قال: نعم ولا أشك في ذلك، أعرفه أكثر مما أعرف ابني، ثم بين رضي الله عنه وأرضاه قال: ذلك أن أمين السماء نزل على موسى وأعطاه التوراة فأخبره بوصف نبينا صلى الله عليه وسلم، أما ابني في صلبي فلا أدري ما كان من شأن أمه كذبت علي أو صدقت! غاية الأمر أن يعلم أن الله هنا يقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، وهذا أسلوب القرآن العظيم في التحرز من تعميم الأحكام قال الله جل وعلا: {فَرِيقٌ} [البقرة:101]، ولم يقل (أمة اليهود بأكملها) ذلك أن كل أمة فيها الأخيار وفيها دون ذلك، قال الله جل وعلا في آية محكمة: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]. وهذا قول الله جل وعلا {فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101] يشهد له الواقع، فالإسلام دين الفطرة، وما زال الناس من يهود، ومجوس، ونصارى، ووثنيون وغير ذلك يدخلون في الإسلام تباعاً حتى إن آخر يهودي أسلم قبل أيام واسمه، ميخائيل هاجر من روسيا إلى إسرائيل رغبة بأن يستوطن أرض الميعاد، وسكن في مستوطنة يهودية يقال لها: كربات أو كريات، فمكث فيها ثم هداه الله جل وعلا إلى الإسلام، فغير اسمه من ميخائيل إلى محمد المهدي، وانتقل يسكن في قطاع غزة مع سائر المسلمين ممن يسكن في تلك البلاد المباركة. هذا كله يدل على التحرز القرآني في كلام الرب جل وعلا، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:101 - 102]، عدى الله الفعل (تتلو) هنا بحرف الجر (على) وهذا يحتمل أن المقصود من الآية: أن اليهود تركوا الأمر البين الواضح الذي أنزله الله جل وعلا عليهم، ولجئوا إلى الكذب. والآية تفهم من سياقها التاريخي، ذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله جل وعلا أموراً عظاماً، قال الله جل وعلا: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:36 - 39]. كان سليمان قبل أن يموت قد دفن السحر الذي جاءت به الشياطين، فلما مات أخرجته الشياطين وأخرجه اليهود ونسبوا إلى سليمان عليه السلام السحر، وإنما كان يصنعه سليمان ولم يكن معجزة من الله بزعمهم، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]، رغم أن اليهود لم ينسبوا إلى سليمان الكفر وإنما قال الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]؛ لأنهم نسبوا إلى سليمان السحر والسحر هو الكفر أو قرين الكفر، أو بتعبير أوضح: السحر من الكفر، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]. إلى هنا لا يوجد خلاف كبير بين العلماء في معنى الآية، لكن قال الله بعدها: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]. قال فريق من العلماء: إن (ما) هنا نافية، والآية عندهم فيها تقديم وتأخير، ومعنى الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]، أن الله نفى الكفر عن سليمان، ويقولون: إن الأصل في الآية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:102]، لهاروت وماروت أي: أن الله ينفي أن يكون قد أنزل على الملكين أي شيء من السحر. هذا معنى الآية عند بعض العلماء، واختاره القرطبي رحمه الله، وأيده الشوكاني من المتأخرين. لكن هذا القول لا يستقيم مع الآية أبداً؛ لأن الله قال بعدها: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:102]، فجاء الله بألف التثنية في (يقولا ومنهما ويتعلمان) مما يدل على أنها تعود على الملكين هاروت وماروت، فعلى هذا يبطل هذا القول في ظننا. القول الثاني: اختاره الإمام ابن حزم رحمه الله، وحجته أن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة وفق قواعد اللغة، يقول رحمه الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:102]، أي: الذي أنزل على الملكين غير السحر؛ لأن الواو عاطفة والعطف يقتضي المغايرة. والذي دفع العلماء إلى هذا القول ما روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة بأسانيد مرفوعة وموقوفة أن الله جل وعلا أنزل الملكين هاروت وماروت وابتلاهما بالكوكب المعروف: الزهرة، تمثلت لهم كأنها امرأة ففتن بها الملكان فردها الله وجعلها كوكباً، هذا الذي جعل بعض العلماء يحيد عن معنى الآية. والحق إن شاء الله تعالى في تفسير الآية ما يلي: أما ما نقل من أن الله ابتلى الملكين بالزهرة فهذا باطل لا يمكن أن يثبت، ومجمل الأمر أن الله جل وعلا لا ملزم له ولا معقب لحكمه، فلما فشا في ذلك الزمان السحر حتى اختلط على الناس ما هو السحر وما هي معجزات الأنبياء أرسل الله جل وعلا هذين الملكين هاروت وماروت فتنة للناس يبينون للناس ما هو السحر، فإذا عرف الناس ما هو السحر عرفوا أن يفرقوا ما بين السحر ومعجزات الأنبياء، وهذا هو الذي يستقيم مع الآية، فمعنى (وما أنزل) أي: والذي أنزل على الملكين بابل هاروت وماروت. والذي يدل على صحة هذا المعنى قول الله جل وعلا: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة:102]، أي: أن الملكين لا يعلمان أحداً، حتى يبينا ويقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، وفي هذا دلالة على أن السحر كفر، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:102]، أي: يتعلم شرار الناس من الملكين، {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، وهذا أحد أنواع السحر المنصوص عليها في كلام ربنا جل وعلا، والنوع الثاني ذكره الله جل وعلا في سورة طه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، وهو سحر التخييل كما هو ظاهر في سورة طه. نعود للآية، قال الله جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فقد يقع الضرر وقد لا يقع، وسواء وقع أو لم يقع فكل ذلك لا يمكن أن يتم ولا يكون إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]، وآخر الآية ظاهر بين في ذم السحر وأربابه وأتباعه ومن يقوم به ومن يؤذي الناس به، عافنا الله وإياكم من ذلك كله.

وقفة مع آية (المال والبنون زينة الحياة)

وقفة مع آية (المال والبنون زينة الحياة)

تفسير الباقيات الصالحات

تفسير الباقيات الصالحات الوقفة الثانية مع قول الله جل وعلا في سورة الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. قال صلى الله عليه وسلم: (من أمسى معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما جمعت له الدنيا بحذافيرها). هذه الحياة فيها ضروريات وفيها زينة زائدة على الضروريات، فالضروريات وفق الشرع ثلاث: أن يكون الإنسان معافى في البدن. وأن يملك الإنسان قوت يومه. وأن يجد الإنسان أمناً ليعبد الله جل وعلا. وقد جمعها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف، وما زاد عن ذلك فهو من زينة الدنيا، ولهذا قال الله جل وعلا في آية الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، أي: ليس من الضروريات، فالإنسان يمكن أن يعيش دون أن يكون له ولد، ويمكن أن يعيش دون أن يكون له مال مدخر في البنوك ولا في المصارف ولا في البيوت، ولا في الصناديق ولا في أي شيء سواها. لكن لا ينغص العيش إلا عدم وجود قوت اليوم، أو السقم في البدن، أو الخوف وعدم الأمن عياذاً بالله من هذه الثلاث كلها. فلما ذكر الله جل وعلا ضروريات الحياة بعد أن أرشد إلى زينتها جملة قال جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. ثمة مدركات يجب أن ينتبه لها المسلم وهو يتأمل ويتدبر هذه الآية الكريمة. قبل أن نشرع في هذه المدركات نبين أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في الباقيات الصالحات، فمنهم من حصرها بأنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا ريب أن هذه من الباقيات الصالحات لكنها لا تستوعب الباقيات الصالحات كلها، والأصل والصواب أن يقال: كل عمل صالح أريد به وجه الله جل وعلا فهو من الباقيات الصالحات.

الحياة الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة

الحياة الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة أما التأمل في الآية تعمقاً فإننا نقول: إن الله يبين من هذه الآية أن الحياة زهرة حائلة ونعمة زائلة لا بد أن تنقضي، وما ادخره الإنسان في حياته الدنيا يتلاشى ويذهب إلا ما أريد به وجه الله جل وعلا فإنه يبقى له مدخراً يوم القيامة، والواقع أعظم الشهود فعندما يموت الرجل أو المرأة فأول ما ينسى منه اسمه، فإن الناس إذا مات الميت وجاءوا ليسألوا عنه قبل أن يغسل يقولون: أين الجثة؟ لا يقولون: أين فلان! ثم ينتقل الإنسان إلى مرحلة ثانية، فإذا غسل تركوا جسده كما تركوا اسمه. فالذي يريد أن يسأل عنك لن يقول: أين الجثة؟ ولا يقول: أين الاسم ولا أين فلان وإنما يقول: أين الجنازة؟ فينسبونك إلى الخشبة التي تحملك يقول: تبعت الجنازة، صلوا على الجنازة، أين الجنازة؟ قدموا الجنازة، أخروا الجنازة، هاتوا الجنازة. وبعد أن يترك بعد اسمك وجسدك تترك بالكلية، فإنه يوضع الميت في قبره فلا يقال له بعد وضعه في القبر جثة، وإنما يقولون: ميت، مصداقاً لقول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فيذكر ويترحم عليه إن كان من المؤمنين. والغاية من هذا كله أن يسعى الإنسان في شيء باق، وهذا أعظم ما يعينك على أن تأتي الباقيات الصالحات، وهو علمك بمصيرك وأنك كما قال الرب جل وعلا في كتابه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فلا بد من ملاقاة الله، جعلنا الله وإياكم ممن طال عمره وحسن عمله.

الباقيات الصالحات توفيق من الله تعالى

الباقيات الصالحات توفيق من الله تعالى الأمر الثاني: أن تعلم أن الباقيات الصالحات توفيق من الله، وأن الهداية نور من الله يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء لا يناله أحد بعلمه ولا بجهده ولا بسعيه ولا بغدوه ولا برواحه، قال الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. ولقد شبه الله جل وعلا قلب المؤمن بالكوة التي في الجدار والتي فيها مصباح، فالكوة نفسها هي قلب المؤمن والمصباح الذي فيها يضيء من خلال زيت، فيجتمع فيه سببان لأن يضئ، المصباح سبب، وهذا المصباح متكئ على سبب آخر هو الزيت، فالزيت تفسيره: هي الفطرة التي جعلها الله جل وعلا في قلوب الناس، والمصباح هي الآيات البينة التي أنزلها الله على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذه الفطرة تكاد تهدي صاحبها من غير دليل كما أن الزيت يكاد يضيء من غير نار، فتشع هذه الفطرة مع آيات الله البينات في قلب المؤمن. والكوة أمر مقوس محفوظ، فالشعاع فيه يبقى ظاهراً ممتلئاً، وكذلك قلب المؤمن يشع بنورين نور الفطرة التي فطره الله جل وعلا عليها ونور آيات بينات استفاد منها وجعلها الله جل وعلا في قلبه. ولا سبيل إلى الفطرة ولا إلى الآيات البينات إلا بالله تبارك وتعالى، قال العز بن عبد السلام رحمه الله: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ قال: فإذا كان النور يهدي إلى الله فإنه لا ينكر أن يطلب إلا من الله، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، ثم قال الله الكلمة التي توجب على العبد أن يستكين بين يدي ربه قال جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]. إن العبد إذا تأمل من حرم من هذا النور يعلم أنه فضل من الله، فكم من أستاذ جامعي لا تكاد توجد لغة إلا ويجيدها تتسابق إليه الفضائيات وتتزاحم عليه القنوات وله المال الوفير والجاه العظيم لكن غاب عنه نور الله جل وعلا فلم تكتحل عيناه يوماً بالسجود لرب العالمين تبارك وتعالى. فانظر فيما وصل وعما ضل حتى تعلم أن قول الحق: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، يستوجب أن يستكين العبد بين يدي مولاه، يسأل الله جل وعلا بكرة وعشية أن يهديه إلى نوره المبين وإلى صراطه المستقيم قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

الله وحده من يعلم الغيب

الله وحده من يعلم الغيب الأمر الثالث من المدركات حول الباقيات الصالحات: أن تعلم أن الله جل وعلا وحده من يعلم الغيب كله، فكم من إنسان يسعى في أمر يؤمل خيراً فيلقى ضده، وكم ممن يؤمل غير ذلك فيلقيه الله جل وعلا الخير، ومن علم أن الغيب كله لله اطمأنت نفسه وسكن قلبه ولم يركن إلى أحد من الدنيا يتكئ عليه: واشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه كان بينه وبين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف نزاع حول الخلافة، فـ عبد الله في الحجاز وعبد الملك في الشام، وكان في الحجاز رجل يقال له كعب الأحبار يهودي أسلم أوتي علماً جماً من علم الكتاب الأول. فكان يسكن مع عبد الله بالحجاز في مكة ويحدث عبد الله ببعض ما هو كائن، فكان مما عبد الله بن الزبير أخبره أنه سيموت ويقتل على يد رجل من ثقيف، قال: يا عبد الله يقتلك رجل من ثقيف! فلما ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي من أهل الطائف وعلا شأنه أمر عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً أن يقاتل المختار فقتل مصعب المختار الثقفي، وبعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير، فلما وضع رأس المختار الثقفي بين يدي عبد الله بن الزبير قال رضي الله عنه دون أن يدري كل ما أخبرني به كعب الأحبار وجدته رأي العين إلا قوله إنه سيقتلني شاب من ثقيف وما أراني إلا قتلته. وما درى عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أن الله خبأ له في القدر الحجاج بن يوسف الثقفي، فمرت أيام وتوالت أعوام فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف وحاصر مكة، وكان من أمره أنه قتل عبد الله بن الزبير، فوقع ما أخبر به كعب من قبل. موضع الشاهد من القصة أن الإنسان لا يعلم الغيب، وما دام لا يعلم الغيب فليس له مفر إلا إلى الله جل وعلا. وهذا العلم في هذه الآية بينه الله جل وعلا في خاتمة سورة هود قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، فإن من أعظم ما يعين على إتيان العمل الصالح أن تستسلم لأمر الله تبارك وتعالى، وأن ترضى بقضائه وقدره، وأن تعلم أن الغيب طوي عنك، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].

المسارعة إلى العمل الصالح

المسارعة إلى العمل الصالح فهذا يعينك برحمة الله على المسارعة في الباقيات الصالحات. ثم تنتقل في هذه المدركات إلى أمر عظيم، وهو المسارعة إلى العمل الصالح وانتهاز الفرص. والناس في هذا الباب طرائق شتى كما أخبر الله جل وعلا قال سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. فمن الناس من يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ليل نهار، جاء في سيرة نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام أن الملائكة كانت تعجب منه، يرفع لإدريس وحده من الأعمال الصالحة ما يرفع لأهل الأرض كلهم من أهل زمانه، فكانت الملائكة تغبط إدريس على هذا العمل. ومن تأمل سير الأخيار وطرائق الأبرار وجد كثيراً من ذلك، فمن ذلك الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ففي حادثة الإفك كانت المتهمة بالإفك هي ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على سقف بيته يقرأ القرآن فيسمع بكاء ابنته عائشة وبكاء أمها أم رومان، فتذرف عيناه ويبكي ويقول: هذا والله أمر ما رمينا به في جاهلية ولا إسلام! ومع ذلك يمكث شهراً كاملاً يستحيي رضي الله عنه وأرضاه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه في الأمر رغم أن الشأن شأن ابنته رضي الله عنها وعن أبويها. فهذا عمل صالح قد لا يخطر على بال أحد. وكذلك أنت أيها المؤمن! في طريقك إلى الله لا تدعن عملاً تستطيع أن تعمله تعرف أن فيه رضوان الرب جل وعلا، قد تخرج من مسجد أو من مكتبة أو من مكان موصول بالإيمان فتجد رجلاً يبيع السواك وعندك في بيتك منه ما يغني؛ لكنك تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، فتشتريه أملاً أن تنال رضوان الله جل وعلا. وليس المقصود ضرب الأمثال، وإنما المقصود تنبه الناس، ألا ترى إلى نبي الله يونس لما وضع في بطن الحوت وكان في الظلمات الثلاث ثم حرك أطرافه فوجدها تتحرك فعلم أنه حي فأسمعه الله جل وعلا تسبيح الحصى والثرى لرب السموات العلا، فبادر عليه السلام يتخذ في ذلك المكان عملاً صالحاً فسجد، فورد أنه قال: (اللهم إنني اتخذت لك مسجداً في مكان ما أظن أن أحداً عبدك فيه). وكم من بقعة في الأرض يغلب على الظن أن أحداً لم يعبد الله جل وعلا فيها، فإن أوتيتها اختياراً أو اضطراراً فلا تنس أن تعبد الله جل وعلا فيها، تدخر فيها لنفسك عملاً صالحاً، قال لي أحد الفضلاء يوماً وهو يريد أن يعمل ما يسمى بالأشعة المقطعية وهم يضعونه في أشبه بالتابوت في داخل الجهاز ليمكث 45 دقيقة؛ قال لي: يا أبا هاشم أوصني قبل أن أدخل وكان يخشى أن تطفأ الكهرباء فيموت! قلت له: إن استطعت أن تصلي في هذا المكان ركعتين ولو مستلقياً فافعل، فإنني لا أظن أحداً عبد الله في مثل هذا المكان. الغاية من هذه النصيحة لي ولكم أن يأتي الإنسان إلى موطن يغلب على الظن أنه لم يسجد لله جل وعلا سجدة، ويكون قد دخله كما قلت اختياراً أو اضطراراً فيتذكر قول الله جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، فيدخر لنفسه عملاً صالحاً يخلص لله فيه النية لعل الله جل وعلا أن يتقبل منه هذا العمل يوم يلقاه، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: إن الله أخفى اثنتين في اثنتين؛ أخفى أولياءه في عباده فلا تدري فيمن تلقاه أيهم ولي لله، وأخفى رضوانه في طاعته فلا تدري أي طاعة لك أطعت الله بها كانت سبباً في رضوان الله جل وعلا، فلا تحقرن من الأعمال الصالحة شيئاً.

يعظم العمل بإخلاص النية

يعظم العمل بإخلاص النية وقد يعظم العمل بإخلاص النية، وهذا يقودنا إلى مدركة أخرى وأنت تستعد للأعمال الصالحة، ألا وهي: أن تعلم أن الله جل جلاله غني عن طاعتك، وما دام الله غنياً عن طاعتنا فإن الله غني عن أن نشرك معه أحداً. فكن ممن يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة ولا يشرك مع الله أحداً كائناً من كان، ولذلك أمارات في القبول أو في الرد، لكن من أعظم أمارات توحيد العبد لربه استكانة قلبه واقشعرار جلده وذروف عينيه إذا ذكر الله جل وعلا عنده؛ لأن الله قال في الضد عن أهل معصيته ممن كتب لهم الجحيم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]. فمن تواضع قلبه وخضعت نفسه وسكنت لله جل وعلا خرج من هذا المفهوم والمنطوق للآية، ولعل في ذلك علامة وأمارة على قبول الله جل وعلا منه ذلك العمل.

وقفة مع آخر سورة الكهف

وقفة مع آخر سورة الكهف

الجنة هي أعظم غايات المؤمن

الجنة هي أعظم غايات المؤمن الوقفة الثالثة أيها المؤمنون! مع قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108]. هذه الآية مما ختم الله به سورة الكهف، والمقصود من بيان هذا الأمر أمور عدة: الناس يسمون الخطيب الذي يتحدث كثيراً عن الجنة بأنه يطرق موضوعاً تقليدياً ويتناسون أنه لا بغية للمؤمن أعظم من الجنة؛ لأن من دخل الجنة لم تضره مصائب الدنيا، ومن أدخل النار لم تفده عطايا الدنيا. الجنة درجة عالية والداخل إليها لا بد أن يكون ذا قلب سليم، قال الله جل وعلا على لسان خليله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، ومر نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعرابي يدعو فقال الأعرابي لنبي الله ومعه معاذ: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكنني أسأل الله الجنة وأستجير به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن)، أي: لا بغية لنا ولا مطلوب لنا في دعائنا إلا أن نزحزح عن النار وندخل الجنة.

خلاف العلماء في الجنة التي خرج منها آدم

خلاف العلماء في الجنة التي خرج منها آدم والجنة أيها المؤمنون! ذكرها الله جل وعلا مرات عديدة في كتابه، قال الله جل وعلا عن أبينا آدم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، واختلف العلماء هنا في الجنة التي أمر الله آدم وزوجته أن يدخلاها. فقال فريق منهم: إنها جنة المأوى التي وعدها الله جل وعلا عباده، وحجتهم في هذا أن الألف واللام هنا للمعهود الذهني؛ لأن ذكر الجنة لم يمر من قبل فانتفى المعهود اللفظي، ولا يمكن أن تكون للاستغراق؛ لأنه لا يوجد إلا جنة في السماء فقالوا: لم يبق إلا المعهود الذهني. ومن حججهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة إذا أرادوا أن يدخلوها يجدونها مغلقة الأبواب فيأتون أباهم آدم فيقولون: يا آدم استفتح لنا الجنة، فيقول عليه السلام: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم اذهبوا إلى محمد) فقالوا: إن قول آدم (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم)، دليل على أنها جنة المأوى. وقال آخرون من العلماء: إن ليست الجنة التي دخلها آدم ليست الجنة التي وعدها الله عباده. ومن حججهم أن إبليس وسوس للشيطان فيها وأن آدم كلف فيها، قالوا: والجنة لا سبيل إلى إبليس عليها ولا تكليف فيها، وإن آدم أخرج منها والذي يدخل الجنة يخلد ولا يخرج؛ لكن جماهير العلماء على أنها جنة المأوى، وهذه إطلالة علمية على الآية.

أقسام الناس في دخول الجنة

أقسام الناس في دخول الجنة نعود للجنة: الناس بالنسبة للجنة فيها ثلاثة أصناف: قوم لا يدخلونها بالكلية، وقوم يمنعون عنها ابتداء، وقوم يدخلونها من غير حساب ولا عذاب. أما الذين منعوا عنها بالكلية فهم أهل إشراك، فمن مات على أي ملة غير ملة الإسلام لا يدخل الجنة، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72]. والفريق الآخر لا يدخلونها ابتداء، ومن هؤلاء العاق لوالديه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق)، فمن مات وهو عاق لوالديه لا يدخل الجنة ابتداء وإن كان من أهل التوحيد والمحافظين على الصلوات؛ لأن الله جل وعلا لم يعط حقاً لأحد من الخلق بعد حق نبيه أعظم من حق الوالدين. فإذا وجد عبد نبذ هذا الحق الذي وضعه الله وراء ظهره وقدم عليه غيره وعامل الإحسان بالعقوق كان حقاً على الله ألا يدخله الجنة ابتداء إلا أن يشاء الله. ولا يدخلها مدمن الخمر، وقد لعن الله جل وعلا في الخمر عشرة كما في حديث ابن عمر، ولا يوجد معصية في الشرع لعن النبي صلى الله عليه وسلم بسببها عشرة إلا الخمر أعاذنا الله وإياكم من ذلك. كما لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه: فالإنسان إذا كان جاره وهو جاره يبقى على وجل وخوف منه فإن هذا الجار لا يكون أهلاً لأن يدخل الجنة ابتداء. والفريق الثالث: من يدخلها بلا حساب ولا عذاب جعلنا الله وإياكم منهم.

اشتياق الجنة إلى الصالحين

اشتياق الجنة إلى الصالحين الأمر الثالث مما يتعلق بالجنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب إلى الجنة الشوق قال عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: إلى علي، وعمار، وسلمان)، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين. أما علي رضي الله عنه فهو رابع الخلفاء الراشدين وأرضاه وأحد العشرة المبشرين، وزوج بنت نبينا صلى الله عليه وسلم المقتول غدراً في رمضان رضي الله عنه وأرضاه، ومن الترف العلمي أن يعرف الإنسان بمثله! وكذلك سلمان هو أحد أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم لآل فارس، اختصمت فيه الأوس والخزرج والمهاجرون والأنصار يوم الخندق فقال صلى الله عليه وسلم عنه: (سلمان منا آل البيت). وأما عمار فهو عمار بن ياسر أبو اليقظان رضي الله عنه وأرضاه، عمِّر حتى جاوز التسعين وشهد الجمل وصفين مع علي رضي الله عنه وأرضاه. وفي أيام الهجرة الأول كان يحمل لبنتين لبنتين والنبي عليه السلام وأصحابه يبنون المسجد، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على كتفه وقال: (ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر عهده بالدنيا مذقة من لبن، فشهد صفين وهو رجل طويل أسمر كان يرعش من الكبر وفي يده حربة. وكلما خوفه أحد بالموت يقول: ليس الآن، أخبرني نبي الله صلى الله عليه وسلم أن آخر عهدي بالدنيا مذقة من لبن، وبينما هو في المعركة على فرسه جيء له بلبن فشربه رضي الله عنه وأرضاه وعلم أن موته قريب، فمات بعدها بقليل رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال عنه عليه الصلاة والسلام: (واهتدوا بهدي عمار). فهذا الصحابي الجليل عمار وسلمان، وعلي رضي الله عنهم ممن تشتاق لهم الجنة، ونحن إلى جنات ربنا من المشتاقين، جعلنا الله وإياكم من أهلها.

وقفة مع آية: (وألقيت عليك محبة مني)

وقفة مع آية: (وألقيت عليك محبة مني)

إلقاء المحبة على موسى عليه السلام

إلقاء المحبة على موسى عليه السلام الوقفة الأخيرة مع قول الله جل وعلا في كليمه موسى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]. الله جل وعلا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ويبتلي في المنع كما يبتلي في العطاء، ونبي الله موسى ألقته أمه في اليم خوفاً عليه، وهو من حيث العقل لا يستقيم، لكنه أمر الله تبارك وتعالى. فلما حملت الأمواج موسى إلى قصر فرعون ورأته آسية بنت مزاحم ألقى الله جل وعلا محبة موسى في قلبها فكان ذلك أحد الأسباب في بقائه واستمرار حياته بقدر الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، فلا يرى موسى عبد ذو إنصاف إلا وأحبه مما ألقى الله جل وعلا عليه. وهذا أيها الأخ الكريم! مطلب عظيم يطلبه عباد الله وأولياؤه وقد ذكر الله جل وعلا شرطه، قال الله تعالى في سورة مريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، فسر الود بأنه ما يجده الإنسان في قلوب المؤمنين من محبة وود له، وهذا لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقلوب العباد ليست لهم حتى يهبوك إياها. فمن وصل ما بينه وبين الله تكفل الله جل وعلا له بعد ذلك بكل مناه وكل غاياته وكل رغباته. والغاية من ذلك أن تعلم أن من أعظم العطايا وأجزل الهبات أن يمن الله عليك بمحبة الناس، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإيمان والعمل الصالح، وهذا يسوقنا إلى بعض ممن كان يحبهم نبينا صلى الله عليه وسلم.

محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد

محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد وقد كان النبي عليه السلام يحب الصحابة كلهم لكن بعضهم ألقى الله عليه محبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويؤثره على غيره، ويأتي في مقدمة هؤلاء أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، غلام أسود أفطس خفيف البدن، وذكر الذهبي في الأعلام خبراً عن عائشة أن مخاطه رضي الله عنه وأرضاه نزل فبادر النبي صلى الله عليه وسلم ليمسحه فقالت عائشة: (يا نبي الله! أنا أمسحه عنك، فقال: يا عائشة إني أحبه فأحبيه). ولما جاء دفنه قال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: عجلوا بدفن حب نبي الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تغرب الشمس. في حجة الوداع كان حول النبي صلى الله عليه وسلم بعض أبناء عمومته ممن يشبهون خلقه وخلقه يضيئون كالبدر مثل الحسن، والحسين، وجعفر، وأبناء العباس كـ القاسم والفضل وخيار الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتمهل قبل أن يركب القصواء، فيأتي حدثاء العهد بالإيمان يظنون أمراً عظيماً على سننهم في الجاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ لأمر عظيم. فيجيء يجري رضي الله عنه وأرضاه أسود أفطس خفيف البدن فيركب القصواء ويحضن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، فعندها يتحرك تتحرك ناقته ويمضي في سيره صلوات الله وسلامه عليه، يضعه صلى الله عليه وسلم على فخذه الأيسر، والحسن على فخذه الأيمن ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما) يجزل له عمر بن الخطاب العطاء فيأته ابنه عبد الله فيعاتبه فيقول له: يا بني! والله لقد كان أحب إلى رسول الله منك؛ رضي الله عنه وأرضاه. هذا من أعظم الدلائل على أن هذه أشياء يجعلها الله جل وعلا لمن يشاء، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يسمع من الناس التشكيك في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود وأبوه زيد بن حارثة شديد البياض كالقطن، فناما ذات يوم في لحاف واحد وقد غطيت رءوسهما وظهرت أقدامهما، فجاء رجل من بني مدلج أهل القيافة فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه على عائشة قال: (يا عائشة! أما علمت أن مجززاً المدلجي نظر إلى قدمي أسامة وأبيه فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) يفرح صلى الله عليه وسلم وكأنما بشر بشيء من السماء؛ لأن رجلاً شهد أن أسامة هو ابن لـ زيد. هذا كله من أعظم الدلائل على أن هناك فضلاً محضاً يضعه الله جل وعلا لمن يشاء. ونحن نحب أسامة لأن نبينا صلى الله عليه وسلم يحبه، ومن محبة الله ورسوله أن تحب ما أحبه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

محبة رسول الله لخاله سعد وزوجه خديجة

محبة رسول الله لخاله سعد وزوجه خديجة وأحب نبينا صلى الله عليه وسلم خاله سعد بن أبي وقاص، فإنه من بني زهرة وآمنة بنت وهب من بني زهرة، ورآه عليه الصلاة والسلام يمشي فقال: (هذا خالي فليرني أمرؤ خاله) وقال له يوم أحد: (ارم سعد فداك أبي وأمي)، وما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لـ سعد رضي الله عنه وأرضاه. أحب نبينا صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، وكان يذبح الصدقات فيرسلها في قرائب خديجة، ودخلت عليه هالة أخت خديجة تستأذنه، فلما دخلت تمنى أن تكون هالة قبل أن يعلم أنها هالة قال: (اللهم اجعلها هالة) حتى يتذكر خديجة رضي الله عنها وأرضاها. وهي أول هذه الأمة إسلاماً بلا ريب ولا شك، ولم يسبقها إلى الإسلام أحد من الأمة لا رجل ولا امرأة ولا كبير ولا صغير رضوان الله تعالى عليها. هؤلاء طائفة ممن أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

محبة رسول الله لأحد والمدينة وغيرهما

محبة رسول الله لأحد والمدينة وغيرهما وأحب نبيكم جبل أحد، فلما صعد عليه ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان رجف الجبل فرحاً وفرقاً وفخراً، قال القاضي عياض: فرح الجبل بمن عليه من الشرفاء وبما حازه من الشرف فسكنه صلى الله عليه وسلم بقدميه وقال: (اثبت أحد، إنما عليك نبي وصديق وشهيدان). قدم له صلى الله عليه وسلم هذا كله مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كانت حوله أشياء يحبها، والمؤمن اليوم إذا وفق للسنة وفق لهدي النبوة، يصنع الشيء وربما لا يوافق جبلته، لكن يصنعه تقرباً إلى الله بموافقة نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا زمن الصيف، وقد جمع نبيكم في زمن الصيف بين البطيخ الأصفر والرطب، فكان يأكل الرطب ويأكل البطيخ الأصفر ويقول: (نكسر حر هذا ببرد هذا، ونكسر برد هذا بحر هذا). لو أن رجلاً يدخل على أبنائه ومعه رطب ومعه بطيخ أصفر فيجمع أبناءه ثم يقسم بينهم البطيخ والرطب ويقول: أحبوا ما أحبه نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ فهذا مما يغرس الإيمان في القلوب، ويكسب الرقة في القلب، ويجعل الإنسان على بينة من أمره. هذه القلوب آنية وأعظمها ما كان ممتلئاً بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو وكلنا لأعمالنا لم ندخل الجنة قط ولكنها رحمة الله يضعها الله جل وعلا لمن يشاء. ورحمة الله تستجلب وتستدر وتطلب منه تبارك وتعالى بكرة وعشياً، تارة في الدعاء، وتارة بالنوايا، وتارة بالعمل الجامع للنوايا الحسنة، وما عجزنا عنه كله لا نتركه، بل نأخذ بعضاً منه ونتقرب إلى الله بما كان يحبه ويحبه رسولنا صلى الله عليه وسلم. أحب نبيكم عليه الصلاة والسلام مدينته. فإذا أقبل عليها أرخى زمام ناقته وقال: (هذه أرواح طيبة)، ودخلها صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً، وكان يبدأ بالمسجد صلوات الله وسلامه عليه، وذات يوم ضرب رمانة منبره ثلاثاً بيده وهو يخطب قد احمرت عيناه وهو يقول: (هذه طابة هذه طابة هذه طابة، والله لا يدخلها الدجال ولا الطاعون) صلوات الله وسلامه عليه. فمن أحب ما يحبه الله ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا الذي رق قلبه وحسنت نيته وصلح عمله. هذا ما تهيأ إيراده وتيسر إعداده جمعنا به بين علم ووعظ، ونحن إن قدمنا أو أخرنا مجتهدون، والموفق للخير والمعين والمتقبل هو الله جل وعلا. اللهم لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة، أنت الرحمن الرحيم، لا رب غيرك ولا إله سواك، تعطي وتمنع وتخفض وترفع؛ فتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعل ما قلناه وسمعناه ذخراً لنا يوم نلقاك إنك أنت العزيز الكريم. وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين

الحبيب وساعات الرحيل

الحبيب وساعات الرحيل إن أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة الإسلامية هي موت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. انقطع بموته وحي السماء، وغاب عن أهل الأرض إنسهم وجنهم خير الخلق وأرأفهم وأرحمهم. وإن لنا في سيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم العبر، ولنا في الإرهاصات التي مرت قبل رحيله من الدنيا أعظم العظات، فحري بكل عاقل أن يتأملها ويستضيء بنورها؛ حتى تكون له دليلاً إلى الخير وحادياً إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

لمحات من سيرة النبي الكريم قبل رحيله

لمحات من سيرة النبي الكريم قبل رحيله الحمد لله الذي يتضاءل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشكره تبارك وتعالى شكراً متوالياً، وإن كان يتضاءل مع فضله ونعمه شكر الشاكرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله. أما بعد: أيها المؤمنون! قبل ألف عام وماتين تقريباً مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك يقال له: محمد بن حميد الطوسي فرثاه أبو تمام الشاعر العباسي المعروف بقوله: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بينها البدر مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة، والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. أيها المؤمنون! نبيكم صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وصاحب مولده إرهاصات عظيمة تدل على أن هناك شيئاً ما سيكون، وأن هناك نبياً سيبعث، وأن هناك عظيماً سيقود الناس. ثم نشأ صلى الله عليه وسلم في كنف جده عبد المطلب حتى أصاب قريشاً جدب الديار وقلة الأمطار، فطلب القرشيون من عبد المطلب أن يستسقي لهم، فحمل عبد المطلب رسولنا صلى الله عليه وسلم فألصقه بجدار الكعبة واستسقى به فما أنزله حتى سقوا وهو يوم ذاك صلى الله عليه وسلم غلاماً في الرابعة من عمره تقريبا. قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل حتى إذا بلغ مبلغ الرجال تزوج صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد، ثم لما شارف على الأربعين صلى الله عليه وسلم حبب إليه أن يخلو بنفسه، فكان يأتي غار حراء يتحنث الليالي ذوات العدد، معه زاده طعاماً وشراباً، حتى كان ذلك اليوم العظيم الجليل في تاريخ الإنسانية كلها يوم ناداه الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4]. من يومها أخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين ربه، ويرشد إليه متحملاً أصناف العذاب، وألواناً من الأذى، وكثيراً من السخرية، وهو لا يزيد صلى الله عليه وسلم على أن يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). حتى بلغ من أذى كفار قريش له أنه كان عليه الصلاة والسلام ساجداً عند الكعبة فسخر منه بعض القرشيين المحيطون بها، فقال بعضهم لبعض: من يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد وهو ساجد، فقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل سلا الجزور ورفثه ووضعه على ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، فلم يستطع أن يرفع ظهره حتى ذهب أحد الرجال وأخبر فاطمة فقدمت رضي الله عنها وأرضاها وهي يوم ذاك جارية صغيرة فحملت الأذى عن أبيها، ثم سبتهم، فلما رفع صلى الله عليه وسلم رأسه دعا عليهم قائلا: (اللهم عليك بـ شيبة بن أبي ربيعة، اللهم عليك بـ عتبة، اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام، اللهم عليك بـ أمية بن أبي خلف)، وسمى رجالاً فكل من دعا عليهم كانوا صرعى يوم بدر. ثم ذهب إلى الطائف وعاد منها مكلوم الفؤاد، فلما عاد صادف ذلك موت عمه أبي طالب وموت زوجته خديجة، فأسرى به ربه تسلية له إلى سدرة المنتهى، ثم عرج به إلى السماوات السبع حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام. يا أيها المسرى به شرفا إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوم من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء فلما اشتد عليه أذى قريش أذن له ربه وأمره بالهجرة إلى البلدة الطيبة المباركة مدينته صلى الله عليه وسلم، فحط فيها رحله، وأسس فيها مسجده، وأقام فيها دولة الإسلام، وطبق فيها شرائع الدين، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله حق دعوته، ويجاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده سنين طوالاً حتى أتم الله جل وعلا له في العام الثامن من هجرته فتح مكة، فدخلها صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء، وعلى رأسه المغفر فطاف بالبيت وهو على راحلته. ثم فتحت له الكعبة فدخلها صلى الله عليه وسلم فكبر الله في نواحيها، وأذهب عنها معالم الوثنية، ثم رأى صورة إبراهيم وقد صور له وهو يستقسم بالأزلام فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام ثم تلا: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]). ثم عاد صلى الله عليه وسلم يتابع جهاده ودعوته إلى ربه حتى كانت السنة التاسعة للهجرة فبعث أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً على الحج في ذلك العام، وفي آخر العام التاسع بدأ صلى الله عليه وسلم يشعر بدنو أجله، ويشعر بقرب رحيله وفراقه لمن حوله من الناس، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه عليه الصلاة والسلام ودع معاذاً لما بعثه إلى اليمن، ومعاذ على راحلته، وهو عليه الصلاة والسلام يمشي إلى جانب ناقة معاذ وبعد أن أوصاه بما يفعل في أمر الدعوة قال: (يا معاذ! لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ! لعلك أن تمر على قبري ومسجدي)، ثم ودعه صلوات الله وسلامه عليه فذهب معاذ إلى اليمن.

مواقف ذات عبر من حجة الوداع

مواقف ذات عبر من حجة الوداع ثم إنه صلى الله عليه وسلم عزم على الحج، فأخذ معه ألوفاً عظيمة من الصحابة، وتوجهوا أجمعون إلى بيت الله الحرام، فأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة قائلاً: (لبيك اللهم لبيك)، يكبر على كل شرف من الأرض حتى وصل مكة، فبدأ بالبيت وطاف حوله، ثم أتم ما يتعلق بالطواف، ثم أتى المسعى، فرقى الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]). ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخذ يتم مناسك الحج شيئاً فشيئاً، حتى كان اليوم التاسع وهو يوم عرفة وكان يوم جمعة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر والعصر جمع تقديم، ثم خطب صلى الله عليه وسلم في الناس وهو راكب على راحلته القصواء خطبة عظيمة بين لهم فيها معالم الدين، وأومأ إلى قرب رحيله ودنو أجله، فكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد كل مقطع من خطبته: (ألا هل بلغت)، فيقول الصحابة: نعم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم فاشهد)، حتى كان واضحاً معهم، رغم أنه صلوات الله وسلامه عليه إمام المخلصين. قال عليه الصلاة والسلام لهم: (أيها الناس! إنكم ستسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ووفيت، وأديت الذي عليك كله، فرفع صلى الله علية وسلم سبابته إلى السماء ثم نكتها إلى الأرض ثم قال: اللهم فاشهد). وكان كما قال جابر يودع الناس شاعراً بدنو أجله، وقرب رحيله حتى أتم صلى الله عليه وسلم المناسك فقال في اليوم الثاني عشر: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة، فلما كان اليوم الثالث عشر رمى صلى الله عليه وسلم الجمرات الثلاث، ثم خرج من منى قبل أن يصلي الظهر، ونزل في خيف بني كنانة، وهو ما يسمى اليوم في مكة بالأبطح، فصلى بها الظهر والعصر، ثم صلى بها المغرب والعشاء، ثم اضطجع صلوات الله وسلامه عليه، ثم لما كان قبل الفجر أتى المسجد الحرام فطاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الصبح، ثم قفل راجعاً إلى المدينة، ترفعه النجاد، وتضعه الوهاد، وهي تتشرف بوطأة قدميه عليها، وهو عليه الصلاة والسلام يكبر على كل شرف من الأرض حتى دخلها) أي: دخل المدينة صلوات الله وسلامه عليه. هذه أيها المؤمنون! على وجه الإجمال الأحداث العامة في حياته صلى الله عليه وسلم، والتي سبقت دنو أجله وقرب رحيله.

مرض النبي صلى الله عليه وسلم

مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعقب حجة النبي صلى الله عليه وسلم أحداث متتابعة بدءاً من مرضه صلوات الله وسلامه عليه، وانتهاء بدفنه، وهي على وجه التفصيل: أنه صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع أرسل إلى غلام له مولى له يقال له: أبو مويهبة فذهب هو وأبو مويهبة إلى البقيع، فأتى أهل البقيع واستغفر لهم ودعا لهم -صلوات الله وسلامه عليه- ثم قال: (يا أبا مويهبة! إن الله خيرني بين أن أعطى مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقاطعة أبو مويهبة قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها ثم الجنة، فقال صلى الله علية وسلم: لا والله يا أبا مويهبة! ولكنني اخترت لقاء ربي ثم الجنة). ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه وقد شعر بصداع في رأسه، فاستقبلته زوجته عائشة وكانت رضي الله تعالى عنها قد أصابها صداع قبله، فلما دخل عليها قالت: يا رسول الله! وارأساه! تشتكي رأسها، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل أنا وارأساه)، أخبر عن مرضه، وعن الصداع الذي يصيبه. ثم ما زال الصداع يتعاقب عليه ويشتد مع حمى شديدة كانت تنوبه صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئاً فشيئاً، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي على بيوت نسائه كلها، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث اشتد عليه وجعه فأستأذن أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن أن يكون في بيت عائشة، فأذن له صلوات الله وسلامه عليه، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة تختط قدماه في الأرض متكئاً على رجلين: هما الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حتى أتى بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فمكث في بيتها يشتد عليه الوجع شيئاً فشيئاً، فلما ثقل عليه المرض، وشعر صلى الله عليه وسلم بدنو أجله أخذ يصنع أشياء يودع بها الناس، وتبرأ بها الذمة. ولما كثر عليه المرض واشتد عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قرب من الماء لم تحل أوكيتهن، فأهرقوا عليه سبع قرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم خرج إلى الناس عاصباً رأسه فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ به خطبته أن صلى على شهداء أحد واستغفر لهم؛ وفاء منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه. ثم بعد ذالك أخذ يوصي الناس بالأنصار وفاء منه صلى الله عليه وسلم للأنصار فقال: (إنهم كرشي وعيبتي، وإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، وأوصى الناس من بعدهم أن يقبلوا من محسنهم وأن يتجاوزوا عن مسيئهم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وزهرتها ثم الجنة، وبين لقاء ربه فأختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! فقال صلى الله علية وسلم: على رسلك يا أبا بكر! ثم التفت إلى الناس يبين لهم مقام أبي بكر في الأمة فقال: إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذ خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ثم قال: لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر). فلما انتهى من ذلك صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه إلى بيته يزداد عليه المرض شيئاً فشيئاً. ثم دخلت عليه ابنته فاطمة فسارها بشيء في أذنها فبكت، ثم سارها كرة أخرى فابتسمت، ثم سئلت عن ذلك بعد فذكرت أنه أخبرها في الأولى بقرب أجله وأنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها بأنها أول أهله لحوقاً به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، فابتسمت رضي الله تعالى وأرضاها. ثم إنه عليه الصلاة والسلام قبل أربعة أيام من وفاته أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة أو تسعة دنانير كانت عنده صلوات الله وسلامه عليه. ثم مكث المرض يشتد عليه فكان يغمى عليه أحياناً ويفيق أحياناً من شدة الحمى التي كانت تصيبه صلوات الله وسلامه عليه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته، فأوصت من يدعو عمر أن يصلي فصلى بهم عمر، فلما سمع صلى الله عليه وسلم صوت عمر قال: (يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلين بالناس إلا أبو بكر) كالإشارة إلى استخلافه من بعده رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وبقي أبو بكر يصلي بالناس حتى خرج إليهم صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجدهم يصلون وأبو بكر يتقدمهم، فأشار إلى أبي بكر أن ابق مكانك فلم يقبل، فرجع أبو بكر وصلى صلى الله عليه وسلم إماماً بهم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فلما فرغ من الصلاة قال لـ أبي بكر: (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما كان لـ أبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفاته صلى الله عليه وسلم

وفاته صلى الله عليه وسلم ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته يشتد عليه الوجع، ويرى من الكرب ما الله به عليم، حتى كان يوم الإثنين الثاني من شهر ربيع الأول على الصحيح -والثاني عشر من شهر ربيع الأول على قول الجمهور- وكان الناس في صلاة الفجر، وأبو بكر يصلي بهم، وإذا به صلى الله عليه وسلم يكشف الستار الذي بينه وبين المسجد فرآهم يصلون خلف أبي بكر فتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وكادوا يفتنون عن صلاتهم فرحاً وظناً منهم أنه برأ، فهم أبو بكر أن يرجع فأشار إليهم أن على مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودع. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)، ثم إنها دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال، ودخل عليه أسامة، فقالت فاطمة: (واكرب أبتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم). فدخل عليه أسامة وأشار إليه أن ادع لي! فلم يستطع صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أن يدعو له بلسانه، ولكنه رفع يديه يدعو لـ أسامة في سره. ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن صلى الله عليه وسلم وحد النظر في عبد الرحمن ففهمت عائشة أنه يريد المسواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أن نعم، ولم يستطع أن يقولها بلسانه، فأخذت المسواك من أخيها وقضمته، ثم طيبته وألانته، ثم أعطته رسول الله فاستاك به صلى الله عليه وسلم، كآخر عمل يصنعه في الدنيا، ثم أرجأه، ثم سمعته عائشة وقد أسندته إلى صدرها وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اغفر لي وارحمني، اللهم اغفر لي وارحمني، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، كررها ثلاثاً، رافعاً أصبعه السبابة حتى كان آخر ما قاله من الدنيا: (بل الرفيق الأعلى). ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه، فوضعته عائشة على الأرض، وكان سنها يوم ذاك ثمانية عشر عاماً، ثم خرجت تلطم خدها مع من يلطمن من النساء، فشاع خبر وفاته فأصبح الناس فيه بين مفتون ساكت، وغير مصدق، قد أذهلهم الخبر، وداهمتهم الفجيعة، وحق لهم ذلك والله! وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه في السنح -أي: في الحرة الشرقية- فأتاه رجل فأخبره الخبر، فعاد رضي الله عنه وأرضاه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على رسول الله وهو مسجى في بيته، فكشف عن وجهه، وأتاه من قبل رأسه، ثم حدر فاه إلى جبهته وقال: واصفياه! ثم قبله أخرى وقال: وانبياه! ثم قبله أخرى وقال: واخليلاه! ثم قبله وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، وأما غير ذلك فلن يكتبه الله عليك أبداً. ثم غطاه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وسجاه، ثم خرج إلى الناس يقتحم الصفوف وعمر واقف، فقال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، قال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، فحمد الله وأثنى عليه، فترك الناس عمر وأقبلوا على أبي بكر فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فكأن الناس لم يعلموا هذه الآية إلا يوم تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وما كان أحد من الخلق إلا وأخذ يرددها. ثم إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم انشغلوا بأمر الخلافة، فلما فرغوا من بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه تفرغوا لرسولهم صلى الله عليه وسلم، فتولى غسله عليه الصلاة والسلام أهل بيته: العباس وولداه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وصالح مولاه وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم. ولم ير منه صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت؛ لأنهم عندما أرادوا أن يغسلوه احتاروا هل يجردونه صلى الله عليه وسلم أم لا، فألقى الله عليهم النوم فأصابتهم سنة فسمعوا منادياً يناديهم: أن اغسلوا رسول الله وهو في قميصه، فغسلوه صلوات الله وسلامه عليه وهو في قميصه يقلبه العباس وولداه، ويصب الماء أسامة وصالح، ويغسله بيده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وبينما هم يغسلونه استأذن أوس بن خوري بدري من الخزرج نادى على علي من وراء البيت: يا علي! أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أدخلتني، فأذن له علي رضي الله عنه، فدخل أوس فأخذ ينظر دون أن يشاركهم في الغسل، فلما فرغوا من غسله كفنوه صلوات الله وسلامه عليه، وهو سيد ولد آدم، وخير خلق الله، أقسم له ربه بأنه ما ودعه وما قلاه، ومع ذلك يكفن كما كفن الموتى في ثلاثة أثواب. ثم وضعوه صلى الله عليه وسلم على سرير، ثم حفروا له لما أخبرهم أبو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ما من نبي يقبض إلا ويدفن حيث قبض)، فحفروا له بعد أن بعثوا إلى رجلين: أبي عبيدة وكان يحفر القبر شقاً، وأبي طلحة من الأنصار كان يلحد لحداً. فالذي ذهب إلى أبي طلحة وجده فعاد معه فحفروا له صلى الله عليه وسلم. ثم إنهم قبل أن يدفنوه وضعوا سريره على حافة القبر، ثم استعظموا أن يصلي أحد بهم إماماً على رسول الله صلى الله علي وسلم، فصلى عليه العباس وهو أسن بني هاشم أول الناس، ثم صلى عليه عصبته وقرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه النساء، ثم صلى عليه الصبيان، ثم صلى عليه العبيد صلوات الله وسلامه عليه. صلوا عليه أرسالاً كل منهم يصلي لوحده، فلما فرغوا من الصلاة عليه نزل في قبره قثم والفضل وعلي بن أبي طالب ومولاه شقران رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فنزلوا في قبره الطاهر الشريف، فوضعوا جسده في اللحد، ثم بنوا عليه تسع لبنات، ثم حثوا التراب على ذلك القبر الطاهر الشريف حتى أتموا دفنه صلوات الله وسلامه عليه. يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم أيها المؤمنون! هذا على وجه الإجمال موت رسولكم صلى الله عليه وسلم. لا ريب أن الإنسان يعلم أن حديثاً كهذا لا يحتاج إلى بليغ تهتز له المنابر، ولا إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائر، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن رحيل حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن حبيبنا الذي بلغ دين الله، وأرشد إليه، وناجى ربه، ودعا إليه، وكان أرحم الخلق بالخلق، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه لما زار بقيع الغرقد: (وددت لو أني رأيت إخواني فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض)، أي: سابقهم إليه، فصلوات الله وسلامه عليه.

عبر وعظات من وفاته صلى الله عليه وسلم

عبر وعظات من وفاته صلى الله عليه وسلم

الربانيون ودعوة الناس

الربانيون ودعوة الناس هؤلاء الربانيون المفترض أنه لا هم لهم إلا جنات النعيم، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الناس مثقلاً بالمرض، مشتداً عليه الوجع، يشعر بصداع في رأسه، فلما كشف الستر ووجد ثمرة فعله صلى الله عليه وسلم ووجد الصحابة كلهم على قلب واحد يصلون تبسم صلوات الله وسلامه عليه نسي المرض الذي أصابه نسي الآلام التي يعانيها نسي العناء الذي يجده؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قار العين، فرح الصدر أن أمته من بعده لزمت طريقه المستقيم، ونهجه القويم. وكذالك الدعاة الربانيون، والعلماء الصالحون، والمصلحون في الأرض ينبغي أن يكون همهم شيء واحد، وهو أن يلزم الناس طريق الهدى، وأن يتبعوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم. يا أخي! لا تنتظر من أحد حمداً ولا شكوراً، ولا تنتظر أن يذكرك الناس بلسانهم، ولا أن يشيروا إليك ببنانهم، لا تنتظر كلمة مدح، ولا شريط يوزع. أخلص نيتك لله جل وعلا، وتقرب إلى الله بالدعوة إليه، واعلم أن الدعوة إلى الله أعظم القربات، ووظيفة الأنبياء، ومهمة المرسلين: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. ادع إلى الله في بيتك مع زوجتك وأولادك، ادع إلى الله جل وعلا في مواطن عملك، كن هيناً ليناً، يأخذ الناس منه قولهم، كن هاشاً باشاً يعلم أن الناس لا يمكن أن يجمعوا على قلب واحد، ولذلك قال الله لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. يؤتى إليه صلى الله عليه وسلم بالرجل وقد شرب الخمر فيجلد مرة بعد مرة، ثم يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، والله ما علمته إلا محباً لله ولرسوله)، إذا أراد أن يدعو دعا بأسلوب حسن لين، يردف معاذاً خلفه، ثم يقول له: (يا معاذ! والله إني لأحبك)، فيحلف صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة لمثله أن يحلف، ثم يقول: (يا معاذ! لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). من أراد أن يدعو إلى الله فليكن هيناً ليناً، يبتسم للمسلمين، ويعلم أنه لا يخلو مؤمن من خطيئة. العبد الصالح ذو العلم والبصيرة يتبع سبيل الحكمة ويبعد عن طرائق الفتنة؛ جاءه صلى الله عليه وسلم عمرو بن عنبسة أول بعثته صلوات الله وسلامه عليه وهو رابع أربعة في الإسلام فقال: (من أنت؟ قال: أنا نبي. قال: وما نبي؟ قال: نبي أدعو إلى الله وأحذر من عبادة الأوثان، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى ديار قومك)، أي: لا تعرض نفسك للفتنة، قال: (فإذا سمعت أن الله أظهرني فأتني). ولم يبتله صلى الله عليه وسلم، فقد يقدر العالم على شيء لا يقدر عليه داعية، ويقدر داعية على كلمة لا يقدر عليها من هو أدنى منه، ويقدر المعلم على كلمة لا يقدر عليها الطالب، ولا يمكن أن يكلف الناس كلهم بالدعوة إلى الله على طريق واحد وعلى كلمة واحدة. لكن المؤمن قلبه يحترق إذا رأى منكراً، ويحترق إذا رأى معروفاً لا يؤمر به، ومع هذا فعليه أن ينظر إلى وضعه، وإلى أي الطرائق أجدى وأنفع في الدعوة إلى الله جل وعلا. وكم من كلمة حرمت كلمات، وكم من محاضرة منعت محاضرات، وكم وكم مما لا يخفى على أحد، فالمسلم ينبغي عليه أن يكون همه الأول والأخير أن تبقى الدعوة إلى الله جل وعلا قائمة، لا أن يبقى الأشخاص، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم مات والدين باق فمعنى هذا أن الدين لا يعلق بأحد، ولو كان أعلم أهل الأرض.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم

محبة النبي صلى الله عليه وسلم السابعة: من هذا كله يتضح أيها المؤمنون! أن من أعظم القربات، وأجل المنجيات محبته صلى الله وسلم عليه: وقد علمتم ما أصاب المسلمين عندما علموا بخبر وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى عمر وهو المحدث الملهم، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان نبي بعدي لكان عمر)، غلب على أمره، وذهل عن عقله، وقال: من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه. وما ذاك إلا لعظيم محبتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فاعلم يا أخي! أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، فقال أنس: وأنا والله أحب الله ورسوله، وأحب أبا بكر وعمر. وأنت أيها المؤمن! لا ريب أنك ترى أن الناس اليوم فريقان: منهم من غالى غلواً زائد عن الحد الشرعي في محبته صلى الله عليه وسلم، ومنهم -والعياذ بالله- من أراد أن يفر من الغلو فلجأ إلى الجفاء، فلم تعد محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاطفة جياشة، ولا محبة صادقة، وإن سألته قال: أخاف من الشرك، أخاف من البدع، وكلا الفريقين بلا شك على خطأ. فأما الأولون فربما قادهم الغلو في محبته وتعظيمه وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الشرك بالله، والخروج من الملة بالكلية، والبوصيري نظم قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أولها: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق بالظلماء من إضم فما لعينيك إن قلت اكففا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم وهذه البردة غالى فيها البوصيري رحمه الله وعفا عنه غلواً غير شرعي في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بالناس الذين نهجوا نهجه، ولزموا بدعته أن قالوا: لا يجوز قراءة هذه القصيدة إلا أن يكون الإنسان متوضئاً متطهراً مستقبل القبلة، فجعلوا هذه القصيدة محاكاة للقرآن والعياذ بالله. ثم نشأ أقوام خافوا أن يقعوا في هذا الأمر فجفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما ذكر أحدهم اسم رسولنا عليه الصلاة والسلام أو سمعه دون أن يصلي ويسلم عليه، وربما عاش دهره كله لم يأت قبره الشريف ليسلم عليه، وربما خاف من البدع أكثر فرفض أن يأتي أهل البقيع فيسلم عليهم، وربما رفض أن يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم. ولا ريب أيها المؤمنون! أن أهل السنة والجماعة يدورون مع الحق حيث دار، ويلزمونه حيث وجد، فإن المؤمن لا يتأثر بالبيئة التي حوله، ولا بما يسمع، وإنما يتأثر بالقول الحق الذي مصدره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل سلف الأمة الصالح. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي البقيع فيسلم على أهله ويستغفر لهم، وكان يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم ويستغفر لهم، وكان أصحابه من بعده يأتون قبره الشريف فيسلمون عليه، ويأتون أهل البقيع، ويأتون شهداء أحد فيسلمون عليهم تأسياً بفعله صلوات الله وسلامه عليه. فلا يوجد في دين الإسلام شخص يموت الدين بموته ويبقي ببقائه، ولو وجد هذا الشخص لكان رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يربي الناس على أن يتعلقوا بزيد أو بعمر، أو يتعلقوا بالعالم الفلاني، أو بالداعية الفلاني، أو بالأمير الفلاني، فإن الدين دين الله، والهدى هدى الله، والمراد الجنة، والخوف من النار، أما الناس فإن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فقد يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، والسعيد من تعلق بالله وحده، ولزم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعط عقله لأحد غيره ولزم الكتاب والسنة ولم يجنح لشيء غيرهما، يحب الحق حيث وجد، ويكره الباطل حيثما وجد، ويعتذر لأئمة المسلمين وعلمائهم ودعاتهم إذا رأى أنهم قد أخطئوا السبيل أو حادو عن المنهج، أو ما إلى ذالك مما لا يسلم منه أحد من الخلق.

التحذير من الفتن

التحذير من الفتن العبرة السادسة: من هذا المقطع يظهر أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى أهل البقيع مع غلامه أبي مويهبة قال لأهل البقيع: (السلام عليكم يا أهل المقابر! ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، ثم قال: أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى). وما زال الناس والعياذ بالله في فتن يتبع بعضها بعضاً إلى يومنا هذا، وسيبقى الأمر إلى أن تقوم الساعة: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. ولا ريب أن أعظم ما فتن به الناس في زماننا هذا ما تبثه القنوات الفضائية من أنواع الفساد والانحلال الخلقي، ودعوة الناس إلى الإفساد، حتى أضحى القوم شباباً وشابات، فتياناً وفتيات يقلدون الغرب، ويحاكونهم في صنيعهم، وغابت الغيرة عن كثير من الرجال، كل ذلك بدعوى الحضارة والتقدم، ونسوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسوا سنته وسيرته، ونسوا ما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. فيا أيها المؤمن! ينبغي عليك إن كنت قادراً على أن تنهى عن منكر أو تأمر بمعروف أن تتقي الله جل وعلا فيما بين يديك من أهلك ومن أبنائك وبناتك، وأن تتقي الله جل وعلا في من لك سلطان عليهم، فإن ما تبثه هذه القنوات بلا ريب ولا مرية ولا شك إنما هي دعوة لأخذ الناس عن دين الله، حتى يصبح الناس في الشر سواء، وفي الكفر على ملة واحدة، وفي الضلال على نهج واحد، أعاذنا الله من ذلك.

التعوذ بآيات القرآن أمر مشروع

التعوذ بآيات القرآن أمر مشروع العبرة الرابعة: أن قراءة القرآن وتعويذ المريض بها أمر مشروع: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته وقوته ونشاطه يقرأ على نفسه بالمعوذات، فيقرؤها في كفه ثم ينفث، ثم يمسح بيده صلى الله عليه وسلم، أما عند دنو أجله، وقرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه فكانت عائشة تقرأ عليه، ثم إنها تنفث عليه، وتأخذ يده الطاهرة وتمسح بها على جسده صلوات الله وسلامه عليه رجاء البركة، وكانت تقول: علمت أن يده لنفسه خير من يدي! فرضي الله تعالى عنها وأرضاها. والبعض اليوم يغفل عن أن يتعوذ بالقرآن، وأن يلجأ إلى الله جل وعلا في مرضه وفي كربه وفي شدته، وأن يستعين بالله جل وعلا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يضع يده الشريفة على رأسي الحسن والحسين حفيديه ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، وكان يقول: (إن أباكما -يقصد إبراهيم- كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق)، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أهمية الصلاة

أهمية الصلاة العبرة الخامسة: أهمية الصلاة: فإنه صلى الله عليه وسلم كان كلما رجع إليه نشاطه، وعادت إليه قوته يوصي الناس ويقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وهو القائل: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). ولما كشف الستر الذي في حجرة عائشة ورأى المسلمين يصلون تبسم صلى الله عليه وسلم، وقرت عينه، لأن هذا هو العهد الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه أمته، ومع ذلك لتجدن في الناس اليوم أقواماً وفئاماً يسمعون: حي على الصلاة حي على الفلاح، ومع ذلك يعرضون عن المساجد، ويقبلون على أماكن لهوهم، وعبثهم، وأماكن لا يليق ذكرها في مكان جليل كهذا، وهذا والعياذ بالله من الغفلة، ومن الإعراض عن الله وعن ذكره، ومن سوء الحياة التي يبتلي الله جل وعلا بها بعض عباده.

مقابلة أهل المعروف بالمعروف

مقابلة أهل المعروف بالمعروف العبرة الثالثة: أن الوفاء للغير، وإسداء الجميل إلى أهله من أعظم خصال الربانيين، وأعظم صفات الصادقين: فرسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته كان حريصاً على أن يكون وفياً مع من وقفوا معه، فخطب في آخر حياته يصلي ويستغفر لشهداء أحد؛ لأنهم قدموا أرواحهم، وقدموا مهجهم وأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ووصى بالأنصار خيراً صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم قبلوه في دارهم، وحموه، ونصروه، وأيدوه، وظاهروه، وعزروه، صلوات الله وسلامه عليه، فحفظ لهم هذا الجميل، ووصى الأمة من بعدهم بهم خيراً. وتذكر صلى الله عليه وسلم صنيع أبي بكر، وأنه أول الناس إيماناً، وأعظم الناس نصرة للدين، وأنه الذي أيد الله به دينه بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأخبر الناس بمقام أبي بكر، وبمنزلته، وبعلو درجته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي على المؤمن أن يتأسى في هذا وفي غيره بوفائه للناس، وإسدائه الجميل لمن يحسنون إليه ويقدمون له المعروف.

عظمة الرب جل جلاله

عظمة الرب جل جلاله أيها المؤمنون! لا ريب أن هذا المقطع العظيم من سيرته العطرة وأيامه النظرة صلوات الله وسلامه عليه، يقف عندها المؤمن ليستلهم دروساً وعبراً، وآيات وخبراً، وما أعظم تلك الدروس، وما أجل تلك العبر! ألا وإن أولها: عظمة الرب جل جلاله: الله تبارك وتعالى هو الحي وحده حياة لا موت فيها، والله تبارك وتعالى وحده من بيده مقاليد السماوات والأرض، والله جل وعلا وحده من بيده النفع وبيده الضر، وهذا سيد الخلق ورسول الحق، وصفوة الله من خلقه أجمعين، ومع ذلك ما كان له ولا لغيره أن يتجاوز مقام العبودية أبداً، فالله خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب، فمتى ينظر أولئك المتكبرون المتجبرون المتألهون بمالهم أو بسلطانهم أو بجاههم، متى يعلمون أن حقيقية الموت لم يسلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قربه وجلال مكانته، وعلو منزلته، ودنوه صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه، ومع ذلك ذاق صلى الله عليه وسلم من الموت وكربه. ولاقى صلى الله عليه وسلم من الأوجاع والشدائد حتى أضحى وهو نبي الأمة وأفصح الناس لساناً وبياناً ومقاماً، يطلب منه أن يتكلم فيعجز ويثقل لسانه عن الكلام، حتى أصبح صلى الله عليه وسلم يصلي الناس على أمتار من بيته ولا يستطيع أن يقوم إليهم، ولا أن يشاركهم صلاتهم، ولا أن يؤمهم حتى يثبت الله لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في المقام المحمود، والمنزلة العظيمة التي هو فيها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام يبقى بشراً، فلا يتعلق أحد من الخلق بأي مخلوق كائناً من كان، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح، ولا ولي فاضل، وإنما ينبغي أن تصرف القلوب كلها لله جل وعلا الواحد القهار. قال تبارك وتعالى يعلم نبيه ويرشده: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35]. قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]، عموم لا تخصيص فيه، وإطلاق لا قيد له، فكل ذي روح لا بد أن يوفى أجله، ويؤتى كتابه، ويموت كما يموت غيره: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. لقد دعا الله جل وعلا الناس إلى أن يتكلوا على الله جل وعلا وحده لأنهم إذا توكلوا على شخص، واعتمدوا عليه في إنجاز شيء فربما مات هذا الذي توكلوا عليه قبل أن يقضي حوائجهم، ولذلك قال الله لنبيه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58].

فضل البقيع وأهله

فضل البقيع وأهله العبرة الثانية: فضل البقيع: فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في أخريات حياته أن يأتي إلى بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة بين الفينة والفينة، حتى قال بعض العلماء: إنه كان صلى الله عليه وسلم ربما أتاه في كل أسبوع، فكان يأتي صلوات الله وسلامه عليه يدعو لأهله، ويستغفر لهم، ويدعو الله جل وعلا أن يمحو عنهم الخطايا، ويقيل عنهم العثرات. أخرج الإمام مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها أنها قالت: (بات عندي رسول الله صلى الله علية وسلم ذات ليلة، وخلع نعليه ووضعهما عند قدميه، قالت: ثم لبث قليلاً حتى شعر أنني رقدت، ثم لبس نعليه رويداً، وأخذ رداءه رويداً، ثم مشى رويداً، وفتح الباب وأجفاه رويداً، قالت: فاختمرت وتقنعت ولبست إزاري وتبعته قالت: فإذا به يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، ويدعو لهم ثلاثاً رافعاً يديه، قالت: ثم انحرف فانحرفت، ثم هرول فهرولت، ثم أسرع فأسرعت، فدخلت البيت قبله، فلما رآني نائمة رضي الله عنها قد حفزني النفس قال: ما لك يا عائش! حشيا رابية -أي: أن صدرك يعلو وينزل- قالت: لا شيء يا رسول الله! فقال صلوات الله وسلامه عليه: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير؟ فلما قالها استكانت رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأخبرته بالخبر فقال: أنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قالت: نعم يا رسول الله! قالت: فلهدني لهدة في صدري أوجعتني، ثم قال لي: يا عائشة! إن جبرائيل أتاني وقال لي: إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: وما كنت لأدخل جبريل عليك وقد خلعت ثيابك، وخشيت أن أوقظك، فقالت له رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول الله! فماذا أقول إن أنا أتيتهم؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وأنتم السابقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للالحقون). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم تنشق الأرض عن أهل البقيع فيحشرون معي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأنتظر أهل مكة فتنشق الأرض عنهم فنحشر أنا وإياهم بين الحرمين)، صلوات الله وسلامه عليه. فالموت في المدينة فضيلة وأي فضيلة، قال عليه الصلاة السلام: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإني أشفع لمن يموت بها)، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن أحداً لا يعلم متى يموت، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل)، أي: أن يكون غالب وقته، وعيشه، وغدوه ورواحه في المدينة التي حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم. فالبقيع قد دعا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لأهله، وقد قال بعض العلماء: إن دعوته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ربما تشمل من يدفن فيه بعد موته صلوات الله وسلامه عليه، والحق أن النص يحتمله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)، ولم يخصص زماناً ولا قوماً ولا أناساً، وإنما جعلها مطلقة وذلك الظن به وبرحمته صلوات الله وسلامه عليه.

من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا بعد موته

من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا بعد موته

الالتزام بالهدي النبوي في احترام الآخرين وإجلالهم

الالتزام بالهدي النبوي في احترام الآخرين وإجلالهم إن احترام الغير أمر مطلوب به الشرع، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخر، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم). ومع ذلك كم ترى في الناس اليوم من لا يعرف رحمة للصغير، ولا توقيراً للكبير. إن العلماء الربانيين والمسلمين الصادقين يحترم بعضهم بعضاً، لا لشيء إلا تأسياً بهدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ونحن ننقل من أرض الواقع: فقد كنا في العام الماضي مع الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين حفظهما الله، فكانت هناك محاضرة للشيخ محمد في مسجد الشيخ عبد العزيز في مكة، فالمحاضرة معلن عنها أنها للشيخ محمد بن عثيمين فلما جلس الشيخ على الكرسي كان أول الحضور بين قدميه الشيخ عبد العزيز بن باز رغم أنه حفظه الله مفتي الأمه، فتحرج الشيخ محمد أن يتحدث، لكنه غلب عليه فتحدث. فلما أكمل محاضرته جاءته الأسئلة، فقال: أحيلها إلى الشيخ، فقال الشيخ عبد العزيز: إنما كتبت لك، والله ما كنت لأجيب وأنت حاضر، فحلف الشيخ عبد العزيز على الشيخ محمد أن يجيب هو، فاستحيا الشيخ محمد وأخذ يجيب، وكأنه لم يستطع أدباً فأجاب على سؤال أو سؤالين ثم قال لفرط ذكائه: هذا سؤال يحتاج إلى تعقيب من الشيخ عبد العزيز، فلو عقبت! فعقب الشيخ عبد العزيز، فلما انتهى قال الشيخ محمد: الآن لا أتكلم بعد ذلك، وقد أجاب الشيخ ابن باز. فهذا مثال واقعي شاهدته بعيني وأنقله لك يا أخي! وربما نقله لك غيري، لكن المقصود أنه ينبغي على المؤمن أن يحترم ويوقر من هو أكبر منه، وبالأخص الوالدين. من الناس اليوم من تسأله: أين أبوك؟ فيؤشر وكأنه يؤشر على رجل في قارعة الطريق، ويتكلم عن أبيه وكأنه يتكلم عن مرءوس بين يديه. ينبغي للإنسان أن يعلم أن هذه الآداب الاجتماعية أصل من أصول دين الله جل وعلا، أمر الله بها، ودعا إليها، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحترام المسلمين أياً كانت جنسياتهم، وأياً كانت دولهم، وأياً كانت منازلهم؛ أمر جاء به الشرع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، ولما أراد أن يبعث جيشاً إلى الروم أمر عليه أسامة بن زيد رغم أن في القوم أبا بكر وعمر. هذا أيها المؤمنون! ما أردنا بيانه، ونعتذر عما أخللنا به، لكن الذي ينبغي أن يصل إلى قلبي وقلبك أيها المؤمن! أن نعاهد الله جل وعلا على أن نكون صادقين في محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نلتزم هديه، وأن نتبع سنته، وأن نكون على قلب لا يعرف إلا الله، ولا يحب إلا الله، ثم يحب من أمر الله جل وعلا بحبه. كما يجب أن يسلم المسلمون جميعاً من ألسنتنا همزاً ولمزاً: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وأن يسلم المسلمون جميعاً من قلوبنا، فلا يكون فيها غل ولا حسد ولا بغضاء. نعلم أن هناك منكرات ومعاصي لن نستطيع أن نتخلص منها، فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا على أن تخلص منها. نرقب الله جل وعلا فيما نقول ونفعل، ونرجوه جل وعلا أن يرحمنا وأن يرزقنا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أنت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ونسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، خلقت السماوات السبع وما أظلت، وخلقت الأرضين السبع وما أقلت، تبدئ وتعيد، وأنت على كل شيء شهيد، أرجعت يوسف إلى أبيه، ورددت موسى إلى أمه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وسعت كل مخلوق عزة وحكمة، ووسعت كل شيء رحمة وعلماً، نسألك اللهم باسمك الأعظم وبوجهك الأكرم يا حي يا قيوم! أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن ترزقنا جواره في جنات النعيم، اللهم ارزقنا جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم. اللهم ارزقنا جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، اللهم أحينا في هذه الدنيا على هديه وسنته، وأمتنا اللهم مخلصين على ملته، اللهم وابعثنا تحت لوائه وفي زمرته، اللهم وأوردنا حوضه وارزقنا شفاعته، اللهم واختم لنا بخير واجعل مآلنا قربه في جناتك يا رب العالمين! اللهم إن لم نكن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاًَ لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا. اللهم وردنا جميعا رجالاً ونساءً إلى دينك وهديك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك، اللهم إننا بشر يعرض علينا من الفتن ما يحيد بنا عن طريقك، اللهم ثبتنا على كل حال، اللهم إن حدنا عنك فردنا إليك يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن المعاصي

اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن المعاصي كيف تدعي امرأة محبة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (أيقظوا صواحب الحجرات، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، ثم قال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن!) ومع ذلك ربما تسهر الفتاة على الهاتف، أو على المذياع، وأخرى على التلفاز، وأخرى تخاطب أصحاب القنوات، وما إلى ذلك! أين هؤلاء إن كانوا صادقين من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المحبة لا تعرف بالدموع، ولا بالخشوع أمام الناس، ولا بمثل ذلك، إنما تعرف حقيقتها باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، وإن كان البكاء والخشوع عند ذكره صلى الله عليه وسلم منقبة؛ فإن مالكاً رحمه الله تعالى كان إذا ذكر رسول الله بكى، فقال له أصحابه: ما هذا يا أبا عبد الله؟ قال: لقد أدركت محمد بن المنكدر ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فاضت عيناه رحمه الله تعالى ورضي عنه! فمحبته صلى الله عليه وسلم بالقلب والجوارح، ومحبته صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه وسلوك مسلكه.

الاقتداء بهديه واتباع سنته صلى الله عليه وسلم

الاقتداء بهديه واتباع سنته صلى الله عليه وسلم ينبغي على المؤمن في غدوه ورواحه أن يكثر من الصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يستحضر أنه عليه الصلاة والسلام قد وفى وأدى ما عليه، وأن ينظر في أفعاله أين هي من هديه صلى الله عليه وسلم. إن كنا صادقين محقين في محبته فالفيصل في ذلك أن ننظر في أعمالنا, وفي خطواتنا، وفي أقوالنا، أين هوانا من هواه، أين هدينا من هديه، أين سمتنا من سمته، أين حديثنا من حديثه، أين ليلنا من ليله، أين نهارنا من نهاره، كيف يدعي مسلم أنه يحب الله حقاً، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يعكف ليلة حتى الفجر على أمور حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم من أغان ماجنة، وأفلام خليعة، ما فيها ما يذكر بالله أو يدعو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة (بات عندي صلوات الله وسلامه عليه، حتى وجدت برد جسمه ثم قال لي: يا عائشة! أتأذنين لي أن أعبد ربي؟ قالت: قلت: يا رسول الله! والله إني لأحب قربك، وأحب أن تعبد ربك، فقام صلى الله عليه وسلم إلى شن معلق فتوضأ ثم مكث يصلي ويبكي حتى دخل عليه بلال يستأذنه لصلاة الفجر، فقال له بلال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: يا بلال! كيف لا أبكي وقد أنزل علي الليلة، ثم تلا خواتيم آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]).

الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي على المسلم أن يكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا من حقه صلى الله عليه وسلم على أمته، وقد أدى صلوات الله وسلامه عليه الذي عليه، فبقي الذي له، وقد قال وهو الصادق المصدوق: (من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً). وينبغي أن يعلم المؤمن أن هذا النبي ما مات إلا وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة ونصح الأمة، كنا في حج مع شيخنا ابن باز حفظه الله فجلس يحدث عن حجة الوداع، فلما وصل إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: (فإنكم ستسألون عني، فقال الناس: يا رسول الله! نشهد أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة) بكى شيخنا حفظه الله، والله كأني أنظر إليه وهو يبكي في هذه اللحظة ويقول: وأنا أشهد أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى نبياً عن أمته.

فاجعة الفجر

فاجعة الفجر في حياته صلى الله عليه وسلم وهديه بيان وإضاءات وومضات، ومن جملة تلك الإضاءات بيان عظيم أجر صلاة الفجر ومنزلتها في العبادات، وبيان منزلة رجلين من الصحابة وعظيم مكانتهما، وهما ابناه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وبيان عاقبة المرء بعد الموت في البرزخ، تلك الحياة التي يصل المرء إلى نعيمها بمحافظته على صلاة الفجر وغيرها من العبادات، وامتثاله هدي رسول الله الأكمل الذي سلكه الحسنان وغيرهما من صحابته الكرام.

اتباع هدي النبوة

اتباع هدي النبوة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، لا رب غيره ولا إله سواه، وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنه قال ذات يوم لنفسه: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتوضأ في بيته وخرج يسأل عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكلما سأل عنه في مكان قيل له: مر من هاهنا، حتى علم أن النبي عليه الصلاة والسلام توجه إلى بئر أريس في قباء اليوم، فتبعه، فدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً -أي: بستاناً- فتوضأ ثم جلس على قف بئر أريس وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فجلس أبو موسى الأشعري بواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبو بكر يستأذن، فأذن له وقال له: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجوار رسولنا صلواته الله وسلامه عليه، وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فاستأذن فأُذن له وقيل له: بشره بالجنة، فدخل عمر فصنع ما صنع صاحباه، ثم جاء عثمان فاستأذن فأذن له وقال: بشره بالجنة على بلوى تصيبه. فقال عثمان: الله المستعان، ثم لما أتى البئر وجد القف قد امتلأ من الجهة التي هم فيها، فقابلهما -أي: جلس في الجهة المقابلة- وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل صاحباه من قبل، فصلى الله على نبيه ورضي الله عن أصحابه. أيها الأخ الكريم! كذلك المؤمنون الأخيار يتبعون سنة وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يلتمسونه حياً بين أظهرهم، ونحن اليوم نلتمس حياته وسيرته وهديه فيما نقله المتقون الأبرار والصالحون الأخيار مما حوته كتب العلماء من سيرته صلوات الله وسلامه عليه. وفي العام التاسع كان عام الوفود، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يفد إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ممثلاً لعشيرته وقبيلته وقومه يريد أن يسمو بنفسه ويزكي قلبه ويتطهر من الذنوب بملاقاة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله بسنده أن ممن قدم ذئب، فقدم حتى أتى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعوى، فقال عليه الصلاة والسلام: (هذا وافد السباع). ونحن لا نجيء إلى بيوت الله إلا لنتلمس بعضاً من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فكم في السنة من دلالات ضافية ومعان شامخة وعظات بالغة يفيء المؤمنون إلى فحواها ويقتبسون من سناها. أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتساباً فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتاباً مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصاباً فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله باباً

منزلة صلاة الفجر

منزلة صلاة الفجر إن للعلماء في تتبع السيرة العطرة طرائق عدة، منها طرائق الفقهاء في استنباط الأحكام، ومنها ما نشرع فيه من التتبع العام لهدية صلوات الله وسلامه عليه، فنستضيء بقدر ما أمكن ببعض سيرته، فيكون العنوان مدخلاً لما يريد أن يبث في الناس من الهدي النبوي والسيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الإضاءات هي على الترتيب: صلاة الفجر، الريحنتان، الحياة البرزخية. إن هدي الأنبياء الأعظم في القيام بالعبادات، والصلوات ذروة العبادات، وصلاة الفجر ذروة الصلوات وتاجها، أفردها الله جل وعلا في القرآن ذكراً فقال جل جلاله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. فجعل الله جل وعلا الفرائض الأربع يتبع بعضها بعضاً، وأفرد صلاة الفجر لوحدها زماناً وأثراً، فصلاة الفجر أحد أعظم الأسباب في رؤية وجه الله تبارك وتعالى، وليس للمؤمنين غاية أعظم من أن يروا وجه ربهم تبارك وتعالى، أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى القمر ليلة البدر فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم تلا صلوات الله وسلامه عليه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130])، قال العلماء من المفسرين وغيرهم: (قبل طلوع الشمس) أي: صلاة الفجر، و (قبل غروبها) أي: صلاة العصر. وصلاة الفجر المحافظة عليها جماعة في مساجد المسلمين للرجال بعض دلالة على البراءة من النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)، فصلاة الفجر مع أخواتها مما يؤدى في الظلمة تكسب المؤمن نوراً تاماً في عرصات يوم القيامة، يوم يكون المؤمن أحوج ما يكون إلى النور، قال عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).

صلة صلاة الفجر بالأحداث العظيمة في التاريخ الإسلامي

صلة صلاة الفجر بالأحداث العظيمة في التاريخ الإسلامي وصلاة الفجر ارتبطت في تاريخ الأمة بأحداث عظام، إما بفقد عظمائها أو بآمالها أو بآلامها، فمن تتبع السيرة والتاريخ الإسلامي كله سيجد إرثاً كبيراً في قضية صلاة الفجر، فصلاة الفجر آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل موقعة يوم بدر، فإنها كانت صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، فكان آخر عهد من استشهدوا من الصحابة في بدر كان آخر عهدهم بالدنيا آنذاك صلاة الفجر خلف رسولنا صلى الله عليه وسلم. وصلاة الفجر صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أيام غزوة خيبر على مقربة من خيبر قبل أن يصل إليها، فصلى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الصبح ثم دخل على خيبر، فلما دخل خيبر بعد أن طلعت الشمس كان اليهود خارجون إلى أراضيهم ومعهم المساحي والمكاتل، فتفاءل صلى الله عليه وسلم بما في أيديهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر خربت خيبر، إننا إذا نزلنا بساحة أرض فساء صباح المنذرين). وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة قبل وفاته، فإنه عليه الصلاة والسلام حج حجة الوداع في العام العاشر ولم يعش بعدها نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر من ثلاثة أشهر، ولما كان في اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث وقال قبلها: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة) فنزل عليه الصلاة والسلام في خيف بني كنانة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وعند السحر قبل الفجر نزل عليه الصلاة والسلام إلى الحرم، فطاف طواف الوداع ثم صلى صلاة الفجر بأصحابه وبأهل مكة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تشرف به المهاد والنجاد يكبر على كل شرف من الأرض، فكانت صلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة. وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ونبينا عليه الصلاة والسلام حي بين أظهرهم، فلم يصلوا صلاة بعد صلاة الفجر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات وانتقل إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى. ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كشف الستار الذي بين المسجد وحجرة عائشة وأطل عليهم وهم يصلون خلف أبي بكر صلاة الفجر فقرت عينه واطمأنت نفسه وتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف رغم وطأة الحمى عليه صلوات الله وسلامه عليه. ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ارتبطت صلاة الفجر بكثير من الأحداث العظام بفقد عظماء الأمة، تقول السيدة الجليلة الصحابية أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها وأرضاها: مالي ولصلاة الفجر. وهذه الصحابية ولدت قرابة سنة ست من الهجرة، ورأت النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها لم ترو عنه؛ لأنه مات وسنها أربع سنين، وهذه الصحابية أرادها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لنفسه ليتزوجها حتى يكون بينه وبين آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب، فكلم أباها علياً فاعتذر بصغر سنها، فلما رأى إلحاحه قال له: إني سأبعثها إليك، فإن رضيت بها فثم، فأعطاها برداً وقال لها اذهبي به إلى أمير المؤمنين، فذهبت به إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما رآها كشف عن ساقها بعد أن لمسه، فقالت له وهي لا تعلم ما كان بينه وبين أبيها، لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، فرجعت إلى أبيها فأخبرته الخبر، وقالت: يا أبتاه لقد بعثتني إلى شيخ سوء، فقال رضي الله عنه وأرضاه: يا بنية هذا زوجك، فتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعة آلاف، ولم يكن يعطى مهر في ذلك الزمان بمثل هذا القدر، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه كان فرحاً بأن أصبح على نسب بآل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. فلما تزوجها عمر مكثت عنده ما شاء الله، ثم خرج عمر إلى صلاة الفجر، ثم أعيد به إلى بيته ليقال لها رضي الله عنها وأرضاها: طعن زوجك وقتل في صلاة الفجر. ثم بعد عمر رضي الله تعالى عنه تزوجها بعض الصحابة، فخرجت مع أبيها علي بن أبي طالب إلى الكوفة، فلما كان يوم السابع عشر من رمضان خرج علي رضي الله تعالى عنه ليصلي بالناس صلاة الفجر فطعن علي وضربت عنقه وهو ذاهب إلى صلاة الفجر، فأعيد إلى بيته ليقال لتلك المرأة كرة أخرى: إن أباك قد قتل وهو ذاهب إلى صلاة الفجر. فقالت رضي الله عنها وأرضاها: سبحان الله! مالي ولصلاة الفجر. وفي عصرنا هذا يوم الإثنين الماضي -كما لا يجهله أحد- اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله شيخ المجاهدين والمرابطين في عصرنا ولا نزكي على الله أحداً، اغتالته وهو خارج من صلاة الفجر، حتى قال بعض علماء العصر -وهي كلمة محمودة-: إن أول من يعزى في الشيخ أحمد أهل صلاة الفجر؛ لأن أهل صلاة الفجر في الأمة قوم مميزون، فاغتالته إسرائيل تريد أن تعرف الناس بمنطق حق القوة، وليأتين عليها يوم -بإذن الله- يعرفها فيه أهل الإسلام بمنطق قوة الحق، وشتان بين الحالتين لمن تدبر اللفظين وما يعقلها إلا العالمون. وقد كان اغتياله رحمه الله تعالى فجيعة على الأمة ينضم مع الفارق إلى سلسلة من فقدتهم الأمة من عظمائها ومجاهديها وأمرائها عبر السنين ممن ارتبط موتهم بصلاة الفجر بعد أن أنشأ جيلاً قرآنياً في الدور والمساجد وحلقات التحفيظ، فخرج أولئك الشباب بعد ذلك بقوة الإيمان التي في قلوبهم يقفون أمام آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وحلفائها بما أورثهم الله جل وعلا من اليقين في قلوبهم، وهذا اليقين ربوا من خلاله على سور القرآن، وإلا فإنه يستحيل عقلاً ونقلاً أن يقف أولئك الشباب والفتيان شامخين أمام العدو لو لم يكن في قلبهم من الإيمان واليقين والقرآن ما يثبتهم الله جل وعلا به. اضرب تحجرت القلوب وليس لها إلا الحجر اضرب فمن كفيك ينهمر المطر في خان يونس في بلاطة في البوادي والحضر ولى زمان الخوف أثمر في مساجدنا الشرر في فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر فرضي الله عن كل مؤمن جاهد في سبيل الله

صلاة الفجر سبب الكينونة في ذمة الله

صلاة الفجر سبب الكينونة في ذمة الله يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمت). إن أعظم ما يقف به المؤمن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مات وهو محافظ على هذه الصلاة وغيرها أعظم محافظة، حتى إنه قال في السنة القبلية التي قبلها: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وإن من أعجب العجب أن يفقد الإنسان حياءه من ربه جل وعلا فيسهر على لهو محرم أو يمكث على الفساد أياً كانت صوره الليل كله حتى إذا دنا الفجر نام، فإذا أصبح لعمله أو تجارته أو غير ذلك خرج يرجو الرزق ولا رزق إلا من الله، ويرجو أن يأمن العواقب ولا حافظ إلا الله، ويرجو أن يوفق ويسدد فيما يقول ويفعل والمسدد والموفق والمعطي والمانع الله، فيطلب ما عند الله وقد عصاه من قبل وفرط في أعظم فرائضه، يقول الله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:20 - 22]. إن من أعظم دلائل النجاح وأسباب الفلاح أن يؤدي الإنسان -إن كان رجلاً- صلاة الفجر في جماعة مع المسلمين، وأن تؤديها المرأة أو الفتاة في وقتها في بيتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فأداء صلاة الفجر نوع من السكينة والاطمئنان وأمان، ويقع بها المؤمن في ذمة الله، وليس المراد بأن يكون المؤمن في ذمة الله أنه لا يصيبه أذى، فهذا لا يمكن أن يثبت عقلاً ولا نقلاً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم أحد ومع ذلك كسرت رباعيته وشج رأسه وأدمي عليه الصلاة والسلام، ولكن المقصود أن الإنسان إذا بقي يبقى على خير وعافية، وإن قبض يقبض وقد كان في ذمة رب العالمين جل جلاله، والله تبارك وتعالى خير الحافظين. وكل سبب أدى إلى المحافظة عليها يجب أن يسعى المؤمن إليه، وكل سبب أعاق عنها أو حرم منها أو منعها فيجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عنه؛ لأنه لا جمع بين الاثنين، فلا يمكن أن يتم الأمران، فالله تبارك وتعالى خلق الناس منهم مؤمن ومنهم كافر، وبين لعباده النجدين، وأداء صلاة الفجر جماعة من أعظم أسباب التوفيق.

الحسن والحسين ومنزلتهما في الإسلام

الحسن والحسين ومنزلتهما في الإسلام الإضاءة الثانية: الريحنتان. وهذا العنوان مقتبس مما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الحسن والحسين: هما ريحانتاي من الدنيا). لقد خلق الله جل وعلا الرسل بشراً فيهم ما في الناس من العواطف، والرحمة، والألفة، وكل ما تقتضيه البشرية من خير، وأعطاهم من ذلك النصيب الأوفر والحظ الأمثل، ونبينا عليه الصلاة والسلام في الذروة من ذلك كله، ولقد كان عليه الصلاة والسلام شفيقاً رحيماً بالمؤمنين كلهم، فإذا تدبر الإنسان كيف كان نبينا عليه الصلاة والسلام رحيماً بآل بيته وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين؛ استبان له كثير مما خفي من سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه. تزوج نبينا عليه الصلاة والسلام خديجة، ورزق منها الولد، ومات الأبناء قبل المبعث أو بعد المبعث بقليل، وبقي البنات الأربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، فتزوجت زينب ابن خالتها أبا العاص، وتزوج عثمان رقية ثم ماتت عنه يوم بدر، فتزوج بعدها أختها أم كلثوم. وبعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر فدى المسلمون بعض أسراهم، فكان من الأسرى أبو العاص زوج ابنته زينب، وكان على كفره، فأخرجت زينب -لتفدي زوجها- شيئاً من المصوغات كان عندها أخذته من أمها خديجة، فأخرجته من خبائه لتفدي به زوجها أبا العاص، فلما أخرجته ونظر النبي صلى الله وسلم إليه تذكر أيام خديجة فذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.

اقتفاء رسول الله أثر إخوانه الأنبياء في تسمية الحسن والحسين

اقتفاء رسول الله أثر إخوانه الأنبياء في تسمية الحسن والحسين وبعد ذلك بفترة غير بعيدة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة أحب بناته إليه، وكان يقول كما في البخاري وغيره: (فاطمة بضعة مني)، ولذلك لما أراد العلماء أن يعرفوا بـ فاطمة -كما فعل الذهبي في سير الأعلام- قالوا: هي البضعة النبوية والجهة المصطفوية رضي الله عنها وصلى الله على أبيها. فهذه القريبة جداً من رسولنا صلى الله عليه وسلم جاء علي بن أبي طالب ليطلبها من رسول الله، فلما قعد بين يديه استحيا، وأصابته هيبة النبوة، فلم يستطع أن يقول شيئاً، فتكلم رسول الله عنه فقال: (أجئت لتخطب فاطمة؟ قال: نعم)، وبعد أخذ وعطاء زوجه إياها على درع حطمية كانت عند علي، ثم دخل عليها رضوان الله تعالى عليه وأرضاه، فأنجب منها الحسن، فلما أنجب منها الحسن دخل عليه الصلاة والسلام يقول: (أين ابني؟ ما سميتموه؟، قالوا: سميناه حرباً قال: بل هو الحسن)، وبعد شهر حملت بغلام ثان، فدخل عليه الصلاة والسلام ينشد (أين ابني؟ ما سميتموه؟ قالوا: سميناه حرباً قال: بل هو الحسين) فحملت بعد ذلك فولدت غلاماً، فقال عليه الصلاة والسلام: (أين ابني؟ ما سميتموه؟ فقالوا: سميناه حرباً، قال: بل هو محسن ثم قال عليه الصلاة والسلام: سميتهم بولد هارون بشر وبشير ومبشر)، أبناء هارون عليه الصلاة والسلام. وهذا أول الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في سيرته على أن يقتفي أثر إخوانه من الأنبياء امتثالاً لقول الله جل وعلا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهو عليه الصلاة والسلام أعظم من يمتثل لأمر ربه حتى في التسمية والكنى وما أشبه ذلك مما يراه الناس يسيراً. والشاهد من هذا كله أن من الناس اليوم من ينأى بنفسه عن هذه الأسماء خوفاً من أن يشبه ببعض الطوائف، والباطل لا يدفع بترك الحق، وإنما يدفع بالمضي على الحق والثبات عليه، لا بالتخلي عن الحق وسنة وهدي نبينا صلوات الله وسلامه.

الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة

الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له أبناء، فمات محسن وهو الصغير بعد أشهر من ولادته، وبقي الحسن والحسين يدرجان يغدوان ويروحان في بيت النبوة، فتعلق بهما صلوات الله وسلامه عليه، فعرف الملائكة في الملأ الأعلى بعلم الله تعلق النبي عليه الصلاة والسلام بـ الحسن والحسين. فلما كان ذات يوم جاءه حذيفة رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام: (يا حذيفة! أما رأيت العارض الذي أتاني؟ هذا ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط، استأذن ربه في أن يهبط إلى الأرض ويسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، فلما علمت الملائكة عليهم السلام بمقدار ما لهذين الصبيين من مكانة عند رسول الله استأذن أحدهم ربه في أن ينزل إلى الأرض ليبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. إن المرء إذا أصبح أباً يتغير كثير من حاله، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنهم -أي: الأبناء- مجبنة مبخلة مجهلة) تدفع الرجل للجبن فيخاف أن يموت عن أبنائه، وتدفعه للبخل فيخاف أن ينفق فيصبح أبناؤه من بعده فقراء، وتدفعه إلى الجهل فيغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم.

حب رسول الله للحسن والحسين

حب رسول الله للحسن والحسين صعد عليه الصلاة والسلام المنبر وأخذ يخطب، فدخل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثران، فنزل من المنبر وهو رأس الملة وسيد الأمة، ولو أوكل هذا الأمر إلى غيره لكفاه، ثم حملهما ووضعهما بين يديه، ثم التفت إلى الناس وقال: (صدق الله ورسوله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة، لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما)، وكفى به شاهداً ودليلاً على ما في قلبه صلوات الله وسلامه عليه من الرحمة. إن كونك مسئولاً في دائرة ما أو رجلاً معروفاً أو إماماً أو خطيباً أو ما إلى ذلك من العطايا الدنيوية لا يغير شيئاً من أن تكون أباً في بيتك رءوفاً بزوجتك، رءوفاً بأولادك رءوفاً بقرابتك تتقرب إليهم وتدنو منهم، فلكل مقام مقال كما تقول العرب في أمثالها. ومن شواهد هذا أنه عليه الصلاة والسلام -كما في المسند بسند صحيح- قام من الليل يسقي الحسن والحسين، فرأته فاطمة وهو يدفع أحدهما ويقدم الآخر، فتعجبت فقال لها: (يا بنية! إن الأول قام قبله فاستسقاني فقمت فأسقيته) ثم قام الثاني فسقاه صلوات الله وسلامه عليه، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

رقية رسول الله للحسن والحسين

رقية رسول الله للحسن والحسين فمن شفقة الأب على أبنائه أنه يخاف عليهم، وخوفنا على من نحب يكون من شيء محذور نراه ومحذور لا نراه. فالمحذور الذي نراه نعرف كيف ندفعه، ونستعين بالله عليه، أما المحذور الذي لا نراه فلا نعرف كيف ندفعه؛ لأننا لا نراه، فيكفينا أن نستعين بالله جل وعلا عليه، فكان صلى الله وسلم عليه يضع يديه على رأس الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)، فهذه الاستعاذة تربي الأبناء أول الأمر على أن هناك رباً وإلهاً يكلأ ويحفظ ويرعى ويفعل ما يريد لا إله إلا هو، وأن ثمة شروراً لا ترى بالعين ولا يدفعها إلا الرب تبارك وتعالى، فالله جل وعلا ولينا في كل نعمة، وملاذنا عند كل نقمة. كما أن فيها أن المرء يستودع الله جل وعلا ثمرة فؤاده، والله تبارك وتعالى -كما قال يعقوب في كتاب الله- خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)، ومن دلائل هذا من باب الاستئناس أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان الرجل معه ابنه، ولم يكن هناك فرق بين الابن وأبيه، فتعجب عمر قائلاً: والله ما رأيت مثل هذا اليوم عجباً ما أشبه أحد أحداً أنت وابنك إلا كما أشبه الغراب الغراب، والعرب تضرب في أمثالها بالغراب في كثير الشبه بقرينه. فقال له: يا أمير المؤمنين! كيف ولو عرفت أن أمه ولدته وهي ميتة. فغير عمر من جلسته وبدل من حالته وكان رضي الله عنه وأرضاه يحب غرائب الأخبار، فقال: أخبرني قال يا أمير المؤمنين! كانت زوجتي أم هذا الغلام حاملاً به، فعزمت على السفر فمنعتني، فلما وصلت إلى الباب ألحت علي ألا أذهب، قالت: كيف تتركني وأنا حامل! فوضعت يدي على بطنها وقلت: اللهم إنني أستودعك غلامي هذا ومضيت -بقدر الله لم يقل وأستودعك أمه- وخرجت فمضيت وقضيت في سفري ما شاء الله لي أن أمضي وأقضي، ثم عدت، فلما عدت إذا الباب مقفلاً، وإذا بأبناء عمومتي يحيطون بي ويخبرونني أن زوجتي قد ماتت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأخذوني ليطعموني عشاء أعدوه لي، فبينما أنا على العشاء إذا بدخان يخرج من المقابر، فقلت: ما هذا الدخان؟ فقالوا: هذا الدخان يخرج من قبر زوجتك كل يوم منذ أن دفناها. فقال الرجل: والله إنني لمن أعلم خلق الله بها، كانت صوامة قوامة عفيفة لا تقر منكراً وتأمر بالمعروف ولا يخزيها الله أبداً، فقام وتوجه إلى المقبرة وتبعه أبناء عمومته، قال: فلما وصلت إليها -يا أمير المؤمنين- أخذت أحفر حتى وصلت إليها، فإذا هي ميتة جالسة وابنها هذا الذي معي حي عند قدميها، وإذا بمناد ينادي: يا من استودعت الله وديعة! خذ وديعتك. قال العلماء: ولو أنه استودع الله جل وعلا الأم لوجدها كما استودعها، ولكن ليمضي قدر الله لم يجر الله على لسانه أن يودع الأم، فاللهم إنا نستودعك ديننا يا رب العالمين، وارزقنا الثبات عليه حتى نلقاك يا ذا الجلال والإكرام. نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يعوذ الحسن والحسين بما كان أنبياء الله من قبل يعوذون به أبناءهم، فخليل الله إبراهيم كان يعوذ به إسماعيل وإسحاق، فسنته صلى الله عليه وسلم في اقتفاء أثر إخوانه من الأنبياء من قبله.

منزلة الحسن والحسين عند الخلفاء بعد رسول الله

منزلة الحسن والحسين عند الخلفاء بعد رسول الله ثم توفي صلوات الله وسلامه عليه والحسن والحسين لم يبلغا الحلم بعد، فكانا رضي الله عنهما موئل حفاوة الصديق من بعد نبيه، فكان رضي الله عنه وأرضاه يصلي بالناس فيخرج، فإذا لقي الحسن بن علي حمله وأخذ ينشد: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي وعلي يسمع ويضحك، رضي الله عن الجميع. ثم كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان الحسين يرقى إلى المنبر وعمر عليه فيقول: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك، فيقول عمر: ولكن أبي ليس له منبر. ثم يضعه بجواره ويضع عمر يده على رأس الحسين ويقول: والله ما أنبت الشعر على رءوسنا إلا الله ثم أنتم يا آل محمد. ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه تطوع الحسن والحسين بأن يدافعا عن داره حتى أمرهما رضي الله عنه وأرضاه -فيمن أمر- بأن يتركا الدار حتى لا يراق دم بسببه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه من أحوط الناس ومن أشد الناس ورعاً وحيطة في دماء المسلمين.

تنازل الحسن بالخلافة وتحقيق خبر النبوة

تنازل الحسن بالخلافة وتحقيق خبر النبوة ثم كان الأمر في يوم الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فكان الحسن والحسين مع أبيهما حتى قتل علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما قتل سلم بعض المسلمين الخلافة للحسن، فلما خاف على المسلمين أن يقتتلوا وتسفك دماؤهم وتتفرق كلمتهم وتضعف شوكتهم تنازل رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن أمر الخلافة لـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فبقي معاوية أميراً على المؤمنين شعر سنين بعد ذلك، وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وفي بعض الروايات: (دعواهما واحدة). ثم سكن الحسن المدينة المنورة وبقي فيها، وورد أنه مات مسموماً فيها وعمره سبعة وأربعون عاماً، ودفن بجوار أمه فاطمة.

أحداث مقتل الحسين رضي الله تعالى عنه

أحداث مقتل الحسين رضي الله تعالى عنه وأما الحسين فإنه مكث إلى عام واحد وستين، وهي السنة التي تولى فيها يزيد بن معاوية أمر المسلمين، فلما تولى يزيد كان الحسين يرى أن لا ولاية لـ يزيد، وهذه أمور لا تقال لكل أحد، ولا تنشر للعامة، ولا تعنينا في حديثنا، وإنما الذي يعنينا في الحديث مكانة الحسين عند رسولنا صلى الله عليه وسلم. فخرج الحسين رضي الله عنه وأرضاه من مكة يريد الكوفة لما بعث له أهل العراق أن ائت إلينا فإنا سننصرك، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقيها، فلما علم بخروجه تبعه على مسيرة يومين أو ثلاثة، فلما لقيه قال: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنهم لن ينصروك. فلما ألح الحسين على الخروج قال له ابن عمر -وهذا من فقهه-: إن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فخيره بين أمري الدنيا والآخرة، فاختار عليه الصلاة والسلام أمر الآخرة وأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنال من الدنيا شيئاً ولكن الحسين -ليجري قدر الله- لم يأخذ بنصيحة ابن عمر، ومضى حتى وصل إلى واد الطف في كربلاء من أرض العراق، فكان مقتله في يوم الجمعة في العاشر من محرم لعام واحد وستين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه، وقتل بعد أن أحجم الناس عن قتله قليلاً، وقتل إخوته الأربعة، ثم قتل اثنان من أبنائه علي الأكبر وعبد الله، وبقي علي الأصغر المعروف بـ زين العابدين، وكان مريضاً فلم يستطع أن يخوض المعركة مع أبيه، فتنحى جانباً، ثم أخذ الناس بين إقدام وإحجام، ثم دلهم أحد الأشرار على أن يقتحموا الأمر فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه وهو صائم في اليوم العاشر من المحرم. جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً في دمائه تزميلاً وكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا

حكمة الله تعالى في أقداره

حكمة الله تعالى في أقداره وتلك فتن سلمنا الله جل وعلا منها، ونعوذ بالله من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، والذي يعنينا في هذا المقام أن تعلم أمراً واحداً من هذه الموقعة كلها، وهو أن الأمور تجري بقدر الله، وأن الله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فقد يحرم الإنسان مكاناً هو أهل له، ولكنك لا تدري أين حكمة الله وأين مراد الله، قال العلماء في مقتل الحسين: لعل الله جل وعلا أراد بمقتله بهذا الوصف أن يرفعه إلى درجة جده صلوات الله وسلامه عليه. وأياً كان الأمر فإنك ترى في واقع الناس أنه قد ينال المال من لم يجمع، وقد يحصد الثمر من لم يزرع، ولكن المؤمن العاقل ليس له في الدنيا مطمع، يقول الله جل وعلا: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. فالمؤمن لا ينشد شيئاً أعظم من رضوان الله تبارك وتعالى، فما أتى من الدنيا تبعاً غير مقصود فلا مانع، وأما أن يسعى الإنسان في متاع الدنيا وزخرفها فيرتكب من أجل ذلك المحرمات والسرقات والرشوة وما أشبهها ويظلم ويحقد ويحسد ليرتفع؛ فإن الدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة، ولو كانت تنال بالعواطف لكان ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الأمر من يزيد وغيره، ولكن الأمور تجري وتمضي بقدر من الله تبارك وتعالى. اللهم إنا نسألك قلوباً تحمدك على نعمائك، وترضى وتصبر على قدرك وقضائك، وتحن وتشتاق إلى يوم لقائك.

الحياة البرزخية

الحياة البرزخية الإضاءة الثالثة: الحياة البرزخية: والمدخل إليها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قتلى بدر من المشركين في قليب، ثم بعد ثلاثة أيام وقف عليهم صلوات الله وسلامه عليه يخاطبهم: يا أبا جهل! يا عتبة بن ربيعة! يا أمية بن خلف! يا فلان بن فلان -يذكرهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له عمر متعجباً: يا رسول الله! ماذا تسمع من قوم قد جيفوا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يملكون جواباً). لقد خلق الله خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وحياة البرزخ طور لا بد من أن نمر عليه، قال الله جل وعلا في كتابه المبين: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، والموت أول حياة البرزخ، والبعث والنشور نهاية حياة البرزخ، والقبر موطن حياة البرزخ.

أول سنة دفن الموتى

أول سنة دفن الموتى لقد جهل ابن آدم الأول كيف يواري سوءة أخيه، ثم لما احتضر آدم عليه السلام قال لبنيه -كما ثبت في حديث صحيح-: إني اشتهيت ثمار الجنة. فخرج أبناؤه يلتمسون له ثمار الجنة، فإذا بالملائكة نازلين من السماء معهم حنوط وكفن وغسل من الجنة، ولم يعرفوهم، فسألوهم: أين تذهبون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى ثمار الجنة، فقالوا لهم: عودوا فقد كفيتم. فذهبت الملائكة إلى آدم، فلما رأتهم حواء عرفتهم فتوارت خلف آدم، فقبضت الملائكة روحه عليه الصلاة والسلام، ثم غسلته ثم كفنته، ثم حفروا له ثم ألحدوا له ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا لمن حوله من بنيه: هذه سنتكم يا ولد آدم! فأصبح قبر الميت سنة ماضية، كما قال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21].

أخبار المعذبين في القبور

أخبار المعذبين في القبور وثمة أحاديث نؤمن بها يقينا؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولكن عقولنا في الحياة الدنيا تعجز عن فهمها، وهذا العرض إنما هو محاولة للإخبار المجمل أن هناك تشابها -بلا شك- بين سعي الإنسان في الدنيا وحياته في قبره، والمعنى بتوضيح أكمل: أن الإنسان كلما كان قريباً من العمل الصالح كان قريباً من النعيم في القبر، وكلما كان قريباً من العمل السيئ كان قريباً من عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر، يقول صلى الله عليه وسلم -كما أخرج الإمام مسلم في الصحيح-: (مررت ليلة أسري بي وموسى بن عمران قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر)، فأشكل على العلماء كيف يكون موسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره؟! وهل في القبر تكليف؟! ثم إنه في نفس الحديث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه التقى بموسى في السماء السادسة، وفي نفس الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى إماماً بالنبيين في المسجد الأقصى ومن جملتهم موسى. والجواب عن هذا كله: أن عالم الأرواح أشبه بعالم الملائكة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصلاة في القبر لبعض الخلق نوع من النعيم يتنعمون به؛ لأنهم تعودوا على الصلاة في الدنيا، فيتنعمون بالصلاة في قبورهم كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، وأحوال أهل القبور: غيب مكنون لا يعلمه إلا الله جل علا، وإنما نمضي في الحديث فيه وفق ما دل عليه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.

كرامات الصالحين بعد الموت

كرامات الصالحين بعد الموت قد يكرم المرء في قبره دون أن يشعر الناس العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه صحابي من المهاجرين الأولين، خرج في الغزو في الجهاد، ثم إنه لما قفل راجعاً من غزوة أصابته علة فمات فدفنه أصحابه، فلما مضوا عنه قليلاً إذا برجل من أهل تلك القرية، فقال: ما هذا الذي دفنتموه؟ قالوا: هذا أحد أصحابنا يقال له العلاء بن الحضرمي، فقال لهم محذراً: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، لا يقع فيها القبر. يعني أن القبر لا يحفظ الموتى، بل يخرجهم، فتشاوروا رضي الله عنهم وأرضاهم فقالوا: ما حق العلاء بن الحضرمي علينا أن نتركه. فأجمعوا أمرهم بعد ذلك على أن يحفروا عنه وينقلوه إلى قرية أخرى، فحفروا القبر، فلما وصلوا إلى القبر وكانوا دافنوه لتوهم لم يجدوا شيئاً، ووجدوا القبر نور يتلألأ مد البصر، وهذا ثابت، وهو من دلائل ما يكرم الله جل وعلا به. وقد يكون الأثر متعدياً بعد القبر، كما ثبت عن ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطيب رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يرفع الصوت في كلامه، فلما أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] حبس نفسه في الدار، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لهم: (قولوا له: إنك لست منهم. ثم قال له: يا ثابت! إنك ستعيش حميداً وتموت شهيداً)، فلما كانت موقعة اليمامة في حروب الردة خرج ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه لحروب أهل الردة، وكان يلبس درعاً نفيسة، ومكث في حفرة يقاتل من خلالها، فأصابه سهم فمات، فمر به رجل من المسلمين فوجد الدرع فأعجبته فنزعها وأخذها، فإذا بـ ثابت يظهر في المنام لرجل آخر من المسلمين ويقول له: أنا ثابت بن قيس، وإني سأخبرك خبراً ليس بحلم فلا تضيعه، إنني استشهدت اليوم، وكان لي درع نفيسة أخذها رجل من المسلمين بيته في مكان كذا وكذا، وتجد الدرع عليها برمة وعلى البرمة رحل أخفاه تحتها، فاذهب إلى خالد -أي: قائد المسلمين- وأخبره الخبر وقل له يأخذ الدرع ويبعث بها إلى الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليقل للصديق بعها واقض ما كان علي من دين. فذهب خالد فوجد الدرع كما وصفها ثابت لذلك الرجل في المنام، فأقره على الأمر وأقر الصديق تصرف خالد، وباع الدرع وتصدق بقيمة بيعها وسدد ما كان عليه من دين. بل يتجاوز الأمر أكثر من ذلك، فقد صحح العلماء حديثاً -كما قال الشيخ الألباني رحمه الله- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون) فكان أبو الدرداء رضي الله عنه على علاقة وطيدة بـ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد كان مات قبله، فكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة. وفي المسند بسند صحيح -كما قال الشيخ ناصر رحمه الله-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعمالكم تعرض على قرابتكم وعشيرتكم من الأموات، فإن كانت حسنة استبشروا وإن كانت سيئة قالوا: اللهم! أهدهم كما هديتنا).

دعوة إلى محاسبة النفس

دعوة إلى محاسبة النفس هذا بعض ما دلت عليه السنة ومشكاة النبوة من عالم الأرواح، والغاية من إيراده كله أن تنظر أين أنت من أوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا حتى تعرف كيف يكون قبرك، فاعرف اليوم وحاسب نفسك قبل أن تموت، فأين أنت من هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين أنت من توحيد الله؟ وأين أنت من الصلوات الخمس؟ وأين أنت من القرب من الله تبارك تعالى والبعد عنه؟ وأين عينك من النظر إلى المحرمات؟ وأين أذنك من سماعها؟ وأين قدماك من المشي إليها؟ وأين يداك من تناولها؟ كل ذلك إذا حاسب الإنسان نفسه فقد وطأ لنفسه موطئاً وثيراً برحمة الله في قبره، وإن كان غير ذلك فلا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك. وتبعاً لهذا الأمر أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة القبور، وقال عليه الصلاة والسلام يذكر العلة: (فإنها تذكركم الآخرة)، فإن القبور تستوي في ظاهرها إن كانت مبنية على منهاج السنة وتختلف في باطنها اختلافاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ألا ترى أن الزناة -عياذاً بالله- كأن المحصن منهم يقول بلسان حاله: أنا أتمتع زيادة على زوجتي. وغير المحصن كأنه يقول بلسان حاله: أنا أتمتع رغم أنني لم أتزوج بعد، والله جل وعلا أجل من أن يخدع، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا: (فرأيت رجالاً ونساء عراة في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضو، فقلت للملكين: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزناة والزواني). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لما كان وجودهم في الدنيا خلوة يستترون بمعصية الله كان حقهم أن يفضحون عراة في عذاب القبر. ويتثاقل الرجل عن الصلاة ويتباطأ في القيام إليها، وربما تردد وربما تركها بالمرة عياذاً بالله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من يرضخ رأسه ويثلغ بالحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة) ورأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا في عذاب البرزخ يسبح في نهر من دم ويلقم الحصى والحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء أكلة الربا من أمتك). والحديث طويل، ويمكن أن تقيس عليه كثيراً من أحوال الناس في الدنيا إن لم يدركهم الله جل وعلا برحمته. نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وما مضى قبسات وإضاءات من سيرة من ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات صلوات الله وسلامه عليه. وصل اللهم على محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

نور التوحيد

نور التوحيد التوحيد أهم وأعظم وأجل ما بعث الله به الأنبياء وأرسل من أجله المرسلين، وهو أول الأمر وآخره، وما انقسم الناس إلا به، ولا اقتتلوا إلا من أجله، فبه الدخول في الإسلام، وبتركه الخروج من الملة، ولم يقم سوق الجنة والنار إلا من أجله، فأمره عظيم، وتركه خطر جسيم، والعذاب على ذلك أليم.

الحديث عن الله تعالى هو أعظم الحديث

الحديث عن الله تعالى هو أعظم الحديث إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، واخرج المرعى فجعله غثاء أحوى. واشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فسبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت, ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ما عرفنا قدرك، وما قدرناك حق قدرك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت تعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وأنت الله لا إله إلا أنت العزيز الجبار، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت الخير كله بيديك والشر ليس إليك، مصير كل أحد إليك، ورزق كل أحد عليك. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت رددت موسى إلى أمه، وأرجعت يوسف إلى أبيه، ونجيت إبراهيم، وأغثت ذا النون، وجمعت ليعقوب بنيه. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أمرتنا فلم نأتمر، ونهيتنا فلم ننزجر، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت لا نستطيع أن نأخذ إلا ما أعطيتنا، ولا أن نتقي إلا ما وقيتنا, أنت خالقنا ورازقنا وربنا ومولانا لا إله إلا أنت. سبحانك اللهم وبحمدك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، خلقتنا ولا قدرة لنا، ورزقتنا ولا قوة لنا، وهديتنا إلى الإسلام من غير أن نسألك، فلا تحرمنا اللهم الجنة ونحن نسألك. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت حنت إليك قلوبنا، واشتاقت إلى لقائك أفئدتنا، نسألك اللهم بعز جلالك وكمال جمالك أن تغفر لنا في الدنيا والآخرة. أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, أما بعد: فهذه موعظة قبل أن تكون محاضرة، وتذكرة قبل أن تكون بياناً، وتقرب إلى الله جل وعلا قبل أن يكون درساً، جعلنا عنوانها: نور التوحيد. ولقد تأصل في قلوب العارفين، والأئمة المهديين، وعقول المنصفين من المؤمنين، تأصل عند هؤلاء جميعاً أنه لا شيء أعظم من الحديث عن الله تبارك وتعالى، وبما أن ربنا جل جلاله وعز شأنه لا يعدله شيء، فإن الحديث عن الله تبارك وتعالى لا يعدله شيء أبداً، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19].

أنواع العلوم والكلام عليها

أنواع العلوم والكلام عليها أيها المؤمنون! الحديث عن الرب تبارك وتعالى حديث تحبه قلوب المؤمنين، فبه البلغة والموعظة والذكرى، ونور التوحيد، وكما قلنا: إنما هي موعظة وبلغة إلى الرب تبارك وتعالى. قال الإمام يحيى بن عمار أحد المحدثين رحمه الله تعالى: العلوم خمسة: علم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد. وعلم هو قوت الدين، وهو العظة والذكر. وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفقه. وعلم هو داء الدين، وهو ذكر أخبار ما وقع بين السلف. وعلم هو هلاك الدين، وهو علم الكلام. وهذا التأصيل العلمي من هذا المحدث ظاهر الصحة بلا ريب، فإن علم الكلام يخرج الإنسان مما أراده الله جل وعلا منه، فينشغل بأقوال الفلاسفة، وتنظير أهل المنطق، ويخوض ميمنة وميسرة في عالم الفكر المتأرجح بعيداً عن هدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم, وكفى بذلك خيبة وخسراناً. وأما الاشتغال بإخبار السلف الصالح وما وقع بينهم رحمة الله تعالى عليهم جميعاً، فإنه يقسي القلب، ويجعل من المرء القاصر البعيد زماناً ومكاناً عن أولئك الأخيار يجعله من حيث لا يدري حكماً بين أئمة مهديين, وصحابة مرضيين، وأتباع لهم في الدين سابقة لا تلحق، ومثل هذا يقسي القلب، وحسب المؤمن أن يستمع إلى قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال: إني لأرجو الله أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله جل وعلا فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]. وقوله: وعلم هو دواء الدين وهو علم الفقه؛ ذلك أن الإنسان أحوج ما يكون إلى أن يعلم الحلال والحرام؛ حتى يستبين له الحرام والمكروه فيجتنبه، ويستبين له المباح فيخير فيه، ويستبين له المسنون فيسابق إليه، ويستبين له الواجب فيأتيه راضياً بقضاء الله جل وعلا وقدره، مستسلماً لأمر الله تبارك وتعالى ونهيه. ثم قال رحمة الله: وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر؛ ذلك أن المؤمن مهما بلغ حاله، وصلح عمله، هو في حاجة إلى أن يذكّر ويوعظ، ولذلك قال الله جل وعلا لنبيه: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]. وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منه القلوب، وذرفت منها العيون). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس: (أن موسى عليه السلام وقف خطيباً يعظ في بني إسرائيل، حتى إذا رقت القلوب وذرفت العيون) إلى نهاية الحديث. والمقصود: أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى الوعظ والتذكير، وهذا هو الذي سماه المحدث يحيى بن عمار: قوت القلوب.

علم التوحيد هو حياة الدين

علم التوحيد هو حياة الدين وقال في أول الأمر رحمة الله: علم هو حياة الدين ألا وهو علم التوحيد. ولا ريب أن التوحيد هو حياة الدين كله؛ لأنه أول شيء يدخل به المرء الملة، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)؛ لأنه لا يدخل امرؤ في الدين، ولا يجري عليه أحكام الشرع ويطالب بأمر وينتهي عن نهي، حتى يقيم التوحيد أولاً، فجعل الله جل وعلا القول بالتوحيد والنطق به والاعتقاد به المدخل الأعظم لدينه تبارك وتعالى، كما جعل في الخاتمة أن من كان آخر كلامه الاعتقاد بالتوحيد والتلفظ به كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، قال صلوات الله وسلامه عليه: (من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة). وعلى النقيض من ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشرك بالله جل وعلا أعظم الكبائر وأعظم السيئات، كما أن توحيد الله جل وعلا أعظم الحسنات بلا ريب، قال صلى الله عليه وسلم وقد سأله عبد الله بن مسعود: يا نبي الله أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك). ولقد نعى الله على أهل الإشراك من اليهود والنصارى، وكفار قريش وسائر الكفرة، أنهم جعلوا لله جل وعلا شريكاً, أو زعموا لله ولداً وصاحبة, أواتخذوا مع الله تبارك وتعالى نداً، كل ذلك نعى الله جل وعلا على من صنعه أعظم النعي، ويؤكد هذا أن الله ما بعث نبياً ولا رسولاً إلا وجعل التوحيد أعظم ما يدعون به أممهم، ولهذا كانت الخصومة قائمة ما بين الأمم وبين رسلهم في قضية توحيد الله وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة. قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أتدري ماحق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). ويؤكد هذا أن الله ما بعث نبياً ولا رسولاً إلا وألزمه هذا. قال العلماء رحمهم الله عند تفسير قول الله جل وعلا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] قالوا: يروى عن ابن عباس وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى المسجد الأقصى تقدم جبريل فأذن ثم أقام، ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالنبيين إماماً، فصلى خلفه النبيون والمرسلون سبعة صفوف، ثلاثة منهم من صفوف المرسلين، وأربعة من الأنبياء، خلفه مباشرة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى عليهم أجمعين صلوات الله جل وعلا وسلامه. فلما انفتل صلى الله عليه وسلم من صلاته قال لهم: إن الله قد أوحى إلي أن أسألكم: هل أرسلكم الله جل وعلا أن يعبد أحد غير الله؟ فقال له أنبياء الله ورسله وهم شهداء على ما أوكل الله جل وعلا إليهم، قالوا: إن الله جل وعلا أوحى إلينا أن ندعو بدعوة واحدة: أن لا إله إلا الله، وأن ما يدعون من دونه باطل) فاتفقت كلمة الأنبياء والمرسلين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم على أن دين الخلائق كلهم الذي يقبله الله جل وعلا منهم هو توحيده تبارك وتعالى، وإفراده بالعبادة جل وعلا وحده دون سواه. قال ابن القيم رحمه الله: هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيدُ الأديانِ هو دينُ آدم والملائك قبله هو دين نوحٍ صاحبِ الطوفانِ هو دينُ إبراهيم وابنيهِ معاً وبهِ نجا من لفحة النيرانِ وبهِ فدا الله الذبيح من البلا لما فداهُ بأعظم القربانِ هو دينُ يحيى مع أبيه وأمهِ نِعم الصبيُ وحبذا الشيخانِ وكمال دين الله شرع محمدٍ صلى عليهِ مُنزل القرآن. فالرسل أجمعون والأنبياء معهم والصالحون والأخيار على هذا الطريق إلى أن يلقوا الله؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل من أحد صرفاً ولا عدلاً حتى يقيم توحيده تبارك وتعالى.

وصية الرسل لمن بعدهم بالفرار من الشرك

وصية الرسل لمن بعدهم بالفرار من الشرك ولهذا كانت عناية الرسل والأنبياء والصالحين من بعدهم عند الموت أنهم يوصون من بعدهم بأن يفروا من الشرك، وأن يلتزموا توحيد الله بالعبادة، وإفراده جل وعلا بالعبادة دون سواه؛ لعلم أولئك الأخيار والمتقون الأبرار أنه لا ينفع عند الله جل وعلا عمل ما لم يقيم العبد قولاً ومعنى ولفظاً وعقيدة توحيد الرب تبارك وتعالى، قال سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، اللهم آمنا بمثل ما آمنوا به. وما أكد أولئك الأبرار والمتقون الأخيار على هذا الأمر إلا لعلمهم ويقينهم أن أعظم الأمر وأجل السيئات وأكبرها الذي لا يغفره الله جل وعلا أن يجعل أحد من المخلوقين مخلوقاً غيره لله تبارك وتعالى نداً. ولهذا أثنى الله جل وعلى على ذاته العلية في كتابه، وعرف خلقه تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته حتى يعبدوه على بينة من الأمر، وأخبرهم جل وعلا بكمال قدرته وعظيم صنعته وجلال مشيئته وبلغة حكمته؛ حتى لا يبقى عذر لمعتذر، ولا حجة لمحتج في أن الله جل وعلا لم يبين لهم كثيراً من أسماءه وصفاته، وإنما بينها الله حتى تقوم الحجة على العباد، وينقطع عذر أهل الأعذار، ويعلم كل أحد أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، يقول سبحانه ناعياً على من اتخذ مع الله جل وعلا نداً: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:10 - 12]. ولا يقدر على هذا إلا الله، وهذا من أعظم الأدلة والبراهين على كمال صنعته، وعظيم وحدانيته، وجلال ألوهيته، فلا رب غيره ولا إله سواه، ولذلك كان التوحيد نور يقذفه الله جل وعلا ويلقيه في قلب من يشاء، يقول الله جل وعلا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]. نسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياكم لنوره. أيها المؤمنون! هذا هو التوحيد على وجه الإجمال: إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة وحده دون سواه، وقد بينا أنه أول ما طالبت به الرسل أممهم، وأعظم ما ختم به المتقون وصاياهم، وأن: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وبه يدخل المرء إلى دين الرب تبارك وتعالى، وهو الخصومة التي قامت بين الرسل وأممهم على رسل الله أفضل الصلاة والسلام.

لوازم التوحيد

لوازم التوحيد

التوحيد منجاة للعبد في الدنيا

التوحيد منجاة للعبد في الدنيا أيها المؤمنون! كما أن التوحيد من أعظم المنجيات في الدنيا والآخرة، فإن توحيد الله جل وعلا من أعظم ما يحقق به المرء مقصوده في الدنيا والآخرة، وإذا كانت الجنة تنال بالتوحيد فمن باب أولى أن ينال ما في الدنيا من أماني وغايات بتوحيد الرب تبارك وتعالى، وإذا كانت الجنة تنال بتوحيد الله، فإنما أماني الدنيا أهون وأقل شأناً من نعيم الجنة، فدل ذلك عقلاً ونقلاً على أن كل غايات الدنيا تنال إذا أذن الله جل وعلا بتوحيد الرب تبارك وتعالى، وللعلماء في تفسير قول الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف قال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] أوجه منها: أن يوسف عليه الصلاة والسلام استعجل الخروج والفرج، فقال للغلام الذي غلب على ظنه أنه سينجو: اذكرني عند ربك، أي: عند الملك، {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42] أي: فعل يوسف خلاف الأولى، واتخذ سبباً وان كان مشروعاً إلا أنه كان لا ينبغي له وهو نبي أن يصنع ذلك، فقال الله جل وعلا: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]. وهذا كما قلت: أحد أوجه التفسير، وبعض العلماء يرده، لكننا نستأنس به هنا ولا نجزم به، والغاية من ذلك أن تعلم أن كل مطلوب إنما يتحقق مع الأخذ بالأسباب بصدق التوكل على الله الواحد الغلاب. إذا كان المؤمن يعلم يقيناً أنما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه، وأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. وان الله جل وعلا انطق الصبي في مهده حتى يبين براءة جريج رحمه الله كما في حديث جريج في الصحيح. والمقصود من هذا كله: أن الإنسان إذا حسن ظنه بالله جل وعلا، وعظم يقينه بالرب تبارك وتعالى، يسر الله جل وعلا له الأسباب التي تحقق له مطلوبه، ولم يكله الله جل وعلا لا إلى نفسه -أي: إلى نفس الرجل- ولا إلى غيره، وإذا أراد الله بعد رحمه نجاه الله جل وعلا من كل سوء, وهيئ الله جل وعلا له أسباب التمكين، ألم يقل الله عن ذي القرنين: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:83 - 84]. فالفاعل يعود إلى الرب جل جلاله، ولولا تمكين الله له لما استطاع أن يخطوا في الأرض خطوة واحدة، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:84 - 85]. فهيأ الله جل وعلا له الأسباب، ثم هداه الرب تبارك وتعالى لأن يأخذ بالأسباب حتى بلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. والمقصود جملة: أن توحيد الله جل وعلا به تتحقق الغايات، ويحصل المأمول، وهذا الذي ينبغي على المرء تحقيقه في قلبه قبل أن يحققه بجوارحه وفي ملأ الناس. والعبد يبتلى ويختبر كما اختبر كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه لما كان ما كان من أمره في غزوة جيش العسرة، لما مُنع بقدرة الله من الذهاب مع الجيش، فكانت الأيام التي أجل النبي صلى الله عليه وسلم كلامه معه، وأرجى أمره إلى الله، فجاءه رسول من ملك الروم، وهذا كله ابتلاء واختبار، يقول فيه ملك الروم: إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك فألحق بنا نصلك, فقدم التوكل على الله على مغريات الدنيا، ونجح في الابتلاء، وأخذ الخطاب وألقاه في التنور فاحترق، فما هي إلا أيام معدودات وليالي متتابعات وإذا بمناد يناديه يا كعب بن مالك! أبشر قد فرج الله جل وعلا عنك. وهذا كله من تحقيق التوحيد والاعتماد على رب العالمين جل جلاله، والله جل وعلا يبتلي ويختبر؛ حتى لا يصل إلى غاياته ولا إلى مراده الشرعي إلا من ابتلاه الله جل وعلا وامتحنه وخلص منه كما يخلص الذهب من كير الحديد.

التوحيد سبب للنجاة في الآخرة

التوحيد سبب للنجاة في الآخرة ومن لوازم التوحيد: أن تعلم أنه بالتوحيد ينج العبد في الدنيا والآخرة، فلا منجي أعظم من التوحيد، فتوحيد الله جل وعلا في القلب، وحسن الظن به تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، مع حسن الاعتماد عليه جل وعلا في كل أمر، هو من أعظم المنجيات، والرب تبارك وتعالى له أولياء وأعداء، وأولياءه وأعداءه كلهم يقر أن الله جل وعلا هو المفزع عند حلول الكرب، قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]. وإنما التفرقة بين أولياء الله وأعداءه عند عدم حلول الكرب، فإن أولياء الله -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- يحبون ربهم في كل آن وحين، ويلجئون إليه جل وعلا في السراء والضراء، ويحمدونه على السراء، ويلجئون إليه في الضراء. وأما أعداء الله فهم على أقسام عدة لكن لا يقال عدو: إلا لمن كفر بالله أصلاً, ولم يدخل الدين، ولم يؤمن بالله جل وعلا. فهؤلاء رغم صنيعهم هذا إذا وقعوا في الكرب وحلت بهم النازلة وداهمهم الخطب لجئوا إلى الله جل وعلا، قال الله جل وعلا يصور حالهم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12]. وأما أولياء الله المتقون فهم يفزعون إلى ربهم جل وعلا في كل آنٍ وحين، والتوحيد مستقر في قلوبهم في البر والبحر، وفي العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، وفي السراء والضراء، وهم في المساجد وخارجها، وما بين أهلهم وعند أقرانهم، وفي كل مكان يحلونه وكل زمان يدور عليهم، والتوحيد باق في قلوبهم، ويعلمون أنه لا ملجأ من الله جل وعلا إلا إليه. وقد حققه يونس لفظاً وحالاً ومقالاً: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فاستجاب الله دعاءه، وأحسن الله عاقبته، وكشف الله كربه, وآمن له قومه، وقدمه الله جل وعلا أعظم تقديم، وذكره في الكتاب الكريم إلي يوم الدين. فقدم توحيد الله جل وعلا وهو يستغيث بربه صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سنن الأخيار وطرائق الأبرار. وكما أن التوحيد منجي في الدنيا فهو منجي في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق، ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الرب جل وعلا له: يا هذا! أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: أتنكر مما ترى شيئاً؟ يقول: لا يا رب! فيقول الله جل وعلا له: إن لك عندنا بطاقة، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟ فيقول الحي الذي لا إله إلا هو: في البطاقة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقول الرجل: يا رب! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟)، قال صلوات الله وسلامه عليه مخبراً وهو لا ينطق عن الهوى, قال: (فتوضع السجلات في كفه وتوضع البطاقة في كفه، فطاشت السجلات ورجحت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء). قال العلماء رحمهم الله في شرح هذا الحديث: هذا دليل عظيم على أن هذا الرجل وإن كان فرداً قد حقق التوحيد في قلبه أعظم تحقيق، وآمن حقاً أنه لا إله إلا الله، وأنه لا ملجأ من الرب تبارك وتعالى إلا إليه، وهذه منازل في القلوب يتفاوت الناس فيها. ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (إن رجل ممن كان قبلكم أوصى بنيه: أنني إذا مت فحرقوني، ثم ذروا رمادي في الفلاة والهواء، ففعل بنوه مثل الذي أوصى، فجمع الله جل وعلا ما تفرق منه، ثم أقامه بين يديه، فقال له ربه جل وعلا وهو أعلم: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! مخافتك وخشيتك، فغفر الله جل وعلا له)، مع أن العمل الذي صنعه باطل باتفاق المسلمين، لكن صلحت نيته وعظمت خشيته من الرب تبارك وتعالى، فحقق بنيته ما لم يحققه بعمله، والله جل وعلا يقول: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]. وتوحيد الله جل وعلا مكمنه القلوب تطوى عليه الأفئدة، وتكنه الصدور، ويوم القيامة يتبين من بكى ممن تباكى، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43]. يدعى قوم إلى السجود كما أمر الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقبل الناس على ثلاثة طوائف: قوم يرفضون البتة, وهذا والعياذ بالله صنيع أهل الكفر. وقوم يقبلون تصنعاً ورياء. وقوم يقبلون تقرباً إلى الله جل وعلا. فإذا كان يوم القيامة وكشف الرب جل وعلا عن ساقه خر أهل الموقف سجداً، وهم على ثلاثة طوائف: أما أهل الكفر فلا يسجدون أصلاً. وأما أهل الإيمان جعلنا الله وإياكم منهم، فيسجدون ويمكنون من السجود، وهذا من دلالة قبول الله لسجودهم في الدنيا. وآخرون -أعاذنا الله وإياكم- يهمون أن يسجدوا فيجعل الله جل وعلا أظهرهم طبقاً واحداً، فلا يتمكنون من السجود، فهؤلاء المنافقون الذين كانوا يسجدون لغير الله في الدنيا. نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.

من أعظم لوازم التوحيد محبة الله تعالى

من أعظم لوازم التوحيد محبة الله تعالى وينبغي أن يعلم أن لهذا التوحيد لوازم، ولهذا التوحيد نور يقذفه الله في القلوب، ومن أعظم لوازم توحيد الرب تبارك وتعالى: محبته جل وعلا محبة لا يقارن بها محبة غيره كائناً من كان، قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. فبين جل وعلا أن صفات عباده المتقين وأولياءه المؤمنين عظيم المحبة لربهم تبارك وتعالى، وليس العجيب أن يحب العبد ربه، ولكن المؤمل والفوز والسعادة أن يحب الرب عبده، وإن عبداً أحبه الله لن تمسه النار أبداً. قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] قال الله جل وعلا جواباً عليهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]. قال العلماء في تفسيرها: لو كانوا أحباء الله لما عذبهم، وقد جاء في الأثر الصحيح: (إن الله لا يلقي حبيبه في النار). وهذا لا يقع من أفراد الناس وآحاد العوام أنهم يعذبون من يحبون، فكيف يقع من رب العالمين الرحمن الرحيم جل شأنه وعز ثناءه؟! والمقصود: أن محبة الرب تبارك وتعالى تكون أولاً بمحبة العبد لربه جل وعلا، ومحبة العبد لربه هي المنزلة التي شمر إليها العاملون، وتنافس فيها أولياء الله المتقون، وتسابق فيها على مر الدهور وكر العصور الصالحون السابقون، فمحبته جل وعلا تنال بأداء الفرائض على أكمل وجه، ثم بإتيان النوافل، وفي الحديث القدسي الصحيح: (ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها). وهذه الأربع كلهن كناية عن كمال التوفيق من رب العالمين جل جلاله، وإذا أحب الله عبداً وفقه في الدنيا والآخرة، ورزقه الشهادة عند الموت، ورزقه التوفيق وحسن الاختيار في طرائقه إلى الله جل وعلا، وألهمه الله الصبر على المحذور، وبين الله جل وعلا له الحرام فيتقيه، والواجب فيأتيه، والسنن فيسابق إليها، وأضاء الله جل وعلا له طريقه، وأنار الله جل وعلا له مسلكه، وساقه الله جل وعلا إليه سوقاً جميلاً. ومحبة الله قال العلماء: إنما تنال بأن يحرص الإنسان على اتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأخلاقه صلوات الله وسلامه عليه، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فمن أكبر الدلائل وأجل القرائن على أن العبد يحب الله: حرصه على إتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم أينما كانت وحيثما نزلت، فيتلبس بها في المنشط والمكره، والعسر واليسر، ويسابق في ذلك قرناءه وخلانه ومن يراهم من الناس؛ رجاء ما عند الله جل وعلا من الخير، لأنه لا يعدل بالفوز بمحبة الرب تبارك وتعالى شيئاً. والعبد إذا أحب الله جل وعلا كان مهيئاً إلى أن يحبه الرب تبارك وتعالى، وهذا أعظم لوازم توحيد الله، فإذا وقر في الإنسان محبة الله جل وعلا وفق، ودل ذلك على أنه معظم لله موحد لربه سبحانه وتعالى، وهذه منزلة كلٌّ يدعيها، وكلنا يطلبها، ولكن الحياة ميدان عمل ومركب شامل يتسابق فيه الأخيار. فتسابقوا أيها المؤمنون والمؤمنات! إلى ما يقربكم من الرب تبارك وتعالى, فائتوا بالفرائض بلا توان، وتسابقوا في النوافل؛ عل الله جل وعلا أن يحبكم، فإن محبة الله جل وعلا منزلة وأي منزلة، وهي أعظم ما يطلبه الطالبون، وأجل ما يسعى إليه المؤملون؛ لأنها من أعظم نور يقذفه الله جل وعلا في قلوب الموحدين من عباده.

من كمال التوحيد الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى

من كمال التوحيد الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى أيها المؤمنون! ألا وإن من كمال التوحيد: أن تعلموا أن لله جل وعلا الأسماء الحسنى والصفات العلى، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، ويتحرر من هذا أمران: أولهما: أن من أعظم الدلالة على تحقيق التوحيد دعاء الرب تبارك وتعالى في كل آن وحين؛ دعاء مسألة ودعاء عبادة، دعاء بالحال ودعاء بالمقال. فقد وقف نبيكم صلى الله عليه وسلم وليس بينه وبين فراق الدنيا إلا بضعة أشهر، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الأجل قريب، وأن الرحيل قد حان؛ لأن الله أنزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فوقف وليس بينه وبين الموت إلا قرابة سبعين يوماً أو أكثر، وقف صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء يدعو الله جل وعلا في يوم عرفة, قال من رآه يدعو صلوات الله وسلامة عليه: رافعاً يديه كاستطعام المسكين صلوات الله وسلامة عليه، يدعو الله بلسانه ويدعو الله بحاله صلوات الله وسلامه عليه, فحقق التوحيد، وهو الدعاء هنا عبادة ومسألة، مقالاً وحالاً صلوات الله وسلامه عليه, ولا غرو في ذلك ولا عجب فهو عليه الصلاة والسلام إمام الموحدين، وسيد المتقين، عليه من ربه أفضل صلاة وأتم تسليم. فتحقيق هذا الأمر على كل آن وحين، وإظهارك لله جل وعلا فقرك ومسكنتك وحاجتك، إصرارك على الاستغفار، ومداومتك على السؤال، كل ذلك من أسباب قربك من الله جل وعلا. ومن قرائن توحيدك لربك سبحانه وتعالى: عقدك لأناملك بالتسبيح، فتذكر الله وتهلله، ثم بين الفينة والفينة تقطع ذكرك بسؤال الرب جل وعلا من خيري الدنيا والآخرة، تقول كما قال الله في نعت الأخيار: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. وتتذكر ذنباً سابقاً فتذرف عيناك ويجل قلبك، وتزدلف إلى الله بأن يستر عليك في الدنيا والآخرة، وتذكر قريباً لك قد مات ولت أيامه وخلا زمانه فتسأل الله جل وعلا له؛ لعلمك أن الله جل وعلا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. وكم انتفع مقبور من دعاء حي على وجه الأرض، لا ما يصنع كثير من الناس اليوم في بعض البلدان من أنه يذهب إلى أهل القبور يرجو منهم نفعاً أو ضراً، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. والمقصود من ذلك: إذا تحقق عند العبد أن الله جل وعلا هو القادر، فإنه سيكثر من الدعاء والإلحاح على رب العالمين، وكلما ضعف يقين العبد بأن الله هو القادر قل دعاؤه، ونبضت مسألته، وقل التجاؤه إلى الله وسؤاله ربه تبارك وتعالى، وهذه كلها قرائن تبين للعبد أين هو من مقام توحيد رب العالمين جل جلاله. هذا الذي يتحرر أولاً من مسألة الأسماء والصفات. أما الذي يتحرر آخراً: فاعلم يا أخي! أن وجه الله جل وعلا أعظم الوجوه وأكرمها، وأن اسمه تبارك وتعالى أعظم الأسماء وأحسنها، وأن صفاته جل وعلا أعظم الصفات وأجلها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وله جل وعلا صفات جلال وصفات جمال، فمن صفات جلاله جل وعلا وكماله أنه الحي الذي لا يموت، فأذل الله بالموت كل مخلوق، وأهان به الكياسرة والقياصرة، والملوك والأمراء، والأغنياء والفقراء وأهل المسكنة، والأنبياء والمرسلين، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فهو جل وعلا الملك الواحد المدبر المتصرف، يقول صلى الله عليه وسلم في دعاءه: (أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والأنس والجن يموتون). ومن علم أن الله أذل عبادة بالقهر علم أن العزة الكاملة للرب تبارك وتعالى، بل ما من صفة كمال إلا والله جل وعلا له هذه الصفة، وما من صفة نقص إلا والله جل وعلا منزه عنها كل التنزه، فهو جل وعلا وتقدس، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]. وتنزه فلم يتخذ صاحبه ولا ولداً، ولما قالت النصارى في ربها جل جلاله: إن المسيح ابن الله، وقالت اليهود: إن عزيز ابن الله، وقال القرشيون عن الملائكة: بنات الله، بيّن الله جل وعلا أن هذا من أعظم الفرية وأجل الكفر، وأنه أمر ترتج له الجبال وترجف له الأرض، قال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:88 - 91]. ثم قال جل وعلا يربي قلوب عباده، ويصفي أفئدة أولياءه، ويبين لخلقه جميعاً كمال غناه: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92]. يتخذ الولد من يحتاج إلى المعين، ومن يحتاج إلى النصير، ومن يحتاج إلى من يسليه، ومن يحتاج إلى من يعضده، ولذلك فنعمة الولد عنصر كمال في المخلوق، لكن الله جل وعلا غني عن كل هذا، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92] لماذا يا ربنا؟ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم:93]، وكل من ألفاظ العموم، فالملائكة والأنبياء والمرسلون، والجن والأنس وغيرهم ممن نعلم ومما لا نعلم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. فلا يأتون وفق مشيئتهم، بل الله خلقهم وهو الذي يعلم عددهم، وهو الذي جبلهم على أن يأتوا بين يديه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. ومثل هذه الآيات من وعيد القرآن وقوارعه، يرجف لها قلب المؤمن، وتجعله على بينه من ربه، يخشى لقاء الله تبارك وتعالى، وبمثل هذا توعظ قلوب المؤمنين. وإن من أعظم أخطاءنا في صحوتنا المباركة أن يلجأ الناس إلى الأناشيد أو المسارح أو التمثيليات يريدون أن يغيروا بها أفئدة الناس، فلا يغير القلب إلا كلام الرب تبارك وتعالى، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد يرخص بعض العلماء باتخاذها في مواطن وسائل ترفيه مباحة، قد يقول هذا بعض الفضلاء من العلماء، لكن ينبغي على المؤمن أن يجعل قلبه لا يتأثر بشيء أعظم من كلام الله، ولا يقبل شيئاً أعظم بعد كلام الله من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]؟! ألم يقل الله جل وعلا: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]؟! فالمؤمن ذو القلب الحي يطمئن قلبه إذا ذكر الرب تبارك وتعالى. جعلنا الله وإياكم ممن تطمئن قلوبهم بذكره سبحانه.

من أسباب رحمة الله كثرة الاستغفار

من أسباب رحمة الله كثرة الاستغفار كما أنه ينبغي أن يعلم أن من أسباب رحمة لله جل وعلا: كثرة الاستغفار، يقول جل وعلا على لسان نبيه صالح: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، فكثرة الاستغفار من أعظم أسباب أن تنزل على العبد رحمة الله جل وعلا.

من صفات الله أنه أرحم الراحمين

من صفات الله أنه أرحم الراحمين فمن صفات جماله جل جلاله: أنه أرحم من سئل، وأكرم من أعطى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده تحت العرش: أن رحمتي غلبت غضبي، أو أن رحمتي تسبق غضبي). والمؤمن إذا علم أن الله جل وعلا أرحم الراحمين علم بداهة أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فلا يستقر عياذاً بالله في النار إلا من شقيت طينته، وساءت سريرته، وخبث معدنه، ولم يرد ما عند الله جل وعلا من الفضل، وإن كان قد أظهره للناس عياذاً بالله، على أن العاقل المؤمن الذي يرجو رحمة الله، يتخذ الأسباب التي تجعله قريب من رحمة الله يقول سبحانه: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. فتوحيد الله هو ذروة الإحسان، وهو أعظم أسباب نزول الرحمة على العبد، ثم رحمة من حولنا من الناس: رحمتك لزوجتك، رحمتك لأولادك، رحمتك لجيرانك، رحمتك لمن تحت يديك في العمل في منزلك، أو من تحت يديك من موظفيك وأجرائك وعمالك ومن جعلهم الله جل وعلا تحت يديك, رحمتك لصغير عندما يسألك، وللجار عندما يطلبك، ولعامة المؤمنين عندما تكون لهم حوائج عندك، تصنعها وأنت تحتسب هذا الصنيع عند أرحم الراحمين جل جلالة، هذا من أعظم الدلائل على أن التوحيد مستقر في قلبك؛ لأنك إذا وحدت الله علمت له نعوت الجمال، وإذا علمت أن لله نعوت الجمال علمت أن من أعظم نعوت جماله جل وعلا صفة الرحمة، فإذا علمت أن من نعوت جماله صفة الرحمة سعيت إلى أن يرحمك الله جل وعلا وعلى أن يغيثك، يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال صلوات لله وسلامه عليه: (الراحمون يرحمهم الله)، ويقول عليه الصلاة السلام: (ألا أخبركم وأنبائكم بأهل النار؟ كل جعضري جواض مستكبر)؛ لأنه لا توحيد كامل في قلبه، فيعنف هذا ويقسو على هذا، ويرد زوجته ولا يبيت إلا وقد أغضب أهله وأغضب أبنائه، وعق أمة أو عق أباه، أو صنع ما صنع بممن حوله، ثم يسأل لله جل وعلا الرحمة! والله جل وعلا ابتلاه واختبره بما علمه إياه، فلم ينجح في الابتلاء. وأعظم ما يقربك إلى الله في صفة الرحمة رحمتك بوالديك؛ لأن الله جل وعلا لم يجعل لأحد من الخلق كلهم حق عليك أعظم من حق والديك، فحقهما عظيم مسطور في الكتاب ومسطور في السنة، وهما سبيلان عظيمان بأن تنزل عليك رحمة الرب تبارك وتعالى.

من صفات الله تعالى أنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد

من صفات الله تعالى أنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد كما أن من صفات جلاله جل وعلا: أنه تبارك وتعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد, فيدبر الأمور، ويصرف الدهور، ويحكم ما يشاء، ولا ينازعه أحد كائن من كان في سلطانه. ففي السماء عرشه، وفي كل مكان رحمته وعلمه وسلطانه، فهو جل وعلا يقول عن ذاته العلية: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. قال أهل الفضل من العلماء: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويستر عيباً، ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويقيم دولة، ويهلك أخرى، ويحي عبداً، ويميت آخر، فيحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وهذا كله من التوحيد الدال على كمال قدرته تبارك وتعالى. وقد خرجت بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين خوفاً على ملكها، فمنحها الله جل وعلا الهداية، فهذا لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى، وهو يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، وهذا كله من كمال صفات الجلال له سبحانه وتعالى. وأما صفات الجمال: فإن من أعظمها صفة الرحمة، قال الله جل وعلا يخاطب نبيه في قرآنه الذي يتلى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، قال بعض السلف: هذه أرجى آية في كتاب الله جل.

من صفات الله تعالى اللطف بعباده

من صفات الله تعالى اللطف بعباده ومن صفات جماله جل وعلا: صفة اللطف، وأنه جل وعلا لطيف بعباده، وقد قال العلماء: إن قدر الله لا ينفك عن لطفه، أو أن لطف لله لا ينفك عن قدرة. فما من قدر ينزل على العبد إلا وفيه لطف من الله علمه العبد أو لم يعلمه، فعلى قدر تقبل العبد ورضاه بقدر الله يكون بعد ذلك توالي نعم لله بلطفه على عبده. فهذا نبي لله يوسف أخرج من كنف أبيه المحب، ورمي في غيابة الجب، فهذا المقدور صحبه لطف لله أن الله جل وعلا أخرجه من غيابة الجب وأسكنه ردهات القصور، ثم ابتلي وأدخل السجن، وهذا المقدور رزقه الله جل وعلا معه لطفاً آخر أن كان سبباً في أنه يلتحق بالغلامين فيروا الرؤيا، ثم يكون تعبيره ثم يكون هذا اللطف سبباً في خروجه من السجن، وسبباً في حوزته على كرسي الوزارة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]. فمن صفات جماله جل وعلا: لطفه تبارك وتعالى بخلقه علم هذا من علمه وجهل هذا من جهله. ومن صفات جماله جل وعلا: نصرته جل وعلا لأوليائه، والنصرة غير اللطف وإنما تأتي بعدها، وقد نصر الله جل وعلا بجماله وجلاله كثيراً من خلقه ممن حققوا التوحيد على أكمل وجه، وهذا باب مستفيض، كنصرته تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الغار وفي غيره، ونصرته جل وعلا لكليمه موسى، ونصرته لـ يوشع بن نون، وغير ذلك من أولياء لله الذين نصرهم الله جل وعلا في أكثر المواطن.

الأمور التي تخدش التوحيد

الأمور التي تخدش التوحيد خاتمة المطاف أيها المؤمنون أن نقول:

مما يخدش التوحيد الرياء

مما يخدش التوحيد الرياء إن التوحيد من أعظم العطايا، ومع ذلك فهناك ما يخدشه: ومن أعظم ما يخدشه أو قد يذهبه: الرياء، عافانا الله جل وعلا وإياكم منه، وهو الشرك الأصغر الذي يدب في هذه الأمة كدبيب النمل، والنبي صلى الله عليه وسلم ارشد أمته أن تستغفر لله جل وعلا، وقد أثر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في السعي بين الصفاء والمروة: رب اغفر وارحم والطف وتكرم وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم، إنك أنت الأعز الأكرم. فيدخل في قوله رضي الله عنه وعن أبيه: إنك تعلم ما لا نعلم، قضيه ما يصنعه الإنسان رياء أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله، ولا شك أن المؤمن محتاج في كل آن وحين إلى أن يجدد نيته ويقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم).

مما يخدش التوحيد الغلو في الصالحين

مما يخدش التوحيد الغلو في الصالحين الأمر الثاني مما يخدش فيه: قال بعض العلماء رحمهم الله كلمة في هذا الباب جامعه مانعه قال: إن من أعظم أوديه الباطل: الغلو في الأفاضل. فيأتي الإنسان إلى عبد يرى عليه أمارات الصلاح من العلماء أو الدعاة أو الناصحين أو العباد أو ما أشبه ذلك، أو من الأنبياء المرسلين كل بدرجاته, أو من آل البيت أو من غيرهم فيغلو فيه غلواً يخرج الغالي من دين الله جل وعلا، أو على الأقل يخدش في دينه، ويخدش في توحيده، ويقلل من كمال عبوديته للرب تبارك وتعالى. وما رأيته من أحد فيه خير فلا تمدحه وهو يسمعك، فإن كان فيمن تراه خير فثق أن الله جل وعلا لن يضيعه، وإن كان الذي تراه ليس فيه خير فثق أنه لن يخفى على الله، فلا تشغل نفسك به ولا تغلو في أي أحد تراه: إما لجمال صوت، أو لمظهر بكاء، أو لبلاغه لسان، أو ما أشبه ذلك، فأحب بقدر وأبغض بقدر، فالأمور مطوية، والموعد الله، والانصراف إلى الجنة أو إلى النار, جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة. والمقصود: أن من أعظم أوديه الباطل: الغلو في الأفاضل. وأنتم تعلمون أن كثيراً أو بعضاً من طوائف المسلمين إنما ضلت وهلكت وبعضهم خرج من الدين بغلوهم في آحاد المؤمنين، وغلوهم في الأفاضل حتى بلغوا بهم منازل لم يعطها الله جل وعلا أحداً من الخلق، ثم نافسوا في أئمتهم منازل الرب, وهذا كله بدءوا به درجة درجة حتى انتهى بهم الأمر إلى ما وصلوا إليه، أعاذنا الله وإياكم من الغلو في الدين. والمقصود أن المؤمن لا يعظم إلا ربه، وينظر إلى الخلق نظرة إنصاف، يقول: هذا ما أعلم، أو لا أعلم إلا خيراً، نسأل الله جل وعلا لفلان القبول، ولا يثني عليه أمام ملأ من الناس، ولا يبالغ في السلام عليه ولا في تعظيمه خاصة في المساجد؛ لأنها إنما بنيت وشرعت وأسست لأن يعظم الله جل وعلا وحده دون سواه. هذان أمران مهمان فيما يخدش توحيد العبد لربه تبارك وتعالى.

مما يخدش التوحيد الجهل بالرب تعالى

مما يخدش التوحيد الجهل بالرب تعالى ومما يخدش التوحيد: الجهل بالرب تبارك وتعالى فيريد الإنسان أن يحسن فيسيء من حيث أراد الإحسان، فجهله بالعلم الشرعي يجعله يتلفظ ألفاظاً ويقول أقوالاً يحسب أنها صحيحة وهي بعيده عما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولهذا فالعلم الشرعي تجلو به الشبهات كما أن اليقين والإيمان بالله تزاح به الشبهات. بلغنا الله وإياكم من الخير كله، عاجله وآجله, ووقانا الله وإياكم شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول ويتبع أحسنه. وقد قلت في مقدمه كلامي: إنها هي موعظة أقرب منها إلى أن تكون محاضرة، وبلغة أقرب منها إلى أن تكون درساً، ولعل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم، ويستر علينا وعليكم في الدنيا والآخرة سبحان رب العزة عما يصفون، وسلا م على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ذواتا أفنان

ذواتا أفنان نعيم الجنة نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وقد جعل الله تعالى الجنة داراً لأهل طاعته، ومسكناً لأهل رحمته، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. من دخلها أمن، ومن نالها أفلح وفاز، فلا يصيبه هم ولا حزن، ولا نصب ولا وصب، ولا جوع ولا عطش، ولا مرض ولا سقم، ولا داء ولا علة، ويخلد فيها أبد الآبدين.

وقت دخول الجنة

وقت دخول الجنة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدست عن الأشباه ذاته، دلت على وجوده آياته ومخلوقاته، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزةً واقتداراً، سبق الأشياء علمه، ونفذت فيها مشيئته، وغلبت عليها حكمته، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، كما لا يعترض عليه ذو عقل بعقله. وأشهد أن معالم الحق ومسالك الهدى وطرائق المجد جعلها الله وفق هدي نبينا الأمين الصادق الوعد، المولود في مكة والمسترضع في بني سعد، صلى الله وسلم عليه صلاةً وسلاماً دائمين ما اتصلت أذن بخبر وعين بنظر، وما أظل الناس برق ورعد. أما بعد: عباد الله! فإن قول ربنا جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:46 - 48]، إنما هو بيان لما أعده الله جل وعلا لأوليائه الصالحين ممن خاف مقامه، وسلك طريقه من جنات النعيم. الجنة أيها المؤمنون! نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، جعلها الله جل وعلا داراً لأهل طاعته، ومسكناً لأهل رحمته، نسأل الله في هذه الليلة المباركة الكريمة أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

لا يكون دخول الجنة إلا بعد الموت

لا يكون دخول الجنة إلا بعد الموت أيها المؤمنون! لقد مضت سنة الله جل وعلا في خلقه، وكلمته في عباده: أن أهل الجنة لن يدخلوها زمنياً إلا بعد حادثتين: الأولى: موت النفوس وفراقها للأجساد. والثانية: انتهاء الدنيا وقيام الساعة والبعث والنشور، وبعد هذين زمناً يكون دخول أولياء الله المتقين وعباد الله الصالحين لجنات النعيم. فأما الأولى: فإن الله جل وعلا قال في كتابه وقوله الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]. وكتب الله جل وعلا على هذه الأرواح أن تسكن الأجساد يوم يأتي الملك والنطفة مستقرة في رحم الأم فينفخ فيها، ثم تمكث ما شاء الله لها حتى يصبح العبد خلقاً آخر كما أخبر الله رب العالمين، ثم إذا كتب الله ساعة الفراق حضرت الملائكة كما حضرت في الأول لتنفخ في الرحم تحضر لتأخذ الأمانة التي أودعتها في ذلك الجسد، فتكون ساعة الوفاة. وما أرَّقَ الصالحين، وأقض مضاجع المتقين إلا ساعة الإقبال على الله جل وعلا، فإن العبرة بالخواتيم، ويثبت الله من شاء على صراطه، ويبقي الله تبارك وتعالى من صدقت نيتهم على طريقه، قال أهل العلم رحمهم الله: من صدق فراره إلى الله صدق قراره مع الله، فمن صدقت توبته وإنابته وأوبته إلى ربه صدق قراره وسيره وهديه على صراط الله حتى يلقى الله تبارك وتعالى. فهذا الهم أقض مضاجع المتقين من قبل، وأرق الصالحين من عباد الله؛ ولذلك سعوا أعظم ما سعوا في أن يختم الله جل وعلا لهم بخير. ولما كان النوم أخو الموت كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم مضت السنة الفعلية والقولية أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أضطجع وأراد أن ينام وضع يده تحت خده قائلاً: (باسمك اللهم أحيا وأموت)؛ رجاء أنه إذا قبض فإنه يقبض على اسم الله تبارك وتعالى. وفي الخبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة ابنته وقد أتعبها كدها في بيتها ولم يكن لها خادم، فجاءت إلى بيته تبحث عنه وتسأله خادماً لما علمت أن سبياً أتاه، فلم تجده، فأخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم أخبرت أم سلمة، فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأخبرتاه زوجتاه بالأمر قدم عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة كما عند البخاري وغيره وهما على فراشهما، فلما همّا بأن يقوما إليه أشار إليهما أن ابقيا على مكانكما؛ حفظاً لعوراتهما، ثم دنى منهما صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع، فلما قصا عليه ما طلباه قال عليه الصلاة والسلام: (إلا أدلكما على خير من ذلك؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين فذلك تمام المائة). فقد طلبا شيئاً من متاع الدنيا فدلهما عليه الصلاة والسلام على ما ينفعهما في آخرتهما، حتى إذا قبض العبد وقد ذكر هذه الأذكار قبض على عمل صالح، ومن أجل ذلك خلصت نيات المؤمنين وصدقت مع ربهم؛ رجاء أن يقبضهم الله على خاتمة حسنة. ومما يعين عليها: الإكثار من الأعمال الصالحات، فقلما أكثر عبد من عمل صالح إلا وتوفاه الله جل وعلا على ذلك العمل. وقبل سنوات غير بعيدة كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من العامة يمني الجنسية لا يقرأ، فإذا دخل المسجد النبوي ورأى رجلاً خالياً من شغل أعطاه قرآناً في يده وقال له: أقرأ علي من كلام الله، فيمضي الرجل يقرأ وهذا العبد الصالح الأمي يستمع، فقضى أكثر عمره على هذا النحو، فلما أراد الله جل وعلا أن يقبض روحه -وربما كان ذلك العبد صادقاً مع مولاه والحكم على الظواهر- دخل الحرم ذات يوم فقدم المصحف لرجل جالس في الحرم فلما أخذ ذلك القارئ يقرأ وهذا العبد الصالح يستمع إليه مرا على آية سجدة، فسجد الاثنان فرفع الأول منهما وأما ذلك العبد الصالح فقبض الله روحه وهو ساجد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لا يهلك على الله إلا هالك، فالصدق مع الله عز وجل أعظم ما يرث فيه العبد الخاتمة الحسنة، وحسن الوفادة والإقبال على رب العالمين جل جلاله. ومن ينشد الخاتمة الحسنة ينبغي أن يكون سليم الصدر للمؤمنين، فليس في قلبه بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء لأحد من المؤمنين؛ فإن كثرة الغل والحسد والبغضاء والشحناء لعباد الله أعظم ما يورث به سوء الخاتمة والعياذ بالله. أورد ابن خلكان رحمه الله في (وفيات الأعيان)، في ترجمة يوسف بن أيوب الهمداني أنه كان عبداً صالحاً محبوباً من الناس، فبينما هو ذات يوم في درسه إذا قام رجل من الصالحين ظاهراً يقال له: ابن السقا، وكان يحفظ القرآن وعنده شيء من الفقه، فقام ذلك الرجل يسأله مسائل يريد بها أن يسيء الأمر في حلقته، ويشغب عليه وجموع الناس حوله. لما أكثر عليه قال يوسف بن أيوب لـ ابن السقا: اجلس فوالله إني لأشم من كلامك رائحة الكفر، وأظنك ستموت على غير ملة الإسلام، فمضت أيام قدم فيه وفد من ملك الروم إلى الخليفة، فلما خرج عائداً إلى القسطنطينية تبعه ابن السقا وذهب معه، واستقر به الأمر في تلك المدينة، فما لبث فيها أيام حتى تنصر والعياذ بالله وأعجبه ما عليه النصارى من دين، وخرج من ملة الإسلام فبقي فيها، وكان يحفظ القرآن، ثم قُدِّر لرجل من أهل بغداد أن يذهب إلى تلك البلدة لتجارة له فوجده مريضاً على دكة وبيده مروحة يذب بها الذباب عن نفسه، فقال له: يا ابن السقا! إني أعهد أنك تحفظ القرآن فهل بقي من القرآن في صدرك شيء؟ قال: لا، ولا آية إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. وعمر رضي الله تعالى عنه قتل في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخنجر ذي نصلين على يد أبي لؤلؤة، فلما حمل رضي الله عنه وأرضاه وهو هو في علمه وجلالة قدره وصحبته وفضله وضع على الأرض، وشعر بدنو الأجل، فدخل الناس من الصحابة يثنون عليه، وكان فمن دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلما رآه أخذ ابن عباس يثني على عمر ويذكره بنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، وكان يعجبه كلام ابن عباس: أعد علي ما قلت، فلما أعادها قال: وإنني مع الذي تقول لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع. كل ذلك داخل في سياق ما ذكرناه من أنه ما أهم الصالحين شيء أكثر من حسن الإقبال على الله جل وعلا، وهذا على حسب حال كل إنسان بخاصة نفسه.

لا يكون دخول الجنة إلا بعد الحشر والنشور

لا يكون دخول الجنة إلا بعد الحشر والنشور وأما على الجانب الآخر فإنه لن يدخل أهل الجنة الجنة إلا إذا قامت الساعة، وحشر الأشهاد وقام العباد لرب العالمين تبارك وتعالى.

أشراط الساعة

أشراط الساعة وهذا لن يكون إلا إذا أراد الله جل وعلا، وسيكون كما أخبر الله، إلا أن الله جل وعلا جعل له أشراطاً وبين له علامات سنتقصاها حتى نصل إلى دخول المؤمنين إلى جنة رب العالمين جل جلاله، جعلني الله وإياكم ممن يزاحم على أبوابها.

من أشراط الساعة خروج المهدي

من أشراط الساعة خروج المهدي إن أعظم أشراط الساعة: خروج المهدي المنتظر، وهو عبد من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم يواطئ اسمه اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو محمد بن عبد الله، وهو من ذرية الحسن بن علي على ما عليه أكثر المحققين من العلماء، وهو أجلى الجبهة، أقنى الأنف، ويملك الأرض سبع سنين، ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، أخبر بذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

من أشراط الساعة خروج الدجال

من أشراط الساعة خروج الدجال فإذا خرج هذا العبد الصالح حارب الكفر والطغيان سنين، ويكون في أيامه خروج المسيح الدجال، وهو شاب عبد لله مهما بلغت فتنته في الناس؛ يخرج في آخر الزمان، وظاهر السنة أنه الآن حي يرزق كما جاء في حديث الجساسة من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنه عند مسلم وغيره من أصحاب السنن، فيخرج هذا الرجل فتنة للناس، قال عليه الصلاة والسلام: (ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة هي أعظم من الدجال). وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من يسمع به أن يخرج إليه، وكذلك المؤمن العاقل إذا سمع بالفتن فإنه يفر منها قدر الإمكان، فإذا ابتلي بها واجه ذلك بالبينات من مشكاة الوحيين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، فإنه خارج فيكم لا محالة، وما من نبي قبلي نوح ومن بعده إلا وأنذر قومه إياه).

أمارات المسيح الدجال الخلقية والخلقية

أمارات المسيح الدجال الخَلقية والخُلقية وهذا الرجل له أمارات خلقية وأمارات خلقية. فمن أعظم أماراته الخَلقية: أن عينه اليمنى كأنها عنبة طافية، فهو ممسوح العين والجبين الذي عليها، وبين عينيه ثلاثة أحرف: ك ف ر يقرأها كل مؤمن بنور الله، سواء كان يجيد القراءة أو لا يجيدها، ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق، سواء أحسن القراءة أو لم يحسن. وتلك الفتن إنما يهدي الله جل وعلا فيها، ويبين بنور الإيمان والتوحيد الذي في القلوب. ويمكث في الأرض أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، ويعيث يميناً وشمالاً، ويأمر الأرض الخربة أن تخرج كنوزها فتخرجها، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وقبل خروجه يكون جدب في الديار، وقلة في الأمطار، ومع ذلك يأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر؛ فتنةً من الله جل وعلا لعباده، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن خروج الدجال من أعظم الفتن). وأرشد عليه الصلاة والسلام المؤمنين إذا خرج بين ظهرانيهم أن يقرءوا عليه أوائل وفواتح سورة الكهف، قال بعض العلماء: إن المناسب في قراءة فواتح سورة الكهف على هذا الطاغية أن المؤمنين الفتية من أهل الكهف لما خرجوا وقاهم الله جل وعلا برحمته وفضله في الكهف يوم أن ضرب على آذانهم، فوقاهم الله جل وعلا شر الطاغية الذي كان في زمانهم، فمن قرأ من المؤمنين فواتح سورة الكهف أيام خروج الدجال يقيه الله جل وعلا -إن صدق النية مع الله- فتنة الدجال. فيعيث في الأرض يميناً وشمالاً، وتحرم عليه مكة المدينة فلا يستطيع دخولهما، وفي حديث تميم بن أوس الداري أنه سئل عن نخل بيسان: أيثمر أو لا يثمر؟ فأجابوه: بأنه يثمر، قال: يوشك ألا يثمر، وسأل عن بحيرة طبرية: أفيها ماء أو ليس فيها ماء؟ فأخبروه أن ثمة ماء فيها، فأخبرهم أنه سيأتي يوم لا ماء فيها، وهاتان أمارتان على وقت خروجه وقد قلنا: إنه يخرج أيام المهدي فيقاتله المهدي، ويلقى المسلمون والصالحون من عباد الله آنذاك كرباً عظيماً الله جل وعلا أعلم به.

من أشراط الساعة نزول عيسى ابن مريم

من أشراط الساعة نزول عيسى ابن مريم ثم بعد ذلك وفي حرب المهدي مع الدجال ينزل عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، فهي أشراط متتابعة يتبع بعضها بعضاً كالسبحة إذا انفرطت، فينزل عيسى ابن مريم واضعاً يديه على أجنحتي ملك، وقد قال عز وجل في كتابه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]. وذكره الله في الزخرف قائلاً: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، ثم قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: علامة وأمارة من أمارات الساعة. وقال جل وعلا عن أهل الكتاب: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، فينزل صلوات وسلامه عليه كأن في وجهه بللاً، وإن لم يترشح بالماء، فينزل فما أن يراه عدو الله الدجال حتى يذوب كما يذوب الملح في الماء، لكن عيسى يريد أن يطمئن المؤمنين أن هذا عبد خاسئ لا يملك من صفات الألوهية شيء، فيقتل عيسى الدجال بحربة كانت في يده؛ ليري المسلمون دمه ويطمئنوا على أن عدو الله قد هلك، فيمكث عيسى والمؤمنون الذين معه ما شاء الله جل وعلا لهم أن يمكثوا.

من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج

من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ثم في تلك الأيام يوحي الله جل وعلا إلى عيسى: أنني أخرجت عباداً ليس لأحد بهم قوة، يريد الله قبائل يأجوج ومأجوج من نسل يافث بن نوح على نوح الصلاة والسلام، وهم في ردم بناه عليهم ذو القرنين كما قال الله جل وعلا عنه: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:96 - 97]، وهم قبائل لا يحصي عددهم إلا الله جل وعلا، فيخرجون في آخر الزمان، وهم ما يزالون ساعين في أن يفتحوا ذلك الردم. وقد دخل عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم وغيره على زينب بنت جحش قائلاً: (ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج وحلق صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه الإبهام والسبابة)، فهذا يدل على أنهم ساعون في حفره لكن الله جل وعلا كلما حفروا شيئاً منه رد الله جل وعلا ما حفروه على ما كان؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. فلما يأتي اليوم الذي يأذن الله جل وعلا لخروجهم فيخرجون، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:96 - 97]، فيخرجون يعيثون في الأرض فساداً، فيفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور من أرض سيناء، ويمكث هؤلاء يفسدون في الأرض، فيشربون بحيرة طبرية، يشربها أولهم ولا يبقى لآخرهم شيء، ويعيثون في الأرض فساداً. ثم إنهم لما لم يبق لأحد من أهل الأرض بهم يدان يرمون النشاب إلى السماء فيرد الله رأس الرمح أحمر فتنة لهم، فإذا رأوه أحمر قالوا: قهرنا أهل الأرض وغلبنا أهل السماء. ثم إن عيسى عليه الصلاة والسلام يدعو الله جل وعلا عليهم فيستجيب الله له، فيبعث الله جل وعلا على رقابهم دوداً يكون هلاكهم على يديه، فيموتون فرسى كأنهم نفس واحدة، فسبحان ربك الذي يحيي ويميت، ويبدي ويعيد، ولا يبقى إلا ملكه، ولا ذلة إلا بين يديه، ولا عزة إلا بطاعته. فيموتون فرسى كموت رجل واحد، فلما ينزل عيسى والمؤمنون الذين معه يدعو الله جل وعلا عليهم كرة أخرى، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت تحملهم وتلقيهم في البحار، ثم ينزل الله جلا وعلا مطراً لا لأهل زرع ولا لأهل ضرع، وإنما ليغسل الأرض من نتنهم وزهمهم، فتصبح الأرض بيضاء نقية. فإذا نزل عيسى والمؤمنون الذين معه لا يعبد في تلك الفترة إلا الله جل وعلا، ولا يبقى على ظهر الأرض كافر؛ لأن عيسى يخيرهم بين القتل والإيمان، فتوضع الجزية، ويكسر الصليب، ويعيش الناس كأنعم ما يعيشون على وجه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى للعيش بعد المسيح، طوبى للعيش بعد المسيح، كل ذات حمة - أي: كل ذات بغضاء وشحناء وحقد وشر - ينزعها الله جل وعلا من قلبها). حتى أخبر صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (أن الطفل الوليد الرضيع يضع أصبعه في فم الحية فلا تضره ولا تعضه، ويتعرض الوليد الصغير للأسد فلا يضره أبداً، ويكون الذئب بين الغنم كأنه كلبها، ويأمر الله جل وعلا الأرض أن تخرج بركتها، وأن تنبت ثمرتها، فلو أن عبداً من عباد الله غرس حبة على الصفا على صخرة ملساء لأنبت الله جل وعلا غرسها)، وكل ذلك بأمره تبارك وتعالى، فيكون الناس على هذا ما شاء الله لهم أن يكونوا. ثم يقبض نبي الله تبارك وتعالى عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم يقبض المؤمنون، فأرواح المؤمنين تقبض شيئاً فشيئاً، ويقل الخير في الناس، ويقبض الأخيار، ويبدأ الإسلام يوشى كما يوشى الثوب، يعني: يذهب شيئاً فشيئاً، ويسرى على القرآن في ليلة واحدة فلا تبقى على ظهر الأرض آية، ويأتي ذو السويقتين من أرض الحبشة إلى الكعبة فيهدمها ويقلعها حجراً حجراً، ويستخرج كنوزها، ويسلبها حليها ولا يبقي منها شيئاً، ولا تؤم الكعبة بعده ولا تحج، ولا يؤدى فيها عمرة ولا حجة، فتهدم الدنيا تدريجياً على هذا، حتى تخرج الدابة كما قال الله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، فتخطم الناس وتسمهم على خراطيمهم، فينشأ الناس بعد ذهابها فيشب الصغير ويصبح كبيراً، فإذا باع ثوباً أو اشتراه فسئل من اشتراه منه: ممن اشتريته؟ قال: اشتريته من ذلك الرجل المخطوم، أي: الذي خطمته الدابة ووسمته.

من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها

من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها فيستمر الناس على هذا حتى تأتي الشمس تستأذن ربها عز وجل كما تستأذنه كل يوم أن تخرج وتطلع على الناس من المشرق فلا يأذن العلي الكبير لها، فتطلع على الناس من المغرب، فإذا رآها الناس آمنوا وقت لا ينفع الإيمان، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، يومها يغلق الله جل وعلا باب التوبة، فلا يتوب الله جل وعلا بعد طلوع الشمس من مغربها على أحد، فيمكث على الأرض شرار خلق الله بعد أن يقبض الله أرواح المؤمنين.

النفخ في الصور وحال الناس بعد ذلك

النفخ في الصور وحال الناس بعد ذلك وبعد أمور وأمور يأمر الله جل وعلا ملكاً يقال له: إسرافيل أن ينفخ في الصور فينفخ، فإذا نفخ إسرافيل صعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يمكثون أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، ثم بعد ذلك يأمر الله إسرافيل أن ينفخ كرة أخرى فينفخ، فإذا نفخ ما من روح أودعت في مكان ما: إن كانت في عليين أو كانت في سجين إلا وخرجت من مكانها وعادت إلى الجسد الذي خرجت منه، فيخرج الناس كما يستيقظ النائم اليوم من نومه، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52]. فيخرجون حفاة عراة غرلاً بُهماً إلى أرض بيضاء نقية. وقد جاء حبر من أحبار يهود فقال: (يا أبا القاسم! أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ قال: هم في ظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين؟ قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليها بعدئذ؟ قال: عين فيها تسمى سلسبيلاً). وفي يوم العرض أيها المؤمنون تتقطع الصداقات والقرابات وسائر العلاقات من نسب أو رحم، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال سبحانه: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]. ويوم العرض أيها المؤمنون تهتك فيه الأستار، وتظهر فيه الأسرار، قال الله جل وعلا: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16]، فيكون خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من يكسى من الخلائق؛ لأن الخلائق يحشرون عراة، ثم بعد ذلك الصالحون الأمثل فالأمثل، حتى يكون الناس على استعداد للعرض والحساب. وتدنو الشمس ويلجمهم العرق، وتكون أمور عظام منها الحوض والصراط والميزان، قال الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. ثم ينصب الصراط على ظهراني جهنم فيمر عليه الناس كل على قدر عمله، فمنهم من يمشي مشياً، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم والعياذ بالله من تختطفه كلابيب جهنم، قال الله جل وعلا: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:69 - 72]. فالله تعالى لم يقل: ونرمي الظالمين فيها جثياً، بل قال سبحانه: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ)، فمجرد أن يخذلهم الله ويتركهم يكفي أن يكون سبباً في أن يلقوا في جهنم، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان.

دخول الجنة للمتقين

دخول الجنة للمتقين بعد ذلك أيها المؤمنون يأتي بيت القصيد من المحاضرة: يأتي المؤمنون الأتقياء الذين جاوزوا جسر جهنم، كما قيل للإمام أحمد: متى يستريح المؤمن؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراء ظهره. فتقرب إليهم الجنة، فإذا رأوها ذهبوا إلى أبيهم آدم فقالوا: يا أبانا استفتح لنا الجنة؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، فيدفعها عن نفسه، فيأتي نبينا صلى الله عليه وسلم فيطرق باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيكون صلى الله عليه وسلم أول من يدخلها من سائر الناس، وأول من يدخلها من هذه الأمة أبو بكر رضي الله تعالى عنه. والجنة أيها المؤمنون نور يتلألأ، ونهر مضطرد، ونعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وقد كان عباد الله الصالحين في الدنيا يسألونها الله ليلاً ونهاراً، قال الله عز وجل: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16]، وذكر الله خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم بقوله: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]، ووقف أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو هو ومعاذ رضي الله تعالى عنه، فقال الأعرابي: (أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ولكني أسأل الله الجنة، وأستجير به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن) أي: حتى نحن نسأل الله الجنة ونستجير به النار. فإذا دنت الجنة منهم فتحت أبوابها، وأبواب الجنة ثمانية، وما بين مصراعي كل باب مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها يوم -مع اتساعها هذا- وهي كضيضة من الزحام، جعلنا الله وإياكم ممن يدخلها آمناً.

طوائف أهل الجنة

طوائف أهل الجنة وأهل الجنة أيها المؤمنون طوائف، فمنهم من دخل الجنة قبل يوم القيامة، كآدم وحواء والشهداء من المؤمنين ومؤمن آل ياسين، قال الله جل وعلا: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، وقال الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وقال سبحانه عن مؤمن آل ياسين: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. وأما أول من يدخلها بعد يوم القيامة فكما بينا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، سيد كهولها أبو بكر وعمر، قال عليه الصلاة والسلام في حديث حسن إسناده بعض العلماء: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، وسيدا شبابها الحسن والحسين) رضوان الله تعالى عليهما. قال عليه الصلاة والسلام: (إن ملكاً استأذن ربه أن يأتيني ويبشرني بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). من نساءها المنعمات خديجة بنت خويلد , وآسية بنت مزاحم، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، فهؤلاء الأربع سيدات نساء أهل الجنة على الإطلاق كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه. وممن كتب الله لهم دخولها ممن أخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم العشرة المبشرون من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال العلماء: إنه لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فجميع من كان في بيعة الرضوان في غزوة الحديبية يدخل الجنة برحمة الله جل وعلا وفضله كما صح الخبر عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. أيها المؤمنون! إن الجنة نعيم لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، لهم فيها أطيب المساكن، يدخلونها على طول أبيهم آدم ستون ذارعاً في السماء، جرداً مرداً مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، وجرداً، أي: لا شعر على أجسادهم، ومرداً: أي لا شعر على وجوههم، أبناء ثلاث وثلاثين، قيل: إنها السن التي رفع فيها عيسى عليه الصلاة والسلام، وطول أبيهم آدم يوم خلقه الله كان ستين ذراعاً صلوات الله وسلامه عليه.

نعيم الجنة

نعيم الجنة فمن يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت، ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، لهم فيها أعظم النعيم وأجل العطايا من رب كريم، تجري من تحتهم الأنهار، وترفرف حولهم الأطيار، ويناديهم ربهم جل وعلا كما قال سبحانه، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وينحر لهم أول ما يدخلون ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ولهم فيها شراب ونعيم، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من لبن، وأنهار من ماء غير آسن، وغير ذلك من لذات النعيم، كما قال الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. وأما أعظم ما يعطيهم الله جل وعلا إياه: فلذة النظر إلى وجهه الكريم، مع رضائه سبحانه وتعالى الذي لا سخط بعده، وليس بعد هذين العطائين عطاء أبداً. صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل مازيننا ألم يبيض وجوهنا ألم يجرنا من النار ألم يدخلنا الجنة؟! فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى).

أسباب دخول الجنة

أسباب دخول الجنة يبقى أيها المؤمنون السؤال الأعظم: ما السبب في دخول الجنة؟

من أسباب دخول الجنة الإيمان والعمل الصالح

من أسباب دخول الجنة الإيمان والعمل الصالح جملةً: الإيمان والعمل الصالح، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108].

تفاوت الناس في دخول الجنة

تفاوت الناس في دخول الجنة وأهل الجنة كما قلنا درجات: فأول من يدخلها من عامة الناس: فقراء المهاجرين؛ لأن الفقر من أعظم أنواع الابتلاء، قال صلى الله عليه وسلم كما روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (يأتي فقراء المهاجرين يستفتحون باب الجنة فيقول لهم خزنتها: أوقد حوسبتم؟ فيقول هؤلاء الفقراء: وعلى أي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله، فيدخلون الجنة فيقيلون فيها: أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس). وممن يدخل الجنة: مؤمنون كتب الله لهم الجنة بلا حساب ولا عذاب، جعلنا الله وإياكم منها. ومنهم من يرزقون شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يرزقون شفاعة أهليهم من العلماء والشهداء والصديقين، أو من الملائكة المقربين. ومنهم من يمن الله جل وعلا عليه برحمته، فيدخله الجنة بشفاعة الله تبارك وتعالى ذاته.

الذين يحرمون من دخول الجنة مع توحيدهم

الذين يحرمون من دخول الجنة مع توحيدهم

الكبر من الأمور التي تمنع العبد من دخول الجنة

الكبر من الأمور التي تمنع العبد من دخول الجنة ومنهم من يحرم من دخول الجنة ابتداءً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فهؤلاء وإن كانوا موحدين إلا أن ما في قلوبهم من الكبر يمنعهم من دخول الجنة. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما ثبت أن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما التقيا عند المروة في مكة فتحدثا قليلاً ثم مضى عبد الله بن عمرو، فلما مضى بكى عبد الله بن عمر فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إن هذا -وأشار إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- أخبرني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر كبه الله على وجهه في النار). فالكبر الذي في الصدور والعياذ بالله أعظم ما يحول بين العبد وبين دخول جنات النعيم، والمؤمن إذا عرف أن الله جل وعلا ذم الكبر وأهله، وأنه تبارك وتعالى أمر سيد الخلق وصفوة الرسل قائلاً: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] تواضع كما أمره الله جل وعلا أن يتواضع؛ لأن الكبر والعياذ بالله يسوق العبد إلى كثير من المعاصي والإفساد في الأرض.

الظلم من الأمور التي تحرم العبد من دخول الجنة

الظلم من الأمور التي تحرم العبد من دخول الجنة ممن يحرم من دخول الجنة وإن كان من الموحدين: الظلمة من العباد، قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)، قال بعض العلماء: وإنهم في زماننا هذا. قال صديق حسن خان رحمه الله: بل هم في كل الأمصار والأعصار، وغالباً ما يكونون من ذوي الجاه والقدرة والأعيان الذين يكون لديهم أعوان وقدرة على الظلم، ومعهم ما معهم يضربون به الخلق. إن الظلم أيها المؤمنون حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ولأن تلقى الله بكل ذنب دون الشرك أهون من أن تلقاه بظلمك لعباد الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113]. جاء رجل إلى مالك رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله! إنني أعمل عند أناس ظالمين: يظلمون الناس ويجلدونهم بغير وجه حق، وأنا أعمل عندهم خياطاً أحيك لهم الثياب أفأنا من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ فقال مالك رحمه الله: بل أنت منهم، فقال: يا مالك؟ ومن إذاً الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ قال: يا أخا العرب! الذين ركنوا إلى الذين ظلموا من باعك الخيط الذي تخيط به لهؤلاء. فالمؤمن يتحرر من كل ما فيه ظلم للعباد، وقد يظن إنسان إن الظلم إنما يكون محصوراً في فئة من الناس، وهذا غير صحيح، فكل من كان تحت يدك وجعل الله جل وعلا لك سلطة عليه فظلمته وبخسته حقه: من زوجة، أو ولد، أو طالب في المدرسة، أو موظف تحت إدارتك، أو أجير، أو عامل، أو خادمة أو سائر ذلك، فظلمته ونهرته وضربته بغير وجه حق دخلت فيمن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما).

من المحرومين من دخول الجنة الكاسيات العاريات المائلات المميلات

من المحرومين من دخول الجنة الكاسيات العاريات المائلات المميلات وأما الصنف الآخر فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، عليهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها). قال العلماء: للجنة ريح عبقة زكية يتلاقها المؤمنون، فإذا كان هؤلاء النساء على هذا الوضع مما هو مشاهد في زماننا هذا في الفضائيات في الأفلام والأغاني ومشاهد في كثير من الأسواق ومشاهد في كثير من صالات الأفراح ومشاهد في كثير من الطرقات نساء والعياذ بالله تحررن من عبودية الخالق إلى عبودية المخلوقين، وأصبحن -أردن أم أبين- أداة لأعداء الدين يلعبون بهن كيفما شاءوا، والمؤمنة التي تعلم أنها ستلقى الله جل وعلا تعلم أن الله جل وعلا فرض عليها حجاباً شرعياً، وخير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال. ولقد بذل كثير من علماء المسلمين المعاصرين والسابقين بذلوا كثيراً من علمهم ووقتهم في تبيين الحجج للناس، ودمغ حجج الظالمين ممن يزينون للنساء ترك الحجاب، ويدعون عياذاً بالله إلى التبرج السفور مما حرمه الله جل وعلا ونهى عنه. فالمؤمنة التقية التي تؤمن بملاقاة الله، وتعلم يقيناً أنها داخلة في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] تخشى الله جل وعلا فيما تلبسه، وتتقي الله تبارك وتعالى فيما ترتديه، ولا تكون فتنة لشباب المسلمين أينما كانوا وحيثما نزلوا. فهذه الطائفة محرومة من دخول الجنة.

قتل النفس من الأمور التي تحرم العبد من دخول الجنة

قتل النفس من الأمور التي تحرم العبد من دخول الجنة ومنهم: كما صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا: (عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة) أي: ممن يموت انتحاراً، فمن مات انتحاراً حرم الله جل وعلا عليه الجنة ابتداءً، ولا يعني هذا أنه لا يدخلها أبداً فقد يغفر الله جل وعلا له؛ لأن الانتحار رغم أنه أمر من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي ونهى الله جل وعلا عنه قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] لكنه ذنب لا يخرج من الملة، ولا يخرج العبد من حظيرة الإسلام، فمن ابتلي أحد قرابته بشيء من هذا فليصبر ولله الأمر من قبل ومن بعد، ويصلى عليه، إلا أنه لا يصلي عليه الإمام الأكبر أو نائبه ويدفن، في مقابر المسلمين كما بين أهل العلم رحمهم الله. فهذه هي الأمور التي تحول بين العبد وبين دخول الجنة.

الأمور التي تجعل الإنسان يدخل الجنة

الأمور التي تجعل الإنسان يدخل الجنة وأما التي تجعل العبد أهلاً لأن يدخل الجنة فينبغي أن نعلم ابتداءً أن الجنة ليست ثمناً للعمل الذي صنعته، وإنما هي فضل من الله وجزاء منه، وفرق بين أن يكون الشيء عوضاً وثمناً، وبين أن يكون الشيء سبباً في رحمة الله جل وعلا. وأعظم ما يكون سبباً في دخول الجنة: الخوف من مقام الله تبارك وتعالى وتقواه، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، وذكر الله الجنة ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. والخوف من مقام الله كل يدعيه، وكل ينتسب إليه لكن الأعمال غالباً ما تكون شواهد على ما في القلوب. ومن أعظم ما يدل على الخوف من مقام الله: الإئتمار بأمره، والانتهاء عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، والبعد عن محارمه، والكف عن معاصيه، وقيام فلق الأسحار، فإن قيام الليل من أعظم الشواهد على أن العبد يخاف مقام ربه تبارك وتعالى؛ إذ قل ما يترك إنسان فراشاً وثيراً، وزوجة محببة إليه، أو رفقة من الإمكان أن يأوي إليهم فيترك ذلك كله وينزوي في بيته في وضع مظلم، أو نور خافت يقف بين يدي ربه، يتلو كتاب الله وآياته، ويتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيره من النار، ويدخله الجنة إلا وهو عبد قد خاف مقام الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].

كفالة الأيتام من أسباب دخول الجنة

كفالة الأيتام من أسباب دخول الجنة مما يكون سبباً في دخول الجنة: كفالة الأيتام، فالله تبارك وتعالى يبتلي بالموت فيبقي هذا ما شاء الله له أن يبقيه، ويقبض روح هذا ويترك وراءه ذرية، فنقول لمن يخشى أن يموت عن ذريته: إنه لا ذخر لأبنائك من بعدك أعظم من عمل صالح تتقرب به إلى الله، فإن الله أخرج موسى والخضر يطويان البحار والقفار حتى وصلا إلى جدار ليتيمين، فلما بنياه قال الله جل وعلا على لسان الخضر: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، فقد يكون العبد الصالح في قبره لا يستطيع أن يخرج فينفع أبنائه؛ لأنه صلاحه الذي سبق، وذكره الذي فات يجعله الله جل وعلا ذخراً لبنيه من بعده، فيسخّر الله جل وعلا لأولئك اليتامى خلقاً، ويسوق الله جل وعلا إليهم عباده، ويحنن الله تبارك وتعالى عليهم أوليائه، فيخدمون أكثر مما يخدمون لو كان أبوهم حياً. وكفالة اليتيم من أعظم الذخر الذي يدخره العبد عند لقاء الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وجمع - عليه الصلاة والسلام - بين أصبعيه السبابة والوسطى)، وقال صلوات الله وسلامه عليه كما في المسند بسند صحيح: (خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه).

طاعة الوالدين من أسباب دخول الجنة

طاعة الوالدين من أسباب دخول الجنة مما يكون سبباً في دخول الجنة: طاعة الوالدين، فالزمهما فثم الجنة، وطاعة الوالدة على وجه الخصوص، في الحديث: (قال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك)، فبر الوالدين والصبر على ما يناله الإنسان منهما من أذى خاصة إذا كبرا، وأن يوقف الإنسان وقته عليهما، فيخدمهما في المنشط والمكره، ويقوم بشئونهما، ويرعاهما، ويغض طرفاً عما قد يبدر منهما من الأفعال السيئة، كل ذلك من أعظم أسباب دخول الجنة، والقرب من رب العالمين. وقد بينا مراراً في محاضرات سلفت ومضت: أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه عبداً كتب الله له أن يكون رفيقاً لموسى في الجنة، فأوحى الله جل وعلا إليه: إن عبدي فلاناً كتبت له أن يكون لك رفيقاً في الجنة، فتبع موسى ذلك العبد ليرى ما الذي يصنعه؟ فوجد ذلك الرجل من بني إسرائيل يعمد إلى كهف فيه أم له عجوز قد بلغت من الكبر عتياً وهو يطعمها ويسقيها ويقوم على خدمتها، فلما خرج منها سأله موسى: من هذه؟ قال: هذه أمي، قال: وما تصنع لها؟ قال: أطعمها وأسقيها وأقوم على خدمتها، قال: فهل تجزيك أمك على ما تصنعه لها شيئاً؟ قال: لا، إلا أنني كثيراً ما أسمعها تقول: اللهم اجعل ابني هذا رفيق موسى بن عمران في الجنة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: أنا موسى بن عمران وقد أوحى الله جل وعلا إلي أن الله استجاب دعوة أمك، فأنت رفيقي في الجنة. فبدعاء الوالدين وبرهما وغض الطرف عما يكون منهما ينال الإنسان جنات النعيم.

مما ينال به الجنة ذكر الله تعالى

مما ينال به الجنة ذكر الله تعالى ومما ينال به الإنسان جنات النعيم: الإكثار من ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). وفي الخبر الصحيح أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وقد جاء في حديث صحيح عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله جل وعلا: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي). كما أن من أعظم كنوز الجنة كما في حديث أبي موسى الأشعري: (أن يكثر العبد من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)، فبذكر الله تبارك وتعالى والانصراف عن معاصيه ينبت للمؤمن غراس في الجنة.

الأعمال التي تكون سببا في أن الله يبني للعبد بيتا في الجنة

الأعمال التي تكون سبباً في أن الله يبني للعبد بيتاً في الجنة

بناء المساجد في الدنيا

بناء المساجد في الدنيا وأما بيوت الجنة وقصورها فإنما تبنى بعظيم الأعمال، ومن أعظمها: أن يبني الإنسان لله جل وعلا بيتاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من بنا لله بيتاً في الدنيا ولو كمفحص قطاة - أي: ولو كان صغيراً- بنى الله جل وعلا له بيتاً في الجنة).

الصبر على موت الولد الصغير والاحتساب على ذلك

الصبر على موت الولد الصغير والاحتساب على ذلك ومن كان له ولد أثير صالح ثم قبض رحمه قبل أبيه فصبر ذلك الوالد واحتسب ذلك الولد عند الله جل وعلا بنى الله جل وعلا للوالد بيتاً في الجنة يسمى بيت الحمد؛ لأن ذلك العبد حمد الله جل وعلا على ما ابتلاه الله تبارك وتعالى به. بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه قابل رجلاً من الأنصار ومع الأنصاري ابن له، فقال عليه الصلاة والسلام للأنصاري: أتحبه؟ قال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام فقد الرجل دهراً، فقال: ما فعل صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فلما لقيه عليه الصلاة والسلام، قال: أما يسرك أنك لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بثوبك حتى يدخلك إياها؟ قالوا: يا رسول الله! -وهذا من حرص الصحابة على الخير-: أله خاصة أم لنا كلنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هي لكم كلكم)، وهذا من رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

من الأسباب التي تدخل العبد الجنة الركعتان بعد الوضوء

من الأسباب التي تدخل العبد الجنة الركعتان بعد الوضوء ومما يكتب الله جل وعلا به الجنة: ركعتا الوضوء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة وكلما دخلها في منام أو يقظة كما في المعراج ورآها سمع صوت نعلي بلال بن رباح رضي الله تعالى عنه، (فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً عن أرجى عمل عمله في الإسلام، قال: يا رسول الله! لا أعلم شيئاً أكثر من أنني ما توضأت وضوءً إلا صليت بعده ما شاء الله لي أن أصلي، فقال صلى الله عليه وسلم - في رواية صحيحة -: فهذه بهذه) أي: هذا الجزاء حصلت عليه بهذا العمل.

من حافظ على الرواتب بنى الله له بيتا في الجنة

من حافظ على الرواتب بنى الله له بيتاً في الجنة كما أن مما يبنى قصور الجنة وبيوتها: أن يحافظ المؤمن على السنن الرواتب، قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بنى الله جل وعلا له بيتاً في الجنة). فهذه أيها المؤمنون! جم من الأعمال تعددت مشاربها، وكثرت مناهلها؛ لأن الله جل وعلا لم يخلق العباد على نسق واحد، قال سبحانه: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]، وقال جل وعلا: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]).

ليس في الجنة جوع ولا عطش ولا تكليف

ليس في الجنة جوع ولا عطش ولا تكليف أيها المؤمنون! ليس في الجنة جوع ولا عطش، ومع ذلك يأكلون ويشربون، ولا يأكلون ليسدوا جوعاً، ولا يشربون ليرووا ظمئاً، وإنما هو نعيم متتابع، وفضل من الله جل وعلا وإحسان. وليس في الجنة تكليف: قال الله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وهذا الذكر من التسبيح والحمد يلهمونه إلهاماً كما يلهم أحدنا النفس اليوم في حياته ما دام حياً.

تزاور أهل الجنة وتذاكرهم فيها

تزاور أهل الجنة وتذاكرهم فيها إن أهل الجنة أيها المؤمنون يتزاورون ويتذاكرون مجالسهم في الدنيا، جعلني الله وإياكم ممن يذكر هذا المجلس يوم القيامة. فيتذاكرون مجالسهم في الدنيا، كما أن بين أهل النار خصومة ومحاجة، فالله ذكر أهل النار وذكر خصومتهم ومحاجتهم فقال: {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:61 - 64]. ويكون بين أهل الجنة لقاءات وتزاور، قال الله جل وعلا عنهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] أي: يتذاكرون مجالسهم في الدنيا، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]. ومن كان له قرين في الدنيا يحاول أن يغويه من أهل الكفر أو الفسق ويظله ثم يمن الله عليه بالثبات على الهداية، يتذكر وهو في الجنة ذلك القرين، قال الله جل وعلا: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50 - 51] أي: من أهل الجنة، {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:51 - 53] فيطلع ذلك المؤمن على أهل النار: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]، فاطلع فيراه في سواء الجحيم، فلما يراه على تلك الحال يتذكر نعمة الله جل وعلا عليه من الثبات على الهداية، قال الله جل وعلا بعدها: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. وما زلنا وإياكم في دار عمل، وما زالت أرواحنا في أجسادنا، وهذه بعض مما ذكره الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسوله من جنات النعيم. فنسأل الله الذي رزقنا الإسلام من غير أن نسأله ألا يحرمنا الجنة وقد سألناه إياها. اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ولا تواري عنك أرض أرضاً، ولا سماء سماء، ولا يُخفي عليك جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، تعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن، لا يخفى عليك شيء من أعمالنا، نسألك اللهم أن تعيذنا من ذل الفضيحة يوم العرض عليك، اللهم أعذنا من ذل الفضيحة يوم العرض عليك، اللهم إن لنا ذنوباً سترتها علينا في الدنيا فأدم يا الله سترها علينا يوم نلقاك، وأدم اللهم علينا عفوك ومغفرتك، وأدخلنا اللهم جناتك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وإن عدتم عدنا

وإن عدتم عدنا ضمن الله تعالى سورة الإسراء آيات مليئة بزاد القلوب وبيان الحقائق العلمية والتاريخية، فقد ذكر تعالى في فاتحتها منته على نبينا صلى الله عليه وسلم بالإسراء بروحه وجسده إلى بيت المقدس في برهة من الليل، وذكر خبر بني إسرائيل في إفسادهم في الأرض وهلاكهم بعد ذلك، كما ذكر بعض أخبار يوم القيامة، وحقيقة أمر الروح، وغير ذلك من الحقائق العظيمة التي تؤصل توحيد الله في النفوس، وتعظم قدره في القلوب.

وقفات قرآنية في سورة الإسراء

وقفات قرآنية في سورة الإسراء بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن -وهو خير كتبه- على خير نبي بعثه وأرسله، وهو نبينا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وإن من العتاق الأول والتلاد القديم الذي أنزل على نبي الهدى ورسول الرحمة صلوات الله وسلامه عليه سورة (الإسراء، والكهف، ومريم) كما جاء هذا التعبير على لسان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه لما ذكر سورة الإسراء والكهف ومريم: (إنهن من العتاق الأول، وإنهن من تلادي) يقصد أنه أخذهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة صلوات الله وسلامه عليه. وسورة الإسراء تقوم أعظم غاياتها على شخصية نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد صدرها الله جل وعلا بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ} [الإسراء:1]، وختمها جل ذكره بقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]. وقد اشتهر عند العلماء أن هذه الآية الأخيرة من سورة الإسراء تسمى آية العز، كما أنها عند كثير منهم -بناءً على ما نقل مما يمكن قبوله من الإسرائيليات- أنها آخر آية في التوراة، كما أن المشهور عند العلماء أن أول آية في التوراة هي قول الله جل وعلا في فاتحة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. ولنا مع هذه السورة المباركة وقفات، فنرجو الله جل وعلا بلاغاً للحاضر والباد، ونفعاً للعباد وتقريباً إليه ودعوة نحو دينه تبارك وتعالى.

حادثة الإسراء والمعراج

حادثة الإسراء والمعراج أول تلك الوقفات فإن الله وعلا قد افتتحها بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، فهذا حدثٌ وقع في ليلة من الليالي عبّر الله جل وعلا عنها بالتنكير، فقال سبحانه وتعالى: (ليلاً)، قال العلماء: إن التنكير هنا ورد لغرضين بلاغيين قال بكل واحد منهما فريق من أهل العلم: أما الفريق الأول فقد قالوا: إن الله جل وعلا نكّر كلمة (ليل) هنا لتدل على التقليل، فتكون الغاية من ذلك أن هذا الأمر الذي يقع عادة في شهور وليالٍ وأيام وقع في برهة من الليل، ولا يقدر على هذا إلا العلي الكبير جل جلاله. وقال آخرون: إن كلمة (ليل) نكرت هنا للتعظيم والتفخيم، والمراد: ليل وأي ليل؟ ليلٌ دنا فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى فقربه الله وناجاه، وأدناه وكلمه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ودخل صلى الله عليه وسلم الجنة واطلع على النار صلوات الله وسلامه عليه. قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1]، والمجيء بالمفعول المطلق (سبحان) هنا يدل على أن ثمة أمراً عظيماً وقع لا يقدر عليه إلا رب العزة، فقد أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام أول بيت وضع في الأرض إلى المسجد الأقصى البيت الثاني الذي وضع، وبينهما أربعون عاماً. وقول الله جل وعلا: ((الأقصى)) إشارة إلى هناك مسجداً سيكون بينهما، وقد وقع بعد الهجرة بناؤه صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف في مدينته صلوات الله وسلامه عليه. وقد أسرى الله به ليلاً بعد أن غُسل قلبه وصدره، غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، وهذا الغسل غسل حقيقي، حيث أخرج القلب من الصدر ووضع في طست فيه ماء زمزم، ثم غُسل وملئ إيماناً وحكمةً، ثم أعيد إلى مكانه، ثم أسري به على دابة يقال لها: (البراق) من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بيت المقدس، فربط صلى الله عليه وسلم البراق في الحلقة التي في باب المسجد التي يربط بها الأنبياء دوابهم صلوات الله وسلامه عليهم. وبيت المقدس أرض الأنبياء، ومع ذلك صلى إماماً؛ ليقول الله جل وعلا للخلق أجمعين ولنبينا في المقام الأول: إن هذا النبي -وإن كان آخر الأنبياء مبعثاً ودهراً وظهوراً- وهو أول الأنبياء وأعظمهم قدراً وأجلهم ذكراً، فصلى بهم صلى الله عليه وسلم في موطنهم في مكانهم في دارهم إماماً بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. والفعل (سرى) لا يقال إلا لمن مشى وارتحل ومضى في الليل، والله تعالى قال: (ليلاً) للغرضين البلاغيين اللذين قدمناهما، وأحدهما على أن المراد به التقليل، والمقصود أن هذا الأمر لا يتم عادة إلا في الليالي والشهور والأيام، فتم في برهة من الليل، والآخر على أن المراد به التفخيم.

علة الإسراء برسولنا صلى الله عليه وسلم

علة الإسراء برسولنا صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله جل وعلا في صدر السورة العلة فقال جل ذكره: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، وهذه سنة الله في العظماء من الأنبياء، فقد قال الله جل وعلا في الخليل إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فالنبي إذا رأى الآيات عياناً، واستقرت في قلبه إيماناً كان أقدر على أن يبلغ عن الله رسالاته، وينصح له في برياته، ويتكلم عن الله وعن آياته على علم بين، وعلى المشاهدة مما أذن الله جل وعلا له بأن يطلعه عليه من الغيب، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به إلى السماوات السبع الطباق حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام بعد أن جاوز سدرة المنتهى صلوات الله وسلامه عليه. وقوله جل وعلا: (لنريه من آياتنا) من أعظم الحُجج -على قول جماهير العلماء من السلف والخلف- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه ليلة المعراج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لو كان رأى ربه -والآية في مساق الامتنان والثناء عليه- لكان التعبير برؤية الله أعظم من التعبير برؤية آياته جل وعلا، والله جل وعلا قال وقوله الحق: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماً غفيراً من آيات الله، فرأى الجنة، واطلع على النار، ورأى سدرة المنتهى، ورأى خلقاً كثيراً يعذبون، وآخرين ينعمون، كلٌ بحسب عمله، وكان يسأل جبريل بين الفينة والفينة، ورأى أباه آدم وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر جهة اليمين ابتسم، وإذا نظر جهة الشمال بكى، فقال: من هذا يا جبريل؟ قال هذا أبوك آدم والأسودة التي عن يمينه وشماله أرواح بنيه، فإذا نظر جهة اليمين رأى أهل الجنة فابتسم، وإذا نظر جهة الشمال رأى أهل النار فبكى، فعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والمسجد الحرام أول بيت وضع في الأرض، وقد جعل الله جل وعلا الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والمسجد الأقصى بني بعده بأربعين عاماً، والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المسجد الأقصى: (لنعم المصلى هو، ولصلاةٌ في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه)، رواه الحاكم بسند صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه. فهذه رحلة الإسراء على وجه الإجمال، ذكرناها لأنها أولى الوقفات في هذه السورة.

إكرام الله لنبيه بالإسراء بروحه وجسده

إكرام الله لنبيه بالإسراء بروحه وجسده والذي ينبغي أن تعلمه -أيها المؤمن- أن هذه الآية دليل صريح على إسراء الله جل وعلا بنبيه صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل وعلا بـ (عبده) دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم أسري به جسداً وروحاً، ولم يكن رؤيا منام، ولو كان رؤيا منامية -كما سيأتي بيانه- لما تعجب منه الخلق، ولما كان في ذلك فتنة، ولا اختباراً ولا ابتلاء للناس، ولكنه إكرام من الله العلي الكبير لآخر الأنبياء حطنا من النبيين، ونحنُ حظه من الأمم صلوات الله وسلامه عليه. زانتك في الخلق العظيم شمائلٌ يغرى بهن ويولع الكرماءُ فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمسُ والجوزاءُ يتساءلون وأنت أطهر هيكلٍ بالروح أم بالهيكلِ الإسراءُ؟ بهما سموت مطهرين كلاهما روحٌ وريحانية وبهاءُ تغشى الغيوب من العوالمِ كلما طويت سماءٌ قُلدتك سماءُ أنت الذي نظم البرية دينهُ ماذا يقول وينظُم الشعراءُ المصلحون أصابعٌ جُمعت يداً هي أنت بل أنت اليدُ البيضاءُ صلى عليك الله ما صحب الدجى حادٍ وحنت بالفلا وجناءُ واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدنٍ آلك السُمحاءُ هذه هي الوقفة الأولى على وجه الإجمال كانت مع ما أخبر الله عنه من الإسراء بنبينا صلى الله عليه وسلم.

علو بني إسرائيل وإفسادهم

علو بني إسرائيل وإفسادهم الوقفة الثانية: مع قول الله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:4 - 8]. إن الله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، والقيادة الروحية للعالم توارثتها أمم عبر التاريخ كله، وآخر الأمم التي حملت القيادة الروحية بنو إسرائيل أتباع الملة اليهودية، ثم أورث الله جل وعلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيادة العالم روحياً -أي: ديناً وإيماناً- ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم. ووجه الارتباط بين قوله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وقوله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4] أن الله جل وعلا يخبر أمة اليهود على وجه الخصوص، وكل من يقرأ القرآن على وجه العموم بأن الله جل وعلا بعث نبياً أمياً جعله وجعل أمته قادة للعالم؛ لأن خليل الله جل وعلا الذي لم تبقَ أمة إلا انتسبت إليه وتشرفت به قال الله تعالى عنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]. وجمع الله له أرضين مباركتين، فوفاته كانت في أرض المقدس، وهو الذي بنى الكعبة، وأورث الله جل وعلا هذه الأمة أن بعث نبيها من مكة، ثم أسرى به إلى المسجد الأقصى ليأخذ إرث إبراهيم في المسجد الأقصى كما أخذ إرث إبراهيم مولداً في مكة، وليأخذ ما بينهما، فكانت هجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم في مدينته عليه الصلاة والسلام، فحاز عليه الصلاة والسلام المجد كله من جميع أطرافه الثلاثة. وقد اختلف العلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً سلفاً وخلفاً مفسرين وغير مفسرين فيما قاله الله جل وعلا في هذه الآيات، فالله تبارك وتعالى أخبر هنا: أن هناك علوين لبني إسرائيل وإفسادين، ويتبعها قهر ودحر مرتين، فقال جل ذكره: ((وإن عدتم عدنا)) وسأنقل أقوال العلماء إجمالاً، وبذلك نكتفي؛ لأننا لا نستطيع أن نرجح؛ لأن المسألة ليست بذات البيان الصحيح الصريح الواضح الذي نقدر على أن نرجّح فيه؛ لأنها لو كانت واضحة صريحة صحيحة بينة لما اختلف الناس من قبل فيها مع الاتفاق على أن هناك إفسادين لليهود، ودحراً لهم مرتين. فقد قال فريق من العلماء -وعليه أكثر من فسر القرآن من السابقين-: إن كلا الإفسادين تم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فعند هؤلاء أن قول الله جل وعلا ((وإن عدتم عدنا)) معناه أنهم أفسدوا في الأول، فسلط الله عليهم، ثم علوا وأفسدوا فسلط الله عليهم، ثم جعل الله منهم أنبياء كموسى وعيسى ويوشع بن نون، ثم إنهم بعد ذلك عادوا للإفساد، فسلط الله جل وعلا عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأجلاهم النبي عن المدينة، ثم أجلاهم عمر رضي الله عن من أرض تيماء. وقالوا: إنهم عادوا للإفساد في هذا العصر، فسلط الله جل وعلا عليهم النازي (أدولف هتلر) القائد الألماني المعروف، فحرقهم وأبادهم وأكثر القتل والتحريق فيهم، قالوا: هذا مصداقٌ لقول الله جل وعلا: ((وإن عدتم عدنا)) أي: إن عدتم للإفساد عاد الله جل وعلا لتسليط خلقه عليك. وقال آخرون: إن الإفساد الأول تم في أيام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهرهم الله على يد (بختنصر). والإفساد الثاني: ما هو حاصل اليوم في أرض بيت المقدس. وإن هلاكهم مرة أخرى سيكون على يد المسلمين، قريباً كان أو بعيداً عاجلاً أو آجلاً، فعلى يديهم يكون قهر اليهود وإخراجهم من بيت المقدس، كما قال الله جل وعلا: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7]، ويرد على هذا التأويل إشكالان: الإشكال الأول: أن الله جل وعلا قال عنهم: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] و (بختنصر) لم يكن مسلماً حتى يقال فيه: إنه من عباد الله، أي: الطائعين. والإشكال الثاني: كيف يفسر قول الله جل وعلا: ((وإن عدتم عدنا))؛ لأننا إذا قلنا إن إخراجهم مرتبط بخروج المهدي وقيام الساعة فإنه لا يصبح هناك أمل في أن يعودوا للإفساد بعد الإفسادين العظيمين اللذين أخبر الله عنهما. وقال آخرون: إن كلا الإفسادين والظهور لبني إسرائيل لم يقعا بعد، وإن هذا الذي نحنُ فيه من احتلال اليهود اليوم لأرض المقدس هو الإفساد الأول، ثم يقدر الله للمؤمنين إخراجهم منها، ولكنهم لا يخرجون إلا من الضفة الغربية فقط، ويعودون إلى تل أبيب، ثم يعودون مرة أخرى بنصرة الغرب لهم فيفسدون في الأرض ويخرجون المسلمين، ثم يقع مرة أخرى علو المسلمين عليهم فيكون إخراجهم من المسجد الأقصى؛ لقوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:5 - 6]، إلى أن قال: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7]. وقال آخرون بالتوقف، وهذا هو الأظهر، ويؤيده أن الله جل وعلا قال في آخر السورة: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، وقد كان السابقون من المفسرين يقولون: (اسكنوا الأرض) أي: مصر وبلاد الشام، وهذا عندي بعيد؛ لأن الله قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، ومن تأمل تاريخ اليهود يعلم أنهم كانوا قبل أن يجتمعوا في إسرائيل عام (1948) من الميلاد، كانوا متفرقين في أنحاء الأرض، فلما أقيمت دولة إسرائيل زحفوا من كل بقاع الدنيا، حتى إنه من اليمن وحدها خرج أربعة آلاف يهودي، وخرج من يهود الفلاشا من أرض الحبشة ومن يهود الدونمة من أرض الروس وغير ذلك من أصقاع الأرض عدد كثير، مصداقاً لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]. وقد قلت: إن كل قول يدخل عليه إشكال فنرى التوقف في الآيات، ولكن الله جل وعلا مُظهر دينه، ومبلغ رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد كتب الله لنبيه التمكين وزوى له الأرض، وسيبلغ ملك أمته ما زوى الله جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم منها.

الدعوة إلى العفاف والنهي عن الاقتراب من الفواحش

الدعوة إلى العفاف والنهي عن الاقتراب من الفواحش الوقفة الثالثة: مع قول تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. هذه الآية ذكرها الله في جملة آداب خاطب الله جل وعلا بها في أول الأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تبارك وتعالى كما بيّن للمؤمنين علاقتهم مع غيرهم من الأمم، بيّن لهم العلاقة بينهم في المجتمع المسلم على ما ينبغي أن تكون عليه، وأعظم ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم العفاف والحياء، ولقد جاء الدين كله بالعفاف والحياء، وبيان عظيم هذا الأمر عند الرب تبارك وتعالى، فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته)، وهذا تحذير للمؤمنين من رب العالمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالضد فيقول: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر. فهذه كلها آثار تبين أنه ينبغي على المسلم أن يتحلى بالعفاف والحياء، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم السبعة المقربين تحت ظل العرش فقال عن أحدهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله). فأعراض المؤمنات من أعظم ما حرمه الرب تبارك وتعالى، ولقد ساعدت الآلة المعاصرة على التصوير الفوتوغرافي والثابت والمرسل والمبعوث عن طريق أجهزة الجوال وغيرها، فيتسلط المسلم على مؤمن أو على مؤمنة، وعلى غلام أو على فتاة، أو على بيت مستور، أو على امرأة في دارها أو خارج دارها فيصورها فيجمع السقطاء من أصحابه والسفهاء من أقرانه ثم يعرض عليهم ما رآه، يفتخر بذلك ويبعثه إلى زيد وإلى عمر، وينسى هؤلاء قدرة الرب تبارك وتعالى عليهم، وأن الله جل وعلا يقول يوم القيامة: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] ويقول تبارك وتعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24]، وينسى أمثال هؤلاء أنه ما من أحد إلا وسيوسد التراب وتُحل عنه أربطة الكفن وسيسأله الملكان، ثم يبعث، وقد جاء في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه عند البخاري وغيره: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان، فيلتفت أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، ويلتفت أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه)، ومن علم ذلك حفظ على نفسه الدين وخشي الله جل وعلا في أعراض المؤمنات وإعراض المؤمنين، وعلم أن الرب تبارك وتعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] مع أن الآية آية مكية، ولكن الزنى وقتل النفس بغير حق والشرك بالله اتفقت جميع الشرائع على تحريم كل منها، فما من نبي إلا وحرم على أمته الشرك بالله، وحرم عليها قتل النفس بغير حق، وحرم عليها الزنا، فهذه الثلاث مما اتفقت عليه كلمة الأنبياء والمرسلين، وقد قيل: إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تمر على سلمى وواديها والمؤمن الحق يتقي الله جل وعلا ويعمل بمحكم القرآن، وبمواعظ نبينا صلى الله عليه وسلم، ويحذر من أن يتعرض للمؤمنين والمؤمنات، ويتذكر وقوفه بين يدي الله، وقد ينزع الله عنه الستر، وينزع الله عنه الحفظ وينزع الله جل وعلا عنه الكلأ، فيفضحه الله تبارك وتعالى على رءوس الأشهاد، وإن لم يكن ذلك في الدنيا فضحه الرب تبارك وتعالى في الآخرة، فيرى في قبره ما يتمنى معه أنه يعود إلى الدنيا حتى يتحلل من إيذاء المؤمنين والمؤمنات والتعرض لأعراضهن، والخوض في الحديث عنهن، عافانا الله وإياكم من ذلك.

التحذير من القول على الله بغير علم

التحذير من القول على الله بغير علم ومن جملة ما أدب الله جل وعلا به نبيه وأرشد إليه خلقه في هذه السورة المباركة قوله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. إن كون الإنسان يعطى حظاً من علم دلالة على توفيق الرب تبارك وتعالى له، ولكن الله يخاطب في هذه الآية أعلم الخلق بالله -نبينا صلى الله عليه وسلم- فيقول له: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] وإن من أعظم الكذب: أن يكذب الإنسان ويفتري على الرب تبارك وتعالى، ومن رزق العلم الحق رزق الخشية، ومن رزق الخشية خاف أن يقول على الله ما ليس به علم. فبادره وخذ بالجد فيه فإن آتاكه الله انتفعتا فإن أوتيت فيه طويل باعٍ وقال الناس إنك قد رؤستا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخٍ علمت فهل عملتا؟ ذكر الناس أن العرب في جاهليتهم كانوا يعمدون إلى رجل يقال له: عامر بن الضرب العدواني يحتكمون إليه في جاهليتهم إذا اختلفوا، فجاءه مرةً وفد من إحدى القبائل، فقالوا: يا عامر! وجد بيننا شخصاً له آلتان: آلة الرجل وآلة الأنثى، ونريد أن نورثه، فهل نحكم له على أنه أنثى أو نحكم على أنه ذكر؟ فمكث هذا الرجل المشرك أربعين يوماً لا يدري ما يصنع بهم، وكانت له جاريه ترعى له الغنم يقال لها: سخيلة، فقالت له في اليوم الأربعين: يا عامر! قد أكل الضيوف غنمك ولم يبقَ لك إلا اليسير، أخبرني. فقال: مالكِ ولهذا، انصرفي لرعي الغنم، فأصرت عليه، فلما أصرت عليه الجارية أخبرها بالسؤال وقال لها: ما نزل بي مثلها نازلة، فقالت له تلك الجارية التي ترعى الغنم: يا عامر! أين أنت؟ أتبع الحكم المبال. أي: إن كان يبول من آلة الذكر فاحكم عليه بأنه ذكر، وإن كان يبول من آلة الأنثى فاحكم عليه بأنه أنثى. فقال: فرجتها عني يا سخيلة. وأخبر الناس. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله معقباً على هذه القصة: هذا رجل مشرك لا يرجو جنة ولا يخاف من نار ولا يعبد الله، ويتوقف في مسألة أربعين يوماً حتى يفتي فيها، فكيف بمن يرجوا الجنة ويخاف النار؟! فينبغي عليه أن يتحرى إذا صُدِّر للإفتاء، ولقد أدركنا شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عندنا أنه جاءه وفد من الكويت يسألونه عن مسائل شرعية، والرجل في آخر أيام حياته، ولو قال قائل: إنه ليس على وجه الأرض آنذاك أحد أعلم منه لما ابتعد عن الصواب، ومع ذلك لما سألوه قال: لا أدري لا أدري لا أدري، فلما أكثروا عليه غَيَّر هيئة جلسته ثم قال: أجيب فيها بكتاب الله، فانتظر الناس الجواب، فقال -رحمه الله وغفر الله له-: أقول كما قال الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فلما أكثروا عليه رحمه الله قال: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، أما أنا فلا أحمل ذمتي من كلام الناس شيئاً، لا أدري، قال هذا وهو هو في منزلته وعلمه. والمقصود أن في هذا موعظة لكل من صدره الله، فلا يغتر بكثرة حضور الناس له، ولا يجب عليك أن تُجيب إن كنت لا تعلم، ولقد قالت الملائكة عند ربها: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]. ومن دلائل الخشية والتقوى: أن لا يقترب الإنسان من هذه الحُجز، وأن يقف عند ما أوقفه الله جل وعلا عليه، فلا يقول على عينه ما لم ترَ، ولا يقول على سمعه ما لم يسمع، ولا يتحدث على لسانه ما لم يقل، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].

فتنة الكافرين برؤية بيت المقدس والشجرة الملعونة

فتنة الكافرين برؤية بيت المقدس والشجرة الملعونة وومما سنقف عنده في هذه الآيات الكريمات قول الرب تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]. (الناس) عام أريد به الخصوص، والمراد به -على الصحيح- كفار قريش، والمقصود أن الله متمكن قادر عليهم، ومعلوم أن الله قادر عليهم وعلى غيرهم، ولكن المخاطبة بالآيات لكفار مكة. قال جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] ومعنى الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس فأين الفتنة في الرؤيا؟ وأين الفتنة في الشجرة الملعونة؟ الفتنة في الرؤيا هي: أن كفار قريش يؤمنون بعقولهم، ولا يؤمنون -كما يؤمن أهل الإيمان- بقلوبهم، فالفتنة أن الغدو والرواح من مكة إلى بيت المقدس يحتاج إلى أربعة أشهر، فإذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: إنه وقع في برهة من الليل فهذا بالعقل لا يقبل، ولكنه يقبل بالقلب إذا كان المرء مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يقول على ربه الكذب، وكفار قريش لم يؤمنوا ففتنوا بهذه الرؤيا. أما سادات المؤمنين -كـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه- فقد قالوا: نصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فكيف لا نصدقه بأنه غدا وراح إلى بيت المقدس في برهة من الليل؟! وهنا تأتي قضيه مهمة، وهي أن المؤمن يعلم أن ما أخبر به الله وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق، فنؤمن بكلام الله على مراد الله، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ذكر الأفذاذ -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]. والمؤمن الحق يعلم أنه لو لم يقدر على أن يفقه ذلك بعقله فإنه ما دام قد ثبت عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وجب قبوله وترك ما يرده عقله بالكلية، فالعقل مكتشف للدليل وليس منشئاً له، فهذه هي الفتنة في الرؤيا. وأما الفتنة في الشجرة فإن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم، والفتنة فيها أن العرب وغيرهم من الأمم يعلمون أنه لا يجتمع خضرة مع نار، والله يقول عن هذه الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لكفار قريش ما أخبره الله به: إن هذه الشجرة تنبت في أصل النار، فقال بعضهم لبعض متهكماً: ما يخبرنا به محمد جنون، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم؟! ونسي هؤلاء ومن تبعهم أن الله جل وعلا خلق الأسباب ومسبباتها. فالنار جعلها الله جل وعلا ذات قدرة على الإحراق، فالله أعطاها القدرة على أن تحرق البشرة والجلود وغيرها، فلما أراد الله إكرام خليله إبراهيم ووضع عرياناً صلوات الله وسلامه عليه في النار، أمر الله النار -وهو ربها وخالقها-: بأن تسلب عنها خاصيتها التي أعطاها -وهي الإحراق- فناداها ربها وهو أعلم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فالنار التي جرت السنن على بأنها تحرق لم تحرق؛ لأن الله جل وعلا سلبها تلك الخاصية، والشجرة لم يعطها الله في الدنيا خاصية أن تحيا في النار، فهذه الخاصية يعطيها الله جل وعلا في نار جهنم لشجرة الزقوم فتنبت، وهي طعام أهل النار، عياذاً بالله، فهذا كله بقدرة الرب تبارك وتعالى.

قدرة الله تعالى على خلق النقيضين والجمع بينهما

قدرة الله تعالى على خلق النقيضين والجمع بينهما ونحن نسلم بأن قدرة الله أعظم من هذا كله، بل إن الله قادر على أن يخلق النقيضين، بل إنه جل وعلا يجمع بين النقيضين في وقت واحد، فقد قال الله عن أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] فلو كانوا هؤلاء الفتية رأوا على أنفسهم تغيراً في الخلقة -بأن طالت أشعارهم، وأظفارهم، واحدودبت ظهورهم، وخطهم الشيب- لما قالوا: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) لكن الله جل وعلا أوقف الزمان الذي يجري علينا عن أصحاب الكهف فلم تجرِ عليهم أحكام الزمان، فلم تحدودب لهم ظهور، ولم يطل لهم شعر، ولم تنم لهم أظفار، ولم يخطهم الشيب، ولم يتغير منهم شيء، فهذا وقع من غير جمع للنقيضين. وأما النقيضان فقد جمعهما الله جل وعلا في قصة الرجل الذي قال عنه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] فأين الجمع بين النقيضين؟ إن الجمع بين النقيضين أن الله في مكان واحد أجرى الزمان على شيء ولم يجره على شيء آخر، فالحمار أجرى الله عليه أحكام الزمان فمات وأصبح عظاماً نخرة، والطعام لم يُجرِ عليه أحكام الزمان، فمكث الطعام مائة عام لم يفسد ولم يتغير منه شيء، ثم بعثه الله فشاهد بعينيه أحكام الله تجري على شيء ولا تجري على شيء آخر، وهذا كله بقدرة الرب تبارك وتعالى، والحكمة وراء ذلك كله بيان: أنه لا يقدر على هذا الصنيع إلا الله، فلا يمكن لأحد مهما بلغت قوته، وعظمت سطوته، وجل سلطانه أن يقدر على أن يصنع هذا الشيء أبداً، فهذا من خصائص الله التي جعلت ذلك العبد يقول لما رأى الآية بأم عينيه في طعام له مائة عام لم يفسد وحمار أصبح عظاماً نخرة: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] ومن علم أن الله على كل شيء قدير فإنه إذا ذكر بآيات الله يخاف، ولذلك قال الله مختتماً آية سورة الإسراء: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]. فلنأخذ خسوف القمر مثلاً، فإن القمر يخسف فيراه أقوام فيتعجبون ويمضون، ويراه أقوام ربما كانوا يلعبون الورق، فتارة ينظرون إلى القمر وتارة يكملون ما هم فيه من اللهو، ويراه رجل مشغول بالبحوث العلمية، فيدون ذلك الخسوف يومه وليلته ونهاره وساعته ودخوله وابتداءه ونهايته، ويراه رجل لا يدري ما خسوف القمر. ويراه مؤمن -جعلنا الله وإياكم مثله- فيتذكر فيه سطوة الجبار جل جلاله، فيخشى الله ويخافه وتتسابق خطواته إلى المسجد يفزع إلى الله جل وعلا ويتذكر قول الله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وقول الله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]. فإذا أردت أن تعرف أين مقامك عند الله فانظر كيف حالك عند آياته، فإذا كانت آيات الله التي يجريها في الكون لا تزيدك إلا عبثاً ولهواً وطغياناً وفساداً فأنت بعيد عن الله. وإن كانت آيات الله التي تراها في نفسك أو في الكون أو تسمع بها أو تشاهدها أو تقرأ عنها لا تزيدك إلا خوفاً وفرقاً ووجلاً من رب العزة والجلال؛ فإنك على حظ عظيم من الدنو من الله. فالرسول الخاتم الذي جعله الله جل وعلا أمنةً لأمته كان إذا رأى تكاثر الغيم أخذ -صلى الله عليه وسلم- يغدو ويروح خوفاً من أن يكون عذاباً وسخطاً، فتتغير أسارير وجهه حتى يكشف عنه ويقول: (يا عائشة! وما يدريني أنه عذاب)، مع أن الله جل وعلا يقول له: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فصلوات الله وسلامه عليه. والغاية من هذا أن يعلم العبد أن القلوب أوعية، ولا تنشغل إلا بما ملئت به، فقلوب ملئت بحب النساء، وقلوب ملئت بحب الغناء، وقلوب ملئت بحب الغلمان، وقلوب ملئت بحب الأسفار، وقلوب ملئت بحب الريال والدولار، وقلوب ملئت بغير ذلك، وقلوب مؤمنة صادقة ملئت بحب الله جل وعلا، فكل ما تراه يذكرها بالله جل وعلا، فتحبه وتجله وترجوه وتخافه سبحانه وبحمده، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك، اللهم إنا نعوذ بك من أن نعدل بحبك أحداً كائناً من كان. والمقصود والغاية أن العبد إذا أحب الله يفقه كلام الرب جل وعلا، فإذا قال الله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وإذا قال الله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60] جعله حبه لله يلجأ إلى الله ويخافه ويخشاه ويرجوه، ويبتعد عن معاصيه، ويستغفر الله دائماً وأبداً؛ لأنه لن يخلو أحد من معاص، ولن يسلم أحد من ذنوب، وإلا لما شرع الله تبارك وتعالى أن يستغفره عباده ويخافوه

دعوة كل أناس بإمامهم يوم القيامة

دعوة كل أناس بإمامهم يوم القيامة ثم نقف عند قوله سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71]. اتفق المفسرون على أن هذه الآية المقصود بها يوم القيامة، ولكنهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا: (بإمامهم) على أقوال ثلاثة مشهورة، وقول غير مشهور. أما الثلاثة المشهورة فإن من العلماء من قال: إن معنى قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) أي: بكتابهم، ثم اختلفوا في المقصود بالكتاب، فمنهم من قال: الكتاب الذي أنزل على نبي تلك الأمة، فيقال للمسلمين: يا أهل القرآن، ويقال لليهود: يا أهل التوراة، ويقال للنصارى: يا أهل الإنجيل. وقال آخرون: المقصود الكتاب، ولكن لكل إنسان كتاب بنفسه، وحجة هؤلاء قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] فسمى الله جل وعلا الكتاب إماماً، وحجة الأولين قول الله جل وعلا: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، فوصف الله جل وعلا كتاب موسى -وهو التوراة- بأنه إمام. القول الثاني: أن المقصود بـ (إمام) هنا العمل، فقالوا: إن المعنى: ينادى كل إنسان بعمله، فيقال: أين الصابرون على المقدور؟ أين الممتنعون من المحذور؟ أين أهل الصلوات؟ أين أهل كذا؟ وقالت طائفة: المقصود بكلمة (إمام) القدوة، فيقال: أين أتباع موسى؟ أين أتباع عيسى؟ أين أتباع نوح؟ أين أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وذهب محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ورحمه إلى قول غير ذلك، وهو أحد سادات التابعين، وأصله يهودي، فقد كان أبوه كعب ممن لم ينبت يوم بني قريظة فسلم من القتل، ثم أسلم وتزوج وأنجب محمداً هذا، وهو من أئمة التفسير رحمه الله تعالى. ومما يروى عنه من جميل خصاله: أنه رزق مالاً وفيراً، فقيل له ادخر هذا المال لولدك، فقال: بل ادخر هذا المال لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي. فـ محمد بن كعب رضي الله عنه قال في تفسير هذه الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]: المقصود: يوم ندعو كل أناس بأمهاتهم، فلا يقال: فلان ابن فلان، وإنما يقال فلان ابن فلانة. وقال: إن الحكمة من وراء ذلك إظهار شرف عيسى ابن مريم أولاً، والأمر الثاني: الستر على أولاد الإثم. قال القرطبي رحمه الله: في هذا القول نظر، وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: هذا قول باطل، واحتج عليه بحديث ابن عمر مرفوعاً أنه (يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان). ونرى -والله اعلم- أن القول مقبول، ولا يقال في حقه: باطل، بل هو مقبول إلى حد ما، والأقوال الأخرى أرجح، والمفسرون مجمعون على أن المقصود من الآيات، ذكر أهوال يوم القيامة، وأن أخذ الصحائف بالأيمان أو بالشمال من أهوال وكرب يوم القيامة التي منها الميزان والصراط والدنو من الحوض أو البعد عنه والاستظلال بظل العرش أو النأي عنه، وكل ذلك من أهوال يوم القيامة أجارنا الله وإياكم منها.

الروح وتعلقها بالجسد

الروح وتعلقها بالجسد يقول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. هذه الآية المشهور عند العلماء أنها مدنية، وقد جاء فيها أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عليه ملأ من يهود فقال بعضهم: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم سألوه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]) ولا ريب في أن أهل علم الحديث وأهل الفلسفة ومن تكلم في أمور عدة وتصدر لعظيم الفنون قد عجزوا عن مسألة الروح، وحق لهم أن يعجزوا، وأنى لهم أن يدركوا ذلك، والله يقول: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]؟! وسنتكلم عنها إجمالاً وفق ما جاء في الكتاب والسنة، فالروح خلق من خلق الله، ينفخ في جسد ابن آدم وهو جنين في بطن أمه فتدب فيه الحياة، فهذا أول تعلق الروح بالجسد، ثم يكون تعلق آخر، وهو الثاني بعد الولادة، ثم تعلق ثالث حال حياة البرزخ، ثم تعلق رابع -وهو أكملها وأتمها- بعد البعث والنشور؛ إذ لا فراق بعده. هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع هبطت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجع هذا قول فلسفي لـ ابن سينا يصح في أوله، وهو فاسد في آخره. والذي يعنينا أن هذه أنواع التعلق الأربعة للروح بالجسم، ولكن الميت -وإن فارقت روحه جسده، وهذا حقيقة الموت- تتصل به اتصالاً لا نعلم كنهه، كما دلت السنة عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يسمع قرع النعال)، وأخبر بأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول لأصحابها الذين يحملونها: قدموني قدموني، وإذا كانت غير ذلك تقول يا ويلها، أين تذهبون بها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلى بدر من أهل الإشراك، وقال لـ عمر: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فهذا كله نوع من التعلق. والميت -وإن كان ميتاً في قبره- ينتفع ببعض الأعمال التي يصنعها من يحبه له في الدنيا، وأعظمها الدعاء والحج والعمرة والصدقة، فهذه الأربع ثابتة، ومثلها الصدقة الجارية، وبقية الأمور فيها خلاف بين العلماء، وقد ذكروا أن رجلاً كان بينه وبين بيته والمسجد مقبرة، فإذا مر على الطريق يمر على المقبرة فيدعوا لهم قائلاً: (اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم) يصنع هذا كل ليلة، وفي ذات ليلة قُدر له أن ينساهم، فلما نام رأى في منامه رجالاً يلبسون ثياب بيضاً، فقال من أنتم يرحمكم الله؟ قالوا: نحنُ أصحاب هذه المقبرة التي بجوارك، كان الله يفرج عنا كل ليله بدعائك، فلما تركتنا هذه الليلة لم يأتنا من فرج الله شيء. ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته زيارة القبور لغرضين شرعيين: الاتعاظ بحالهم، ونفعهم بالدعاء لهم لا بالانتفاع منهم، فإنهم لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- حولاً ولا طولاً ولا حياةً ولا بعثاً ولا نشوراً.

القرآن المعجزة الكبرى

القرآن المعجزة الكبرى الوقفة الأخيرة مع قول الله جل وعلا {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، هذا القرآن معجزة نبينا الكبرى صلوات الله وسلامه عليه. الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباغي المعجزات غناءُ أنزله الله جل وعلا على خير خلقه صلى الله عليه وسلم منجماً على ثلاثة وعشرين عاماً، وأخبر الله أنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال الصلد، والحجارة الصماء لتشققت من خشية الرب تبارك وتعالى، ولما تسمع من إنزال الذكر عليها.

وقفة مع الزهراوين

وقفة مع الزهراوين وسنقف هنا مع سورتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما فرقان من طير صواف أو غمامتان أو غايتان يحاجان عن أصحابها)، وقد اختلف العلماء في سبب تسمية هاتين السورتين بالزهراوين على ثلاثة أقوال: فقال بعض العلماء: إنما سميتا بالزهراوين لما يزهر للمؤمن عند تلاوتهما من معانيهما ونور قراءتهما. وقال آخرون: لأنه يرزق الإنسان بهما النور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون في الدنيا تقدمهم البقرة وآل عمران). وقال آخرون: إنما سميتا بالزهراوين لأنهما اشتملتا على اسم الله الأعظم، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما اخرج أبو داود وابن ماجة من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن بسند حسن-: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] والتي في آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]). ونقول وفق قواعد التفسير: يصح أن يقال: إنما سميتا بالزهراوين لهذه الثلاثة الأقوال كلها؛ لأنه لا تعارض بينها، وقد تضمنت سورة البقرة أعظم آية في كتاب الله، وهي آية الكرسي، وختمت سورة البقرة بآيتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم: (من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وختمت سورة آل عمران بقول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما أنه نام عند خالته ميمونة أخت أم الفضل، وأم الفضل أم ابن عباس، فـ ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم خالة ابن عباس، فنام عندها وهو صبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل، فأول ما بدأ به عليه الصلاة والسلام أنه مسح النوم عن عينيه، ثم تلا العشر الأواخر من آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] حتى ختمها صلوات الله وسلامه عليه، ثم قام إلى شنٍ معلق فتوضأ ثم فصلى وابن عباس يرقبه رضي الله عنهما وأرضاه. فهذا -أيها المؤمن- بعض ليل نبيك صلى الله عليه وسلم، فلينظر أحدنا كيف يقضي ليله، سترنا الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة، ووفقنا الله وإياكم لاتباع سنة نبيه. نقول: العشر الأواخر من سورة آل عمران كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يفرك النوم عن عينيه ثم يتلوها ثم يصلي، وفي سورة البقرة ذكر الله جل وعلا آية الكرسي، وفي سورة آل عمران ذكر الله جل وعلا آية عظيمه جليلة قال فيها: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، وهذا كمثل ذكرناه، وإلا فالقرآن كله تجب قراءته، وفيه من الفضل ما لا يخفى على أحد. ولقد قال محمد بن إبراهيم التيمي رحمه الله: من لم يبكه القرآن وقد أوتي علماً فخليقٌ أن لا يكون قد أوتي علماً، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:108 - 109]. فهي من أعظم الآيات التي ترقق القلوب، وتدل على الرب تبارك وتعالى، وإن من تعظيم القرآن الذي قال الله تعالى فيه: {فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106] أن يؤمن الإنسان بمحكمه ومتشابهه، ويعمل بمحكمه ويخضع لأوامره ويجتنب نواهيه، ويتذكر قول الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. هذه وقفات منّ الله علينا بطرحها بين أيديكم حول سورة الإسراء، وكتاب الله جل وعلا أعظم وأجل من أن يستنبطه منه فرد أو شخص كائناً من كان، وإنما فيه من الغُرر والدرر ما لم نحط به علما، وفيه ما أحطنا به علماً ولكن لا يتسع الدرس لقوله، وفيه من وراء ذلك ما اختص الله جل وعلا بعلمه. والله المستعان وعليه البلاغ، ونسأل الله القبول، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الدر المنثور

الدر المنثور جمع الله تعالى في القرآن جميع نواحي التأثير، حيث أنزله الله عز وجل متضمناً للإعجاز في البلاغة والفصاحة، ومتضمناً للإعجاز في علومه، كما أنزله متضمناً بيان عظيم تدبر آياته التي ذكر الله تعالى فيها أسباب رفعة مقام العبد، وفضل انقطاعه إلى ربه، وعظيم منته على عباده، وكمال اتصافه بعلي الصفات، والأمر الذي يقع أثره على قلب المؤمن عند تدبره لا محالة.

فضل لزوم تلاوة القرآن وتدبره

فضل لزوم تلاوة القرآن وتدبره بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين، آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجّلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فإن الأيام لابد لها من أن تقضى وإن الليالي لابد لها من أن تنتهي، وإن الأعمار لابد لها من أن تطوى، والله جل وعلا أراد بنا أشياء وأمرنا بأشياء، وليس من الحكمة أن ننشغل بما أراده بنا عما أمرنا به، والله تبارك وتعالى إذا كان قد أخبر بأن الدنيا فانية، وأن الأعمار ذاهبة، فإن أيام العبد ولياليه ما شغلت بشيء أعظم من تدبره لكلام ربه جل جلاله، وتأمله في آيات القرآن العظيم إما بأن يتلوه، وإما بأن يتدبره، وإما بأن يمن الله عليه بالجمع بين الأمرين، قال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29 - 31]. فإذا أراد الله بعبد خيراً ألزمه كتابه المبين يتلوه ويتدبره يقرأه في النهار، ويقوم به يدي ربه في الليل، قال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].

منة الله تعالى على خلقه

منة الله تعالى على خلقه وذكر الله جل وعلا نتفاً من أخبار أهل طاعته وأوليائه أنهم يجتمعون يوم القيامة في الجنة كما يجتمعون في الدنيا، قال الله جل وعلا عنهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28]، فمنن الله جل وعلا على خلقه عامةً فيما سخره لهم أو على أفراد من عباده، كل ذلك تضمنته بعض آيات الكتاب العزيز. فنقول والله المستعان: إن وجود المنن يدل على وجود المنان جل جلاله، كما أن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وعظمة المصنوع تدل على عظمة الصانع، فإن وجود المنن على العباد دلالة على أن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه، والله تبارك وتعالى له على عباده المنة السابغة، والحكمة البالغة، وهو -تبارك وتعالى- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا شريك معه ولا رب غيره ولا وزير له، تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد، لا يتعاظم شيئاً أعطاه، يده سحاء الليل والنهار، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. فهو -تبارك وتعالى- رب ذو فضل كريم العطاء واسع السخاء، ولا يمكن أن تكون هناك منن حتى يكون هناك رب عظيم جليل كريم رحمن رحيم يهب ويعطي، يخلق ما يشاء ويختار، والعلم بأن الله جل وعلا هو وحده المنان القادر على أن يهب من أعظم ما يجعل العبد عرضة لرحمة الله ونفحاته وعطاياه ومننه تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:89 - 92].

لا يضيع عند الله صنيع

لا يضيع عند الله صنيع إن الله -كما أنه رب ذو فضل جل جلاله- حكم ذو عدل، فالله لا يظلم الناس مثقال ذره، وإن تكُ حسنه يضاعفها، ويعطي خيراً مما أخذ من العبد، فهو -جل وعلا- حكم عدل، وقبل أن تشرع في فهم منن الله جل وعلا على عباده يجب أن تفقه أنه لا يضيع عند الله شيء، فقد قال يوسف عليه السلام يمدح ربه ويثني عليه كما حكى الله عنه في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]، وربنا يقول: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران:115].

لطائف قرآنية في إعجاز القرآن

لطائف قرآنية في إعجاز القرآن فالقرآن العظيم فيه من البلاغة وفيه من الإعجاز ما يحتوي على الإعجاز في لفظه والإعجاز في معناه، فكما يخبر الله عن المنن إظهاراً أحياناً يخبر عنها جل وعلا من باب الإضمار أحيانا. فالإظهار يكاد يعرفه كل أحد، وما أضمره الله جل وعلا من منن على بعض عباده هو الذي يتنبه له العلماء ويسابق فيه الأخيار الذين من الله عليهم بقدرته بأن يتدبروا كلام ربهم تبارك وتعالى. فمن دلائل إعجاز القرآن: أن الله ذكر في كتابه المشرق والمغرب، ذكرهما مفردين، وذكرهما على هيئة التثنية، وذكرهما على صيغة الجمع، وكل ذكر لهما كان يحاذي السياق العام الذي جاء فيه، فلما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة -وهو حق مطلق له تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد- قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فأفرد الله ذكر المشرق، وأفرد ذكر المغرب، ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه، والتبتل إليه، وذكر وحدانيته، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9]. فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الإفراد؛ لأن السياق والمنحى العام للآيات يتطلب هذا، ولا ملزم على الله فلما خاطب الله الثقلين الجن والأنس، فقال جل ذكره: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:14 - 16]، وكان الخطاب للاثنين ثنى جل وعلا المشرق والمغرب، ولم يذكرهما مفردين، فقال جل ذكره: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:17 - 18]. ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا صلى الله عليه وسلم، واختلافهم فيه -أي: القرشيين- فهذا يصدقه، وهذا يكذبه، والمكذبون له منهم من يقول: إنه مجنون، ومنهم من يقول: إنه ساحر، ومنهم من يقول: إنه كاهن، ومنهم من هو متوقف فيه، لما ذكر تعالى ذلك قال جل ثناؤه وتبارك اسمه: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:37 - 40]، فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني السياق العام والمنحى الذي جاء في الآيات، أي: لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن وفي فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني مفرقاً: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40]، وما يقال عن هذا السياق يقال كذلك عن التقديم والتأخير في كلام رب العزة جل جلاله. فقد ذكر الله جل وعلا أولي العزم من الرسل في سورتين من كتابه هما الأحزاب والشورى، فقال في الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، فلما ذكر الله جل وعلا فضيلة الرسل بدأ بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليه، فقدمه، ثم ذكر الأنبياء بحسب ظهورهم التاريخي فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، فعلى هذا الترتيب كان ظهورهم التاريخي. فلما أراد الله ذكر الدين بيان أن الدين قديم قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الله بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما بدأ بنوح؛ لأنه أول من بعث بالرسالة، وأول رسل الله إلى أهل الأرض، فقال جل ثناؤه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فذكر الله جل وعلا أول الرسل، ولم يذكر أشرفهم وسيدهم؛ لأن الكلام عن الدين، وليس الكلام عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الوصية والدين، والفقهاء متفقون على أن الدين مقدم في إنجازه على الوصية، ومع ذلك قال الله تبارك اسمه وجل ثناؤه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، فقدم الوصية على الدين؛ لأن الدين يوجد من يطالب به، وأما الوصية فالغالب أنه لا يعلمها الفقراء، فلا يطالبون بها، فقدم الله جل وعلا ما حقه الاهتمام على ما يمكن تأجيله وإرجاؤه. وهذا كله مندرج في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي كما هو معجز في معناه، ولا ريب في أنه كتاب من عند رب العالمين، فلا غرو ولا عجب أن يكون بهذا الأمر.

أسباب رفعة مقام العبد عند ربه

أسباب رفعة مقام العبد عند ربه على العبد أن يعلم أن الله تبارك وتعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، فإن العطايا والمنن -إذا كانت عطايا دينية- إنما تكون على قدر ما للرب جل وعلا من تعظيم وإجلال في قلب ذلك العبد، والأنبياء والمرسلون يدركون مقامهم عند الله؛ لأنهم يعلمون مقام الله في قلوبهم، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مرت عليه أيام لم يكن أحد على الأرض يعبد الله غيره، فكان يعرف ما له عند الله جل وعلا من رفيع المقام، فلما ابتلي بأبيه قال لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، ثم قال يبين مقامه عند الله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] أي: إنني أعلم من ربي أنه يحتفي بي ولي عنده مقام عظيم؛ لأن إبراهيم يعلم ما في قلبه من تعظيم وإجلال ومحبة وخوف من الله جل وعلا. والله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أراد أن يكون له عند الله جل وعلا المقام الرفيع، فلتكن لله جل وعلا العظمة في قلبه، والمحبة، والإجلال، والخوف، والعبادة، والتقوى، وكل ما أمر الله تبارك وتعالى به، وهذا من أعظم ما تستدر به نعم الله وتستدفع به النقم، أعطانا الله ووهبنا وإياكم من نعمه، ودفع الله عنا وإياكم من النقم أكثر مما نخاف ونحذر.

فضل التبتل والانقطاع إلى الله تعالى

فضل التبتل والانقطاع إلى الله تعالى قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:6 - 9]. والتبتل والانقطاع إلى الله جل ذكره من أعظم أسباب التوفيق، بل إنه من أجل مقامات الصديقين وأعظم منازل السائرين في دروب (إياك نعبد وإياك نستعين)، فإن الله تبارك وتعالى جعل من الانقطاع إليه سنة ماضية في الأخيار من خلقه، والأفذاذ من عباده، والأتقياء من الصالحين، قال الله لخير الخلق: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9]. وهذا الانقطاع إلى الله جل وعلا -كما بينا- منزلة عظيمة ذكرها الله جل وعلا في سورة الزمر في مواطن متفرقة، فذكرها تارة بالتصريح، وذكرها تارة بالتضمين، فقال جل وعلا بالتصريح: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، وقال جل ذكره: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، فهذه الآيات وما أشبهها ومثيلاتها في هذه الصورة دعوة للمؤمن إلى أن ينقطع إلى ربه، والانقطاع إلى الله معناه: أن الإنسان لا تقر عينه بشيء أعظم مما تقر عينه بالله، وما يكون مقرباً من الله من شيء تكون قرة عينه به، فهذه إحدى معاني الانقطاع إلى الرب جل وعلا، وهذا ينجم عنه صدق التوكل على الله جل وعلا، وسيأتي بيانه تفصيلاً في قوله جل وعلا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].

آثار العلم بملك الله للضر والنفع

آثار العلم بملك الله للضر والنفع والآيات في هذا الشأن كثيرة، ولكنها تدور على محور واحد، وهو أنه لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعاً، وما دام أنه لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعاً فلا يجوز للمؤمن أن ينقطع إلى غير الرب تبارك وتعالى، وهذا من الحقائق العظيمة التي أرادها الله جل وعلا أن تثبت في قلوب عباده المؤمنين. ولذلك فالناس فريقان: فريق إذا ذكرت الله وحده عنده، وكان حديثك معه فيما يتعلق بقدرة الله وجلاله وفضله وكمال عزته كان فرحاً مسروراً مستبشراً. وفريق آخر -عياذاً بالله، وأجارنا الله وإياكم من ذلك- يحب أن يذكر مع الله غيره، فلا يفرح إذا ذكرت لله وحده، وإنما يستأنس إذا ذكرت أن للأولياء والصالحين من الأنبياء أو من الملائكة أو من الأتقياء منزلة ومكانة، فينقل أقاصيص مكذوبة عنهم، فتستبشر نفسه، وتفرح إذا ذكر مع الله جل وعلا أحد غيره، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]. قال السيد الألوسي رحمه الله -وهو أحد علماء السنة في العراق-: وقد وجدنا هذا في بعض أهل زماننا، إذا تكلمنا عن الله وكمال قدرته جل وعلا وحده ضاقوا بنا ذرعاً، وإذا ذكرنا ما للموتى من الصالحين في قبورهم من قدرات وما أعطاهم الله جل وعلا من عطايا يحسبونها موجودة وهي ليس فيها إلا الوهم ظنوا بنا الظنون، وأنكروا علينا الأمر، وهذا كله - والعياذ بالله - من عدم كمال الانقطاع إلى الله جل وعلا، ومن انقطع قلبه إلى الله جل وعلا وحده علم أن أي أحد من الخلق لا يمكن أن يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن ملكه لغيره. ويروى عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه أهمه أمر ذات يوم، فرأى في منامه من يقول له يا أبا عبد الله! قل في دعائك: اللهم أني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية. ففرج الله عن هذا العبد الصالح همه بعد أن ذكر هذا الدعاء. وموطن الشاهد منه أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله، فما دام أن الأمر إلى الله فإن أعظم مقامات التوحيد أن يفر المؤمن إلى الله جل وعلا وينقطع إليه وحده دون سواه كما قال العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

عظم البلاء بقسوة القلب

عظم البلاء بقسوة القلب ومما دلت عليه هذه السورة الكريمة من قضاياها أن الله جل وعلا ما ابتلى أحداً بذنب أو بلاء أو عقوبة أعظم من قسوة القلب، قال وهب بن منبه رحمه الله: ما ابتلى الله قوماً بشيء أعظم من قسوة قلب، قال الله جل وعلا: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]، و (من) هنا اختلف العلماء في بيانها نحوياً ولغوياً، ولكن الأظهر -كما اختاره الطبري رحمه الله- أنها بمعنى: (عن)، فيصبح معنى العبارة: فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله. وأما قوله جل شأنه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] فقد قال العلماء في بيانه جملةً: إذا كان القلب معرضاً عن الله ملتفتاً إلى غيره فهو قلب قاس، وإذا كان القلب مقبلاً على الله معرضاً عن غير الله فهو القلب اللين، وما ابتلى العبد بشيء أعظم من أن يتعلق بالأشباح والصور من دون الرب تبارك وتعالى، ويعرض عن الله، فيجد أنسه وفرحته في مجالس لا يذكر الله جل وعلا فيها طرفة عين، ويجد فرحته وأنسه في مواطن يُعصى الله جل وعلا فيها جهاراً، ويجد أنسه ورغبته وحياته في سفر بعيد عن مواطن يرفع فيها الآذان، وتقام فيها الصلوات. أما الذين ألان الله جل وعلا قلوبهم فإنهم -وإن قرت أعينهم ببعض المجالس المباحة- لا تقر أعينهم وقلوبهم بشيء أعظم من مواطن يذكر الله جل وعلا فيها.

بيان أعظم ما تلين به القلوب

بيان أعظم ما تلين به القلوب فلما ذكر الله قسوة القلب -والله رحيم بعباده- أردف جل وعلا ببيان أعظم ما يلين القلوب، فقال جل ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فبين جل وعلا أن أعظم ما يلين القلوب هو ذكر الله جل وعلا، وأعظم ذكر للرب تبارك وتعالى تلاوة آياته وتأملها وتدبرها، وهو ما نحن فيه في هذا الدرس تقبل الله منا ومنكم صالح أعمالنا.

دعوة الله تعالى عباده إلى التوبة

دعوة الله تعالى عباده إلى التوبة قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. جمهور أهل التفسير على أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، قالوا: أضاف الله جل وعلا العباد إلى ذاته العلية، وأخبر بأنهم مسرفون في الذنوب، ثم أخبر جل وعلا بعد ذلك كله أنه يغفر لهم، وهذا من أعظم القرائن على أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله، وقد قال بعض أهل العلم: إنها آية مدنية نزلت في وحشي قاتل حمزة، فإذا كان قاتل حمزة قد غفر الله له مع أن حمزة كان أسد الله محبباً مقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عمه وأخوه من الرضاعة، فإذا كان الله جل وعلا قد قبل توبته وإنابته، فما بالك بغير ذلك من الذنوب، فالله جل وعلا أرحم الرحماء، ولذلك قلنا: إنه ذو فضل، ولكنه جل وعلا حكم ذو عدل لا يظلم الناس مثقال ذره، وهذا قد ذكره الله في هذه السورة، فإن الله ذكر أهل الكفر فقال: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، ثم بين عدله جل وعلا فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، فهنا ميز جل وعلا بين المعرضين عنه والمقبلين عليه، وذكر أعظم صفات المقبلين عليه، فقال جل ذكره: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. فمعنى الآية إجمالاً: أن هذا الموصوف بهذه الصفة من عباد الله، وإن كان أكثر أهل العلم يقول: إنها تنطبق على عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه كما حكي ذلك عن ابن عمر وغيره، ولكنها عامه في الأمة كلها. وهذا القنوت جاء في الآية مبهماً، ولكن السنة بينت، حيث قال صلى الله عليه وسلم -كما أخرجه الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بسند صحيح من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه-: (من قرأ بمائة آية من القرآن في ليلة كتب له قنوت ليلة)، فأيما عبد أراد بقيامه بين يدي الله رحمة الله، فلا هم له إلا أن يرحمه الله، وفي نفس الوقت يتلو مخافةً من عذاب الله، فتلا مائة آية من القرآن أو يزيد في ليلة واحدة، ولو في عدة ركعات كتبه الله جل وعلا من القانتين، وهذا سياق مدح عظيم من رب العالمين تشرئب إليه الأعناق وتنقطع دونه أمور الوصال. قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9]، فقدم الله السجود على القيام؛ لأن العبد لا يكون في موضع هو فيه أقرب إلى الله جل وعلا من موضع السجود، فلهذا قال سبحانه: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، الذين يعلمون أن الله وحده أحق بأن يعبد، والذين لا يعلمون أن الله إله واحد، فلم يعبدوه، وإنما يعرف الفرق بين الأمرين والتفريق بين الحالين من كان ذا لب وعقل وإنصاف، ولهذا قال جل ذكره وتبارك اسمه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].

كمال فضل الله وعدله

كمال فضل الله وعدله والله رب ذو فضل، قال الله جل وعلا في آخر السورة: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الزمر:75] أي: بين أهل الكفر وبين أهل الإيمان، قضي بينهم بالحق، ولم يقل الله جل وعلا: (بالعدل) هنا؛ لأنه أدخل الجنة من كان له ذنوب وأخرج من النار من كانت له ذنوب، والجنة والنار مخلوقتان لله تبارك وتعالى، فهو خالق الجنة وخالق النار، يدخل من يشاء الجنة بفضله، ويدخل من يشاء النار بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، جعلني الله وإياكم ممن كتب الله لهم الحسنى من قبل.

عاجل بشرى المؤمن

عاجل بشرى المؤمن ومن البشارات أن يكتب الله جل وعلا لأحد من الناس قبولاً في الأرض ومحبةً من الناس وذكراً طيباً، قال صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن)، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من السرائر يصنعها العبد. ويحكى عن رجل من الصالحين يقال له: أبو عثمان النيسابوري أنه كان محبوباً عند الناس، ففي آخر حياته جاءه رجل فقال له: يا أبا عثمان! إنك لست إماماً ولا خطيباً، وإنني أجد الله قد وضع لك قبولاً في الأرض ومحبة، فأسألك بالله إلا أخبرتني بأرجى عمل عملته في الدين. فوافق الرجل على أن يخبره شريطة ألا يحدث به الناس إلا بعد موته، فحدث به السامع بعد موته. قال: يا هذا إنه جاءني رجل ذات يوم أظنه من أهل الصلاح، فقال لي: إني أريد أن أزوجك ابنتي. فقبلت، فلما دخلت عليها إذا هي عوراء شوهاء عرجاء لا تحسن الكلام، وليس فيها من الجمال مثقال ذرة، فلما رأيتها رضيت بقضاء الله وقدره، فأقمت معها خمسة عشر عاماً، ففتنت بي وليس في قلبي نحوها من الهوى والميل مثقال ذرة، ولكنني كنت صابراً عليها أحسن إليها ولا أخبرها عما في قلبي إجلالاً لله تبارك وتعالى حتى توفاها الله جل وعلا. وكان من تعلقها بي أنها تمنعني من أن أذهب إلى المسجد وإلى أقاربي وأصدقائي، وتريدني طيلة النهار أن أكون معها، فأطيعها في كثير من الأحيان، ولم أخبر بهذا أحداً، ولم أشك أمري إلى أحد غير الله، وفعلت ما فعلت إجلالاً لله، فإن كان الله كتب لي قبولاً فإني أرجو أن يكون بسريرتي هذه. فمن أعظم ما تتقرب به إلى ربك أن يكون بينك وبين الله جل وعلا سريرة لا يعلمها أحد من الخلق تدخرها لنفسك بين يدي الله في يوم تكون أحوج ما تكون فيه إلى ما يكسو عورتك ويطفئ ظمأك، ويجعلك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. فأعمال السرائر إذا أخلص العبد لله فيها النية، وكان له عمل، سواء أكان عملاً عبادياً محضاً بينه وبين الله، أم عملاً بينه وبين الخلق، كإحسان إلى والده، أو قيام على أرملة أو عطف على يتيم، أو غير ذلك مما شرع الله مما لا يمكن لي ولا لغيري أن يحصيه، إذا جعل ذلك سريرة يدخرها بينه وبين الله كان ذلك من أعظم البشارات، فتأتيه بشارته في الدنيا قبل الآخرة، ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! إنني ما دخلت الجنة إلا ووجدت دف نعليك أمامي)، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الجنة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فكلما دخلها يسمع صوت خشخشة نعلي بلال رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (فأخبرني -يا بلال - بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ فقال: يا رسول الله! إنني ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لله ما شاء الله لي أن أصل). فهذه سريرة أظهرها بلال لعارض، وعظمتها في المداومة عليها، وأحب العمل إلى الله جل وعلا أدومه، وكلما ابتلي الإنسان ببلاء ونجح في الابتلاء كان ذلك بشارة من الله له بالثبات يوم القيامة يوم تزل الأقدام، والله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يهبك هبة وينزل منزلة حتى يؤهلك للوصول إليها، فإذا أراد الله لك منزلة أعطاك ما يعينك على الوصول إليها، إما بالفقد، وإما بالعطاء، فإما أن تفقد شيئاً فتصبر، وإما أن يوفقك الله لعمل صالح فتصنعه.

عظم أثر القرآن على القلوب

عظم أثر القرآن على القلوب قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24]. لا تعود نفسك أن يرق قلبك إلى شيء أعظم من القرآن، فلو سمعت مئات المحاضرات فإنها -والله الذي لا إله إلا هو- لا تعدل آية واحدة من كتاب الله، فالله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:41 - 43]. فالمؤمن لا يريد شيئاً أعظم من رضوان الله، ورضوان الله لا ينال بشيء أعظم من حب كلام رب العالمين جل جلاله، ومن أعظم ما أثنى الله به على أوليائه والصالحين من خلقه أنهم يتصفون بثلاث صفات إذا تليت عليهم آيات الله: وجل القلب، واقشعرار الجلد، وذروف العين. قال الله عن موسى وهارون وإبراهيم وإدريس وإسماعيل ومريم وابنها في سورة مريم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، وأعظم ما ينصح به الإنسان ليحيا قلبه أن يقوم بين يديّ الله في الليل.

أثر ثناء الله على نفسه على قلوب المؤمنين

أثر ثناء الله على نفسه على قلوب المؤمنين ثم تأتي آيات أثنى الله فيها على ذاته العلية، ولا يوجد كلام أجمل وأعظم تأثيراً من ثناء الله على نفسه وإخبار الله عن ذاته، لأنه لا أحد أعظم من الله، فلا كلام أعظم من كلام الله، وبما أنه لا أحد أعظم من الله فلا أحد أعلم بالله من الله. فإذا جئت لتقف بين يديه واختر آيات في أول تعودك على قيام الليل أثنى الله بها على ذاته العلية، ثم رددها كثيراً وأنت تصلي حتى تستميل قلبك، وتذرف عينك تدريجياً، ومع الأيام فإن قلبك لن يسكن بشيء أعظم من ذكر الله، ومن استأنس بالله استوحش من خلقه. فالله تعالى يقول عن ذاته العلية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:45 - 47]، فهذه أشياء محسوسة تراها قبل أن تنام، فإذا ربطتها بخالقها عظم اليقين في قلبك، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:48 - 50]. ويقول جل وعلا في خواتيم الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24]. فأين شعر الشعراء؟! وأين كلام البلغاء؟ أين وصف الفصحاء؟ هذا كلام رب العزة جل جلاله، هذا قوت القلوب الحقيقي الذي يعيش به المؤمن، ويتعود على ألا يشرب إلا منه ولا ينهل إلا من معينه، هذا الذي يسوق إلى رضوان الجنات، ويوفق به المؤمن للطاعات، ويقاد به إلى أعلى المنازل. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة، مصير كل أحد إليك، ورزق كل أحد إليك، أسألك -اللهم- بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن ترزقنا الإخلاص فيما نقول ونسمع، وصل اللهم على محمد وعلى آله.

القطوف الدانية

القطوف الدانية هناك أمور كثيرة ينبغي الإطلاع عليها ومعرفتها، وهنا يذكر الشيخ قطوفاً دانية تشمل فوائد متفرقة، بعضها تتعلق بالعقيدة وبعضها بالتزكية وبعضها بالأمور الاجتماعية وآداب الصداقة، وبعضها متعلقة بالأدب والبلاغة

دور الصحوة الإسلامية في نشر الوعي الديني

دور الصحوة الإسلامية في نشر الوعي الديني الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى ورسوله المرتضى، سيد الأولين والآخرين، وأكرم الأنبياء والمرسلين، خصه ربه بالشفاعة العظمى، وعرج به ليلاً إلى سدرة المنتهى، فهو خليل الرحمن، ورسول الملك الديان، حظنا من النبيين ونحن حظه من الأمم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا اللقاء الطيب المبارك الذي يتجدد أسبوعياً، ستكون هذه الليلة خاتمة مرحلته الثانية، ولذلك نقول: إن الصحوة الإسلامية المباركة التي امتد جذرها شرقي العالم وغربيه شماله وجنوبه صاحبها الكثير من المحاضرات والدروس العلمية النافعة، وهذه المحاضرات وتلك الدروس كانت في غالبها على منهجين: منها: دروس علمية بحتة، تعنى بشرح المتون، وبيان ما دونه أهل العلم في المطولات والمختصرات، وكانت تلك المحاضرات موجهة إلى طلبة العلم بصفة خاصة. والنوع الآخر: كان على هيئة محاضرات، وهذه المحاضرات أخذت في طبيعتها قسمين: منها: ما عنى بالجانب الفكري، ومنها: ما عنى بالجانب الوعظي، وفي كل خير. فأما الجانب الوعظي فقد نفع الله به كثيراً من عباد الله المؤمنين أحجم بتلك المواعظ عن كثير من المعاصي، وكانت سبباً في إقدامهم على كثير من الطاعات. كما أن المحاضرات التي عنيت بالجانب الفكري فتحت آفاقاً لدى الشباب خاصة، وسائر الناس عامة، وأسهمت إسهاماً كبيراً في أن يدرك المرء حال الأمة الإسلامية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وهذا كله فضل من الله. ويمكن أن يدرج في ذلك أيضاً: ما نحاول أن ننتهج خطاه هذه الليلة، وهو أن يكون في المحاضرة شيء من التنويه، وذلك أن النفوس والقلوب مثل الأبدان، يصيبها الملل، ويصيبها التعب، فهذه القطوف الدانية التي نستعين الله جل وعلا في ارتجالنا هذه الليلة إنما المقصود منها أمور عدة: أولها وأجلها: الانتفاع العلمي مما يحصل به نيل الدرجتين في الدنيا والآخرة. والأمر الثاني: أن يجد المؤمن من أخيه زاداً علمياً وفكرياً وثقافياً يعيش به في حياته الدنيوية، وإن كان الباع قصيراً، والبضاعة مزجاة، لكن لو أن كل واحد منا سد ثغرة في حياة المؤمنين لسدت الثغرات جميعها. والأمر الثالث: أن الإنسان قد يحتاج في هذه الحياة إلى ما يطرد سأمه، ويذهب ملالته، وبخاصة عندما يلم به الحزن، أو يأتيه الكرب، أو ما إلى ذلك، فإن التسلي بأخبار الصادقين، وأنباء الأولين فيه شيء من التعزية للنفس، وفيه زاد لروح المؤمن وبدنه! من أجل هذا وغيره، كانت محاضرة هذه الليلة (القطوف الدانية) وهي أيها الأخ المؤمن إن لم تصل إلى الحد الذي تريده، فإن مثلك أهل لأن يعذر، ومثلنا بشر قابل لأن يخطئ فيعتذر! وستأخذ هذه القطوف عناوين متعددة على غرار النهج الأول الذي انتهجناه في الجزء الأول من القطوف الدانية.

من أخبار المهدي المنتظر

من أخبار المهدي المنتظر

عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي

عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي وأولى عناوين هذه القطوف المهدي المنتظر: وهذه مسألة عقدية، فإن الله جل وعلا جعل للساعة أشراطاً وعلامات وآيات منها آيات صغرى وآيات كبر، والمهدي المنتظر إحدى الآيات الكبرى، وقد خصصناه بالذكر لاختلاف الناس فيه، ما بين مخطئ في التعيين، ومخطئ في التصديق أو التكذيب. فالمهدي المنتظر في عقيدة أهل السنة والجماعة رجل من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم يخرج في آخر الزمان اسمه واسم أبيه موافق لاسم محمد صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، أي: أن اسمه محمد أو أحمد بن عبد الله. وهو عند أهل السنة من ذرية الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، فيقال في نسبه: محمد بن عبد الله العلوي الحسني الفاطمي. وجاء في صفاته عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه رجل أقنى الأنف أجلى الجبهة، ومعنى أجلى الجبهة: أن الشعر منحسر من جهة الصدغين عن جبهته، ومعنى أقنى الأنف أي: أن أرنبة أنفه طويلة مع شيء من الحدب، أي الميل. وهذا الرجل كما قال الحافظ ابن كثير وغيره يكون الدين في عهده ظاهراً، والسلطان قاهراً، والعدو راغماً، والخير قائماً، وتكون في عهده الثمار كثيرة، والأموال وفيرة، بل قيل: إن أهل الإسلام يحيون سبع سنين في حكم ذلك الرجل في أعم أمن ورخاء، كما ثبت ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

عقيدة الإمامية في المهدي

عقيدة الإمامية في المهدي والناس في هذا الرجل طوائف عدة: فمنهم: أهل السنة وقد بينا مذهبهم ومنهجهم آنفاً. ومنهم: الشيعة الإمامية، وهؤلاء طائفة ينعتون بالإثني عشرية فـ المهدي المنتظر عندهم هو آخر الأئمة، ومعلوم أن الشيعة الإثني عشرية، عندهم اثنا عشر إماماً يقولون فيهم أقوالاً لا تقبل، إلا أن من تلك الأقوال أن هذا المهدي يخرج في آخر الزمان وهو عندهم الآن في سرداب في (سر من رأى) وهو عندهم كذلك من ذرية الحسين بن علي لا من ذرية الحسن، وفي ظنهم أنه غائب عن الأبصار حاضر في الأمصار، ويخرج من ذلك السرداب بعد أن يكون قد قضى فيه آلاف السنين وهو على عددهم وحسابهم قد قضى فيه إلى الآن ألفاً ومائة عام؛ لأن غيابه كان في عهد الدولة العباسية، فهذا اعتقاد الشيعة الإثني عشرية فيه.

عقيدة الكيسانية في المهدي

عقيدة الكيسانية في المهدي وهناك طائفة أخرى من الشيعة تنعت بالكيسانية، وهؤلاء عندهم مهدي غائب مثل غيرهم، وينتظرون خروجه، إلا أنهم يقولون: إن اسمه محمد بن الحنفية، وهذا يقولون: إنه موجود الآن في جبال الحجاز الغربية المسماة بجبال رضوى، فيقولون: إنه في كهف من كهوفها، وعندهم أو غالب ظنهم أن عنده عسلاً وماء يشرب منهما، ويحرسه أسد أو ذئب. وهذه الأقوال تمجها عقول الصبيان، ويضحك منها كل من لديه عقل؛ لأن هذا لا يقوم عليه دليل واضح، ولا حجة ظاهرة، ولا خبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يقول كثير عزة وهو أحد المنتسبين إلى هذه الفرقة: ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يُرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء فهو يزعم أن الأئمة أربعة فقط: علي رضي الله تعالى عنه، والثلاثة من بنيه، فـ الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية الذين يعتقدون الآن أنه في جبال رضوى. فأما قوله: إن علياً إمام فهذا حق نؤمن به وندين الله به. وأما قوله: إن السبط الأول سبط إيمان وبر، فهذا حق، وإن قال به كثير فإن الحسن رضي الله تعالى عنه مشهود له بالجنة. وأما قوله: وسبط غيبته كربلاء -يعني: الحسين بن علي - فنشهد كذلك بأن الحسين إمام من أئمة المسلمين، وصحابي له قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، وشهد له عليه الصلاة والسلام بالجنة، وأخبر أنه وأخاه ريحانتاه صلى الله عليه وسلم من الدنيا. أما قوله: وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء فهذا هو الباطل بعينه، فإن محمداً هذا قد مات، وفاضت روحه إلى الله، وأصابه ما يصيب الناس جميعاً من فناء وموت، وهو يحيا الآن كسائر العباد حياة برزخية الله أعلم بها، أما أن يقال أنه موجود في جبال رضوى، وأنه سيخرج، فهذا هو الباطل، أو هو الهراء بعينه.

قول العصرانيين في المهدي والرد عليهم

قول العصرانيين في المهدي والرد عليهم بقي قول آخر في المهدي المنتظر، وهو قول بعض المنتسبين إلى أهل السنة، وأغلبهم من العلماء المعاصرين، فهؤلاء يقولون: إنه لا حقيقة وجودية للمهدي المنتظر، وحجتهم في ذلك أن أحاديث المهدي ليست موجودة في الصحيحين بالاسم الصريح، وإنما غالبها في السنن، أو في صحيح ابن حبان، أو في مسند أحمد، أو في غيرها من كتب السنة. والرد على هذا من وجوه عدة: أولها: أنه لم يقل أحد من أهل العلم إن أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم الصحيحة محصورة في الصحيحين، فإن كل ما في الصحيحين صحيح، لكن يوجد الصحيح كذلك في غيرهما، في كتب السنن، أو في كتب الحديث غير الكتب الستة. والأمر الثاني: أن جمعاً من محققي أهل العلم أثبتوا أن أحاديث المهدي المنتظر منقولة للأمة تواتراً معنوياً لا يمكن رده بأي حال من الأحوال، وممن نص على هذا من علماء العصر سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز. بل إن أهل العلم اجتهدوا في تأليف رسائل خاصة يردون فيها على من زعم أنه لم يصح خبر في أحاديث المهدي المنتظر ومنهم العلامة الشيخ عبد المحسن العباد، فإنه ألف كتاباً رد فيه على المشككين في صحة أحاديث المهدي، وبين من خلال التحقيق العلمي الموثوق أن ستة وعشرين صحابياً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رووا أحاديث المهدي، وأن أكثر من ستة وثلاثين مصنفاً من مصنفات الأحاديث ذكرت أحاديث المهدي. وهذا فيه رد على الحجج الواهية للعلامة ابن خلدون في كتابه الشهير: ديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر والذي ألمح فيه عفا الله عنه إلى تضعيف أحاديث المهدي المنتظر دون أن يصرح بذلك، ومعلوم أن ابن خلدون على جلالة قدره وعلمه في التاريخ ليس من فرسان الحديث، وليس له باع طويل في معرفة صحيح الأحاديث من ضعيفها. فعلى هذا يقال بعد هذا القول المجمل كله: إن المهدي المنتظر رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج قطعاً في آخر الزمان، وخروجه إحدى آيات وعلامات الساعة الكبرى، وإنه مما يكرمه الله ويخصه به أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وهو من أولي العزم من الرسل يصلي خلفه، قال عليه الصلاة والسلام: (إن منا لمن يصلي عيسى بن مريم خلفه تكرمة من الله لهذه الأمة) وهذا حديث مقطوع بصحته، فهذا مجمل ما أردنا بيانه في المهدي المنتظر. ولكونه شخصاً مرغوباً فقد تسمى كثير من الخلفاء والسلاطين من أهل الحق ومن أهل الباطل إلى هذا العصر بلقب المهدي، كلهم يؤمل أو يتفاءل بأن يكون هو المهدي، ولعل من أشهرهم وأظهرهم المهدي العباسي، ولعل من أسوئهم وأبطرهم أحد حكام القرامطة الباطنيين، فإنه زعم أنه المهدي المنتظر، لكن ذلك فيما يظهر لم يحن بعد، وسيأذن الله جل وعلا به يوماً من الدهر كما أخبر الصادق المصدوق والنبي المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.

من جوامع الدعاء

من جوامع الدعاء

فضل الدعاء

فضل الدعاء القطوف الثانية من جوامع الدعاء: الدعاء منة من الله جل وعلا على عباده المؤمنين، وذلك أن الاستكانة والذل بين يدي الله جل وعلا ودعائه هو كنه العبادة ولبها، قال ربنا جل جلاله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. فأنبأ الله جل جلاله أن الدعاء هو العبادة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة (. فدعاء الله جل وعلا ينبئ عن تعلق به، ولذلك كان دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شركاً أكبر مخرجاً من الملة. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]. وحرم الله على عباده دعاء غيره، بل إن دعاء غير الله هو الشرك بعينه، وهو أعظم المحرمات على الإطلاق، ولذلك كان الداء الأكبر في كفار قريش أنهم كانوا يشركون مع الله في دعائه أحداً غيره. ولذلك كان من أعظم صفات المؤمنين الخلص: أنهم لا يدعون إلا ربهم، ولا يشكون ولا يؤوبون إلا إليه، لعلمهم ويقينهم أنه ليس بيد أحد ضر ولا نفع إلا الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى يخبر عن ذاته العلية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. سنبين ثلاثة أدعية منصوصاً عليها في الكتاب الكريم، وهي من أعظم جوامع الدعاء وأبلغه:

من جوامع الدعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)

من جوامع الدعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) أما أولها: فقول الله جل وعلا في نعته لعباده المؤمنين عندما يفيضون من عرفات إلى مزدلفة: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:200 - 201]. فهذا من أعظم جوامع الدعاء وأبلغه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثيراً ما يدعو به، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا طاف بالبيت العتيق، وأضحى بين الركنين اليمانيين -الركن اليماني والحجر الأسود- دعا صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. وأنت أيها المؤمن إذا تأملت هذا الدعاء وجدت أنه دعاء جامع، وذلك لأمور: الأول: أنه قصير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه جوامع الكلم الموجزة، وقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم. الأمر الثاني: أنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة، وكذلك المؤمنون إنما يدعون ربهم بخيري الدنيا والآخرة. ومن آتاه الله في الدنيا حسنة فمعناه أنه أحياه الحياة الطيبة، ومن آتاه الله في الآخرة حسنة فمعناه أنه زحزح عن النار وأدخل الجنة، وذلك هو الفوز العظيم التي كانت وما زالت قلوب المؤمنين تنشده وتطلبه.

من جوامع الدعاء (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا إلخ)

من جوامع الدعاء (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا إلخ) الدعاء الثاني: قول الله جل وعلا على لسان الأبوين -آدم وحواء - لما أهبطا إلى الأرض وأخرجا من الجنة، وكان قد وقع منهما ذلك العصيان الذي أنبأ الله به بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] فعلم الله جل وعلا آدم كلمات حتى يعود إليه، ويتوب الله جل وعلا عليه، وقد ذكر بعض أهل العلم أن تلك الكلمات هن الدعاء الذي نص الله جل وعلا عليه في سورة الأعراف يوم قال جل ذكره على لسان الأبوين آدم وحواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فهذا من أعظم الدعاء وأجمعه، وفيه من الذل ما هو ظاهر جلي، وواضح لا يحتاج إلى بيان، فإن فيه إخباراً بالمسكنة وظلم النفس، وفيه بيان أن الغوث والعون إنما يكون من الله وحده، وهذا نص قولهما: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فالإنسان إن لم تتداركه رحمة الله ولم تنله رحمة الله أضحى في الخسران المبين، والضلال الواضح، ولذلك حري بالمؤمن أن يكون في دعائه ما ينبئ عن عظيم تعلقه بالله، وعلمه أن الفضل كله بيد الله وحده يؤتيه من يشاء، ألا ترى يا أخي إلى دعاء موسى يوم سقى الفتاتين فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] فإنه أظهر ذله وفقره إلى علام الغيوب، وغفار الذنوب جل جلاله، والإنسان إذا أظهر إلى الله شدة فقره، واستزاد من الله النعم، أفاء الله جل وعلا عليه من العطايا، وآتاه تبارك وتعالى من المزايا.

من جوامع الدعاء دعاء امرأة فرعون

من جوامع الدعاء دعاء امرأة فرعون الدعاء الثالث: في جوامع الدعاء ما ذكره الله تبارك وتعالى على لسان تلك المرأة الصالحة الصادقة آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فهذه المرأة عاشت في قصر كفري كان صاحبه ومالكه -وزوجها في نفس الوقت- رجلاً يزعم أنه الرب الأعلى قال تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وأي: ذنب وجرم بعد ذلك؟ ومع ذلك فإن الله إذا أراد بعبد خيراً، وأراد له فضلاً ومزية، لم تمنع الله عن ذلك الحجب، ولم تمنع الله عن ذلك الجن، ولم تمنع الله عن ذلك السلاطين، فدخل الإيمان في سويداء قلب هذه المرأة العظيمة المؤمنة، رغم أنها تسكن في قصر لا يوحد فيه إلا فرعون، ولا يأمر فيه إلا فرعون، ولا ينهى فيه إلا فرعون، لكن لما تملكها الإيمان بطل كل من حولها. وقد قال بعض أهل العلم: أن إيمان امرأة فرعون إنما كان بسبب تلك المرأة الماشطة! وماشطة امرأة فرعون ورد عنها حديث صححه بعض أهل العلم ونكاد نجزم بصحته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به مر بالسموات السبع فكأنه شم ريحاً طيبة، فقال لجبريل: ما هذا؟ أو ما هذه الريح الطيبة؟ قال: هذه ريح ماشطة ابنة فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: وما ماشطة ابنة فرعون؟ قال: إن ماشطة ابنة فرعون كانت تمشط لابنة فرعون شعرها، فسقط المشط من يدها، فهمت لتتناوله وقالت: باسم الله. فقالت بنت فرعون: وما الله؟ قالت: ربي. قالت: ألك رب غير أبي؟ قالت: نعم. ربي وربك ورب أبيك الله فقالت الفتاة: لأخبرن أبي. قالت: أخبريه. فأخبرت أباها. فلما وضعها فرعون بين يديه قال لها: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله! فأمر بنقرة من نحاس أن تحمى وأمر بزيت يصب فيها، وأمر بأن ترمى فيه فقالت له: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع بين عظامي وعظام أبنائي فقال: ذاك لك لما لك علينا من الحق، فأخذ يرمي أبناءها على مرأى من عينيها واحداً بعد الآخر حتى بقي الرابع فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق). فهذه المرأة العظيمة كانت سبباً -على ما نص عليه بعض أهل العلم- في إيمان امرأة فرعون، وامرأة فرعون لما كان يخرج بها لتعذب كان الله جل وعلا يريها منزلها في الجنة، فكانت تقول كما أخبر العلي الكبير عنها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. وتأمل أيها المؤمن هذا الدعاء: إن العرب جرت العادة من كلامهم أن تقدم الفعل ثم الفاعل ثم المفعول به، ثم الباقي من مكملات الجملة، ولكنك إذا تأملت قولة امرأة فرعون تجد أنها قدمت مكملات الجملة على المفعول به: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ولم تقل: رب ابن لي بيتاً عندك. قال العلماء: اختارت الجار جل جلاله قبل أن تختار الدار، فجوار الله جل وعلا أعظم مما سواه، ومنزلته وهي الجنة أعظم ما طلبه المؤمنون من ربهم، فقولها هذا -رحمة الله تعالى عليها ورضي الله عنها- قول بليغ في الدعاء، وحري بكل مؤمن، ومؤمنة أن يكون من دعائه الذي يبتهل به إلى الله جل وعلا أن يدعو بهذا الدعاء: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]. أما القول: {وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11]، فهذا ليس بموجود، فدعاء الله به في هذا الوقت من الاعتداء في الدعاء. ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل الله جل وعلا أموراً لا توافق الحال، أو يسأل الله جل وعلا أموراً أخبر الله أنها لم تكن. فمثلاً: أخبر الله جل وعلا أنه حرم الجنة على الكفار، فلو أن رجلاً يحب أحداً من أهل الكفر -أبيه أو أخيه قريبه أو ما إلى ذلك- وقد مات على الكفر الصريح، فلا يجوز شرعاً أن يقول: اللهم اغفر لفلان، وهو يعلم أنه كافر كفراً أكبر لا تأويل فيه، ولا خلاف بين أهل العلم فيه؛ لأن هذا مما لا يقع أبداً. أو كأن يقول رجل: اللهم اجعلني نبياً، فإذا سألته قال: أليس الله على كل شيء قدير؟ نقول: بلى. إن الله على كل شيء قدير، ولكن الله أخبر أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فسؤال الله النبوة بعد إخبار الله بختمها يعد من الدعاء الذي نص الله على حرمته، قال الله جل وعلا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:56]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] أي: الذين يعتدون في دعائهم كما بينا. والله تعالى أعلم.

من معاني الصداقة

من معاني الصداقة القطوف الثالثة: من معاني الصداقة. وهذا جانب يعنى بحال كثير من الناس رجالاً ونساءً، وبحال الكثير من الشباب اليوم. الإنسان بطبعه من الصعب والمشقة عليه أن يعيش وحيداً فريداً، فلابد له من خلة، ولابد له من خلطاء، ولابد له من أصدقاء، ولابد من أصحاب، وهذا أمر شائع ذائع يعرفه الصغير والكبير، إلا أن الناس من خلال استقرائهم للدهر ومعرفة الأيام زعم الكثير منهم أنه لا يوجد في الدنيا صديق وفي، بل إن العرب كانت ترى أن الصديق الوفي أمر مستحيل، فنسمع اليوم في خلال تعبيرات الناس أنهم يقولون: ثالث المستحيلات سابع المستحيلات، وما إلى ذلك!! المستحيلات المنصوص عليها ثلاث: الغول، والعنقاء، والخل الوفي. فالعرب تقول: إن الغول شيء يخوف به، وليس له وجود. والعنقاء طائر يخوف به، وليس له وجود. والخل الوفي: شيء يتمناه كل إنسان وهو غير موجود؛ وانظر إلى قول أحدهم: لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي للشدائد أصطفي فعلمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي فهم يزعمون أنه لا يوجد خل وفي، وهذا في ظننا بعيد، وأعظم دلالة على بطلانه: صداقة النبي وصحبته لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه تلك الصحبة التي شهد الله بها، قال الله جل وعلا: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. وصداقته صلى الله عليه وسلم لـ عمر وغيره من الصحابة. ويوجد في واقع الناس اليوم كثير من الخلطاء الصالحين، ونحن نريد أن نبين بعض الوصايا لمن تكون بينهم صداقة ومحبة ومودة، لعل الله أن ينفع بها:

الوصية الأولى في الصداقة

الوصية الأولى في الصداقة أول تلك الوصايا: أن يعلم أن كل صداقة ومودة ومحبة لا تقوم على أساس ديني مرتبط بالله جل وعلا، فإنها لابد أن تنتهي وتتلاشى ذات يوم، وإن بقيت فإنها لا تنفع في الآخرة في شيء، قال الله جل وعلا: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فكل الأخلاء والأصدقاء والأصحاب يكونون يوم القيامة أعداءً لبعض، إلا من كانت صداقته مبنية على التقوى، والمتحابون في جلال الله يظلهم الله جل وعلا تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما في حديث أبي هريرة: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). وينادى يوم القيامة: (أين المتحابون بجلالي؟) إلى غير ذلك مما هو مستفيض معروف في بيان فضل المحبة في الله جل وعلا.

الوصية الثانية في الصداقة

الوصية الثانية في الصداقة الوصية الثانية: إذا أنشأ الله بينك وبين أحد إخوانك صداقة ومودة ومحبة، فاعلم أنها قد تزول ذات يوم، إما لعارض منك، وإما لعارض منه، وإما لعارض لا تملكه أنت ولا هو كالرحيل والسفر، أو تبدل الأيام، أو ما إلى ذلك مما يصعب حصره. لكن ما واجبك بعد أن يتغير الود وتتبدل المحبة؟ فإنه لابد قطعاً أن يكون قد مضى فيما بينكما أيام القرب والوصال والمحبة والوئام أسرار، وسفر ورحيل، وشيء من الهنات والزلات والأمور التي لا مفر منها، فإنك لا تخلو من أن تكون أحد رجلين: إما رجل يمشي ويحدث بما كان في أخيه من أخطاء، وهذا أمر لا يليق بالأحرار، ولا يليق بالشرفاء، ولا يليق بذوي المعدن الأصيل من الناس. وإما أن تمشي وتحدث بأحسن ما سمعت من أخيك، وأحسن ما رأيت من صحبته، وأجمل ما لقيت من خلته، فهذا هو طبع الأحرار، وهذا هو دأب الشرفاء، وهذا هو نعت الأبرار. إن الكريم إذا تغير وده ستر القبيح وأظهر الإحسانا إن كان ولابد أن تخبر فلا تخبر إلا بما هو خير، لكن أن يذكر خليلك السابق، أو صديقك الماضي في مجلس، وتبطن على ما قيل فيه من عثرات، أو تثبت على ما هو فيه من أخطاء، فإن هذا يجمع بين الغيبة -وهي محرمة شرعاً- ولؤم الطبع، وحري بي وبك أن ننأى بأنفسنا على أن نكون من اللئام! فهذا أمر ينبغي للأخ المؤمن أن يجتنبه كل الاجتناب، ولا يحدث عن إخوانه المؤمنين إلا بأمر حسن.

الوصية الثالثة في الصداقة

الوصية الثالثة في الصداقة ثالثة الوصايا: اعلم أن الود والمحبة ليس من شرائطه الالتزام الكامل، فبعض الشباب إنما يقيس محبة أخيه له بمدى تعلقه به وغدوه ورواحه معه، فإما أن تكون معي أربعاً وعشرين ساعة، وإلا فإنك لست خليلاً ولا محباً، بل تكون شخصاً مبغضاً. فنقول: إنه لا يخلو كل فرد من خاصة في نفسه، وانقطاع إلى أهله، وشئون يحب أن يقضيها بمفرده، فأعط أخاك المؤمن فرصة في أن يبقى في بعض أوقاته وحيداً دون أن تكثر عليه من الغدو والرواح، ولا تظنن يوماً من الدهر أن غدوك ورواحك وانقطاعك إليه ساعات كثيرة متواصلة هو السبب في أن يكون محباً لك، إن من لم تغرس لك المحبة في قلبه لن يغرسها غدوك ورواحك، فإن حياة القلوب غير حياة الأبدان. وقد زعموا أن المحب إذا دنا تسلى وأن القرب أوهن للود ولكن تدانينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد على أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود فلو ألصقت بيتك ببيته، وجعلت له مكاناً ثابتاً في سيارتك، ولكن ليس لك في قلبه محبة أو مودة أو مكانة، فإن ذلك لن يغير من الأمر شيئاً.

الوصية الرابعة في الصداقة

الوصية الرابعة في الصداقة الوصية الرابعة: وقد تكون لشباب الصحوة خاصة. الله جل وعلا نشر العلم على ألسنة كثير من العلماء والدعاة، وأولي الفضل، وغرس الله لهؤلاء العلماء والدعاة وأولي الفضل محبة في الصدور، فقد تحب من لا أحبه، وقد أحب أنا من لا تحبه أنت، فلا يكون هذا الاختلاف سبباً للخلاف بيننا، أي: فإما أن يكون شيخك شيخي، أو شيخي شيخك، وإلا افترقنا، فهذا من الجهل المنتشر بين الناس. فقد تجد الرجل يعجب بأخيه، ويفرح بوده، ويثني عليه من كريم صفاته، وجميل معدنه، وعظيم خلته، وما فيه من عطاء وأريحية وشهامة ونخوة، فلماذا تبغضه؟ قال: إنه يحب فلاناً من العلماء، أو يود فلاناً من الدعاة، أو يميل إلى فلان. وليس من شروط محبتك للناس أن تأسر قلوبهم، وتقيد فكرهم، وتحبس ألسنتهم، فلا يقولون إلا ما تريد، هذا أمر مفتوح كل من الناس يقتنع بزيد أو بعمرو، أو يحب فلاناً، أو لا يحب فلاناً، اللهم إلا إن رأيت فيمن أحبه خطأً ظاهراً واضحاً لا يقبل التردد، فعندئذ تذكره من باب النصيحة فقط، لكن ليس لك ولا لغيرك باب الإلزام أبداً أياً كان ذلك الشخص المحبوب، إلا أن يكون ذلك الشخص المحبوب كافراً، فإن هذا من الولاء غير الشرعي الذي لا يجوز إقراره بأي حال من الأحوال.

الوصية الخامسة في الصداقة

الوصية الخامسة في الصداقة الوصية الخامسة: أن الصحوة قد صاحبها خلاف فقهي، ومعلوم أن الاختلاف في الفروع الفقهية جائز، فكون شخص من الناس يتبنى مسألة فقهية ويعتقدها ويدين الله بها، بينما لا تتبناها أنت، أو لا تراها، فليس هذا موجباً للبغضاء، ولا موجباً للعداوة، ولا موجباً لانقطاع الخلة. قيل: إن الشافعي رحمة الله تعالى عليه جادل في مسألة علمية المحدث الشهير إسحاق بن راهويه، فكان الشافعي يرى أمراً، وإسحاق يرى أمراً آخر، فجلسا للمجادلة، فلما قاما اقتنع إسحاق برأي الشافعي، واقتنع الشافعي برأي إسحاق، فمضيا مختلفين كما بدآ؛ لكن التجرد لله جعل كلاً منهما يقبل الحق من أخيه! فلا يضرك أن تمشي مع إنسان لا يرى أن تارك الصلاة كافر، فمثلاً: قضية كفر تارك الصلاة الحق الشرعي الذي ندين الله به أنها مسألة خلافية، وليس هناك إجماع بين أهل العلم عليه، فالذين قالوا بأن تارك الصلاة كافر لهم أدلة، والذين قالوا إن تارك الصلاة لا يكفر لهم أدلة ظاهرة واضحة، ويكفيهم دليلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد الخدري: (وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله). وليس هذا موطن الفصل في هذا الأمر، ولكن موطن الفصل: أن طائفة من أهل العلم كـ الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك قالوا: بأن تارك الصلاة لا يكفر، وذهب أحمد وغيره من أئمة الحديث إلى أن تارك الصلاة يكفر. فكون أخيك المؤمن تبنى رأياً من أحد هذين الرأيين ليس موجباً للقطيعة! ومنها: هل في حلي المرأة زكاة أو لا؟ هذه مسألة خلافية معروفة، فكون الرجل يرى هذا الرأي، أو لا يراه لا يقدح في خلته، ولا يقدح في إمامته، ولا يقدح في منصبه الديني. وكذلك كون الرجل يسمع أناشيد أو لا يسمع، فالأناشيد حسنها حسن، وباطلها باطل، فمن أهل العلم من خاف على الأمة أن تغرق في الأغاني فرأى أنها أقرب إلى الحرمة، ومن أهل العلم من قال إن الحق مع أصحاب الأصل، والأصل هو: الإباحة، ولم يقم دليل شرعي ثابت على أنها حرام، فلا يرى بأساً في سماعها، فمن السفه أن يكون هذا موطن خلاف، بل إنني أجزم أنه من نزغات الشيطان أن يكون هذا الأمر موجباً للخلاف. قلت لأحد الناس: ألا تسافر مع فلان؟ قال: أعوذ بالله! ولا أعرف منهما إلا الفضل، فتعجبت لم؟ قال: فلان يسمع أناشيد. قلت: وأنت؟ قال: أنا لا أسمعها. قلت: اعلم مبدئياً أن لكل منكما دليلاً، ولكن لا يمنعه ذاك من أن يصحبك، ولا يمنعك من أن تصحبه في سفره، فهذا من نزغات الشيطان، إذا كنا نتعادى في أمور كهذه ونختلف، ونتفرق بأنفسنا، فما يكون حال فيمن لا يقول لا إله إلا الله، إذا سلم منه أهل الكفر، وأهل الملل الباطلة، والعقائد الفاسدة، من جزم الله بكفرهم إن بقوا على ما هم عليه، وتفرغنا لزيد وعمرو مما يأتينا بمسألة فقهية. ولو فرضنا أن صاحبك تخلى عن مبدئه وقال بقولك، فهل هذا يرفع الخلاف في الأمة؟ A لا يرفع الخلاف. الآن لو أتى أعلم أهل الأرض مثل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز فرجع عن قول من أقواله، فهل رجوع الشيخ اليوم عن قول من أقواله سيرفع الخلاف في الأمة كلها؟ A لا الشيخ عبد العزيز ولا غيره يقول بهذا، فإن الخلاف مضى وانتهى، ودون في كتب، فليس قول أحد اليوم بمزيل لذلك الخلاف. فالأمر أهون وأقل شأناً من أن نتعادى وأن نتباغض فيه، وأن نجعله موهناً للأخوة، وأن نجعله سبباً للتفكك، وسبباً للقدح، إن هذه الألسنة يجب أن تقول الحق أو تسكت، قال صلى الله عليه وسلم: (قل خيراً أو اصمت). ولذلك فإن القدح في العلماء من أعظم ما يجلب الحسرات، وتذرف من أجله الدموع، وقد ينعت أحد العلماء بقول قائل: فلان عالم شهير، لكنه لا يدرك فقه الواقع، أو لا يعلم عن فلان وفلان شيئاً. وهذا من الجهل بعينه، وهل يلزم من العلم الشرعي أن يكون الإنسان عالماً بكل الناس؟ هذا مستحيل! والله لا يوجد أحد يعلم جميع الناس. وحتى يكون الأمر أوضح فقد قال الله جل وعلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]. قال الإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه: إذا كان نبي الأمة قد خفي عليه حال أقوام في مدينته، فما يضير العالم إن خفي عليه أحوال أقوام في دولته، أو في بلده، أو في العالم الإسلامي كله، ليس هذا بقادح شرعي، متى كانت مثل هذه الأمور سبباً في أن يقدح في أولئك العلماء، أو أن يقلل من مناصبهم الدينية والشرعية، وما أفاء الله عليهم من علم شرعي. واعلم أنه لا يوجد أحد في الذين غبروا ومضوا، ولا في الحاليين، ولن يكون بعدهم رجل يعرف أحوال الناس كلهم فرداً فرداً، فيعرف أن هذا على حق، وهذا على باطل، هذا ما كان لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهو في المقام الرفيع والعصمة المعروفة، ووحي الله تعالى إليه، فلن يكون إذاً لغيره كائناً من كان! كذلك مما نوصي به في قضية الصداقة أن يكون صديقك أحرى الناس بفضلك، وأولى الناس ببشاشتك. بعض الناس لين القول سليم الصدر لمن حوله من بعيد، لكن إذا جلس في مجلس لا يجد أحداً يخطئ عليه، ويقلل من شأنه، ويمزح معه أكثر من اللازم -بالتعبير العامي- إلا صديقه، فيقول: لم تأخرت يا فلان؟ ويقول: هذا الذي ما جاءني إلا الساعة الخامسة! فنقول: هذا الوحيد الذي أكرمك ومر عليك، فإن كان في إنكارك حق فامدح به الذي مر عليك، يعني: جميع الحاضرين ليس فيهم أحد مر عليك، فتأتي إلى رجل كان سبباً في وصولك، واستعمل سيارته في خدمتك، فتلومه وتعتب عليه، وتفضحه على رءوس الأشهاد، إذا كان الإنسان القريب منك ينال عثرة، فمن ينال -إذاً- خيرك وفضلك، ومن ينال ما فيك من خصال طيبة، وصفات حسنة! فليكن إحسانك وإكرامك لطريقك، واعلم يا أخي أنك إذا أكرمت أخاك وصديقك على ملأ من الناس أكرمك الناس وأكرموا صديقك، وإن أهنت صديقك فلن يبقى لصديقك توقير ومكانة بين الناس؛ لأنهم يقولون بلسان الحال والمقال: لو كان فيه خير لعرفه من يصاحبه، لعرفه من يؤاخيه، لعرفه من يغدو ويروح معه. وأن تذم خليلك وصديقك بين الناس، هذا والله هو الجهل بعينه، بل إذا قدم إليكما فنجان قهوة، فمن باب الإظهار للناس أنك تعزه وتكرمه فلا تأخذه قبله، ولو من باب الإيماء والإشارة. وإذا سُئلت مع من تذهب فليكن من قدم معك أولى الناس بأن تختاره، أما أن يجعل الإنسان صديقه المقرب الذي يأوي إليه بعد الله جل وعلا بعيداً عنه في الناس فما فائدة أن يمدحه في الخلاء ويذمه على الملأ؟ هذا لا يقبله أحد.

منزلة الشعر العربي وأغراضه

منزلة الشعر العربي وأغراضه

منزلة الشعر عند العرب

منزلة الشعر عند العرب القطوف الرابعة: الشعر: الشعر عرفته العرب في جاهليتها وإسلامها وإلى اليوم، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمى الشعر: ديوان العرب، وقد كانت العرب في جاهليتها لاعتنائها بهذا الأمر تقيم أسواقاً يتنافسون بها في الأشعار، والخطب والأمور الأدبية، ومن أشهر أسواقهم كما هو معروف عكاظ والمجنة، وذي المجاز، فكان الشعراء والخطباء يقولون فيها ما يحفظونه وما ألفوه من شعر ونثر، وقد بلغ عنايتهم بهذا الأمر أن ما ظهر وبرز من شعرهم كانوا يكتبونه بماء الذهب، ويعلقونه على الكعبة، ومن ذلك ما نعت وسمي بالمعلقات. والشعر العربي له بحور تسمى بحور شعرية، وهي ستة عشر بحراً شعرياً، أول من صنف فيها وبوبها وأبانها وأظهرها للناس العلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمة الله تعالى عليه. وكان هذا الرجل على قدر كبير من الذكاء، فإنه مر بسوق النخاسين ممن يعملون في النحاس، فأخذ ينظر إلى النغمات النحاسية الصادرة عنها، فقرنها بشعر العرب، فكان أن ألف علماً استجده وهو علم العروض، حتى أنه كان يذهب يقطع الأبيات الشعرية في بيته، فرآه ولده، فظن أن فيه مسّاً من الجنون، فأخبر أهله بأن أباهم قد جن، فقال الخليل رحمة الله تعالى عليه وكونه قد بلغ من العلم والفضل ما بلغ: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك أي: لو كنت تدري ما أصنع لما لمتني، ولو كنت لا أعلم أنك جاهل للمتك، لكن جهلت أنت ما أعلم فلمتني، وعلمت أنك لا تعلم فعذرتك! الشاهد: هذه القصائد الشعرية تسمى عند العرب بالشعر الغنائي، وليس معنى قولهم: (الشعر الغنائي) أنه يغنى، ولكن عندهم شعر غنائي هو الشعر الذي تعرفونه، وعندهم شعر قصصي وهو ما يكون على هيئة قصة، والشعر المسرحي -وهذا حديث- وهو ما يكون على هيئة مسرحية، وشعر يكون أحياناً على هيئة مطولات. والذي يعنينا منها الشعر الغنائي الذي عرفته العرب، ولكون الشعر ذا منزلة عظيمة عند العرب بين الله أن كتابه المبين الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليس من الشعر في شيء، حتى لا يظن العرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاعراً كما زعموا، قال الله جل ذكره: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:69 - 70].

مدح الفرزدق لزين العابدين

مدح الفرزدق لزين العابدين وللشعر أغراض، فمنه شعر الغزل بقسميه العذري والإباحي، ومنه المدح، ومنه الرثاء، ومنه الوصف، ومنه الحكمة وما إلى ذلك، ولعل من أظهره عندهم شعر المدح، ولا ريب أنه إذا كان الممدوح عظيماً والشاعر متمكناً، كان ذلك أقوى في أن تكون القصيدة مقبولة عند الناس، لكن إذا كان الممدوح دون حق المدح، فإن القصيدة لابد أن يظهر فيها شيء من الجناس، وهذا أمر معروف مشتهر. ومن أشهر قصائدهم في المدح في عصر بني أمية مثلاً: أن هشام بن عبد الملك رحمة الله تعالى عليه خليفة المؤمنين المعروف حج ذات مرة، ويظهر أنه حج في عهد أبيه عبد الملك بن مروان، فلما أراد أن يقبل الحجر الأسود وكان الناس لا يعرفونه لم يفسح له أحد المجال، فقبله على زحمة من الناس ثم مضى إلى جانب الكعبة، فجاء زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فلما أراد أن يقبل الحجر عرفه الناس، فانزاحوا عنه وأفسحوا له الطريق حتى قبل الحجر، فلما رأى ذلك هشام أراد أن يصرف وجوه أهل الشام عن زين العابدين علي فقال من باب التهكم -وهو يعرف زين العابدين - قال: من هذا؟ يريد أن يبين أن هذه شخصية نكرة من النكرات، فكان من سوء حظ هشام أن الفرزدق كان موجوداً عند البيت، فارتجل تلك القصيدة التي يمدح بها زين العابدين قال: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا النقي التقي الطاهر العلم وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا إلى آخر ما قال رحمة الله تعالى عليه. فلما قالها انصرفت وجوه الناس من هشام إلى زين العابدين بن علي، وكانت تلك القصيدة سبباً في أن هشاماً سجن الفرزدق؛ لأنه مدح زين العابدين علي على ملأ من الناس.

مدح حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم

مدح حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ما مدح أحد أعظم من رسولنا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن شخصيته عليه الصلاة والسلام أهل لأن تمدح، فإن الله جمع الكمال البشري كله في شخصية هذا النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه، قال حسان: فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد ونقل عن حسان قوله في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأجمل منك لم تر قط عيني وأعظم منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء صلوات الله وسلامه عليه.

مدح شوقي للرسول صلى الله عليه وسلم

مدح شوقي للرسول صلى الله عليه وسلم وممن مدح النبي عليه الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر أمير الشعراء شوقي، وكان شوقي -والحق يقال- قد أوتي فصاحة وبلاغة شعرية كتابية، أما لفظياً فإن شوقي لم ينقل عنه أبداً أنه يلقي قصائده على الناس، بل إنه كان يأمر غيره أن يقرأها على الناس، والذي أحفظه من شعره أن شوقي لم يقرأ إلا قصيدة واحدة من قصائده ارتجلها لعدم وجود القائل، أما غيرها فقد كان غيره من الناس يقرؤها، وهذا ليس له دخل في الباب إلا من باب الفائدة. أقول: إن شوقي رحمة الله عليه رغم قدرته الشعرية إلا أنه لم يؤت باعاً علمياً، فلذلك صاحب قصيدته شيء من الخلل العقدي، وأظن أن شوقي لم يكن يفقه ما يقول من الناحية العقدية؛ أولاً: لأنه شاعر. ثانياً: أن الحقبة التي عاش فيها شوقي -ومعلوم أنه توفي عام 1932م- لم تكن حقبة ذات علم غزير، فإن الناس ما زال اليوم منهم من يخطئ في أمور العقيدة فضلاً عن تلك الحقبة وإن كان ذلك ليس عذراً له. الشاهد أن مما قاله شوقي في النبي المعصوم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قوله: فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الأبناء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء والحق أنها من أجمل الشعر وأعذبه، لما تضمنته من أوصاف بليغة في حق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وقد أجاد شوقي في قوله في قصيدة أخرى: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اقتدت السحابا صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً.

مدح حافظ إبراهيم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

مدح حافظ إبراهيم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما إن ممن أثني عليه ومدح في العصر الحاضر وهو شخصية سابقة ما قاله حافظ إبراهيم رحمة الله تعالى عليه في حق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فـ عمر أحد أعلام المسلمين العظام، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فقال: (عمر في الجنة). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قال: (رأيتني وأنا نائم كأني في الجنة وإذا بقصر جميل وامرأة تتوضأ فسألت: لمن هي؟ فقيل: لـ عمر بن الخطاب، فرجعت لما ذكرت غيرة عمر! فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال: أمنك أغار يا رسول الله). فهذا الحديث فيه بيان لما كان عليه هذا الخليفة الراشد من صفات جليلة عظيمة لا تخفى على جل المؤمنين. وقد صاحب حياة عمر أحداث كبيرة جمعها حافظ في قصيدة عرفت أدبياً بالعمرية، وألقاها حافظ في مدرج وزارة المعارف في القاهرة مساء يوم الجمعة 8/فبراير عام 1918م في حفل أقيم لهذه القصيدة بصفة خاصة، وصدرها بقوله: حسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الفاروق أهديها لاهم هب لي بيان أستعين به على قضاء حقوق نام قاضيها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها لا تمتطي شهوات النفس جامحة فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها قال اذهبي واعلمي إن كنت جاهلة أن القناعة تغني نفس كاسيها فأقبلت بعد خمس وهي حاملة دريهمات لتقضي من تشهيها فقال نبهت مني غافلاً فدعي هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها إن جاع في شدة قوم شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها فهان في عينه ما كان يكبره من الأكاسر والدنيا بأيديها فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها واستأذن الناس أن تغشى بيوتهم ولا تلم بدار أو تحييها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت في النهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها والقصيدة تقع في 188بيتاً قالها حافظ رحمة الله تعالى عليه كما أنبأنا وهي موجودة في الجزء الأول من ديوانه، رحمة الله تعالى عليه، وإنني لأسأل الله أن يغفر له بكل عمل صالح، وبهذه القصيدة بالذات لما فيها من نشر لمحاسن رجل خدم الأمة، وقدم لها أعظم الأعمال، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

رثاء حسان بن ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم

رثاء حسان بن ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم كما أن من أغراضهم في الشعر غرض الرثاء، وغرض الرثاء يعد من أصدق الأغراض؛ لأنه غالباً لا يوجد نفع عند شخص قد ووري في التراب وأفضى إلى رحمة الله، فيكون التعبير في الرثاء أمراً مقبولاً لدى الناس لانتفاء النفاق في الغالب منه، وحسبك أن تعلم ما قاله حسان رضي الله تعالى عنه في رثاء نبينا محمد صلى الله وعليه وسلم. قال حسان يرثي النبي المعصوم: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معالم لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً بها واراه في الترب ملحد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد إلى آخر ما قال رضوان الله تعالى عليه. والقصيدة ذكرها ابن هشام وغيره في السير، وفيها كثير مما تذرف له الدموع، وتحزن له القلوب؛ لأن الأمة لم تصب بأحد أعظم من مصيبتها بنبيها صلوات الله وسلامه عليه.

رثاء الأنباري للوزير المصلوب

رثاء الأنباري للوزير المصلوب كما أن من قصائد الرثاء المؤرخة الموثوقة المثبتة أن أحد الولاة غضب يوماً على وزيره، وكان الوزير كريماً سخياً بين الناس، فصلبه بعد أن قتله، وعلقه مصلوباً، فكانت هيئة الرجل وهو مصلوب مثل هيئة الصليب، وأوقد حوله النيران، وجعل حوله الحرس حتى لا يصل أحد لإنقاذه. فجاء رجل من الشعراء كانت تربطه بذلك المصلوب صداقة حميمة، وكان المصلوب وزيراً فصيحاً بليغاً كثيراً ما يخطب في الناس، وكثيراً ما يتصدق على الناس، فالناس حوله إما أن يخطب فيهم، وإما أن يعطيهم، وهي هيئة تستلزم من الرجل أن يمد يديه، فلما رآه ذلك الشاعر قال أبياتاً حسد القاتل المقتول وتمنى لو كان هو المصلوب قال: علو في الحياة وفي الممات لحق تلك إحدى المعجزات كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات كأنك قائم فيهم خطيباً وكلهم قيام للصلاة وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضم علاك من بعد الوفاة أحالوا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات وما لك تربة فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات وهي أبيات في قمة الشعر يقول له: إن الناس من حولك ينظرون إليك كأنك حي، فكأنهم ينتظرون منك أن تخطب، أو ينتظرون منك أن تعطي، ولما كانت الأرض لا تليق بك جعلوا من الجو والأماكن العالية قبراً لك، وجرت العادة أن الناس تدعو على القبر أن يمطر ويسقى، فقال للمصلوب: أنت الغيث بعينه، وأنت المطر الذي تنزل على الناس، فجعل حسرة المصلوب رحمة عليه، وإن كانت بعد وفاته لا تنفعه، لكنها في قمة رثاء الذي علمناه وسمعنا به.

من أقضية شريح القاضي

من أقضية شريح القاضي

قضاء شريح بين عمر بن الخطاب والأعرابي

قضاء شريح بين عمر بن الخطاب والأعرابي القطوف الأخيرة: حول شخصية رجل عرفه التاريخ مثالاً أكبر للقضاء. القضاء منصب حساس في حياة المسلمين، ومتى اختل أصاب الناس الفساد والظلم، أجارنا وإياكم من ذلك، وأعان من كلفهم مسئولية القضاء بين المسلمين، ونسأل الله جل وعلا أن يذكرهم جميعاً ذل الوقوف بين يديه، وحرمة التعرض لأموال المسلمين وأعراضهم، وعقاراتهم، وشئونهم الخاصة والعامة. من أعلام المسلمين في القضاء: شريح رضي الله تعالى عنه، هذا الرجل كان من أهل اليمن، وأدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ما قدم المدينة إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فانتفى في حقه شرف الصحبة. اشترى عمر رضي الله تعالى عنه ذات يوماً فرساً من أعرابي فلما مضى بها وجد بها شيئاً من الخلل فردها للأعرابي، فرفض الأعرابي أن يقبلها منه، فقال عمر للرجل: اجعل بيني وبينك حكماً قال: هيا إلى شريح. ولم يكن شريح في ذلك الدهر قد ولي القضاء! فلما مثلا بين يديه وسمع أقوالهما، قال: يا أمير المؤمنين! جدك ما اشتريت أو اقبل كما أنت عليه، فتعجب عمر من جرأته وبيانه للحق، قال: اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة. فولاه عمر قضاء الكوفة وبقي عليها والياً في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه.

قضاء شريح بين علي بن أبي طالب واليهودي

قضاء شريح بين علي بن أبي طالب واليهودي فلما آلت الخلافة إلى علي فقد علي في يوم صفين درعاً له، فوجدها في يد يهودي من أهل الذمة، فقال: هذه درعي، فقال: بل درعي يا أمير المؤمنين! فتخاصما فقال اليهودي: اجعل بيني وبينك حكماً، قال: نحتكم إلى قاضي المسلمين، فتحاكما إلى شريح رضي الله تعالى عنه، فلما مثلا بين يديه قال اليهودي: هذه درعي وهي في يدي. قال: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه درعي فقدتها، ولم أبعها ولم أهبها. قال: ومن يشهد لك؟ قال: اثنان: مولاي قنبر، وابني الحسن. قال: أما شهادة مولاك فأجزناها، وأما شهادة ابنك فرددناها. قال علي: سبحان الله! رجل يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ترد شهادته! قال: يا أمير المؤمنين، إني أعلم أن الحسن في الجنة، ولكني لا أجيز شهادة الابن لوالده. فقال: ليس عندي شاهد غيرة. قال: تبقى الدرع مع اليهودي. فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، إن ديناً يأمر بهذا لحق، قاضي المسلمين يحكم لي على أمير المؤمنين، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن هذه الدرع سقطت منك يوم صفين فأخذتها، ثم ردها عليه، فرفض علي أن يقبلها وقال: خذها هدية بسبب إسلامك.

قضاء شريح لخصوم ابنه

قضاء شريح لخصوم ابنه مما يروى عن شريح أنه جاءه ابنه وقال: يا أبت، بيني وبين أحد الناس خصومة، وسأعرض لك القضية، فإن كان الحق لي فأخبرني حتى أقاضيهم بين يديك. قال: قل يا بني. فأخذ الابن يقص على أبيه ما بينه وبين الناس، فلما فرغ قال له: ائت بهم، فلما أتى بهم بين يديه حكم شريح للخصوم على ابنه، فلما خرجوا غضب الابن وقال: يا أبت، والله لو لم أخبرك من قبل لوجدت لك عذراً، لكنني أخبرتك قبل أن نحتكم إليك. قال: يا بني، والله إنك في عيني أحب إلي منهم جميعاً، ولكن الله جل وعلا أعز علي منك. فانظر إلى عظمة قضاة الإسلام في ذلك العصر. ومما يروى عنه أنه كان يستظرف الشعر، فكان له ابن يرسله لمن يحفظونه القرآن، فخرج ذات يوم وقد رأى ابنه قد ترك الصلاة، وذهب إلى بعض الكلاب أجاركم الله يلعب بها، فلما كان اليوم الثاني أعطى الابن ورقة وقال: يا بني، اذهب بهذه إلى مؤدبك، فلما ذهب بها الابن إلى المؤدب وجد فيها أن شريحاً يقول: ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي اللهاة مع الغواة الرجس فليأتينك غدوة بصحيفة كتبت له كصحيفة المتلمس فإذا أتاك فداوه بملامة أو عظه موعظة الأديب الكيس وإذا هممت بضربه فبدرةٍ وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبسِ واعلم بأنك ما أتيت فنفسه مع ما تجرعني أعز الأنفس واستطرف أهل العلم أبياته الشعرية هذه، بأن فيها من نطق مخبره، وحسن معدنه.

حكاية عن الشعبي

حكاية عن الشعبي ومما يروى في هذا الباب: أن الشعبي رحمة الله تعالى عليه وكان أحد أعلام المسلمين، وقضاتهم المشهورين، وهذا قد تكون من الحكمة ألا يعلن على ملأ، وإنما يقال من باب الظرافة: فإن الشعبي رحمة الله تعالى عليه احتكم إليه رجل وامرأة متزوجان، وكانت المرأة جميلة، فحكم للمرأة ولم يحكم للرجل، وقد سمع منها ولم ير شيئاً، فلما انصرف وطلق الرجل امرأته غضب على الشعبي أنه حكم للمرأة، ولم يحكم له، فنشر بين الناس. وهذا يستفاد منه أنه أحياناً تسمع ما لم يكن حقاً، تسمع في أعلام الناس ما ليس بحق، فنشر ذلك الرجل أبياتاً شعرية في حق الشعبي لا تليق برجل من علماء الأمة كـ الشعبي فقال فيما قال: فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها سحرته ببنان وخضاب في يديها كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها الجثا حتى تراه ساجداً بين يديها فكان الشعبي كلما مر على ملأ من الناس يجدهم ينشدون هذه الآبيات، وهو يقول: والله! ما رأيت، ولا نظرت، ولا حكمت إلا على حق، لكن حسبنا الله والله المستعان! وهذا يستفاد منه: أنه قد يقذف الرجل بما ليس فيه، فليس كل ما يزعم في الأعلام حق، فالإنسان لا يأخذ الحق إلا من مصدره. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

مراتب صلة الأرحام وذكر أبلغ بيت شعري وأصدق بيت

مراتب صلة الأرحام وذكر أبلغ بيت شعري وأصدق بيت Q ذكرتم في محاضرة (رحماء بينهم) مراتب صلة الرحم الأربع، نرجو منكم إعادة هذه المراتب بشكل موجز، وما أبلغ بيت شعري قالته العرب، وما أصدق بيت أيضاً؟ A بالنسبة لما ذكرناه من مراتب صلة الرحم فقد قلنا في ذلك الوقت إن مراتب صلة الرحم أربع: الأولى: أن يصل إنسان قوماً لا يصلون من أرحامه، وهذه أعلى المراتب منزلة. المرتبة الثانية: أن يصل الإنسان أقواماً يصلونه، وهذا بمنزلة المكافئ. المرتبة الثالثة: أن يقاطع الإنسان أقواماً يقاطعون. المرتبة الرابعة: أن يقطع الإنسان قوماً يصلونه، وهذه والعياذ بالله هي أعظم مراتب الإثم. أما أبلغ بيت شعري قالته العرب، فإن هذا سؤال أدبي، وأنا كنت أود أن تأخذ المحاضرة الطابع الأدبي بأكملها، لكن بما أنه قد سئل فإنه قولهم: أبلغ بيت قالته العرب يرجع إلى الناقد نفسه، فإن الناقد قد يكون أحياناً صادقاً، وقد يكون أحياناً غير موفق، لكن من أعظم ما قالته العرب قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح وأما أصدق بيت أيضاً فهو قول حسان: وما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد صلى الله وعليه وسلم.

من شعر الغزل العذري

من شعر الغزل العذري Q قال الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى إلى آخر ما قال، هذا من أي أنواع الشعر؟ A هذا من الغزل العذري والبيت أصله: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار وليس في ذكر البيت حرج؛ لأن المقصود به التنبيه على أن الأماكن لا تعرف بذاتها وجدرانها وحيطانها، وإنما تعرف بأهلها ومن يسكن فيها.

حكم تطويل الأظافر

حكم تطويل الأظافر Q ما حكم تطويل الأظافر والحضور إلى الصلاة وهي طويلة؟ A أما حكمها فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يطيل أظافره؛ لأن من الفطرة أن يقلم أظافره، لكن كون الأظافر طويلة لا يقدح في صحة الصلاة، وليس له علاقة بكون الصلاة باطلة أو صحيحة، ولكنه قد ينقص من كمال الصلاة؛ لأن من كمال الصلاة أن يكون الشخص مكتملاً في هيئته بسنة محمد صلى الله عليه وسلم.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q هل تارك الصلاة كافر أو لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)؟ A هذا الحديث صحيح: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، لكن على أي كفر يحمل، كفر أكبر، أو كفر دون ذلك؟ فيه كلام طويل لأهل العلم، ولا أريد أن أفصل فيه، لكن الذي يريد أن يستقر في الأذهان أن تارك الصلاة دون جحود لها مسألة اختلف فيها أهل العلم، ولكل دليله، ولا يضير أحداً إن كان من أهل العلم والفتوى أن يتبنى أحد الرأيين دون الآخر، فإن هذا مما مضى فيه الخلاف.

حكم الاستماع لبعض الدعاة دون الآخرين

حكم الاستماع لبعض الدعاة دون الآخرين Q ما رأيكم فيمن يفضل بعض الدعاة والعلماء، ولا يستمع إلا لنوع معين دون الآخرين؟ A أنا أعطيك قاعدة: لا تحرم نفسك من الخير، كل من عنده حق فخذ الحق منه، وكل من قال باطلاً فاترك الباطل منه، ولا تنظر إلى الأسماء علت أم ضعفت، مشهورة أو مغمورة، فالحق يعرف ما عليه من نور، ولا يعرف الحق بالرجال، فاستخر الله جل وعلا والتمس لدينك ما هو أفضل لك، وخذ من الناس ما أصابوا فيه، ودع من الناس ما أخطئوا فيه، والله تعالى أعلم.

متى يؤجر كافل اليتيم

متى يؤجر كافل اليتيم Q من نعم الله الكثيرة علينا أن فتح لنا أبواب الخير الكثيرة، ومن هذه الأبواب ما تقوم به لجنة البر الإسلامية من عرض أعلام الخير للمسلمين على شكل اشتراكات دولية في دفع المال، ومنها كفالة اليتيم التي فيها يدفع المشترك مالاً سنوياً فقط دون أن أي مقدمات مقومات أخر، والسؤال هو: هل معنى كفالة اليتيم هنا أن تغطي المقصود التام لما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)؟ A إذا كان ذلك المال يغطي مستلزمات اليتيم كاملة، فإني أرجو أن يدخل في عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إن كان الأمر جزئياً فإني أرجو ألا يحرم ذلك العبد من الخير، وما عند الله خير وأبقى، والله تعالى أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أيام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

أيام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئة بالعظات والعبر، كاملة محاسنها، مستفيضة أخبارها، ينبغي على كل مسلم أن يتمعن في سيرة هذا النبي العظيم، فبها تستنير القلوب، وتصفو النفوس، وتعلو الهمم، فهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه

بشارة الأنبياء عليهم السلام بقرب بعثته صلى الله عليه وسلم

بشارة الأنبياء عليهم السلام بقرب بعثته صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من أصبعيه، وحن الجذع إليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فإن المتصدر لتدريس شخصية ما، وذكر أحوالها ومناقبها، وما آلت إليه، وما قدمته للناس، يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينة من أمرهم في الصواب والخطأ، والهداية والضلالة، والسداد وعدم التوفيق، لكن الذي يريد أن يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فليس عليه إلا أن يطأطئ رأسه، ويخشع قلبه وتسكن جوارحه؛ لأنه يتحدث عن رحمة مهداة، ونعمة مسداة، عن سيد البشر، وخيرة خلق الله وصفوته، عن رسول الهدى، ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وينبغي أن يعلم في أول الأمر أن السيرة واحدة لا تزيد ولا تنقص، فلا يستطيع أحد أن يزيد شيئاً لم يثبت فيها، ولا يستطيع أحد أن ينقص شيئاً مما ثبت فيها، لكن المسلمين في استسقائهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواردهم ومناهلهم ومصادرهم، فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون، وينهل القادة، ويغترف الساسة، ويتعلم العلماء، ويبحث الفقهاء، ويجد كل امرئ له حظاً من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، والأمر كما قيل: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد أن تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم، والوجه الأكمل، على ما يسعى الإنسان أن ينال به رضوان الله، ثم نفع إخوانه المسلمين، فبدا لي -والإنسان ناقص مهما سعى إلى الكمال- أن عرض السيرة إجمالاً من الميلاد إلى الوفاة، والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر، أقرب طريق إلى فقه سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، والنحو الأتم. ونبينا صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة كاملة، والاحتفاء التام من ربه جل وعلا، وحفاوة الله بأنبيائه سنة ماضية قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، وقال جل وعلا في حق موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل حفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا، فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (إني عند الله لخاتم النيين، وإن آدم لمجندل في طينته). ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أخذ الله جل وعلا العهد والميثاق أنه إذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون أن يصدقوه ويؤمنوا به: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. ثم كانت دعوة أبيه إبراهيم عندما وقف عند البيت: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]، ثم كانت بشارة عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام)، وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقة، ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً). صلوات الله وسلامه عليه. هذا كله قبل ولادته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد الله جل وعلا له أن يولد في العام الذي ولد فيه صلوات الله وسلامه عليه كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على أن شيئاً ما سيقع، وأن حدثاً عظيماً سيكون، فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزى فيه أبرهة بيت الله العتيق، وعاد من ذلك الغزو خاسراً خائباً كما هو معروف لكل أحد.

مولده صلى الله عليه وسلم

مولده صلى الله عليه وسلم ولد صلى الله عليه وسلم لأب اختلف العلماء: هل مات قبل ولادته أو بعده؟ والأرجح: الأول، ثم إن الله جل وعلا أراد أن يبين لسائر الناس أن محمد بن عبد الله لم يكن يوماً تلميذاً لشيخ، ولا طالباً في مدرسة، ولا ربيباً لأبوين، وإنما تولته عناية الله في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ثم بعد ولادته إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فتوفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ستاً من الأعوام، وعاش طفولته الأولى بعيداً عن أسرته في بادية بني سعد، حتى لا يقولن أحد بعد ذلك: إن رجلاً أو شخصية ما تولت رعايته، وكونت شخصيته، وألهمته الدروس، وأعطته العبر، وعلمته الكتاب: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49].

إرهاصات قبل البعثة النبوية

إرهاصات قبل البعثة النبوية فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهية وفضلاً ربانياً محضاً، ليس لأحد من البشر كائناً من كان فيه حظاً ولا نصيب. عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته ثم عاد إلى مكة فكفله جده عبد المطلب، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشي له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب، يسقي من خلالها رسولنا صلى الله عليه وسلم، حتى تكونت شخصيته فنشأ بعيداً عما فيه قومه. وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية، نأى بنفسه عنها، ولو عاش وحيداً، قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]. فالبعد عن أهل الغواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح والنجاح، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير، فقد شهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجياً شيئاً فشيئاً من غير أن يعلم صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبياً؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤيا، وكان لا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في منامه، حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فتسلم عليه الحجارة: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، فيسكت ويبقى على حاله.

نزول جبريل عليه السلام على رسول الله في الغار

نزول جبريل عليه السلام على رسول الله في الغار حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم في ليلة 21 من شهر رمضان على الأرجح لما أتم أربعين عاماً جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه، والنقلة التاريخية للكون كله، إذ بعثه الله رحمة للعالمين، رحمة من لدنه كما أخبر جل وعلا، جاءه الملك ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عهد بالملك أصلاً فأصابه من الرعب والفزع ما أصابه، قال له الملك: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)، أي: لا أجيد القراءة أصلاً، (فردد الملك: اقرأ! ورسول الله باق على جوابه: ما أنا بقارئ)، فضمه الملك ثم تركه، ويضمه ثم يتركه حتى يشعره في تلك اللحظات أن هذا الحديث خارج عن حديث أهل مكة، فليست تلك رؤيا يراها أو حديثاً في نفسه يريد أن يتأكد منه، فكان الملك يضمه ثم يتركه حتى يبين له أن هذه ظاهرة منفكة عن حديث مكة، منفكة عن رؤى الأحلام، منفكة عن أحلام اليقظة. ثم قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].

هكذا فلتكن زوجات الصالحين

هكذا فلتكن زوجات الصالحين نزل صلى الله عليه وسلم خائفاً وجلاً إلى زوجته خديجة، وكان قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته فلم تحدثه بما صنع الأولاد، ولا ماذا أصاب البنات، لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته، وإنما همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم، آوته إلى صدرها، وضمته إليها، ثم قال لها: (لقد خشيت على نفسي)، فطمأنته رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها، قالت: والله لن يخزيك الله أبداً، ثم عددت مناقبه: إنك لتطعم الفقير، وتعين على نوائب الدهر، وتقول الصدق، وأخذت تسرد له مناقبه وفواضله صلى الله عليه وسلم، فقدمت بذلك أنموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه المرأة مع زوجها. إن كثيراً من الناس قد يأتي إليك محمولاً بالهموم مثقلاً بالخطايا فليس من الصواب أن تسرد عليه همومك أنت وترده خائباً، لكن ينبغي أن تنسى همومك في جانب همه إذا أردت له النفع والفائدة، ثم أخذته بيده إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان رجلاً له حظ من علم وأثرة من كتاب، فقال له: ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى، فاشتاق صلى الله عليه وسلم إلى الوحي؛ لأنه سمع القرآن لكن الوحي انقطع ولم يأت حتى يذهب الرعب، ويبقى الشوق إلى كلام الله جل وعلا، كيفية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات، قال أكثر أهل العلم: إنها بقيت ستة أشهر وهي مرحلة فتور الوحي، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الحزن ما الله به عليم، حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يصعد إلى شواهق الجبال يريد أن يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى، لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون: إن هذه الرواية على هيئة بلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم.

عودة الوحي على رسول الله بعد فتوره

عودة الوحي على رسول الله بعد فتوره وإن كان نفيها أقرب إلى الصحة، أياً كان الأمر فقد عاش صلى الله عليه وسلم فترة عصيبة، فهي فترة انقطاع الوحي عليه، حتى أصبح يشك في نفسه فيما رآه في السابق فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم إلى كلام الله إذا به صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة، فإذا الملك يناديه! فيلتفت فإذا الملك على كرسي بين السماء والأرض قد سد ما بين المشرق والمغرب يقول له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]. ثم نزل الوحي وتتابع وحمي بأعظم من ذلك، قال الله جل وعلا في آية يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فأقسم الله بمخلوقاته إرضاء له صلوات الله وسلامه عليه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]. هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئة آية قرآنية فيه من الإثبات للمكانة العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانة لا يرقى إليها أحد من الخلق كائناً من كان، إلا أنها في نفس الوقت لا تعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الألوهية أو الربوبية فالألوهية والربوبية، كمالها وتمامها لله جل وعلا وحده لا شريك له فيها أبداً.

صور من إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم

صور من إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ صلى الله عليه وسلم يقوم بواجب الدعوة شيئاً فشيئاً وهو ما عرف تاريخياً: بالدعوة في مرحلتها السرية، تغير وجه قريش لها، ونالوا منه صلوات الله وسلامه عليه وساموه وأصحابه سوء العذاب وهو عليه الصلاة والسلام صابر محتسب يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يدعو الناس إلى التوحيد، فكان أبو جهل يحمل راية السوء ضده حتى إنه بلغ من إيذاء أبي جهل لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود: (أن جزوراً نحرت بالأمس فلما كان في الغد جاء صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وصلى فقال أبو جهل وقريش في أوديتها: أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيضع سلى الجزور على كتفي محمد صلى الله عليه وسلم، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل الجزور فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فوضع سلى الجزور بين كتفيه الطاهرين صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: فلو كانت لي منعة لرفعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه ذهب إنسان إلى فاطمة رضي الله عنها وأخبرها الخبر فجاءت وهي جويرية يومئذ فرفعت سلى الجزور عن كتفي نبينا صلى الله عليه وسلم، فلما أتم صلاته دعا ثلاثاً، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وسأل الله ثلاثاً ثم قال: اللهم عليك بـ أبي جهل، وعتبة بن أبي ربيعة، وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف وسمى سبعة صلوات الله وسلامه عليه، قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر). نقف عند هذا الحدث: فهناك -يا أخي- أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر والعاقل من يستزيد من تلك التقاليد والأعراف ولا يصادمها، فـ ابن مسعود كان يعلم أن الأعراف الجاهلية لا تسمح للضعفاء ولا عديمي الظهر من أن يكون لهم حظ في الناس، فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو ميت فأبقى على نفسه ولم يأت ليرفع سلى الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان والتقوى بمكان لا يعلمها إلا الله، وكانت الأعراف الجاهلية تنص على حفظ المرأة وعدم التعرض لها ولو بدأت بالأذى، فكان موقفاً لـ فاطمة أنها تقدمت بين صفوف الرجال وحملت سلى الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون أن يصيبها أذى، فالعاقل من الدعاة والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها، وهذه التقاليد والأعراف لا تبقى في كل زمان على هيئة واحدة وإنما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، والشاهد والمقصود: أن يوظفها الإنسان لصالح الدعوة، ولصالح هداية الناس إلى طريق الله المستقيم.

حصار المشركين لبني هاشم في شعب أبي طالب

حصار المشركين لبني هاشم في شعب أبي طالب عجزت قريش عن الإيذاء الجسدي الفردي فعمدوا إلى الحصار العام فقدموا على أبي طالب وطلبوا منه أن يسلم إليهم ابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه فأبى، فقرر القرشيون مقاطعة بني هاشم لا يمازحونه ولا يبتاعون منهم، فآوى أبو طالب ببني هاشم وبني المطلب في شعب لهم يقال له: شعب بني هاشم، ومكث الحصار ثلاث سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله جل وعلا به عليم، وكان خلال مدة الحصار أبو طالب على كفره إذا هجع الناس وناموا يعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو هم أحد بقتله يقتل ابنه بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك كله -ولله الحكمة البالغة- لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا فمات على الكفر؛ ولذلك حكمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، وبعد أن انتهى الحصار أو قبل أن ينتهي لا يخلو صراع بين الحق والباطل بنشوء أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم: دول عدم الانحياز، كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا بمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان ما دعا إليه رؤساء قريش وزعماؤهم فتعاونوا على نقض المعاهدة. وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم عندما يرى أهل المروءات الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان أن يستفيد منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة، ويبذل طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولا يصادمهم حتى لا تخسر الدعوة سنداً وقوة لها، فهؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان، لكن كانت في قلوبهم رحمة، وفي أنفسهم شهامة، ومن خصالهم المروءة وظفوها لنقض المعاهدة، وتم لهم ما أرادوا، ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار، وبعد خروجهم من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد، وقيل: بين موتهما ثلاثة أيام، فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان، فخرج إلى الطائف وكانت أقرب الأماكن إلى مكة، خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا، فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم.

خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لدعوتهم وموقفهم منه

خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لدعوتهم وموقفهم منه ولجأ إلى حائط في الطائف، فلما لجأ إليه صلوات الله وسلامه عليه رق له بعض الكبراء فأرسلوا له غلاماً نصرانياً يقال له: عواس فجمع بعض العنب، فلما وضع العنب بين يديه قال صلى الله عليه وسلم: باسم الله، فقال الغلام: هذا شيء لا يقوله أهل هذه البلدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أنت وممن؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال صلوات الله وسلامه عليه: من بلدة النبي الصالح يونس بن متى، قال الغلام: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: هو نبي وأنا نبي فأكب الغلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم يقبله حتى لامه سادة ثقيف يومئذ). ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة فإذا انقطعت أسباب الأرض لجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إلى الله شكواه، ورفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه نبي مرسل، لكن البلاء فيمن يستمع إليه، فناجى ربه قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت أرحمن الراحمين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت منه الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، فتحت لهذه الدعوات أبواب السماء فما كاد صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة حتى بعث الله إليه نفراً من الجن يؤمنون به حتى تطمئن نفسه ويسكن قلبه ويعلم أن العاقبة له: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29]، فاطمأنت نفسه شيئاً فشيئاً صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعث إلى الملأ من قريش يخبرهم برغبته في دخول مكة، ويريد أن يدخل في حلف أحدهم فرده ثلاثة منهم، ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره فدخل صلى الله عليه وسلم رغم أنه مشرك استبقاء للمسلمين حتى لا يتعرضوا للأذى ثم بعد رحلة الطائف من الله عليه برحلة الإسراء والمعراج، فجاءه جبرائيل وهو نائم في الحجر فشق صدره وغسل قلبه بماء في طست من ذهب، ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناء ملئ إيماناً وحكمة، ثم قدم له البراق، ثم أسري به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى، وربط دابته في مربط هناك، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، فلما صد أهل الأرض أبوابهم أمامه فتح الله له أبواب السماء فاستقبله هناك سادات الأنبياء بدءاً بآدم ثم يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ثم بيوسف بن يعقوب عليه السلام، ثم إدريس، ثم هارون، ثم موسى، ثم أبوه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، ورأى جبرائيل كرة أخرى على هيئته التي خلقها الله تعالى عليها. أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك بها التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم

خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقبالهم له

خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقبالهم له ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف، ثم توالت الأحداث فالتقى صلى الله عليه وسلم برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم التقى برهط آخرين فكانت بيعة العقبة الثانية، ثم أذن الله له بالهجرة إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد هاجر قبله جمع من أصحابه، ثم تآمرت قريش عليه وقرروا قتله في مؤامرة مشهورة معروفة، ثم أخرجه الله جل وعلا من بين أظهرهم دون أن يروه وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، ثم التحق بصاحبه أبي بكر إلى غار في جبل ثور، عرف بغار حراء، فمكث في الغار والطلب والرصد تبع له مرة بعد المرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار. يمرغ في حراء أديم خد دواماً بالغداة وبالعشي لعلي أن أنال بحر وجه تراباً مسه قدم النبي مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام وقريش تبعث الطلب والرصد فيه فوقفوا على مقربة من الغار وأبو بكر يقول: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر أسفل قدميه لرأانا فيقول: يا أبا بكر! ما بالك باثنين الله ثالثهما)، هذا نصر الله جل وعلا على هيئة كتمان آتاه الله جل وعلا النبوة فلما سكن الرصد وقل الطلب خرج صلى الله عليه وسلم من الغار وصاحبه متوجهاً نحو هذه المدينة المباركة، وكانت الأنصار بلغهم خروجه صلى الله عليه وسلم فيخرجون كل يوم ينتظرون أوبته، ينتظرون قدومه، حتى إذا اشتد عليهم وهج الشمس رجعوا إلى دورهم، فلما كان اليوم الذي وصل فيه صلى الله عليه وسلم خرج رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة! وهو جد تجتمع فيه الأوس والخزرج هذا جدكم الذي تنتظرون فسمع في المدينة التكبير، وابتدر القوم إلى السيوف، وخرجوا يستقبلون نبيهم صلى الله عليه وسلم. بالأمس خرج من مكة شريداً طريداً في ظلمة من الليل، ثم ما لبث أن نصره الله فدخل المدينة كأعظم ما يدخلها الملوك والأنصار من حوله، كلما مر على ملأ قالوا له: هلم إلى العدد والعدة، هلم إلى العز والمنعة، يا رسول الله! وهو يقول: (خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة)، حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلوات الله وسلامه عليه، على مقربة من بيت أبي أيوب، فعمد أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخله بيته، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، ثم بنى مسجده، وبدأ يضع النواة الأولى لدولة الإسلام صلوات الله وسلامه عليه.

غزواته صلى الله عليه وسلم

غزواته صلى الله عليه وسلم ثم جاءت الغزوات فكانت غزوة بدر وهي حدث عظيم، لكن من أعظم ما يلفت النظر فيها: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ بالأسباب المادية فجهز الجيش، وأعد العدة، لجأ إلى ربه فاللجوء إلى الله جل وعلا لا يستغني عنه أحد كائناً من كان مهما عظمت قدراتنا، وبلغ حولنا ما بلغ، وزادت قوتنا، فحاجتنا إلى الله جل وعلا حاجة أبدية ملحة؛ لأننا فقراء إلى الله جل وعلا مهما بلغنا. مكث صلى الله عليه وسلم في العريش ينادي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه صلوات الله وسلامه عليه، وأبو بكر يأتيه من الخلف فيضمه فيقول: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله! فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فكان النصر له صلوات الله وسلامه عليه، فلما أقر الله عينه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقول: يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يناديهم بأسمائهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فتعجب أصحابه قالوا: يا رسول الله! تكلم قوماً قد رموا قال: يا عمر! والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يملكون جواباً)، وعاد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النصر أعظم ما يكون المسلمون في حاجة إليه حتى تطمئن أنفسهم ويثقوا بنصر الله؛ لأنها أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد أن أذن الله بالقتال، ثم كانت أحد وما أدراك ما أحد، فيها من العظات الشيء الكثير لكن فيها: أن وجهه صلى الله عليه وسلم كان نوراً يتلألأ كأنه فلقة قمر، فمع ذلك يريد الله أن يثبت أن الكمال المطلق لله وحده سبحانه فيشاع في أرض المعركة أنه صلى الله عليه وسلم قتل، فيشج رأسه وتكسر رباعيته فيسيل الدم على وجهه الشريف، ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه ويقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟)، فهو يدعوهم إلى الإسلام فينزل الله جل وعلا عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالأمر كله لله جل وعلا وحده، وليست بني قومي اليوم إذا سمعوا بهلاك أحد أو بموت أحد أن لا يشغلوا أنفسهم هل هو في جنة أو في نار؟ فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده، ولن يكلفنا الله تبارك وتعالى بأن ندخل من نشاء الجنة أو أن نحرم من نشاء منها، أو أن ندخل من نشاء النار أو نمنع من نشاء منها، فالجنة والنار لله العزيز الغفار، والله جل وعلا أعلم بخلقه، وأعلم بما تكنه الصدور، فهو تبارك وتعالى أسرع الحاكمين. وقد قال بعض الصالحين لولده ينصحه: يا بني! إن الله لن يسألك لما لم تلعن فرعون؟ مع أن فرعون ملعون في كتاب الله، لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لا يلقي لها بالاً، ولا يشغل بها نفساً فالجنة والنار بيد رب العالمين، وبيد أرحم الراحمين، ولن يسألنا الله من هم أهل الجنة؟ ومن أهل النار؟ لكننا لأنفسنا نسأل الله الجنة ونستجير بالله جل وعلا من النار. وفي مسند البزار: (أن لا إله إلا الله كلمة كريمة على الله، من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة، ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنة دمه وحسابه على الله جل وعلا) فالعاقل لا يشغل نفسه بما لا يعنيه، لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهم ما أمر الله به ورسوله، أما الحوادث الأخروية فلسنا مسئولون عنها؛ لأن علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. في غزوة أحد أراد الله جل وعلا أن يربي المسلمين على أن القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لا يربون الناس على التعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو فيهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145]. فالعاقل لا يربي الناس على التعلق به، وإنما يربيهم على التعلق بإله الكون وحده، فلا إله إلا الله تعني: أن الكمال المطلق، والحب المطلق، والتوحيد المطلق، والتكبير المطلق، لا يكون إلا لله جل وعلا وحده، فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمة، وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً إذا اعتصموا بما جاء، كان غيره أولى وأجدر أن تطبق عليه هذه القاعدة، فكان صلى الله عليه وسلم حية مبادئه، والدين الذي جاء به، أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه حتى قلم القضاء: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31]. فهذا أعظم ما خرج المسلمون منه يوم أحد من تربية إلهية لهم، ثم كانت غزوة الأحزاب فجمعت قريش وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته فاستشار الناس؛ فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر الخندق، والخندق وسيلة حربية مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها ولا علم آنذاك، وهنا نأتي لما عرف في عصرنا بصراع الحضارات، ينبغي أن يفرق أهل التقوى ما بين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري، الدين -يا أخي- صنع إلهي لا يملك أحد أن يزيد فيه وينقص، والحضارة صنع إنساني قابلة للزيادة والنقصان، قابلة للأخذ والعطاء، قابلة للتلاقح بين الأمم إذا تقاربت وتناكحت. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحة يقوم به فلاح أمته، ولم يقل صلى الله عليه وسلم حينها: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وهو محمول على من تشبه بهم في أمور الدين، أما الصناعات الإنسانية فليست ملكاً لأحد، ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على أن يؤثر الإسلام على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيئاً لم ينه أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للأمة أن تأخذ منه إذا رأت أن في ذلك مصلحة، والحكمة ضالة المسلم أنى وجدها أخذها، أما الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ما عندنا من الدين يمنعنا أن نأخذ ولو قطرة من سقاء من أي دين أو ملة على وجه الأرض؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى مكة معتمراً وأخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في قرابها، فلما دنوا من البيت العتيق منعتهم قريش من أن يدخلوه فجرى ما جرى من التفاوض، تريد قريش أن تطمئن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت لقتال، فكان أن بعث صلى الله عليه وسلم عثمان؛ لأنه كان يومئذ عزيزاً منيعاً في بني أمية، وكان أكثرهم مشركاً حينذاك، ثم أشيع أن عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجرة سمرة، فالذين بايعوه ألفاً وأربعمائة رجل إلا الجد بن قيس، وقد كان رجلاً منافقاً لم يحضر البيعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال لهم: (لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال: (هذه عن عثمان ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه)، قال العلماء: فكانت يد رسول الله لـ عثمان، خير من يدي عثمان لـ عثمان نفسه. بعد هذه البيعة وبعد مداولات أقر الصلح بين المسلمين وكفار قريش، والصلح ظاهره: أن فيه إجحافاً بحق المؤمنين وباطنه الرحمة، إذ وضعت الحرب وألقت أوزارها، وخلدت الناس، وأخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للوصول إلى الإيمان. إن هناك أناساً يرزقهم الله جل وعلا عقلاً فيمنعه من الاستفادة منه: حجب التقليد التي يضعونها أمامهم، أبو جهل كان يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك، لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه، وكان سبباً في حرمانه من دخوله الإيمان. أما سراقة بن مالك فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الآية لما غارت قوائم فرسه آمن أن النبي حق وعرف الآية، ونبذ التقليد وراء ظهره، خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس إلى أنفسهم وأخذوا يناقشونها ويحاسبونها فدخل كثير من الناس أفواجاً في دين الله، فانقلب ذلك العدد من ألف وأربعمائة رجل إلى عشرة آلاف يوم الفتح كما سيأتي، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمرة القضاء، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه غزا خيبر، ثم لما كان العام الثاني كانت من ضمن شروط صلح الحديبية: أن من شاء أن يدخل في حلف محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل، فدخلت بنو بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأعانت قريشاً بكراً على خزاعة، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى ال

عام الوفود وقصة وفد نجران

عام الوفود وقصة وفد نجران قفل صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة وفي ذلك العام كان عام الوفود فبدأت وفود العرب تقدم إليه صلوات الله وسلامه عليه، وكان من الوفود التي قدمت وفد نجران، وكان وفد نجران يعبدون المسيح عيسى بن مريم، فلما قدموا عليه صلوات الله وسلامه أخذوا يجادلونه ويقولون له: كيف نتبعك وأنت تنتقد صاحبنا وتقول: إنه عبد الله ورسوله، قال: نعم، عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا: كيف يكون عبداً لله ورسوله، أرأيت ولداً ولد من غير أب، فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60]، فلئن كان عيسى ولد من غير أب فإن آدم خلق من غير أم ولا أب، فجاءوا بالغريب فجاءهم الله بما هو أغرب رداً على حجتهم فلما قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك أبوا أن يسلموا له، فدعاهم إلى المباهلة ودعا علياً والحسن والحسين وفاطمة وقال: إن أنا دعوت فأمنوا وأنزل الله جل وعلا: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فعرفوا أنه نبي الله حقاً لكنهم لم يؤمنوا وخشوا من مباهلته، ثم إنهم صالحوه على ألفي حلة تؤدى له صلى الله عليه وسلم مرتين في العام وأشياء أخر. وفي عصرنا هذا: نشأ ما يسمى: بتقارب الأديان، وبحوار الأديان، فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعاً إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا شريك معه، أما تقارب الأديان فأمر مرفوض؛ لأنه لا يمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد فإن ذلك يعني: تنازلاً عقدياً والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3]. فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء، لا ينبغي له أن يحيد عنها مثقال ذرة، وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد، ولا مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، وما يسمى: بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد وإلى القرب من الشرك، وقد قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

حجة الوداع وموته صلى الله عليه وسلم

حجة الوداع وموته صلى الله عليه وسلم ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان العام العاشر، فأعلن للناس عزمه على الحج، فلما أعلن عزمه على الحج صلوات الله وسلامه عليه تسامع الناس بذلك فقدموا إليه حتى يأتموا به، فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن أحرم من ذو الحليفة مهللاً ومكبراً حتى وصل مكة وطاف بالبيت سبعاً ثم رقى الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به)، ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم حتى كان اليوم الثالث عشر، فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر في خيف بني كنانة صلوات الله وسلامه عليه، وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم اضطجع، ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر، ثم طاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الفجر، ثم قفل راجعاً إلى المدينة يكبر على كل شرف من الأرض ويقول لما دنا منها: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)، صلوات الله وسلامه عليه، ثم اشتكى الوجع فبدأ يشعر بتغير حاله، واشتدت عليه الحمى، فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم من البقيع فاستغفر لأهله، ثم خرج إلى أحد، فشهد للشهداء معه، ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده، وأعتق غلمانه، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه مكث ينتظر أجل ربه يوماً بعد يوم، والحمى تشتد عليه، حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على الأظهر والأصح والله أعلم، فكانت من صبيحتها أقل من ستار بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مؤتمين بأبي بكر فقرت عينه، وسكنت نفسه، بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم. فبذلك أرسل، وإلى ذلك دعا، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إلى فراشه واشتدت عليه وطأة الحمى، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك، ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ثم لا زال يردد: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم فاضت روحه)، وانتقل إلى رحمة خالقه ومولاه، خير من أرسل، وأجل من بعث، صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ولا ينبغي لمن يقف مع السيرة ويرصد مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو: أنه صلى الله عليه وسلم كان له من جميل الصفات والنعوت ما جعل الناس يحبونه، واجتمعوا عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكان في كل حينه منقطعاً إلى ربه دائم الصمت، عليه من السمت والوقار ما عليه: (حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقدته عائشة ذات ليلة فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). أيها المؤمنون! هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، من الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها خلال ساعة كاملة، وإننا مهما قلنا لمقصرون، ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله، ولن نبلغ الكمال كله، لكن إن كان من وصية أختم بها: فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البغض عن الله ما لا يخفى على أحد، والبعد عن أسباب الفجور سلامة منه. إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها ويحتاج هذا الأمر كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فليوطن أحدنا نفسه على الصبر، وليوطنها على اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن هذه الفتن التي تتتابع شررها، ويتفاقم خطرها، إنما هي بلاء وفتنة يصرف الله جل وعلا بها من يشاء عن طريقه، ويهدي الله جل وعلا بها من يشاء، فمن أخلص لله النية، وصلح قلبه، واستقامت سريرته، وفق للثواب، وهدي إلى سبيل الرشاد، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

دموع وتأملات

دموع وتأملات القرآن عظمة وجمال، وبهاء وجلال، وكمال واكتمال، هو دستور الأمة الذي يربي النفوس وينشئ المجتمعات التنشئة العظيمة. ولقد ذكر في القرآن العديد من المواقف التي تربي النفوس والتي يقتبس المسلم منها قبساً يضيء حياته، ونوراً يبدد من خلاله ظلمات الدنيا القاتمة.

القرآن جمال وجلال وكمال

القرآن جمال وجلال وكمال الحمد لله الذي جعل حمده أول آيةٍ في كتاب رحمته، وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد السرمدي، حمداً لا يحصيه العدد ولا يقطعه الأبد، حمداً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لربنا أن يحمد. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، وصفوته من رسله، وأمينه على وحيه، بعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه من عبد مجتبى، وحبيب منتقى، ورسول مصطفى، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه ثنائيات من وقفات ثلاث من كتاب الله تبارك وتعالى؛ أجل كتاب وأعظم تنزيل: قال سبحانه وقوله الحق: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، قال العلماء رحمهم الله: صدقاً في أخباره، وعدلاً في أوامره ونواهيه. ولن يعدل كتاب أبداً كتاب الله ولن يعدل كلام أبداً كلام الله، فحري بقلوب المؤمنين أن تنهل من معين القرآن، وتقف على مشارفة، وتقتبس من سناه، وهذا ما سنحاول -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نجني بعض ثماره وما نرجوه من الله جل وعلا أعظم وأجل. لقد ضمن الله جل وعلا كتابه الكثير من القصص منها ما كان صريحاً ومنها ما كان تلميحاً، هدى الله جل وعلا عباده من الضلالة، وعلمهم من القرآن من الجهالة. فتح به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً، حتى يستبين للناس طرائق الحق وبيان الصراط المستقيم, حتى يكونوا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فيفدون على ربهم إن اتقوه كأحسن ما تكون الوفادة، قال جل ذكره وتعالى اسمه: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85]. ولن نستطيع في عجالة من الوقت أن نقف على كل ما في القرآن من قصص وعظات وعبر يذِّكر الله جل وعلا بها القلوب، ويدعو بها تبارك وتعالى إلى رحمة علام الغيوب، وحسبنا في هذا المقام أن نقف على ثلاث منها، وليس المقصود سردها للناس، فإن قصص القرآن أمر مشتهر ظاهر بيِّن لا يكاد يخفى على مؤمن، فإن الناس كانوا ومازالوا وسيبقون بحمد لله يسمعون كلام الله في المحاريب وعلى المنابر وفي الحلقات، ولكن يبقى كيف يُوضح لهم ويُبيِّن ما في القرآن من عظات وعبر ودلائل وآيات؟ حتى تستقيم على الصراط قناتهم. عناوين الثنائيات الثلاث: الإسراء والمعراج. يوسف وإخوته. قابيل وهابيل. ونحسب والله جل وعلا أعلم أن في هذه الثلاث بيان للإنسان لأكثر الطريق المؤدي إلى رحمة الله تبارك وتعالى.

حادثة الإسراء والمعراج

حادثة الإسراء والمعراج أما الإسراء والمعراج: فغني عن القول أن يقال: إن الله جل وعلا جعل لنبينا المنزلة السامية، والمقام الرفيع، والمنزلة الجليلة عند ربه جل وعلا، فقد دل ظاهر القرآن وباطنه على ذلك، وكثيرة في القرآن الآيات التي يخاطب الله جل وعلا بها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تدل لكل ذي عقل وذي لب وذي قلب واعٍ ما للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة سامية ومكانة رفيعة عند ربه. خاطب الله جل وعلا في القرآن جماً غفيراً من الأنبياء بأسمائهم المجردة، وليس في القرآن كله وبين دفتيه آية واحده يقول الله فيها: يا محمد! فقد قال تعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، وفي القرآن: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، وفي القرآن: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وفي القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]. وكذلك يخاطب الله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. وقد أقسم الله جل وعلا بعمره فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. وأقسم بالأرض التي يطأها، قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4]. أقسم الله جل وعلا له ليرضى صلوات الله وسلامه عليه فقال جل وعلا: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]. ما كانت رحلة الإسراء والمعراج إلا دلالة من الدلائل على احتفاء الله جل وعلا بنبيه صلوات الله وسلامه عليه. فقد عاد عليه الصلاة والسلام من الطائف وقد أصابه من الكلوم والجراح ما أصابه، فقد رده سادتها، فدخل مكة في جوار مطعم بن عدي وكان يومئذ كافراً ومات على الكفر. وأصابه من الحزن ما أصابه، حتى إذا كان ذات ليلة في بيته إذ رفع سقف البيت، وإذا بجبرائيل ينزل ثم يأخذ قلبه الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، ثم يضعه في طست قد ملئ إيماناً وحكمة ثم يغسله, ثم يعاد القلب إلى موضعه من جسد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقدر على هذا إلا الله ولا تصدقه إلا القلوب المؤمنة الواعية التي تقول كما أخبر الله عنها: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. ثم أسري به صلوات الله وسلامه عليه من مرقده في مكة إلى المسجد الأقصى إلى بيت المقدس، وهذا الذي أنبأ الله جل وعلا عنه بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. قرب له صلى الله عليه وسلم البراق -وهي: دابة- ليركبها، فلما دنا منها صلوات الله وسلامه عليه، حمله البراق إلى المسجد الأقصى، فلما أتى المسجد صلوات الله وسلامه عليه ربط البراق في حلقة كان الأنبياء من قبله يربطون بها دوابهم. فدخل عليه الصلاة والسلام المسجد الأقصى، وصلى فيه ركعتين إماماً بإخوانه من النبيين والمرسلين، كل ذلك في برهةٍ من الليل لم يتبين له معالمهم، ولم يعرف أسماءهم ولم يتبين له ظواهرهم. ثم قدم له البراق مرة أخرى وعرج به صلى الله عليه وسلم -قيل: بالبراق، وقيل: بغيره- إلى السماوات السبع، ليرى من آيات ربه الكبرى، فلما أتى السماء الأولى ومعه جبرائيل، استفتح جبرائيل , فقال خزنتها: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قيل: أوَمعك أحد؟ قال: نعم، معي محمد، فقال الخازن: أوَقد بعث؟ فقال جبرائيل: نعم. فلما فتح بابها، رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً حوله أسودة عن شماله وأسودة عن يمينه، إذا نظر إلى يمينه ضحك، وإذا نظر إلى شماله بكى، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا أبوك آدم، والأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه، أي: أرواح بنيه, والذين عن يمينه من كتب الله لهم الجنة، والذين عن يساره من كتب الله لهم النار، فإذا رأى أهل الجنة ضحك، وإذا رأى أهل النار بكى. فسلم آدم على نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح. ثم عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية، فإذا بها ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فسلما عليه قائلين: أهلاً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم أتى السماء الثالثة صلوات الله وسلامه عليه، فإذا فيها أخوه يوسف وقد أعطي شطر الحسن. ثم أتى السماء الرابعة فإذا فيها أخوه إدريس، وتلا عندها لما أخبر عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]. ثم أتى السماء الخامسة، فرأى رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، (قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا المحبب في قومه؛ هارون بن عمران). ثم أتى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران كليم الله. ثم أتى السماء السابعة فإذا رجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال عليه الصلاة والسلام عنه: (ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم)، فسلم عليه قائلاً: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح. ثم رُفع صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فدنى وتدلى منه جبرائيل، فرأى جبرائيل للمرة الثانية، وكان قد رآه أول ما رآه على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها في أيام الوحي الأولى يوم رآه على كرسي ما بين السماء والأرض قد سد ما بين المشرق والمغرب, قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13 - 16]. ثم بين الله جل وعلا في هذا الخبر القرآني الصادق أن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الرحلة كان أعظم الناس أدباً وأكملهم خلقاً، وأنه ما التفت ميمنة ولا ميسرة، ولا زاغ بصره يميناً ولا شمالاً، فقد وقف حيث أوقفه ربه وقام حيث أقامه الله، فقال الله جل وعلا يزكيه ويثني عليه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18]. ثم اقترب صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فكلمه ربه جل وعلا وأدناه وناجاه، ودخل عليه الصلاة والسلام الجنة فإذا تربتها كجنابذ اللؤلؤ، ثم رأى صلى الله عليه وسلم النار عياذاً بالله منها ثم جاوز صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، وهي سدرة ينتهي إليها ما يعرج من الأرض إلى السماء، ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته. عاد كرة أخرى ماراً بالمسجد فصلى صلى الله عليه وسلم فيه، ثم عاد راجعاً إلى مكة، كل ذلك في برهة من الليل تكرمة من الله جل وعلا له.

تكذيب كفار قريش لحادثة الإسراء والمعراج

تكذيب كفار قريش لحادثة الإسراء والمعراج فلما أصبح أخذ صلى الله عليه وسلم ناحية من البيت وجلس على غير عادته مما يألفه الناس، دنى منه عمرو بن هشام أبو الحكم على نسب قريش، وأبو جهل كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه متغير الحال، قال: هل من خبر يا محمد؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: أسري بي ليلة البارحة إلى المسجد الأقصى، قال: وعدت من ليلتك؟ قال: نعم، قال: يا أبن أخي! أترى إن جمعت لك أندية قريش أتخبرهم بما أخبرتني به؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فنادى أبو جهل بأعلى صوته، يريد أن يشمت به، يا بني كعب ابن لؤي! يا معشر قريش! هلموا إلي فاجتمعوا من كل حدب وصوب تاركين أنديتهم حتى أقبلوا، قال: اسمعوا ما يقول محمد. فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذا بأحدهم يضع أصابعه بين أذنيه، وإذا بأحدهم يفغر فاه، ويضع أحدهم يديه على رأسه متعجباً، قالوا: وعدت من ليلتك؟! قال: نعم، وعدت من ليلتي، قالوا: صف لنا بيت المقدس، فلما هم النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه وقد رآه في الليل وهو نبي كريم زاهد عابد، لما دخل المسجد لم ينظر إلى أروقته ولا إلى جدرانه ولا إلى حيطانه، فقد صلى وتعبد الله جل وعلا فيه، فلم يقدر أن يصف لهم المسجد، فما هي إلا برهة وجبرائيل يدني المسجد بين يديه، فأخذ صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المسجد ويصفه للملأ من قريش، وكلما زاد في وصفه قال القوم من قريش: أما المسجد فكما قال، وأما الوصف فكما وصف. ثم أخبرهم أنه مر على قافلة لهم وأنها ضلت بعيراً في الطريق، فوعدهم يوم كذا وكذا أن تعود القافلة إلى مكة، فاحتسبوا تلك الأيام حتى خرجوا في ظهيرتهم، فلما خرجوا فما إن طلع حاجب الشمس إلا والقافلة قادمة مقبلة إلى مكة كما أخبر رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتممِ جبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجمِ ركوبة لك من عزٍ ومن شرف لا في الجيادِ ولا في الأينق الرسمِ مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم وهذا أعظم ما دل عليه القرآن بعد توحيد الله جل وعلا، وهذا من أعظم المكانة لنبينا عليه الصلاة والسلام منزلة ومكانة عند ربه، وقد سد الله كل الطرائق الموصلة إليه، إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام على رفيع مقامه، وجليل مكانته، عبد يوحي إليه، وليس له من صفات الألوهية ولا الربوبية شيء، ولذلك أثنى الله جل وعلا عليه في أرفع المقامات وأجلها بأنه عبد يسمع ويطيع. قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وقال جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]. إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى ولا تعد، والتي يبين الله جل وعلا فيها أن نبينا عليه الصلاة والسلام حقق مقام العبودية على أكمل وجه وأتم نحو، ونحن أتباعه وقد جعله الله جل وعلا حظنا من النبيين كما جعلنا حظه من الأمم، ولا فخر بعد الإسلام من فخر أننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه. ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا.

وجوب محبة النبي الكريم وطاعته

وجوب محبة النبي الكريم وطاعته فرض الله علينا محبته وطاعته والإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وتنفيذ ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه، ولقد كان الجيل الأول من أهل القرون المفضلة من أصحابه صلوات الله وسلامه على نبيه ورضي الله عنهم, أعظم ما يكونون محبة وانتصاراً واتباعاً واقتفاء لآثاره صلوات الله وسلامه عليه. وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام يخطب على نفس منبره، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا في عامه الأول. ثم أراد أبو بكر أن يتم الكلام فما استطاع ثلاث مرات وهو يغالب دمعه رضي الله عنه وأرضاه. وأعطى عليه الصلاة والسلام سيفه لـ أبي دجانة رضي الله عنه, أن يأخذه بحقه يوم أحد, فأخذ أبو دجانة السيف بحقه فلما حمله ليضرب به أحد المشركين إذ أحدث صوتاً فعرف أنه امرأة، قال: فرفعت السيف إكراماً لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وكان ثابت البناني أحد التابعين رضي الله عنه وأرضاه إذا رأى أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على أنس وقبّل يده ويقول: إنها يدٌ مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج عليه الصلاة والسلام إلى المقبرة ذات يوم ثم قال: (وددت لو أني رأيت إخواني, قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض) أي: سابقهم إليه, (قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل دُهم بُهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض). جعلني الله وإياكم برحمته منهم. وإن من أعظم دلائل محبته صلوات الله وسلامه عليه التماس سنته واقتفاء أثرة وأتباع دينه، والذود عن رياض سنته صلوات الله وسلامه عليه، ولن يتبع هذا الطريق أحد، ولن يلتمس ذلك الهدي مؤمن إلا وسيؤذى ويبتلى ويختبر ويمتحن، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. فيصبر المؤمن على أذى الناس وهمز الهمازين ولمزهم غيرهم, وما إلى ذلك إذا اقتفى السنن، ويجد في ذلك عناء في وقته, وعناء من زوجته وعناء من ولده، وعناء في المال, ولكن من أحب محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وعظّم الله جل وعلا ووحده من قبل فإنه يصبر على ذلك كله، وهو يلتمس هديهه صلوات الله وسلامه عليه، ويعض على سننه بالنواجذ حتى يلقاه عليه الصلاة والسلام، فهو فرطنا وسابقنا على الحوض. ففي يوم القيامة يحشر الناس حفاةً عراةً غرلا، أحوج ما يكونون إلى الماء، عطشى ظمأى فلا يجدون حوضاً أمامهم أكرم ولا أجل من حوضه صلوات الله وسلامه عليه، وهو واقف على الحوض يسقي أمته، فكلما كان الإنسان عظيم المحبة والاتباع مع توحيد الله جل وعلا وإيمان به -كما أمر جل وعلا وقرر في كتابه وعلى ألسنة رسله- كان حظه في ذلك الموقف أن يُسقى من يد رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. لكن المؤمن الحصيف العاقل يعلم أن العلم الشرعي ومعرفة كيفية الاقتداء بسنته أمر حتمي لا بد منه، فليس أن يأخذ الإنسان بأجزاء من الأحاديث أو بطرف منها، أو لا يعلم مناسباتها ولا دلائلها كما بينها علماء أهل السنة رحمهم الله جل وعلا أحياء وأمواتاً، وإنما ينظر الإنسان على بصيرة وعلى هدى وعلى نور من ربه، وعلى علم شرعي فيقتفي تلك السنن حتى لا يكون ضرره أكثر من نفعه، وحتى لا تكون غوايته أكثر من هدايته. ومن تلمس السنة بقلب واعٍ صافٍ، ونية خالصة، وهو محب لله، محب لرسوله صلى الله عليه وسلم، قربه الله جل وعلا من هذا الهدي، ونصر الله جل وعلا به الدين، وأوضح الله تبارك وتعالى به الصراط المستقيم. ولا يستطيع الإنسان أن يطنب في الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من هذا، وإلا فالحديث عنه يجمل ويحلو وإن كان مكرراً، ولكننا مقيدون بأمور التزمنا بها في أول محاضرتنا. وجملة القول أيها المؤمنون: إن لنبيكم عليه الصلاة والسلام أعظم المكانة وأجلها عند ربه، ولن تكونوا مؤمنين حقاً حتى توحدوا الله كما أمر، ثم تتبعوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، والسر والجهر، في الحل والترحال، والسفر والإقامة، ولا يتبع الإنسان هواه ورغباته، ولا يسعى الإنسان فيما يوافق ما تكنه نفسه، وإنما يجعل نفسه تسير حيث سار هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو خالف ذلك هواك، أو من تقتنع برأيه، أو بالبيئة التي أنت فيها، أو العاطفة التي تتمسك بها، أو الحماس الذي يغلب عليك. فالسنة هي التي تقودنا إلى الحق وليس نحن الذين نلوي أعناق السنن لنصل إلى ما نريد.

يوسف وإخوته

يوسف وإخوته وهذه هي ثاني الوقفات، فكما أنبأنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، نتحدث عن نبي كريم كان قبل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. قدر الله جل وعلا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون له ابنان إسماعيل وإسحاق، ثم كان من إسحاق يعقوب, ثم كان من يعقوب اثني عشر ولداً، وكان يوسف أحد هؤلاء الاثني عشر ابناً, وكان أحبهم إلى أبيه، وأقربهم منه. وهذه الأمور تمضي بقدر الله, والله يخلق ما يشاء ويختار. فكان ليوسف مكانة خاصة عند أبيه هو وأخوه بنيامين، فشعر الإخوة بأن ليوسف مكانة تعلو على مكانتهم, فكان في قلوبهم من الضغينة شيئاً يرتع وينمو مع الأيام, حتى كان ذات يوم فرأى يوسف في منامه -وهو ابن سبع سنين على الأظهر- أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدان له, ففر فزعاً إلى أبيه يسابق الخطوات حتى دخل عليه، فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]. وكان يعقوب من العلم بمكان, فعلم أن ابنه هذا سيصبح له منزلة عالية ومكاناً سامياً، فخاف عليه وقال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] وأخذ يلاطفه في القول حتى يكتم تلك الرؤيا, جاعلاً خاتمة المقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]. على الجانب الآخر كان الأبناء يشعرون بقرب يوسف من أبيهم فتآمروا وتناجوا، ثم قدموا على أبيهم بعد أن مكروا مكرهم وقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف:12]. لم ينكر عليهم أبوهم أنهم يرتعون ويلعبون, فهذه سنة كل غلام, لكنه خاف على يوسف، قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]. فما زالوا يصرون عليه ويقدمون له أطايب القول حتى وافق, فأرسله معهم, وخرجوا به إلى البرية وقد أجمعوا أمرهم من قبل, فألقوه في غيابة مهجورة بعد أن قرروا أول الأمر قتله، لكن عاطفة الأخوة غلبت عليهم، قال الله على ألسنتهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]. فألقوه في غيابة جب مهجور, أي: في بئر مهجورة قل من يأتيها، ثم عمدوا قبل أن يلقوه إلى قميصه فخلعوا القميص عنه, ومروا في طريقهم على شاة فذبحوها, ولطخوا ذلك القميص بدم تلك الشاة وقدموا على أبيهم ليلاً, والعرب تقول: الليل أخفى للويل. وتظاهروا بالبكاء، وليس كل مدع صادق، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16]. وأخبروه الخبر وأن يوسف أكله الذئب، وأعطوه القميص ليكون لهم شاهداً، أخذ يعقوب القميص، فإذا القميص على حاله, قال لهم: أي ذئب عاقل هذا، أكل ابني وترك قميصه، فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. فهو أب طاعن في السن وهؤلاء عشرة من البنين فلا يستطيع أن يتغلب عليهم, والرجل العاقل قد يحاط به أحياناً فلا يقدر أن يتصرف, فمن الحكمة أن يتوارى أحياناً, فالكلمة التي لا تستطيع أن تقولها أخرها, ولو إلى حين, والعاقل لا يطير قبل أن يريش, فسكت وصبر وكظم غيظه مستعيناً بالله الواحد الأحد. هذا ما أراده إخوة يوسف لكن ما أراده الله شيء آخر، أنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد. مرت سيارة -قافلة عابرة- على تلك البئر، فأرسلوا واردهم, فتعلق يوسف بالدلو الذي أنزله واردهم، وخرج من البئر، ولم يكونوا من العلم ولا من الفطنة بشيء, ما لبثوا أن زهدوا فيه وخرجوا به إلى سوق النخاسين ليبيعوه، قال الله تعالى عنهم: {وَشَرَوْهُ} [يوسف:20] أي: باعوه, وهذا من الأضداد في اللغة, {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20]. على النقيض منهم اشتراه عزيز مصر وكان رجلاً فطناً فتفرس فيه معالم النجابة، واشتراه وأدخله قصره، وقال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]. قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. أراد له إخوته أن يعيش في بئر مهجورة فأخرجه الله إلى ردهات القصور فمكث فيها ما شاء الله.

شغف امرأة العزيز بيوسف ومراودتها له

شغف امرأة العزيز بيوسف ومراودتها له شب عليه الصلاة والسلام كأحسن ما يكون الرجل الوضيء والشاب الوسيم، تعلقت به امرأة العزيز حتى -كما أخبر الله- شغفها حباً فلم تسمع ولم تبصر إلا يوسف، وأخذت تراوده، لكنه تربى في حجور الصالحين وعلى هدي النبيين، صالحاً أينما حل وتقياً أينما نزل, كلما اقتربت منه نأى عنها, خوفاً من الله, تغريه بمنصبها تغريه بجمالها وتمنعها بمنصبها ولكنه مع ذلك بقي عزيزاً ممتنّعاً خوفاً من الله، حتى ضاق بها الصبر {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. ثم استبقا الباب يجريا، فهو يفر من المعصية وهي تدعوه إليها, فما إن فُتِحَ الباب إلا وسيدها على الباب فاختصما، فبادرت بالتخلص: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]. ويوسف عليه السلام شاب يخدم في بيت سيده لا يستطيع أن يدلي بحجته, إلا أنه دافع عن نفسه.

دخول يوسف السجن

دخول يوسف السجن مضت أمور وشواهد عديدة استقر بها يوسف في السجن, فدخل السجن صلوات الله وسلامه عليه، وتغير المكان من القصر إلى السجن، لكن قلب يوسف لم يتغير، بقي تقياً مؤمناً خائفاً وجلاً من ربه، فظهر عليه سمت المتقين، ودأب الصالحين, وأقوال عباد الله المخلصين, حتى لاحظ ذلك من كان مسجوناً معه, فقدر لهما بقدر الله أن يريا رؤيا، فلما نظرا فيمن حولهما تبين لهما ما على يوسف من سمت الهداية فأقبلا عليه يقصان الرؤيا: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]. انتهز حاجتهما إليه، وأخذ يدعوهما إلى الله, وأي شيء أعظم وأجل من أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى. يقول عليه الصلاة والسلام كما في الترمذي وغيره: (إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والحوت في بحره والنملة في حجرها ليصلون على معلم الناس الخير). وفي محكم التنزيل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. فأول شيء دعاهما إليه: توحيد الله الواحد القهار بإسلوب قرآني تهتز منه الجبال وتخر له الصخور الصماء, قال الله جل وعلا حكاية عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39 - 40]. فلما أدى ما عليه من واجب الدعوة، برهما لأنهما كانا جاران له في السجن, فنبأهما بتأويل الرؤيا، قال: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]. غلب على ظنه أن أحدهما ناج فقال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] أي: اذكرني عند الملك, {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]. كتب الله له أن يبقى ما شاء الله أن يبقى في السجن، فلما مكث في السجن صلوات الله وسلامه عليه، قدر لذلك الذي خرج أن يصبح ساقياً للملك، ويقدر الله أن يرى الملك رؤيا يعرضها على من حوله, لم يكونوا من الفقه والعلم في شيء: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]. فتذكر الساقي يوسف وقدرته على التأويل والتعبير قال: {فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45] أي: ابعثوني إلى يوسف, فبعثوه، وهذا يسمى في القرآن: إيجاز حذف. فلما بعثوه قدم الرسول إلى يوسف وأخبره بالرؤيا فعبرها صلوات الله وسلامه عليه كما حكى الله جل وعلا في كتابه, وقال في ختامها: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49]. فلما عاد الرسول إلى الملك وأخبره وهو رجل ذو سلطان لا يمكن أن يعبأ بمسجون, لكن تدبير الله أعظم وأحكم {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} [يوسف:50]، رفض يوسف أن يخرج: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]. فلو خرجت الآن فإن الناس سيقولون: إن التهمة ثابتة على يوسف, لكن الملك أخرجه؛ لأنه عبر له الرؤيا, فأراد أن تثبت دلائل براءته قبل أن يثبت معرفة الناس أنه على قدرة في التعبير والرؤيا. فلما رجع الرسول إلى الملك فطن الملك أن هذا الذي في السجن ليس رجلاً عادياً، قال الله عنه بعد ذلك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54].

خروج يوسف من السجن وجعله على خزائن الأرض

خروج يوسف من السجن وجعله على خزائن الأرض فلما قالها خرج يوسف صلوات الله وسلامه عليه بعد أن نطق النسوة ببراءته, فلما خرج {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. فإنه يحسن بذوي الهيئات من المؤمنين وذوي القدرات من المتقين أن يتبوءوا أماكن ومنازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً, وأن تكون الأمور بيد المتقين الأخيار, خير من أن تكون بيد غيرهم ممن ربما يمنع طاعة أو يمنع دعوة أو يكون ما يكون منه على خلاف صراط الله المستقيم. {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فوافق الملك, فقال الله العزيز العليم: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56]. وحتى لا يتعلق الناس بالدنيا قال الله جل وعلا بعدها: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57]، فما لقيه يوسف من الوزارة والملك والحكم ليس بشيء أمام ما هيأه الله جل وعلا له في الآخرة وما أعد له في جنات النعيم. على الجانب الآخر, كان يعقوب عليه الصلاة والسلام تصله أخبار أن ثمة ملك في أرض مصر أوكلت إليه خزائن الأرض وأنه يقوم بها على أحسن حال, وأن مجاعة دبت هاهنا وهناك في أرض كنعان وأرض مصر على السواء بعث بنيه, فلما بعث بنيه استبقى بنيامين عنده؛ لأنه كان يجد في بنيامين رائحة أخيه من قبل؛ لأن يوسف وبنيامين كانا شقيقين.

مقابلة إخوة يوسف له بعد أن صار عزيز مصر

مقابلة إخوة يوسف له بعد أن صار عزيز مصر وصل إخوة يوسف على يوسف فدخلوا عليه فعرفهم كما قال الله: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58]، فأخذ يلاطفهم بالقول حيناً، وتارة يعمد إلى الترهيب, وتارة يعمد إلى الترغيب, يقول مرغباً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59]. ويقول مرهباً: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60]. لما رجعوا بعد أن رد عليهم المتاع الذي جاءوا به دخلوا على أبيهم أخبروه الخبر وأن العزيز يطلب أن يرى أخاهم، تذكر يعقوب عليه الصلاة والسلام تفريطهم في يوسف من قبل: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. وبعد إلحاح أعطاهم بنيامين بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق إلا أن يحاط بكم، وقد قالها بعد أن أدركته عاطفة الأبوة, وجعلها استثناء من باب الرحمة، فخرج الإخوة ومعهم أخوهم بنيامين، وقد أوصاهم أبوهم خوفاً عليهم من العين: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] قال الله: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]. دخلوا المدينة وقد ألجموا أفواه الجمال التي تحملهم, حتى يعلم الناس أنهم أبناء نبي، وأنهم لا يأذنون لجمالهم أن تأكل من هنا وهناك، دخلوا على يوسف, فآوى إليه أخاه وأخبره الخبر في قصة ظاهرة مشهورة, ثم كاد لهم كيداً بأمر من الله، فأمر غلمانه أن يضعوا صواع الملك في رحل أخيهم الأصغر. فلما فارقوا أرض مصر بعد أن أخذوا أمتعتهم وعادوا، إذا بمؤذن ينادي: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] غيروا اللفظ, ولم يقبلوا السرقة, ولم يقولوا: ما الذي سُرِق؟ فإنهم لا يعترفون بوجود السرقة أصلاً, وإنما قالوا: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:71] أي: ما الذي ضاع منكم. فاتفق المؤذن معهم على أن من وجد في رحله سيكون عرضة للأسر, فلما وافقوا قدموا بين يدي يوسف وأخذ ينظر في أمتعتهم ورحالهم واحداً بعد الآخر, فكلما نظر في متاع أحدهم قال: أستغفر الله مما رميتكم به, حتى وصل إلى بنيامين قال: أما هذا فما أظنه أخذ شيئاً, فألحوا عليه, قال الله جل وعلا: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76]. فأخذ يوسف بنيامين عنده، وأخذ الإخوة يستعطفونه، لكن يوسف بقي مصرّاً على رأيه, فلما أصابهم اليأس من إقناعه {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] أي: اجتمعوا فيما بينهم يتشاورون في القضية, أما الأخ الأكبر فاستحيا أن يرجع إلى أبيه فيقول له: أضعت بنيامين كما أضعت يوسف من قبل, قال كبيرهم كما قال الله جل وعلا: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:80 - 81]. رجع الإخوة وبقي الأخ الأكبر, فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بالقصة, وأي مصاب جديد ويذكر بقرينه, ويذكر بالمصاب القديم, والعرب تقول: إن الأسى يبعث الأسى, فلما كان بنيامين هو الباقي ليعقوب يشم فيه رائحة أخيه, جاء هؤلاء ليقولوا: إن بنيامين فُقِد كما فُقِد يوسف من قبل، وإن الأخ الأكبر لن يعود حتى تأذن له. كان يعقوب مصابه في يوسف فقط فأصبح مصابه في يوسف وبنيامين وروئين الذي هو الأخ الكبير, لكن النفوس التي تعرف الله لا تعرف اليأس أبداً, من يعرف الله لا يعرف اليأس ولا القنوط أبداً، فقال كما أخبر الله جل وعلا عنه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:83 - 84]. وبلغ ذروة الحزن وذروة الحزن أن ابيضت عيناه, قال الله جل وعلا: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]. إن الأبواب إذا أوصدت هذا أول الدلائل على أنها ستفتح, وكلما أغلق الأمر ولم يبق مخرج دل على أن الفرج القريب. وراء مضيق الخوف متسع الأمر وأول مفروح به غاية الحزن فلا تيأسنَّ فالله ملك يوسف خزائنه بعد الخلاص من الشرك لما قال يعقوب هذا, أخذ الأبناء يعنفونه: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف:85] أي: لا تزال تذكر يوسف {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:85 - 86]. وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] سيأتي بيانها بعد قليل, ثم أخذ بالأسباب قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. إن من أعظم ما يلقاه المؤمن: حسن الظن بالله جل وعلا, وفي الحديث: (إن الله جل وعلا عند حسن ظن عبده به) , فهذا النبي المكلوم فقد ثلاثة من أبنائه خلال أربعين عاماً, فكل شيء تغير فيه: صحته واحدودب ظهره, وعميت عيناه, لكن الذي لم يتغير فيه هو حسن ظنه برب العالمين جل جلاله, ومتى أحسن العبد ظنه بربه فرج الله جل وعلا عنه. قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي مسلم الخولاني رحمه الله: إن أبا مسلم هذا -وكان من الصالحين العباد- اشتكت إليه زوجته الفقر الذي هو فيه, وأنه لا دقيق تصنع منه خبزاً, قال لها: هل في البيت مال؟ قالت: دينار واحد, قال: أعطني إياه أشتري لكم به دقيقاً, وخرج إلى السوق ليشتري بهذا الدينار دقيقاً، فلما وصل إلى السوق قبل أن يشتري الدقيق جاءه رجل سائل عليه المسكنة ظاهرة بارزة, فأعطى أبو مسلم السائل الدينار, ولم يبق في يديه شيء إلا الكيس الذي خرج به من بيته ليشتري الدقيق ويضعه فيه, فعمد إلى صاحب خشب ونجار, فأخذ نجارة الخشب وملأ بها الكيس وحمله على ظهره وعاد إلى بيته, فلما عاد إلى بيته وضعه بين يدي امرأته وتنحى في غرفة أخرى ينتظر قدر الله, ما هي إلا برهة وإذا بالمرأة تأتي له بالخبز, فقال لها: من أين لك الدقيق؟! قالت: من الكيس الذي أتيت به, فسكت وأخذ يأكل وهو يبكي. فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ولا ندعو بهذا إلى أن يقعد الإنسان في بيته، أو يتبع طرائق غير محمودة، لكننا نقول: إن حسن الظن بالله جل وعلا من أعظم العبادات وأجل الطاعات، وبه ساد الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من أولياء الله المتقين. ولما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام هذا خرج بنوه, ودخلوا على يوسف ومعهم بضاعة مزجاة أي: مدفوعة, وقيل: مخلوطة، لا تساوي شيئاً {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]. هنا كشف يوسف عن القناع: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ولما سقط في أيديهم: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:90]. فقال يوسف بيت القصيد من القصة كلها: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]. فما عند الناس من الدنيا ينال بأي طريقة، أو بحسب الشخص المقابل، فلك أن تخدعه أو تصدق معه فتعطيه أو تمنعه، أما ما عند الله لا ينال إلا بطريقين وهما: التقوى والصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. ويوسف يقول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:90 - 91]-وقد كان رحيماً باراً، والنفوس العظيمة تعفو عند المقدرة- {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] ثم خلع قميصه, فقد كان هذا القميص في السابق سبب الحزن ليعقوب, فأراد الله أن يكون القميص سبب السعادة والفلاح والرحمة والنجاة ليعقوب، قال يوسف لإخوته: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف:93]. فخرجت العير والقافلة من أرض مصر, فما إن خرجت من أرض مصر إلا ويعقوب وهو في أرض كنعان يجد ريح يوسف, قال لمن حوله من نبيه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُ

قصة قابيل وهابيل ابني آدم

قصة قابيل وهابيل ابني آدم خاتمة القصص أيها المؤمنون: وفي ذكر القصة تربية للأسرة المسلمة والمجتمع المؤمن كيف يتآخى آحاده, ويتعاضد أفراده، وأن الله جل وعلا كتب لأمة الإسلام أن تكون على قلب واحد, فذكر الله جل وعلا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه خبر ابني آدم من قبل، قائلاً جل وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وجملة القول في هذا الخطاب القرآني, أن آدم عليه الصلاة والسلام كانت زوجته تحمل منه ذكراً وأنثى في كل حمل, فكانت سنة الله جل وعلا له أن يزوج كل حمل من الحمل الآخر, الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، فكان قابيل وهابيل أخوين من حملين مختلفين, فكأن قابيل رفض أن يأخذ هابيل أخته التي ولدت معه, ربما كانت أبهى من أخته التي حملت مع أخيه, فاحتكما إلى أبيهما فناشدهما أن يقربا إلى الله جل وعلا قرباناً, فأيهما تقبل قربانه مضى الأمر الذي يريد, فتقدم كل منهما بقربان إلى الله جل وعلا فاختار قابيل أسوأ ما يملك, واختار هابيل أطيب ما يملك، فجاءت نار فحرقت قربان هابيل دلالة على القبول, وبقي قربان قابيل على حاله, فاشتاط غضباً ودب في قلبه الحسد لأخيه, والحسد والعياذ بالله أول نقطة في طريق البغضاء وسفك الدماء. فلما دب في قلبه الحسد أخذ الحسد ينمو مع الأيام ويزداد, حتى قرر أن يتخلص من أخيه, عمد إلى أخيه بعين جاهرة, قائلاً له: {لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27]، فأجابه: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]. فأخبر أن خوفه من الله يمنعه من المبادرة بسفك الدماء أو حتى أن يرد على أخيه مع أنه لو رد عليه لكان ذلك مشروعاً كما بين نبينا صلى الله عليه وسلم، {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29]. لكن هذا الرد المبني على الحجج والبراهين لم يقنع قابيل , فأخذ الشيطان يسول له ونفسه الأمارة بالسوء: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]. فمكث يحمله من مكان إلى مكان لا يدري ما يصنع به؛ لأنه كان أول سفك دم في الأرض, قال عليه الصلاة والسلام: (ما قتل نفس نفساً إلا كان على نفس ابن آدم الأول منها الوزر) لأنه كان أول من سن القتل. فلما فعل ذلك بعث الله جل وعلا غراباً يبحث في الأرض بعد أن قتل غراباً آخر، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]. المقصود من هذا كله: أن تعلم أن الله جل وعلا يبتلي الناس بعضهم ببعض, فيبتلي الغني بالفقير, ويبتلي الحاكم بالمحكوم والمحكوم بالحاكم، ويبتلي الناس طوائف شتى بعضهم ببعض, هذه سنة لا تتبدل وخبرة لا تتغير, قال الله في الفرقان: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]. وعندما ينظر الإنسان إلى من هو أغنى منه فيدب في نفسه السخط على قدر الله, فيتذكر أن هذه الأمور تمضي بقدر الله فيصبر حتى يلقى الله عز وجل صابراً فيعوضه الرب تبارك وتعالى على صبره. على هذا جرت سنة الله جل وعلا في خلقه, غني وفقير، أمير ومأمور, وقس على ذلك ما شئت من الخلق, فإذا فطن الناس إلى هذا البرهان القرآني والعظة الربانية، قَبِلَ الناس بعضهم بعضاً على أي حال كان, فإن دب فيهم داء الأمم التي قبلهم من: الحسد والبغضاء والشحناء وسفك الناس دماء بعضهم البعض. وسفك الدماء -عياذاً بالله- من أكبر الكبائر وأجل الذنوب، حتى إن الله قال في كتابه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] أي: لا يتصور شرعاً أن يقتل مؤمن مؤمناً عمداً, وقال الله بعدها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. ولَزَوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن.

أسباب قتل المؤمنين بعضهم لبعض

أسباب قتل المؤمنين بعضهم لبعض وقتل المؤمنين وسفك دمائهم ينشأ بسببين: السبب الأول: خطأ في التفكير. والسبب الثاني: حقد وغل في القلوب. أما الخطأ في التفكير فإن الإنسان والعياذ بالله قد يلتبس عليه الباطل والحق, فيظن الباطل حقاً والحق باطلاً, فيتأول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى يجد منها حسب ظنه وجهله وعلمه المزعوم سبيلاً إلى سفك دماء المسلمين، فيكفر في أول الأمر ثم إذا كفر المؤمنين استباح دماءهم عياذاً بالله. وقد يقع هذا من شتى الفرق وشتى الطوائف وشتى المنازل وبيان هذا على وجه التفصيل: فعثمان رضي الله عنه أمير المؤمنين, وثالث الراشدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حقه: (أحيا أمتي عثمان) , ويقول في حقه أيضاً: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟). ومع ذلك طعن رضي الله عنه وقتل في داره بعد أن أحرقت الدار, والذين تسللوا إلى بيت عثمان كانوا يزعمون الإيمان, ويزعمون أن عثمان على باطل، حتى أن عمرو بن الحمق الذي قتل عثمان طعن عثمان تسع طعنات, وعثمان يومئذ قد جاوز الثمانين رضي الله عنه وأرضاه, ثم قال بعد أن خرج: طعنته ثلاث طعنات لله، وتسع طعنات لما في قلبي عليه من الغل. فهذا الخطأ في التفكير هو الذي صور لهذا الرجل أن يقتل رجلاً في منزلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه. وما علي عن عثمان ببعيد، فالذي قتل علياً رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن ملجم كانت آثار السجود بادية على محيا وجهه وعلى ركبتيه, صواماً قواماً لا يراه الناس يفتر عن ذكر الله جل وعلا, لكنه لم يؤت من باب العبادة, أوتي من باب التكفير فكان يظن أن قتل علي أمراً مشروعاً, فعمد إلى سيف يعرضه على الناس, هل تجدون له عيباً, فكلما أخبره أحد بعيب أصلح ذلك العيب, ثم وضعه في طست فيه سم حتى لفظ السم الحديد، ثم خرج يوم خروج علي رضي الله عنه لصلاة الفجر فضربه به. فحمل علي رضي الله عنه إلى بيته وبه رمق من حياة, وحمل عبد الرحمن بن ملجم بين يديه، فقال علي رضي الله عنه لـ عبد الرحمن: أأسأت إليك قط؟ قال: لا, قال: فما حملك على ما فعلت؟ فقال هذا الرجل الضال: إنني اكتنزت سيفي هذا منذ أربعين يوماً، وأنا أسأل الله أن يقتل به شر خلقه, ويظن أن دعاءه مستجاب. فقال له علي رضي الله تعالى عنه: بل أنت من شر خلق الله, وما أظنك إلا مقتولاً بسيفك هذا, فقتل عبد الرحمن بعد موت علي بنفس سيفه الذي اكتنزه ليقتل به علياً رضي الله عنه. أين غاب عقل هذا الرجل وهو يقتل رجلاً في منزلة علي؟ إن الخطأ في التفكير يدعو إلى التكفير, والدعوة إلى التكفير ينجم منها سفك دماء المسلمين، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب سداً منيعاً, فقال لـ أسامة رضي الله عنه كما عند مسلم وغيره, لما كان في غزوة الحرقات مكن جهينة خرج رجل منهم وأسامة رضي الله عنه يلحقه بالسيف, فلما رأى الرجل أسامة يتبعه، ألقى السيف وقال: لا إله إلا الله, فغلب على ظن أسامة أن هذا الرجل قالها فرقاً من السيف, فقتله ثم قص الخبر على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: نعم, قال: كيف أنت بلا إله إلا الله يوم القيامة) وما زال النبي يكررها, وأسامة يندم حتى قال أسامة: تمنيت لو أنني لم أسلم إلا بعد ذلك اليوم. الحالة الثانية التي ينجم عنها سفك الدماء: أن يكون الإنسان -والعياذ بالله- مطبوعاً على الشر وحوله من القرابة أو من الرفقة أو من الصداقة أو من رفقاء السوء ما يؤجج الغضب في نفسه، ولهذا ينبغي لكل أب ومرب ومعلم أن يربي أبناءه على حرمة أعراض ودماء وأموال المسلمين. فلا يأتيك ابنك يخبرك أن ابن الجار غلبه فتشجع ابنك على الانتقام، وتخبره أن الأبواب موصدة إن لم ينتقم لنفسه، وقضية: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. من أعظم خطايانا في التربية, وكم من أناس ونعرف بعضهم بأسمائهم وصفاتهم شجعوا غيرهم على سفك الدماء، وطلبوا منهم أخذ الثأر, وهولوا في أنفسهم المعاصي واستباحوا دماء المسلمين, فلما وقع المغرر بهم في المحظور وسفك الدم، وحمل إلى السجن فأول من تخلى عنه من كانوا يؤججون الغضب في صدره وهم قرابته وعصبته وعشيرته وأهله وعائلته وقبيلته التي كانت تدعمه فأخذت تتخلى حتى عن زيارته, ويقاد إلى موضع القصاص وحيداً فريداً ليس معه إلا عمله, وبئس العمل أن تلقى الله وقد سفكت دم مسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أول ما يقضى به بين الناس يومئذ الدماء, حتى إن المقتول ليأخذ بعنق القاتل حتى يدنيه من رب العزة ويقول: يا رب! سل عبدك هذا: فيم قتلني؟). وقد قال العلماء: الدواوين ثلاثة, ديوان شرك لا يغفره الله جل وعلا, وديوان معاصٍ بين العبد وبين ربه لا يعبأ الله به يغفر الله فيه لمن يشاء, وديوان لا يتركه الله جل وعلا أبداً وهي ما بين العباد من خصومات بعضهم ببعض. وصفوة القول والحديث: أن نعلم أن كل من حمل كلمة التوحيد في قلبه، وجاء بالإيمان بالأركان الستة فهو مسلم لنا ظاهر قوله وإيمانه, وسرائره نكلها إلى الله جل وعلا, وبيننا وبين دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم سداً منيعاً. ثنتان لا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس وكلما كان الإنسان سمحاً رءوفاً رحيماً بعباد الله الصالحين يقيل العثرة، ويعفو عن الزلة, ويقبل العذر, شفيقاً رحيماً بهذه الأمة كان أقرب إلى الله وأدنى من مجالس سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه. فإن والعياذ بالله قد ملئ قلبه حنقاً وبغضاً وظلماً وعدواناً ساقه ذلك إلى خزي الدنيا وإلى عذاب النار, أجارنا الله من هاتين الاثنتين, ومن كل سوء. هذا ما تيسر إيراده ووفق الله جل وعلا إلى قوله, والله المستعان وعليه البلاغ. وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين.

خواطر إيمانية

خواطر إيمانية خواطر إيمانية تجلو عن القلب العمى، وتدفعه إلى تحصيل الثواب والتقى، تزيد إيمان المرء وتقوي همته، وتشد عزيمته وتبعد الشيطان عن طريقته، وتعمل كمحطة لتزويد الإنسان بالطاقة الإيمانية، والتي يحتاج إليها دائماً في سبيل نصرة الله تعالى ورسوله بالقول والعمل والاعتقاد، فيها بنا لنشحذ أنفسنا بهذه الطاقة، والله ولي الهداية والتوفيق.

خواطر إيمانية

خواطر إيمانية

الخاطرة الخامسة وفاته صلى الله عليه وسلم

الخاطرة الخامسة وفاته صلى الله عليه وسلم الخاطرة الخامسة أيها المؤمنون! وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم: كم مر على أمة الإسلام من مصائب؟ وكم مر على أمة الإسلام من فترات؟ وكم رأى الناس من المدلهمات؟ وكم حل في بني آدم من النكبات؟ وكم فجع الناس بفقد ولد وحبيب؟ وكم خسر الناس من مال ونصب؟ ولكن كل الصيد في جوف الفراء. أيها الأحبة! بعث الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لغاية واحدة عظيمة ألا وهي: نشر دين الله تبارك وتعالى وتبليغ رسالة الله ولقد قضى صلى الله عليه وسلم حياته كلها في تحقيق هذه الغاية العظيمة، فلما تحققت الغاية على يديه صلوات الله وسلامه عليه لم يبق لحياته صلى الله عليه وسلم داع؛ لأنه خلق لعظائم الأمور، وقد أنهى ذلك الأمر العظيم على أكمل وجه. حج نبيكم صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ثم أشهد الناس ممن حضر خطبته وشهد حجه على أنه بلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل فقال: (اللهم قد بلغت! اللهم فاشهد!)، ثم لما قضى صلى الله عليه وسلم نسكه عاد قاصداً إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه. فما أن عاد عليه الصلاة والسلام إلا وأخذت الحمى تدب فيه شيئاً فشيئاً، والصداع ينتابه بين الحين والآخر حتى أخذ المرض يدب في جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه شيئاً فشيئاً، فلما أحس صلوات الله وسلامه عليه بدنو أجله وقرب رحيله أخذ في بعض الليالي غلامه أبا مويهبة، وتوجه صلوات الله وسلامه عليه إلى البقيع كالمودع لأهله، واستغفر الله لهم وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ثم قال يا أبا مويهبة: إن ربي خيرني بين أن أعطى خزائن الدنيا ثم الجنة ولكنني اخترت لقاء ربي والجنة، فقال له أبو مويهبة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي اختر خزائن الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! إنما اخترت لقاء ربي والجنة). فعاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم أخذ عليه الصلاة والسلام في الليالي التي سبقت صعود روحه إلى الملأ الأعلى أخذ صلى الله عليه وسلم يعلم الناس كيف يقبلون على ربهم جل وعلا، فحذر أولاً من اتخاذ القبور مساجد وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا، ثم خرج في اليوم التالي يقول للناس ويكشف عن ظهره: (من كانت له عندي جلد ظهر فهذا ظهري فليتقد منه)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوصي بأن يقضى دينه ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يوصي الناس بالأنصار خيراً ويقول لهم: قد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس حتى رقى المنبر آخر ما رقيه صلوات الله وسلامه عليه. فصعد المنبر وقال: (أيها الناس! إن عبداً خيره الله ما بين الدنيا ولقاء الله فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان أعلم الصحابة وقال: بأبي أنت وأمي نفديك بأرواحنا وأنفسنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، إن من أمن الناس علي في صحبتي أبا بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأخذ المرض يثقل عليه فاستأذن زوجاته في أن يمرض في بيت عائشة. فبقي عليه الصلاة والسلام وهو أكرم خلق الله على الله يمرض في بيت عائشة وقرب دنو أجله يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، فكان همه عليه الصلاة والسلام أن يودع الناس وقد عرفوا ربهم جل وعلا حق المعرفة وأقبلوا عليه جل وعلا حق الإقبال، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي حيناً ويتركها حيناً، ثم رأى تثاقل المرض عليه فأوصى أن يصلي أبو بكر بالناس. فمكث أبو بكر يصلي بالناس حتى كان اليوم الذي سبق موته صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس يتهادى بين رجلين، فلما رآه أبو بكر تأخر قليلاً وصلى بصلاته، وصلى الناس بصلاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم عاد عليه الصلاة والسلام راجعاً إلى بيته حتى اشتدت حرارته وغلبته الحمى، فصب عليه سبع قرب عليه الصلاة والسلام رجاء أن يفيق فكان يفيق أحياناً ويغيب حيناً آخر. ثم كان يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول صلوات الله وسلامه عليه فدخلت عليه ابنته فاطمة في ضحى ذلك اليوم فقربها إليه وأخبرها بخبرين بكت من الأول وضحكت من الثاني، أخبرها بأنه سيلقى ربه بمرضه هذا فبكت رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأخبرها بعد ذلك أنها أول أهله لحوقاً به فسرت رضي الله تعالى عنها وأرضاها وأنها سيدة نساء أهل الجنة، ثم دخل عليه أسامة بن زيد وطلب منه أن يدعو له فلم يقدر صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو له إنما أخذ يشير بالدعاء إشارة ثم اشتد ضحى ذلك اليوم فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة على عائشة وفي يده سواك يتسوك به. فأمعن صلى الله عليه وسلم النظر إلى المسواك فعلمت عائشة أنه يريده فقضمته له ثم طيبته له ثم تسوك صلى الله عليه وسلم ثم أشار بأصبعه الشريف إلى السماء وينظر إلى سقف البيت وهو يقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات)، ثم قال: (بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى)، ثم كان آخر ما ردد صلوات الله وسلامه عليه وهو مفارق الدنيا: (لا إله إلا الله، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ذلك رفيقاً، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه)، وأفضت روحه إلى ربه في الرفيق الأعلى والمحل الأسمى. وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه وفاضت روحه وجسده بين سحر ونحر عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فأرضاها، فما زادت على أن وضعته وأخذت تلطم خدها رضي الله تعالى عنها وأرضاها وكانت يومئذ شابة صغيرة لم تبلغ الثانية عشرة بعد وهي تندب رسولنا صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ فاطمة تقول: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبرائيل ننعاه. فثقل الأمر على الصحابة وسادهم الهرج والمرج حتى أقبل أبو بكر فأزاح الغطاء عن جسد رسولنا صلى الله عليه وسلم الطاهر وقبله وهو يقول: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها في الدنيا، ثم صعد المنبر وقال قولته الشهيرة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فلما فرغ أصحابه من أمر الخلافة وكان ذلك في يوم الثلاثاء اليوم التالي لوفاته صلى الله عليه وسلم غسلوه عليه الصلاة والسلام دون أن يكشفوا له عورة، والذين تولوا غسله آل بيته علي بن أبي طالب، والعباس، ونفر من غلمانه صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنهم بعد ذلك كفنوه في ثلاثة أثواب عليه الصلاة والسلام، ثم حفروا له في مرقده في بيت عائشة عليه الصلاة والسلام، ثم صلوا عليه قبل أن يدفنوه أرسالاً، أي: أفراداً، يدخلون من باب ويخرجون من باب آخر. فصلى عليه أول الأمر قرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه عامة الناس، ثم صلى عليه النساء، ثم الصبيان، ثم العبيد، ثم بعد ذلك واروه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله في التراب ودفنوه ونزل في قبره علي وقثم والفضل بن العباس ومولاه شقران، وأحد الصحابة من الأنصار يقال له: أوس، استأذن قرابته بأن ينزل في قبره صلوات الله وسلامه عليه. وقد استعظم أصحابه أن يؤمهم أحد على جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك صلوا عليه آحاداً وأفراداً، ثم واروه التراب صلوات الله وسلامه عليه، وهنا يقول حسان: بطيبة رسم للنبي ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معالم لم تطمس على العهد آيها أتاها البلاء فالآي منه تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد فإنا لله وإنا إليه راجعون

الخاطرة الرابعة حين تطغى الشهوات

الخاطرة الرابعة حين تطغى الشهوات الخاطرة الرابعة -أيها المؤمنون- حين تطغى الشهوات: الله تبارك وتعالى معشر الأحبة! ذكر طائفة من الناس في كتابه بعث إليهم نبياً من الأنبياء هو لوط عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله تبارك وتعالى عن تلك الفئة وأولئك الملأ: أن سكرتهم غلبت عليهم فأعمت بصائرهم وبصيرتهم، ورانت على قلوبهم فكانوا يأتون في ناديهم المنكر ولا يتورعون من أي عمل يفعلونه، وكان مصابهم الأعظم بعد إشراكهم بالله جل وعلا: أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين. وخاطرتنا حين تطغى الشهوات تتحدث عن أولئك الملأ كيف أن الله جل وعلا انتقم منهم أعظم انتقام وأرسل عليهم: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82]، الشهوة يا أخي! إذا طغت على صاحبها أعمته والعياذ بالله عن طريق الله جل وعلا، فأصبح كالبهائم لا يعترف بالعبادات ولا ينظر إلى التقاليد والعادات، البهائم عافانا الله وإياكم لها شهوتي البطن والفرج فإذا أرادت أن تأكل أو أرادت أن تتناكح لا تعرف أن تتوارى ولا أن تتزاوغ، والإنسان والعياذ بالله إذا غلبت عليه شهوته وطغت عليه شقوته أصبح كالبهائم. ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: أن الناس في آخر الزمان يتسافدون كتسافد الحمر، حتى إن الرجل -والعياذ بالله- ليفترش المرأة في الشارع، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أعظمهم أمانة يومئذ من يقول له: هلا واريتها خلف الحائط)، والمقصود: أن الشهوات إذا طغت على بني آدم أغوتهم أيما إغواء، وصرفتهم عن طريق الحق، وأبعدتهم عن معالم الهدى. والإنسان ينبغي عليه أن يكون في حرز مكين من أن تطغى عليه الشهوة. نقول لكل من ابتلي بغلبة الشهوة: عليه أن يعلم ثلاثة أمور: الأولى منها: ألا يسمح لنفسه ولا لبصره أن يستمر في النظر إلى الشهوات فتلك الأفلام الخليعة وتلك الأغاني الماجنة وما يعرض على الشاشات من دواعي الفسق والمجون والزنا والفجور لا ينبغي للمؤمن أن يستسلم لها وأن يخلد بصره إليها؛ لأنه قطعاً بلا ريب ولا شك لن يأمن الفتنة على نفسه. العاقل الحصيف لا يسلم نفسه إلى الشهوات ثم يسأل الله تبارك وتعالى بعد ذلك العصمة. إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها الأمر الثاني: أن نعلم أن في طرائق الحق وما منحه الله تبارك وتعالى لعباده وما في هذا الدين من يسر وحنفية سمحة ما يشغلنا عن تلك الشهوات ويجعلنا في منئاً عنها، بعض الشباب يقول: إن لم أنظر إلى تلك القنوات وإن لم أتابع تلك الفضائيات وما يعرض فيها ماذا أصنع؟ نقول له بكل هدوء: ماذا كنت تصنع قبل أن تعرف تلك القنوات وتلك الفضائيات؟ ألم تكن بشراً يمشي على قدميه؟ ألم تكن رجلاً تسعى على بينة وهدى وبصيرة؟ ما الذي غيرك؟ غيرك أنك أسلمت نفسك إلى تلك المحارم غيرك أنك أسلمت لبصرك ولعينك الخلود إلى تلك الشهوات فاستمتعت بها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكما لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب في المال، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب في قضية النظر وإدمان الشهوات. الأمر الثالث فيما يحفظك بإذن الله من أن تسلم لنفسك الوقوع في تلك الحبائل: أن تعلم أن الله جل وعلا سائلك عن شبابك فيما أفنيته، سائل جوارحك عما صنعت، يقول جل جلاله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24]. فما منا من أحد إلا وسيسأله ربه عن كل عمل عمله وعن كل أمر قدمه صغيراً كان أم كبيراً عظيماً أم حقيراً، أما أولئك القائمين على تلك القنوات والقائمين على تلك الفضائيات وأخص منهم من يعنى بنشر تلك الأفلام الخليعة والأغاني الماجنة فإننا في المقام الأول نسأل الله جل وعلا لهم التوبة وأن يردهم الله إليه رداً جميلاً. أما المقام الثاني: فإن الله جل وعلا لا محالة سيسألهم عن هذه الفئة العظيمة من شباب المسلمين الذين سعوا في إضلالها، وسعوا في إفسادها، ولم يرقبوا الله تبارك وتعالى فيها، فإنهم سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء نعوذ بالله تبارك وتعالى من أن نكون أدعياء للشيطان معرضين عن دعوته تبارك وتعالى وهو يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].

الخاطرة الثالثة الدعاء الخالد

الخاطرة الثالثة الدعاء الخالد الخاطرة الثالثة: الدعاء الخالد. كلنا يعلم أن دعاء الله جل وعلا هو حقيقة عبادته، ودعاؤه تبارك وتعالى صنوان للقلوب وللنفوس، وانتظار للفرج، وقد قيل: إن أعظم العبادة انتظار فرج الله تبارك وتعالى، ولقد سطر التاريخ الإسلامي عبر قرونه المديدة أدعية كثيرة أعج بها أصحابها إلى الله جل وعلا فتجاوزت حدود الأرض وعبرت آفاق السماء، واستظلت تحت ظل العرش، وأجاب الرحمن الرحيم دعاءها ونصر أولياءه، وقرب أصفياءه. ولكننا سنقف اليوم أمام دعاء دعا به سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم؛ لأن مناسبته مناسبة عظيمة يستحضرها المؤمن في كل آن وحين، فكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قومه أول ما دعاهم في وحدة من الأمر وخلو من النصير، وغربة عن التوحيد. فكان ربه جل وعلا قد أيده بشخصيتين؛ أيده بعمه أبي طالب رغم كفره، وأيده بزوجته خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فكان أبو طالب ظهيراً ونصيراً له في الملأ، وكانت خديجة عوناً له في الخلاء؛ لأنها ربة بيت، ثم شاء الله أن يقبض أبا طالب على كفره، وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها على إيمانها. واشتد بعد وفاة أبي طالب أذى قريش لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فأحب عليه الصلاة والسلام أن يغير سبيل الدعوة، وأن يغير الوجوه التي يدعوها، فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه غلامه زيد بن حارثة إلى الطائف فلما خرج إلى الطائف وكله أمل ورجاء أن يستجيب أهلها له عرض دعوته على ثلاثة من زعمائها فسخروا منه أيما سخرية واستهزءوا به وهو عند الله بالمكانة العظمى، حتى قال أحدهم له: أما وجد الله أحداً يبعثه غيرك!؟ وقال آخر منهم: أنا أغير ثياب الكعبة إن كنت أنت نبياً. فلما اشتد عليه الكرب طلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يكتموا عنه أمره، لكنهم لخسة في أنفسهم أبو فأغروا به السفهاء والصبيان، فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في طرقات الطائف، قال بعض أهل السير: ما كان عليه السلام يرفع قدمه إلا ويؤذيه الصبيان بالحجارة ولا يضع قدمه الأخرى إلا يؤذيه الصبيان بالحجارة حتى أدميت عقباه وسال دمه الطاهر الزكي الشريف على أرض الطائف. فلما اشتد عليه الكرب أعج صلى الله عليه وسلم إلى ربه بدعاء خالد لما ضاق به أهل الأرض لجأ صلى الله عليه وسلم إلى رب الأرض والسماء، لما أعرض أهل الأرض عن نصرته، لجأ صلى الله عليه وسلم إلى العزيز الغالب أن ينصره فقال فيما سطره ابن إسحاق في السير وهو دعاء وإن لم يثبت سنداً على الوجه الأكمل إلا أنه والله الذي لا إله غيره جلال النبوة ظاهر على كل حرف فيه فضلاً عن كل كلمة، قال صلى الله عليه وسلم وهو نازل من الطائف إلى مكة بعد ما لقي من أهلها ما لقي: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين! أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى عدو يتهجمني، أم إلى بعيد ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). أعج رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء إلى ربه تبارك وتعالى، فلننظر ما صنع الله به بعد هذا الدعاء لقد تتابع مدد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا اخترت أن يكون هذا الدعاء واسطة العقد في هذه الخواطر؛ لأن كثيراً منا قرأ هذا الدعاء في طيات كتب التاريخ وقرأه في دروس السير وربما سمعه ذات مرة في محاضرة أو من المذياع أو من التلفاز، ولكن القليل منا من وقف أمام الحكمة في هذا الدعاء. هذا الدعاء أعقبه حدثان عظيمان الأول منهما: أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف استفاق بقرن الثعالب فإذا بسحابة قد أظلته فإذا فيها جبرائيل ومعه ملك من الملائكة فسلم عليه جبرئيل وقال: يا محمد! إن ربك قد رأى صنيع قومك بك، وإن معي ملك الجبال يأتمر بأمرك فقال له ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت الساعة، فقال أرحم الخلق بالخلق، وأنصح الناس للناس، وأعظم من دعا إلى الله صلى الله عليه وسلم: (قال: لا، إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)، والعبرة التي أريد أن أقف فيها مع هذا الدعاء وهذا الأثر: أن الله جل وعلا لما عجز أهل الأرض أن ينصروا نبيه عوضه بنصرة أهل السماء، إن الله جل وعلا لما رأى خذلان أهل الأرض لنبيه صلى الله عليه وسلم عوضه بنصرة أهل السماء قبل ساعات معدودة يرفض أهل الأرض أن ينصروه، وبعد لحظات معدودة ينزل ملك كالمندوب من أهل السماء ليبين نصرة أهل السماء له صلوات الله وسلامه عليه. الحدث الثاني: أنه مضى صلى الله عليه وسلم متجاوزاً قرن الثعالب حتى وصل وادي نخلة وهو بين الطائف ومكة قريباً من مكة، فلما وصل وقف صلى الله عليه وسلم في هدأة الليل يتهجد ويقرأ القرآن، فبعث الله جل وعلا إليه نفراً من الجن ليستمعوا إلى قراءته وكانوا على الصحيح سبعة من جن نصيبين وهي قرية بين العراق والشام، فاستمعوا له فلما استمعوا له آمنوا بدعواه، ولم يكتفوا بالإيمان بدعواه صلوات الله وسلامه عليه، بل انطلقوا في معالم الأرض وغرائبها يبلغون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دعوته، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32]. والعبرة الربانية للخلق هنا: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رفض بنو قومه من الإنس أن يجيبوا دعوته عوضه الله جل وعلا بإجابة الجن لدعوته، في السابق خذله أهل الأرض فعوضه الله بأهل السماء وفي الثانية عوضه الله بعد استجابة بني قومه من الإنس إلا قليلاً منهم عوضه الله باستجابة الجن له صلوات الله وسلامه عليه، وهنا ننيخ المطايا كرة أخرى: إنه ينبغي أن يعلم كل منتسب لهذا الدين أن الله جل وعلا مظهر دينه لا محالة، ومعز جنده لا مفر من ذلك: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. هذا أمر قدري شرعي لا محالة سيظهر الله دينه إن لم يكن اليوم سيكون غداً وإن لم يكن غداً فبعد غد، وما زالت في كثير من ديار المسلمين خاصة في هذا الشهر معالم الإيمان ظاهرة وواضحة ولله الحمد فما يراه المؤمن من تكالب قوى الغرب ومن تسلط أهل الشهوات ومما يعيثه أهل الفساد في الأرض كل ذلك يا أخي! إرهاصات بأن الله عز وجل سيتم كلمته ويعلي دينه وينشر لواء محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة، فما بعد العسر إلا اليسر ولا بعد الليل إلا الفجر، وتلك الساعات الحالكات التي قضاها نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن عج إلى ربه بذلك الدعاء الخالد أعقبها النصر بعد النصر، وأعقبها الظفر بعد الظفر حتى أتم الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم دينه ونزل قول الله تعالى بعد سنين عديدة عاشها صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً، أنزل الله قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، فلا عذر بعدئذ لأي متخاذل، ولا عذر بعدئذ لأي مقصر. إن نصرة دين الله جل وعلا من أوجب الواجبات ومن مقدمة الأولويات وليست نصرة دين الله في الحماس المفرط ولا في الكلمات الجوفاء ولا في إثارة الدهماء، إن نصرة دين الله جل وعلا في وضع الكلمة في موضعها الصحيح وفي وضع القدم اليمنى حين نجد مكاناً للقدم اليسرى وحين نخطو خطوات ثابتة واثقة على بينة من كتاب ربنا وعلى هدي من رسولنا صلى الله عليه وسلم، عندها يعز الله بنا دينه، ويرفع الله جل وعلا بنا دينه، ويعلي بنا بإذنه تبارك وتعالى كلمته.

الخاطرة الثانية إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

الخاطرة الثانية إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم الخاطرة الثانية: إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة. معشر الأحبة! النبوة ليست أمراً ينال بالجهد ولا يكتسب بالسعي ولكن النبوة فضل من الله وعطاء. والله جل جلاله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، ولقد جرت سنة الله في خلقه أنه بعث إليهم رسلاً هم الواسطة بين الله وبين عباده أي: أنهم يبلغون عن الله رسالاته وينصحون له في برياته، هذا من نوح حتى ختم الله تلك الرسالات بمبعث ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فنبينا هذا الذي ننتسب إليه ونتشرف أجمعين بأننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه له عند الله الدرجة الرفيعة، والمنزلة العالية، والمقام الأسمى، وإننا لن نرزق حبه صلوات الله وسلامه عليه حتى نعلم الكثير عنه؛ لأن من يجهل سيرته من باب أولى ألا تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كامنة في قلبه، وإن عدمت المحبة لا بد أن يعدم الاتباع؛ لأن الاتباع أصلاً مبني على المحبة والمحبة مبنية على العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم. وهذه الخاطرة سنخصصها لما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى نكون على يقين إلى أي نبي ننتسب؟ وبأي نبي نقتدي؟ وإلى أي ملة ننتمي؟ أكرم الله رسولنا صلى الله عليه وسلم بثلاثة مكارم: أكرمه قبل ولادته، وأكرمه حال حياته، وسيكرمه يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه. فمن إكرام الله لنبينا قبل ولادته: أن الله ما بعث نبياً إلا وأخذ عليه العهد والميثاق أن يتبع رسولنا صلى الله عليه وسلم إذا بعث، قال تعالى في آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. وأكرمه بأن نبي الله إبراهيم لما وضع رحله وذريته في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم استقبل القبلة ودعا الله قائلاً: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين وضعتني رأت أن نوراً ساطعاً يخرج منها أضاءت له قصور الشام)، وأما قوله: وبشارة عيسى فقد ذكرها الله في القرآن نصاً: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. فهذا بعض مما أكرم الله به رسولنا قبل ولادته يوم مبعثه، أما ما أكرم الله به رسولنا في حال حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك كثير لا يحصى، ولكننا سنجمل بعضه؛ لأنه مما نحن ملزمون به في هذه المحاضرة، فمما أكرم الله به رسوله: أن الماء نبع من بين أصبعيه، وأن الحصى سبح بين يديه، وأن الجذع حن إليه فإنه لما صنع له المنبر صلوات الله وسلامه عليه وارتقى عليه أول الأمر إذا بالصحابة يسمعون لذلك الجذع الذي كان رسولنا يأوي إليه ويخطب عنده بالسابق يسمعون له أنيناً وحنيناً على فراق رسولنا صلى الله عليه وسلم. وأكرمه ربه جل وعلا برحلة الإسراء والمعراج فكانت تلك الرحلة الخالدة التي أسرى الله بها بنبينا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فصلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً رغم أنه آخرهم مبعثاً، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، ثم جاوز سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، قال شوقي: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء؟ بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلاء وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء أكرم الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بأن الصلوات الخمس أعظم فرائض دينه بعد الشهادتين فرضت عليه في السموات العلى وهذه إشارة عظيمة إلى أهمية الصلاة في دين الإسلام ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يطعن في المنبر فيتأخر إلى الصف ويقدم عبد الرحمن بن عوف ويقول لمن حوله: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ومما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أن الله أقسم في القرآن بحياته قال العلماء: ولا يعرف أن الله أقسم بحياة أحد من خلقه إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى في سورة الحجر: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، وأقسم الله بالأرض التي يطأ عليها، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4]. بل بالغ ربه في إكرامه حتى أقسم له أي: من أجله صلوات الله وسلامه عليه فقال ربنا: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، فأقسم بالضحى وأقسم بالليل حال تغطيته للكون، ثم بين جواب القسم فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، فالله يقسم له أنه ما وعده وما قلاه وما هجره وما نأى عنه تبارك وتعالى، بل هو له صلى الله عليه وسلم مؤيداً وظهيراً ونصيراً صلوات الله وسلامه عليه. وهذا كثير مطرد وسنقف عندما أخبرنا به، أما إكرام الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الآخرة فإنه عليه الصلاة والسلام أول من ينشق عنه القبر، وهو أول من يجيز الصراط هو وأمته، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يطرق باب الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يدخلها، كما أن ربه يعطيه يوم القيامة المقام المحمود الذي يغبطه عليه الخلائق أجمعون، كما أن الله يعطيه الوسيلة كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي). فهذا دليل على فضل إجابة المؤذن وعلى فضل سؤال الله الوسيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودليل وبرهان واضح ظاهر لكل أحد على مقدار ما سيكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة. وهنا ننيخ المطايا لنقول لكم يا معشر الشباب خاصة: هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم فعلام أحدنا اليوم يتعبد بفعل المنحرفين الذين تتصدر صورهم وعناوين حياتهم أعمدة الصحف، وأغلفة المجلات، وطيات المنشورات لا يأبه الله جل وعلا بهم يوم القيامة، وليس لهم عند الله منزلة ولا مكانة، فعلى ما نعلق أفئدتنا؟ ونحيل أبصارنا إلى أمثال هؤلاء ونعرض عن هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ ونعرض عن هدي هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. هذا النبي الذي كان يا أخي! رحيماً شفيقاً بي وبك، رحيماً بأبي وأبيك، رحيماً بأمي وأمك، حتى إنه صلى الله عليه وسلم يضحي في يوم العيد بكبشين أملحين أقرنين فيسمي الله ويكبر على الأول ويقول: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد، ويسمي ويكبر على الآخر ويقول: اللهم وهذا عن من لم يضحي من أمة محمد)، ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يرانا، ويقول صلى الله عليه وسلم -ولنا الشرف أنها تكتحل أعيننا برؤيته- يقول لأصحابه كما في صحيح ابن حبان: (وددت لو أني رأيت إخواني، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطكم على الحوض). أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا وإياكم جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.

الخاطرة الأولى إذعان القلوب لعلام الغيوب

الخاطرة الأولى إذعان القلوب لعلام الغيوب إن الحمد لله، نحمده حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، له الأمر كله، وله الحمد كله، وله الملك كله، وإليه جل وعلا يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره، ولا إله سواه، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجعله ربه بفضل منه ورحمة خير أهل أرضه وسماواته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار، المبلغين عن الله دينه، والناشرين له كلماته، اللهم وأعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها المؤمنون! خواطرنا الإيمانية في هذا المساء المبارك ذات عنوانين رئيسة خمسة: ألا وهي إذعان القلوب لعلام الغيوب، إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، الدعاء الخالد حين تطغى الشهوات، وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هلم إلى التوبة. وهذه الخواطر إيمانية وإن تنوعت عناوينها، وتعددت موضوعاتها، وتباين المراد منها، فإنما تنصب جميعاً في نهر الإيمان الكبير، وفي بحر اليقين بالله جل جلاله، وفي الطريق الموصل إلى رضوانه تبارك وتعالى، وذلك مراد المؤمنين، وغاية المتقين بلا ريب. معشر الأحبة! لقد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان به قسيماً بين أهل الجنة والنار فقال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:27 - 29]. فهلم أيها المؤمنون! بقلوب لا تبتغي إلا وجه الله نستعين ربنا تبارك وتعالى في هذه الخواطر الإيمانية وأول هذه الخواطر: إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله. معشر الأحبة! إن الحديث عن الله تبارك وتعالى حديث عن خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، حديث عمن يعلم السر وأخفى، حديث عن من يكشف الضر والبلوى، حديث عن من رد إلى يعقوب بنيه، وأرجع موسى إلى أمه، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، حديث عمن بلغ محمد صلى الله عليه وسلم دعوته، وأكمل له دينه، ونشر له ملته، وأعلن كلمته في الأرض، فما بقيت دار إلا ودخلها دين سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم. الحديث عن الله أيها المؤمنون! له تخفق قلوب الموحدين، وله ترتجف قلوب المتقين؛ لأنه حديث عن خالقها ورازقها وبارئها تبارك وتعالى، والحديث عنه جل جلاله ينبغي أن يكون حديثاً محبباً إلى النفوس؛ لأنه تبارك وتعالى أحب إلينا من كل شيء: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. أما إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى فإن من دلائل إذعان القلوب لربها تبارك وتعالى أمور ثلاثة: أولها: الاستسلام لأمره والانقياد له، وثانيها: التواضع له تبارك وتعالى، وثالثها: خشيته جل وعلا في الغيب والشهادة. أما الاستسلام لأمر الله والانقياد له: فإن الله تبارك وتعالى ضرب لهذا الأمر مثلاً في القرآن في أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تبارك وتعالى عنه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130 - 131]. لم يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة ولم يسأل ربه كيف أسلم؟ وإلى من أتوجه؟ وعند من أدون اسمي؟ وعلام؟ وما الجزاء وعلام أذهب؟ وإلى من أغدو؟ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وهذا الأثر القرآني الذي حكاه الله عن انقياد إبراهيم واستسلامه أيدته السنة كما روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا أمر إبراهيم أن يختتن)، فبادر إبراهيم عندما أمره الله أن يختتن بادر عليه الصلاة والسلام إلى القدوم ثم اختتن به. وقد ورد في بعض الآثار كما ذكر ذلك الكثير من شراح هذا الحديث: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بادر إلى القدوم واختتن به أوجعه أشد الإيجاع، فأوحى الله تعالى إليه: (يا إبراهيم لم عجلت حتى يأتيك وحيي؟! فقال: يا رب! خشيت أن أؤخر أمرك)، فما أن أمره الله جل وعلا بالأمر إلا وأذعن واستسلم له وانقاد إليه دون أن يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة في الإذعان لربه علام الغيوب جل جلاله. وهذا من أعظم الدلائل على ما فطر عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الاستسلام لله، بعد هذا لا غرو ولا عجب أن نسمع في القرآن ثناء الله تبارك وتعالى على إبراهيم ونسمع في القرآن أن الله جل وعلا أخبر: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، ونسمع من رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة)، فهذا الثناء العطر الذي أبقاه الله لإبراهيم في الآخرين، وما له عند الله جل وعلا يوم القيامة من منزلة عظيمة إنما نالها هذا العبد الصالح وهذا النبي التقي بإذعانه وانقياده واستسلامه لرب العالمين تبارك وتعالى. ومما يؤيد أن القلوب المؤمنة إنما تمتثل لأمر الله دون تردد أنه ورد في الآثار كما هو معلوم: أن الله جل وعلا خلق آدم من تراب قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، ورد في الآثار مما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لما أراد أن يخلق آدم من قبضة من الأرض بعث ملكاً من الملائكة ليقبض له قبضة من الأرض، فلما قدم هذا الملك إلى الأرض قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم! وعاد إلى ربه دون أن يقبض من الأرض شيئاً، فلما سأله ربه وهو أعلم بما صنع قال: يا رب! لقد استعاذت بك فأعذتها. فبعث الله ملكاً آخر فلما وصل إلى الأرض وهم أن يقبض منها قبضاً كما أمره الله، قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع إلى ربه، فلما سأله ربه وهو أعلم، قال: يا رب! استعاذت بك فأعذتها، فبعث الله ملكاً ثالثاً: فلما هم بأن يقبض من الأرض قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره، فأخذ قبضة من الأرض وعرج بها إلى السماء. والمقصود منه: الإذعان لأمر رب العالمين تبارك وتعالى. والذي ينبغي أن تفطر عليه قلوبنا وأفئدتنا وجوارحنا أن تستسلم لله وأمره، وأن تعظم ربها تبارك وتعالى، يحكي الله جل وعلا في القرآن عن تعظيم ملائكته له فيقول تبارك وتعالى عنهم: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، قال بعض الأئمة في تفسيرها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه السلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، فيمضي جبرائيل بالأمر على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟! فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير). والغاية من هذا كله يا أخي! أن تذعن قلوبنا لعلام الغيوب جل جلاله، فنسمع النداء: حي على الصلاة! حي على الفلاح! فنبادر إلى المسجدن كما تقول عائشة لما سئلت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: (ما كان يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا سمع النداء مر كأنه لا يعرفنا)، أي: أنه يبادر ويسارع إلى الصلاة، نسمع أمر الله جل وعلا لنا بأن نذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، فلا نعرج على ألسنتنا بالقيل والقال، ولا بالغيبة في المسلمين، ولا بالنميمة بينهم، ولا نردد قول فلان وفلان! من أهل الفن أو من غيرهم، وإنما نذكر ربنا جل وعلا مبادرة ومسارعة؛ لأنه بذلك أمرنا تبارك وتعالى. يسمع أهل الثراء منا أمر الله جل وعلا بالإنفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، فيبادرون إلى الإنفاق طمعاً فيما عند الله، وإذعاناً لأمره تبارك وتعالى في المقام الأول. وعلى هذا قف يا أخي! بقية الطاعات والمسارعة في الخيرات، ألا وإن من إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله: التواضع لله تبارك وتعالى، وأجمل ما يكون التواضع عند حلول النعمة، وحلول الظفر والنصر، وحلول المقصود والمراد، فهنا يظهر الإذعان لرب العالمين تبارك وتعالى، ولن ينبئ الإنسان عن شكره لله واعترافه بأن ما لديه هو من فضل الله تبارك وتعالى، وأن ما أصابه من نعمة إنما هو من ربه جل وعلا حتى يظهر لله تبارك وتعالى تواضعه. فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم طرده قومه من مكة فدخلها بعد عشر سنوات من الهجرة، وبعد عشرين عاماً من بعثته صلى الله عليه وسلم حوصر في شعب أبي طالب، واختفى في

واجبنا نحو حبيبنا صلى الله عليه وسلم

واجبنا نحو حبيبنا صلى الله عليه وسلم معشر الأحبة! إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث لا يمكن أن تمله القلوب المؤمنة، ولا يمكن أن تسأمه النفوس المسلمة، إنه حديث عن أحب حبيب إلينا من الخلق، وعن أقرب قريب إلينا من الناس، حديث عن صفوة الله من الخلق، حديث عن رسول الحق صلوات الله وسلامه عليه. وإنه من يريد أن يعلم أينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلبه فلينظر أين هو من سنته؟ فلينظر أين هو من الذود عن سنته؟ أين هو من الدعوة إلى دينه؟ أين هو من اقتفاء أثره؟ أين هو من التزام قلبه؟ صلوات الله وسلامه عليه. كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يتوخى كل أمر يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يلبس النعل التي لا شعر لها، فلما كلم في ذلك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي لا شعر بها ويتوضأ بها ويصلي فيها، فإذا كان قد اتبعه حتى في النعل الذي يلبسه فما بالك إذاً في عظائم الأمور؟ إن محبة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي الدين وهي عين الملة؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه الطريق الأوحد إلى رضوان ربنا جل جلاله. فليست محبته فقط دموعاً في المحاجر، بل أمراً في سويداء القلوب، وإن كان ينبغي أن تكون كذلك، ولكن محبته صلى الله عليه وسلم أن نجعل الناس كلهم وراء ظهورنا إلا من أحب واقتفى أثر محمد صلى الله عليه وسلم، فلا ننظر إلى زيد ولا عمر، ولا إلى مشغول ولا مغمور، وأن نحب الناس ونعاديهم على مدى تمسكهم بسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه، حشرنا الله وإياكم في زمرته، وسقانا الله وإياكم من حوضه، وأنال لنا الله وإياكم من شفاعته، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. خاتمة المطاف وخاتمة الخواطر أيها المؤمنون! بعد هذا الذي سمعتموه: هلم إلى التوبة بعد هذا كله ما الذي ينبغي علي وعليك؟ ينبغي علينا أمر واحد: هو أن نسارع بلا تردد وأن نبادر بلا إحجام إلى أن نئوب إلى ربنا جل جلاله، لقد قالت اليهود يا أخي! في سالف الأزمان: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، والله تبارك وتعالى هو الغني حقاً وسائر خلقه فقراء إليه. لا تظنن يا أخي! أن الله تبارك وتعالى عندما يدعوك إلى عبادته ويدعوك إلى أن تسجد له وأن توحده وأن تعظم أمره وتحجم عن نهيه إنما هو في حاجة إليك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. بل إن الأمر كما أخبر أنبياؤه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. الله تبارك وتعالى يا أخي! أغنى الأغنياء عن الشرك جل وعلا، مستو على عرشه، بائن عن خلقه، لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. فهلم أيها الأخ المؤمن! إلى توبة إلى ربنا جل جلاله خاصة وأننا نتفيأ ظلال هذا الشهر الكريم وهذه الليالي المباركة، إننا لا ندري بما يختم لنا، ولا ندري إلى أي أمر نصير: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، فالسعيد كل السعادة من أعرض عن الشيطان، وأقبل على مولاه، وأسلم لله قلبه، وأسلم لله جوارحه، وأسلم لله دمعته، وأسلم لله محاجره، وأقبل على الله جل وعلا بقلب خالص، وتوبة ناصحة، وأوبة لا رجعة فيها، يستغفر ذنبه، ويرجو الله أن يمحو خطيئته، وأن يسبغ الله عليه رحمته، وأن يدفع الله تبارك وتعالى عنه نقمته. كفانا ما خلا من أيام عمرت بالذنوب والمعاصي، وليال أظلمت بالذنوب والخطايا، ولنقبل أجمعين إلى ربنا جل وعلا، ولتعلم يا أخي! أن رحمة الله لا تضيق بشيء، يقول جل جلاله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]. أسأل الله جل وعلا في خاتمة هذه الخواطر، وفي خاتمة هذه المحاضرة أن يمن علينا أجمعين بالتوبة النصوح والأوبة إليه إنه سميع مجيب، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأعتذر إليكم معشر الأحبة! إن أطلت، وعفواً إن قصرت، فما أردت إلا الإصلاح ما استطعت: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

محبة النبي صلى الله عليه وسلم

محبة النبي صلى الله عليه وسلم رفع الله تعالى شأن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزله منزلة عظيمة أورثت له جملة من الحقوق على أتباعه، ومن تلك الحقوق: محبته صلى الله عليه وسلم التي سطر أصحابه والتابعون لهم بإحسان أكمل صورها وأعلاها، وللمتبع من بعدهم أن يحذو حذوهم في محبته بالإتيان بلوازمها العملية، ليجني بذلك أعظم الثمار ويتذوق بلسان قلبه حلاوة الإيمان.

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وأمينه على وحيه، أكرم به عبداً وسيداً، وأعظم به حبيباً مؤيداً، فما أزكاه أصلاً ومبتدا، وما أطهره مضجعاً ومولداً، صلى الله عليه على آله وأصحابه صلاة خالدة وسلاماً مؤبداً. أما بعد: فإن من الدروس ما يحتاج قائلها إلى انتقاء في الألفاظ، وصياغة في العبارات، وبحث في المعاجم؛ حتى يسد بذلك خللاً في المعاني، وقصوراً في الغايات، وما يصاحب ذلك من المطالب التي تقصدها تلك المحاضرات. إلا أن الحديث عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حديث تزهو به العبارات، وتجمل به الصياغة، فإذا كان قد ثبت أن النوق -وهن نوق- تسابقن إلى يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم أيهن يبدأ بها لتنحر فإن الكلمات تتسابق أيضاً إلى أفواه قائليها إذا كان الحديث عن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر دون باب الله بابا أبا الزهراء! قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إلا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدرا فلما مدحتك اقتدت السحابا فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين

محبة النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين أيها المؤمنون! إن نبيكم أشار إلى القمر فانفلق ليكون شاهداً على نبوته، وأشار إلى الغمام فتفرق بأمر الله جل وعلا إكراماً لإشارته، وصعد على أحد فارتجف فرحاً به وبأصحابه، وترك الجذع حيناً فحن الجذع إليه وإلى كلماته وعظاته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان هذا حال غيرنا معه، فما الذي ينبغي على المؤمنين من أمته به؟ لا ريب في أن المؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه أولى بمحبته، وأجدر بطاعته، وأحق باتباعه، فما أكرمه من حبيب مصطفى، وعبد مجتبى، ورسول مرتضى. منَّ الله جل وعلا عليه بأن جعله إلينا من الخلق أحب حبيب، وأكمل قريب، وأرسله الله جل وعلا رحمة للخلائق، فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهدى به لأمثل الطرائق، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. ومحبته صلى الله عليه وسلم حق من حقوقه على أمته، دل عليها العقل والنقل، وجاءت بها الأخبار والآثار، وتلبَّس بها السابقون الأولون من المؤمنين الأخيار، فقاموا بها حق قيام، وأدوها على نحو أتم ووجه أكمل. ومحبة الناس قد تكون محبة ينتابها الإشفاق، كمحبة الوالد لولده ومحبة ينتابها الإجلال، كمحبة الولد لوالده، ومحبة يعتريها المشاكلة والاستحسان، كمحبة الناس بعضهم لبعض ممن يكمل في العين، ويرتفع قدره أما محبة المؤمنين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فإنها في مجملها محبة شرعية أوجبها الله جل وعلا علينا له صلوات الله وسلامه عليه، وقد دل عليها الكتاب، ودلت عليها أقواله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فبين جل وعلا أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم شيئاً من متاع الدنيا ولا النفس على محبة الله، ثم على محبة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تبين لكل أحد بما نص عليه العلماء -كـ القرطبي وغيره- أنه ما من أحد يؤمن بالله تبارك وتعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وفي قلبه محبة راجحة لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولكن هذه المحبة يختلف الناس فيها، ويتفاوتون فيما بينهم في تحقيقها، فمنهم من ينال منها النصيب الأوفر، ومنهم -والعياذ بالله- من يرضى بالحد الأدنى، فكلما طغت الغفلة والشهوات نأى الإنسان بمحبته لرسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وكلما عظم ذكر الله والاتباع والطاعة علت تلك المحبة في النفوس، وسمت في الأفئدة، وارتقت في القلوب، فيقرب العبد بعد ذلك من ربنا غلام الغيوب.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين

محبة النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين أيها المؤمنون! إن نبيكم أشار إلى القمر فانفلق ليكون شاهداً على نبوته، وأشار إلى الغمام فتفرق بأمر الله جل وعلا إكراماً لإشارته، وصعد على أحد فارتجف فرحاً به وبأصحابه، وترك الجذع حيناً فحن الجذع إليه وإلى كلماته وعظاته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان هذا حال غيرنا معه، فما الذي ينبغي على المؤمنين من أمته به؟ لا ريب في أن المؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه أولى بمحبته، وأجدر بطاعته، وأحق باتباعه، فما أكرمه من حبيب مصطفى، وعبد مجتبى، ورسول مرتضى. منَّ الله جل وعلا عليه بأن جعله إلينا من الخلق أحب حبيب، وأكمل قريب، وأرسله الله جل وعلا رحمة للخلائق، فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهدى به لأمثل الطرائق، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. ومحبته صلى الله عليه وسلم حق من حقوقه على أمته، دل عليها العقل والنقل، وجاءت بها الأخبار والآثار، وتلبَّس بها السابقون الأولون من المؤمنين الأخيار، فقاموا بها حق قيام، وأدوها على نحو أتم ووجه أكمل. ومحبة الناس قد تكون محبة ينتابها الإشفاق، كمحبة الوالد لولده ومحبة ينتابها الإجلال، كمحبة الولد لوالده، ومحبة يعتريها المشاكلة والاستحسان، كمحبة الناس بعضهم لبعض ممن يكمل في العين، ويرتفع قدره أما محبة المؤمنين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فإنها في مجملها محبة شرعية أوجبها الله جل وعلا علينا له صلوات الله وسلامه عليه، وقد دل عليها الكتاب، ودلت عليها أقواله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فبين جل وعلا أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم شيئاً من متاع الدنيا ولا النفس على محبة الله، ثم على محبة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تبين لكل أحد بما نص عليه العلماء -كـ القرطبي وغيره- أنه ما من أحد يؤمن بالله تبارك وتعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وفي قلبه محبة راجحة لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولكن هذه المحبة يختلف الناس فيها، ويتفاوتون فيما بينهم في تحقيقها، فمنهم من ينال منها النصيب الأوفر، ومنهم -والعياذ بالله- من يرضى بالحد الأدنى، فكلما طغت الغفلة والشهوات نأى الإنسان بمحبته لرسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وكلما عظم ذكر الله والاتباع والطاعة علت تلك المحبة في النفوس، وسمت في الأفئدة، وارتقت في القلوب، فيقرب العبد بعد ذلك من ربنا غلام الغيوب.

مواقف من محبته صلى الله عليه وسلم في قلوب أتباعه

مواقف من محبته صلى الله عليه وسلم في قلوب أتباعه

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة وإذا كان المؤمن ذا إنصاف فإن أول ما ينبغي عليه هو أن يتأسى بالأخيار، ولا جيل أمثل ولا رعيل أكمل من أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه، ثم التابعون بإحسان من أهل القرون المفضلة، وقد ضرب أولئك الأخيار المثل العليا في محبتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، في محبتهم له حال حياته، ومحبتهم له بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه. ولا يمكن لأحد أن يستشهد بأحد قبل سيد المسلمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلقد كان لـ أبي بكر النصيب الأعلى والحظ الأوفر من كل خير في الأمة؛ لأن إيمانه -كما نص الشرع- عليه يعدل إيمان الأمة كلها، فقد قدم ماله ونفسه وما ملكته يداه وجاهه إجلالاً لله ومحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فتأتي حادثة الهجرة وينال أبو بكر شرف الصحبة، فيمضي مع نبينا عليه الصلاة والسلام في الطريق، فيرى منه النبي عجباً، فتارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يأتي عن اليمين، وأخرى عن الشمال، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر؟! فيقول: يا نبي الله! أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأخاف عليك الطلب فأمشي خلفك، وأتوجس من الكمين فأكون تارة عن يمينك وتارة عن شمالك).

موقف الأنصار رضي الله عنهم في يوم القدوم

موقف الأنصار رضي الله عنهم في يوم القدوم ثم يدخل صلى الله عليه وسلم المدينة ليضرب أهلها مثلاً أعلى آخر في حبهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون زرافات ووحداناً، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، فيكبرون ويقول بعضهم لبعض: الله أكبر جاء محمد جاء محمد، وترتقي على أسطح المنازل بنات من بني النجار يضربن على الدف ويقلن: نحن بنات من بني النجار يا حبذا محمد من جار وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم التفت إليهن وقال: (أتحببنني؟! قلن: نعم يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا كذلك أحبكن).

موقف خبيب عند الصلب

موقف خبيب عند الصلب ثم يتتابع حال القوم في محبتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، والمحبة شيء في القلوب، ويعبر الإنسان عنها بما يقتضيه الحال، وما يمليه المقام، ففي ساحات الحروب كانوا يحيطون به دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك هو ما تمليه المحبة في وقتها، فإذا كان بين أظهرهم وجلسوا معه في مجلسه حفوا به، وغضوا أبصارهم عنه، وهابوا أن يتكلموا بين يديه، واستحوا أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فإذا أصابهم الأذى وعرضت عليهم الدنيا لم يقبلوها رجاء أن يرضى عنهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فـ خبيب رضي الله عنه يقدم ليصلب وليقتل، فيقول له قاتلوه من مشركي قريش آنذاك: أيسرك أنك في بيتك معافى وأن محمداً مقامك؟ فيقول رضي الله عنه وأرضاه: لا والله لا يسرني ذلك، ولا أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة. وهم مع ذلك رضي الله تعالى عنهم يعلمون أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر أكرمه الله بالنبوة، وختم به الرسالة، فكانوا يأخذون عنه الدين، ويأخذون عنه العلم، ويتعلمون منه ما يقربهم إلى الله جل وعلا زلفى.

موقف الصديق على منبر رسول الله

موقف الصديق على منبر رسول الله فلما توفي صلوات الله وسلامه عليه تذكر من كان حياً بعده أيامه صلوات الله وسلامه عليه، فجاء أبو بكر إلى المنبر، وكان أبو بكر يعلم أن هذا المنبر طالما جلس وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحيا أن يجلس في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيه، فنزل درجة ثم خطب في الناس قائلاً: إنكم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا فقال. فغلبته عيناه، ولم يستطع أن يكمل. ثم أعاد العبارة فغلبته عيناه فلم يستطع أن يكمل، ثم أعادها فغلبته عيناه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ما أعطى أحداً شيئاً أعظم من العفو والعافية، فسلوها الله عز وجل) ثم أتم حديثه رضي الله عنه وأرضاه. فإذا قدر لأحدهم أن تدنو ساعة رحيله قال: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه. وكان بلال يقدم بين الحين والآخر من الشام إلى المدينة، فإذا قدر له أن يرفع الأذان ومر على قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) ارتجت المدينة بالبكاء؛ لأن أذان بلال ذكرهم بالحبيب صلوات الله وسلامه عليه.

مواقف من محبته صلى الله عليه وسلم في قلوب أتباعه

مواقف من محبته صلى الله عليه وسلم في قلوب أتباعه

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة وإذا كان المؤمن ذا إنصاف فإن أول ما ينبغي عليه هو أن يتأسى بالأخيار، ولا جيل أمثل ولا رعيل أكمل من أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه، ثم التابعون بإحسان من أهل القرون المفضلة، وقد ضرب أولئك الأخيار المثل العليا في محبتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، في محبتهم له حال حياته، ومحبتهم له بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه. ولا يمكن لأحد أن يستشهد بأحد قبل سيد المسلمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلقد كان لـ أبي بكر النصيب الأعلى والحظ الأوفر من كل خير في الأمة؛ لأن إيمانه -كما نص الشرع- عليه يعدل إيمان الأمة كلها، فقد قدم ماله ونفسه وما ملكته يداه وجاهه إجلالاً لله ومحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فتأتي حادثة الهجرة وينال أبو بكر شرف الصحبة، فيمضي مع نبينا عليه الصلاة والسلام في الطريق، فيرى منه النبي عجباً، فتارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يأتي عن اليمين، وأخرى عن الشمال، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر؟! فيقول: يا نبي الله! أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأخاف عليك الطلب فأمشي خلفك، وأتوجس من الكمين فأكون تارة عن يمينك وتارة عن شمالك).

موقف الأنصار رضي الله عنهم في يوم القدوم

موقف الأنصار رضي الله عنهم في يوم القدوم ثم يدخل صلى الله عليه وسلم المدينة ليضرب أهلها مثلاً أعلى آخر في حبهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون زرافات ووحداناً، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، فيكبرون ويقول بعضهم لبعض: الله أكبر جاء محمد جاء محمد، وترتقي على أسطح المنازل بنات من بني النجار يضربن على الدف ويقلن: نحن بنات من بني النجار يا حبذا محمد من جار وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم التفت إليهن وقال: (أتحببنني؟! قلن: نعم يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا كذلك أحبكن).

موقف خبيب عند الصلب

موقف خبيب عند الصلب ثم يتتابع حال القوم في محبتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، والمحبة شيء في القلوب، ويعبر الإنسان عنها بما يقتضيه الحال، وما يمليه المقام، ففي ساحات الحروب كانوا يحيطون به دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك هو ما تمليه المحبة في وقتها، فإذا كان بين أظهرهم وجلسوا معه في مجلسه حفوا به، وغضوا أبصارهم عنه، وهابوا أن يتكلموا بين يديه، واستحوا أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فإذا أصابهم الأذى وعرضت عليهم الدنيا لم يقبلوها رجاء أن يرضى عنهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فـ خبيب رضي الله عنه يقدم ليصلب وليقتل، فيقول له قاتلوه من مشركي قريش آنذاك: أيسرك أنك في بيتك معافى وأن محمداً مقامك؟ فيقول رضي الله عنه وأرضاه: لا والله لا يسرني ذلك، ولا أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة. وهم مع ذلك رضي الله تعالى عنهم يعلمون أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر أكرمه الله بالنبوة، وختم به الرسالة، فكانوا يأخذون عنه الدين، ويأخذون عنه العلم، ويتعلمون منه ما يقربهم إلى الله جل وعلا زلفى.

موقف الصديق على منبر رسول الله

موقف الصديق على منبر رسول الله فلما توفي صلوات الله وسلامه عليه تذكر من كان حياً بعده أيامه صلوات الله وسلامه عليه، فجاء أبو بكر إلى المنبر، وكان أبو بكر يعلم أن هذا المنبر طالما جلس وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحيا أن يجلس في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيه، فنزل درجة ثم خطب في الناس قائلاً: إنكم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا فقال. فغلبته عيناه، ولم يستطع أن يكمل. ثم أعاد العبارة فغلبته عيناه فلم يستطع أن يكمل، ثم أعادها فغلبته عيناه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ما أعطى أحداً شيئاً أعظم من العفو والعافية، فسلوها الله عز وجل) ثم أتم حديثه رضي الله عنه وأرضاه. فإذا قدر لأحدهم أن تدنو ساعة رحيله قال: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه. وكان بلال يقدم بين الحين والآخر من الشام إلى المدينة، فإذا قدر له أن يرفع الأذان ومر على قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) ارتجت المدينة بالبكاء؛ لأن أذان بلال ذكرهم بالحبيب صلوات الله وسلامه عليه.

إرث التابعين من المحبة لرسول الله

إرث التابعين من المحبة لرسول الله وما حظي به الصحابة من محبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ورثه عنهم التابعون من هذه الأمة، قال مالك رحمه الله -وهو إمام دار الهجرة في عصره-: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب السختياني أفضل منه. ثم ذكر مالك السبب الذي جعله يجل أيوب ويأخذ عنه فقال رحمه الله: لقد صحبته وقد حج حجتين، فرمقته من بعد ولم أسمع منه، فكنت أرى أيوب إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى يقوم عنه أصحابه شفقة ورحمة به، فلما رأيت محبته وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم أخذت عنه وكتبت عنه الحديث. ثم إن مالكاً نفسه كان يبكي كلما أكثر من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعجب منه أصحابه، فقال رحمه الله لتلاميذه: لو رأيتم ما رأيت لما تعجبتم، لقد أدركت محمد بن المنكدر -وهو شيخ مالك -ما يحدث بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويبكي إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فنقوم عنه رحمة به وشفقة عليه. ثم قال: وأدركت عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، إذا حدث وذكر النبي صلى الله عليه وسلم جف لسانه في فمه، وكاد دمه أن ينزف؛ محبة وإجلالاً لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه. فهذه صور مشرقة وصفحات مضيئة من حياة سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في محبتهم لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

إرث التابعين من المحبة لرسول الله

إرث التابعين من المحبة لرسول الله وما حظي به الصحابة من محبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ورثه عنهم التابعون من هذه الأمة، قال مالك رحمه الله -وهو إمام دار الهجرة في عصره-: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب السختياني أفضل منه. ثم ذكر مالك السبب الذي جعله يجل أيوب ويأخذ عنه فقال رحمه الله: لقد صحبته وقد حج حجتين، فرمقته من بعد ولم أسمع منه، فكنت أرى أيوب إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى يقوم عنه أصحابه شفقة ورحمة به، فلما رأيت محبته وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم أخذت عنه وكتبت عنه الحديث. ثم إن مالكاً نفسه كان يبكي كلما أكثر من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعجب منه أصحابه، فقال رحمه الله لتلاميذه: لو رأيتم ما رأيت لما تعجبتم، لقد أدركت محمد بن المنكدر -وهو شيخ مالك -ما يحدث بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويبكي إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فنقوم عنه رحمة به وشفقة عليه. ثم قال: وأدركت عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، إذا حدث وذكر النبي صلى الله عليه وسلم جف لسانه في فمه، وكاد دمه أن ينزف؛ محبة وإجلالاً لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه. فهذه صور مشرقة وصفحات مضيئة من حياة سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في محبتهم لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

عوض المحرومين من صحبة النبي ورؤيته

عوض المحرومين من صحبة النبي ورؤيته فإذا أدرك المؤمن هذا عرف أن الله جل وعلا لم يكتب لنا أن نسعد بصحبته، ولم تكتحل أعيننا برؤيته، ولكن الله جل وعلا لم يحرمنا من الإيمان به واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، واعلموا أنه -صلى الله عليه وسلم- صح عنه أنه قال: (إن من أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)، فاللهم برحمتك وسلطانك اجعلنا منهم. فهؤلاء المحبون لنبينا صلى الله عليه وسلم أدركوا أن محبته صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات، وأجل القربات، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، وفي البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فقال عمر: يا رسول الله! إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى من نفسك يا عمر، فقال عمر: الآن يا رسول الله أنت أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر)، أي: الآن كمل إيمانك يا عمر فلن يكمل إيمان عبد حتى يكون محباً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

سبب حبنا لنبينا صلى الله عليه وسلم

سبب حبنا لنبينا صلى الله عليه وسلم وهذه المحبة لا حاجة لأن يطنب الإنسان ويتحدث في أسبابها وموجباتها؛ لأن ذلك لا يمكن أن يخفى على أحد، فنحن نحبه صلى الله عليه وسلم تبعاً لمحبتنا لربنا جل وعلا، فإنه -صلوات الله وسلامه عليه- حبيب الله وخليله وصفيه ونجيه، فكان بدهياً أن نحب من أحبه الله جل وعلا، وبه هدانا إلى صراطه المستقيم، فهو -عليه الصلاة والسلام- حظنا من النبيين، ونحن حظه من الأمم كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فنحبه لما كان في قلبه صلوات الله وسلامه عليه من شفقة ورحمة بالأمة، كما نعته الله جل وعلا في كتابه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. ففي يوم عيده -صلى الله عليه وسلم- ضحي بكبشين أملحين أقرنين، فسمي الله وكبر عند ذبح أحدهما وقال: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) ثم ضحى بالآخر وقال: (اللهم هذا عمن من لم يضح من أمة محمد) صلى الله عليه وسلم. ولقد استعجل الأنبياء قبله دعواتهم، وادخر دعوته ليوم القيامة من أجل أمته، كما قيل: وأهلك قومه في الأرض نوح بدعوة لا تذرْ أحداً فأفنى ويدعو أحمد رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون كما علمنا فيدخر صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله به عليه من دعوة مستجابة ليوم تقوم فيه الأشهاد، ويحشر فيه العباد؛ إكراماً لأمته وأتباعه صلوات الله وسلامه عليه، ففي ذلك المقام العظيم يناجي ربه ويناديه ويسأله قائلاً: رب! أمتي أمتي. فهذا وأمثاله حري بأن يجعلنا نصرف محبتنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه بعد محبتنا لله عز وجل.

دلائل محبة رسول الله

دلائل محبة رسول الله

توحيد الله وإجلاله ومحبته

توحيد الله وإجلاله ومحبته وفي هذا الحديث إنما نذكر دلالات المحبة، وأحوال المحبين، وكل امرئ بعد ذلك يحاسب نفسه على ما علم. وأعظم أحوال محبي محمد صلى الله عليه وسلم وأجل الدلالات على حبه صلوات الله وسلامه عليه توحيد الله، وإجلال الله، ومحبة الله، وبيان ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما أرسل وما أنزل عليه الكتاب إلا ليدعو الناس إلى توحيد الله جل وعلا، فمكث عمره الطاهر الشريف كله يذكر بالله، ويحبب فيه، ويدعو إليه، ويطلب من العباد أن يوحدوا ربهم ويعظموه ويجلوه، فإذا حاد الإنسان عن طريق التوحيد فقد حاد عن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من دلالة حبه صلوات الله وسلامه عليه. إن محبة الله جل وعلا هي المنزلة التي يشمر إليها العاملون، ويتنافس فيها المتنافسون، وهي الحياة التي من فقدها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من حرمه فهو في بحار الظلمات، ولا يعدل توحيد الله وإجلاله ومحبته شيء، فالله جل وعلا خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب، والله رازق وما سواه مرزوق، وما محمد إلا عبد لله ورسول من لدنه، عرف بربه ودعا إليه، وقضى حياته كلها موحداً له سبحانه وتعالى. فأعظم دلائل محبته الأخذ بما جاء به، فإن سلك الإنسان مسالك أهل التوحيد، وعظم الله جل وعلا ووحده فذلك أعظم القرائن، وأصدق أحوال من يحب محمداً صلى الله عليه وسلم.

اتباع هدي رسول الله واقتفاء أثره

اتباع هدي رسول الله واقتفاء أثره ثم يعقب ذلك -وليس ببعيد عنه ولا منفك عنه- اتباع هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه، وقد جرت الدلائل العقلية والنقلية بأن المحب لمن يحب مطيع، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمر بأمر ونهى عن نهي، وكان له هدي يعلمه كل من اطلع على سيرته وسنته، فدلالة محبته اتباع هديه واقتفاء أثره بالإيمان والعمل الصالح والجهاد من أجل تحقيق تلك الغاية. ومثال ذلك ما صنعه ذو البجادين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد نشأ يتيماً، فكفله عم له في ديار على مقربة من المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انتظر ذو البجادين أن يسلم عمه، فمرت السنون دون أن يتغير حال عمه، فلما أخبر ذو البجادين عمه بالأمر قال له عمه -وكان قد أغدق عليه وجعله ذا يسر بعد أن كان ذا فقر-: إن اتبعت محمداً سلبت منك كل ما أعطيتك إياه، حتى ثوبيك، فقال: لا أعدل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، فسلبه عمه كل ما أعطاه، فقدم على أمه فأعطته بجاداً فشطره شطرين، فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر، وقدم المدينة ليلاً فاضطجع في المسجد، فلما كانت صلاة الصبح وفرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته وتفرس في وجوه الناس رأى ذا البجادين ولم يكن قد عرفه، فقال له: (من أنت؟) فتسمى له وانتسب، فقال له: (أنت عبد الله ذو البجادين، ولكن كن قريباً مني حتى أكرمك مع أضيافي). فمكث رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظ القرآن حتى كانت غزوة تبوك، فخرج مجاهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، فأدركه المرض، فمات والمسلمون في معسكرهم في تبوك، فحفر له قبر في الليل، فنزل صلى الله عليه وسلم فيه، قال لـ أبي بكر وعمر: (أدليا إلي أخاكما) فوضعه صلى الله عليه وسلم في قبره، فلما فرغ من دفنه قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إنني أمسيت راضياً عنه فارض عنه)، فهذا الحديث عن هذا الصحابي نموذج فذ لاجتماع المحبة والعمل والاتباع والاقتفاء في شخصية واحدة هي شخصية عبد الله ذي البجادين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً. وقد له -صلوات الله وسلامه عليه-سنتان: سنة يفعلها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله جل وعلا، فهذه لا يسع أحداً من الأمة أن يتركها، وقوامها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) وسنة يفعلها صلى الله عليه وسلم على سبيل الجبلة، وعلى ما فطره الله جل وعلا عليه في ذاته وحاله وشخصيته وبيئته. فأما الأولى فإن الأمة جميعاً مأمورة بها، وأما الأخرى فهي منازل يتسابق فيها الأخيار، ويتنافس فيها الأبرار، وهي تدل في معظمها على محبته صلوات الله وسلامه عليه. فالصحابة كانوا قد تجاوزوا مرحلة أن يأتمروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأن ينتهوا عن نهيه، فلا تجد أحداً منهم مقيماً على المعاصي، مصراً على الخطايا، وإن كان الحال أنه لا يخلو أحد من معصية وخطيئة، ولكن أنفسهم سمت إلى الجانب الآخر، فكانوا يرون ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم جبلة فيصنعونه. فقد قدم رهط مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم قرة المزني رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما قدم وجد النبي عليه الصلاة والسلام مطلق الأزرار، أي أنه لم يزرر قميصه صلى الله عليه وسلم، فتأمله قرة ثم قرب منه، ثم أدخل يده في قميص النبي صلى الله عليه وسلم حتى استطاع أن يلمس خاتم النبوة من الخلف، وتركه صلى الله عليه وسلم للقميص من غير إغلاق أزراره أمر قد لا يعرف فقهه، ولكن الثابت سنداً أن قرة وابنه معاوية رضي الله تعالى عنهما لم يشاهدا في صيف ولا في شتاء قد أغلقا أزرارهما، فأمضيا دهرهما كله إلى أن ماتا وقبرا وهما مطلقا الأزرار تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك، ولم يدع إليه، ولكن النفوس أرادت أن تتربى على المعالي لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال. فالمقصود من هذا كله أن اتباعه عليه الصلاة والسلام فُرقانٌ في كمال المحبة، على أنه ينبغي أن يعلم أنه قد يكون الرجل مصراً على المعاصي ومحباً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن المعصية لا تنزع المحبة بالكلية، ولكن لا يمكن أن يجتمع كمال المحبة مع عدم اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فالعاقل من يكون قلبه مليئاً بالمحبة لرسول الهدى ونبي الرحمة، وفي حياته اليومية يتأسى به، ويعمل بوصاياه، ويأتي أمره، ويجتنب نهيه صلوات الله وسلامه عليه.

تعظيم سنن رسول الله

تعظيم سنن رسول الله ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم ودلالة محبته تعظيم سننه عليه الصلاة والسلام، والسنة باب مشهور يعلم الناس منه أشياء ويخفى عليهم منه أشياء، ومن أراد أن يحيي سنة ميتة فإن من أشهرها ما ذكرته عائشة حين سئلت من رهط من التابعين عن وتره صلوات الله وسلامه عليه، أجابت بأن وتره صلى الله عليه وسلم انتهى في آخر عمره إلى أنه كان يصلي ثماني ركعات فرداً من غير جلوس، ثم يجلس في الثامنة فيتشهد ويدعو، ثم يقوم فيأتي بركعة تاسعة، ثم يجلس فيتشهد ويسلم صلوات الله وسلامه عليه، قالت: فلما كبر وأسن وحمل اللحم عليه الصلاة والسلام نقص عن ذلك ركعتين، فكان يصلي ستاً متعاقبات يجلس في السادسة، ثم يقوم يأتي بالسابعة فيتشهد ويدعو الله كثيراً ثم يسلم، ثم إذا فرغ من صلاته صلى ركعتين وهو جالس صلوات الله وسلامه عليه، والسنة فيهما أن يجلس الإنسان للقيام متربعاً، ويجلس حال التشهد كجلسته المعتادة بين السجدتين. وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين وهو جالس بعد وتره، ويسلم تسليماً يسمع به أهله، وهذه سنة قد تكون غير معلومة، أو قد تكون معلومة مهجورة، فمن أراد أن يحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فعليه بها، ففيها الأجر العظيم، والثواب الكريم؛ لأنها مندرجة عموماً في قيام ليله صلوات الله وسلامه عليه. ومنها ما تراه من بعض آحاد الناس المطلعين على حقيقة سنته صلوات الله وسلامه عليه المحبين له، اللذين يريد أحدهم أن يحيا كما كان صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل بيتاً لأحد الناس وقدم له تمر فإنه يتمنى ألا يأتي صاحب البيت بإناء يوضع فيه التمر، وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه أنه قال: (نزل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي، فقربنا إليه طعاماً ووطبة فأكل منها، ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين أصبعيه، ويجمع السبابة والوسطى) صلوات الله وسلامه عليه، فكره عليه الصلاة والسلام أن يرد النوى في موضع التمر، فوضع النوى بين أصبعيه السبابة والوسطى، ونحن نعلم يقيناً أن هذه المسألة مسألة جبلية هي إلى البيئة أقرب، ولا يترتب على تركها إثم، ولكن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ في حبه إلى أن يتأسى بكل أفعاله وأقواله صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك برهان على المحبة، ودليل على صدقها، لأن كمال المحبة يلزم منه كمال الطاعة وكمال الاتباع واقتفاء هديه صلوات الله وسلامه عليه.

محبة ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم

محبة ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أحوال المحبين ودلالات حبه صلوات الله وسلامه عليه: محبة ما يحبه، فإن الإنسان إذا أحب شيئاً أحب ما يتعلق به، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى البخاري من حديث أنس -دعاه خياط لطعام صنعه، فقرب إليه ثريداً ومرقاً فيه خبز من شعير ومرقاً فيه دبا، قال أنس: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع أثر الدباء في القصعة) ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: فما زلت أحب الدباء منذ ذلك اليوم؛ لأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحبها. وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول: فما قدر لي أن يصنع لي أهلي طعاماً استطعت أن أجعل معه دباء إلا فعلت، وورد عند الترمذي بسند فيه ضعف، ولكنه يجبر في فضائل الأعمال أن أنساً ًكان إذا مر على شجرة اليقطين يمسكها ويقول: يا لك من شجرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبك، فأنا أحبك لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لك. فمن أحب شيئاً، أحب ما يتعلق به، وهذا ظاهر لكل من قرأ الأحاديث والأخبار الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم. وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قدم عليها أبوها أبو سفيان قبل أن يسلم، فلما هم بأن يجلس على الفراش طوت الفراش عنه، فقال لها أبوها متعجباً: يا بنية! والله ما أدري: أترغبين بي عنه، أم ترغبين به عني؟! فقالت له رضي الله عنها وأرضاها: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فما أحببت أن تجلس عليه. وهذا أبو دجانة رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحظى بسيف النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، ويختال به بين الصفوف، فلما حانت المعركة، ودنت ساعة القتال، والتحم الجيشان، وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف رسول الله ميمنة وميسرة هم بأن يضرب به شخصاً، فولول، فعرف أنها امرأة، قال: فرفعت السيف عنها إكراماً لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. فمحبة ما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة.

محبة آل بيت رسول الله

محبة آل بيت رسول الله ومن محبة ما يحبه صلى الله عليه وسلم محبة آل بيته، وتعظيم حالهم، افتقاء لأثره، وإكراماً له صلوات الله وسلامه عليه، فقد ورد عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه -وهو رأس المسلمين وسيدهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم- أنه رضي الله تعالى عنه وأرضاه -كما روى البخاري - كان يقول: والله لأن أصل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي، ويقول رضي الله عنه في البخاري أيضاً: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه- أنه لما سئل عن أيامه مع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن نبي الله قام فينا خطيباً في غدير يقال له: (خم) بين مكة والمدينة، فقال: أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإنني تركت فيكم ثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور، فاستمسكوا به واعتصموا، ثم قال: وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال أصحاب زيد لـ زيد: أنساء النبي صلى الله عليه وسلم من آل بيته؟ قال: نعم، ولكن آل بيته من حرم الصدقة بعده، فقال له من حوله: ومن حرم الصدقة بعده يا زيد؟ قال: آل جعفر، وآل عباس، وآل علي، وآل عقيل). ولقد فقه سلف الأمة زرافات ووحداناً أن إكرام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إكرام لشخصه صلوات الله وسلامه عليه، فقد ذكر رواة الأدب ومصنفو التاريخ أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه عبد الملك بن مروان، فلما هم بأن يقبل الحجر وهو يطوف عجز عن أن يصل إليه؛ لازدحام الناس على الحجر، فتنحى جانباً وأتي له بكرسي فجلس عليه، فلما قدم زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ليقبل الحجر عرف الناس زين العابدين ومنزلته وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحوا عن الحجر فاستلمه زين العابدين دون أن يزاحمه الناس عليه، فأراد هشام أن يصرف وجوه الناس عن زين العابدين فقال لمن حوله متهكماً: من هذا؟! وقبل أن يجيبه أهل الشام، قال له الفرزدق وكان حاضراً: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم والقصيدة طويلة، وما قيل منها من شواهد يكفي. والمقصود أن من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم إكرام أهل بيته، ولا يدفعن أحد حسد ولا حقد ولا غير ذلك إلى بغضهم، فصلى الله على نبيه وصلى الله على آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. ولقد شكى العباس رضي الله تعالى عنه وإلى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً من قريش يجفون بني هاشم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولقرابتي) فالمحبة في الله يشترك فيها جميع المؤمنين، أما المحبة لقرابته صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه.

محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما بعثه ربه من أعز قبيل، فإن الله ابتعثه في أشرف جيل، وأكرم رعيل، رضي الله عنهم وأرضاهم، فأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إحاطة محبة، إحاطة السوار بالمعصم، فدوه بالمهج، وبالأموال، وبالبنين، وبالآباء والأبناء رضي الله عنهم وأرضاهم، وشهد الله جل وعلا لهم بالعدل والصدق فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. ولقد ذهب العلامة ابن حزم رحمه الله إلى أن الصحابة جميعاً في الجنة، وقال: هذا ما يقتضيه ظاهر الكتاب وظاهر السنة. وذهب أكثر العلماء إلى أن الشهادة بالجنة محصورة في مجملها على من شهد بيعة الرضوان، ولمن سمى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه. وأياً كان الأمر فمحبتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ونشر مناقبهم، وذكر فضائلهم، والتحدث بأيامهم، وغض الطرف عما كان بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم ديدن أهل السنة، ومسلك أهل الجماعة، وهو من محبتنا لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه.

الاشتياق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم

الاشتياق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم ومن الدلائل ما نحن أعظم ما نكون حاجة إليه، ألا وهو الاشتياق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم، فلئن اكتحلت أعين أصحابه برؤيته صلوات الله وسلامه عليه فإن الأمر -كما أسلفت وقدمت- قد حرمنا منه بقدر الله، ولكن الله جل وعلا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من أحب، فإن رجلاً قدم إليه عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). والمحبون بصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم والمقتفون لأثره على علم وبينة وهدى سيكونون معه بإذن الله في جنات النعيم، ولقد كان هذا الهم قد شغل الصحابة من قبل، رغم أنهم رأوه في الدنيا رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان ثوبان مولى لنبينا صلى الله عليه وسلم، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يوماً صفرة وتغيراً فيه، فقال: (ما بك يا ثوبان؟ أبك من مرض؟! قال: لا يا رسول الله، ولكنني إذا مر علي يوم لم أرك فيه بحثت عنك في بيوتاتك وبين أصحابك وفي مجلسك، فأجدك وألقاك، فتذكرت الآخرة فعرفت أنني إن دخلت النار فلن أراك أبداً، وإن دخلت الجنة فإن منازل النبيين ليست كمنازل عامة المؤمنين، فسكت عنه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]). وقد من الله علينا بأن جعلنا جيراناً له في داره صلوات الله وسلامه عليه، وإنه لفأل حسن ويمن مقدم لأن نكون جيراناً له صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، وأن نرد حوضه قبل ذلك، فإن الناس يخرجون من قبورهم أشد ما يكونون إلى ظل يؤويهم، وإلى ماء يرويهم، ولا ظل يومئذٍ إلا ظل عرش الرحمن، ولا ماء يومئذٍ في ساحات العرض أعذب من ماء حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، مع أن لكل نبي حوضاً، ولكن حوضه صلى الله عليه وسلم أعذب مورد، وأكمل نقاء وصفاء، أوردنا الله وإياكم حوض نبيه صلى الله عليه وسلم. فالاشتياق إلى رؤيته عليه الصلاة والسلام أمر قلبي يتذكر به المؤمن ما فاته فيتحسر على أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحظ بالكلام معه، ولم ينصره في معركة، ولم يكن ذات يوم يتلقى العلم عنه، ولم يحف به في مجلس، ولم يزره في بيته، فإذا غلبه الشوق وغلب عليه الحنين لجأ إلى أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فتأسى بها، وملأ قلبه محبة لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يكون يوم غد قريباً من جواره صلوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم.

ترك التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم

ترك التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم ومن دلائل محبته صلى الله عليه وسلم: عدم التقدم بين يديه، فالدين كامل، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فمن أحب محمداً صلى الله عليه وسلم فليقتف أثره، وليتبع منهجه، وليسعه ما وسع محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ووالله لن يأتي أحد بعد بعمل أزكى ولا أفضل ولا أجل من أعمالهم في دلائل محبتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا طريق قد تزل فيه أقدام، وقد تحتار فيه أفهام، ولكن العاقل البصير يعلم أن الله جل وعلا نهى عن أن يتقدم أحد بين يدي الله ورسوله، فيقف عندما أوقفه الله جل وعلا، ويهتدي بهدي أصحابه صلى الله عليه وسلم في التعبير عن محبتهم لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. فهذه على وجه الإجمال دلالات المحبين لرسولهم صلى الله عليه وسلم.

ثمار محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثمار محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

محبة الله لمحب رسوله

محبة الله لمحب رسوله وبقي أن نعلم ثمار هذه المحبة، فما الذي نجنيه من محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم؟ إن أعظم ما يجنيه العبد من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله جل وعلا له؛ لأن الله جل وعلا إذا أحب عبداً أحبه جبرائيل لمحبة الله جل وعلا له، فإن نحن أحببنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أحبنا الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي اختاره واصطفاه، وهو الذي قربه وناجاه، وهو الذي شرح له صدره ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وهو الذي بعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً، وهو الذي أرسله رحمة للخلائق وهداية للطرائق، فمحبته صلى الله عليه وسلم يظفر الإنسان من خلالها بمحبة الله جل وعلا، بل إن الأصل أننا نحب نبينا عليه الصلاة والسلام لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه صلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الإنسان إذا اجتمعت فيه هاتان المحبتان -ولا انفكاك بينهما أبداً- محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يجد في نفسه لذة الإيمان ومن المؤسف أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة في شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه كان التيار الفقهي فيها أعلى من التيار الإيماني، وهذا لا ريب في أنه خلل في المرتقى، وغير سليم في الوصول إلى طاعة الله جل وعلا، لأنه يجب أن يقترن العمل بمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من يؤدي الصلوات، ويؤدي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ولكنه يجد في نفسه جفافاً في المقل، وقسوة في القلب، وعدم لذة في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) إلخ وذكر منها: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). فمحبة الله ورسوله تورث في النفوس لذة الإيمان، وتشعر المؤمن بالقرب من الرب جل وعلا، والعمل الصالح إذا اقترن بمحبة الله تبارك وتعالى واستحضار ثوابه والانكسار بين يديه جل وعلا أورث ذلك كله قبولاً عند الله جل وعلا.

مرافقة رسول الله في الجنات

مرافقة رسول الله في الجنات كما أن مما يجنيه الإنسان من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته صلوات الله وسلامه عليه في الجنان، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه (مر على أعرابي في غزوة له فأكرمه، فقال له عليه الصلاة والسلام: إذا قدمت المدينة فأئتنا، فلما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة جاءه الأعرابي ذات مرة، فقال له عليه الصلاة والسلام: سلني حاجتك، فقال: يا رسول الله! أسألك ناقة وأعنزاً يحلبها أهلي فقال عليه الصلاة والسلام: عجز هذا الأعرابي أن يكون كعجوز بني إسرائيل، قالوا: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما هم بأن يفارق أرض مصر أخبره علماء بني إسرائيل أن يوسف أخذ عليهم عهداً أن لا يرحلوا من مصر إلا ويأخذوه معهم، فقال: من يدلني على قبر يوسف، فقالوا: لا يعرفه إلا عجوز في بني إسرائيل. فلما أتاها موسى، قالت: لا أدلك حتى تعطيني سؤلي وحاجتي، قال: وما حاجتك؟ قالت: أن أكون رفيقتك في الجنة)، فالأنفس العلية، والقلوب المتعلقة بالله جل وعلا إنما ترقب المنازل العلا، ولا ريب في أن من أعظم المنازل مرافقة الأنبياء في جنات النعيم. وقد كان ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما هم بتقديم الوضوء ذات يوم لرسول الله قال له: (يا ربيعة! سلني حاجتك، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك يا ربيعة؟! قال: هو ذاك، قال: يا ربيعة! فأعني على نفسك بكثرة السجود)، أي: بكثرة الصلاة لله تبارك وتعالى. وقصارى الأمر ونهايته أنه بمحبة الله جل وعلا وبمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تطمئن النفوس، وترتوي القلوب، ويستبصر المؤمن الطريق، ويحظى بالتوفيق، ويكون قريباً من الله قريباً من رسوله صلى الله عليه وسلم. وما بيناه من منهج ظاهر أخذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حري بالمؤمن أن يعض عليه بالنواجذ، لا لقائله، وإنما لمصدره؛ لأنه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما يحتاج إليه المرء للنجاة

ذكر ما يحتاج إليه المرء للنجاة واعلم أن المرء أحوج ما يكون إلى ثلاثة أمور: معرفة الهدى والحق والرشاد، ثم العزيمة والتوفيق لأدائه، ثم الثبات عليه، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وفق الإنسان في الحياتين، وسعد في الدارين. وقد يعرف الإنسان مواطن الحق وأماكن الرشاد، ولكنه تقصر به الهمة عن تحقيقها، وقد يحققها ولكنه لايحالفه التوفيق بأن يبقى ثابتاً عليها، فقد كان ميمون بن قيس الملقب بـ الأعشى شاعراً جاهلياً مرموقاً، حتى كان يعرف بصناجة العرب؛ لأنه كان بشعره يرفع الخامل ويضع النبيل، فلما شاع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب قدم الأعشى من ديار قومه يريد المدينة ليؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحق تبين له أمره، فتعرض له القرشيون في الطريق، فقالوا له: ما وراءك؟ فأخبرهم بغايته، وأنه أعد قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم لبعض: لئن آمن الأعشى ومدح النبي عليه الصلاة والسلام فإن أمر محمد سيشيع، وليدخلن الدين كل بيت، فردُّوه، فأخذوا يغرونه بالمال حتى اتفقوا معه على أن يعود عامه ذاك، وقد أعطوه من النوق ما أعطوه، فرجع -والعياذ بالله- فوقع من فوق ناقته وهو في طريقه، فدق عنقه فمات على كفره وضلاله، أعاذنا الله وإياكم. وكان قد أعد شعراً، وآمن في قلبه، ولكن حرم التوفيق لقضاء الله جل وعلا وقدره، وكان مما قاله: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

نوح ولوط عليهما السلام من الصالحين

نوح ولوط عليهما السلام من الصالحين وقال على سبيل التحديد: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم:10] فنعت الله في هذه الآية نوحاً ولوطاً عليهما السلام أنهما كانا عبدين صالحين. ونوح عليه السلام هو النبي المعروف أول رسل الله إلى الأرض، أسماه الله في القرآن بالعبد الشكور، قال الله جل وعلا: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وقد عمر أكثر من ألف عام صلوات الله وسلامه عليه، ولما أدركته الوفاة سئل: (كيف وجدت الدنيا يا نبي الله؟! قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر). بذل جهداً عظيماً في الدعوة إلى ربه تبارك وتعالى، فكان يدعو إلى الله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، وقص الله جل وعلا في كثير من سور القرآن كثيراً من أخباره وأيامه ودعوته إلى ربه، وهناك سورة من القرآن تحمل اسمه صلوات الله وسلامه عليه. أما العبد الثاني فهو لوط عليه الصلاة والسلام، وهو على الأظهر ابن أخ لإبراهيم عليه السلام آمن لإبراهيم كما قال الله في كتابه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ثم إن لوطاً عليه السلام نبأه الله وبعثه رسولاً إلى قرية سدوم فدعاهم إلى ترك الشرك وإلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة عندهم، فجاءته الملائكة فراوده قومه على ضيفه حتى أخزاهم الله وجعل منقلبهم إلى وبال وأمرهم إلى خسران في قصة شهيرة ذكرها الله في كثير من سور القرآن. والمقصود من هذا كله: أن هذا الوصف وصف به نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام بالتحديد.

وصف النجاشي بالصلاح

وصف النجاشي بالصلاح أما في السنة فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح ثلاثة: سعد بن معاذ وعبد الله بن عمر والنجاشي ملك الحبشة، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصحابة في اليوم الذي مات فيه النجاشي وقال لهم: (مات اليوم رجل صالح من الحبشة فهّلم فصلوا على أخيكم)، وخرج بهم صلى الله عليه وسلم إلى المصلى وصلى على النجاشي، ولكنه لا يوجد بين أيدينا ما يمكن أن يحدث الناس به عن النجاشي رحمه الله ورضي الله عنه، وقد كان رفيقاً بالمؤمنين لما هاجروا إليه فنصرهم ومنعهم، وكان على صلاح وتقوى بشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم.

وصف ابن عمر بالصلاح

وصف ابن عمر بالصلاح أما عبد الله بن عمر فهو من المهاجرين، وهو الابن الأكبر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان رجلاً صالحاً تقياً، وهو من صغار الصحابة الذين عاشوا في عهد النبوة، ومن كبارهم الذين عمّروا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أدرك ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي أي: أنه عمّر فوق الثمانين عاماً. وكان هذا الصحابي الجليل محباً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، واشتهر عنه بالصلاح أمور كثيرة لكن أكثرها عظيم اتباعه لنبينا عليه الصلاة والسلام حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شجرة سمرة فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يأتي إليها ويجلس تحتها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع، ونقل عنه أنه كان يأتي بالماء فيسقي تلك الشجرة حتى لا تيبس فيأتي إليها تخليداً وتأسياً بنبينا صلوات الله وسلامه عليه. هذا الصحابي الكريم نعته النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجل صالح في حديث صحيح: أنه رأى رؤيا، فرأى أن ملكين أتياه فطافا به إلى النار فرآها مطوية كطي البئر، ورأى فيها أناساً قد عرفهم، فجعل يقول في منامه: أعوذ بالله من النار. أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار فجاءه ملك فقال له: لن تراع! وكان شاباً عزباً ينام في المسجد، فلما أصبح أخبر أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقصتها حفصة على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي الكريم عليه السلام: (إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل). فهذه شهادة من نبينا صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عبد صالح.

وصف سعد بن معاذ بالصلاح

وصف سعد بن معاذ بالصلاح ممن ظفر بنفس الشهادة سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سيد الأوس في زمانه، وهو الذي كان إسلامه سبباً في إسلام كثير من دور المدينة وبيوتها وأهلها؛ لأنه كان سيداً مطاعاً، وهو الذي قال لنبينا عليه الصلاة والسلام في يوم بدر خطبته الشهيرة يحث النبي عليه الصلاة والسلام على الجهاد ويخبره أن أصحابه ماضون معه، فسر النبي عليه وسلم بحديثه وخطبته، وقال: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين). هذا الصحابي الجليل أصيب في أكحله يوم الخندق، وكان رجلاً جسيماً يركب الدابة وينشد عليها الأشعار التي تدل على شجاعته، لما رأته عائشة رضي الله عنها بهذه الصفة خشيت عليه من الموت، إلا أن هذا الجرح بدأ يتضاعف تدريجياً حتى تفرق الأحزاب عن المدينة، فلما تفرق الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، وحكمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان يومئذ قد اشتد الجرح عليه فأتي به محمولاً على حمار، فلما أقبل به أصحابه إلى الموضع الذي فيه الرسول عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) أي: إلى سعد. ثم حكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم بعد ذلك اشتد عليه المرض فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد حتى يعوده فيها لعظيم منته على دين الله جل وعلا ولجهاده وصلاحه، فانفجر الجرح ومات رضي الله عنه وأرضاه فنزل سبعون ألف ملك من السماء ليشيعوا جنازته أكثرهم لم ينزل من السماء قط، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ويسرع في مشيته وأصحابه من حوله تكاد تتقطع أشساع نعالهم وتسقط أرديتهم وهو يقول صلوات الله وسلامه عليه: (أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه)، فلما دخل عليه وهو يغسل وأم سعد تبكي عليه قال صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) رضي الله عنه وأرضاه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سار في جنازته، فلما وضع في قبره تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، ثم سبح ثلاثاً فسبح الصحابة الذين معه حتى ارتج البقيع، ثم كبر صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه حتى ارتج البقيع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا العبد الصالح الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وفتحت له أبواب السماء، ونزل سبعون ألف ملك لتشييعه، لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح). أخبر صلى الله عليه وسلم أن سعداً على تقواه وصلاحه وجهاده وأيامه المشهودة مع نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينج من ضمة القبر، قال العلماء كما حكى الذهبي وغيره: ولا يعلمن مؤمن أن هناك راحة دون لقاء الله! فالمؤمن لا يمكن أن يضع عنه الأوزار وتذهب الآلام حتى يلقى ربه جل وعلا، أما من يوم أن نفخت فينا الروح حتى نلقى الله جل وعلا فلا بد من النصب، ولا بد من كبد وسقم وألم في الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد، حتى يخلف المرء جسر جهنم وراء ظهره ويدخل الجنة ويلقى الله، فهناك يستريح المؤمن الراحة كلها. قال الذهبي رحمه الله: ومع ما أصاب سعداً من ضمة القبر إلا أننا لنشهد أن سعداً في الجنة، وأنه في أرفع مقامات الشهداء رضي الله عنه وأرضاه ولكن لله تعالى سنن لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، ولذلك قال صلوات الله وسلامة عليه: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، وليست ضمة القبر داخلة في عذاب القبر، وإنما هي ألم يصيب المؤمن كما يصيبه في الدنيا عندما يفقد حبيباً أو يسافر عن أهله أو ما إلى ذلك مما يجده الإنسان من عناء النفس، فليست من عذاب القبر في شيء ولكنها ضمة مكتوبة على كل مقبور، كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه. أيها المؤمنون! هؤلاء الثلاثة جاءت السنة بوصفهم أنهم عباد صالحون، وجاء القرآن بذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وما ذكرناه عيناً لا يعني الحصر فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عباد صالحون، والأنبياء والمرسلون أولى أن يكونوا عباداً صالحين، ولكننا تقيدنا باللفظ الذي تمليه المحاضرة. ولا يجهل أحد منكم أن الإنسان لا يكون عبداً صالحاً حتى يعمل الصالحات، وليس هذا الذي قدمنا لنجيب عليه، لكن الذي قدمنا من أجله أن نضع معايير من عرفها وآمن بها وتعامل مع الله بوفقها كان عبداً صالحاً إن شاء الله هذه المعايير مستقاة من الكتاب والسنة، تقرب من الله وتدل إلى الجنة، وإلا فإنه لا يجهل مؤمن أن الصلاة والصيام والزكاة والحج وأشباه ذلك مما شرعه الله يكون به المرء مؤمناً صالحاً ولكن الناس يعلمون هذا ولا يستطيعون فعله؛ لفقد المعايير واليقينيات والمدركات التي من خلالها يتعاملون مع ربهم تبارك وتعالى.

ذكر ما يحتاج إليه المرء للنجاة

ذكر ما يحتاج إليه المرء للنجاة واعلم أن المرء أحوج ما يكون إلى ثلاثة أمور: معرفة الهدى والحق والرشاد، ثم العزيمة والتوفيق لأدائه، ثم الثبات عليه، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وفق الإنسان في الحياتين، وسعد في الدارين. وقد يعرف الإنسان مواطن الحق وأماكن الرشاد، ولكنه تقصر به الهمة عن تحقيقها، وقد يحققها ولكنه لايحالفه التوفيق بأن يبقى ثابتاً عليها، فقد كان ميمون بن قيس الملقب بـ الأعشى شاعراً جاهلياً مرموقاً، حتى كان يعرف بصناجة العرب؛ لأنه كان بشعره يرفع الخامل ويضع النبيل، فلما شاع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب قدم الأعشى من ديار قومه يريد المدينة ليؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحق تبين له أمره، فتعرض له القرشيون في الطريق، فقالوا له: ما وراءك؟ فأخبرهم بغايته، وأنه أعد قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم لبعض: لئن آمن الأعشى ومدح النبي عليه الصلاة والسلام فإن أمر محمد سيشيع، وليدخلن الدين كل بيت، فردُّوه، فأخذوا يغرونه بالمال حتى اتفقوا معه على أن يعود عامه ذاك، وقد أعطوه من النوق ما أعطوه، فرجع -والعياذ بالله- فوقع من فوق ناقته وهو في طريقه، فدق عنقه فمات على كفره وضلاله، أعاذنا الله وإياكم. وكان قد أعد شعراً، وآمن في قلبه، ولكن حرم التوفيق لقضاء الله جل وعلا وقدره، وكان مما قاله: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

نوح ولوط عليهما السلام من الصالحين

نوح ولوط عليهما السلام من الصالحين وقال على سبيل التحديد: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم:10] فنعت الله في هذه الآية نوحاً ولوطاً عليهما السلام أنهما كانا عبدين صالحين. ونوح عليه السلام هو النبي المعروف أول رسل الله إلى الأرض، أسماه الله في القرآن بالعبد الشكور، قال الله جل وعلا: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وقد عمر أكثر من ألف عام صلوات الله وسلامه عليه، ولما أدركته الوفاة سئل: (كيف وجدت الدنيا يا نبي الله؟! قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر). بذل جهداً عظيماً في الدعوة إلى ربه تبارك وتعالى، فكان يدعو إلى الله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، وقص الله جل وعلا في كثير من سور القرآن كثيراً من أخباره وأيامه ودعوته إلى ربه، وهناك سورة من القرآن تحمل اسمه صلوات الله وسلامه عليه. أما العبد الثاني فهو لوط عليه الصلاة والسلام، وهو على الأظهر ابن أخ لإبراهيم عليه السلام آمن لإبراهيم كما قال الله في كتابه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ثم إن لوطاً عليه السلام نبأه الله وبعثه رسولاً إلى قرية سدوم فدعاهم إلى ترك الشرك وإلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة عندهم، فجاءته الملائكة فراوده قومه على ضيفه حتى أخزاهم الله وجعل منقلبهم إلى وبال وأمرهم إلى خسران في قصة شهيرة ذكرها الله في كثير من سور القرآن. والمقصود من هذا كله: أن هذا الوصف وصف به نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام بالتحديد.

وصف النجاشي بالصلاح

وصف النجاشي بالصلاح أما في السنة فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح ثلاثة: سعد بن معاذ وعبد الله بن عمر والنجاشي ملك الحبشة، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصحابة في اليوم الذي مات فيه النجاشي وقال لهم: (مات اليوم رجل صالح من الحبشة فهّلم فصلوا على أخيكم)، وخرج بهم صلى الله عليه وسلم إلى المصلى وصلى على النجاشي، ولكنه لا يوجد بين أيدينا ما يمكن أن يحدث الناس به عن النجاشي رحمه الله ورضي الله عنه، وقد كان رفيقاً بالمؤمنين لما هاجروا إليه فنصرهم ومنعهم، وكان على صلاح وتقوى بشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم.

وصف ابن عمر بالصلاح

وصف ابن عمر بالصلاح أما عبد الله بن عمر فهو من المهاجرين، وهو الابن الأكبر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان رجلاً صالحاً تقياً، وهو من صغار الصحابة الذين عاشوا في عهد النبوة، ومن كبارهم الذين عمّروا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أدرك ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي أي: أنه عمّر فوق الثمانين عاماً. وكان هذا الصحابي الجليل محباً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، واشتهر عنه بالصلاح أمور كثيرة لكن أكثرها عظيم اتباعه لنبينا عليه الصلاة والسلام حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شجرة سمرة فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يأتي إليها ويجلس تحتها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع، ونقل عنه أنه كان يأتي بالماء فيسقي تلك الشجرة حتى لا تيبس فيأتي إليها تخليداً وتأسياً بنبينا صلوات الله وسلامه عليه. هذا الصحابي الكريم نعته النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجل صالح في حديث صحيح: أنه رأى رؤيا، فرأى أن ملكين أتياه فطافا به إلى النار فرآها مطوية كطي البئر، ورأى فيها أناساً قد عرفهم، فجعل يقول في منامه: أعوذ بالله من النار. أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار فجاءه ملك فقال له: لن تراع! وكان شاباً عزباً ينام في المسجد، فلما أصبح أخبر أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقصتها حفصة على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي الكريم عليه السلام: (إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل). فهذه شهادة من نبينا صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عبد صالح.

وصف سعد بن معاذ بالصلاح

وصف سعد بن معاذ بالصلاح ممن ظفر بنفس الشهادة سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سيد الأوس في زمانه، وهو الذي كان إسلامه سبباً في إسلام كثير من دور المدينة وبيوتها وأهلها؛ لأنه كان سيداً مطاعاً، وهو الذي قال لنبينا عليه الصلاة والسلام في يوم بدر خطبته الشهيرة يحث النبي عليه الصلاة والسلام على الجهاد ويخبره أن أصحابه ماضون معه، فسر النبي عليه وسلم بحديثه وخطبته، وقال: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين). هذا الصحابي الجليل أصيب في أكحله يوم الخندق، وكان رجلاً جسيماً يركب الدابة وينشد عليها الأشعار التي تدل على شجاعته، لما رأته عائشة رضي الله عنها بهذه الصفة خشيت عليه من الموت، إلا أن هذا الجرح بدأ يتضاعف تدريجياً حتى تفرق الأحزاب عن المدينة، فلما تفرق الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، وحكمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان يومئذ قد اشتد الجرح عليه فأتي به محمولاً على حمار، فلما أقبل به أصحابه إلى الموضع الذي فيه الرسول عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) أي: إلى سعد. ثم حكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم بعد ذلك اشتد عليه المرض فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد حتى يعوده فيها لعظيم منته على دين الله جل وعلا ولجهاده وصلاحه، فانفجر الجرح ومات رضي الله عنه وأرضاه فنزل سبعون ألف ملك من السماء ليشيعوا جنازته أكثرهم لم ينزل من السماء قط، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ويسرع في مشيته وأصحابه من حوله تكاد تتقطع أشساع نعالهم وتسقط أرديتهم وهو يقول صلوات الله وسلامه عليه: (أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه)، فلما دخل عليه وهو يغسل وأم سعد تبكي عليه قال صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) رضي الله عنه وأرضاه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سار في جنازته، فلما وضع في قبره تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، ثم سبح ثلاثاً فسبح الصحابة الذين معه حتى ارتج البقيع، ثم كبر صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه حتى ارتج البقيع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا العبد الصالح الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وفتحت له أبواب السماء، ونزل سبعون ألف ملك لتشييعه، لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح). أخبر صلى الله عليه وسلم أن سعداً على تقواه وصلاحه وجهاده وأيامه المشهودة مع نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينج من ضمة القبر، قال العلماء كما حكى الذهبي وغيره: ولا يعلمن مؤمن أن هناك راحة دون لقاء الله! فالمؤمن لا يمكن أن يضع عنه الأوزار وتذهب الآلام حتى يلقى ربه جل وعلا، أما من يوم أن نفخت فينا الروح حتى نلقى الله جل وعلا فلا بد من النصب، ولا بد من كبد وسقم وألم في الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد، حتى يخلف المرء جسر جهنم وراء ظهره ويدخل الجنة ويلقى الله، فهناك يستريح المؤمن الراحة كلها. قال الذهبي رحمه الله: ومع ما أصاب سعداً من ضمة القبر إلا أننا لنشهد أن سعداً في الجنة، وأنه في أرفع مقامات الشهداء رضي الله عنه وأرضاه ولكن لله تعالى سنن لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، ولذلك قال صلوات الله وسلامة عليه: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، وليست ضمة القبر داخلة في عذاب القبر، وإنما هي ألم يصيب المؤمن كما يصيبه في الدنيا عندما يفقد حبيباً أو يسافر عن أهله أو ما إلى ذلك مما يجده الإنسان من عناء النفس، فليست من عذاب القبر في شيء ولكنها ضمة مكتوبة على كل مقبور، كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه. أيها المؤمنون! هؤلاء الثلاثة جاءت السنة بوصفهم أنهم عباد صالحون، وجاء القرآن بذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وما ذكرناه عيناً لا يعني الحصر فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عباد صالحون، والأنبياء والمرسلون أولى أن يكونوا عباداً صالحين، ولكننا تقيدنا باللفظ الذي تمليه المحاضرة. ولا يجهل أحد منكم أن الإنسان لا يكون عبداً صالحاً حتى يعمل الصالحات، وليس هذا الذي قدمنا لنجيب عليه، لكن الذي قدمنا من أجله أن نضع معايير من عرفها وآمن بها وتعامل مع الله بوفقها كان عبداً صالحاً إن شاء الله هذه المعايير مستقاة من الكتاب والسنة، تقرب من الله وتدل إلى الجنة، وإلا فإنه لا يجهل مؤمن أن الصلاة والصيام والزكاة والحج وأشباه ذلك مما شرعه الله يكون به المرء مؤمناً صالحاً ولكن الناس يعلمون هذا ولا يستطيعون فعله؛ لفقد المعايير واليقينيات والمدركات التي من خلالها يتعاملون مع ربهم تبارك وتعالى.

الرحمة في حياة رسول الله وحياة أتباعه وأثرها

الرحمة في حياة رسول الله وحياة أتباعه وأثرها وختام الأمر أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً رحيماً رفيقاً بكل من حوله، حتى إنه ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم (مرت به جنازة فقام لها، فقالوا: يا رسول الله! هذه جنازة يهودي، فقال: سبحان الله! أليست نفساً منفوسة) فأين ما يسطره دعاة حقوق الإنسانية مما تركه نبينا صلى الله عليه وسلم من قيم العدل. والمقصود من هذه الالتفاتة أن يكون بعضنا رحماء ببعض، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة لائتلاف القلوب، لا أن نتناحر ونتخاصم، ويكفر بعضنا بعضاً، أو يفسق بعضنا بعضاً، أو يرمي بعضنا بعضاً ببدع. إن هذه الأمة أمة مرحومة، وكلما كان قول الإنسان وكلامه يجمع بين الناس أكثر مما يفرق كان أقرب هدياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضوا عن الزلل، وتغاضوا عن العورات، ولا يكن شغل أحدكم وهمه ووقته في الحديث عن أعراض المؤمنين من حكام أو علماء أو دعاة أو عباد أو زهاد، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فإن أحد الصحابة قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إني أهم بأن أذبح الشاة فأرحمها، فيقول صلى الله عليه وسلم مقراً له: (والشاة إن رحمتها رحمك الله) فلنكن محبين لله، محبين لرسوله صلى الله عليه وسلم، رحماء كما وصف الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أكمل الهدي، وأفضل الطريق وأقومه. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواسع العليم، نسألك اللهم بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبقدرتك التي قدرت بها على الخلق، وبرحمتك التي وسعت كل شيء أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن تبارك على محمد وعلى آل محمد، وأن ترزقنا الحياة على سنته، والوفاة على ملته، وأن تقبضنا -اللهم- على هديه واتباعه واقتفاء أثره. اللهم أوردنا في عرصات يوم القيامة حوضه، اللهم ارزقنا من شفاعته، واحشرنا تحت زمرته، اللهم ارزقنا جواره في جنات النعيم، إنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم. اللهم إن من إخواننا من أصابهم من المرض والبلاء ما أنت به عليم، اللهم جنبهم ما يخافون، وأمنهم مما يحذرون، اللهم ارفع عنهم الضر والبأس يا حي يا قيوم. اللهم اجعلنا مؤمنين بك، مصدقين لرسولك صلى الله عليه وسلم، محبين له، مقيمين لسنته، متبعين لهديه وطاعته وأثره يا رب العالمين. اللهم أحينا حياة من تحب بقاءه، وتوفنا وفاة من تحب لقاءه، اللهم أكرمنا وأهلينا وأزواجنا وذرياتنا بدخول جنتك، وسكنى ديار رحمتك يا حي يا قيوم. اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك. اللهم إنا نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الرشاد، ونعوذ بك -ربنا- من الحور بعد الكور، ونعوذ بك اللهم من كل عمل لا يراد به وجهك، ولا يتقى به سخطك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مواقف من حياة الصديق

مواقف من حياة الصديق لقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أروع الأمثلة في اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وفي تصديقه له حتى لقب بالصديق، فكان رضي الله عنه عظيم الإيقان متين الإيمان، وكان نقي السريرة، صافي المخبر، سريع الدمعة، عظيم المنزلة عند الله وعند رسوله. وقد سطر أعظم مواقف التضحية والفداء في حياته مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقف المواقف الجليلة في وجه أهل الردة، وفي تثبيت أركان الدين العظيم، فرضي الله عنه وأرضاه.

من نصرة دين الله حرص المسلم على حضور الجمع والجماعات

من نصرة دين الله حرص المسلم على حضور الجمع والجماعات ومن نصرة دين الله جل وعلا: حرص المسلم على حضور الجمع والجماعات، وحرص المسلم على حضور الصلوات التي يجمع لها: كصلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وصلاة الخسوف والكسوف، وما أشبه ذلك من مجامع المسلمين، فإن في حضورها نصرة للدين، وتكثير لسواد المسلمين، وإظهار لشعائر الله تبارك وتعالى.

من نصرة دين الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من نصرة دين الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أن من نصرة دين الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشاركة إخواننا في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يسدونه في الدين من ثلمة، وما يقومون به من إحياء السنن، وما يقومون به من إماتة البدع، فنصرة دين الله تكون بصحبتهم، وتكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البيت، وفي الحي، وفي المجتمع وفي الدولة، كل ذلك وفق الضوابط الشرعية التي بينها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.

من نصرة دين الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من نصرة دين الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أن من نصرة دين الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشاركة إخواننا في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يسدونه في الدين من ثلمة، وما يقومون به من إحياء السنن، وما يقومون به من إماتة البدع، فنصرة دين الله تكون بصحبتهم، وتكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البيت، وفي الحي، وفي المجتمع وفي الدولة، كل ذلك وفق الضوابط الشرعية التي بينها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.

من نصرة دين الله تعالى نشر العلم وإحياء السنن

من نصرة دين الله تعالى نشر العلم وإحياء السنن ألا وإن من نصرة دين الله تبارك وتعالى: نشر العلم، وإحياء السنن، وتعليم العامة، فكم في القرى والبوادي والأحياء النائية البعيدة مما تحتاج إلى كثير من طلبة العلم الذين يبينون للناس أحكام الشرع وأحكام السنة، ويبينون لهم كثيراً مما خفي عليهم من أمور الدين، وما خفي عليهم من سنن سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه. ألا وإن من نصرة دين الله تبارك وتعالى الذب عن حياض العلماء، وعن أعراض الدعاة، والوقوف أمام ما ينالهم من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وحقد الحاقدين. كما أن من نصرة دين الله تبارك وتعالى: أن يحرص المسلم على بقاء المجتمع المسلم متوحداً متكاتفاً، ولاة وعامة، دعاة وخاصة، فحرص المسلم على بقاء المجتمع المسلم لا تدخله الزعزعة، ولا يدخله الانفكاك، ولا تبث فيه الفرقة، ولا يشمله الشتات، هذا والله الذي لا إله غيره من نصرة الدين، ومن الحفاظ على لحمة الدين باقية متينة قوية كما أراد الله لها أن تكون.

من مواقف الصديق التضحية بالنفس والمال

من مواقف الصديق التضحية بالنفس والمال معشر الأحبة! كما أن من مواقف الصديق رضي الله تعالى عنه: التضحية بالنفس والمال، والإنسان لا يملك أغلى من هذين: نفسه وماله؛ ولذلك قرن الله جل وعلا بينهما في القرآن كثيراً، ولقد ضرب أبو بكر للأمة المثل الأعلى في التضحية بالنفس، والتضحية بالمال، فأما تضحيته بنفسه فظاهرة واضحة في شهوده المعارك، ومن قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بأن يدخل الغار ليختبئ من طلب المشركين، فدخل أبو بكر قبله، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما أورد أصحاب السير قال: يا رسول الله! أخاف عليك من الهوام المؤذية، فدخل رضي الله تعالى عنه الغار وأخذ يتجول في نواحيه؛ حتى لو قدر أن يكون في الغار شيء مما يؤذي فإنه يصيبه قبل أن يصيب رسولنا صلى الله عليه وسلم. ثم لما خرجا من الغار-الرسول والصديق - ومضيا في طريقهما إلى المدينة كان رضي الله تعالى عنه يمشي حيناً أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وحيناً يمشي خلفه، وحيناً يمشي عن يمينه، وحيناً يمشي عن شماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد فأمشي أمامك، وأذكر الطلب فأمشي خلف، وأذكر الكمين فأمشي عن يمينك وشمالك)، فهذا فداء لرسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه، ووالله لو قدر لهذا الرجل العظيم أن يقسم نفسه أجزاء ليفدي النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية لما تردد في ذلك طرفة عين، ولكنها نفس واحدة وبدن واحدة كما لا يخفى على كل أحد. وكما ضحى بنفسه ضحى رضي الله تعالى عنه وأرضاه بماله، فقد ثبت عنه أنه أعتق الكثير من الأرقاء والعبيد -كما بينا في الأول- نصرة للدين، فجاءه أبوه وقال: يا بني! إن كنت ولا بد فاعلاً بأنك تعتق الأرقاء فهلا أعتقت أقواماً ورجالاً جلداً يمنعونك ويحمونك بدلاً من هؤلاء الضعفاء والمساكين الذين تعتقهم؟! قال: يا أبتِ! إنما أريد بعتقي إياهم وجه الله تبارك وتعالى، فما فكر رضي الله تعالى عنه في نفسه؛ لأنه يعلم أن الله وحده يمنعه ويحميه من أذى كل أحد، ولكن كان همه أن يبذل ذلك المال الذي أفاءه الله عليه في نصرة دين الله تبارك وتعالى، والتضحية بالمال من أجل دين الله جل وعلا.

من مواطن إنفاق المال

من مواطن إنفاق المال ومن هذا نقول: إنه ينبغي على من مَنَّ الله عليهم بالمال أن يتقوا الله جل وعلا في فضول أموالهم، وأن ينفقوها في سبيل مرضاته تبارك وتعالى، متخذين في ذلك سبيل الحكمة، فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يبن مسجداً في مكة؛ لأنه لو بناه في الليل لهدمه المشركون في النهار، ولكن المال يوضع في الموطن الصحيح له، ألا وإن من أعظم المواطن التي ينبغي أن يوضع فيها المال في هذا العصر: إطعام الفقراء والمساكين، وما أكثرهم. ثانياً: في تشجيع حلقات التحفيظ الرجالية والنسائية. ومن أن من ذلك إغاثة المسلمين الفقراء واليتامى والمساكين في سائر أنحاء الأرض عبر هيئة الإغاثة، وعبر كثير من المؤسسات الخيرية التي يوثق في دين وأمانة أصحابها. كما أنه مما يوضع فيه المال الوضع الصحيح: تأييد طلبة العلم الذين خالطهم الفقر وأقعدتهم المسكنة عن طلب العلم فلا يجدون من الأموال ما يعينهم على الطلب، فلا شك أن في إعانتهم بالمال، ودعمهم بما ينفقون على أنفسهم كل ذلك من نصرة دين الله تبارك وتعالى. ومع الأسف نجد الكثير من أثرياء هذا العصر يا ليتهم وجهوا أموالهم والكثير من فواضل ما من الله به عليهم في المباحات أو حتى في الحرام المحض، بل وجه بعضها والعياذ بالله فيما يضاد دين الله تبارك وتعالى، ولا ينجم عنه إلا أن يتحلل الناس ويتحرروا من دينهم ومبادئهم وأخلاقهم، {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

من مزايا أبي بكر الصديق الثقة بالله تعالى

من مزايا أبي بكر الصديق الثقة بالله تعالى ومن مزايا أبي بكر: الثقة بالله تبارك وتعالى، فلما قدم ماله يوم تجهيز جيش العسرة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لهم -أي: أهلك-؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله)، ولما قال هذه الكلمة أعلمنا من بعد أن الثقة بما عند الله جل وعلا هي التي تدفع للعمل، وهي التي تدفع إلى العطاء، ولكن من ضعف إيمانه وثقته بربه تبارك وتعالى أنى له أن يبدل ويغير، وأنى له أن يجاهد وينفق، وأنى له أن يعطي ويمنع، وأنى له أن يغدو إلى المساجد وهو في شك من الأجر يعطاه أو لا يعطاه، ولكن لما كان هذا الصديق على ثقة بما عند الله تبارك وتعالى قدم لله ماله كله، وقال مجيباً لرسوله: (تركت لهم الله ورسوله). ولما نزلت الآية: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4] عاهد أبو بكر كفار قريش وراهنهم على أن الروم سيظهرون ذات يوم على الفرس؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:3 - 4]. فينبغي أن نكون أجمعين على ثقة بأن الله تبارك وتعالى مظهر دينه لا محاله، ومعز جنده، وناصر أولياءه، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد غدٍ، وإن لم يشهده هذا الجيل فستشهده أجيال أخر، لكن الله تبارك وتعالى لا يهزم جنده، ولا يخلف وعده، ولا يكذب خبره أبداً تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ومما أعان أبا بكر على ذلك: محبته لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم البواعث والدوافع للعطاء نحو الدين، جاء في صحيح البخاري وغيره: أنا أبا بكر في أول أيام إسلامه قبل أن يأذن له الرسول بالهجرة خرج يريد أن يهاجر إلى غير مكة، فقابله رجل يقال له: ابن الدغنة سيد قبيلة كان يقال لها: القارة، فقال: ما أخرجك يا أبو بكر؟! قال: أخرجني قومي ومنعوني أن أعبد ربي، فقال: يا أبا بكر! والله إنك لتقري الضعيف، وتعين الضعيف، وتحمل نوائب الحق، ومثلك لا يَخرُج ولا يُخرج، أفتقبل أن تكون في جواري؟ قال: نعم، فرده إلى مكة، فلما رده إلى مكة طاف ابن الدغنة على مجامع قريش وأنديتها يخبرهم أن أبا بكر في جواره على شريطة أن يعبد الله في قعر داره، لكن أبا بكر بعد ذلك ابتنى مسجداً في داره، وأخذ يصلي فيه، وكان رضي الله تعالى عنه رجلاً أسيفاً إذا قرأ القرآن لا يملك دمعته، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع عليه نساء المشركين وأبناؤهم وصبيانهم وجواريهم، ففتن الناس في دينهم وألبس على المشركين أمرهم، فذهب الأشراف من قريش إلى ابن الدغنة وقالوا له بخبر أبي بكر، فجاء ذلك الرجل إلى أبي بكر وأخبره أنه أصبح في حل من شرطه أو أن يعود إلى ما كان عليه، قال: لا، بل أترك جوارك وأذهب إلى جوار الله تبارك وتعالى. فمحبة أبي بكر لله تبارك وتعالى جعلته لا يتمالك أن يقرأ القرآن وهو يعلم أن القرآن كلام الله دون أن تذرف دمعته وتخشع نفسه، وترتجف جوارحه، ومثال هؤلاء قال الله تبارك وتعالى في حقهم: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. وكما أحب أبو بكر الله أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن أبا بكر لما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بخبر الهجرة قال: (يا أبا بكر! أخرج مَن عندك، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك بنتاك: عائشة وأسماء، فقال: يا أبا بكر! إن الله قد أذن لي بالهجرة، فقال: يا رسول الله، الصحبة الصحبة، فقال رسول الله: نعم، الصحبة الصحبة)، فبكى رضي الله تعالى عنه وأرضاه من الفرح حتى قالت عائشة: والله ما ظننت أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي من الفرح يوم أن أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بموافقته على صحبته للهجرة، فإذا امتلأت قلوبنا محبة لله ومحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم هان على أقدامنا أن تقف بين يدي الله في ظلمات الأسحار، وهان عليها أن تكسر الحواجز والأسوار إلى المساجد، وهان على هذه الألسنة أن تذكر الله بكرة وأصيلاً، وهان على هذه الجوارح أن تدافع وتذب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن كثيراً منا يأخذون الدين كأحكام فقهية صرفة بحتة دون أن يخالط سويداء القلوب محبة الله أو محبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع فتوى مخالفة أو حكماً شرعياً من عالم آخر رجع عما كان عليه؛ لأنه كان ينظر إلى المسألة من زاوية فقهية فقط، ولو نظر إليها من زاوية إيمانية ومن محبة الله وامتثال هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفلح وتاب. هذه أيها الإخوة مواقف أبي بكر، وهذه الأسباب التي أعانت أبي بكر على أن ينصر الله وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم. أكتفي بهذا ونتفرغ الآن بالإجابة على الأسئلة؛ لعل فيها ما يبين للناس أمور دينهم، ويوضح لهم ما قد التبس عليهم في هذه المحاضرة إن وجد. وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن به وسواس في الوضوء والصلاة

نصيحة لمن به وسواس في الوضوء والصلاة Q هذا سؤال يقول: أحدهم هداه الله يقول: أنه به وسواس في الوضوء وفي الصلاة، ومن الملاحظ عليه أنه إذا توضأ ودخل وقت الصلاة خرج وقت الصلاة وهو يتوضأ، حتى إنه بعض المرات يستمر في الوضوء حتى بعد انتهاء الوقت؟ A لا ريب أيها المؤمنون! أن الوسواس داء أصاب كثيراً من الناس اليوم، والذي ينبغي على المسلم أن يحتاط لدينه، فيعتمد على الأذكار الشرعية، وأن يعلم أن الشيطان حريص على أن يصرفه عن الطاعة، فيبث فيه وينزغ في ذاته كذا وكذا من الأمور؛ حتى يلهيه عن الصلاة بالكلية، لكن ينبغي عليه أن يعرض عن مثل هذا ويتجافاه ويجعله وراء ظهره ودبر أذنيه؛ لأن هذا والعياذ بالله قد يؤدي إلى أن يأثم الإنسان إثماً شرعياً.

نصيحة للآباء في تربية أبنائهم على الصلاة

نصيحة للآباء في تربية أبنائهم على الصلاة Q أرجو من فضيلتكم نصح الآباء الذين يهملون في تربية أبنائهم وعدم متابعتهم في المحافظة على الصلاة، مع بيان حكم تارك الصلاة والمتهاون فيها؟ A لا ريب أن من نصرة دين الله، ومن أعظم الواجبات تربية الأبناء على ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد جنح كثير من الآباء في هذا العصر إلى عكس هذا الأمر، فهيئوا لأبنائهم بوسيلة أو بأخرى أسباب معصية الله تبارك وتعالى، والله جل وجلاله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. ولا ريب أن أعظم ما أمر الله به بعد الشهادتين: إقامة الصلاة في وقتها؛ ولذلك ينبغي على الأب المؤمن أن يحرص على تربية أبنائه تربية إسلامية، وعلى أن يدلهم على المساجد، ويحثهم على الطاعات، ويأخذ بأيديهم إلى ما يقربهم من الله زلفى، وأن يكون سداً منيعاً أمام من يريدون أن يقوضوا البيوت المسلمة ويهدموا أركان الإيمان فيها.

كيفية التحمس لقيام الليل

كيفية التحمس لقيام الليل Q إذا قرأنا عن السلف الصالح في قيام الليل يأتيني حماس للقيام، وإذا كنت في نصف الليل يأتيني فتور؟ A الإنسان يواجه في أول الأمر فتوراً شديداً في أداء قيام الليل، ولا ريب أنه مما يعين على قيام الليل التخلص من الذنوب، فقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد! إنني أعد مائي وطهوري حتى إذا جاء الليل نمت عنه، فقال: يا هذا أثقلتك ذنوبك، فينبغي على المؤمن أن يتحرر أولاً من المعاصي والذنوب في النهار، ثم يسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقه هذه المكانة الجليلة ألا وهي الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، ثم ليتذكر ما أفاءه الله على عباده الصالحين من نعمة الوقوف بين يديه، وما أثنى عليهم بقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، وما ورد في الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم أول الليل، ويقوم وسطه، وانتهى وتره صلى الله عليه وسلم إلى آخر الليل.

الكلام عن كتب العقلانيين وفكرهم وتبرئة العلماء من ذلك

الكلام عن كتب العقلانيين وفكرهم وتبرئة العلماء من ذلك Q ما رأيك يا فضيلة الشيخ في كتب العقلانيين، وما هي نصيحتك لمن ينشرها مع العلم أنها تشابه كتب الحداثيين والعلمانيين؟ A يا إخوة هذا دين وينبغي ألا يتكلم فيه إلا من يعلم، وإن مما نعانيه أنه تجرأ على هذا الدين من لا يفقه فيه، وهذا التجرؤ قد يقود أحياناً إلى أن يتهم العبد الناس بما ليس فيهم، وأذكر حادثة رأيتها أمام عيني، فقد كنت ذات يوم ضيفاً في إحدى المدن خارج المدينة، فسأل أحد الحاضرين عن الشيخ محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه الداعية المصري المعروف الذي توفي مؤخراً، فقام أحد الحاضرين يستبق المسئول بالإجابة، وقال لذلك السائل بلغته: أيش تبغى فيه، هذا يقول: إن الرجل لو جلس في بيته على التلفاز واستمع الأغاني فلا شيء عليه، فلما قالها: نفض ذلك الرجل السائل يده، وقال: لا خير فيه، وقال فيه بعض السباب. وهذا من الظلم للشيخ الغزالي ومن الظلم لغيره. إن الله تبارك وتعالى سيسأل كل عبد عن قوله، والكلام في الأئمة والعلماء أياً كانت جنسياتهم وأياً كانت مواطنهم ينبغي أن يكون على برهان وعلى علم بحقيقة القول، ولا ينبغي أن يكون جزافاً؛ لأنه خالفك في فتوى، أو خالف مشايخك في مسألة فقهية، وينبغي أن يعرف لعلماء المسلمين أياً كانت مواطنهم ولو في أصقاع الأرض يعرف لهم قدرهم ويعرف لهم مكانتهم، ولا يوسمون بما ليس فيهم، فالعقلانيون فريقان: فريق ينكر الدين كله ولا يؤمن إلا بما يتفق مع العقل، وهؤلاء أصلاً كفار وليسوا بمسلمين، ولا يوصفون بأنهم علماء ولا دعاة، ولا خير فيهم أبداً، بل هم في صف الملاحدة، وسبهم والكلام فيهم دين وملة وقربة. وفريق من علماء المسلمين وسموا من الناس بأنهم عقلانيون، وقد نبه بعض العلماء والدعاة عنهم في بعض كتبهم غفلة منه؛ لأنه لم يفقه السبب الذي من أجله ردوا بعض النصوص، وأنا أذكر هنا هذا براءة للدين، فمثلاً الشيخ الغزالي نفسه وسم بأنه عقلاني؛ لأنه توقف في الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل: (أين أبي؟ قال: أبوك في النار، ثم لما انصرف الرجل رده صلى الله عليه وسلم وقال: أبي وأبوك في النار)، قال هذا الرجل: قالوا: إن الشيخ الغزالي لا يأخذ بهذا الحديث رغم أن الحديث في صحيح مسلم، فقالوا: إنه يرده؛ لأنه لا يوافق العقل الذي يمشي عليه في أنه كيف يكون أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار، والحق أن الشيخ رحمة الله تعالى عليه ما رد هذا الحديث لأنه مخالف للعقل، وأنا أقول مثله، فهذا الحديث رغم أنه في صحيح مسلم إلا إن الإنسان-عن نفسي أتكلم- يتوقف أمامه؛ لأن الدين لا يبنى على مجاملة الآخرين، وصحيح السنة لا يمكن أن يعارض صريح القرآن، والقرآن قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]. فأخبر جل وعلا أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم ما أنذروا قط، وفي آية يس: {مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:6 - 7]، فالله أثبت في القرآن أن أولئك لم ينذروا، وقال جل وعلا في آية الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالآيتان محكمتان بنص الكتاب أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه، والله أخبر أن الملأ ممن كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم رسول؛ لأجل هذا توقف الشيخ الغزالي في قضية حديث مسلم: (أبي وأبوك في النار)، وأياً كان الأمر فإن هنة واحدة، أو مثلب واحد، أو ممسك واحد على عالم من علماء المسلمين لا يقدح فيه، ولا يلزمنا أبداً أن نتهمه بما ليس فيه، فالشيخ الألباني مثلاً على جلالة قدره وعلمه وهو المعروف المشتهر وخدمته للسنة واضحة ظاهرة بينة، نقم عليه البعض قوله: بأن الوجه والكفين في المرأة ليسا بعورة، فخلط أقوام ما بين القول بأن الوجه والكفين ليسا بعورة وبين إنكار الحجاب، وهذا من الجهل، فالشيخ الألباني ومن تبعه في هذه المسألة ومن قبله لم يقل أحد منهم أن الحجاب ليس بموجود، بل إننا نقول: إن من أنكر الحجاب فإنه يكفر؛ لأن الحجاب من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المنصوص عليه في الكتاب، ولكن الخلاف في الحجاب ما هو؟ ففرق أن يكون الخلاف: هل هناك حجاب أو لا؟ وبين ما هو الحجاب؟ فالشيخ الألباني ومن وافقه ومن قبله يقولون: إن الوجه والكفين ليسا بعورة؛ لأنه ليس في كتاب الله نص صريح واضح على أن المرأة تغطي وجهها، لكن يشهد نصوص أخر من السنة النبوية على أنه يحسن بالمرأة أو يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فهذا الخلاف يجب أن نعرفه، فإذا جاء رجل ينقض الحجاب كله جلبنا عليه بخيلنا ورجلنا وسفهنا رأيه، وإن جاءنا مسلم يقول: أنا مؤمن أن المرأة يجب أن تتحجب، لكني لا أقول إن الوجه والكفين عورة، فهنا يقف المسلم؛ لأن هذا القول قد قال به أفذاذ العلماء: قال به مالك كما في المدونة، وقال به غيره من أئمة السلف، وقال به كثير من العلماء، فالمسألة ينبغي أن تكون بينة واضحة عند الحكم على الناس. وأما الحداثيون، فالحداثة قالب لا أكثر ولا أقل، فإن استخدمت في الخير فهي خير، وإن استخدمت في الشر فهي شر، ولكن دعاتها ورموزها والذين وفدوا بها على أهل الشرق وعلى أهل الإسلام كانوا أساطين وأرباباً في الهجوم، ومحاربين لله، ومحاربين لرسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً وعياناً؛ فلذلك لا نتورع أبداً في أن نقف ضدهم، بل إن الوقوف ضدهم كما بينا في المحاضرة دين وقربة وملة يجب أن نتعبد الله تبارك وتعالى به، فتعرية المناهج أمر واجب إذا تبينا أنها خطأ، فإن كان الشخص المتكلم رجل من أهل السنة معروف بدينه وعلمه وفضله فيرد عليه قوله فقط، أما شخصيته وذاته فتبقى محفوظة مرموقة، فله مكانته وله جهاده في الدين، ويرد عليه قوله إن كان قوله مما تيقنا أنه خطأ، وأنه معارض لما في الكتاب والسنة، والله أعلم.

حكم تدريس شعر صلاح عبد الصبور

حكم تدريس شعر صلاح عبد الصبور Q أنا طالب أدرس الآن الشعر لـ صلاح عبد الصبور، ويقول أستاذنا عنه: أنّا لا نهتم إلا بالجانب الأدبي، وأكثر الأشعار بعيدة عن الدين، فما هو الحل؟ A الحل أولاً: لعلنا نستطيع أن نرفع إلى مقام الوزارة أن يلغوا شعره من الكتب. والأمر الثاني: ينبغي على الأستاذ وجوباً شرعياً أن ينبه على الخطر العقدي الناجم عن أقوال أي شاعر كـ صلاح عبد الصبور أو غيره، ولا بأس أن يعلم الجانب الأدبي عندهم حتى يكون الإنسان قوي حجة في الرد عليهم، لكن ينبغي على الأستاذ في المقام الأول أن ينبه على أغلاط هؤلاء، وعلى ما اقترفته أيديهم في دين الله تبارك وتعالى.

نصيحة لمن اعتاد على العادة السرية

نصيحة لمن اعتاد على العادة السرية Q أنا شاب في سن صغيرة ولكن أهلكتني العادة السرية، فبماذا تنصحني؟ وقد قال في أولها: يا شيخ إني أحبك في الله؟ A نقول أولاً: أحبك الله الذي أحببتنا فيه. وثانياً: تقول العرب يا أخي: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها فلا يمكن أن يقف شاب في ذروة شبابه ويتأمل الأفلام، وصور النساء الحسناوات، والحركات والرقصات التي تذاع في التلفاز عبر القنوات الفضائية، وأفلام الفيديو، ثم بعد ذلك نطالبه بأن يمسك غريزته وألا يخرجها إلا في المخرج الصحيح، هذا لا يتأتى عقلاً، لكن أول الأمر يا بني أن تفر من الأسباب التي تدعوك إلى أن تقع في هذه العادة السرية، فإن أغلقت على نفسك النوافذ، وأغلقت على نفسك الأبواب ولم يبق لك من هذا الأمر شيء، بعد ذلك سيعوضك الله جل وعلا بطرائق ذاتية كالحلم في الليل وما شابه ذلك، فتخرج به ما زاد عن حاجتك وطاقتك، أما أن يعكف الشاب على صور محرمة، أو أن يجول في الأسواق، أو أن يخاطب الفتيات في الهاتف، ثم يقول: أنا أقع في العادة السرية فهذا أمر حتمي؛ لأنه من لزوم ما يلزم. ثم يا بني افزع إلى الله تبارك وتعالى في أن يتوب عليك من هذه العادة، واسأله جل وعلا أن يعوضك خيراً منها، واملأ وقتك وفراغك ولو بالأمور المباحة: العب الكرة، سافر كثيراً، اذهب مع الأصحاب، احضر المحاضرات، اشغل نفسك ببر والديك، اذهب هنا وهناك، تزود بالرحلات وغيرها، لا يكن في وقتك فراغ يتسنى فيه إتيان هذه العادة، فهذا مما يعينك، وأسأل الله جل وعلا أن يعينك وسائر من ابتلي بهذه العادة على أن يتركها.

نصيحة لمن يبيع المجلات التي فيها صور النساء الكاسيات العاريات

نصيحة لمن يبيع المجلات التي فيها صور النساء الكاسيات العاريات Q يقول: يوجد في الحي سوبر ماركت تبيع المجلات وبها نساء كاسيات عاريات وما إلى ذلك، فهل من نصيحة؟ A نحن لا نوجه النصيحة لهذا فقط، بل إننا نوجهها لكل من يبحث عن الرزق بهذه الوسائل، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)، ولا ريب أن بيع مثل هذه المجلات سحت محرم، فإذا كانت المجلات فنية صرفة، وتعين على الفواحش وتسوق لها وتروج لمثلها فلا ريب أن بيعها حرام، ونسأل الله أن يتوب على صاحب هذا المحل وعلى غيره من المسلمين، وأن يعيننا وإياهم على طاعته.

حكم سلام المرأة على أخي زوجها أو زوج أختها عبر الهاتف، والسؤال عن أحوالهم

حكم سلام المرأة على أخي زوجها أو زوج أختها عبر الهاتف، والسؤال عن أحوالهم Q ما حكم السلام على أخي الزوج، وزوج الأخت عبر الهاتف، والسؤال عن أحوالهم؟ A سلام الرجال على النساء في عمومه مشروع، فلا بأس أن يسلم الرجل على امرأة أجنبية عنه، سواء كانت من أقاربه أو من غير أقاربه إذا أمنت الفتنة، ولكن إذا كان من أقاربه يكون فهذا أدعى للسلام، والسؤال عن الأحوال، ولا يزيد في هذا، ويجب على المرأة وهي تجيب ألا تخضع في القول. وأما أن يسألها أخو زوجها عن حالها وما شابه ذلك على عجالة فهذا لا بأس به، فإن كانا شابين وخافا على نفسيهما الفتنة فيكتفيان بالسلام فقط.

ترتيب كفارة اليمين

ترتيب كفارة اليمين Q هل يكفي صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين، أم هناك عمل آخر؟ A كفارة اليمين هي أولاً: الإطعام أو عتق رقبة، أما عتق الرقبة فلا أظنه موجوداً في هذا العصر، وأما الإطعام فإنه يكون في المقام الأول، فإن لم يتيسر له إطعام عشرة مساكين -أي كان فقيراً- فإنه ينتقل إلى الصيام، لكن لا يبدأ كما هو مشهور عند الناس يبدأ بالصيام، هذا لا يجوز، بل يبدأ أولاً بالإطعام إن قدر عليه، فإن قدر عليه انتهى الأمر وتمت الكفارة، فإن لم يقدر عليه-أي: على الإطعام- انتقل إلى صيام ثلاثة أيام، فإذا صامها تم بذلك الأمر.

حكم من وضعت حول ولدها بطانية فمات

حكم من وضعت حول ولدها بطانية فمات Q هذه امرأة تقول: إنها أنجبت توأماً فقيل لها: إنهما لم يستكملا نموهما، فأحدهما مات بعد ساعتين من ولادته، والآخر مات بعد عشرة أيام، وكيفية موته أن أمه كانت تضع حوله بطانية، فقد قيل لها: إن هذا الأمر ينفعه في صحته، وفي يومه العاشر عندما استيقظت أمه وجدته قد مات، والأم في هذا الموقف تسأل: هل عليها ذنب في ذلك أو كفارة؛ لأنها وجدت البطانية على وجهه وقد كتمت نفسه، وجزاكم الله خير؟ A أما الأول فقد أفضى إلى ربه بقدر الله المحض، وأما الثاني: فإن الأم وإن وضعت حوله البطانية إلا أن ظاهر السؤال أن الأم لم تتعمد إيذاء ولدها، بل فعلتها وغالب ظنها أن هذا فيه مصلحة له، وعلى هذا عليها الاستغفار فقط، ولا يلزمها كفارة قتل الخطأ؛ لأن الخطأ هنا بعيد جداً أن تكون تعمدته.

نصيحة للذين يستخدمون الدشوش الفضائية

نصيحة للذين يستخدمون الدشوش الفضائية Q ما حكم الذين يستخدمون الأطباق الفضائية -ما يسمى بالدش- وما نصيحتك إليهم؟ A المسلم مسئول عن بيته أمام الله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والعلماء والدعاة تكلموا في هذا الأمر كثيراً، والإنسان ربيب نفسه ومالك أمره، والوقوف بين يدي الله جل وعلا ساعة رهيبة لا يطيقها أحد إلا المتقون فقط، فلا يقدر عليها إلا من وفقه الله جل وعلا للعمل الصالح، وكون الرجل يضع على بيته طبقاً فضائياً ينجم عنه إيصال برامج وأفلام ومناظر تخدش الحياء، وتتعارض مع الدين، وتدعوا إلى الفحشاء فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يجوز شرعاً، فهو آثم لا محالة ما دام هذا الطبق على بيته، ويأثم كذلك إذا نجم عن الأولاد معصية بسبب ما يشاهدونه في التلفاز، فهو والعياذ بالله بهذا الأمر يتقلب في نقم الله تبارك وتعالى. نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم، وأن يجعلنا دعاة ناصحين أينما حللنا ونزلنا.

حكم قص المرأة شعرها زينة لزوجها مع عدم التشبه بالكافرات

حكم قص المرأة شعرها زينة لزوجها مع عدم التشبه بالكافرات Q تقول: ما حكم قص المرأة شعرها علماً بأنها تتزين لزوجها ولا تتشبه بالكافرات؟ A لا بأس أن تقص المرأة شعرها إذا أرادت بذلك أن تتزين لزوجها، قال الله تعالى في إخباره عن النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، والأصل في العادات الإباحة حتى يثبت دليل على استثناء شيء معين، ولا استثناء هنا، إلا إذا قصدت المرأة التشبه بكافرة بعينها فيما هو من خصائص أهل الكفر، وأما إذا كان من خصائص الناس جميعاً أهل الكفر وأهل الإيمان فلا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).

حكم من كان مقصرا في حق زوجته من حيث المصاريف وغيرها

حكم من كان مقصراً في حق زوجته من حيث المصاريف وغيرها Q امرأة تقول: إن زوجها هجرها منذ عشر سنوات، وهي تقوم بزيارته بين حين وآخر، وتقوم بالخروج دون إذنه، فهل عليها ذنب في ذلك؟ والزوج مقصر عليها بالمصاريف فهي تقوم بالشكاوى على أهله، فهل يجوز لها أن تتكلم عليه في غيبته لأهله حتى يُرفع هذا الظلم؟ A إن كان حقاً ما تقول: من أنه هجرها منذ عشر سنوات ولا يعطيها مصاريف فإنه لا غيبة له في أن تخبر أهله بذلك؛ لحديث هند رضي الله تعالى عنها: أنها أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان رجل شحيح، فإن كان الرجل غير موجود في البيت هاجراً له، فلا إذن له في أن تستأذنه المرأة أن تذهب إلى مكان ما، فالمهم ألا يكون في ذلك المكان معصية لله، وأما الإذن هنا إذا كان هاجراً هجراناً غير تأديبي فلا حق له في أن يستأذن منه.

وقت فرض الحج وطعام أهل الجنة

وقت فرض الحج وطعام أهل الجنة Q متى فرض الحج مع الدليل؟ وما هو طعام أهل الجنة؟ A فرض الحج في السنة العاشرة، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وأما طعام أهل الجنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: أن يهودياً قال: (يا أبا القاسم! أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ قال: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غذاؤهم على إثر ذلك؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها).

حكم الإيداع في بنك فيصل الإسلامي

حكم الإيداع في بنك فيصل الإسلامي Q هل يجوز الإيداع في بنك فيصل الإسلامي؟ A نعم بلا ريب، يجوز الإيداع في بنك فيصل الإسلامي، وفي مصارف الراجحي والسبيعي وما شابه ذلك من المؤسسات، وأما البنوك الربوية المحضة المعروفة فإن الإنسان إذا احتاج إليها اضطراراً كالذين يعيشون في غير هذه البلاد فلا حرج؛ حفاظاً على أموالهم إذا كانوا لا يأخذون فائدة؛ لأن الدين جاء بحفظ الضرورات الخمس ومنها: المال كما هو معلوم.

السبب الذي جعلنا نبتعد عن ديننا ونميل إلى دنيانا

السبب الذي جعلنا نبتعد عن ديننا ونميل إلى دنيانا Q ما هو السبب الذي جعلنا نبتعد عن ديننا، ويجعلنا نميل إلى دنيانا، ولا نعتبر بقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؟ A لا ريب أن حب الدنيا غلب على الناس، ودعاهم إلى ترك كثير من الأعمال الصالحة، ولا ريب أن ضعف الإيمان في القلوب هو الذي أثر على الناس اليوم، والناس في هذا الدين واحد من اثنين: ناس يدخلون في الدين فيأخذون من الدين ما يعجبهم، ويتركون ما لا يعجبهم، وأناس -جعلنا الله وإياكم منهم- يدخل الدين في قلوبهم، فإذا دخل الدين في قلوبهم سيرهم وفق ما أراد الله ووفق منهج محمد صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن ينبغي عليه أن يكون حريصاً على أن يدخل الإيمان قلبه بحق؛ حتى يغير الدين فيه ما هو باطلاً وما هو مضاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

كيفية المحافظة على زيادة الإيمان

كيفية المحافظة على زيادة الإيمان Q كيف نحافظ على مستوى الإيمان بعد المحاضرة؟ A العمل بما تسمع أعظم الطرائق للمحافظة على مستوى الإيمان، فلا يكفي أن يستمع الإنسان إلى المحاضرة أو إلى القرآن أو إلى الحديث، ولكن اعمل بما تسمع من آية أو من حديث أو من محاضرة يرفع ذلك مستوى الإيمان في قلبك، وينفعك بإذن الله تبارك وتعالى، أما أن يكون القول يتبعه قول، والمحاضرة فقط تتبعها محاضرة، ولا ينقلب ذلك إلى واقع محسوس ملموس في واقعنا فهذا هو الذي أضعف الإيمان في قلوبنا، وأبعدنا عن الله، وأبعدنا عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أثنى الله على الأخيار بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وقال تبارك وتعالى لداود وآله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. ختاماً نسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيكم خيراً على هذا الحضور، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد.

من نبأ المرسلين

من نبأ المرسلين أنبياء الله ورسله هم أتقى الناس وأخشاهم لله تعالى، وكانوا أكمل العباد في إيمانهم وعبادتهم وأخلاقهم وجميع أحوالهم، لذا فهم القدوة الحسنة، والأسوة المثلى لمن أراد السلامة والنجاة، والعلو والسمو، والنجاح والفلاح في الدنيا وفي الأخرى.

بعض الحقائق العلمية عن أنبياء الله ورسله

بعض الحقائق العلمية عن أنبياء الله ورسله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. وأشهد أن لا اله إلا الله وحد لا شريك له، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي ما ترك خيراً إلا ودل أمته عليه، ولا شراً إلا وحذر أمته منه، ولا طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وآتاه منه علماً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. خير من صلى وصام وأفطر، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه ما لاح برق وأمطر، اللهم وعلى آله وأصحابه أئمة الدين ومصابيح الهدى ومنارات الدجى، اللهم وعلى من تبعهم بإحسان وعلى طريقهم اقتفى إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة التي أرادها الله أن تكون مأوىً ومثوىً لخير خلقه وصفوة رسله، من المدينة التي وصف الله أهلها بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، من المدينة التي صعد النبي صلى الله عليه وسلم منبرها وقال: (هذه طابة هذه طابة)، من مدينة خير الخلائق، من مدينة مَن أوضح الله به الطرائق قدمنا إليكم أيها المؤمنون! في مدينة جدة. نقول هذا غير ممتنين به عليكم ولا على أحد، بل لله العظيم الحليم وحده المنة والفضل، ولكننا نقول من باب التشرف بالمدينة التي قدمنا منها، ومن باب الفرح بالوجوه الطيبة التي قدمنا إليها، وأي ساعة أجمل من لقاء الأحبة! وتدارس صريح الكتاب وصحيح السنة! أيها المؤمنون! في هذه الليلة الطيبة المباركة وتحت العنوان الذي أُعلن تكون هذه المحاضرة بعنوان: (من نبأ المرسلين)، فإنه من باب التأصيل العلمي، وحتى نكون جميعاً على بينة فيما يقال فإن الحديث سيكون على جزأين: الأول: في ذكر بعض الحقائق العلمية عن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والأمر الثاني: فيما يمكن أن نستقيه ونستفيده وندرسه من دروس وعبر من سيرة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا استثناء. أما الجزء الأول: فإن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم وأهبطه إلى الأرض بعد الذي كان منه، وتاب عليه ربه وهدى، كان الناس ملة واحدة يعبدون الله وحده ولا يشركون به، ثم اجتالتهم الشياطين وانحرفت بهم عن طريق الحق، فتفرقوا أمماً وشيعاً، وأضحوا على عبادة الأوثان ومحاربة دين الرحمن، فكانت حكمة الله البالغة ورحمته بالعباد أن أرسل الرسل، قال الله جل وعلا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، فكانوا على أمة واحدة -أي: على ملة واحدة- فكان أول رسل الله نوح عليه الصلاة والسلام.

من خصوصيات الأنبياء أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم

من خصوصيات الأنبياء أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم المزية الثانية: أن هؤلاء النبيين والمرسلين تنام أعينهم لكن قلوبهم لا تنام، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ونحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)، ولما قدمت اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أمور خمسة قالوا في أولها: (يا أبا القاسم! ما علامة النبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تنام عينه ولا ينام قلبه).

من خصوصيات الأنبياء أنهم يخيرون عند الموت

من خصوصيات الأنبياء أنهم يخيرون عند الموت الأمر الثالث الذي ميز الله به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: أنهم يخيرون عند الموت، فإذا دنا منهم ملك الموت ليقبض روحهم خيرهم بين الحياة والموت، فيختارون لقاء الله؛ إيثاراً لما عند الله على ما في الحياة الدنيا، ومعلوم قصة موسى والملك لما جاءه وفقأ موسى عينه، وذلك لما خيره بين الحياة والموت. ونبينا صلى الله عليه وسلم -وهو صفوة الرسل وذروتهم عليه الصلاة والسلام- معلوم أنه ردد عند موته كما روى الأئمة الثقات في كتب الأحاديث أنه كان يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، حتى روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تحكي قصة وفاته صلى الله عليه وسلم قالت: (فأخذته بحة شديدة ثم سمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (فعلمت عندها أنه كان يخير بين الحياة وبين الموت). والأثر الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه في آخر حياته لما شعر بدنو أجله بعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كان عليه الصلاة والسلام يكثر من الذهاب إلى البقيع -مقبرة أهل المدينة- فقام ساعة من الليل ومعه مولاه أبو مويهبة فذهب إلى أهل البقيع ودعا لهم واستغفر لهم، وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أضحت الفتن كقطع الليل المظلم، ثم قال: يا أبا مويهبة! إنني خيرت ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، فقال له أبو مويهبة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فاختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة إنني اخترت لقاء ربي ثم الجنة) صلوات الله وسلامه عليه، فموضع الشاهد منه: أن الأنبياء يخيرون عليهم الصلاة والسلام عند موتهم بين الحياة والموت.

من خصوصيات الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون

من خصوصيات الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون كذلك من الأمور التي تفرد بها هؤلاء المرسلون عن سواهم من البشر: أنهم يقبرون حيث يموتون؛ ولذلك فأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دفنوه عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة، أي: في المكان الذي مات فيه، بناءً على ما رواه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يموت إلا ويقبر في موضعه -أي: في مكان موته)، ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة كما هو معلوم.

من خصوصيات الأنبياء والرسل عدم أكل الأرض لأجسادهم

من خصوصيات الأنبياء والرسل عدم أكل الأرض لأجسادهم كذلك مما خص الله به أنبياءه ورسله أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ إكراماً من الله تبارك وتعالى لهؤلاء النبيين وأولئك المرسلين، فقد روى أبو داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وصححه الحافظ وابن خزيمة رحمة الله تبارك وتعالى على الجميع، وهذا من إكرام الله لأولئك الصفوة من النبيين والمرسلين. ومما يستأنس به في هذا الخبر: أن الإمام الحاكم روى في المستدرك: (أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يسري بقومه من أرض مصر ضل الطريق، فقال للملأ من بني إسرائيل: ما هذا؟ فأخبره علماء بني إسرائيل أن يوسف عليه السلام قد أخذ عليهم العهد والميثاق أنهم إذا خرجوا من أرض مصر أن يحملوا عظامه معهم -وعظامه هنا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل-، فقال: وأين قبره؟ قالوا: لا يعلم قبره إلا عجوز في بني إسرائيل، فقال: دلوني عليها، فأتوا بها بين يديه، فقال لها أين قبر يوسف؟ قالت: لا أدلك على قبر يوسف حتى تأتيني شرطي أو حكمي؟ قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأن موسى استثقل هذا في أول الأمر ثم قال لها: لك حكمك، فدلته على بحيرة وأمرتهم أن يجففوها، ثم حفروا فإذا بعظام يوسف عليه السلام -أي: جسده كاملاً-، فحملوه معهم قال صلى الله عليه وسلم: فإذا الطريق مثل فلق الصبح أو مثل ضوء النهار يسترشد به).

صفات وحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله

صفات وحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله فوحي الله جل وعلا إليهم له صفات ثلاث، قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]، فقول الله جل وعلا: ((إِلَّا وَحْيًا)) أي: ينفث في روع ذلك النبي ما لا يشك النبي في أنه من عند الله جل وعلا، كما روى ابن حبان في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا مما نفث في روعه صلى الله عليه وسلم أن هذا وحي من عند الله جل وعلا. والهيئة الثانية في الوحي: أن يكلم الله جل وعلا ذلك النبي من وراء حجاب، كما أخبر الله بصريح القرآن: أنه كلم نبيه موسى، قال الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وكلم الله كذلك آدم عليه السلام، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما سئل عن آدم أنبي هو؟ قال: نعم نبي مكلم، وكلم الله جل وعلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج. الهيئة الثالثة التي يكون عليها الوحي: أن يكون بواسطة الملك، فالملك يأتي بالوحي من السماء فيخبره ذلك النبي، وغالب من يقوم بهذه المهمة هو جبرائيل عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، فهذا وحي الله تبارك وتعالى إلى رسله وهو الأمر الأول والأعظم الذي ميز الله به الرسل عن سواهم من البشر.

الأمور التي يميز بها الأنبياء عن سائر الناس

الأمور التي يميز بها الأنبياء عن سائر الناس ومع كونهم بشراً إلا أن الله تبارك وتعالى ميز هؤلاء البشر -أي: الرسل- ميزهم بأمور تختلف عن غيرهم من البشر، أي: لا يمكن أن تكون في بشر سواهم، وإن كان لابد من القول أنه وإن ميزهم الله بأمور سيأتي ذكرها إلا أن هذا التمييز لا يخرجهم عن كونهم بشراً، ولا يعطيهم من صفات الألوهية ولا الربوبية شيئاً، فهم كما أخبر الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]. ومما ميز الله جلا وعلا به أنبياءه ورسله وحيه تبارك وتعالى إليهم، فوحي الله جل وعلا إلى أنبيائه ورسله هو الفرق بين جهد الأنبياء والمرسلين وبين جهد المصلحين من غير المرسلين، فإن رسل الله لا يعتري قولهم خطأ ولا كذب ولا افتراء، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]. أما جهد المصلحين والأخيار على مرّ الدهور فإنه لا يمكن أن يسلم من الخطأ؛ لأنهم وإن كانوا مأجورين على ما فعلوه وعلى ما اجتهدوه إلا أن اجتهادهم قد يكون خطأ، وأما أنبياء الله ورسله فهم معصومون في التبليغ عن الله تبارك وتعالى.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول وقد اختلف أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول: فذهب جمع منهم إلى أن النبي: من أوحي إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بأمر أو بوحي وأمر بتبليغه، وهذا وإن قاله جمع من العلماء رحمة الله تعالى عليهم سلفاً وخلفاً إلا أنه قد يكون بعيداً من الصواب، ولعل الصواب أن يقال: إن النبي هو من أوحي إليه ليقرر شريعة من قبله، وأما الرسول: فهو من أوحي إليه بوحي جديد على غير شريعة من قبله، وإن كان الأنبياء والمرسلون مجتمعين على لب الدعوة وهي الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].

الأنبياء والرسل كلهم من البشر

الأنبياء والرسل كلهم من البشر والله جل وعلا اقتضت حكمته أن يكون رسله بشراً، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6]، وكون أنبياء الله بشراً يقتضي أموراً عدة: يقتضي أن يعتريهم ما يعتري البشر، فهم يصحون ويسقمون، ويأكلون ويشربون، قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:75 - 80]. وقال الله جل وعلا عن عيسى ابن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]. ومقتضى بشريتهم أيضاً أنهم يعملون ويشتغلون فيما جرت عادة البشر أن يعملوا فيه، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث -نوع من الثمر-، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالأسود منه؛ فانه أطيبه، فقلنا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل من نبي إلا وقد رعاها). فجميع أنبياء الله ورسله رعوا الأغنام فهذا يقتضي ويدلل على أنهم كانوا بشراً، وكلنا يعلم أن كليم الله موسى عليه السلام عمل أجيراً عند العبد الصالح على عفة فرجه وإشباع بطنه عشر سنين، ثمانية اتفاقاً وعشراً وفاء، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]، فهذا مقتضى بشريته.

واجبنا تجاه أنبياء الله ورسله

واجبنا تجاه أنبياء الله ورسله فهذا من إكرام الله جل وعلا لأولئك الأنبياء والمرسلين الذين بلغوا رسالته، وأظهروا دينه، وأنبياء الله ورسله واجبنا كمؤمنين تجاههم: الإيمان بهم جميعاً بدون استثناء، أي: الإيمان بهم جملة والإيمان بهم تفصيلاً ممن أخبر الله جل وعلا عنه باسمه، والكفر بواحد منهم كفر بهم جميعاً، قال الله جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، والأنبياء والمرسلون إنما يخبرون عن الله، فإن كذبت واحداً منهم أو شككت في قول واحد منهم فكأنما كذبت الآخرين؛ ولذلك فالله جل وعلا عدّ تكذيب رسول واحد تكذيباً بالرسل أجمعين، قال جل وعلا {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] رغم أنه لم يرسل إليهم إلا نوح عليه من الله أفضل السلام وأزكى التسليم.

عدد الأنبياء المذكورين في القرآن

عدد الأنبياء المذكورين في القرآن والأنبياء المذكورون في القرآن الذين اتفقت الكلمة على أنهم أنبياء ورسل (25) نبياً ورسولاً، وقد ذكرهم الله بأسمائهم الصريحة في كتابه المبين، (18) منهم وردوا في سورة واحدة وهي سورة (الأنعام)، والسبعة الباقون جاءت أسماؤهم متفرقة في القرآن، قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:83 - 85]، فهؤلاء ثمانية عشر نبياً ورسولاً جاء مصرحاً بهم بأسمائهم في سورة الأنعام، وأما السبعة الباقون فقد جاءت أسماؤهم متفرقة في الكتاب المبين، لذلك قال بعض أهل العلم: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذي الكفل آدم بالمختار قد ختموا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهؤلاء الرسل منهم أربعة فقط من العرب كما في حديث أبي ذر هم: هود وشعيب وصالح، قال صلى الله عليه وسلم: (هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر -يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم-). فهؤلاء الأربعة من العرب، وأما غيرهم فبعضهم من بني إسرائيل وهم الأكثر، وبعضهم من غير ذلك من الأمم التي سبقت الأمة العربية من أنبياء الله جل وعلا ورسله، وهذا التأصيل العلمي الذي ذكرناه كان لابد من القول به قبل أن نخوض في قضية الاسترشاد بأنبياء الله جل وعلا ورسله ونبأهم.

تعظيم الأنبياء لله تعالى

تعظيم الأنبياء لله تعالى ثم إننا نقول: إن الخوض في خيرة أولئك الرسل ودراسته أمر متعجب، ويمكن أن يجنح له المحاضر من عدة طرق كما فعل الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء، فقد ذكر قصصهم على شكل السرد الموضوعي التاريخي كل نبي لوحده، وقد يطرق هذا الموضوع بطريقة أو أخرى، لكن الذي نريد أن نبينه أننا سنطرقه من باب الاسترشاد في هذه المرحلة الزمنية من عمر الصحوة الإسلامية المباركة، مما ينفع الله جل وعلا به عباده وخلقه أجمعين. فنقول أيها المؤمنون! إن من أعظم ما يستقى وتتضح به المعالم، وتستنير به القلوب، وتستوضح به الدروب من نبأ المرسلين: إعظامهم وإجلالهم لله تبارك وتعالى. إن تعظيم الله جل وعلا وإجلاله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه أمر تقضيه الفطر السليمة، وجاءت به الشرائع القويمة، وإن الله تبارك وتعالى لا رب غيره ولا إله سواه؛ ولذلك كلما ازداد الإنسان بالله علماً ازداد لله تعظيماً وإجلالاً، فلما كان الرسل هم أعظم الناس علماً بالله جل وعلا كان أولئك المرسلون هم أكثر الخلق وأشد العباد إعظاما وإجلالاً لله تبارك وتعالى؛ لأنهم يعلمون صفاته العلى وأسماؤه الحسنى، ويعلمون ما لله من سلطة وقوة وجبروت لا تكون لأحد غيره سبحانه وبحمده تبارك اسمه وجل ثناؤه، وهذا التعظيم ورد على هيئة أمور عدة: فمن ذلك: قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، وجاء في حديث ابن مسعود: (أن حبراً من أحبار اليهود قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إننا نجد في كتبنا أو في علمنا أن الله جل وعلا يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه؛ تقريراً وتصديقاً لما قاله الحبر اليهودي، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). ولقد فقه أنبياء الله ورسله هذه المسألة فقهاً عظيماً فكانوا يدعون أقوامهم ومن أرسلوا إليهم يدعونهم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، تارة بذكر الضد كما فعل نوح عليه الصلاة والسلام لما قال لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:13 - 18]، كل ذلك ليلفت انتباههم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، وذكر ماله من عظمة وملكوت سبحانه تبارك وتعالى وبحمده.

تجرد الأنبياء من الحول والقوة إلا بالله تعالى

تجرد الأنبياء من الحول والقوة إلا بالله تعالى ثم الأمر الثاني: أن أولئك الأنبياء والمرسلين تجردوا من كل حول وطول، وتجردوا من كل قوة، ولم يدعوا لأنفسهم كمالاً ولا حولاً ولا طولاً؛ حتى يبينوا للعباد أن الحول والطول والقوة والعلم لله تبارك وتعالى وحده، فهذا نوح يصدع في قومه ويقول لهم كما أخبر الله جل وعلا في القرآن: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود:31]. ومن هنا تعلم أن غير المرسلين من أئمة الفرق الباطنية الضالة ومن أئمة الفرق التي تحارب أهل السنة تجد أن من صفاتهم التي يعرفون بها أنهم يدعون لأنفسهم حولاً وعلماً وطولاً لم يؤتهم الله جل وعلا إياه، وما آتاه الله لأنبيائه المقربين ولا لرسله المبشرين، ومع ذلك يزعم أولئك الأئمة من أئمة الضلال أنه لهم، أو يزعموا أنه لأئمتهم ظلماً وبهتاناً على أولئك الأئمة، يقول أحدهم من أئمة هذا العصر في كتابه الشهير (الحكومة الإسلامية) يقول في صفحة (57) منه: وإن من أصول مذهبنا: أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وربما كان هذا الأمر لـ فاطمة الزهراء. فتطاولوا على الأئمة كما تطاول النصارى على المسيح ابن مريم، فإن النصارى زعمت أن المسيح ابن مريم إله، وهو عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا أبداً، {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، فكما تطاول النصارى على المسيح فقد تطاول أصحاب تلك الفرق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيت النبوة رضوان الله تعالى عليهم تطاولاً ليس من أولئك ذنب فيه ولا علاقة به، ولكنه من باب خداع الناس وتشعبهم في طرق الضلال. وتعظيم الله جل وعلا وإجلاله أمر يسترشد من أنبياء الله ورسله، وأنا وأنت أيها المؤمن عندما نستقي من هذا المورد العذب من (نبأ المرسلين) يجب أن نفطن إلى مسألة تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، فإن كثيراً من إخواننا العصاة -غفر الله لهم وعفا الله عنا وعنهم- مما يدفعهم إلى ارتكاب المحارم، ويحجم بهم عن فعل الطاعات أنهم يجهلون قدر الله تبارك وتعالى، ويغيب عنهم اطلاع الله تبارك وتعالى عليهم، ويغيب عنهم ما لله جل وعلا من عظمة؛ ولذلك من أفضل الطرق إلى قرع قلوب هؤلاء أن يذكروا بما لله تبارك وتعالى من عظمة وجبروت، وما لله تبارك وتعالى من سلطان وملكوت، قال الله تبارك وتعالى وهو يرشد إلى هذا: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:102 - 103]، وآيات القرآن المنثورة فيه كثير منها يقرع القلوب بذكر وحدانية الله جل وعلا، وعظيم سلطانه جبروته وملكوته.

تعظيم الأنبياء لآيات الله تعالى

تعظيم الأنبياء لآيات الله تعالى الأمر الثاني الذي نستقيه من نبأ المرسلين: تعظيم أولئك الرسل لآيات الله جل وعلا، فكما عظموا ربهم وذاته العلية فإنهم يعظمون أيضاً آيات الله جل وعلا، ومعلوم أن آيات الله وكلامه تبارك وتعالى منثور فيه دلائل وحدانيته، وبراهين ربوبيته، وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى جل وعلا، وأوامره العلية ونواهيه تبارك وتعالى، وألئك الرسل يتعاملون مع هذه الآيات في القرآن أو فيما أنزل عليهم كالزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وصحف موسى يتعاملون معها بكل غبطة وبكل خشوع وبكل فرح وبكل خوف وفرق من الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى ينعتهم ويصفهم ويثني عليهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]، ويقول جل ذكره: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83 - 84]، فهذا فعلهم وقولهم، وأما جزاؤهم: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85]. إن الناس اليوم يقول بعضهم لبعض: إن الرجل القوي الشخصية يكون رجلاً عزيز الدمعة، أي: أن دمعته لا تقطر لأي سبب، وهذا القول وإن كان فيه شيء من الصحة إلا أنه خطأ على إطلاقه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ورسل الله من قبله هم أعظم الناس وأقوى الناس شخصية، وأكمل الخلق بلا مرية ولا شك، ومع ذلك تلك القلوب وتلك العيون لا تملك أمرها ولا تملك دمعها إذا تليت عليها آيات الله جل وعلا، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ عليه القرآن، فقلت: يا رسول الله أأقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: اقرأه عليّ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقرأ آيات من سورة النساء على مسمع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى قول الله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال ابن مسعود: فسمعته يقول: حسبك، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم). والصحابة رضوان الله تعالى عليهم صلوا ذات يوم الفجر وراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه المعروف بقوة شكيمته، والمعروف بسلطته وهو أمير المؤمنين يوم ذاك، ومع ذلك لم يتبين الصحابة ما يردده وما يتلوه عمر من كثرة بكائه ونحيبه رضوان الله تعالى عليه، وذلك لما اخذ يقرأ آيات الله جل وعلا ويتلوها على مسمع ومرأى من المؤمنين، فالبكاء من خشية الله جل وعلا مزية كانت لأنبياء الله ورسله، وهي من المزايا التي ينبغي أن نسترشد بها. وأما الناس اليوم! فمنهم شاعر غلب عليه الهيام والحب يفكر في حبيب طال سفره، أو غاب خبره، حتى قال قائلهم: رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجودا فهذا الذي هداه إليه تفكيره، أو شخص يبكي على صفقة خاسرة، أو درهم أو دينار ضائع، وبعضهم يبكون على أدنى من هذا أو أعظم منه أو مشابه له، وأما المؤمنون الذين يعرفون ما أعده الله من الثواب وما أعده الله للعاصين من العقاب، والذين مر على أسماعه قول الصادق المصدوق لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم يختم أولئك السبعة: (ورجل ذكر الله خاليا فاضت عيناه). أيها المؤمن! تفيض العين لواحد من اثنين: إما أن يقرأ الإنسان وعيد الله جل وعلا وعظيم سلطانه فتذرف منه الدمعة؛ خوفاً وفرقاً مما سمعه، أو يقرأ العبد ما ينبئ عن وعيد مع وعد الله جل وعلا، يقرأ عن وعد الله جل وعلا، وما لله من صفات الجمال ونعوت الكمال، فتذرف الدمعة شوقاً إلى الله تبارك وتعالى ومحبة وانتظاراً لليوم الموعود الذي يبشر فيه المؤمنون، ويجزون برؤية ربهم جل وعلا، وكلا السببين داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ولذلك ينبغي للعبد إن لم يستطع البكاء أن يتباكى، فقد كان الربيع بن خثيم رضي الله تعالى عنه وهو أحد سلف هذه الأمة، كان يقوم الليل كله يردد قول الله جل وعلا وهو يبكي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وإنما نبكي إذا غاب عنا فضل الله ورحمته، ونبكي إذا حل علينا فضل الله ورحمته، نبكي في أول حسرة، ونبكي في الثاني فرحاً؛ ولذلك أحد ملوك بني العباس لما آلت دولة بني العباس إلى الضعف والانهيار في آخر أيامها أجبره القادة وأجبره الجنود على أن يتخلى عن الخلافة، ووصل بهم الأمر إلى إجراء القرعة في قضية يخلع أو لا يخلع. فالشاهد: أن القرعة وقعت عليه بأن يخلع، فلما أخبره القاضي الموكل بإجراء القرعة قال له: يا أبا عبد الله أنع إليك الخلافة، أي: اترك الخلافة، فقيل: أن ذلك الخليفة قال كلمة والله تستحق أن توزن بمثقال الذهب، قال: اللهم إن كنت قد خلعتني من خلافتك فلا تخلعني اللهم من رحمتك. وصدق الله العظيم القائل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فلا يحسبن دمعتك نظر ناظر، ولا تعليق أحد، ولا سخرية مستهزئ، لكن احتسبها عند الحي القيوم فاطر السماوات والأرض، واعلم أن الله جل وعلا ما عنده خير وأبقى.

من تعظيم الله إهانة من أهانه الله تعالى

من تعظيم الله إهانة من أهانه الله تعالى بقي تعقيب على النقطة الأولى: وهي تعظيم الله جل وعلا حتى لا تفوت الفائدة: نقول: إن من تعظيم الله ألا تعظم من أهانه الله جل وعلا، والذين أهانهم الله هم أهل الكفر، فلا تعظم أهل الكفر؛ لأن تعظيم أهل الكفر مخالف لإجلالك لرب السماوات والأرض، وكيف ترفع من قَدْر رجل قد أهانه الله جل وعلا، بل هم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، ولذلك هناك من الكتّاب والأدباء والشعراء من برزوا في هذا العصر في غير هذه البلاد، وطبقت شهرتهم الآفاق لأسباب لا تخفى على أحد، فأصبح أولئك الكتّاب وأولئك الشعراء يذكرون باللسان، ويشار إليهم بالبنان، ويُعَظمون رغم أنهم -والعياذ بالله- لا يفتأون يسخرون من الله جل وعلا ومن ذاته العلية، يقول أحدهم كشف الله ستره وأهانه الله جل وعلا: الله في مدينتي مشرد طريد الله في مدينتي يبيعه اليهود!! هذه أبيات شعرية تنشر وتقال في العالم العربي أو في العالم الإسلامي، ومثل هؤلاء لا ينبغي للمؤمن أن يجلهم، أو أن يعلي لهم قدراً، اللهم إلا أن يدرس أخبارهم وأمورهم غضباً لله، ودفاعاً عن الحق، ودفاعاً عن دين الله جل وعلا، كما أننا نتمنى من إخواننا اللاعبين عفا الله عنهم وغفر الله لنا ولهم، عندما تقليدهم أحياناً نشوة الفرح فيحملون المدربين على أعناقهم، رغم أن جُل أولئك المدربين قد يكونون من أئمة الكفر، أو قد يكونون كفاراً أصلاً وإن حملهم على الأعناق تعظيم لهم، وإنه لا ينبغي لمؤمن أن يعظم أقواماً لا يدينون بدين الحق. فالله جل وعلا أخبر أن إبراهيم تبرأ من أبيه، ونوحاً تبرأ من ابنه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وأكاد أجزم أن إخواننا اللاعبين -عفا الله عنا وعنهم- إنما يفعلون هذا من باب الجهل دون العلم بالحكم، ولو بلغهم هذا الأمر لما فعلوه، وهذا حسن ظن منا بأولئك المؤمنين، فإن الأصل في المؤمن أن يظن ظناً حسناً بإخوانه المؤمنين أياً كانت منازلهم، وأياً كانت مراتبهم، قال صلى الله عليه وسلم يعلم أبا موسى ومعاذاً: (يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا، إنما بعثت مبشراً ولم أبعث منفراً)، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه النبيين.

ثقة الأنبياء بوعد الله تعالى

ثقة الأنبياء بوعد الله تعالى الأمر الثالث الذي يستسقى من حياة أنبياء الله ورسله: ثقتهم العظيمة بوعد الله جل وعلا، فأولئك الرسل على ثقة عظيمة بما وعدهم الله جل وعلا به، سواء في حياتهم الخاصة أو في حياتهم العامة وفي شئون المسلمين جميعاً. أما في حياتهم الخاصة فخذ مثلاً نبي الله يعقوب، فإنه ابتلي أولاً بفقد يوسف، ثم ابتلي بفقد بنيامين، ثم ابتلي ببقاء بعض أبنائه في أرض مصر، وهو في كرب وهم وغم وحزن، وبعض بنيه حوله يخبرون عنه أنه شيخ هرم قد أصابه التخريف وأصابه الهذيان، ومع ذلك كان على ثقة بوعد الله جل وعلا في حياته الخاصة، وكان يقول لهم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]، فهذه ثقة عظيمة بوعد الله تبارك وتعالى، ولقد صدق الله يعقوب وعده، فجمعه ببنيه، وأنزله المنزلة والمقام الكريم، وأدخله أرض مصر معززاً مكرماً، قال الله تبارك وتعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100]، وقال قبلها: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، فهذا من عظيم الثقة بوعد الله تبارك وتعالى. ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لحقه فرعون وهامان وجنودهما وأصبحوا على مقربة منهما، وعاين أصحاب موسى الموت والقتل عياناً رأوا فرعون وجنوده ورأوا البحر، فإما ضرب الرقاب وإما الغرق، فقالوا إرجافاً كما أخبر الله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] بقي حال النبي الكريم الواثق بوعد الله جل وعلا ونصره وعظيم الثقة بربه، قال: (كلا) أي: لن يكون ما ظننتموه، لِمَ يا موسى؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فلما كان على عظيم الثقة بنصر الله جل وعلا جاء الأمر الرباني والوحي الإلهي، قال الله جل وعلا له: ((اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ))، فضرب: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] فنجى الله جل وعلا موسى ومن معه، وأغرق فرعون وجنوده؛ نصراً لنبيه وكليمه موسى، وتحقيقاً لوعد الله له، وإثباتاً أن موسى كان على حق عظيم عندما وثق برب الأرباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب سبحانه وبحمده. ونوح عليه السلام تكالب عليه قومه، فآذوه وفعلوا به ما فعلوا، فلما أيس منهم لجأ إلى الله جل وعلا، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، فهذه كلمة واحدة دعا بها مجموعة في ستة أحرف (فانتصر) كلمة لا غيرها، فلما قالها وهو على يقين بنصر الله قال الله جل وعلا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} لِمَ؟ {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14] أي: نصراً لهذا الذي كذبه قومه، ووصفوه بالجنون وازدجروه وحاربوه، وحاربوا دين الله جل وعلا وآياته وما أوحى الله تبارك وتعالى به. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يخبره من بعثه إلى أبي سفيان بعد غزوة أحد عند حمراء الأسد: أن أبا سفيان سيعود ليكرر الكرة عليهم، وليستأصل شفعتهم، فلما أُلقي عليه ذلك الخبر يقول صلى الله عليه وسلم وكما أخبر الله عنه وعن أصحابه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ولذلك روى البخاري في الصحيح أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (إن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد قومه أن يلقوه في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم). فمما يسترشد به من نبأ المرسلين ثقتهم بوعد الله، ونحن إن أخلصنا لله النية، وصدقنا لله العمل، وأخذنا بشريعة الله جل وعلا فلنكن على ثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وليس شرط النصر أن يأتي في زمن أنا وأنت فيه، ولكنه يأتي لا محالة لمؤمنين ينصرهم الله تبارك وتعالى، والله قال وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال تبارك وقوله حق: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فالثقة بوعد الله جل وعلا ونصره يجب أن تغرس في قلبي وقلبك، ويجب أن نكون جميعاً على عقيدة صافية أكيدة واثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وإن تأخر النصر فلحكمة ربانية، فإن بعد الليل فجراً، فالله جل وعلا يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].

ربط الأنبياء للعباد بالله تعالى

ربط الأنبياء للعباد بالله تعالى ومما يسترشد ويستقى من خبر المرسلين وهو أمر لا ينتهي: أنهم كانوا يحاولون ويسعون في ربط العباد بربهم جل وعلا، فما بعثوا وما أرسلوا إلا ليعلقوا العباد بالله تبارك وتعالى، ويجعلوا صلتهم بالواحد الأحد الفرد الصمد تبارك اسمه وجل ثناءه. فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ابن عمه وصاحبه وحبيبه علي بن أبي طالب ومعه زوجته زوجة علي امرأة فلذة كبد نبينا صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله على أبيها، وقد أثر الرحى في يدها، فيطلبان منه خادماً من السبي يحمل الكل أو شيء من الكل عن فاطمة رضي الله عنها، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكما على خير من خادم؟ إذا أتيتما إلى فراشكما وآويتما إلى مضاجعكما فسبحَا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم). إن أباكما -يعني: خليل الله إبراهيم- كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق. وفي هذا تربية للأبناء على التعلق بالله جل وعلا، فما الذي يمنعني ويمنعك وأنت المؤمن الغيور الذي لا نشك لحظة في أنك تتبع محمداً صلى الله عليه وسلم: أن تمسح بيديك على رأس ابنك أو ابنتك أو غيرهما ممن لك عليهما ولاية وتقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ففي أول الأمر سيسألك ابنك يا أبت لما تقول لي هذا؟ فتخبره بفعل المعصوم صلى الله عليه وسلم، فيتعلق ذلك الابن الصغير بربه ويحب ذلك الابن الصغير نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنها وصية عظيمة في غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأبناء، وفي غرس الهدي النبوي الكريم في نفوس النشء، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة. ومن تعلقهم بالله وثقة أولئك النبيين بإحالة الأمر إلى الله جل وعلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم في هجرته كما روى أصحاب السير كاد أن يدركه سراقة بن مالك، فغاصت قوائم فرس سراقة في الأرض، وفي تلك الحال الكئيبة والنبي صلى الله عليه وسلم خارج طريد شريد من قومه ومعه دليله يتحسس الطرق إلى المدينة في غمرة ذلك الأمر يقول صلى الله عليه وسلم لـ سراقة: (يا سراقة كيف أنت وقد لبست سواري كسرى)، فأحاله إلى الله جل وعلا، وهذا قد يندرج تحت قولنا الثقة بما عند الله جل وعلا، فيتعجب سراقة: أنت رجل طريد شريد أين أنت من كسرى وقيصر! ولو تعلمون ما كان لـ كسرى وقيصر من سلطة ومن هيبة في قلوب الناس آنذاك لاستعظمتم الأمر، ولكن عندما ذهب كسرى وقيصر هانت الآن الهيبة في القلوب؛ لأن الخبر ليس كالمعاينة. ونبينا صلى الله عليه وسلم نفسه لما كان عنده عدي بن حاتم كان يدخل عليه الأعراب، فرجل يشتكي قطاع الطرق، ورجل يشتكي الفقر، ورجل يشتكي غير ذلك، وعدي يسمع، ويقول صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (لا يمنعنك من الدين ما سمعت)، ثم يخبره بأن هذا الدين سيظهره الله جل وعلا، فيقول له: (والله ليتممن الله دينه حتى تخرج المرأة من الحيرة حتى تأتي مكة لا تخشى إلا الله جل وعلا، وليغيضن المال حتى لا يجد من يأخذه، ولتملكن سواري كسرى وقيصر، فيقول: يا رسول الله كسرى بن هرمز؟ -يعني: لعلك شاك، لعلك واهم- فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم كسرى بن هرمز -أي بنفسه وبعينه-)، فكان عدي بن حاتم من الذين دخلوا على كسرى في ملكه، وكان عدي ممن شاهد المرأة تأتي من الحيرة إلى مكة، ثم يقول عدي: بقيت واحدة، وهي إفاضة المال، فوالله لتأتين، وقد أورد البيهقي في السنن حديثاً بإسناد جيد: أن هذا الأمر قد تم في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمة الله تبارك وتعالى عليه.

من هدي الأنبياء والمرسلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من هدي الأنبياء والمرسلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيها المؤمنون! مما يستقى أيضاً من (نبأ المرسلين) أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الدين، بل إنه بالنسبة لنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر قيض الله الخيرية به، قال الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، فجعل من شروط خيريتها أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ ولذلك كان أنبياء الله ورسله يعملون بهذا الجانب العظيم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولما كان إلا شراك بالله وعبادة الأوثان واتخاذ الأنداد دون الله هي أعظم المنكرات على الإطلاق، كان أنبياء الله ورسله يصرحون بهذا الأمر علانية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، فكانوا ينهون الأمم وينهون أقوامهم أن يعبدوا مع الله شيئاً، وصدع نبينا صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ودعا قومه الأقربين والأبعدين وقال: (قولوا: لا اله إلا الله)، وقال لعمه وهو على فراش الموت: (يا عماه! كلمة أحاج لك بها عند الله قل: لا اله إلا الله). ولما انتشرت في قوم لوط فاحشة اللواط كان لوط عليه الصلاة والسلام ينهى عن هذا المنكر، ويقول لقومه علانية: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165]. ولما كان قوم شعيب رضي الله تعالى عنه قد بخسوا الكيل والميزان قال لهم شعيب ينهاهم عن ذلك المنكر: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84]، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قواعد ليس هذا مجال بيانها وشرحها.

واجب العبد تجاه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

واجب العبد تجاه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن المهم أن تكون غيوراً على دين الله، فالحمد لله في هذه البلاد هيئة رسمية تتبع السلطان تسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب هذه الهيئة علينا واجب عظيم، وذلك كما يلي: أولاً: الدعاء لهم بأن يوفقهم الله ويسدد خطاهم، وأن يعينهم الله جل وعلا على ما حملهم من أمانة. الثاني: حسن الظن بهم، فقد يقع بعضهم في الخطأ في معالجتهم لبعض الأمور إلا أنه من ذا الذي ما ساء قط. والأمر الثالث: التطوع معهم ومساعدتهم فيما يأتونه من أمر بمعروف ونهي عن المنكر، عونهم بالكتابة، وعونهم بتوزيع الأشرطة النافعة المصرح بها، وعونهم في نشر ما يعين على أداء هذه المهمة إلى غير ذلك من المجالات التي لا يمكن حصرها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد دعانا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر وبين أن مراتبه ثلاث: تغير باليد، وتغيير باللسان وتغيير بالقلب، وهذا يدلل على أن الناس تتفاوت منازلهم وقدراتهم ومراتبهم ووجهاتهم، فما أملك أنا تغييره لا تملكه، وما تملكه أنت قد لا أملكه، وقد أعرف أنا في ناحية وأجيدها ولا تجيد أنت تلك الناحية، والعكس صحيح. المهم أن يرتدي الإنسان لباساً لا بد منه وهو لباس الحكمة، وهو وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، والاسترشاد بآراء أهل العلم وأهل الخبرة والثقات، بلغنا الله وإياكم الصواب والسداد في القول والعمل.

خلق الأنبياء العظيم

خلق الأنبياء العظيم

ما كان عليه نبينا محمد من خلق عظيم

ما كان عليه نبينا محمد من خلق عظيم ومما يسترشد به من أخلاق النبيين وأخلاق المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ما فطرهم الله عليه من خلق قويم عظيم، فالخلق القويم مدعاة لأن يحبك الناس، وإذا أحبك الناس سهل عليك أن تصل إلى قلوبهم، وسهل عليك أن تدعوهم إلى الله، وإذا أردت أن تعرف ما الخلق العظيم فحسبك أن تنيخ مطايا فكرك، وحسبك أن تلقي عصا سفرك في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، كيف والله جل وعلا قد نعته بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، كيف والله جل وعلا وصفة بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ورحم الله شوقي بقوله: زانتك بالخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء فإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو ان ما ملكت يداك الشاء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الأبناء وإذا وفيت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء فنبينا صلى الله عليه وسلم جعله الله ذروة الذروة، وصفوة الصفوة صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها عائشة بنت أبي بكر ملهمة في قولها لما سئلت عن خلقه؟ قالت: أقرأت القرآن؟ قيل: نعم، قالت: كان خلقه القرآن. فأتني بخلق قويم في القرآن لم يطبقه صلى الله عليه وسلم، وائتني بخلق نهى الله جلّ وعلا عنه كان فيه صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عليه الصلاة والسلام المطهر من كل عيب ونقص بشري، والله جل وعلا فطره على الخلق العظيم، ونحن بإذنه جل وعلا أتباعه صلى الله عليه وسلم، والمقتفون أثره، والمتبعون هديه، فنحن أولى الناس به صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نسترشد بهديه، يقول عليه الصلاة والسلام: (الدين المعاملة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإن رأيت أخاً من إخوانك المؤمنين على معصية فلا تخاطبه وأنت كالشامت به، فإن الذي أضله قادر على أن يضلك، وأن الذي هداك قادر على أن يهديه، ولكن بالكلمة الطيبة، وبالابتسامة المقبولة، وبالقول السديد، إلا إن كان مجاهراً وقد نصح مرات وكرات، فهذا قد هتك ستر الله عنه أفتستر أنت عليه! ولكن إن رأيته لأول مرة وبخاصة أولئك الشباب الذين في مقتبل العمر، والحق أنه لا بد أن تؤمن وأؤمن أن للشباب شيئاً من المرح والفرح لا بد منه، والله جل وعلا ذكر أولاد يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: يا أبانا! {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12]، وهؤلاء أولاد نبي، فكيف بولدي وولدك، لكن بالأسلوب الحسن وبالكلمة الطيبة، فربما شاهد مسلسلاً أو شاهد لاعباً أو شاهد فناناً فتأثر به لأول وهلة، لكنك إن جلست معه وأبنت له خلق المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو خير، وأنا لا أظن أبداً أن مؤمناً يقول: لا اله إلا الله، تخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيستكبر أو يستنكف، إلا من طبع في قلبه النار، فائت الناس من باب هديه صلى الله عليه وسلم، ومن باب خلقه صلى الله عليه وسلم، ومن باب صفته صلى الله عليه وسلم، فالمسبل لا تقل له: أنت في النار مباشرة، بل قل له: يا أخي! لقد بلغنا عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ عن قدوتي وقدوتك؛ عمن بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، عمن أفنى عمره في الدعوة إلى الله أنه كان يقول: (لباس المؤمن إلى أنصاف ساقه)، فإن لم يستجب فستبقى في قلبه، فإن لم يكن اليوم يكن بإذن الله غداً، وإن لم يكن غداً يكون بإذن الله بعد شهر، وإن لم يكن بعد شهر يكون بإذن الله بعد سنة، أقل القيل يذهب وهو يراجع حساباته، لكن إن فاجأته بالنار لأول وهلة، وتخبره أنه من أهل النار فكيف تريد منه أن يخاطبك! وكيف تريد منه أن يكلمك، سيكلمك بأفظع القول، وسيرد عليك بقول قد لا تقبله، ولا يعني هذا أن تحفظ أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم في الكتب ولا تقال للناس، معاذ الله أن نقول هذا، ولكن العلم العام شيء، والنصيحة الفردية شيء آخر. ومن خلقه صلى الله عليه وسلم حسن معاملته لمن حوله، فلا يكون من حولك أشقى الناس بك، من أحبك لا بد أن تحبه، ومن أكرمك لابد أن تحسن إليه، وأولو الفضل يحتاجون إلى معاملة معينة، والضعفاء والفقراء من الناس تشبث بهم، فإنهم أقرب إلى الله من غيرهم إن كانوا مؤمنين، {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود:31]، والله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فالمقصود أن الخلق القويم كان هو خلق الأنبياء والمرسلين، ولما كان الحديث عن الاسترشاد بخلقه كان حتماً ولزاماً علينا أن نسترشد بخلق النبيين، وبخاصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

شرف اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم

شرف اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أخيراً أيها المؤمنون! نقول بعد هذه المحاضرة من (نبأ المرسلين) كوصية عامة: هناك أمور تفوت، وهناك أمور يمكن إدراكها، فأما ما فات وليس لك به حول ولا طول فمن السفه أن أكلفك أو أن يكلفنا أحد أن نحاول إدراكه وقد فات، وأما ما يمكن إدراكه فإنه ينبغي أن نسعى جميعاً لإدراكه، وإن من الأمور التي مضت وليس بيدي ولا بيدك ولا بيد غيرنا سبيل إليها: أن نكون صحابة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فنبينا صلى الله عليه وسلم قد أفضى إلى ربه، وأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم قد أفضوا إلى ربهم بعد أن نصروا دين الله وعزروه ووقروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه. فهذا الأمر ليس من المعقول أن نسعى إليه أو أن ندعو الله به، فإن هذا أمر قد مضى، والله جل وعلا لا يحب الاعتداء في الدعاء: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، لكن الأمر الذي يمكن إدراكه شرف إتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا بإذن الله إن أخلصت النية لله لا يمنعك مانع من اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فما الذي يصدك عن اقتفاء أثر الأنبياء والمرسلين وقد سمعت منه، وقد يهيأ الله لك رجلاً خيراً منا ينبئك خيراً مما قلنا؟ ما الذي يمنعك ويصدك أن تقتفي أثر الأنبياء والمرسلين؟ قال الله جل وعلا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. وهناك بشارة ولعلني مسبوق في توصيلها إليك، ولكن إن كانت قد سبقت إليك فاجعلها من التذكير، وإن لم تكن سبقت إليك فاجعلها من التبشير، خرج صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح إلى المقبرة ذات يوم -إلى البقيع- فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: وددت لو أني رأيت إخواننا، قالوا يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض -أي سابقهم إلى الحوض-، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض). فهذا باب رحمة مفتوح لكن أين المتبعون؟ وهذا باب رحمة مفتوح لكن أين المقتدون؟ وهذا سبيل المهتدين، وهو سبيل إلى رضوان الله جل وعلا فما لذي يمنعنا من أن نسلك طريق الأخيار؟ وما الذي يمنعنا من أن نسلك طريق الأبرار؟ إنها أخي! غمضة عين وتموت ثم إن أخلصت النية فالجنة، كان أبو حازم رحمة الله تعالى عليه يمر على السوق وهو أحد أئمة السلف الكبار فيقال له: يا أبا حازم هلا اشتريت لحماً؟ قال: ليس معي نقود حتى أشتري لحماً، قالوا: يا أبا حازم نصبر عليك حتى تملك النقود، قال: إن كانت المسألة مسألة صبر فأنا أصبر حتى أدخل الجنة. ثقة بأن الله جل وعلا أعد الجنة للمؤمنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108]. ختاما أيها المؤمنون! شكر الله لكم حضوركم، وشكر الله لكم إصغائكم، وأسال الله جلّت قدرته أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا. كما أنني أود أن أنبه إلى أن هذه المحاضرة تقام ولا يخفى على أحد أحوال المؤمنين المسلمين المستضعفين في الأرض؛ في ألبوسنا والهرسك خاصة، وفي الشيشان، وفي أرض كشمير وفي غيرها من بلاد الله جل وعلا، ولا ريب أن لهؤلاء المؤمنين المستضعفين حقوقاً عظيمة علينا، ولا ريب أن من تلك الحقوق أن نصرع إلى الله جل وعلا ونفزع إليه أن ينصرهم، فإني داع دعاء الضعيف المسافر؛ عل الله جل وعلا أن يجعل من تأمين أحدكم أمراً يقبل به هذا الدعاء، عل الله أن يرفع عن إخواننا الضر. اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت القوي العزيز، القاهر الغالب، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت في السماء عرشك، وفي الأرض سلطانك، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت نجيت نوحاً وإبراهيم، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت نصرت محمداً وصحبه، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، ولا يرد أمرك، سبحانك وبحمدك، نفزع اللهم إليك في هذه الساعة، نحن العباد الفقراء إلى عفوك ونصرك، نسألك اللهم لإخواننا المؤمنين في البوسنا والهرسك خاصة، وفي كل ديار العالمين يا رب العالمين أن تفرج كربهم وتنصرهم يا حي يا قيوم! اللهم كن لهم ولياً ونصيراً، اللهم كن لهم ولياً ونصيراً، اللهم كن لهم ناصراً ومغيثاً، اللهم كن لهم في هذا البرد القارس والشتاء الطويل رحمناً رحيماً، مغيثاً معيناً يا رب العالمين. اللهم إنهم عبادك الذين بطش بهم أعداؤك، اللهم رد كيد الأعداء في نحورهم، اللهم اهزم أعدائك، واشفِ صدور قوم مؤمنين يا حي يا قيوم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

ترقيق القلوب

ترقيق القلوب Q نرجو أن تعظنا موعظة؛ فإن القلوب قد قست، والعيون قد جفت، والقلوب قد علاها الران من كثرة الذنوب والأدران، فهلا وعظتنا جزاك الله خيراً. A على العموم إنما نعظ بما وعظ الله به، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا في السر والعلن، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].

نصيحة للشباب الذين يقعون في الذنوب فييئسهم الشيطان من الالتزام بالدين

نصيحة للشباب الذين يقعون في الذنوب فييئسهم الشيطان من الالتزام بالدين Q هناك مشكلة يعاني أغلب الشباب منها خصوصاً الذين يسيرون على طريق الهداية، وهي: أنه يذنب ذنباً أحياناً ثم يتوب ويعزم ألا يعود إليه، ثم يعود مرة أخرى، ثم يتوب، ثم يعود وهكذا، حتى يوسوس له الشيطان ويقول له: إما أن تلتزم بالطريق الصحيح وإما أن تترك، ثم سرعان ما يترك طريق الهداية، فهل هناك جزاك الله خيراً من توجيه لهؤلاء الشباب؟ A هذا الذي ذكره الأخ السائل الكريم الحق أنه أحد مداخل الشيطان على الشباب الذين منّ الله تبارك وتعالى عليهم بالهداية، وحتى يكون الأمر على بينة، نقعد مسائل: الأولى: ثق يا أخي! مهما بلغ صلاحك أنه يستحيل ألا ترتكب خطأ، فإن الأنبياء في قول بعض أهل العلم غير معصومين عن الصغائر، قال الله جل وعلا عن أبينا الأكرم -ونقول هذا من باب الدليل لا من باب غير ذلك-: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]. فالإنسان جبل على الخطأ، أو يكون منه الخطأ على وجه الأصح، ولو لم يكن مني ومنك خطأ فلِمَ إذاً عفو الله؟! ولِمَ إذاً فتح باب التوبة إذا كان الناس لا يخطئون؟ لكن Q ما يكون بعد الخطأ. المسألة الثانية: أن الإنسان يجاهد نفسه ألا يغلبه الشيطان، وألا يرتكب أمراً محرماً قدر الإمكان، وتذكر وعد الله ووعيده، وتذكروا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن كان منه الخطأ فإن السبيل واحد لا ثاني له وهو: التوبة والاستغفار، قال الله جل وعلا عن عباده الخلص: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، ولقد جرت سنة الله في الخلق أن الخلق يخطئون، فالشيطان يأتيك ويقول لك: أنت غير ملتزم غير كامل، وأنت فعلت بالأمس كذا وقبلها فعلت وفعلت، فتقع هذه في النفس فيترك الشاب الدين بأكمله، والله جل وعلا يقول: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)) لِمَ يا ربنا؟ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. فإذا غلبك الشيطان في أمر فاغلبه في أمر ثانٍ، وائت بالحسنة، وإذا غلبك الشيطان على سيجارة فعلتها بعد انقطاع طويل فادخل المسجد وصلّ ركعتين، علّ أثر تلك السيجارة تنمحي، وأما أن تذهب إلى قرين آخر وتخبره أنك أشعلت سيجارة فيقول لك بالعامية: هي خربانة خربانة، خذ واحدة ثانية، ويمشي الأمر حتى يفتر ما فيك من قوة، وحتى تبعد عن دين الله جل وعلا، لكن اكتم تلك المعصية في نفسك ولا تخبر بها أحداً، واجعل حسرتها في قلبك، وتضرع إلى الله جل وعلا في أن يغفرها لك، واجعلها دافعاً لك في كثرة التوبة إلى الله، وإن رأيت المسألة طالت: فخذ سيارتك واذهب إلى مكة -وهي قريبة من هاهنا- واعتمر وازدلف إلى الله بركعتين عند باب الكعبة، وتقرب إلى الله بالدعاء، في حجر إسماعيل إلى غير ذلك، عل الله جل وعلا أن يمحو ذلك الذنب، أما أن تأتي إلى نفسك، وتقول: متى أصلح؟ متى أكتمل؟ فهذا مدخل شيطاني دخل الشيطان به على كثير من إخواننا الذين منّ عليهم بالهداية. نسأل الله أن يحيطهم علماً بهذه المسألة، ويجنبهم مواطن الزلل، والله أعلم.

نصيحة لمن يفعلون فاحشة اللواط

نصيحة لمن يفعلون فاحشة اللواط Q ما هي نصيحتك لمن يفعل اللواط؟ وبماذا تعظه وخاصة أن هذه الفعلة القبيحة كثر انتشارها في هذا الزمن؟ A إنا لله وإنا إليه راجعون، أيها المؤمنون! إن المصارحة أحياناً أو دائماً هي السبيل لحل كل معضلة ومشكلة، وإن فاحشة اللواط قد كثرت وانتشرت -عياذاً بالله جل وعلا- رغماً عن كثرة الدعاة والعلماء والوعاظ، وعن الدولة جزاها الله تعالى خيراً التي تقيم الحدود، وعن كثرة حرص المربين والوالدين وغير ذلك إلا أنه مع ذلك ما زالت هذه الفاحشة فيها شيء من الانتشار، وإليك يا أخي وإلى المؤمنين جميعاً نقول: إن الله جل وعلا سخط على قوم لوط، وسلط عليهم العذاب الشديد من أجل هذه الفاحشة العظيمة، قال الله تبارك وتعالى في قصة قوم لوط: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83]، وإنه من أعظم الفواحش أن يأتي الرجل الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يفعل فعل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، وقديماً قلنا في محاضرة غير هذه: إن المفعول به هنا في قوله صلى الله عليه وسلم محمول على من فعلت به رضاً منه لا على من فعلت به كراهية واغتصاباً. وإن مما ساعد على انتشارها قلة الورع، وإدمان النظر إلى الغلمان، وقلة الخوف من سخط الله جل وعلا وأليم عقابه، وصحبة الأقوام الذين لا خلاق لهم، والتأثر بما يشاهد في المجلات الماجنة أو في الأفلام الخليعة، وانصراف كثير من الشباب عن الزواج، وصرف تلك الشهوة إلى ما حرم الله جل وعلا إلى الزنا واللواط، فالله الله أيها المؤمنون! في أنفسكم وفي أولادكم وفي جيرانكم خيراً من أن يصيبهم هذا الداء العظيم، عافانا الله وإياكم من كل شر وكل سوء، وبلغنا الله وإياكم العفو والعافية، والله تعالى أعلم.

كيفية دعوة بعض الشباب النصارى

كيفية دعوة بعض الشباب النصارى Q إني شاب طالب في إحدى المدارس، ويدرس في هذه المدرسة طالب مسيحي، فدلني جزاك الله كل خير هل أبدأه بالسلام؟ وكيف أستطيع دعوته علماً بأنه يدرس معنا الكتب الدينية، ويقرأ القرآن، جزاك الله خيراً؟ A أقول: ما ذكرته في أن من زملائك في المدرسة شاب مسيحي فإننا نوصيك بما يلي: أولاً: أما بدؤه بالسلام فهذا أمر قد جاء فيه نص بالنهي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا اجتهاد مع النص، فلا تبدأه بالسلام. ثانياً: أن تنوي في قلبك دعوته، وأنما ستقوله وتخبره وملاطفتك إياه داخلة ضمن جهودك في دعوته إياه، ثم يعقب ذلك أن تحاول أن تجامله في القول، وأن تعطيه صورة طيبة عن دين الله جل وعلا العظيم، وأن تستغل أوقاتاً معيناً وفرصاً قد تتاح لك في التنبيه أو لفت النظر أو التركيز على مسألة بعينها تخبره من خلالها بما يشمل عليه هذا الدين من صفات ومبادئ قويمة لا تخفى إلا على من أغفل الله قلبه، ولكونه صغيراً في السن طالباً في المدرسة، ولكونه واحداً ضمن جماعة من المؤمنين فإن الغالب أن يقل تأثره عليكم؛ لذلك من الممكن أن تؤثروا أنتم عليه، ولا تقابلوه بالسخرية منه والاستهزاء به، ولا التحلق والتحزب ضده، ولكن يكون بالكلمة الحسنة، لكن الأهم في الأمر أن يشعر في كل كلمة تعطيه إياها أنك تفعل هذا لأن الدين الإسلامي يمليه عليك، قال الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية، ومن ذلك: إهداؤه هدية، دعوته إلى منزلك، دعوته عن طريق الأشرطة النافعة خاصة أشرطة الفيديو التي فيها المناظرات القيمة وما شابه ذلك، التي تجلو بصيرته، وتنير قلبه؛ عل الله جل وعلا أن يرزقك أجر هدايته، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن ابتلي بأصحاب سوء يأمرونه بالمنكر وينهونه عن المعروف

نصيحة لمن ابتلي بأصحاب سوء يأمرونه بالمنكر وينهونه عن المعروف Q أنا شاب أحب الخير والصالحين، ولكن الله ابتلاني برفقة سوء يأمرونني بالمنكر وينهونني عن المعروف، فلم أركع لله ركعة، ولم أسجد له سجدة، وكل سوء وقبيح دلوني عليه، وسهلوه لي، فماذا أفعل أرشدني جزاك الله خيراً، وهل من كلمة لي ولإخواني الذين يسيرون على منهجي عن النار وما أعد الله عز وجل فيها للعباد العاصين؟ A يا أخي! يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، وإنه والله من أعظم ما يعقب الحسرة في القلب أن يوجد في بلاد مسلمة من لم يسجد لله جل وعلا سجدة، ومن لم يركع لله جل وعلا ركعة. إن الله تبارك وتعالى يا بني! غني عنك وعن كل عباده، وإن سجودك وركوعك لله إنما هو عائد أجره لك أنت، قال الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46]، وما أضل كثيراً من الناس اليوم -والهداية بيد الله- إلا رفقاء السوء، وإن رفقاء السوء هم الذين نحّو بـ أبي طالب عن الملة الحقيقية لما تكالبوا عليه عند وفاته، ولا ريب أن ضعف شخصيتك -مع اعتذاري إليك- هو الذي جعل هؤلاء الأقوام يتسلطون عليك، إنها يا بني أو يا أخي! نفس واحدة إما إلى جنة وإما إلى نار، قال الله جل وعلا: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، فإن كان هؤلاء الأقوام، وهؤلاء الأصحاب، وهؤلاء الكرماء، وهؤلاء الخلطاء أحب إليك من الله ورسوله، أو كانوا هؤلاء سيمنعوك من غضب الله وسخطه، أو كان هؤلاء يقدرون على أن يدخلوك الجنة فأنا أقول لك: اتبعهم واترك طريق الله، لكنك تعلم وأنا أعلم وغيرنا يعلم: أن الأمور كلها بيد الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:41 - 42]. فالله جل وعلا هو الغني بذاته، وهو الذي يمنعك منهم، ويمنعك من غيرهم، فاستعصم بالله جل وعلا، ولعله في قدومك هذا اليوم إلى هذا المسجد لشهود هذه المحاضرة رحمة الله من الله تبارك وتعالى بك، فقد عرفت فالزم ولا يصدنك الشيطان عن آيات الله. وتقول: حدثني عن النار، هل أحدثك عما أعده الله جل وعلا من عذاب أليم وعقاب؟ لو حدثتك عما يعده مدرس لطلابه إذا تركوا الواجب لهالني وهالك الأمر، فكيف بما أعده رب السماوات والأرض! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:68 - 72]. وإني أسأل الله جلت قدرته في هذا المقام الكريم أن يجعلني وإياك والحاضرين والسامعين ممن ينجيهم الله جل وعلا في يوم الوعيد. ثم يا بني! كما تخاف من النار فاطمع في الجنة، ألم تفكر يوماً من الدهر في لذة النظر إلى وجه رب العالمين، والله إنني الآن في حالة سفر، وإنني مشتاق لرؤية أبنائي، فكيف لا نشتاق إلى رؤية وجه رب العالمين تبارك وتعالى، أخرج مسلم في الصحيح من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم. هو أعظم من رؤية وجه الله جل وعلا). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، والله تعالى أعلم.

خواطر حول سورة الصافات

خواطر حول سورة الصافات لله عز وجل أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، فأقسم سبحانه بالصافات وهي الملائكة التي تصف بين يدي ربها. والملائكة عباد الله عن عبادته لا يفترون، وهم بأمره يعملون. لقد ذكر الله عز وجل في سورة الصافات أنه جعل النجوم رجوماً في السماء يرمى بها كل شيطان مارد ممن يسترقون خبر أهل السماء. كما ذكر الله سبحانه في سورة الصافات ما ابتلى به الخليل إبراهيم عليه السلام من الأمر بذبح ابنه إسماعيل، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.

وقفات مع قول الله تعالى: (والصافات صفا ولهم عذاب واصب)

وقفات مع قول الله تعالى: (والصافات صفا ولهم عذاب واصب) بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع نهجه، وسلك مسلكه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع من وقفاتنا القرآنية مع كتاب ربنا جل جلاله، وهي وقفات مع سورة الصافات، والمنهج في هذه الوقفات هو كما سلكناه في وقفاتنا مع السور التي مضت ومرت من سورة ص ومريم، وغيرها. الوقفة الأولى من سورة الصافات مع فواتح السورة، ومع قول ربنا جل جلاله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:1 - 9]. استهل ربنا جل جلاله هذه السورة الكريمة بواو القسم، وأقسم جل جلاله بملائكته الكرام حال صفوفها ووقوفها بين يديه، وحال زجرها للسحاب، وحال تلاوتها لآياته جل وعلا، فأقسم بها وهي صافة، وأقسم بها وهي زاجرة، وأقسم بها وهي تالية وجواب القسم ذلك النبأ العظيم، والخطب الذي تعبد الله به الخلائق أجمعين {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4]. والحديث في فواتح هذه السورة يتضمن أموراً ثلاثة: الحديث عن الملائكة، والحديث عن السماء، والحديث عن الجن.

من هم الملائكة

من هم الملائكة فأما الحديث عن الملائكة: فإن الملائكة أحد خلق الله جل وعلا العقلاء، وخلق الله العقلاء فيما نعلم الملائكة والجن والإنس أي بني آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم من ما ذكر لكم) أي من طين، فقد ذكر في القرآن أنه قد خلق من طين، وهؤلاء الملائكة ليسوا بنات لله ولا أولاداً، ولا شركاء معه ولا أنداداً بل هم خلق من خلقه يأتمرون بأمره وينتهون عند نهيه، قال الله جل وعلا: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ونحن معشر المؤمنين مطالبين بالإيمان بهم، كما في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) إلى آخر الحديث، وهؤلاء الملائكة عالم غيبي لا نراه، ولكننا نؤمن به طبقاً لما ثبت في صحيح الكتاب وصحيح السنة عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ فنقول أولاً: أما من ناحية خلقهم، فإنهم أقوام عظيمي الخلقة، قال الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وقال صلى الله عليه وسلم كما بينا في درس سابق: (أُذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام)، ورأى نبينا صلى الله عليه وسلم واحداً من هؤلاء الملائكة على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها، وهو جبرائيل عليه الصلاة والسلام إبان فترة الوحي ما بين السماء والأرض له ست مائة جناح، قد سد ما بين المشرق والمغرب؛ فهذا عظم خلقهم، فسبحان خالقهم تبارك وتعالى وبحمده، فأول ما يلفت النظر في هؤلاء الملائكة عظم خلقهم، ثم يعقب ذلك ما أكرمهم الله به من خلق، قال الله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16] فوصفهم الله بكرم الصفات، وكرم الأفعال، وكرم الخلق، ووصفهم الله جل وعلا بالبر وهم كذلك، فقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً في بيته قد انكشفت فخذاه أو ساقه، فاستأذن عليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلم يتغير صلى الله عليه وسلم على حاله، ثم دخل عليه عمر فلم يتغير صلى الله عليه وسلم على حاله، فلما استأذن عليه عثمان رضي الله تعالى عنه غطى صلى الله عليه وسلم فخذيه أو ساقيه واعتدل في هيئته، فلما خرج قالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تسأله عن هذا؟ فقال: (يا عائشة ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة) فهذا فيه مزية لـ عثمان، وفيه إشارة إلى أن ملائكة الله جل وعلا يستحيون كما يستحيي بني آدم، وهذا مندرج ضمن ما وصفهم الله جل وعلا به، لأنهم كرام بررة. أما مساكنهم فإن مساكنهم في السماء، قال الله جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت:38] أي الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]. وأما عددهم فلا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] وحسبك أن تعلم شيئاً من عددهم إذا علمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام أو يجر كل زمام سبعون ألف ملك)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن لهم البيت المعمور -مواز للكعبة التي هي للمؤمنين في الأرض- يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يأتون عليه كرة أخرى إلى يوم القيامة، أمور يقطر دونها الخيال فضلاً عن العقل، فسبحان من هذا خلقه، وسبحان من هذه عظمته، وسبحان من يسبح كل شيء بحمده. أما عبادتهم فإن الملائكة مجبولون على الخير، لا يعصون الله ما أمرهم، لا يختصم في أنفسهم: الخير والشر كبني آدم والجن، لكنهم مجبولون مفطورون على عبادة الله تبارك وتعالى {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وهؤلاء الملائكة لعظيم علمهم بالله جل وعلا فهم لذلك من أعظم الخلق عبادة لله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبرائيل كالحلس البالي من خشية الله جل وعلا) فهذا جبرائيل على عظيم خلقته رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء كالحلس البالي، والحديث رواه بعض الأئمة بإسناد حسن، من حديث جابر، وهذا يدل على عظيم خشية هذا الملك الكريم، وغيره من الملائكة في هذا الأمر سواء، بل إنه صح عنه صلى الله عليه وسلم كما روى ابن جرير وغيره من الأئمة من حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة شديدة، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام، فإذا سمع لذلك أهل السماوات صعقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، ثم بعد ذلك يمر جبريل على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير) فصنيعهم هذا لعلمهم بعظمة ربهم تبارك وتعالى، والملائكة جل عبادتهم التسبيح وذكر الله جل وعلا، وجل ذكرهم تسبيح الله تبارك وتعالى، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما أفضل الذكر يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الذكر ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده) فأكثروا أيها المؤمنون من قول: سبحان الله وبحمده، فإنه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الذكر، وهو جل ذكر الملائكة لربها تبارك وتعالى.

وظائف الملائكة

وظائف الملائكة رؤساء الملائكة أربعة: جبرائيل، وإسرافيل، وميكال، وملك الموت؛ وكل ملك من هؤلاء الملائكة الأربعة موكل بالحياة. فأما جبريل فموكل بحياة القلوب، فلذلك ينزل بالوحي على من يشاء الله من رسل الله تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]. وميكال موكل بحياة بني آدم مما فيه معاشهم فينزل بالقطر من السماء. وإسرافيل موكل بنهاية حياة الكون كله، فلذلك هو الذي ينفخ في الصور، قال الله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]. وملك الموت وردت بعض الآثار أن اسمه عزرائيل، لكن هذا ليس موجوداً في صريح الكتاب ولا في صحيح السنة، ولكن أكثر أهل العلم على أن اسمه عزرائيل والله تعالى أعلم، وهذا ملك الموت موكل بحياة كل إنسان بذاته؛ فهو الذي يقبض أرواح بني آدم، قال الله جل وعلا: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]. ونبينا صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في السنة أنه كان إذا قام من الليل يجمع بين رؤساء الملائكة فيقول ضمن حديث طويل: (اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكال أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وهؤلاء الملائكة أيها المؤمنون أعطاهم الله جل وعلا القدرة على التشكل، فيتشكلون بأمر الله حيث يريدون، أو حيث ينفع ذلك التشكل، ومنه تشكلت الملائكة وجاءت لإبراهيم -كما بينا في وقفاتنا مع سورة هود- في صورة أضياف، قال الله جل وعلا: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر:51] وإلى الصديقة مريم جاء جبرائيل في صورة بشر تام الخلقة، قال الله جل وعلا: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم جاء جبرائيل في صورة دحية الكلبي أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكما في حديث عمر في الصحيح وغيره: جاء رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ولا يرى عليه أثر السفر، ولما انقضى الأمر وانتهت المهمة قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) فالمقصود أن هؤلاء الملائكة لديهم القدرة على التشكل، وهؤلاء الملائكة تختلف وظائفهم، أسند الله جل وعلا -لحكمة أرادها وهو الغني عنهم وعن غيرهم- إليهم مهمات، فمنهم حملة العرش، وهم فيما يظهر أعظم الملائكة خلقاً، قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، وقال الله جل وعلا في الحاقة: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] وكما قلنا فيما يظهر أن هؤلاء حملة العرش هم أعظم الملائكة خلقاً لأنهم يحملون أعظم المخلوقات وهو العرش؛ ثم منهم الموكلون بحفظ بني آدم، قال الله جل وعلا: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، ومنهم الموكل بكتابة أعمال بني آدم، قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فالذي على اليمين يكتب الحسنات، والذي على اليسار يكتب السيئات، ومنهم من وكله الله جل وعلا بسؤال العبد في قبره، وهم المعروفان بمنكر ونكير، ومنهم موكل بغير ذلك، كالملك الذي جاء في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما: أنه عندما تبلغ النطفة في الرحم أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- يبعث إليه ملك، فيؤمر بكتابة أربع كلمات: بكتابة عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد؛ المقصود أن الموكل بهذا ملك من ملائكة الله جل وعلا. فهؤلاء الملائكة تختلف مهماتهم ووظائفهم إلا أن جل أمورهم في كل حال هو ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله تعالى) ينبئ عليه الصلاة والسلام عن عظم ذكر وعبادة وتسبيح هؤلاء الملائكة المقربين لربنا جل جلاله. كذلك من الأمور التي يوكلها الله جل وعلا إلى الملائكة وتندرج ضمن علاقة الملائكة ببني آدم، أن الملائكة تستغفر للمؤمنين، وقد مضت الآية في استغفار حملة العرش للمؤمنين، ومنه أن الملائكة تبشر المؤمنين أنبياء كانوا أم غير أنبياء، فأما الدليل على أنهم يبشرون الأنبياء ما ورد أنهم بشروا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالولد، وبشروا زكريا {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:39]، وبشروا النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (جائني جبريل فقال: يا رسول الله هذه خديجة أتتك بطعام أو إدام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأها من الله ثم مني السلام وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أن رجلاً خرج من قرية إلى قرية ليزور أخاً له في الله فأرصد له في مدرجة الطريق، أي في عرض الطريق ملكاً فسأله: لم تذهب إلى فلان؟ فأخبره أنه يحبه في الله، لا لنعمة يربها، له فأخبر ذلك الملك ذلك العبد بقوله: (وإني رسول الله إليك أن الله يحبك لأنك أحببته فيه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل على أنه ليس شرطاً أن يكون فيمن تأتيه الملائكة أن يكون نبيناً، فقد تأتي الملائكة رجلاً غير نبي كما في حديث الأبرص والأعمى والأقرع في الملأ من بني إسرائيل، وهذا دليل على أن الملائكة تبتلي بني آدم، ولذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه يوصي أصحابه ويقول لهم: قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جن يختبر صنيع الله فيكم، أي ربما يأتيك يوماً من الأيام سائل يسألك أن تعطيه، وهو ليس محتاجاً، قد لا يكون إنساً وقد لا يكون جناً، قد يكون ملكاً من الملائكة يختبر صنيعك فيما آتاك الله جل وعلا. وهذا استنباط من عمر رضي الله تعالى عنه إن صحت الرواية إليه، لكن الحديث في بني إسرائيل: في الأقرع والأعمى والأبرص يعضد هذا الاستنباط الذي ذهب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ومن وظائف الملائكة وعلاقتها بالمؤمنين: الذود والدفاع عنهم، ولذلك أنزل الله الملائكة مسومين يوم بدر يدافعون عن دين الله جل وعلا، ويعضدون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه في يوم بدر، وهذا وارد في صريح القرآن، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما توعده أبو جهل أن يفعل به ويفعل إذا هو سجد لله كرة أخرى عند الكعبة، فجاء ذات يوم ونبينا عليه الصلاة والسلام ساجد بين يدي الله عند الكعبة فاستنفرت قريش أبا جهل فقالوا له: يا أبا الحكم اذهب واصنع ما وعدت به فعاد أبو جهل يرجع القهقرى ويضع يديه، فلما سألوه، قال: والله لقد رأيت بيني وبينه هولاً وخندقاً وناراً وأجنحة، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو دنى مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) فهذا من دفاع ملائكة الله المقربين لرسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أمور تثني الملائكة على أصحابها

أمور تثني الملائكة على أصحابها من مهمات ووظائف وعلاقات الملائكة المقربين مع المؤمنين أن هناك أعمالاً يثنون ويصلون على أصحابها، وهناك أعمال تخالف شرع الله تلعن الملائكة من يفعلها؛ فأما الأعمال التي تثني الملائكة على صانعيها: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته، والحوت في البحر، والنملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير) وهذا فيه بشرى لمن تصدروا لتعليم الناس، وتصدروا لإرشاد الناس إن هم أخلصوا النية لله تبارك وتعالى، وأرادوا بذلك وجه الله، كما أن الملائكة تصلي على أهل الصف الأول فإن لهم مزية ليست لغيرهم؛ لأن جلوسهم ووقوفهم في الصف الأول يدل على أنهم يغدون مبكرين إلى الصلاة. وهنا ننبه أن بعض إخواننا غفر الله لنا ولهم قد يأتي متأخراً إلى الصلاة، ومع ذلك يريد أن يكسب تلك الفضيلة بدون وجه حق، فتراه يقطع الصفوف، أو يتخطى الرقاب، أو يزاحم المؤمنين بحثاً عن مكان في الصف الأول، ولو كان الأمر متى ما دخل الإنسان المسجد ووجد محلاً في الصف الأول لما كان لأهل الصف الأول مزية، ولكن المزية تكمن في أن أهل الصف الأول في الغالب إن كان المسجد مزحوماً يأتون مبكرين لينالوا هذه الفضيلة؛ أما أن يأتي العبد وقت الإقامة ثم يتخطى رقاب المؤمنين، ويزاحم زيداً وعمراً، وربما وقف بين رجلين كبيرين طاعنين في السن، أو أحدهما مريض، أو غير ذلك ممن يبتلي الله به عباده في الظاهر والباطن فهذا مما لا ينبغي لطالب العلم ولا ممن التزم على شرع الله أن يفعله، فإنه إما أن يغدو مبكراً وإما أن يرضى بالمكان الذي انتهى الصف إليه. كذلك من الأعمال التي تثني الملائكة على أصحابها: الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة، تقول الملائكة: اللهم اغفر له الله ارحمه ما دام في مصلاه، ولا ريب أن في هذا مزية عظمى وفضيلة خاصة وعظيمة لمن ينتظرون الصلاة بعد الصلاة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل بأنه الرباط قال: (فذالكم الرباط فذالكم الرباط فذالكم الرباط) هذه بعض الأعمال التي تصلي الملائكة على أصحابها.

أمور تلعن الملائكة من يفعلها

أمور تلعن الملائكة من يفعلها إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة لتلعن المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشها فأبت فتركها زوجها أو نام عنها وهو غاضب عليها، وفي هذا حث للمؤمنات أن يتقين الله جل وعلا في الأزواج، وأن يعلمن أن من وسائل رضوان الله جل وعلا المنصوص عليها في الكتاب والسنة أن تلتمس المرأة خدمة زوجها والقيام بحقه على الوجه الأكمل، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما هم بالسجود له، ومعاذ قد تأثر بأهل الشام قال: إني وجدت عامتهم يسجدون لأساقفتهم قال: (يا معاذ إن هذا لا ينبغي أن يكون إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها) فهذا بيان لحق الزوج على زوجته، وقد يكون لكثير من تأثير وسائل الإعلام المسموعة منها والمرئية تبدل وخلل في هذا الموضوع، لكن المؤمنات إنما يأخذن دينهن من كتاب الله وصحيح سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا السمع والطاعة العمياء، فإن السمع والطاعة مقيدة في طاعة الله جل وعلا، أما إن كان ذلك في معصية فإن ذلك أمر لا يجوز لا للزوج ولا لغيره، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وممن تلعنهم الملائكة: من أشار إلى أخيه بحديدة، قال صلى الله عليه وسلم: (تلعنه الملائكة حتى يضعها، وإن كان أخوه لأبيه وأمه) وهذا قطع لدابر الشيطان ولنزغاته، وكم من أخ أراد أن يداعب أخاه، أو يمازحه، أو يلعب معه بشيء من قطع السلاح بالحديد أو بالبندقية أو بغيرها فيكون وراء ذلك الشر المستطير، ولما كان صلى الله عليه وسلم أنصح الناس للناس، وأرحم الخلق بالخلق قطع على الشيطان دابره، وقطع الأمور التي توصل إلى العداوة والشحناء والبغضاء بين المؤمنين، فأخبر أن الملائكة تلعن من أشار إلى أخيه بحديدة، وإن كان ذلك الأخ قريباً منه، أي ولو كان شقيقاً له من أبيه أو من أمه. كما أن من الأمور التي تلعن الملائكة صاحبها ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام من عير إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً). إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتاز عن غيرها من المدن، شاء الناس أم أبوا، أدرك الناس حقيقة ذلك أم لم يدركوه؛ فإن الله جل وعلا اختارها أن تكون مهاجراً لنبيه، ولما فتح الله مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم وهي داره الأولى ما مكث صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بالمقدار الذي تم فيه الفتح، ثم عاد راجعاً صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة، واختار الله تربتها، وطينتها أن تكون قبراً لجسده الشريف عليه الصلاة والسلام، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال -يذكر رغبة الناس عنها-: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) فهذه المدينة بهذه المزية التي خصها الله بها، كما خص مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ودعا بالبركة لأهلها في كيلهم، ودعا بغير ذلك لأهلها عليه الصلاة والسلام، فكون الإنسان يحدث فيها حدثاً أو يأوي فيها محدثاً، هذا مستوجب لغضب الله ولعنته، ومستوجب للعنة الملائكة، ومستوجب لعنة الناس أجمعين، فليتق العبد المؤمن مسئولاً أو عامياً أو عالماً أو داعية أو أياً كان رجلاً أو امرأة وهو يقطن ويسكن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدث فيها نهي عنه، وإن كان الحرام حرام في المدينة وحرام في غيرها، لكنه تتأكد حرمته في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق ذكره. وهنا نعرض بعض الأعمال التي فيها شر محض، ولا يقبل التأويل، ولا الأخذ ولا العطاء، ولا يقبل مسألة النسبة في كونه حرام في المدينة أو غيرها؛ إلا أنه في المدينة أشد حرمة: أشرطة الفيديو ذات الأفلام الخليعة، فإن بيعها والاتجار بها في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر فيه من عظيم الحرمة ما فيه، فبيعها في أي مكان حرام المساعدة ونشرها على ذلك بين البيوت التي هي جوار لمحمد صلى الله عليه وسلم أمر حرمه الله، وحرمه رسوله، وفيه من الإثم ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا وكذلك المحلات التي تبيع ما يسمى عند العامة وعند الناس بالجراك أو بالشيشة فإن بيعها حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم وفق ما فهمه العلماء من صحيح الكتاب وصريح السنة، ولا ريب أن الاتجار بها في مدينة كان فيها الوحي والتنزيل وجرى في طرقاتها جبرائيل وميكائيل أمر فيه من الشناعة ما لا يخفى على كل ذي عقل حصيف. وأنا أتكلم عن الأمور ذات الشر المحض الذي لا يقبل الرد ولا التأويل، وإلا فهناك أمور أخر لكن تدخل فيها مسألة النسبة، يعني إذا استخدم في الحرام حرام، وإذا استخدم في الحلال حلال. بعض ما يلبسه النساء من ألبسة وفساتين لا يقبل أن تلبسها المرأة المؤمنة أبداً، وقد يقول قائل ربما تلبسها المرأة لزوجها والزوج يجوز له أن يرى كل شيء من زوجته بلباس أو بدون لباس، نقول إن هناك مما يعلمه جميع الناس يباع لا يقبل أبداً أن تلبسه المرأة في بيت زوجها، أي أن موديله إن صح التعبير أو تصميمه أو ما يباع من أجله لا يعقل أن تلبسه المرأة أما زوجها، إنما تلبسه في الأفراح، والمناسبات، وفيه من الخلاعة والمجون والدعوة إلى الفواحش ما حرمه الله ورسوله مما لا يماري فيه اثنان من العقلاء، فلا ريب أن تسويقه ونشره والتجارة وبيعه في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إثم عظيم، ولذلك فإنني أقول للأخوات نصحاً لله: إن هذه الأمور إنما يدعو فيها أقوام لا خلاق لهم يريدون أن يحيدوا بكن عن طريق الله جل وعلا، وإنها يا أختاه نفس واحدة إما جنة وإما نار، وإنني أربأ بعقلك وعقل كل مؤمنة أن تتخذ طريقاً موصلاً إلى غضب الله فلا خير في لذة من بعدها سقر، وسيأتي بيان هذا في حديثنا عن وقفة أخرى عند منازعة الإنسان لرغبته وما أمر الله جل وعلا به في هذه الدرس. فهذا مندرج ضمن الأعمال التي تلعن الملائكة أصحابها أو القائمين بها، ونحن نبين هذا حتى يكون المؤمن على بينة من أمره، فيعلم طريق الله فيتبعه، ويعلم أي الطريق الذي يحيد بالعبد عن طريق الله جل وعلا ويجتنبه. إن ولي نبينا صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الملائكة جبرائيل عليه الصلاة والسلام؛ فإن اليهود جاءوا إليه عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا أبا القاسم إنا سائلوك عن أمور لا يعلمهن إلا نبي فإن أجبتنا عليها اتبعناك وإن لم تجب عليها كان الفصل بيننا وبينك، فأخذ عليه الصلاة والسلام عليهم العهود والمواثيق ما أخذه يعقوب على بنيه أن يبروه ويأخذوا بقوله إن هو أجابهم، فقالوا: له ما علامة النبي؟ قال: (تنام عينه ولا ينام قلبه) قالوا: كيف ينزع الرجل إلى أمه وأبيه؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أما علمتم أن ماء الرجل ثخين أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهم غلب نزع الولد إليه) فقالوا له: ما الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ قال: (أما علمتم أن يعقوب -أي إسرائيل- اشتكى عرق النساء فنذر لله إن عافاه الله وشافاه أن لا يأكل من لحوم الإبل ولا يشرب من ألبانها) فقالوا له: ما الرعد؟ قال: (ملك من الملائكة بيده مخراق من نار يسوق السحاب بيديه) فقالوا: يا أبا القاسم بقيت واحدة، فإن أجبتنا إليها اتبعناك قال: (قولوا) قالوا: من وليك من الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (وليي من الملائكة جبريل، وما بعث الله نبياً إلا وهو وليه من الملائكة) فقالوا: إذاً نفارقك، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، لو قلت أن وليك ميكال الذي ينزل بالقطر والرحمة لاتبعناك، يريدون أن يفرقون بين ملائكة الله، فأنزل الله جل وعلا قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. وتتلخص الوقفة مع الملائكة في الإيمان بهم، وتصديق ما أخبر الله ورسوله عنهم، والدعوة إلى أن يتمثل الإنسان الأعمال التي فيها مرضات لله، ويجتنب الأعمال التي فيها معصية لله والتي توجب سخط الله وغضبه.

وقفة مع قول الله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)

وقفة مع قول الله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) الوقفة الثانية مع قول ربنا تبارك وتعالى -وهو مندرج في الوقفة الأولى-: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:6 - 8] أخبر الله فيها أنه جعل النجوم في السماء لأمور ثلاثة: ثنتين في هذه الآية: الأولى: أنها زينة، والثانية: حفظاً من كل شيطان مارد، والثالثة: جاءت في سورة أخرى قال الله جل وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]. ثم نقف مع قول الله جل وعلا: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:7 - 8] وهذا يدخلنا في الحديث عن الجن. الجن أيها المؤمنون خلق من خلق الله، ولكونهم عالم غيبي فإن الحديث عنهم تكتنفه دائماً الأساطير، والأمور ذات الرعب والخوف، ولذلك جرت العادة عند العامة أن يختبروا شجاعة الرجل بأن يحدثونه عن الجن، فإن صبر قالوا: هذا رجل شجاع، وإن بقي يرتعش أو أصابه الخوف، قالوا: هذا رجل فيه خوف؛ لأنه يخاف من الجن، والصواب أن يقال: إن الجن بالنسبة لنا عالم غيبي لم نره؛ ولذلك سموا بالجن لأنهم مستترون، ولذلك يسمى الجنين في بطن أمه جنيناً لأنا لا نراه، وسميت الجنة جنة لأننا لم نرها، والله جل وعلا قال في القرآن: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] أي أظلم واستتر وغطى ما فيه، فهذا سبب تسميتهم بالجن، والظاهر أن أباهم إبليس عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وإبليس كما هو معلوم خلق من نار، ولذلك فيهم الطيش؛ وهؤلاء الجن مكلفون بالأوامر والنواهي كبني آدم قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] وهؤلاء الجن لديهم كما لدى الملائكة القدرة على التشكل، لكن قال العلماء: إن الفرق في قدرة الملائكة وقدرة الجن على التشكل أن الملائكة لا تحكمهم الصورة بخلاف الجن فإنه تحكمهم الصورة، وبيان هذا لو أن عبداً من عباد الله قابل جنياً في صورة أي مخلوق في صورة قط، أو في صورة كلب، أو في صورة حية، أو في أي صورة كانت فقتل ذلك العبد ذلك الجني في صورته وأصابه في مقتل فإن الجني يموت لأن الصورة تحكمه، ولذلك روى مالك في الموطأ أن أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان حديث عهد بعرس فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أن يذهب إلى عرسه أي إلى زوجته، فلما ذهب ذلك الصحابي وجد امرأته خارج باب الدار فأخذته الغيرة فسل سيفه يريد أن يعاقبها، فأشارت إليه أن ادخل الدار، فلما دخل الدار فإذا بحية قد طوقت سريره أو فراشه، فضربها بالسيف فلا يدرى أيهما أسبق موتاً ماتت الحية ومات ذلك الصحابي، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في المدينة إخواناً لكم من الجن عوامر) أي يعمرون البيوت (فحرجوا أو استأذنوا عليهم ثلاثاً) والمقصود أن الصورة التي يتلبس بها الجني تحكمه في قضية حياته أو في قضية موته والله تعالى أعلم، هذا بعض ما علمناه، أو ما اطلعنا عليه من أقوال أهل العلم رحمهم الله أحياء وأمواتاً، والجن لديهم قدرة قوية على القيام بمشاق الأمور، ولذلك سخرهم الله لنبيه وعبده سليمان عليه الصلاة والسلام، قال تبارك وتعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36 - 37] ومعلوم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أراد ممن حوله أن يأتوا بعرش بلقيس، قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38] فحكى الله في القرآن قول عفريت من الجن: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39] فهذا دلالة على ما أوتي هؤلاء الجن من قوة وسلطان، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الجن لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً. ولما كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها، فإن الجن كانت في السابق لها مقاعد في السماء يسمعون ما تتذاكره الملائكة من وحي الله جل وعلا، فينزلون بتلك الكلمة إلى الناس ويعطونها إلى الكهنة الذين يتعاملون معهم فتزيد عليها الكهنة بعضاً من الكذب فينتشر هذا الأمر بين الناس ويصدقونه، فلما أراد الله أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ملأت السماء حرساً وشهباً حتى لا يستمع الملائكة شيء فيدخلون على القرآن ما ليس فيه، وهذا من حفظ الله لدينه، ومن حفظ الله لكتابه، ومن إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإن أردت الدليل على ذلك فاقرأ قول الله جل وعلا في سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا} [الجن:8 - 9] أي في السابق {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9] أي بعد البعثة {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] فهذه الشهب تقذف أولئك الجن حتى لا يسترقون السمع وحتى لا يسمعون شيئاً من وحي الله إلى ملائكته، ولا مما تتذاكره الملائكة مما يخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا فيه إكرام لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه. ولما رأت الجن هذا استغربت، وقيل: إنهم ذهبوا إلى أبيهم إبليس فأخبروه، فقال: انصرفوا في الديار وتفرقوا في الأمصار فإن هذا لا يحدث إلا لنبأ عظيم، فجاءوا فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه القرآن، فقالوا: هذا الذي منعنا من أجله، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإن منهم مؤمنين ومنهم كافرين، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11]، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] ففيهم مؤمنون وهم قلة، وفيهم كفار وهم كثرة، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإنه على الصحيح من أقوال أهل العلم أنهم يثابون ويعاقبون، قال الله جل وعلا: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] وأما هل يدخلون الجنة أو لا يدخلون فالمسألة خلافية عند العلماء، لكن الصواب والله تعالى أعلم أنهم يثابون على ما ندين الله جل وعلا به، قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن:14] والجن الذين صرفهم الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما صرح الله بذلك في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] آمنوا برسولنا صلى الله عليه وسلم، وانطلقوا -وهم جن- دعاة إلى الله، يدعون إخوانهم من الجن إلى دين الله تبارك وتعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2] ثم هؤلاء الجن المؤمنون قيل إنهم تأدبوا مع الله في موضعين صريحين ذكرهما الله في كتابه: الأول تصريحاً، والثاني تلميحاً، فأما التصريح فإن الله جل وعلا أخبر عنهم أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فانظر إلى أدبهم مع الله، الشر نسبوه إلى غير فاعل. أما الخير والرشد والصلاح فنسبوه إلى رب البريات تبارك وتعالى فقالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، وأما الموقف الثاني فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على إخواننا من الجن سورة الرحمن، ومعلوم أن سورة الرحمن تكرر فيها قول الله جل وعلا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] والخطاب للجن والإنس، فورد أن الجن لما قرأ عليهم رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الآية كانوا يقولون: لا نكذب بأي من آلاء ربنا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإخواننا من الصحابة: (ألا تقولون كما قالت إخوانكم من الجن: لا نكذب بأي من آلاء ربنا). أما قضية دخول الجني في الإنسي فلا نريد أن نفصل فيهما لكن نقول: إن هذه المسألة خلافية بين العلماء، ولعل الأرجح والأظهر والله تعالى أعلم أن الآثار وردت أنه بالإمكان أن يدخل الجني في الإنسي، لكن الذي لا يُصدّق ولا يمكن أن يُصدّق ما ظهر في هذا الزمان من أن الناس نسبت كل بلاء إلى الجن، حتى لو أن رجلاً لا يفقه في دين الله شيء وفتح باب داره وأحضر بعضاً من الماء وقليل من الزيت لتقاتل الناس عند بابه كلهم يزعم أنه يخرج الجني من الإنسي، وحتى أصبح كثير من الناس بمواقف رأيناها بأعيننا، وبلقاء من عمل بهذا العلم واشتغل بهذه المهمة إذا أراد أن يهرب من أمر وقع فيه زعم أنه للجن، تجد المرأة لا تريد زوجها فتفزعه في الليل وتتقلب وتقول: جني أزرق أو جني أحمر، فالمسكين يصدق أن هناك جني فيذهب بها إلى أقوام قد لا يجدون فقه هذه المسألة فيقول: فيها جني، فيمكث الجني أعواماً وشهوراً وسنين وهو يغدوا بها من مكان إلى مكان، والمسألة تتلخص في أمر بسيط وهو أنها لا تستطيع أن تقاوم أهلها ولا تستطيع أن تقول له لا، فتلجأ إلى هذه المشكلة أو تلجأ إلى هذه الطريقة، حتى لجأ بعض الناس إلى مسألة أخرى، وهي إلى التكسب ا

وقفة مع قول الله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون)

وقفة مع قول الله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون) الوقفة الثالثة أيها المؤمنون مع قول ربنا تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]. هذا الأمر فيه من الموعظة العظيمة البليغة من ربنا تبارك وتعالى إلى عباده الخُلّص، وهذا السؤال إنما يكون في اليوم الموعود والحدث المشهود، والعرض الأكبر بين يدي الله جل وعلا، ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه خل خليلاً، ولا صديق صديقاً، ولا والد ولداً، ولا أم ابناً، ولا زوج زوجاً، وإنما ينفع الإنسان رحمة الله وعمله الصالح؛ وهذا اليوم من أجله ظمئ المؤمنون في الهواجر، ومن أجله قام المؤمنون الخُلّص الليل خوفاً من ذلك اليوم وذلك الفزع، ومن أجل هذا اليوم كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ويطعم الجائع، ويصوم، ويفعل ما يفعل من سائر العبادات ومن أجل ذلك اليوم صبر نوح، وابتلي إبراهيم، ومن أجل ذلك اليوم كان وما زال المؤمنون الخُلّص يستغفرون ربهم ويجأرون بالدعاء إليه خوفاً من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، وخوفاً أن يعجز العبد عن أن يجد جواباً يوم يقف بين يدي الله جل وعلا، قال الصادق المصدوق: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ ويسأل عن علمه ماذا عمل به؟) ولذلك قال بعض الصالحين: وإذا الصبي بأمه متعلق يخشى العقاب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور لو قارنت بين ذلك الامتحان وبين الامتحان الدراسي الذي تذهب به على سيارتك، أو بسيارة أبيك، أو مع قرينك، فذلك اليوم واحد من أمرين {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] جعلنا الله منهم، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] وفي الامتحان الفصلي تقف بين يدي المعلم ربما لو خدعته لانخدع، لكن يوم القيامة تقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية، في الامتحان الفصلي تسأل عن قاعدة نحوية، أو مسألة رياضية، أو غير ذلك مما درسته؛ لكنك يوم القيامة تسأل عن كل صغيرة وكبيرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] في الامتحان الفصلي المسألة إن كان هناك وإلا وانتظر الدور الثاني أو اترك إلى عمل آخر، لكن في ذلك اليوم واحد من أمرين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. يقول الله جل وعلا عن أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] ويقول جل ذكره عن أهل النار، يخبر عن مسائلة الملائكة لهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72]. الهدية في هذه الدنيا ربما كانت شيكاً مفتوحاً من والدك هذا إن قلنا: إن والدك غني مترف ذو مال واسع وهذا المال تأخذه اليوم إما أن تتركه، أو أن المال سيتركك، فلا بد أن تفارقه رضيت أم أبيت، ولكن الجائزة يوم القيامة لذة النظر إلى صاحب الوجه الأكرم إلى وجه ربنا تبارك وتعالى، وهذه لذة لا تعدلها لذة، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. الرسوب بين يدي أقوام وأخلاط لا يتجاوز عددهم أصابع اليد تعتذر إليهم عنه بأي أمر، ولكن الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وعلى رؤوس الخلائق يُنادى فلان ابن فلان ثم يوصف بما فيه والعياذ بالله، النبيون وهم النبيون دعاؤهم يوم القيامة: اللهم سلم سلم؛ مما يرون من الأهوال والشدائد، ومما يرون من عظائم الأمور.

وقفة مع قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين أرى في المنام أني أذبحك

وقفة مع قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين أرى في المنام أني أذبحك الوقفة الرابعة مع قول الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:99 - 102]. خليل الله إبراهيم سبق الحديث عنه في وقفاتنا مع سورة هود، وهو كما هو معلوم أحد أنبياء الله العظام ورسله الكرام، ومما ابتلاه الله به هذه الآية العظيمة وهي أمره له بأن يذبح ابنه إسماعيل. لما نجى الله إبراهيم من النار وترك قومه وهجرهم قال لهم بملء فيه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ولما كان شيخاً قد بلغ من السن ما بلغ دعا الله أن يرزقه ولداً، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فاستجاب الله جل وعلا له، قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، فلما رزق ذلك الولد وهو -على الصحيح والله أعلم- إسماعيل مكث إسماعيل في كنف والده حتى تبينت فيه علامات الرشد، وعلامات الفطنة، وعلامات العلم، وأمارات الحصافة والعقل السديد؛ فلما أصبح قادراً على أن يذهب مع أبيه ويغدو ويروح وتعلق أبوه به، وأصبح له المكانة السامية في قلب أبيه أراد الله أن يخلص قلب إبراهيم له وحده؛ لأنه خليل الله، فابتلاه بالأمر بأن يذبح هذا الابن الذي تعلق به {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]. لم يتردد إبراهيم برهة واحدة في الاستجابة لأمر الله جل وعلا، فأخذ ابنه يشاوره لا من باب التنفيذ وعدم التنفيذ، ولكن حتى يشترك الاثنان في الأجر؛ وإلا لو امتنع إسماعيل لنفذ إبراهيم أمر ربه، ولكنه أراد أن يكون ذلك على غير غرة، وأن يكون من باب التسليم لأمر الله، فتنازعت في إبراهيم وفي إسماعيل هوى النفس وأمر الله جل وعلا؛ وهذا يحدث يومياً في نفس كل عبد مع اختلاف الأمر كل أمر أمر الله به تجد في نفسك ما يمنعك عنه، وتجد في نفسك ما يدفعك إلى تركه، يتنازع عندك الشر والخير، ولكن إبراهيم لما كان إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم أسلم أمره إلى الله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فكان رد ذلك الابن الذي جاء من صلب العبد الصالح {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34]: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وانظر إلى قوله ((إِنْ شَاءَ اللَّهُ)) وإلى قوله: {مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] قال: إن شاء الله، ليثبت أن الأمر بيد الله ولم يقل ستجدني صابراً بل قال: من الصابرين، وفي هذا إظهار شيء من التواضع بمعنى: أنني من جملة من صبر لله تبارك وتعالى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. فلما كانت اللحظة الرهيبة وساعة الابتلاء العظيمة، وأخذ إبراهيم ابنه إسماعيل فوضعه على جبينه حتى لا يرى عينيه فتغلب عليه عاطفة الأبوة، وأراد أن يمر السكين على ذلك العنق الذي لا يجد في الدنيا أحداً أحب إليه منه، وهو عنق ولده الذي رزق به بعد مرحلة من الانقطاع، وبعد مرحلة من الشيخوخة والكبر، وكان الابن فيه من الأمارات والعلامات ما يجعل الأب متعلقاً به، ومع ذلك أراد أن يمر السكين فلما لم يبق إلا قضية الذبح -والله غني عن إبراهيم وإسماعيل لكن المقصود تحقق الابتلاء، ونجح إبراهيم فيه- إذا بربه جل وعلا يناديه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104 - 106] (وَفَدَيْنَاهُ) أي: إسماعيل {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] قال العلماء: بذبح عظيم؛ لأنه فدي به إسماعيل، وعظيم لأنه أضحى بعد ذلك سنة، وعظيم لأنه قيل: إن ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفاً، ففدى به الله ذلك العبد الصالح عليه الصلاة والسلام، ولذلك أثنى الله على الاثنين: على إبراهيم وعلى إسماعيل، قال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] أي: وعد أن يصبر فصدق في وعده، وأثنى الله على إبراهيم فكثيراً ما يقترن اسمه باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:108] أي: فيمن يأتي بعده {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:109 - 111]. وقد سبق أن الإنسان قد يجتمع عنده أحياناً رغبة العمل الذي يريده ورغبة العمل الذي يريده الله جل وعلا، وهذه اجتمعت في خليل الله إبراهيم، وهنا أقول لنفسي ولكل أخ مؤمن ولكل أخت مؤمنة: إن إيثار هوى الله على هوى النفس أعظم السبل الموصلة إلى جنات النعيم، إن الجنة كنز غال ثمين لا ينال بالتشهي، ولا ينال بالرغبة، ولكنه يدرك بعظائم الأمور، ويدرك بأن يؤثر الإنسان هوى الله وهوى رسوله صلى الله عليه وسلم على هوى نفسه، قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقال جل ذكره: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ثم أخذ الله جل وعلا يذكر صفة هاتين الجنتين؛ المقصود أنه سيجتمع عندك في كل أمر هوى النفس وهوى الله جل وعلا، فلا تؤثرن لذة عادية زائلة ونعمة حائلة على مرضات الله جل وعلا، واصبر على ما أصابك، وأصبر على كبح جماح هواك، واعلم أن ما عند الله جل وعلا خير وأبقى، واعلم أن هذا الدين سمي إسلاماً لأن فيه الاستسلام والخضوع والذل لله تبارك وتعالى، قال الله عنهما: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أي خضعا وانقادا وأسلما أمرهما إلى رب البريات سبحانه وتعالى.

وقفة مع قول الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين فكان من المدحضين)

وقفة مع قول الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين فكان من المدحضين) الوقفة قبل الأخيرة مع قول ربنا تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:139 - 141] إلى آخر الآية. يونس بن متى نبي من أنبياء الله، نص الله على رسالته في القرآن، وقد ثبت أو ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لما أكثر عليه أهل الطائف من الأذى حن عليه اثنان من أهل الطائف يقال لهما: ابنا ربيعة، فأخذا غلاماً لهما يقال له: عداس فأعطاه عنقوداً من عنب، وقالا: امض به إلى ذلك الرجل كنوع من العاطفة الإنسانية، فلما وضع عداس عنقود العنب بين يدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهم عليه الصلاة والسلام أن يأكل قال: (بسم الله) فقال عداس وقد عجب من هذه الكلمة قال: والله هذه كلمة لا يقولها أهل هذه البلاد، فقال عليه الصلاة والسلام لـ عداس: (ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟) قال: أنا نصراني من بلاد نينوى فقال عليه الصلاة والسلام: (من بلاد يونس بن متى) فقال العداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، فهو نبي وأنا نبي) فهذا ما ورد في السنة إن صح الخبر، ذكره أهل السير عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. فيونس عليه السلام بعثه الله جل وعلا إلى قومه، فأخذ يدعوهم ويحذرهم العذاب، فلم يستجيبوا له، فلما لم يستجيبوا له خرج غاضباً عليه الصلاة والسلام دون أن يستأذن ربه فيما يظهر لنا والله أعلم، فلما خرج ركب في سفينة، فمضت تلك السفينة بمن فيها، فلما غلبتهم الأمواج وكادت السفينة أن تغرق، أرادوا أن يستهموا بالقرعة ليلقوا أحدهم حتى ترسو السفينة، فاشترك معهم يونس في القرعة، قال الله جل وعلا: {فَسَاهَمَ} [الصافات:141] أي شارك في القرعة، فلما ساهم وقعت القرعة عليه، قيل: إنهم قالوا: أما أنت فلا، فأعادوا القرعة مرة أخرى فوقعت عليه، وهكذا مرة ثالثة، فألقوه في البحر، فلما ألقوه في البحر ابتلعه حوت، أمره الله أن يبتلع يونس، فلما ابتلع الحوت يونس أوحى الله إلى الحوت ألا يكسر له عظماً، ولا يأكل له لحماً، وأن يكون له قبراً مؤقتاً، فمضى يونس في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وبدأ يحرك يديه ورجليه فاستجابتا له، وعلم أنه حي في تلك الظلمات، وسمع -على ما قاله أهل العلم- تسبيح الحيتان، وتسبيح من هم في قعر البحار للواحد الأحد الفرد الصمد نادى ذلك العبد ربه في تلك الظلمات، قال الله جل وعلا: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] وقول الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] يفسره قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. وإنها -أيها المؤمن- دعوة وتسبيح وذكر لمن وسعت رحمته كل شيء، قال العلماء: سبح يونس في ظلمات البحر لعالم السر والنجوى، ولجأ إلى من يكشف الضر والبلوى، وإلى من يسمع الدعوات وإن خفيت وإلى من يجيب الدعوات وإن عظمت، وإلى من يعلم الخفيات وإن دقت فكان إكرام الله له {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] هذه ليونس {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] هذه لغير يونس من المؤمنين لمن يلجأ إلى الله جل وعلا، فالجئوا إلى الله في السراء والضراء بهذا الدعاء العظيم، وعلموا أنفسكم وأزواجكم، وبناتكم، وأبنائكم أن يلجئوا إلى الله بهذه الدعوة النبوية، والتي أقرها الله في كتابه، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي قول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فقد جمعت أمرين عظيمين: الأول: توحيد الله، وبه تعبد الله الخلائق، والثاني: الإقرار بالذنب وإظهار الذلة والمسكنة، وهي من أعظم الوسائل لإجابة دعوة الله تبارك وتعالى؛ فلما كان هذا منه واستجاب الله له، أمر الله الحوت أن يلقيه ويقذفه خارج البحر، فلما ألقاه الحوت وقذفه خارج البحر خرج ضعيفاً مسكيناً كأنه لتوه مولود في رقة لحمه وعظمه، فأنبت الله له رحمة به -شجرة اليقطين، وهي فيما نعلم- شجرة الدباء في اتساع ورقها، فأخذت تظلله، قال الله جل وعلا: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146] ثم رده الله إلى قومه ليدعوهم من جديد. عاد ذلك النبي إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:146 - 148]. قوم يونس لما خرج منهم نبي الله يونس مغاضباً -كما قد علمنا- ندموا على ما كان منهم، وكان العذاب قد أضلهم ورأوه عياناً، فلما رأوه عياناً جأروا إلى الله جل وعلا، فخرجوا إلى ظاهر القرية وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم وبناتهم وأبناءهم صغاراً وكباراً تضرعاً إلى الله، وأخذوا يجأرون بالدعاء الصغير منهم والكبير، حتى إنهم أخرجوا معهم مواشيهم وإبلهم وبقرهم وضأنهم وأغنامهم، حتى قال العلماء: إنهم فصلوا بين الغنم وحملانها، وفصلوا بين البقر وأولادها، وفصلوا بين الإبل وأولادها كذلك حتى يكون أدعى في أن تلك الأغنام وتلك الأبقار وتلك الإبل تجأر إلى الله جل وعلا بالصياح والنحيب، ولقد كانت ساعة عظيمة لم يرى مثلها، والله جل وعلا مضت سنته في الخلق أن الإيمان نوعان: إيمان اضطراري، وإيمان اختياري فالإيمان الاختياري: هو أن الإنسان يؤمن في لحظات اختيار لحظات لا يرى فيها العذاب عياناً، فهذا يقبله الله جل وعلا، والساعة الأخرى لحظات الإيمان الاضطراري: حين تغرغر الروح، وحين يرى القوم العذاب؛ فهذا لا يقبل الله في وقته، ذلك الإيمان على ما مضت به السنن، إلا قوم يونس فإن الله جل وعلا استثناهم -برحمة وفضل منه- من هذه السنة، والدليل: قول الله جل وعلا في سورة يونس: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] فالأصل الذي جرت به سنن الله في الكون أن الله لا يقبل الإيمان الاضطراري، ففرعون لما رأى العذاب {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] مع ذلك ما قبل الله منه، قال الله جل وعلا: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أما قوم يونس فلأمر ولحكمة أرادها الله، ولرحمة أرادها الله أن تنزل على أولئك الأقوام، فقد شملتهم رحمة الله واستثنوا من تلك السنة الماضية فقبل الله إيمانهم، قال الله جل وعلا: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148] وبناءاً على هذا اختلف العلماء رحمهم الله هل إيمان قوم يونس كما كشف الله به عنهم العذاب الدنيوي هل يكشف به عنهم العذاب الأخروي؟ على قولين لأهل العلم، ولعل الأرجح والصواب -والله تعالى أعلم- أنه ينفعهم أخروياً كما ينفعهم دنيوياً؛ لأن رحمة الله جل وعلا تغلب غضبه. وهنا في هذه القصة العظيمة لنبي الله يونس دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يفزع إلى الله جل وعلا بالشدائد، وأن يلجأ إليه عند حلول النقم، وأن يلجأ إليه عند نزول الفتن، وأن يستغيث به تبارك وتعالى وحده، وأن يعلم أن الله يكشف الضر والبلوى كما أنه تبارك وتعالى يعلم السر والنجوى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بذل الإنسان مالا للحصول على حقه

حكم بذل الإنسان مالاً للحصول على حقه Q هذا أخ يقول: هل دفع المال لحصولي على حق لي يعتبر رشوة، كأن أدفع مالاً لاستخراج شيء معين، علماً أنني لم أختلس مالاً ولم أظلم أحداً؟ A نحن نقول إن الرشوة أمر حرمه الله، وأوجب النبي صلى الله عليه وسلم في حقه اللعنة، واللعنة شملت الراشي وشملت المرتشي شملت معطيها وشملت آخذها، لكن والله تعالى أعلم رخّص بعض أهل العلم في دفع الرشوة إذا كان الإنسان يريد أن يستخرج حقاً له، وهو يعلم أنه حق شرعي له لا يستطيع أن يستخرجه إلا بهذا الأمر، فهي رخصة في حق من دفع، وإثم على من أخذ، ولكننا والله تعالى أعلم نقول: إن الأحوط الترك براءة للذمة، ولعل الله يعوضك خيراً مما فقدت، والله تعالى أعلم. Q هذا أخ كريم يقول: نريد منكم أن تكون هناك محاضرة عن حرمة هذه المدينة وعن فضائلها، لأن كثيراً من الناس يجهلون هذا الأمر A لا ريب أنه من الواجب على العلماء والدعاة والأئمة والخطباء ومن آتاهم الله الصدارة للناس أن يحرصوا على أن يبينوا معالم الدين لهم، ولا ريب أن من معالم الدين أن يعلم الإنسان ما لهذه المدينة النبوية من حقوق معلومة.

خلاصة القول في الشيخ متولي الشعراوي

خلاصة القول في الشيخ متولي الشعراوي Q هذا أخ كريم يقول في سؤاله: ما تقول في الشيخ متولي الشعراوي، وهل تنصحنا بالاستماع لتفسيره للقرآن الكريم؟ A الحق يقال، وأنا أقول قاعدة، ولا دخل لأحد فيها كائناً من كان، لا ذماً ولا مدحاً، وإني لأرجو الله أن ألقاه وليس لأحد له عندي مظلمة: الحق خذه من أي شخص كائناً من كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة في قضية الجني: (صدقك وهو كذوب) والباطل رده على أي شخص كائناً من كان، فمن أتاك بقول تعلم يقيناً أنه باطل رده عليه، ولا يجوز لك أن تتبع قوله وأنت تعلم أنه باطل لأنه فلان بن فلان، قال العلامة محمد صدّيق حسن خان رحمة الله تعالى عليه في الروضة الندية: وإن المنصف من لم يزحزحه عن الحق أقوال الرجال، ولكن يزحزحه عن الحق الدليل من الكتاب أو من السنة. وذكر ابن رجب قاعدة ذهبية حيث قال: يأبى الله العصمة إلا لكتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، والشيخ متولي الشعراوي أو غيره علماء من علماء هذا العصر، والله جل وعلا منحهم فضلاً وشهرة وعلماً، وكلهم بلا استثناء يخطئون ويصيبون، لكن منهم من يكثر خطؤه ومنهم من يقل خطؤه، ومنهم من يكثر صوابه ومنهم من يقل صوابه، وأنت عليك أن تتبع الحق دون النظر إلى الأشخاص، ولا تشغل نفسك لا بزيد ولا بعمرو، واتبع الحق في مظانه وخذ منه، والله تعالى أعلم.

وصية للمبتدئين في طريق الهداية

وصية للمبتدئين في طريق الهداية Q هذا أخ يريد بعض الوصايا للأخوة الذين على أول طريق الهداية. A لي وصية مجموعة في قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] وأنت يا أخي قارن بين المؤمنين الذين تراهم وعليهم من الإيمان الحلل، وترى عليهم من الله النور، وترى وجوههم المضيئة، وترى ما عليهم من علامات وآثار السجود، وما عليهم من غدو ورواح إلى بيوت الله قارن بينهم وبين من أضله الله ممن يسعون ويغدون إلى البارات، وممن يسعون ويغدون إلى الحانات، وممن يسعون ويغدون إلى ما حرم الله من الفواحش والمنكرات فسوف ترى ملامح الهدى والنور على الأولين وترى الضلالة والظلمة على الآخرين أسأل الله جل وعلا أن يرينا بصيرتنا. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وقفات مع سورة مريم

وقفات مع سورة مريم إن من أعظم وأجل السور القرآنية سورة مريم والتي ضمنها المولى الكريم جل وعلا عدداً من مواقف بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك: ذكر قصة ومعجزة زكريا وكيف أن الله وهبه الولد في وضع لا يؤهله لذلك، كما ذكر معجزة خلق عيسى وولادته من غير أب سبحانه وتعالى، فسبحان من خلق عيسى من غير أب، وفلق الإصباح والحب.

بين يدي سورة مريم

بين يدي سورة مريم الحمد لله رب العالمين, الملك الحق المبين, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، رب الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرة الله من الخلق، وصفوة الله من الرسل، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من اقتفى أثرهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم آمين. أما بعد ما زلنا في وقفات مع سور من كتاب الله الكريم الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، ووقفات اليوم هي مع سورة كريمة من كتاب ربنا هي: سورة مريم, وهذه السورة الكريمة ضمنها الله جل وعلا في صدرها وفي أولها بعض أخبار أنبيائه ورسله ومن شهد الله لهم بالصديقية. ثم ذكر فيها تبارك وتعالى بعض أخبار رسله، ثم أعقب ذلك ذكر جنان عدن وما يكون يوم القيامة من بعث ونشور، ثم بين فيها -تبارك وتعالى- تنزيه نفسه عن الولد، ورد جل وعلا على من قال بالفرية الكبرى وزعم أن الله اتخذ ولداً، ثم ختمها -سبحانه تبارك وتعالى- بما أعده الله لعباده من نعيم ووعد صادق وختمها خير ختام بأن بين أن له جل وعلا القوة والسلطان، يقول في آخر السورة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].

ذكر قصة زكريا في السورة وولادة مريم

ذكر قصة زكريا في السورة وولادة مريم الوقفة الأولى: فقد ذكر الله جل وعلا فيها -بعد الحروف المتقطعة في أول السورة- رحمته جل وعلا وشمول نعمته لعبد من عباده ونبي من أنبيائه هو: زكريا عليه الصلاة والسلام، وقبل الشروع فيما أراده الله جل وعلا وذكره في كتابه يحسن القول بأن القرآن مثاني يفسر بعضه بعضاً ويرشد بعضه إلى بعضه. فبني إسرائيل لما ظهر فيهم الفساد كان فيهم علماء ربانيون وكان من الربانيين رجل صالح يقال له: عمران فلما حملت منه زوجته، وكانت تلك الزوجة ترجو الله جل وعلا أن يرزقها ولداً لتجعله خالصاً لله يخدم في بيت من بيوت الله جل وعلا، فلما حملت منه وتمنت من الله تلك الأمنية، وضعت خلاف ما أرادت وابتغت فكان المولود الذي وضعته أنثى، فاعتذرت إلى الله جل وعلا والله أعلم بما وضعت، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:33 - 35]، أي: خالصاً, {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]. ثم لما وجدت تلك المرأة أن ما وضعته أنثى اعتذرت إلى الله، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] , وجدت بك يا ربنا! هذه البنت ومن يكون من ذريتها من الشيطان الرجيم. وقد استجاب الله جل وعلا دعوتها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويمسه الشيطان حين ولادته فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، قال أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، وهذا يلاحظ مما نلمسه ونراه جميعاً أن الطفل إذا ولد فإنه يستهل صارخاً، لصدق الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ثم إن تلك المرأة دعت الله جل وعلا أن يتقبل هذا المولود قبولاً حسناً، فاستجاب الله دعوتها قال الله تبارك وتعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، وهذا مدخل إلى وقفاتنا مع سورة مريم. كان زكريا نبياً من أنبياء بني إسرائيل، وكان زوجاً لأخت مريم فلما كان زوجاً لأختها كفَّله الله جل وعلا مريم تلك بعد أن استهم القوم على تلك الكفالة، ذلك أن مريم لما توفي والدها عمران اختصم بنو إسرائيل في كفالتها رغبة منهم في رد الجميل لأبيها ذلك العبد الصالح، قال الله جل وعلا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:44]، أي: القرعة والاستهام، {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]، فهذا من أنباء الغيب الذي أنبأ الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. فكان أمر الله جل وعلا أن يكفل زكريا مريم بنت عمران، فلما كفلها جعل لها محراباً تتعبد الله جل وعلا فيه، فكان يأتيها ليطمئن عليها، فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، وفي الشتاء فاكهة الصيف، وربما وجد عندها طعاماً أو فاكهة ليست موجودة في السوق، فتعجب عليه الصلاة والسلام من هذا وقال لها كما أخبر الله في صريح المحكم: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:37]؟ فكان جوابها: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] , في هذه اللحظة تذكر زكريا عليه الصلاة والسلام حاله وأنه محروم من نعمة الولد، وكان قد بلغ من الكبر مبلغاً عظيماً، وكانت امرأته عاقراً، وكان فيه من الضعف الشديد ما لا يستطيع معه على لقاح أو جماع لزوجه، لكنه لما رأى فضل الله على مريم بنت عمران. وهذا فيه فائدة عظيمة أن الرجل إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره من المؤمنين فليسأل الله مثلها إن أرادها، فإن الذي أنعم على غيرك قادر على أن ينعم عليك سبحانه تبارك وتعالى فبيده جل وعلا مقاليد السماوات والأرض. فأخبر الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:37 - 38]، ودعا قائلاً: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، كما في سورة الأنبياء. فنعود لسورة مريم، قال الله جل وعلا: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:2 - 3]، قال العلماء: إنه دعا الله في مكان خلي بصوت خفي، وقلب نقي، أن يرزقه نعمة الولد حتى تتم رسالة الأنبياء من بعده، لا كما يريده الناس ولداً محضاً للتجارة أو لغيرها فقد كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً ولذلك قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6]، وكونه يرثه في المال فهذا أمر لا يحتاج إلى الإشادة؛ لأن كل الناس يرث أبناءهم آباءهم، ولكن الله نص عليه؛ لأن المقصود بالميراث هنا: هو ميراث النبوة، ومنه قول الله جل وعلا: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]. وهنا نقول: إن للدعاء فضيلة عظيمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا ندب عباده أجمعين لدعائه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، فسمى الدعاء عبادة. وقد تذلل في ذلك العبد الصالح إلى رب السماوات والأرض، والوسائل المشروعة في دعاء الله متعددة، ومن أعظمها ومن أرجى الوسائل قربة عند الله: إظهار التذلل، والمسكنة، والفقر بين يدي رب العالمين، قال جل وعلا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:3 - 4]. تبرأ من كل حول وطول وقوة إلا حول وقوة وطول رب العالمين جل جلاله، فدعا إلى الله جل وعلا بذلته، ومسكنته، وفقره، ومدى فقره إلى رحمة الله جل وعلا، وبغنى الواحد الحي القيوم عنه وعن غيره: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4]، ذكر بذلك ضعف الباطن، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4]، ذكر ضعف الظاهر، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، أي: كما تفضلت علي سابقاً في إجابة دعواتي تفضل علي لاحقاً وأنت الرب الواحد الأحد صاحب المنة والفضل. ثم بين الغرض فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6]، ولما كان المدعو هو الله جل جلاله من وسعت رحمته كل شيء وقع فضل الله تبارك وتعالى على هذا العبد الصالح، فإذا بالملائكة تبشر هذا النبي وهذا العبد الصالح بيحيى، بل إن الله جل جلاله زيادة في الإنعام على هذا العبد الصالح اختار الله له اسم الولد، قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]، وهو ما يسميه النصارى اليوم: يوحنا. فالله جل وعلا اختار اسمه وأخبر أنه لم يسم أحد من قبل بهذا لاسم، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]، ورغم أن العبد الصالح دعا الله، ورغم أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير لكنه تعجب: كيف يكون له ولد وقد كانت امرأته عاقراً وقد بلغ هو من الكبر عتياً أي: مرحلة متقدمة في السن لا تجري العادة بأن ينجب الرجل إذا بلغها ذكراً أو أنثى. وقد حمل بعض أهل العلم قول الله جل وعلا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، أن زكريا لما دعا الله دعاه في معزل عن الناس حتى لا يسخر منه أحد، فهو رجل كبير بالغ مرحلة متقدمة في السن، ومع ذلك يرجو الولد ولكنه يعلم فضل الله جل وعلا ورحمته، فلما جاءته البشارة وتعجب منها أخبرته الملائكة أن الله خلقه -أي: زكريا- من قبل ولم يكن شيئاً. فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ثم إن زكريا أراد من ربه علامات وأمارات بقرب تلك البشارة؛ ليطمئن قلبه وتستقر نفسه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]، وهذه الآية ظاهرها أنها ثلاث ليال متتابعات، وهذا على الصحيح خلاف الصواب, والصواب: أن المقصود بقول الله جل وعلا: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]، أي: أنك -يا زكريا- لا تستطيع أن تكلم الناس رغم أنك رجل سوي الخلقة، تام من غير نقص فليس بك علة وليس بك مرض ومع ذلك لا تستطيع أن تكلم الخلق إلا بالإشارة كما قال في آية آل عمران: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، أي: بالإشار

ذكر نبي الله يحيى في السورة

ذكر نبي الله يحيى في السورة ثم ذكر الله جل وعلا نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام أي: أن يحيى نبي ابن نبي وهو ابن خالة عيسى بن مريم -كما سيأتي بيانه- قال الله جل وعلا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:12 - 13]، ويحيى عليه الصلاة والسلام نبي من أنبياء بني إسرائيل وقد كان يجتمع في بني إسرائيل أكثر من نبي في الحقبة الواحدة أو في العصر الواحد أو في الزمن الواحد، ومن هنا اجتمع يحيى وزكريا وعيسى عليهم وعلى نبينا جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وفي قول الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، استنصار لهمم الشباب ودفع لهم إلى تتبع طرائق الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا رزق يحيى الفهم والعلم والحزم والحكمة وهو صبي، وقد قيل: إن الصبيان اجتمعوا عليه ذات يوم فقالوا له: يا يحيى! هيا بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا؛ خلقنا لعبادة الله. وقول الله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، دلالة على إن دين الله لا يحمله إلا ذوي العزم الشديد، وذوي العقل الرشيد، وذوي الحكمة البالغة، وذوي الآفاق الواسعة، ومن اتصف بصفات عدة؛ لأن القوة ليس المقصود: حصرها على قوة البدن فقط ولكن القوة في البدن والقوة في الرشد والتأني، حتى السكينة والصبر والتحمل فإنها شيء من القوة, قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). فمن حاولت إغراءه وجلبه بقول أو بما لا يخفى على أحد، فصبر وتأنى وتبين الحق من الباطل واسترشد فهذا يدل على قوة فيه، أما الضعف والخور والطيش والحماس المفرط فهذه لا تبني الأمة ولا تقوي مجير ولا تنفع صحوة إنما يكون أحياناً ضررها أكثر من نفعها. فالقوة الحق: الاسترشاد، والتأني، والحلم، والبعد، وحسن الظن بالمؤمنين، والنظر في المصالح، والنظر في المفاسد، وتقديم أعظم المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد منكم بإذن الله. ثم قال الله جل وعلا: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:12 - 13]، أي: الذي آتيناه ليحيى آتيناه من فضلنا ومن عطائنا، ومن ذا الذي يمنع -كما قلنا مراراً- فضل الله ورحمته على أحد من عباده كائناً من كان؟!

صفات نبي الله يحيى المذكورة في السورة

صفات نبي الله يحيى المذكورة في السورة ثم ذكر الله عز وجل بعض الصفات التي وصف الله بها هذا النبي الصالح: قال جل وعلا في أول صفاته: {وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:13]، والتقوى قيل في وصفها: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله تخشى عقاب الله, وهي وصية الله لكم وللسابقين من قبلكم، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي غيرها: (يا أيها الناس! اتقوا ربكم)، وما زال الصالحون والأخيار جيلاً بعد جيل خلفاً بعد سلف يوصي بعضهم بعضاً بتقوى الله تبارك وتعالى. ولهذا وصف الله ذلك العبد الصالح بقوله: {وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:13]، أي: مقدماً على الطاعات، محجماً عن المعاصي، يرجو رحمة الله، ويخشى عقاب الله وهذا هو التقوى وأساسها، فإن الإيمان بالعمل وليس الإيمان بالألفاظ فقط والتحلي بها سماعاً دون تطبيق واسترشاد بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر تبارك وتعالى ثاني صفاته على عبده يحيى قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم:14]، وهذه من أعظم الخصال وأجل الصفات، وبر الوالدين قد أطنب ولله الحمد في بيانه كثير من الدعاة والعلماء جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء، ورغم ما قدمه أهل العلم بل وما ذكر في القران وفي صحيح السنة من دعوة إلى بر الوالدين، إلا إننا مع ذلك نجد البعض -عفا الله عنا وعنهم وردهم إلى سبيله وهديه- يفرط في هذه المسالة حتى ممن من الله عليه بالهداية والعودة إلى الطريق المستقيم، وقد أخبرنا من نثق به على سبيل الشكوى إن هناك من الناس من يضرب أمه وأباه أمام أصحابه إظهاراً لقوة شخصيته، ولا ريب إن هذا والعياذ بالله بلاء عظيم وبعد عن طريق الله المستقيم.

أسباب عقوق الوالدين

أسباب عقوق الوالدين ولو استقصينا أسباب العقوق لوجدناها تنحصر في أغلب ما يأتي: أولها: جهل كثير من الناس بما أعده الله من أجر عظيم لمن بر والديه, فهو لا يرى في بر الوالدين منقبة، ولا يرى في بر الوالدين مرقى إلى الملكوت الأعلى والرضا من الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]، وقال تبارك وتعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:14]، أي: بالعبادة، {وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، أي ببرهما، وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله الخروج إلى الجهاد (ألك والدين؟ قال: نعم، قال: الزمهما فثم الجنة)، بل إنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أوصى أحد أصحابه ممن سألوه أن يلزم خالته؛ لأن أمه متوفاة وقال له: (إن الخالة بمنزلة الأم)، فجهل كثير من الناس لما أعده الله من أجر ببر الوالدين هو الذي دفعهم إلى العقوق. ومما دفع كثير من الناس إلى العقوق: سخريتهم وعدم اعتقادهم بما أعده الله من وعيد لمن عق والديه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)، فليست فقط الكبائر، ولكنها من أكبر الكبائر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، فثنى بعقوق الوالدين وهو أعلم الناس بالشرع بعد الفرية الكبرى والذنب الأكبر وهو الإشراك بالله. كما أنه مما أسهم في وجود ناشئة يعقون والديهم ما يرونه ويسمعونه في بعض المسلسلات والأفلام من عدم وجود حرمة للوالدين وبر الوالدين في ثنايا المسلسل أو الفيلم، فيصور العائلة على أنها إفراد متكافئين والوالد يكلم ولده استرحاماً، والولد يكلم والده علواً وما إلى ذلك حتى غرس في القلوب واستقر في العقول أن هذه هي الحياة الطبيعية؛ لأن النشء من كثرة ما يسمع وما يرى وما إلى ذلك وجد أن الأمر طبيعياً فلا يجد غضاضة ولا ملاماً ولا عتاباً أن يرفع صوته على أحد والديه؛ أمه أو أبيه؛ لأنه يرى أن هذا أمر طبعي جبل الناس عليه بدليل أنه رآه في مسلسل، أو بدليل أنه قرأه في قصة، أو بدليل أنه رآه في فيلم ذات يوم في بيته أو في غيره من بيوت أصحابه. كذلك مما أسهم في عقوق الوالدين: رفقاء السوء، فإن كثيراً من الشباب -عفا الله عنا وعنهم- يهون بعضهم لبعض مسألة بر الوالدين، حتى أحياناً من الشباب الموسومين بالاستقامة فقد يفضل حضور محاضرة أو درس أو الذهاب إلى نافلة من الطاعات على بره لوالديه، ولا ريب إن هذا خلاف الحق وخلاف الصحيح، فإن إجابة أمر الوالدين واجب وما عدا ذلك من حضور المحاضرات والدروس فإن غالبه داخل في عموم النوافل، وليس من الحكمة تقديم النفل على الواجب, إلا إذا أمرك والداك أو أحدهما بمعصية الله، الكف عن تلك المعصية، والثاني: استرضاءهما ومحاولة تقريبهما من الدين العظيم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين وغيرهما: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج)، ثم فصل صلى الله عليه وسلم قال: (وكان جريج رجلاً عابداً في بني إسرائيل، فدعته أمه ذات يوم قالت: يا جريج! وهو مقبل على الصلاة، قال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان من الغد دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي؟ فأقبل على صلاته, فلما كان في اليوم الثالث دعته أمه فقال: يا رب! أمي أو صلاتي فأقبل على صلاته، فدعت أمه عليه: اللهم! لا تمته حتى تريه وجوه المومسات)، والمومسات: هن النساء المشتغلات بالزنا والبغي، فتذاكر بني إسرائيل عبادة جريج فقالت امرأة: أنا أفتنه لكم، وكانت المرأة على قدر كبير من الجمال فتعرضت له في الطريق، فأعرض عنها، فذهبت إلى راعٍ فمكنته من نفسها فحملت منه، ثم لما وضعت أخذت المولود وقدمت به على بني إسرائيل، وقالت: هذا الغلام من جريج , فذهب بنو إسرائيل إليه وهو صومعته فهدموها وأنزلوه وأخذوا يوجعونه ضرباً فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة فحملت منك مولوداً فقال: ائتوني بماء حتى أتوضأ, فتوضأ وصلى لله ركعتين، وكذلك حال المؤمنون فإذا حلت بهم النوازل لجئوا إلى الله، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]. ثم إنه بعد ذلك دعا بالغلام فوخزه في خاصرته وقال له: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله ذلك الغلام في المهد وقال: أبي فلان الراعي! نصراً من الله لـ جريج. موضع الشاهد: أن الله استجاب لدعوة تلك الأم على ابنها بأن يرى وجوه المومسات فرأى ذلك، لكن عندما كان ذلك العبد قريباً من الله، وذا عبادة عصمه ودافع عنه، وأظهر براءته. وللحديث بقية وإنما اكتفينا بموضع الشاهد منه؛ لأنه هو المقصود. وقد جاء في بعض الروايات أو في أقوال بعض أهل العلم أن جريجاً رحمة الله تعالى عليه لم يكن فقيهاً، ولو كان فقيهاً لما قدَّم النافلة على طاعة الوالدين. ومن أسباب العقوق كذلك: أن كثيراً من الشباب أو من الرجال يكون لديه ضعف في شخصيته، أو كما يطلق بعض الناس على هذه الحالة: أن لديه مركب نقص، فيريد إن يظهر قوته وسلطانه أمام أقرانه وزملائه ورفقائه وأصحابه بأن يعصي والديه أمامهم، أو أن يتجرأ على الوالدين أمامهم، أو أن يبين لهم أنه ليس لوالديه سلطان عليه، فهو يغدو ويروح، ويذهب ويجيء، ويرفع الصوت ولا يبالي، ويأخذ من الأموال ما شاء فيتعجب الرفقاء والقرناء والأصحاب من قوة شخصيته، وهؤلاء يقول الله في مثلهم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وصدق الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فالحق يعرف بنوره ولا يعرف بكثرة أو قلة أتباعه، فإن للحق نوراً لا يخفى على أحد. هذه بعض أسباب الحقوق، وقد يفتح الله على غيري فيذكر أكثر منها وغالب الظن عندي أنها من أعظم أسباب عقوق الوالدين، وهي منافية لما أمر الله به ولما وصف الله به الصالحين فيحيى عليه السلام يقول الله فيه: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم:14]. ثم ذكر الله جل وعلا الصفة الثالثة ليحيى عليه الصلاة والسلام فقال جل ذكره: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]، فالكبر رذيلة من الرذائل في حق بني آدم، وهو صفة عظيمة من صفات الله جل وعلا، فالكبرياء رداء الله، والعظمة إزاره، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قطعته أو بهته)، وأمر الله يكون الإنسان مجبولاً على التواضع وغض الطرف وأمر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله على من قال: تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولاتكن كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن الناس غالباً لا يحترموك إلا لسلطان أو لمال أو لغنى أو لما شابهه، هذا إذا كنت عندهم، فإذا انصرفت عنهم لعنوك، ولكن تكسب قلوب الناس إلا بالخلق الحسن والتواضع والبعد عن الكبر؛ لأنك لا تستطيع ولن تقدر أن تنازع الله بسلطانه، يقول الله جل وعلا مؤدباً لخير المؤدبين صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، ولقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الكبر، وأقرب الناس -صلى الله عليه وسلم- إلى التواضع، ولذلك تآلفت قلوب المؤمنين الخلّص حوله، قال الله جل وعلا: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. يقول جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه -والحديث في صحيح مسلم (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى يعني: صلاة الظهر، قال: ثم انصرف فتبعه غلمان أهل المدينة يسلمون عليه، قال جابر: فسلم عليهم واحداً واحداً حتى وصل إليَّ -يقصد: نفسه- فسلمت عليه فوجدت بيديه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار)، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه. ومن أمثلة تواضعه صلى الله عليه وسلم, أنه لما زار بعض بيوت أصحابه أخذ يداعب غلاماً صغير يقول: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، والنغير: طائر من الطيور كان أبا عمير -وهو طفل صغير- قد وضعه في قفص فمات الطائر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه ويسليه والحديث في البخاري وغيره، فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم. ونحن كمؤمنين لسنا مكلفين بإتباع زيد ولا عمرو ممن يخطئ ويصيب، ولكنا ملزمون شرعاً بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعيرك أحد أن التواضع من ضعف الشخصية بل إن التواضع دليل على الصحة النفسية ودليل على ثقة المرء بنفسه إلا عند أهل الكفر، قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، فهذه ثلاث صفات وصف الله جل وعلا بها نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام. ثم قال الله تبارك وتعالى في حق يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]، وعندما يمعن الإنسان النظر في يوم الميلاد ويوم الموت ويوم البعث يجد أن هذه الثلاثة المواضع لا يمكن أن تتكرر أبداً، فالإنسان أياً كان لا يولد مرتين، ولا يموت مرتين، ولا يبعث مرتين، فكلنا يولد مرة واحده، ويموت مرة واحدة، ويبعث مرة واحدة، فإذا سلم الإنسان في هذه المواطن الثلاثة فقد سلمه الله جل وعلا، والله كتب السلامة ليحيى ولعيسى بن مر

ذكر قصة مريم في السورة

ذكر قصة مريم في السورة ثم بعد ذلك ذكر الله جل وعلا قصة مريم البتول رضي الله تعالى عنها، وذكر فيها ميلاد المسيح عيسى بن مريم، وقضية المسيح عليه الصلاة والسلام قضية كبرى، ولعل الله يوفقنا لبيانها. فمريم -كما قد علمتم في أول الدرس- امرأة نشأت في بيت من بيوت الله وكانت على قدر كبير من الصلاح والتقوى حتى إن ملائكة الله كانت تزورها في محرابها، قال الله جل وعلا ينبئ عن ذلك: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43]. وهذا كله قبل أن تلد المسيح عيسى بن مريم، بل إن الملائكة بشرتها بالمسيح قبل أن تلد وهذا من فضل الله جل وعلا على تلك المرأة التي وصفها الله في القرآن بقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]، فشهد الله جل وعلا لها بالصديقية. فمضت هذه المرأة تعبد الله وتوحده وتذكره وتهلله سبحانه وتعالى على الوجه الذي ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، حتى خرجت ذات يوم تريد شيئاً من الراحة شرقي بيت المقدس، وكانت -على قول بعض المفسرين والمؤرخين- تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً. قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:16 - 17]، فبعث الله جل وعلا إليها ملكاً وهو على الصحيح والله أعلم: جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فتمثل لها بصورة شاب وضيء الوجه، تام الخلقة، حسن الخلق، قال الله جل وعلا: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، أتاها وهي امرأة عذراء، لم تتزوج، وتقابل شاباً أخبر الله أنه وضيء تام الخلقة بشراً سوياً، ومع ذلك لم تفتتن به، ولم تبغي، ولم تهمز، ولم تغمز له، ولم تكشف عن نفسها حجاباً بل إنها خافت على نفسها دون أن يصدر منه أي دليل على أنه يريد بها سوءاً, فهو لم يتكلم معها ولم يطلب منها أمراً محرماً ومع ذلك من شدة عفافها وحيائها وخوفها من الله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]. فاستعاذت بالله جل وعلا منه ودعته إلى أن يتركها قائلة: {إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنت تقياً فتخلى عني أو فاتركني أو فلا تلمسني، يقدر بحسبه، لكن هذا هو الصحيح في تفسير الآية؛ ولذلك قال العلماء: علمت أن التُقى ذو نهيه فوصفته وأخبرته وذكرته بتقوى الله جل وعلا. وفي هذا درس بليغ لأخواتنا المؤمنات: أنه ليس هناك زينة أعظم من الحياء، فالمرأة تتزين حسياً ومعنوياً، أما حسياً فلا حرج فيه إن كان لزوجها قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، ولكن أعظم زينة معنوية هي: الحياء؛ لأن الشيء إذا كان مستتراً مكنوناً تشتاق النفوس لرؤيته، أما إذا كان الشيء معروفاً للعيان فإن الناس تحجم عنه، ولذلك أصحاب الغوص والبحار ينزلون إلى قاع البحار للبحث عن الدر المكنون، أما ما يعلو على سطح البحر من أشياء معروضة فإن أهون الصيادين أو أهون من الغواصين أو أهون الباحثين يعرض عنه ولا يريده. فالله الله يا نساء المؤمنات! وهن يسمعنني الآن أن يستوصين بأنفسهن خيراً، وأن يعلمن أن الحياء والعفة والتزام وتقى الله جل وعلا هي الزينة العظمى، وهي الكساء الأجل والأجمل، وهي ما يدعو الصالحون والأخيار والرجال ذوي الكرامة والشهامة أن يطلبوا أياديكن. أما إن كنتن غير ذلك -والعياذ بالله- فإنما يهفوا إليكن الرعاع من الناس والسوقة والأقوام الذين لا خلاق لهم، والمرأة الأبية العفيفة لا ترضى بأولئك، ولا ترضى أن تكون قرينة لمثل أولئك ممن لا خلاق لهم، وهو في حقها أعظم من حق الرجل؛ لأنه ربما تاب بعد ذلك وتزوج أما أنت أيها المؤمنة! فإن وبال ذلك قد يبقى وقد لا يُغسل وقد لا يُترك، وقد يبقى وشمة عار، أسأل الله لنا وللمؤمنات إن يحفظهن الله من كيد الأشرار، ومن زيغ الفجار إنه جل وعلا حفيظ عليم. ثم نقول: في هذا بيان خشية الله فقد ورد أن جبرائيل لما قالت له مريم: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم:18]، قيل: إن جبرائيل لما سمع كلمة الرحمن انتفض فرقاً حتى قيل: إنه عاد لهيأته الطبيعية التي خلقه الله تعالى عليها، وهذا ليس ببعيد؛ لأن الملائكة أعلم الناس بربها تبارك وتعالى، فطمأنها وهدأ خاطرها، وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، فتعجبت! {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم:20]! الغلام لا يأتي إلا من زواج مشروع أو من بغي محرم، ونفت عن نفسها كلا الأمرين: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:20]، أي: عن طريق الزواج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]، فقال لها جبرائيل: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} [مريم:21]، أي: هذا الغلام، {آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم:21]، لكونه نبي، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، أي: هذا أمر منتهٍ؛ لأنه قد خُطَّ في اللوح. فنفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى دخلت في فرجها ثم إلى رحمها ثم حملت كما تحمل النساء إذا جامعهن الرجال، قال الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:22]، اختلف أهل العلم رحمة الله تبارك وتعالى عليهم في مدة الحمل فمنهم من قال: إنها ساعات معدودة ومنهم من قال: إنها ثلاثة أيام، ومنهم من قال: غير ذلك. والصواب أن يقال: إن الأمر يبقى على أصله أنه تسعة أشهر؛ لأنه لو كان خلاف الأصل لأخبر الله جل وعلا به، لكن لما سكت الله عنه، فإن الأمر يحمل على ما يجري على غيرها من النساء، والعادة أن المرأة تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر، {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم:22]، أي: بعيداً، فلما اشتد عليها المخاض قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23]، أي: ألزمها المخاض، وما يكون من ألم يصيب المرأة إذا ولدت، {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23]، قيل: إنها كانت يابسة. فلما أحست شدة ألم الولادة خافت أن تفتن في دينها، وماذا تقول للناس إن عادت به إليهم؟ ولم تعلم أن الله سيظهر دلالة صدقها. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، ومنه أي: من هذه الآية أخذ بعض أهل العلم جواز تمني الموت عند نزول الفتن، فلقد قال صلى الله عليه وسلم في شروط الساعة: (إن الرجل يمر على قبر الرجل يقول: ياليتني مكانك! مما يرى من الفتن)، عافانا الله وإياكم قبل ذلك اليوم. {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:23 - 24]، قيل: إنه جبريل، وقيل: إنه عيسى، الظاهر -والله أعلم- أنه جبرائيل، {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24]، والسري في لغة العرب: هو الجدول من الماء الصغير أو قيل: هو النهر الصغير. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، فلما هزت جذع النخلة تساقطت عليها الرطب، وفي قول الله جل وعلا لها وأمره بأن تهز جذع النخلة دليل على أن الأمور مربوطة بأسبابها -وإن كان فضل الله واسعاً- وبيان للعبد أن يتبع الأسباب، ولذلك قيل: ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب ولو شاء ألقى الثمر من غير هزة ولكن كل شيء له سبب فلما هزت واطمأنت وقرت عيناً كما أراد الله لها أوصاها الله جل وعلا ألا تتكلم، وأن يكون شعارها الصمت، {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26]، أي: امتناعاً عن الكلام، {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]. فحملته ووضعته في مهده، وقدمت به على الملأ من بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27]، فتعجبوا!! {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27]، أي: أمر عظيم هائل لا تصدقه العقول، ثم أخذوا يكثرون عليها اللوم والعتاب: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28]، وهارون هذا رجل صالح كان في بني إسرائيل فشبهوها به؛ لأنها كانت تشبهه في عبادتها لله جل وعلا، وليس المقصود به: هارون أخو موسى بن عمران عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأنت من عائلة معروفة بالتقى، {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فمن أين أتيت بهذا الشيء الذي ليس من طبع قومك، ولا من أخلاق والديك، وليس منك بشيء؟! فلم تملك جواباً؛ لأنها أمرت بالصمت، فما زادت على أن أشارت إليه، فلما أشارت إليه ظنوا أن هذا زيادة في التهكم. {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، هنا أظهر الله جل وعلا أولى معجزات المسيح ابن مريم فأنطقه الله في مهده والله على كل شيء قدير: {

اختلاف الناس في المسيح بن مريم

اختلاف الناس في المسيح بن مريم إنه ما اختلفت أمة من الأمم ولا قوم من الأقوام كما اختلف الناس في المسيح عيسى بن مريم, فاليهود حاربوه وحاولوا صلبه وظنوا أنهم صلبوه، وقومه النصارى منهم من زعم أنه هو الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومنهم من زعم أنه ابن الله، ومنهم من قال بعقيدة الأقانين الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وهم يقولون: الثلاثة واحد والواحد ثلاثة. والله جل علا كفَّر كل قائل بهذا القول، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن المسيح هو ابن الله، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:88 - 94]. وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، قال الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:171]، فهذه عقيدة النصارى في المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام. وهم يزعمون في بعض معتقداتهم أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ارتكب خطأ عظيماً، ولما اهبط إلى الأرض كان على خطيئته وتبعه أبناؤه على تلك الخطيئة، وقالوا: إن من عدل الله ألا يترك خطيئة بدون عقاب، فأنزل الله جل وعلا ابنه الذي هو الله على الأرض، ليأتي من رحم امرأة فيكون إنساناً من جهة لكونه ابن مريم، وليكون إلهاً من جهة لكونه ابن الله، ثم إنه يدعو إلى شريعة الله الذي أتى منه، ثم يتكالب عليه الأشرار فيقتلوه ويصلبوه يسمِّروه على الخشب، فيكون بذلك هذا الابن قد خلص الناس من خطيئاتهم؛ لأنه تحمل عنهم تلك العقوبة، فلذلك يسمونه بعضهم: ذي نصير. هذا قد يكون مجمل عقيدة النصارى في المسيح بن مريم، ولا ريب أنها عقيدة باطلة ما أنزل الله جل علا بها من سلطان، ولغلوهم في المسيح لجئوا إلى هذه الأمور، وتفرقوا تلك الفرق، وقالوا على المسيح ابن مريم ما قد سمعتموه وما أخبر الله جل وعلا عنه. أما عقيدتنا -نحن المسلمين- في المسيح بن مريم فإننا نقول كما قال الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، وانظر إلى الإشارة في قول الله جل وعلا: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، فإن من يأكل الطعام لا بد أن يخرج هذا الطعام، فكيف يكون إلهاً من يذهب إلى الحمام؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولكن الله كنى عن هذه المسألة وهذا من الأدب القرآني بقوله تبارك وتعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، ليستدعي الانتباه، وليثبت العقول إلى هذا المقصود؛ ولأنه يستحيل أن يكون نبياً, ثم إن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام هو نفسه يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، والنصارى يزعمون أنه الله على قول، ويزعمون أنه ابن الله، والله جل وعلا ليس المسيح بن مريم وهو منزه عن الولد، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. فينبغي أن يعلم أن المسيح بن مريم سبقت له من الله الحسنى فلا يضيره كون النصارى زعموا أنه إله أو زعموا أنه ابن الله، قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99]، هنا رفع أهل الشرك أعناقهم وقالوا: إن على هذا القول المسيح في النار! فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وهذا جواب. والجواب الثاني: أن الله قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:98]، و (ما) تطلق على غير العاقل ولا تشمل العاقل؛ لأن العرب تستخدم (ما) الموصولة لغير العاقل وتستخدم (مَنْ) للعاقل. مكث المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله جل وعلا وأنزل الله جل وعلا عليه كتاباً سماوياً: هو الإنجيل, والإنجيل: كلمة عبرية ومعناها: البشارة, وقد ضمنَّ الله الإنجيل العظيم من الهدى والنور، ومما جاءه الإنجيل البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى على لسان عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، وجاء فيه وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29]. وعيسى عليه الصلاة والسلام لما دعا الله جل وعلا تكالب عليه الأشرار في زمانه، فاتفق أشرار اليهود على قتله والخلاص منه، فطاردوه بعد أن دخل أورشليم -أي: القدس- فلما دخلها ذهبت فئة من اليهود وحاصرته في مكان ليأخذوه ويصلبوه، فرفعه الله جل وعلا إليه كما نص الله في القران، وألقى الشبهة -أي: هيأته على واحدٍ ممن كان موجوداً- فأخذ ذلك الواحد، قال جمهرة المؤرخين: أن اسمه: يهوذاً والله أعلم، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، فظنت النصارى أن المسيح صلب وخلص الناس من خطاياهم، وظنت اليهود أنهم شفوا غليلهم وقتلوا المسيح بن مريم، وكلا الفرقتين واهم ومخطئ فيما ظنه وزعمه وادعاه، قال الله جل وعلا عن اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:156 - 157]، ما الذي حدث؟ {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، النساء. فالله جل وعلا أخبر بأن المسيح عيسى بن مريم لم يقتل ولم يصلب ولكن القتل والصلب وقع على غيره، وأنه عليه الصلاة والسلام قد رفعه الله جل وعلا إليه، وهذه هي عقيدتنا نحن المؤمنين في قضية صلب المسيح عليه الصلاة السلام.

ذم اليهود على ألسنة أنبيائهم

ذم اليهود على ألسنة أنبيائهم وهنا نجنح ونتحدث عن اليهود اليهود أمة ملعونة على ألسنة أنبيائهم والمقصود: الكفار منهم، قال الله جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]. وهم أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]. وتطاولهم على أنبياء الله ورسله أمر ذكره الله في القران، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. بل إنهم تطاولوا على رب العالمين فإن الله جل وعلا لما بعث خير خلقه وصفوة رسله محمد صلى الله عليه وسلم حاربه اليهود وتطاولوا على الذات العلية في حياته صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فأنزل الله جل وعلا قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْر ِحَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]، ثم تطاولوا فزعموا -عليهم من الله اللعنة- أن الله بخيل يشح بما يعطي، فأنزل الله جل وعلا تنزيه ذاته العلية ورده على أولئك المغضوب عليهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]. اليهود قوم جبلوا على الحسد، تقول صفية بنت حيي بن أخطب -كما ذكر ابن إسحاق بإسناد جيد في السير- قالت: إن أباها حيي بن أخطب، وعمها أبا ياسر لما علما بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم خرجا في ضواحي عمر بن عوف -أي: عند قباء اليوم- ينتظرون قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه وهو قادم عليه الصلاة والسلام، واليهود كما تعلمون قوم أوتوا الكتاب وكانوا على علم عظيم، فلما رأوه عرفوه فرجعوا وفيهم ما فيهم من الحقد والبغض لنبينا صلى الله عليه وسلم، تقول صفية رضي الله تعالى عنها -ومعلوم أنها أسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم-: فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، هو بعينه، قال: أتعرفه؟ قال: نعم، هو كما عندنا في وصفه، فقال أبو ياسر بن حيي: فما رأيك نحوه؟ قال: عداوته ما بقيت، ما تبلوا عليه والعياذ بالله من كفر وحسد للمؤمنين، قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146]، أي: محمد صلى الله عليه وسلم، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، ولكن -والعياذ بالله- منعهم الكبر والحسد عن اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة عظيمة لما يمكن أن يصنعه الحسد في الصدور أخلص الله سريرتي وسريرتكم، وصفَّى الله صدري وصدركم.

الحديث عن تحريف الإنجيل

الحديث عن تحريف الإنجيل الإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا على عيسى من المعلوم أنه قد لحقه التحريف الكثير، والأناجيل الموجودة اليوم والتي تقر بها الكنيسة: إنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وإنجيل مرقص. هذه على ما نعلم الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم، وهناك إنجيل قال بعض العارفين والعالمين بهذا الشأن إنه أقرب إلى الحق والصواب وهو إنجيل برنابا أو اسماً قريب من هذا، لكن الكنيسة لا تعترف به اليوم، ثم إنكم ترون دفاع الكثير من المؤمنين من العلماء والدعاة والجهود المبذولة في قضية تصحيح عقيدة النصارى في المسيح بن مريم، وقد كتب حتى بعض العلماء السابقين في هذا الباب كما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه وقدس الله روحه كتابه الشهير: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ومن علماء العصر ودعاتهم الذين برزوا في هذا المجال، والذي ينبغي للداعية ولطالب العلوم ولغيرهم أن يطلعوا على جهودهم، وأن يقرءوا ما لهم وأن يشاهدوا مناظراتهم الداعية الإسلامي الشهير أحمد ديدات وفقه الله وتقبله عنده في الصالحين، والدكتور جمال بدوي تقبل الله منهما ومن غيرهما مما لا نعلم ولا يضرهم أننا لا نعلم منهم شيئاً ممن يجاهدون بالكلمة الصادقة في الغرب وفي أمريكا وفي غيرها من معاقل الكنائس، وبيان أرباب الكفر وممن يصححون للناس هذه العقيدة الباطلة.

بيان أن نزول عيسى من علامات الساعة الكبرى وبيان الحكمة من نزوله

بيان أن نزول عيسى من علامات الساعة الكبرى وبيان الحكمة من نزوله خص الله جل وعلا عيسى بالنزول دون غيره من الأنبياء، وأن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام علامة من علامات الساعة الكبرى، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ} [الزخرف:61]، فالضمير عائد على عيسى، {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61]، وقال الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]. فنزول عيسى أمر جاء به صريح القران، وجاء به صحيح سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعد ظهور الدجال وما يشيع في الأرض من فساد كبير، ينزل عيسى بن مريم واضعاً يديه على جناحي ملك شرقي المنارة البيضاء عند بيت المقدس، وبيده حربة يطعن بها الدجال فيموت الدجال، فيحكم عيسى عليه السلام بالعدل فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرى الناس في عهده الأمنة والبركة، وهذا من علامات الساعة الكبرى. وهناك Q لماذا كان عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان دون غيره من الأنبياء؟ و A أولاً: لسنا مطالبين بهذا إلزاماً، لكننا نقول: إن كثيراً من العلماء تلمسوا الحكمة في هذا فذكروا أموراً لا نجد غضاضة في قولها، وربما كانت قريبة من الصواب، منها: حتى يبين الله جل وعلا بطلان ما زعمته اليهود أنهم قتلوا المسيح بن مريم، وفي نزوله عليه الصلاة والسلام: إثبات لضلال أولئك اليهود؛ ولكي يعلموا أنهم لم يصلوا إلى عيسى ولم يتطاولوا عليه؛ لأن الله جل وعلا حفظه من كيدهم وشرهم. الحكمة الثانية: في نزوله عليه السلام بيان لبطلان عقيدة النصارى في أن المسيح صلب وخلَّص الناس من خطاياهم، فبنزوله يثبت عدم صلبه وبذلك يبطل عقيدة من زعم من النصارى أن المسيح صلب، وكذلك من الحكم في نزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء عهداً وأقربهم عهداً نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في صحيح البخاري: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم). وكذلك من الحكم: في ذلك بيان أنه بشر، فلا بد أن يدفن في الأرض، فكان حقاً أن ينزل إلى الأرض كرة أخرى فيموت فيها كما يموت البشر، ثم يدفن فيها كما يدفن البشر.

عظات وعبر من قصة المسيح بن مريم

عظات وعبر من قصة المسيح بن مريم هذا مجمل ما أردنا بيانه في قصة المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه من العظات والعبر ما يأتي: أولاً: أن الله جل وعلا منزه عن كل عيب ونقص, وأنه تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه, وما سواه فقير إليه جل وعلا، وأنه من أعظم الفرية أن يزعم عبد من العباد أن الله جل وعلا اتخذ ولداً, وأن من موجبات الدعاء أن تعظم الله جل وعلا وتنزهه عن الصاحبة والولد، وتنزهه تبارك وتعالى عما وصفه به الظالمون، ولذلك فإن الله في القرآن ينزه ذاته العلية عما يقولون، قال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:40 - 44]. الفائدة الثانية: أن الله جل وعلا يمن بالفضل على من يشاء من عباده، ويظهر أحياناً جل وعلا قدراته ولكن ليس كل عبد يفتح عليه في أن يعلم تلك القدرات، ففي كون المسيح يأتي من غير أب إتمام للحقائق الأربع وهي: أن الله جل وعلا خلق آدم من غير أب ولا أم، هذه واحدة، وخلق حواء من رجل دون أنثى هذه الثانية، وخلق الناس جميعاً من أب وأم هذه الثالثة، وتبقى واحدة وهي أنه يخلق ويوجد عبد من أم دون أب، فكان المسيح بن مريم. لذلك قال الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه في تفسيره لهذا الأمر: تمت القدرة الإلهية وأظهر الله جل وعلا عظيم سلطانه وعظيم قدرته في كونه تبارك وتعالى فخلق الخلائق على أربعة قدرات أو على أربعة أنماط.

ذكر إبراهيم ودعوته لأبيه في السورة

ذكر إبراهيم ودعوته لأبيه في السورة الوقفة الأخيرة في سورة مريم مع قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:41 - 44]. أنبأ الله في هذه الآيات عن الدعوة والسبيل الذي اتخذه نبي الله جل وعلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام عبد اصطفاه الله وما من أصحاب ملة إلا وزعموا أن إبراهيم منهم, فاليهودية زعمت ذلك، والنصرانية زعمت ذلك، حتى إن أهل الإشراك زعموا أن إبراهيم منهم، والله جل وعلا نزهه عن ذلك كله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، ونبينا صلى الله عليه وسلم في عام الفتح عندما دخل الكعبة وجد المشركين قد وضعوا صورة إبراهيم وصورة إسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (قاتلهم الله! ما لشيخنا وللأزلام)، ثم تلا: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران:67]، إلى آخر الآية.

بيان كيفية الدعوة من خلال قصة إبراهيم عليه السلام

بيان كيفية الدعوة من خلال قصة إبراهيم عليه السلام وهذه الآيات تبين كيفية الدعوة إلى الله جل وعلا. فالدعوة هي أعظم مهمة، وأجل رسالة، ولذلك أناطها الله بالأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، ولقد بعث الله أنبياءه ورسله للدعوة إليه، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. فشخصية من تدعوه تلعب دوراً كبيراً، فهي تحدد كيف تدعوه؟ فإبراهيم عليه السلام دعا أباه، ودعا عبدة أوثان، ودعا عبدة كواكب، وكان في كل مرة يستخدم الأسلوب المناسب في الدعوة. ففي دعوته لعبدة الأوثان والرعاع قال: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67]، وفي دعوته لأبيه اتخذ الأسلوب الأمثل في حق والده عليه قال: {يَا أَبَتِ} [مريم:42] ثم يكمل شيئاً فشيئاً حتى نهره أبوه، ثم قال بعد ذلك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، وقال في دعوته: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]. فاختار كلمة عذاب؛ لأنها نكرة حتى لا يعلم مقدراه، واختار كلمة الرحمن حتى يكون أرفق بالوالد، ولم يقل يمسك عذاب من الجبار أو من القوي أو من العزيز فكلها أسماء لله ولكنه اختار أسلوباً قريباً من نفسية والده. وعندما دعا أصحاب الكواكب تنازل معهم إلى ما يريدون، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77]، أي: معاملة لهم بعقليتهم، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78]، فأقروا أنه يريد ملتهم {فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام:78]، وهنا توقف وأقام عليهم الحجة، {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79]، فأقام عليهم الحجة، وسواء اهتدوا أم لم يهتدوا فإنه لم يكلف بهدايتهم، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]. فلذلك انظر إلى من تدعوه قبل أن تعرف ماذا ستقول له. وإن هناك سؤالاً يطرح نفسه كثيراً وهو: هل الوسائل والطرائق في الدعوة تتعدد أم لا تتعدد؟ والحق الذي ندين الله جل وعلا به أن ما تدعو إليه واحد لا يتغير، فإنك تدعو إلى الكتاب والسنة، أما أسلوبك في الدعوة فإننا نرى أنه متوقف على شخصية من تدعوه، فلكل إنسان مفتاح إلى شخصيته، وإلى قلبه، ولو طرقت قلبه من ذلك الطريق لقبل منك, فنبينا عليه الصلاة والسلام علم أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه كان رجلاً يحب الفخر، فقال في يوم الفتح يرغِّب أبا سفيان في الدخول في الإسلام قال: (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن دار أبا سفيان لا يمكن لها أبداً أن تتسع لأهل مكة ولكن ترغيباً منه لـ أبي سفيان في أن يدخل في دين الله. وبعث صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم وهو كافر بالكتاب كافر بالسنة قال له في رسالته: (من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، فوسمه ووصفه بأنه عظيم الروم حتى يكون أدعى في قبول دين الله جل وعلا. وكذلك المؤمن فلا تظلم من تدعوه، بل ائته بالأسلوب الحسن بالطريق الأمثل وبخاصة عند دعوة الشباب فربما رأى منظراً أعجبه فقلَّد شخصاً بعينه فلما قلده لأول وهلة أو لأول نظرة لو لأول حدث فلو أتيته بالحكمة وذكرته بالله ووصفت له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من هدي قويم لقبل منك، دون الدخول في العنف والمواجهة المباشرة، فعندما تدعو رجلاً لا يدعو إلى ضلال ولا يدعو إلى فجور ولكن ضلالته وفجوره على نفسه ذلك يختلف اختلافاً كثيراً عندما تدعو رجلاً من أئمة الضلال ممن يؤلفون الكتب أو ممن يلمزون في الدين أو ممن يسخرون من أهل الدين أو تصدروا للصد عن سبيل الله جل وعلا. فعلمك بمن تدعوه يلعب دوراً كبيراً فيما ستقول له من كلام, فأبوك في المنزل لا يعقل أن تناديه وأن تخاطبه أو تدعوه بالطريقة التي تدعو بها أصحابك أو تدعو بها أقرانك أو تدعو بها في المسجد، وإنما اتخذ أكمل السبل فلا يمكن إذا ابتليت بأب لا يصلي بأن تناديه من الدور الثاني مثلاً: هيا قم صلِّ! فهذا لا يقبل، ولكن إذا قربت سيارتك من الدار وفتحت باب مقعد الجلوس ثم ذهبت إليه وقلت له: يا أبي! اعتقد أنه حان وقت الصلاة، بأسلوب مؤدب ويرى السيارة مجهزة، ويرى الباب مفتوحاً فإنه سيقبل ويستحيي أن يقول لك: لا, لكن أن تناديه أمام أمك وأمام إخوانك وتظهر لأمك ولإخوانك أنك الرجل الكامل في البيت، وما سواك أنهم من أهل النار، أو أن تناديهم لأنك قد ملكت السلطان المبين وهم على ضلال وزيغ فهذا لا يعقل أبداً, وأنت بذلك صددت الباب قبل أن تفتحه, أنت أغلقت على نفسك الطرق إلى قلب والدك, وحرمت نفسك من أجر هداية والدك أو غيره فالمقصود: ينبغي أن يختار الإنسان الأسلوب الأكمل والأمثل في الدعوة مع قيد واحد ألا يكون ذلك الأسلوب أمراً محرماً, فلا تأتي لشخص يحب الخمر فتهدي إليه كأساً من الخمر وأنت تزعم أنك تدعوه إلى طاعة الله! فهذا الضلال بعينه أما سوى ذلك فإننا لا نرى والله تعالى أعلم حرجاً في أن تتعدد الوسائل في الدعوة إلى الله. هذا ما أردنا بيانه في قصة مريم. نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.

الأسئلة

الأسئلة

بيان فضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على حواريي عيسى

بيان فضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على حواريي عيسى Q أيهما أفضل: الحواريون أم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ A الحواريون: هو نعت لأصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. وهم قوم أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه إلا أنهم رغم ما هم فيه من علو المقام ومن صحبة نبي كريم هو عيسى عليه الصلاة والسلام إلا أنهم ليسوا بأفضل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكما أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو خير النبيين فكذلك أصحابه رضي الله تعالى عليهم أجمعين -بلا استثناء- هم خير أصحاب النبيين على الإطلاق. ولذلك كان أبو بكر أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين؛ لأنه أفضل هذه الأمة، وكذلك عمر، وعثمان، وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, والمقصود: أن للحواريين فضلاً، وللصحابة فضل، ولكن فضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم قدراً من فضل الحواريين عليهم من الله الرضا.

الإرشاد إلى كيفية التصرف مع الإخوان إذا كانوا غير ملتزمين

الإرشاد إلى كيفية التصرف مع الإخوان إذا كانوا غير ملتزمين Q يقول: إنه شاب مبتلى بإخوان غير ملتزمين ولكن أباه -حسب قوله- رجل صالح، وإنهم ابتلوا بشيء من الآلات التي تكون سبباً في وجود الفساد، فكيف التصرف معهم؟ A مسالة أن الإنسان يبتلى بإخوان غير صالحين قل من يسلم منها، وهي تضاعف المسئولية على الوالد وتضاعف المسئولية على الابن الصالح في البيت. ولذلك يقع واجب عظيم على الإخوان الذين منَّ الله عليهم بالهداية في بذل الجهد في دعوة إخوانهم من الشباب الذين يسكنون معهم في بيت واحد وتحت سقف واحد، فأما كون المؤمن يبتلى بآلة في بيته وراءها شر مستطير، فإننا نقول أولاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم نقول: إن وقعت وكانت ووجدت فإن السبيل يكون بأن تضرب الصفح ذكراً عنها في المواجهة المباشرة, ولكن حاول أن تكسب إخوانك شيئاً فشيئاً ولا تملي عليهم زيداً أو عمرو فلو قلت لهم: قال الشيخ فلان! أو يفعل الشيخ فلان فإنهم لا يجدون غضاضة في أن يتجرءوا عليك؛ لأنهم بشر، ولكن ادخل إلى قلوبهم من باب وصف هدي محمد صلى الله عليه وسلم فإنني لا أظن أن مؤمناً يخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فلا يملك المدعو إلا إن يغض الطرف ويسلم بالأمر، وإن لم يفعل فإن أقل القليل أنك تسلم من ردة فعله, ثم أبدا بالأقرب منهم إلى الهدى فإذا كنتم اثنان فإن جهد الاثنين ليس كجهد الواحد، فإذا ضممتم إليكم ثالثاً فإن جهد الثلاثة ليس كجهد الاثنين، وهكذا شيئاً فشيئاً مع إلانة القول لهم حيناً والوعيد حيناً آخر بحسب الحال. فإن كانوا مجتمعين غلِّب جانب الرقة وإن كان واحداً غلب جانب الوعيد؛ لأنه لا يملك أن يرد عليك، لكن إن كانوا كثيرين فلا تأتيهم بالوعيد فربما تسلطوا عليك، وإنما ائتهم بالرقة والحنان واتخاذ أسلوب الوعد علّ الله جل وعلا أن يمن عليهم وعلى شباب المسلمين بالهداية.

وصية للنساء

وصية للنساء Q هل من وصية للنساء بمناسبة الحديث عن مريم بنت عمران؟ A سبق وصية النساء في الدرس، ولكن لا ضير في التذكير كرة أخرى، فإننا نوصي المؤمنين والمؤمنات وأنفسنا أولاً بتقوى الله جل وعلا والرغبة فيما عنده، والرهبة مما عنده تبارك وتعالى، وأن يكون الإنسان على هدي قويم من الله، وأن يعلم انه سيبتلى بالفتن فالنبي صلى الله عليه وسلم زار البقيع في آخر أيام حياته فقال لأهل البقيع: (ليهنكم ما أنتم فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها)، هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته قبل 1400 عام، فما بالك بالفتن في هذه الأيام وهذه السنين وهذه الأعوام؟! نسأل الله لنا ولكم السلامة, المهم أن يستمسك الإنسان بحبل الله المتين، وأن يرجع إلى الله جل وعلا بالدعاء فإن الدعاء كما بينا: هو العبادة والله جل وعلا قال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]. فالتضرع إلى الله أمر مطلوب، فأوصي المؤمنين والمؤمنات بتقوى الله والتضرع إلى الله جل وعلا، وأن يتقي الله المؤمن فيما بين يديه، وأن يتقي الله المؤمن فيما يأتيه، وفيما يتركه، عصمنا الله وإياكم من الزلل، وألبسنا الله وإياكم من الإيمان الحلل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقفات مع سورة ص

وقفات مع سورة ص حوت سورة ص على تساؤلات تساءل بها أهل الكفر والضلال من مشركي قريش، ينكرون فيها رسالة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فردّ الله عليهم في هذه السورة بردود مفحمة ملجمة لأفواههم. ثم ذكر الله بعضاً من قصص الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام مثل: داود وسليمان وأيوب وغيرهم، وفي هذا تسلية لقلب الرسول الكريم، وتسريح لما قد يصيبه من الهم والحزن من جراء صدود جهلاء الناس عن الرسالة

بين يدي سورة ص

بين يدي سورة صّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق آدم من طين، وأسجد له ملائكته المقربين. وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، أغنى به من العيلة، وكثر به من القلة، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، اللهم وعلى من اقتفى أثرهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا أحد دروس التفسير تحت العنوان الأكمل والشامل: وقفات قرآنية. وفي هذا اليوم معنا وقفات مع سورة ص: وقد صدر الله جل وعلا هذه السورة الكريمة بحرف هو (ص)، وهي لها مثيلات في القرآن صدرنَّ وكانت فواتح تلك السور حروف متقطعة، ولعله كما هو معلوم أظهر ما قيل في هذه الحروف: أن مرد علمها إلى الله جل وعلا، والتوقف في بيانها لعله أبرأ وأكمل وأفضل. والعرب لها ثمانية وعشرون حرفاً وقد رتبت أحياناً كما تدرس اليوم: ألف، باء، تاء إلى آخره، ورتبت قديماً على قاعدة قولهم: أبجد، هوز إلى آخره، ورتبها الخليل بن أحمد الفراهيدي بحسب مخارجها من الحلق فبدأ بالعين، وسمى معجمه معجم العين، وأياً كان ذلك الترتيب فإن من هذه الحروف تكون لغة العرب التي نزل الله جل وعلا بها القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله جل ذكره: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، وقال جل ذكره: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].

وقفة مع قوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر فليرتقوا في الأسباب)

وقفة مع قوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر فليرتقوا في الأسباب) ثم صدر الله تبارك وتعالى هذه السورة بالقسم فقال جل ذكره: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:1 - 2]. أخبر جل ذكره: أن هذا القرآن الذي تدعو إليه وترشد إليه وتأمر الأمة أن تتبعك عليه أن فيه ذكر لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفيه ذكر لخيري الدنيا والآخرة، وفيه ذكر لما يصلح للعباد في أمر دينهم وفي أمر دنياهم، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكون هؤلاء الملأ من الكفار يعرضون عن ذكرك فهذا نقص فيهم ليس في الكتاب الذي أنزل عليك.

سبب نزول الآيات

سبب نزول الآيات (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أي: في منعة واستكبار ومجادلة من الحق منعتهم أن يتبعوه وأن يسترشدوا به، وقد قيل: إن نفراً من قريش قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته، وقدموا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يخبرونه بما كان من أمر ابن أخيه، وما فرق الناس عليه - حسب زعمهم - فلما لام أبوطالب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأخذ يعاتبه ويسأله على ما كان منه قال: (يا عماه! إنما دعوتهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب، ويسودون بها العجم. فقال أبوطالب مستفهماً: وما هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله)، هنا انتفض الملأ من قريش، وأخذوا ينفضون ثيابهم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وهذا يدل على سعة إدراكهم؛ ولأنهم علموا المعنى الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله)، ولأنهم علموا معناها وعلموا أنهم لا يستطيعون تطبيق ذلك المعنى على الوجه الأتم؛ ولأنه يعني البراءة من كل مظاهر الشرك التي كانوا يصنعونها ويفعلونها ويزعمون أنها حق فقاوموا تلك الكلمة بقولهم: (أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)، وتكاتفوا على الباطل واجتمعوا عليه، وحث بعضهم بعضاً عليه، قال الله جل وعلا: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص:6] أي: أشرافهم، {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، وإنها لكلمة تجعل في القلب رنة أسى، إن كان هؤلاء وهم أهل باطل وعباد وثن ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، يعبدون أصناماً لا تقدم ولا تؤخر بل إنها لا تنطق أصلاً كما قال الخليل إبراهيم: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67]، ومع الباطل الذي هم فيه فقد كانوا متكاتفين، ويزعمون أنهم يؤيد بعضهم بعضاً، ويوصي كل خل منهم خليله بأن يصبر على هذا الأمر الذي كانوا عليه (واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ). ثم ذكروا ما يدعوهم إلى الصبر، وذكروا ما يرونه سبباً في بقائهم على ذلك الدين الباطل فقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، وهذه الآية فيها دليل صريح على أن التقليد المحض غير المبني على برهان ولا دليل ولا بينة إنما التقليد لمجرد التقليد والإمعة في القول والعمل أمر مرفوض مذموم في ذاته، فإن هؤلاء الأقوام قالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ)، أي: لا نحن أدركنا آباءنا ولا آباؤنا أدركوا أجدادهم على هذا الأمر، وإنما نشئوا جيلاً بعد جيل على ملة الكفر. (ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، فزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أمر مختلق من عنده، وما ذلك إلا لكبر في أنفسهم. ثم نال صلى الله عليه وسلم منهم ما ناله قبله إخوانه النبيين، فإنه ما جاء أحد بحق كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بالحق من عند الله إلا وحورب من أئمة الكفر، وهذا الأمر من لدن آدم أو من يوم أن بعث الله على الصحيح نوحاً إلى أن تقوم الساعة، والصراع بين الحق والباطل قائم، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين القويم من ربه أنف أولئك الأقوام وحاربوه واتهموه بالتهم التي لا أساس لها فتارة يزعمون أنه ساحر، وتارة يزعمون أنه كاهن، وتارة يزعمون أنه كذاب إلى غير ذلك من الاختلاقات التي وصفوا بها أكمل البشر على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا تعلم أن قدح الناس فيك إن كان مبنياً على باطل أمر لا يضر ولا يقدم ولا يؤخر، لكن المهم أن توصف بشيء من الحق، أما أن يتجرأ عليك سفهاء أو سقطاء الناس أو الرعاع الذين لا يميزون بين حق والباطل فقد تعرض لهذا الأمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله إخوانه من النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولهذا صبر صلى الله عليه وسلم على قولهم وعلى أذاهم حتى بلغ دين الله - كما هو معلوم - على الوجه الأكمل. ثم إن هؤلاء الأقوام حجَّهم الله جل وعلا بأمور عدة، قالوا فيما قالوه: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8] يقولون هذا مستغربين: فلأي سبب أنزل عليه الذكر؟ ولأي مزية يخُتَص هذا الرجل بالنبوة والحكمة وإنزال القرآن؟ وهنا غاب عن رشدهم أمر لا ينبغي أن يغيب عن أحد، إن أي أمر يمنحه الله جل وعلا لعبد إنما هوفضل من الله ورحمة، وليس لي ولا لك أن نمنع رحمة الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران:74]، فالله تبارك وتعالى هو صاحب الفضل، وهو صاحب المنة، وله تبارك وتعالى الأمر من قبل ومن بعد، ولذلك قال الله تبارك وتعالى يرد على أولئك الأقوام لما قالوا: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص:8] قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص:9] أي: هل بيد هؤلاء الأقوام خزائن رحمة الله فيعطون من شاءوا ويحرمون من شاءوا حتى لا يكون لك حظ ولا نصيب من قسمتهم؟ و A بالتأكيد لا، ليس لهم ولا لغيرهم خزائن رحمة الله تبارك وتعالى. ثم قال الله جل وعلا قامعاً إياهم بالحجة: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:10]، أي: إن كانوا يملكون السماوات، وما فيها ويملكون الأرض وما فيها وما بينهما فليرتقوا فيها، وليمنعوا رحمة الله من أن تصيبك، وأنى لهم ذلك بل هم من أضعف خلق الله جل وعلا قال الله تبارك وتعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، فإن مردهم إلى ضعف، بل مردهم إلى جيفة قذرة، وهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً على أن يمنعوا رحمة الله أن تصيبك أو أن تنالك، يا نبينا يا محمد! صلى الله عليه وسلم. ثم لما كان هذا الأمر في أول الدعوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من أذى قومه حتى إنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح عرض نفسه على شيوخ القبائل لما قالت له عائشة: (يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟! قال: يا عائشة! إن أشد ما لقيت من قومك يوم العقبة عندما عرضت نفسي على فلان وفلان وفلان فصدوني، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهذا مكان بين مكة والطائف، وكان ذلك بعد أن انطلق صلى الله عليه وسلم مهموماً على صدره، ثم قال: (فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب وإذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل فعرفته فسلم علي، ثم قال: يا محمد! هذا ملك الجبال بعثه الله إليك لتأمره بما شئت. فسلم ملك الجبال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله بعثني إليك لتأمرني بما شئت، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) وقد كان صلى الله عليه وسلم في ذروة الهم مما رآه من قومه ومع ذلك قال وهو الرحيم الرءوف بالأمة عليه الصلاة والسلام: (لا، إني لأرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً). وإنها من أعظم الدلائل على سعة رحمته صلى الله عليه وسلم، وعلى سعة أفقه، وعلى النظرة البعدية للداعية، فمن تصدر للدعوة إلى دين الله جل وعلا ينبغي ألا يكون أنفه هو حدود نظره، وإنما ينظر إلى مستقبل الأيام وإلى من يدعوه، فرب صغير مررت عليه بجوار المسجد لا يصلي ولو أغلظت له القول لما صلى أبداً، ولكن لو ألنت له القول ولو لم يصل في تلك اللحظة التي ذهبت فيها، لو قابلته بعد سنين لتذكر لينك ورفقتك معه، وقبل رأسك ربما، وأخبرك أن الله جل وعلا منّ عليه بالهداية، ولكن الناس طبعوا على العجلة قال الله جل وعلا: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]. ومن شدة ما رآه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه ومن تكالبهم عليه حتى إنه كان يمشي في أسواق مكة فيمر به الرجل ويناديه مناداة ملاطفة يطوي في طيها الخبث يقول: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! فيلتفت صلى الله عليه وسلم مستبشراً فإذا استبشر ونظر إلى من سأله قال له ذلك الشيطان المارد من الإنس: إنك لمجنون. قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، ومع ذلك كله وغيره صبر صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على العالمين، وليكون صلى الله عليه وسلم إماماً للصابرين من العلماء والدعاة بعده صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً. أقول في هذا الخضم: عز الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلاه بخبر إخوانه من النبيين قبله حتى يكون له عليه الصلاة والسلام أسوة فيمن مضى من النبيين، وحتى يعلم أن هذا الطريق الذي هو عليه قد مر على من قبله من النبيين وإن كان عليه الصلاة والسلام أكملهم وأعظمهم إيماناً إلى غير ذلك من صفات الكمال التي آتاها الله هذا النبي المعصوم.

تسلية الله لنبيه بذكره الأنبياء السابقين

تسلية الله لنبيه بذكره الأنبياء السابقين

ذكر نبي الله داود في السورة

ذكر نبي الله داود في السورة فقال جل ذكره: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:17] أي: فاصبر على ما يقولون لك، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20]. ذكر الله جل وعلا لنبيه نبياً من أنبياء بني إسرائيل قبله وهو داود عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن قصة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام جاءت بها السنة حتى قبل مولده، فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره، فأخرج من ظهره ذريته إلى يوم القيامة، فرآهم بين يديه فقال: يا رب من هؤلاء؟! قال الله جل وعلا له: هؤلاء ذريتك إلى يوم القيامة. فجعل الله بين عيني كل فرد من تلك الذرية وبيصاً بين عينيه، فرأى وبيصاً -أي نوراً- من عيني داود أعجبه قال: يا رب! من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا فرد من أمتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، قال: يا رب! كم جعلت عمره؟ قال الله تبارك وتعالى: ستين عاماً، فقال آدم: يا رب! زده من عمري أربعين سنة، قال صلى الله عليه وسلم: فلما جاء ملك الموت إلى آدم قال: بقي من عمري أربعين سنة، فقال له ملك الموت: ألم تعطها ابنك داود؟ قال صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم وخطئت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته). فهذا خبر داود عليه الصلاة والسلام في السنة، وأول ظهوره عليه الصلاة والسلام أنه كان فرداً في الجيش الذي حارب به طالوت جالوت، ومعلوم أن الله جل وعلا سلط الملوك الجبابرة على بني إسرائيل فترة من الزمن، ثم إن الله تبارك وتعالى اصطفى طالوت من هؤلاء ملكاً عليهم قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، فقاتل طالوت ببني إسرائيل ملوك الجبابرة، كان يوم ذاك داود شاباً أزهر من ضمن جنود طالوت، فلما وقعت المعركة قتل داود جالوت بإذن الله جل وعلا. وقد ذكر المفسرون: أن داود عليه السلام قتل جالوت بمقلاع كان في يده، والمقلاع: حبل ليس بالطويل يوضع في آخره حجر ثم يعقد عليه ثم يلفه الرامي مرة ومرتين وثلاث ثم يرميه بقوة إلى الخصم فيصيبه، فقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام قتل جالوت بهذه الطريقة حتى قيل: إنه مر على حجر، فقيل إن الحجر كلمَّه وقال: يا داود! خذني معك فأخذه ووضعه في كمه، فلما كانت أرض المعركة فعل به ما فعل. وقد أعاد هذا المقلاع شباب الانتفاضة اليوم ورجالها وأطفالها في أرض فلسطين وأعادوا سيرة المقلاع من جديد، فإن المتأمل في شاشات التلفاز أوفي أوراق الصحف أوفي غيرهما إذا نظر على اللقطات التي يظهر قليل منها عن أخبار المؤمنين في أرض فلسطين يجد أن كثيراً من أطفال الانتفاضة يحملون بأيديهم مقلاعاً يحاربون به بني إسرائيل، وهذا فيه من التذكير بما كانت عليه الأمة سلفاً من مجد سابق، والحق أن هؤلاء الفتية على قلة ما في أيديهم، وعلى قلة عددهم، وعلى عظمة من يقاومونه ظاهرياً وإلا فهم عبدة الطواغيت أحفاد القردة والخنازير إلا أنه رغم كل مظاهر التأييد التي تتلقاها إسرائيل إلا أن هؤلاء الفتية قدموا للعالم خلال أكثر من سنين عديدة صورة حقيقية للمؤمن إذا كان في عز وشموخ وإباء وأنه بحجر ومقلاع وما شابهه يحارب طواغيت الكفر وأئمتهم، أسال الله جل وعلا في لحظتنا هذه أن يؤيدهم بنصره، وأن يظهر على أيديهم دينه. ثم ذكر الله أن داود لما آل الأمر إليه آتاه الله تبارك وتعالى الملك بعد طالوت وآتاه مع الملك النبوة، وقد يظن بعض الناس أن الملك أمر مذموم، والصواب الذي ينبغي أن يعقل: أن الملك نعمة وفضل من الله جل وعلا، ولو كان الملك مذموماً في ذاته لما آتاه الله النبيين من قبل، قال الله تبارك وتعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251]، وأخبر تبارك وتعالى أن سليمان كان ملكاً، وقد آتى الله كثيراً من الصالحين والمخلَصين في الأرض الملك، {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]؛ لأنه لا بد للناس من رئيس يسوس أمورهم، فتقام به الحدود، وتسد به الثغور، ويظهر به دين الله، وتعلن به شعائر الحق، وهذا أمر لا انفكاك للمسلمين عنه، ولذلك كان الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه يقول: لأن يحرم الناس القطرة ستين عاماً خير لهم من ليلة بلا إمام؛ لأنه إذا غاب السيد والرئيس المطاع أصبح الأمر فوضى، وتسلط أهل الباطل على أهل الحق، وأصبح لا يستطيع أحد أن يقيم لله عبادة، ولا أن يقيم لله حدوداً. الشاهد: أن من مواهب الله وفضله على نبي الله داود: أن آتاه الله الملك.

ذكر النعم التي أنعم بها على داود عليه السلام

ذكر النعم التي أُنعِمَ بها على داود عليه السلام وقد عد الله في هذه الآيات آلاءه وفيأه ونعمه على هذا النبي الكريم، فقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] و (ذا الأيد) بمعنى: ذا القوة في بدنه وطاعته، فقد آتاه الله جل وعلا قوة في بدنه وقوة على إتيان الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود) ثم فسر صلى الله عليه وسلم صلاته فقال: (كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)، وقال في الصيام: (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، ولا ريب كونه يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي كل يوم ثلث الليل يدل هذا على قوة أعطيها ذلك النبي الكريم أعانته على عبادة الله جل وعلا. {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] أي: كثير الرجوع إلى الله، فعندما تسمع أن الله جل وعلا منّ على نبي وأثنى عليه بقوله: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ففي هذا دليل على أن الرجوع إلى الله فضيلة عظمى، فالذي ينبغي أن نحرص عليه جميعاً أن نكثر من الرجوع إلى الله جل وعلا بالتوبة، والاستغفار، والإكثار من الطاعات، ومصاحبة الصالحين، في كل حين، ولا تنتابك الغفلة أكثر من ذكر الله جل وعلا لعل الله تبارك وتعالى أن يكتبك من الأوابين. ثم عد الله جل وعلا مزية أخرى خص بها هذا النبي الكريم، قال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18 - 19]. لقد منَّ الله على داود بصوت رخيم جميل، وآتاه الله جل وعلا الزبور، فكان يردد الزبور وقد خففها على لسانه حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إنه كان يأمر بالدابة فتُسرج فيقرأ الزبور كاملاً) أي: يقرأ الزبور كاملاً قبل أن ينتهي خدمه وحشمه من إسراج الدابة له، وهذا من فضل الله جل وعلا عليه. وكان عليه الصلاة والسلام إذا ردد الزبور ورتله وقرأه تجاوبت معه الجبال الصم، والطيور البهم حتى إن الطير يقف عن الطيران ويجتمع صافات يردد مع داود عليه الصلاة والسلام ما يقوله، وحتى الجبال وهي صماء لا تعقل ولا تتكلم فإذا رتل عليه الصلاة والسلام زبوره، وذكر الله جل وعلا فيه، جاوبته تلك الجبال فضلاً من الله جل وعلا لهذا النبي الكريم. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ} [ص:18 - 19] أي: من الجبال والطير {لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] أي: يردد معه قوله وذكره وتلاوته لآيات الله تبارك وتعالى. وهذه فضل من الله جل وعلا وسيأتي التعليق عليها. {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20]، شد الملك يكون بكثرة الوزراء، وكثرة الجنود، وقوام العدد، وقوام العدة، وما إلى ذلك مما يصلح به الملك فإن الله جل وعلا مكن لداود في الأرض وشد ملكه بما آتاه من وزراء وجنود لا يحصى عددهم، قال الله جل وعلا: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، حتى قيل: إنه كان يتعامل مع الحديد كالعجين في يده، وهوأول من صنع الدروع، قال الله تبارك وتعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً تسبغ عليه عورته إذا حارب فلا يصيبه كثير من الأذى في الحروب من السهام وغيرها من أدوات الحرب في ذلك العصر. ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20]، (الحكمة) الصحيح أنها النبوة، (وفصل الخطاب) أي: القدرة على الفصل بين الخصوم، وقيل: البلاغة في القول، وقيل -وهو بعيد- أنه أول من قال: أما بعد، وهذا فيه نظر؛ لأن داود عليه الصلاة والسلام لم يكن عربياً حتى يقال: إنه أول من قال: أما بعد. لكنه قول مذكور في بطون الكتب، والله تعالى أعلم بصحته.

ما يستنبط من قصة داود عليه السلام

ما يُستنبط من قصة داود عليه السلام وبعد هذه الوقفات مع هذا النبي الكريم الذي عزَّى الله بقصته نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن نستنبط أموراً عدة: أن الله جل وعلا يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فالله يبتلي بالنعم كما يبتلي بالنقم، وقد آتى الله داود قوة صرفها في الطاعة والعبادة، وآتى الله داود صوتاً رخيماً جميلاً صرفه في تلاوة كتاب الله جل وعلا، وآتى الله داود فصل الخطاب فصرفه في الحكم بين الناس بالحق، وآتى الله تبارك وتعالى غير ذلك من النعم داود فوظفها كلها في رفعة دين الله جل وعلا، ولهذا ينبغي أن يقال: إن من أفاء الله عليه نعماً معدودة كانت أو واحدة أو قليلة فينبغي أن تصرف في دين الله جل وعلا، فالملوك والأمراء وذووا السلطان ومن أفاء الله عليهم بمثل هذا ينبغي عليهم وجوباً أن يصرف ملكهم وغمرتهم وسلطانهم ومسئولياتهم في رفعة شأن دين الله جل وعلا، فهذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن يسعى كل مؤمن من أجله، فالمؤمن التاجر الذي أفاء الله جل وعلا عليه بالأموال والنعم الكثيرة ينبغي أن يصرف هذه النعمة في رضوان الله جل وعلا، فيتفقد فقراء المسلمين، ويسهم في العمل الدعوي: في توزيع الأشرطة والمذكرات والنشرات النافعة المفيدة التي يكون فيها الخير أكثر من الشر، ويسهم في الأعمال الإغاثية المتجاوزة لحدود هذا البلد للمسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم في كل مكان. والشاب القوي الذي آتاه الله جل وعلا فراغاً وصحة ينبغي أن يسهم في رفعة دين الله جل وعلا، وأن يوظف قوته في ذلك، فاجعل لنفسك ولو وقتاً يسيراً تهبه لله تبارك وتعالى من أجل أن تحمل شيئاً من هم دين الله العظيم، ومن أجل أن تسهم في رفعة دين الله تبارك وتعالى، فلا تنم الليل إلا وقد أرقك أحوال المؤمنين في كل مكان: أرخص الدماء دماءهم، أضعف الناس هم، وما ذلك إلا لأنني أنا وأنت كل منا تنصَّل من مسئوليته وكل منا يقذف بالمسئولية على الآخر حتى خلت الساحة ممن يحملون هم الإسلام وممن يحملون مسئولية رفعة دين الله جل وعلا، وغدا المسلمون أمماً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون. كما إنه ينبغي أن يُعلم أننا في حاجة لكل مؤمن ولو كان يحمل من الخير مثقال ذرة، أما قضية تصنيف الناس حتى قول: ملتزم وغير ملتزم والله الذي لا إله إلا هو! إن في النفس منها أشياء كثيرة. فـ أبو محجن الثقفي إن صح أنه صحابي رضي الله تعالى عنه - وهذا من باب الدعاء إن لم يكن من الصحابة - هذا الرجل كان في جيش سعد في معركة القادسية، وكان مقيداً بالسلاسل بحجة أنه شارب للخمر، وقد نقل عنه أنه قال يوصي بنيه: أن يسقوا على قبره الخمر إذا مات، فإني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها. ففكت قيده امرأة سعد وكانت زوجة للمثنى بن حارثة؛ لأنها علمت أن المسألة الآن ليست مسألة خمر ولا ميسر، فذهب وحارب في صفوف المسلمين وفعل بالفرس ما فعل حتى ظنوه رجلاً من الجن يحارب مع المؤمنين. فالمقصود: أن كل من في قلبه: لا إله إلا الله فنحن اليوم محتاجين إليه؛ بسبب الضعف الذي أصاب الأمة والوهن والعجز، وما ذلك إلا لأن كل شخص يعتقد أنه سيبدأ من الأَلِف من جديد، والمفروض أن نبدأ بالموجود بالمحسوس ونرقع ونلمم ما يمكن ترقيعه وتلميمه، ثم إذا قويت شوكة الإسلام وعلت عزته فإن كان أمر أو بدا رأي، فلا بأس أن يعمل به في تلك اللحظات، أما أن نحرم أنفسنا من إخواننا المؤمنين بحجة مظهر أو بحجة مخبر فهذا أمر غير مقبول، وصحيح أن المجاهرين بالفسق والأقل صلاحاً لا يصدَّرون، ولا يعطون القيادة، ولا يطلب منهم إرشاد الناس، لكن من الممكن الاستفادة منهم ولو بشيء يسير في رفعة دين الله جل وعلا، وأنا أذكر -والله يعلم- عندما أعدنا بناء هذا المسجد جاءني شخص، لو صنفنا الناس على ما يقولون: ملتزم وغير ملتزم فإنه ليس فيه مظهر من مظاهر الالتزام الظاهر ولا مثقال ذرة، ومع ذلك ترك عندي مائتي ألف ريال، وقال: اجعلها في بيت من بيوت الله، ثم خرج وأنا إلى الساعة لا أحفظ إلا اسمه الأول ولا أدري حتى ما اسمه الآخر. لكنني لا أريد من الشخص أن يعمل حتى يبلغ مرحلة لا يعمل فيها لدين الله، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع أهل الفسق وأهل الزيغ يكون البناء والأخذ من الناس أحسن ما فيهم، فحجر من هذا ولبنة من هذا وشيئاً فشيئاً حتى يكتمل بناء الأمة. أسأل الله جل وعلا أن يبلغ الأمة منازلها العظيمة التي كانت عليها. وعلى العكس تماماً مما قلناه فإن بعض الناس قد يستثمر نعم الله عليه في أمور تجلب سخط الله جل وعلا، فكثير من المغنين الذين فاقت شهرتهم وذاعت لا ريب ولا جدال أن أصواتهم جميلة وأصواتهم رخيمة وإلا فإنهم ما دخلوا عالم الغناء، لكن هذه النعمة لم يحسنوا توظيفها وإنما وظفوها في محاربة الله جل وعلا، ولا ريب أن من الأمور التي لا تقبل أن يحارب العبد ربه بنعمة أنعمها الله جل وعلا عليه والممثلات اللاتي فتنَّ المؤمنين في المشرق والمغرب فقد منحهن الله قدراً من الجمال - هذا من باب الإخبار بما نسمع لا من باب الإخبار بما نرى - منحهن الله جل وعلا قدراً من الجمال لكنهن لتغلب الشيطان عليهن استثمرن هذا في معصية الله جل وعلا، وقد ورد: أن أبا حازم -وهو أحد أئمة السلف- حج ذات يوم إلى البيت العتيق، فلما كان في رمي الجمرات وجد امرأة في قمة الجمال قد كشفت عن وجهها ووقفت وترك أكثر الشباب الرمي وأخذوا ينظرون إليها، فجاء إليها وقال: يا أمة الله! اتقي الله واستتري فقد فتنت الناس عن نسكهم، فأخبرته تلك المرأة وهي من جنس هؤلاء الممثلات أنها لم تأت للحج ولكنها أتت لفتنة الناس بجمالها: قالت من اللائي لم يأتين يبغين حجة ولكن ليقتلن البريء المغفلا وصحت الرواية أولم تصح فإن كثير من الناس يمن الله جل وعلا عليه حتى بخفة الدم والظرافة في المجلس فالعياذ بالله فلا يجد شيئاً يضحك به الناس حتى يقولوا عنه: إنه خفيف الدم ورجل ظريف إلا السخرية بدين الله جل وعلا، أو السخرية ممن يحملون شعائر الله، أو السخرية بتقليد العلماء أو الدعاة، أو السخرية بمظاهر ولبس المستقيمين على شرع الله جل وعلا، فكونك ظريف وخفيف دم فهذا نعمة من الله جل وعلا، أنك لم تكن رجلاً ثقيلاً غير مرغوب فيك ولا محبوب، ولكن من السفه العظيم أن تسخِّر تلك الموهبة على قلتها في محاربة الله تبارك وتعالى والاستخفاف بدينه، وحصر هذا الأمر طويل جداً لكنني أضع إشارات وملامح على الطريق وكلكم أبصر منا وأعلم تقيسون عليها ما ينفعنا والمؤمنين في أمر ديننا ودنيانا هذه الوقفة مع نبي الله تبارك وتعالى داود.

وقفة مع قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى إنه أواب)

وقفة مع قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى إنه أواب) أما الوقفة الثالثة فمع قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:41 - 44]. ذكر الله تعالى أنه ابتلى داود عليه الصلاة والسلام بالنعم، وأيوب عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله جل وعلا بالضر، وكلاً من داود وأيوب نجح في الابتلاء، فأما أيوب فإن الله جل وعلا ابتلاه بمرض أثقله ظاهراً وباطناً، وعانا منه ما عانا حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: لم يسلم منه إلا قلبه، عليه الصلاة والسلام، ومع شدة الكرب، وطول الدهر، وكثرة التقلب على فراش الأمل، وتخلي الصديق، وغياب الرفيق، وطول الليل والسنين المتتابعة في ألم لا يعلمه إلا الله، وتخلي الزوار وانقضاء من يأتي لقضاء حاجته، ونسيان الناس لأمره ثمانية عشر عاماً وهو في البلاء وليست ثمانية عشر يوماً لا تفتح له أبواب المستشفى ليتقرب أصحابه وأقرباؤه إليه بأنواع من الحلوى والصحف التي تسلي غربته، ولكنه وحيد طريح فراشه لم يبق له إلا زوجته وصديقان له، حتى إنه مسه ما مسه ومع ذلك عليه الصلاة والسلام من أدبه لم يجعله ينسب كل ذلك إلى الله وهو يعلم أن الأمر بيده قال: {رَبِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]، وهذا أدب أجل وأعظم مما أدب الله به هذا النبي عليه الصلاة والسلام؛ العبد المجتبى نبي الله أيوب، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام في البلاء ثمانية عشر عاماً حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: إن زوجته خرجت ذات يوم لتخدم عند بعض الناس علها تأتي له بطعام، فلما علم الناس أنها زوجة أيوب خافوا على ظنهم الجاهل أن تنقل إليهم العدوى فامتنعوا من استخدامها، فعملت عند قوم من الأشراف حتى رفضوها ثم بعد ذلك باعت إحدى ضفائر شعرها واشترت بما باعته طعاماً لأيوب فقدمته بين يديه فأكله، فلما كان اليوم الثاني لم تجد أحداً يستخدمها فذهبت وباعت ما تبقى من ضفائر شعرها واشترت به طعاماً وقدمته بين يدي أيوب، فأقسم عليه الصلاة والسلام ألا يأكل منه حتى تخبره من أين لها الدراهم التي اشترت بها الطعام، فخلعت تلك المرأة خمار رأسها فإذا برأسها محلوق، قال العلماء: فلما رأى الضر الذي مسه والضر الذي مس زوجه لجأ إلى كاشف الضر إلى الواحد الأحد الفرد الصمد قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فاستجاب الله تبارك وتعالى إليه، وكلمه ربه جل وعلا، ولعل الظاهر أن الله كلمه بواسطة ملك، فقال له ربه -ولم يحله إلى أحد من خلقه-: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، لم يكلفه أن يذهب إلى طبيب، ولعظمة من لجأ إليه جعل العلاج يأتيه وهو في مقره ومكانه لم يقم حتى من فراشه، فركض بالأرض التي بجواره برجليه تنفيذاً لأمر الله جل وعلا، ومع ذلك لما ركض فإذا الماء ينبع فشرب منه فبرئ باطنه واغتسل فبرئ ظاهره، قال الحي تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] ليبرأ باطنك. ثم إن الله جل وعلا يداه ملأى سحاء الليل والنهار لا ينفذ ما عنده، زاده على ما طلب، قال الله جل وعلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43] وهذه تكون لمن صنع صنيعة أيوب، ولجأ إلى الله جل وعلا في السر والعلن، وعلم أن الله وحده دون غيره هو الذي يكشف الضر، وأن الطبيب والمستشفى وما إلى ذلك أسباب لا تضر ولا تنفع، وبيد الله وحده مقاليد السماوات والأرض، وكم من مريض أنفق على علاجه الملايين لم يكتب له العلاج، وكم من مريض يئس منه الطبيب ودعا الله جل وعلا فكشف الله جل وعلا عنه ضره. قال الله جل وعلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43]، وكان قد حصل بين أيوب وزوجه شيء إن صح التعبير من سوء التفاهم وإلا فالمرأة كانت صالحة محسنة إليه، ولذلك أقسم أيوب ونذر أن الله إذا شفاه أن يضربها مائة جلدة، فأخبره الله جل وعلا بقوله رحمة بتلك المرأة على ما قدمت قال الله جل وعلا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] أي: أخلاطاً، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] أي: بدلاً من أن تضربها مائة ضربة متتابعة خذ مائة عصا فاجعلها في حزمة واحدة واضربها بها مرة واحدة إنفاذاً لنذرك وتخفيفاً على تلك المرأة. ثم قال الله جل وعلا آية يثني بها على ذلك العبد الصالح قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44] أي: بلوناه واختبرناه ثمانية عشر عاماً فصبر فتمت له من الله الحسنى، وشهد الله جل وعلا له بالصبر. فلما تجاوز هذه المرحلة شهد الله له في المقام الأعلى، قال الله جل وعلا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. إن مقام العبودية أعظم مقام يمدح الله جل وعلا به أحداً من خلقه.

أنواع العبودية

أنواع العبودية والعبودية نوعان: عبودية قهر، وعبودية متعلقة بالعبادة. فأما العبودية العامة وهي عبودية القهر فيدخل فيها الناس جميعاً: أبراراً وفجاراً مؤمنين وكفاراً، قال الله جل وعلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، وقال تبارك وتعالى قبلها: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:93 - 94]. فجميع المؤمنين وجميع الكفار، وجميع الأبرار وجميع الفجار عبيد لله تبارك وتعالى لا يخرجون عن أمره ولو مثقال ذرة. أما العبودية الخاصة الواردة هنا فإنها من نوع العبودية الخاصة التي هي مقام عظيم يتفاوت الناس فيه، وكلما كان الإنسان لله أطوع ومن الله أخوف قائماً بأوامر الله مجتنباً نواهيه كان راقياً في هذا السلم، وهذا السلم على ذروته وقمته محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، وقال جل ذكره: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، والله جل وعلا أثنى على داود في الآية التي شرحناها: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص:17] وهنا لما كان من أيوب ما كان من عمل صالح وصبر على البلاء وطاعات متتابعة أثنى الله جل وعلا عليه بهذا الثناء العظيم الذي سيظل يتلى على لسان المؤمنين الأطهار إلى أن تقوم الساعة قال الله جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. فهذا مجمل قصة أيوب، وفيها دلالة ظاهرة لا تغيب عن أحد أنه ينبغي أن يستقر في قلبك وقلوبنا جميعاً أن الله تبارك الله وتعالى بيده وحده النفع والضر، وبيده وحده المنع والعطاء، وأن زيداً أو عمراً على سلطانه، أو إذا كثرت أمواله أو قلت، أو إذا عظم جاهه أو حقر، أياً كان أمره إنما هو سبب يصيب ويخطي، ويجرى على يديه أمر أولا يجرى على يديه أمر والأمور كلها بيد الله تبارك وتعالى، فاسأل الذي لا تنفد خزائنه، وافزع إليه في ثلث الليل الآخر خاصة وفي كل آن وحين، واسأله تبارك وتعالى من خيري الدنيا والآخرة، لا تحتقرن شيئاً، ولا تستعظمن شيئاً، واعلم أن ما عند الله تبارك وتعالى خير وأبقى، وأن الدعاء والذلة والانكسار بين يدي الله تجعلك قريباً من الله تبارك وتعالى، وتجعلك قريباً من عفوه ورحمته والله ذوالفضل العظيم.

وقفة مع قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم) إلى آخر السورة

وقفة مع قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم) إلى آخر السورة {قُلْ هُونَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:67 - 72] إلى آخر السورة. ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات قصة خلق آدم وما كان من إبليس عليه لعائن الله تترى إلى يوم القيامة. الله تبارك وتعالى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وهو تبارك وتعالى غني بحمده، عزيز حكيم لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وقد اقتضت حكمته جل وعلا أن يخلق آدم بيده، وأن يأمر ملائكته بالسجود لهذا المخلوق سجود تكريم لا سجود عبادة.

المراحل التي خلق الله بها آدم

المراحل التي خلق الله بها آدم والله تبارك وتعالى خلق آدم على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: والتي يمكن الاصطلاح على تسميتها بالمرحلة الترابية، ودليلها قول الله جل وعلا: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، فقد خلقه من قبضة قبضها ربنا جل وعلا من جميع الأرض فكانت مخلطة، ولذلك يوجد في الناس السهل والحزن والأسود والأبيض وما ترونه من اختلاف الناس. ثم مزج هذا التراب بماء حتى غدا طيناً، وهذا قول ربنا في سورة الصافات: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]. ثم ترك هذا الطين مدة حتى جف وأضحى كالصلصال بحيث لو قرعته لأحدث صوتاً، وهذا قول ربنا في سورة الرحمن: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] , ثم إن الله جل وعلا نفخ في هذا الجسد الذي خلقه وهو جسد آدم فنفخ فيه تبارك وتعالى من روحه، فلما نفخ فيه من روحه أمر الملائكة بأن يسجدوا سجود تكريم لآدم عليه السلام: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72]، وقول الله جل وعلا: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) هذا أمر وسيأتي بيانه فيما بعد. فسجد الملائكة لله جل وعلا، وكان من الحاضرين عند الأمر إبليس فامتنع عن السجود، قال الله جل وعلا: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، فخاطبه ربه: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وزعم إبليس أن مادة النار خير من مادة الطين وهذا قياس خاطئ, فإن من النار السفه والطيش، وإن من الطين السكينة والركادة كما هو معلوم. وفي الآية جاء الاستثناء بعد ذكر الملائكة فذهب فريق من أهل العلم إلى أن إبليس في هذه الآية وغيرها هو من الملائكة, ولا ريب أن هذا قول مرجوح.

الأدلة التي تجعل إبليس من الجن وليس من الملائكة

الأدلة التي تجعل إبليس من الجن وليس من الملائكة والراجح: أن إبليس من الجن لأربعة أمور أو أربعة أدلة:- الدليل الأول: أن الله جل وعلا وصف الملائكة بأنهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وإبليس هنا عصى الله جل وعلا ولم يأتمر بأمره. والثاني: أن الله جل وعلا أخبر أنه خلق آدم من طين، وإبليس اعترف بنفسه قال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ) والملائكة خلقت من نور كما هو معلوم فدل على أنه من الجن. والدليل الثالث: جاء مصرحاً به في سورة الكهف قال الله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو} [الكهف:50]. ولعل الدليل الرابع قد غاب، فسبحان من وسع علمه كل شيء. فهذه أدلة على أن إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة. فلما امتنع واستكبر طرده الله جل وعلا من المحل السامي وهو السماء ومن المقام الرفيع وهو الرحمة. {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78]، فبعد أن يئس من رحمة الله طلب من الله البقاء: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص:79 - 81] فبعد أن علم أنه باق أخبر ربه بأنه سيتسلط على آدم وذريته، والله جل وعلا قد علم هذا في الأزل، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، ومن هنا يعلم أن العداوة بين إبليس وأبينا آدم عداوة قديمة منذ ذلك اليوم الذي أمر الله فيه الملائكة أن تسجد لآدم وحمل إبليس على عدم السجود أمران: الأول: الحسد على ما كان من فضل الله لآدم. والثاني: الكبر الذي منعه من أن يسجد لأمر الله جل وعلا. وقول الله جل وعلا: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فعل أمر، فالله جل وعلا له أوامر وله نواهٍ، والواجب تنفيذ أمره وترك نهيه، لكن من باب التقعيد ترك الأمر أعظم جرماً من اقتراف النهي والدليل: أن الله جل وعلا أمر إبليس أن يسجد لآدم، ونهى آدم أن يأكل من الشجرة، فأما إبليس فلم يستجب للأمر وكذلك آدم عليه الصلاة والسلام أكل من الشجرة ولم ينفذ النهي، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، لكن الله جل وعلا تاب على آدم ولم يتب على إبليس، ومن هنا يُعلم ما ذهب إليه جمع من العلماء إلى أن ارتكاب النهي أهون من ترك فعل الأمر، وإن كان الإنسان مطالب في كلا الحالتين بأن ينفذ أوامر الله جل وعلا وأن يجتنب نواهيه، وحتى تتضح الصورة: لو أن إنساناً أمره الله بالصلاة -وكلنا مأمورون بها- فترك هذا الأمر فإن هذا أعظم من أن يشرب عبد الدخان؛ لأن شرب الدخان أمر نهيت أن تفعله، فشربك للدخان داخل في باب فعلك لأمر نهيت عنه، ولكن تركك للصلاة داخل في باب تركك لأمر أمرت أن تنفده، ولكن هذا ينظر فيه مع النصوص الشرعية؛ لأن لكل أمر ضابطه، وهناك كبائر وهناك صغائر، وهناك لمم، ولكننا نذكر ما هو من مسائل التقعيد. ثم قال الله جل وعلا: قال إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، فقال الله تبارك وتعالى له: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84]، أي: فالحق صفتي والحق قولي، فلذلك جاءت الأولى مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف أو لمبتدأ له خبر محذوف، والثانية جاءت منصوبة على أنها مفعول به مقدم للفظ الفعل (أقول)، فيصبح معنى الآية فالحقُّ وصفي والحقَّ قولي {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، فالله جل وعلا خلق دارين: جنة وناراً، أعد الجنة لأوليائه وأعد النار لأعدائه ولمن عصاه، والله تبارك وتعالى سبقت منه الكلمة: أن يملأ النار ويملأ الجنة، فأما الجنة فإنها قطعاً لا تمتلئ، ولذلك يخلق الله جل وعلا من سعة رحمته لها خلقاً ثم يدخلهم الجنة إنفاذاً لوعده، ورحمة من الله جل وعلا فإن الجنة لا تضيق على أهلها. وأما النار فإن الله لا يعذب فيها إلا بعدله، ويرحم تبارك وتعالى بفضله، فإنه يضع فيها الجبار تبارك وتعالى قدمه حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط أي: يكفي يكفي، وبهذا تكون امتلأت حقيقة. قال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85]. ثم قال الله لنبيه يؤدب أولئك الأقوام من الملأ من قريش: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] أي: أنا لا أتكلف صنعة، ولا آتي بشي من عندي، ولا أتكلف أمراً أحاول أن أنال به غيري أو أنافس فيه شخصاً آخر، ولكنه فضل من الله وهداية لكم، قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُو} [ص:86 - 87] أي: القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:87 - 88] أي: ولتعلمن خبره ونبأ ذلك القرآن بعد أن يحل العقاب ويحل ما أخبر ووعد الله تبارك وتعالى به، عندها يعلم حقيقة نبأ ذلك القرآن على الوجه البين حين لا يرتاب الكافرون عندما يكون آخر عهدهم بالدنيا وأول عهدهم بالآخرة. هذا ما أردنا بيانه في وقفاتنا مع سورة (ص)، أسأل الله العظيم الجليل جلت قدرته أن ينفع بما قلنا، وأن يعيننا وإياكم على أمر ديننا ودنيانا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ما تبقى من الوقت نقضيه في الإجابة على الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى الحكمة وشروطها

بيان معنى الحكمة وشروطها Q ما هي الحكمة؟ وما شروطها؟ A اختلفت أقوال أهل العلم رحمهم الله في تفسير الحكمة، فأحياناً تأتي في القرآن بمعنى الكتاب، وأحياناً تأتي بمعنى السنة، وأحياناً تأتي بمعنى النبوة، ولكنها إذا أطلقت فإن المراد بها: وضع الأمور في نصابها أو على الأصح قيل إن المراد بها: القول النافع والعمل الصالح. وأياً كان التعريف فإنه قريب بعضه من بعض. أما شروطها فإن للحكمة شروطاً متعددة، وهي في الغالب ثلاثة: العلم، والحلم، والأناة. أما العلم فدليله قول الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، والإنسان إذا كان لا يعلم ما هو المقبول وما هو المردود، وما هو الصحيح وما هو السيئ، وما هو الحق وما هو الباطل، وما هو الراجح وما هو المرجوح، من أين له أن يفصل في الأمور، ومن أين له أن يدرك وأن يبين للناس حقيقة ما يسألونه عنه، فلذلك كان أول شروط الحكمة: العلم. الشرط الثاني: الحلم، والحلم صفة متوسطة بين صفتين وهما: الغضب والبلادة، فمن الناس من يغضب لأدنى كلمة، ومن الناس من لا يتحرك لأي كلمة، فالحلم فضيلة بين هاتين الرذيلتين، والحلم يحتاج المرء معه أحياناً لأن يكون جهولاً، ولذلك قال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وقد قيل: إنه لما قال هذا البيت من الشعر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فض فوك). وقيل: إن النابغة الجعدي عاش بعد ذلك عمر طويلاً بلغ مائة وخمسين عاماً ومع ذلك لم تسقط له سن ببركة هذا الدعاء النبوي. ولكن عندما تنتهك حرمات الله جل وعلا يجب أن تغضب، وعند الأمور التي تكون بين وبين فتجمل بالحمل؛ لأن الله جل وعلا وصف به الأخيار: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أشج بن عبد القيس وقال له: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). الشرط الثالث من شروط الحكمة هو: التأني، وكما أن الحلم فضيلة بين رذيلتين فكذلك التأني فضيلة بين رذيلتين هما: العجلة والبطء الشديد، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، فإن الإنسان بين أمرين: إما دنيوي وإما أخروي، فأما الأخروي الذي جاءت به الشرائع فينبغي للعبد أن يعجل فيه، قال الله جل وعلا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، وقال الله تبارك وتعالى يمدح آل زكريا: {إنَّهَم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وأما غير ذلك فإن المرء يحتاج إلى أن يتزين بزينة الحكمة، وأن يتبين صلاح الأمور، وأن يعرف مخرجه ومدخله، ولا يتكلم في أمر حتى يكون على بينة منه.

معنى قوله تعالى (فظن أن لن نقدر عليه)

معنى قوله تعالى (فظن أن لن نقدر عليه) Q ما معنى قول الله جل وعلا: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]؟ A هذه الآية الكريمة ذكرها الله جل وعلا في سورة الأنبياء في نبأ نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، قد يبدو لأول وهلة أن المراد بقول الله جل وعلا: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أن نبي الله يونس غلب على ظنه أو على علمه أن الله لن يستطيع أن يفعل به كذا وكذا، ولا ريب أن هذا كفر ولا يمكن أن يقوله آحاد المؤمنين فضلاً عن نبي أرسله الله جل وعلا لتبليغ رسالته، ولما كان القرآن يفسر بعضه بعضاً فقد ورد في القرآن بيان هذا المعنى، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:15 - 16] أي: ضيق عليه رزقه، فيحمل معنى الآية على أن يونس عليه الصلاة والسلام غلب على ظنه أن الله جل وعلا لم يضيق عليه، ولم يعاتبه على ما كان منه من تركه لقومه لما تركهم على ما هم عليه وغضب منهم كما أخبر الله جل وعلا، وخرج بعد أن يئس من دعوتهم، ولجأ إلى الفلك واستهم مع أصحابه، وكان آخر الأمر أن ابتلعه الحوت، وما وقع من فضل الله جل وعلا عليه، فهذا بيان قول الله تبارك وتعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87].

عرش الشيطان ومثلث برمودا

عرش الشيطان ومثلث برمودا Q ما تقولون في قول بعض مؤلفي الكتب: بأن عرش الشيطان في مثلث برمودا. كما ورد في كتاب: حوار مع جني مسلم؟ A ذكر صلى الله عليه وسلم: (أن عرش الشيطان في البحر)، أو شيئاً من ذلك ولكن الأمور الغيبية التي لم يرد فيها نص قطعي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحسن الجزم بها؛ لأننا إن جزمنا بها اليوم ثم بدا لنا غير ذلك فماذا نقول لمن أقنعناهم سابقاً؟ فإذا أخبر الله بأمر وأخبر به صلى الله عليه وسلم على وجه واضح صريح بيّن فلا تتردد لحظة في الإخبار به؛ لأنك تعتمد على أساس عظيم وهو: قول الله وقول رسوله، أما غير ذلك فلا بأس أن تقول: ربما يحتمل ومن الممكن أن يكون مثلث برمودا أو غيره عرشاً للشيطان أوما إلى ذلك تحمل عليه بعض الأخبار التي جاءت عن الله ورسوله، لكن إخبارك هذا لا تنسبه إلى الله ولا تنسبه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تخبر به على صيغة الجزم والقطع، ولكن أخبر به على وجه غلبة الظن؛ لأنه لا يعدوكونه أمراً نظرياً اجتهادياً قابلاً لأن يكون صواباً، وقابلاً لأن يكون خطأً، ولذلك الجهل بالحكم والجهل بالدين قد يورد الإنسان المهالك، فمثلاً: حرم الله جل وعلا الزنا، فقد يأتي داعية ليقنع شخصاً من ملة أخرى بأن الله حرم الزنا، فيسأله ذلك الرجل: لم حرم الله الزنا؟ فإن فيه لذة وفيه وفيه ويذكر الأمور التي يجدها الزاني من لذة عاجلة في زناه، فقد يهم ذلك الرجل ويقول: إن الله حرم الزنا حتى لا تختلط الأنساب، وهذا صحيح فإن الله حرم الزنا لحكم عديدة واحدة من العشرات: حتى لا تختلط الأنساب، ولكن لا تحصل هذه الحكمة في هذا الأمر وحده؛ لأنه سيقول لك: إذاً لو زنيت بامرأة عقيم فلا حرج، ولو أن رجلاً عقيماً زنى بامرأة عقيم ليس في ذلك خلط نسب، إذاً الزنا في هذه الحالة جائز، فالكلام والإخبار عن الله ورسوله والمحاجة عن دين الله تحتاج إلى علم متين، وعلى اطلاع واسع،

كل نفس ذائقة الموت

كل نفس ذائقة الموت الموت قدر الله المكتوب على كل نفس، وقد جعله الله تعالى لزاماً لا نجاة لحي منه، وبه تنفصل الروح عن الجسد، فينتقل الميت إلى أول ساعات القيامة، فيفتن في قبره، ويبتلى بضمة القبر، ويصير حاله إما إلى نعيم أو عذاب مقيم، وإن المتأمل في المقابر والواقف على حقائقها يدرك قيمة الدنيا وغرور الأيام، فيدعوه ذلك إلى إحسان العمل والمبادرة بالطاعة.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أصاب الناس من مصيبة أعظم من فقده، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، وعلى من اقتفى آثارهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار. أما بعد: فهذا درس نذكر فيه بعض آيات كتاب ربنا جل جلاله، والحديث سيكون عن قول ربنا وخالقنا جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وسنتكلم عن هذه الآية كلاماً مجملاً، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الأدبية، أو من الناحية التربوية ودلالة الآيات وزيادة المعارف حول حقيقة الموت، مع التعريج على الجانب الوعظي. وقبل الحديث المفصل يحسن أن نقول: إن كثيراً من الأئمة الأخيار والعلماء الأبرار، والدعاة المجتهدين على مر العصور وكر الدهور منذ أن حملوا راية الدعوة والبلاغ عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يذكرون الناس بالموت وما بعده، ولا ريب في أنهم قد أصابوا فيما قالوه؛ لأن ذلك منطوق ومفهوم كتاب ربنا جل جلاله، ومنطوق ومفهوم سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، إلا أننا قد لا نعرج على الوعظ المحض، وربما عرجنا على مسائل علمية، ودقائق فقهية، وأمور تربوية، وغير ذلك مما نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا به أولاً وأخيراً، وأن يجعله تبارك وتعالى عملاً تبيض به الصحائف يوم نلقاه في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وسيكون الحديث حديثاً مجملاً متشعباً ذا شجون، وقد لا نلتزم فيه بالترتيب، ولا نلتزم فيه بتتابع الأفكار؛ لأن المقصود الإثراء العلمي في المقام الأول.

بيان معنى الروح

بيان معنى الروح فنقول مستعينين بالله: إن الله تبارك وتعالى جعل الموت والحياة متناقضين متضادين لا يجتمعان في آن واحد، فالفرد من الأحياء إما أن يكون حياً وإما أن يكون ميتاً، ولا يوجد حي يجمع بين الموت والحياة، والموت والحياة كلاهما من خلق الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1 - 2]، فقد أخبر ربنا جل جلاله أن الموت خلق من خلقه، كما أن الحياة خلق من خلقه تبارك وتعالى. والموت يقع على الأحياء، على من ركب من جسد وروح، فقد خلق تبارك وتعالى الجسد وجعل فيه الروح، فيكون الموت انفصالاً تاماً لهذه الروح وانفكاكاً عن ذلك الجسد، وتلك هي حقيقة الموت، والحديث في هذا يتضمن ما يلي: أولاً: ما هي الروح التي يعتريها الموت بانفكاكها عن ذلك الجسد؟ إن الروح أمر غيبي، وقد جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن نبينا صلى الله عليه وسلم (مر على حائط لرجل أنصاري، فقابله جماعة من يهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم عزموا على الأمر وسألوه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه يوحى إليه، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]). إذاً: فالروح أمر غيبي، وهذا الأمر لكونه غيبياً تجرأ عليه بعض الناس، وقولنا: (بعض الناس) إجمال يدخل فيه أهل العلم من جميع الطوائف، فبعض أولئك تكلموا فيه، وأبعدوا فيه النجعة، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الروح شيء نوراني خفيف متحرك في جسد مخلوق يسري فيه كما يسري الماء في الورد، وكما تسري النار في الفحم والهشيم، فهذا مجمل تعريف الأئمة الأعلام من أهل السنة للروح.

ما تصير إليه الروح بعد انفكاكها عن الجسد

ما تصير إليه الروح بعد انفكاكها عن الجسد ثم تنفك عن ذلك الجسد فيكون بذلك موته، إلا أن أهل العلم اختلفوا بعد ذلك في انفكاك الروح عن الحسد فقالوا: هل ينالها العدم المحض، أم أنها تعود كرة أخرى إلى الجسد لتنعم أو تعذب؟ فمن العلماء من رأى أن الروح بعد انفكاكها عن الجسد تصير إلى عدم محض، وحجة هؤلاء قول الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، ووجه الدلالة عندهم أن الله جل وعلا أخبر عن موتتين، فالموتة الأولى انفكاك الروح عن الجسد، والموتة الثانية موتها هي كرة أخرى. والأظهر -والله تعالى أعلم- أن الله جل جلاله عنى بالموتة الأولى موتة العدم قبل الوجود، وعنى بالموتة الثانية الموتة المعلومة التي تكون بفراق الروح لذلك الجسد، قال الله تبارك وتعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56]، فأخبر جل وعلا أنها موتة واحدة، وهي انفكاك الروح عن الجسد. إن علاقة الروح بالجسد ذات أربعة أحوال: فعلاقة تكون بينهما عندما كان المخلوق جنيناً في بطن أمه في الظلمات الثلاث، ثم تكون علاقة أخرى في الحياة الدنيا التي أنسها الإنسان وسكن إليها، ثم تكون علاقة أخرى في حياة البرزخ، وهي إما نعيم -بلغنا الله وإياكم إياه- وإما عذاب -عصمنا الله وإياكم منه-، ثم تكون بينهما علاقة كبرى وذلك بعد البعث والنشور يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين جل جلاله.

شدة ساعة الاحتضار

شدة ساعة الاحتضار ساعة الاحتضار هي الساعة أو اللحظة التي تسبق انفصال الروح الثاني عن الجسد، وهذه الحالة تحيط بها السكرات التي تعوذ منها صلى الله عليه وسلم يوم عانى من نزع الروح، فكان عليه الصلاة والسلام -وهو أشرف الخلق على الله- يضع يده في الإناء ثم يمسح بما أخذ بيديه من ماء وجهه ويقول: (إن للموت لسكرات، اللهم إني أعوذ بك من سكرات الموت)، فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من سكرات الموت. وورد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه كانت بجواره ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها، فلما رأت ما بأبيها من ثقل قالت مرددة ذلك البيت المشهور: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال: ليس هذا يا بنتاه، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فسكرات الموت هي كرباته وغمراته التي تحيط بالمخلوق حين يعاني من نزع الروح وانفكاكها بالكلية وانفصالها عن جسده. وفي ساعة الاحتضار تتنزل الملائكة تطميناً للمؤمنين، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وذلك يكون في ساعة الاحتضار {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] من مستقبل أيامكم {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] على ما فاتكم من الدنيا، ثم تبشرهم {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30 - 31] أي: كما كنا نؤيدكم على اتباع الحق في الدنيا فإنا نؤيدكم في هذه الساعة العصيبة، ثم نؤيدكم يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين، قال الله جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. وساعة الاحتضار هذه يفتن فيها العبد، ويقرب فيها الشيطان، ويحاول قدر الإمكان بوساوسه ونزعاته، ألا يفلت منه بنو آدم؛ لأنه -عليه من الله اللعنة- أخذ على نفسه العهد والميثاق أن يضل بني آدم، فإذا قارب العبد الموت خاف أن يفوته، فهناك يبذل الشيطان كل ما في وسعه من وساوس ونزغات وشبهات، محاولاً أن يصرف العبد عن طاعة الله، وأن يغويه؛ لأنه ليس هناك فسحة للتوبة أو الرجوع أو الإنابة بعد ذلك؛ لأن الإنسان مقبل على الآخرة مدبر عن الدنيا، فنسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة في كل آن وحين. وبعد النزع تخرج الروح، فإن كان مؤمناً تنزع نزعاً خفيفاً، ويكون منظر الملائكة يراه العبد المؤمن منظراً مطمئناً مبشراً، أما إذا كان العبد كافراً أو منافقاً أو مبالغاً في فجوره وفسقه فإنه يرى منظر الملائكة منظراً مخيفاً، وتستل روحه كما تستل الشوكة من العجين، وبعد ذلك تصعد الروح، فإن كانت مؤمنة نوديت بأحسن الأسماء، وفتحت لها أبواب السماء، وإن كانت خلاف ذلك أغلقت دونها أبواب السماء ونوديت بأخبث الأسماء، ثم تعود كرة أخرى إلى جسد صاحبها مصداقاً لقول ربنا جل جلاله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].

أين تكون الروح بعد أن تفارق الجسد

أين تكون الروح بعد أن تفارق الجسد إن المستقرئ لآيات الكتاب وأحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم يكاد يجزم بأمور، منها: أن أرواح المؤمنين تكون في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى والمقام العظيم عند ربهم جل وعلا، ولذلك لما كان الأنبياء يخيرون عند الموت كان صلى الله عليه وسلم يقول -كما في حديث النزع المشهور-: (اللهم في الرفيق الأعلى)، أي: الرفيق الأعلى الذين عناهم الله بقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فالأنبياء والمرسلون في الرفيق الأعلى والمقام العظيم في أعلى عليين. ومنها أن أرواح الشهداء تكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، كما ثبت ذلك الخبر في صحيح مسلم وغيره عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه. وأما أرواح المؤمنين فإنها تكون نسمة في حواصل طير، إلا أنه لم يرد خبر بأنها تسرح في الجنة. وأما أرواح الفجار والكفار وأهل الفسق والعصيان والخارجين عن طاعة ربهم جل جلاله فلا تسل عنهم، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:7 - 9] فهم في أسفل سافلين في العذاب المقيم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.

مع الموتى في قبورهم

مع الموتى في قبورهم القبر -أيها الأخ المؤمن- أول منازل الآخرة، ومساكن الموتى التي فيها يُؤْوَون، وفيها يبيتون، وفيها يقيمون حتى يدع الداع إلى شيء نكر، كما قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:6 - 8]، ومفهوم المخالفة أن المؤمنين يقولون: هذا يوم يسير، كما أخبر الله عنهم بقوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85].

ضغطة القبر

ضغطة القبر وأول ما يفاجئ الميت في قبره ضغطة القبر، وضمته، وكلاهما ورد به الخبر الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فذلك أمر حتمي لازم لا انفكاك منه، فقد قال صلى الله عليه وسلم في دفن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه: (إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ)، ومعلوم أن سعداً رضي الله تعالى عنه شهد جنازته سبعون ألف ملك، ومشى صلى الله عليه وسلم في أوائل المشيعين لها، واهتز عرش الرحمن لصعود روحه فرحاً واستبشاراً، ومع هذا المقام العظيم عند الله وعند رسوله لن ينجو رضي الله تعالى عنه من ضغطة القبر. وقد ورد حديث آخر حسنه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا في حق صبي، قال: (إن هذا الصبي لن ينجو من ضمة القبر) فأول ما يفجأ الميت في قبره هذه الضمة، وهذه الضغطة التي لا بد منها، ثم يفرج عنه على قدر دينه وإيمانه وورعه كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

فتنة القبر

فتنة القبر ثم بعد ذلك فتنة القبر، ويراد بالفتنة السؤال؛ لأن الفتنة لها معان متعددة، ومن معانيها السؤال، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13]، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أتباعه أن يعوذوا بالله من فتنة المحيا والممات، وفتنة القبر هي تلك الأسئلة الثلاثة التي توجه إلى الميت في قبره، وورد أن اللذين يسألانه هما منكر ونكير، فيقعدان الميت ويسألانه تلك الأسئلة التي استفاضت شهرتها: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فعلى قدر صلاح العبد وتقواه وإيمانه يكون جوابه {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وهذه الأسئلة اختلف أهل العلم رحمهم الله فيها، هل يسأل بها كل مكلف؟ وهل يسأل بها الكفار والمؤمنون؟ وهل سئل بها الذين من قبلنا أو لم يسألوا؟ وأظهر أقوال أهل العلم -والله تعالى أعلم- أن الجميع يسأل، وإن خالف في هذه المسألة بعض أهل العلم من أهل السنة، والله تعالى أعلم.

عذاب القبر ونعيمه

عذاب القبر ونعيمه ثم بعد ذلك على ما يكون من إجابة، وعلى ما كان من العبد من عمل يكون عذاب القبر ونعيمه، وعذاب القبر ونعيمه أمر استفاض علمه من دلائل الكتاب والسنة المطهرة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، فحادت به بغلته حتى كادت أن تلقيه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أقبر خمسة أو ستة أو أربعة، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: (من يعرف أصحاب هذه القبور؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في زمن الإشراك، فقال صلى الله عليه وسلم: لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع، ثم قال لأصحابه: تعوذوا بالله من عذاب القبر، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا من فتنة المسيح الدجال، فقالوا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال). فهذا خبر صحيح، ويؤيده ما جاء في حديث عائشة أن امرأتين من اليهود قدمتا عليها، فأخبرتاها بأن أصحاب القبور يعذبون في قبورهم، فلم تصدقهما أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، فلما قدم نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرته الخبر، فقال: (نعم، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. قالت عائشة: فما وجدته بعدها إلا كثيراً ما يستعيذ بالله من عذاب القبر) ويدل عليه ظاهر القرآن، قال الله جل وعلا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، قال بعض أهل العلم: العذاب الأدنى: عذاب القبر، ويدل عليه قول الله جل وعلا في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، وهذا في القبر {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فعذاب القبر ونعيمه أمر مستفيض مشهور، فمن عقيدتنا -أهل السنة والجماعة- أن أهل القبور إما في نعيم وإما في عذاب. وهذا العذاب أو النعيم يشمل الروح والجسد، ويشمل الروح حيناً، لأن الروح تنفك عن الجسد حيناً وتنفصل عنه، وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فهو الذي يعلم كنهه ولبه ومنتهى إدراكه، فالله تبارك وتعالى علام الغيوب.

سماع الموتى كلام من يأتيهم

سماع الموتى كلام من يأتيهم إن المتأمل في أخبار الكتاب والسنة يجزم بأن أصحاب القبور يسمعون ذلك، ومما يدل عليه أمور عدة: أولها: ما ثبت في الصحيحين من طرق متعددة ووجوه مختلفة من أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتلى بدر ألقاهم في قليب، أي: في بئر مهجورة، ثم وقف عليهم بعد ثلاثة أيام فقال: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) فأذهل هذا الأمر عمر، فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: (يا عمر! والله ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جواباً) فأثبت لهم صلوات الله وسلامه عليه السمع، وقال: (ما أنت) أي: يا عمر (بأسمع) أي: بأشد سماعاً (لما أقول منهم)، ولكن وجه الخلاف هو أنهم لا يستطيعون جواباً. ولا يعارض هذا قول ربنا جل جلاله في سورة فاطر: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، فإن قول ربنا جل جلاله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] المقصود منه والمراد منه سمع الامتثال والقبول، لا سمع الأصوات، فهم يسمعون، ولكنهم لا يسمعون سماع من يمتثل ويقبل ما تقول، ويستطيع أن يمتثل لأمرك. ومما يدل عليه أيضاً ما ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال من يشيعه إذا انصرفوا عنه. ومما يدل عليه أيضاً أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما ندبنا ورغبنا في زيارة القبور علمنا ماذا نقول، فمن ضمن ما نقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولا ريب في أن استعمال كاف الخطاب يلزم منه -كما هو مفهوم من لغة العرب- أن يدرك من تبلغه السلام سلامك ذلك، وإلا لكان هذا السلام كالسلام على العدم المحض، وهذا أمر لا يعقل، ولا يخاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فمن ذلك يفهم أن الموتى يأنسون بمن يزورهم، ويسمعون نداء ودعاء من يأتيهم، إلا أنهم لا يملكون إجابة، ولا يستطيعون رداً على ما يقوله لهم من يسلم عليهم.

انتفاع الميت بعمل الحي

انتفاع الميت بعمل الحي هل ينتفع الميت بعمل الحي ودعائه له؟ الذي يكاد ينقل الإجماع فيه أن الموتى ينتفعون بالدعاء والاستغفار لهم، إذ قال الله جل جلاله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فقول الله جل وعلا حكاية عن الصالحين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) مفهومه أنهم ينتفعون بذلك الاستغفار -أي: الموتى- وينتفعون بذلك الدعاء، وإلا فلو كانوا لا ينتفعون بذلك الاستغفار، ولا ينتفعون بذلك الدعاء؛ فأي منقبة وأي مدح في دعاء واستغفار أولئك القوم الصالحين. وقد أخبر جل جلاله أن حملة العرش يستغفرون للذين آمنوا، ولم يحصر جل وعلا ذلك الاستغفار على الأحياء دون الأموات، فالآية جاءت عامة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي أهل بقيع الغرقد فيدعو لهم ويستغفر الله جل وعلا لهم، كما ثبت ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه في السنة الصحيحة. ومما نقل أن الموتى ينتفعون بالصدقة عنهم، كما في حديث ابن عباس في صحيح مسلم وغيره أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وأنا غائب عنها، أينفعها إن أنا تصدقت عنها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: يا رسول الله! إني أشهدك أن حائطي -أي: بستاني في مكان كذا وكذا- صدقة عن أمي). وكذلك نقل أن الموتى ينتفعون بالحج والعمرة عنهم، واختلف في غير ذلك، كالصيام وما شابهه ذلك من قراءة القرآن وغير ذلك من سائر الأعمال الصالحة، ويظهر -والله تعالى أعلم- أنا لا نجد مانعاً من أنهم ينتفعون بذلك كله، فإن قال قائل: ما تقولون في قول ربنا جل جلاله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] في سورة النجم؟ فنقول: إن الله جل وعلا في الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] قصر ما يحاسبون عليه في سعيهم، وأما ما يكون لهم فإنه ليس في الآية ما يدل عليه، فلو فرضنا أن رجلاً استدان من بقال ثلاثة آلاف ريال، فكتبها عليه ديناً، فجاء رجل آخر فدفع ثلاثة آلاف للبقال، وقال له: اقض بهذا المال دين فلان، فلا يقول عاقل: إن هذه الثلاثة الآلاف للرجل المتصدق، وفي نفس الوقت نفعت ذلك المديون فأدت دينه عنه، فنفع المؤمن الحي لأخيه الميت كائن بهذا المثال، فإنك إذا استغفرت لأخيك أو دعوت له أو تصدقت عنه، أو اعتمرت عنه، أو حججت عنه، فإن كل ذلك -بإذن الله- ينفعك، ولا يمنع ولا يعارض قول ربنا تبارك وتعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39].

حتمية الموت

حتمية الموت فمن ذلك كله يفهم أن الموت أمر محتوم، وأمر لازم، ولكن الله جل وعلا أخفى عن كل أحد ساعة موته، قال ربنا تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وفسر صلى الله عليه وسلم مفاتح حالغيب، فقال -كما في المسند من حديث ابن عمر -: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله،) ثم تلا خواتيم سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فلا تعلم نفس بأي أرض تموت، ومن جهل المكان أولى وأحرى به أن يجهل الزمان، فكل إنسان يعلم أنه ميت، وهنا نقول: إن حقيقة الموت - أي علم الإنسان بأنه يموت- لا أعلم أحداً حتى الساعة خالف فيها، فأهل الكفر وأهل الملل المتفرقة، وأهل النفاق، وأهل الفسق، والدهريون، والبعثيون، والشيوعيون، والماركسيون، وغيرهم من أهل الملل والنحل من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة لا يظهر لنا أنهم خالفوا في حقيقة الموت، فلم يأت أحد من الناس ليقول: إنه لا يموت، ولكن الخلاف بيننا وبينهم فيما بعد الموت من بعث ونشور، فحقيقة الموت قد سلم بها الجميع، ولذلك ترى الله جل وعلا يحكي عن كفار قريش قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فأثبتوا لأنفسهم أنهم يموتون، وإن نسبوا ذلك إلى الدهر، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وذلك الرجل البالغ في الإثم من القرشيين لما أخذ عظاماً قد بليت، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما أرمت؟! ونفخها بفيه حتى تناثرت، فأنزل الله جل وعلا قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78]، فذلك القرشي لم ينكر أن الناس سيموتون، لكنه أنكر أن يكون هناك بعث بعد ذلك الموت. فحقيقة الموت قد سلم بها كل أحد، وأيقن كل أحد، بأنه ميت لا محالة، ومقدار إيمانك ويقينك بأنك ستبعث بعد الموت هو الدافع للعمل الصالح. ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء فالموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس: (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت والجن والأنس يموتون)، وظاهر الكتاب والسنة أن الموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]، فالموت أمر حتمي لازم لا يفر منه أحد. وهنا نقول: إنه لا ينجي من الموت حذر، ولا ينجي من الموت سبب، ولا يعصم من الموت ملجأ ولا نفق ولا سرداب، ولا سلم في السماء، ولا غير ذلك مما يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك، فالموت أمر حتمي لازم، ولذلك ورد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لما مكث في مسجده يحدث الناس ويفسر لهم كتاب ربنا جل جلاله وصل إلى قول الله جل وعلا: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] فقال رضي الله تعالى عنه يخبر من حوله: إن الهدهد كان يعمل لسليمان أنه يرى له تخوم الأرض، فينظر إلى مواقع الماء ومواقع القطر. فتعجب نافع بن الأزرق -وهو رجل من الخوارج كان حاضراً- من مقولة ابن عباس، وقال: غلبت اليوم يا ابن عباس، قال: وما ذاك؟ قال: تزعم أن الهدهد يعلم ما تحت تخوم الأرض من مواقع الماء؟ قال: نعم، قال: يا ابن عم رسول الله! كيف والطفل الصغير يأتي بالفخ فيضع عليه شيئاً من التراب فيقع فيه الهدهد دون أن يدري ما تحت ذلك التراب؟ فقال له ابن عباس ذلك الحبر العظيم: يا ابن أخي! خفت أن تخرج من حلقتي وتقول: غلب ابن عباس، وإلا لما أجبتك، ثم أجابه فقال: يا ابن أخي! إنه إذا نزل القدر عمي البصر وبطل الحذر؛ لأنه لابد من أن يقع أمر الله، فلا يمنع وقوع أمر الله شيء، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]. ولذلك قد ترى الحادث المروري فتقول عند رؤيتك له: لن ينجو منه أحد، فترى القوم جميعاً سالمين، وترى الحادث المروري فتقول: هذا حادث يسير لا يصاب فيه أحد، فإذا بالقوم أمواتاً، وما ذلك إلا لأن الأمر أولاً وأخيراً منوط بما قدر له الله أن يكون، فما قدر الله له أن يكون لابد من أن يكون حتماً ولزاماً، قال الله جل جلاله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].

نكبة البرامكة ودلالتها على نفاذ ما قدره الله

نكبة البرامكة ودلالتها على نفاذ ما قدره الله تأمل في نكبة البرامكة، فمن المعلوم آل برمك كانوا في دولة بني العباس، جعل الله في أيديهم نواصي الخلق، وملكهم من الأموال ما الله به عليم، وكان لهم من الحظوة والمنزلة المكان العظيم عند هارون الرشيد رحمة الله تعالى عليه، فلما عزم الرشيد على أن ينكبهم وعلى أن يبطش بهم وعلى أن يقتلهم شفعت فيهم أم الرشيد من الرضاعة، وكانت من آل برمك، فهي أرضعت جعفراً ويحيى، وفي نفس الوقت أرضعت الرشيد، أي: كانت ضئراً للرشيد؛ لأن الضئر في اللغة هي المرأة التي ترضع طفلاً آخر، فتصبح له ضئراً، أي: أماً من الرضاعة. فلما عزم على ذلك الأمر، شفعت تلك الأم عند الرشيد فيهم، فقدمت عليه بعد أن سد دونها الأبواب، وتنصل منها وتهرب، فجاءت إلى حاجبه وكان يقال له: عبد الملك، فلما رآها عرفها، وكانت قد حسرت عن لثامها، وهي امرأة عجوز، فقالت له: يا عبد الملك! استأذن لي عند أمير المؤمنين، فدخل عبد الملك حاجب الخليفة وقد بلغه من الشفقة عليها ما بلغه، فقال بصوت حزين: ضئر أمير المؤمنين بالباب، فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أوَسَاعِية؟! -أي: أجاءتنا على قدميها؟ - قال: نعم يا أمير المؤمنين، وحافية. يريد أن يستجر عطفه، فلما دخلت عليه قال عبد الملك: والله ما شككت لحظة في أنه سيرد جوابها أو لا يقبل شفاعتها، فلما دخلت عليه أخذت تكلمه وتذكره بماضيه وتسأله، أن يوقف ما قرره عليهم، فهي ذات المكانة عنده. كان -رحمة الله تعالى- كلما طرقت باباً أوصده، وكلما سلكت طريقاً فر منه، وكلما رامت جواباً أجاب بأفصح منه، حتى صد عليها الأبواب، فلما رأت أنه سد عليها الأبواب أخرجت حقاً كان معها له قفل من ذهب، فقال: ما هذا يا أم الرشيد؟! فإذا بها تخرج ذؤابة شعره عندما كان صغيراً، وثنايا أسنانه عندما سقطت وهو صغير، وأخرجت مع ذلك ما كان يلبسه من رداء في أيام طفولته؛ لأنها كانت مرضعته والمشفقة عليه؛ لأن أم الرشيد ماتت وهو صغير، فقالت: يا أمير المؤمنين! هذه ثناياك، وهذه ذؤابتك، وهذا رداؤك، ثم قالت: إني أتشفع ببعض جوارك إليك. وهي منتهى الشفاعة، فاستعبر الرشيد وبكى بكاء شديداً حتى أبكى من حوله من قواده ووزرائه، ثم قال: يا أم الرشيد! لا أجد مناصاً مما عزمت عليه، فخرجت وقد يئست منه، حتى قالوا: إنه لما بلغها مقتل أبنائها وزوجها لم تذرف لها عبرة، ولم يسمع له أنة؛ لأنها قد فعلت ما بوسعها أن تفعل. والمقصود من الدلالة أنه ما كان الرشيد ليرد شفاعتها حتى يقضي الله أمره، ويمضي في الخلق ما أراده الله جل وعلا لهم، فالموت حتم لازم لا يُنجي منه شيء، فلا ينجي منه خوف الجبناء ولا يعجل به إقدام الشجعان، فساعتك التي أرادها الله لك أن تكون ستحين، فلا مفر ولا محالة، ولا أظن أن عاقلاً اليوم يخالف في هذا.

ذكر من عاش بعد الموت

ذكر من عاش بعد الموت بقي أن نقول: إن هناك أقواماً ماتوا ثم استثناهم الله جل وعلا فأحياهم بعد موتهم، ومنهم من صرح الله به في صريح المحكم، قال الله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243]، قال بعض أئمة التفسير: كانوا قرابة أربعة آلاف من بني إسرائيل، داهمهم الطاعون ففروا من القرية التي هم فيها، وهاموا على وجوههم في الصحراء حتى ملئوا شعباً من الأودية، ومكثوا فيه، وما ذاك إلا لأمر واحد، هو الفرار من الموت، فبعث الله إليهم ملكين: أحدهما في أول الوادي والآخر في آخر الوادي، فصاحا بهم صيحة واحدة فخروا ميتين، فلما ماتوا بقوا على ذلك دهراً من الزمن، فقيل: إن أحد الأنبياء من بني إسرائيل استشفع لهم عند ربهم، ودعا الله لهم أن يحييهم، فأحياهم ربهم جل وعلا، ونحن لا نشك في أنهم أحيوا؛ لأن الله صرح بذلك بما لا يقبل التأويل، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]، وفي ذلك على قدرة الله جل وعلا على البعث والنشور. وممن استثناه الله جل وعلا عزير ذلك العبد الصالح من بني إسرائيل، فقد أخبروا أنه خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما قفل راجعاً اشتد عليه حر الشمس، فآوى إلى قرية خربة على حمار له ومعه سلتان في إحداهما تين وفي الأخرى عنب، فمكث يأكل منهما حتى استلقى على قفاه، فرأى أسقف تلك القرية قد خربت، ورأى عظاماً حوله قد هرمت، فقال من باب التعجب لا من باب الإنكار: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] فبعث الله إليه ملكاً فقبض روحه، فمكث مائة عام ميتاً، وكذلك حماره، ثم بعد مائة عام جاءه الملك فنفخ فيه الروح بأمر الله، فإذا به قائم، فسأله الملك: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، فلما رأى الشمس لم تغب ظن بعث أنه في نفس اليوم الذي مات فيه، فقال: أو بعض يوم، فأراه الملك حماره وما صار إليه، ثم دعا ذلك الحمار عصباً وجلداً ولحماً ودماً حتى اجتمع ونفخت فيه الروح، قال الله جل وعلا يبين ذلك في صريح كتابه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]، وكذلك قدرته جل وعلا، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فهؤلاء ممن استثناهم الله جل وعلا فماتوا ثم أحيوا، ولكنهم مع ذلك يموتون كرة أخرى، ويؤبون إلى ربهم جل جلاله، فلا يستثنى من الموت والأجل المحتوم أحد.

كيف يموت العبد

كيف يموت العبد إن كيفية قبض الأرواح تختلف من زيد إلى عمرو، ومن مؤمن إلى كافر، ومن بار إلى فاجر، ولكن من صور الموت التي يستصعبها الإنسان ما يسمى بالقتل صبراً، ومعنى القتل صبراً: أن يمشى بالرجل يساق إلى القتل، فيعلم أنه قد أتي به ليقتل، فهذا القتل تسميه العرب القتل صبراً، وكثير من الناس مات على هذه الطريقة، سواء من الأخيار أو من الفجار، فمن مشاهير الأخيار الذين ماتوا على هذه الصورة خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه، ذلك الصحابي الذي ذهب به الملأ من قريش إلى التنعيم، فقدموه واختبروه قبل أن يقتلوه، وسألوه إن كان يرضى أن يشاك نبينا صلى الله عليه وسلم أو يؤذى بأذى وهو آمن في بيته، فأخبرهم بأنه لا يرضى أن يكون آمناً في بيته على أن يصاب صلى الله عليه وسلم بشوكة. ثم قدموه إلى الموت، فصلى ركعتين، وأخبر أنه لولا أن يظن به أنه أطال مظنة الخوف لأطال في صلاته تلك، ثم دعا عليهم: اللهم أحصهم عدداً، وأفنهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم قتلوه وصلبوه، فذلك هو الموت صبراً. وممن مات به من الفجار النضر بن الحارث، كان من أعظم أعداء نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة، وشهد بدراً مع قريش، ووقع في أسر المقداد بن عمرو رضي الله تعالى عنه، وكان يسمى في الجاهلية المقداد بن الأسود، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من المدينة أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وقتل عليه الصلاة والسلام النضر بن الحارث صبراً، حيث أمر علياً رضي الله تعالى عنه بأن يجره إلى الموت فيقتله، فذكروا أن أخت النضر لما بلغها الكيفية التي قتل بها أخوها ذكرت في ذلك شعراً، منه: أخذت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تقطع وذكرت فيه أبياتاً تستعطف بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقل ابن هشام في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن شعرها هذا بلغني قبل أن أقتله لما قتلته) والله تعالى أعلم بصحة الرواية، فهذا ما يسمى بالقتل صبراً. وبعض الناس يُظهر في هذه المواقف شدة وبأساً تكاد تتفطر لها الأكباد وتذهل لها العقول، فمن ذلك ما نقلوا أن رجلاً قتل رجلاً في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، فلما قدم به على معاوية قال له أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: يا فلان! قال: يا فلان! إن هؤلاء يزعمون أنك قتلت أباهم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتريد الجواب شعراً أم نثراً؟ فقال: بل شعراً، فأجابه بأبيات يعترف فيها بخطئه، فأمر معاوية بأن يقتل، فقدم به إلى المدينة؛ لأنه كان من سكانها، وقد جرت العادة آنذاك بأن أولياء المقتول يتولون قتل واترهم، أي: من قتل مقتولهم، فلما قدم به في ساحات المدينة واجتمع الناس، وحضر الأمير بحجابه وأبوابه وجنده وحاشيته، قال ذلك الرجل الذي يقاد إلى الموت لأحد أولياء المقتول: قال: يا فلان! إنني قتلت أباك ولم أرحمه، فاقتلني بشدة وقوة، فلما وضعوه في القيد تعجب منهم، قال: وأي حاجة للقيد، فأمر بأن يفك قيده، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: أذا العرش! إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صريرُ لأعلم أن الأمر أمرك إن تَدِن فرب وإن ترحم فأنت غفورُ ثم ضرب بالسيف، فقال من شهده كما نقل عنهم: والله ما رفست قدماه، ولا تحرك منه شعرة واحدة. وهذا أمر يؤتيه الله جل وعلا بعض عباده، ويقبضه الله تبارك وتعالى عن آخرين، وإنما أردت أن أستدل به على ما يسمى بالقتل صبراً.

أثر مشاهدة أمر الموت على الأحياء

أثر مشاهدة أمر الموت على الأحياء ومما يستأنس به من الحديث في مثل هذا أن للموت أثراً على الأحياء، فإن مشاهدة حالة النزع والوقوف على المقابر وما إلى ذلك يضع الرقة في القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) وهذا أمر مشاهد واقع معلوم لا يمتري فيه اثنان. كما أنه قد تكون هناك قصة منفردة، أو أمر غريب يضع في النفوس أمراً أغرب، ويجعل الأثر أبعد، ويجعل له مناطاً أقوى، فمن ذلك أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلاً عن أعجب ما رأى، فقال: يا أمير المؤمنين! لقد دخلت ذات يوم بلدة لا أعرف فيها أحداً، فأنا غريب فيها، فصليت في أحد مساجدها، فلما صليت وفرغنا من الصلاة إذا بجنازة قدمت، فصليت عليها مع من صلى، ثم رغبت أن أذهب معهم إلى القبر، فذهبت معهم، فلما وقفنا على القبر استعبرت، وتذكرت أبياتاً كنت أحفظها لرجل آخر، ومنها: يا قلب إنك من أسماء مغرور فاذكر هل ينفع عنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبطاً إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي عليه الغريب وليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور قال: فلما قلت إذا بالناس يحلقون حولي، قالوا: يا رجل! أتعرف الميت؟ قلت: لا والله، فأنا غريب عن هذه البلدة، قالوا: والله إن الأبيات التي قلتها قائلها هو هذا المقبور الذي لا تعرفه، فالرجل قال الأبيات ومضت بين الناس واشتهرت، وأخبر فيها أنه ربما يقف غريب على قبره فينعاه، ويتخلى عنه ذو قرابته، ثم يقع هذا الأمر حقيقة، فيأتي رجل غريب لا يعرفه فيقف على القبر ويستعبر ويبكي ويندبه وهو لا يدري عنه، ويكون له من القرابة والرحم من يتخلون عنه في يوم موته، فمثل هذه الحوادث تجعل في النفس رقة. ومن ذلك ما ذكر ابن القيم في الجواب الكافي أن شاباً جاءته امرأة تائهة تبحث عن حمام تغتسل فيه على عادة الناس في ذلك الزمان، فقالت لذلك الشاب: يا أخا العرب! أين حمام منجاب؟ فكان باب داره مفتوحاً، ورأى من أمارات الغفلة على المرأة، فأشار إلى باب الدار وقال: هاهنا، فدخلت المرأة، فدخل وراءها وأغلق الباب، وأراد أن يراودها عن نفسها، فكأن الله ألهمها؛ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فألهمها أن تظهر له موافقتها على ما يريد، فقالت: أنا بين يديك، ولكن ليس من المعقول أن لا نلهو بشراب وطعام قبل أن نعزم على ما تريد، فتعجب فرحاً وخرج يبحث عن طعام وشراب، فلما خرج خرجت هي بعده وانصرفت إلى دارها، فلما أتى الدار أغمي عليه مما وقع فيه، ومن أسفه على أن فرت من بين يديه، فأخذ الهم يغتاله شيئاً فشيئاً حتى غرغرت روحه، فلما اجتمع عليه أهله وذووه، وقالوا: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، كان يردد: ولرب سائلة يوماً وقد ذهلت أين الطريق إلى حمام منجاب فمثل هذا وغيره يجعل في النفس رقة، ويجعل الإنسان في خوف ووجل من تلك الساعة، فإننا -يا أخي- لا ندري أنثبت على ما نحن عليه من الهدى أو لا نثبت، أسأل الله لي ولكم الثبات. ولذلك حكى الله عن الصالحين دعاءهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. ثم إننا لا ندري على أي حال يختم لنا، فالسعيد كل السعادة من ختم الله له بخير، ومن جعل الله جل وعلا مآله إلى خير، ومن قدمه ربه تبارك وتعالى إلى خير.

التأمل في الموتى يفضح غرور الأيام

التأمل في الموتى يفضح غرور الأيام ولا ريب في أن ذكر الموت إيضاح وبيان لغررور الأيام، وأن هذه الدنيا يقبض الله فيها عن عباد ويبسط لآخرين، فكم من عباد اليوم ملكهم الله نواصي الخلق، وكم من عباد اليوم أفاض الله عليهم من النعمة ما لا يحصى عدداً، وكم من عباد اليوم يجلسون على كراسي يأمرون منها وينهون، وكم من عباد اليوم آتاهم الله من السلطان والمال والعدد والعدة والكثرة في الولد، والوجاهة في الناس، وما إلى ذلك، فلا يسألهم أحد عما يفعلون، فهم في غدو ورواح وذهاب ومجيء، إن لم يرزقوا التقوى فقد هلكوا؛ لأنهم لا يخافون سلطان أحد من الناس، فمن هؤلاء من أهل الإسلام، ومنهم من أهل الكفر، ومنهم ممن هو من أهل المشرق، ومنهم من هو من أهل المغرب. ومن العباد من قبض الله الدنيا عنه لحكمة أرادها، فهو لا يملك قوت يومه، ولا طعام أبنائه، ولا يجد ما يسد به رمقه، ولكن هذا وهذا مصيرهما إلى الموت. ثم انظر بعد ذلك إلى إجابة هذا وهذا، فلا ريب في أن الفقير إذا استعصم كان أقدر على الإجابة من الغني، والإنسان لا يحتقر الدنيا، ولا يراها من منظار صحيح إلا إذا وقف يوماً وقفة منصف على شفير قبر، فتأمل وأنت واقف على شفير القبر تدفن قريباً أو حبيباً أو صديقاً لك، فالو عنقك في تلك الساعة وانظر نظرة فهم وإدراك للدنيا كلها، فوالله -إن كنت لبيباً وأوتيت علماً وإنصافاً- لتحتقرن الدنيا كلها، وهذا حق، فإن الدنيا لو بلغت عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء. تأمل في هذا المقبور أليس له خلان فارقهم ومضى؟! أليس له أموال تركها ومضى؟! أليس له مواعيد لا يستطيع إنجازها؟! أليست له أسرار لم يبح بها بعد؟! أليست له أسرار تركها في صدر فلان وفلان؟! له ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ولكن في تلك اللحظة التي فارقت روحه جسده انقطع كل شيء، فأتاه ما يشغله عن أهل الدنيا، وأتاه ما يشغله عما كان فيه وما كان يهتم له ويغتم له، فأصبح في هم أعظم، ومصاب أكبر. وهذه النظرة إن أوتيها العبد رزق التقوى، فأنصف نفسه في هذه الحياة، ولم يحرص الحرص التام على أن يخلد فيها، أما أن تعصم الناس أموالهم، أو تعصم الناس حجابهم فليس ذاك بكائن، ونقلوا عن أحد خلفاء بني عثمان -والله أعلم بصحة الرواية- أنه من فرط حبه للدنيا أمر المصورين وأصحاب التماثيل أن يجعلوا صوراً وتماثيل بأحوال متعددة من هيئته، فإذا دخلت قصره وجدت صورته وتمثاله وهو نائم، وصورته وهو جالس، وصورته وهو مضطجع، وصورته وهو يمشي، صورته وهو قائم، وصورته وهو يشرب، وصورته وهو يأكل، كأنه يريد أن يغالب الموت، حتى قالوا: إن من فرط قدرة أولئك الذين قاموا بإتقان التماثيل والصور لم يبق من فارق بينه وبين تلك الصور إلا أن تخاطب تلك الصور. ثم بين عشية وضحاها يسلب ملكه، ويخرج من المدينة التي كان فيها، فلم تعصمه حجابه ولا سلاطينه ولا من كان معه، قال حافظ: وأخرجه من يلدز رب يلدز وجرده من سيف عثمان واهبه فالذي أخرجه مما كان فيه هو رب العالمين جل جلاله. تماثيل إيهام أنيمت وأقعدت تراءى بها أعطافه ومناكبه لكن كل ذلك لم ينفعه، حتى قال: ولم يغن عن عبد الحميد دهاؤه ولا عصمت عبد الحميد تجاربه حيل وصور وتماثيل وحجاب وحرس وسلاطين، ولا يدخل هذا إلا بإذن، ولا يخرج هذا إلا بإذن، لكن إذا نزل القدر بطل الحذر وعمي البصر. اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، أنت الله لا إله إلا أنت تحيي وتميت، تبدئ وتعيد، لا تموت، والأنس والجن يموتون. اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حياة طيبة، وخاتمة حسنة، وأن ترزقنا مرداً غير مخز ولا فاضح، اللهم إن لنا من الذنوب والمعاصي ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري به سواك، اللهم كما رحمتنا وسترتها في الدنيا من علينا -يا أرحم الراحمين- بغفرانها يوم نلقاك. اللهم إن لنا أملاً عظيماً في رحمتك يا رب العالمين، فلا تحرمنا ذلك الأمل يا حي يا قيوم. اللهم إنا نسألك حياة الأبرار، ورفقة الأخيار، وصحبة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم المعاد. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا، ومن له حق علينا يا رب العالمين. اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، فارحمنا -اللهم ربنا- رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك. اللهم اجعل ما قدمنا وما أخرنا من عمل نريد به وجهك، ونتقي به سخطك، ونؤمل به يوم نلقاك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

توجيهات اجتماعية

توجيهات اجتماعية النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، وهو القدوة الحسنة والمثال الرائع للناس جميعاً، وجب على كل ذي لبٍ أن يقتدي به في أخلاقه، وتعامله مع الناس، وعفوه عند المقدرة، والتواضع وخفض الجناح للمسلمين، والتقرب إلى الله، واللجوء إلى جنابه.

من مواضع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم

من مواضع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. ثم انه صلى الله عليه وسلم بعد أن أدبه ربه بالوقوف بين يديه في الليل ألبسه جل وعلا في النهار أعظم الأخلاق، وأكمل الصفات، وهداه إلى أفضل الطرائق، فتجمل بها صلى الله عليه وسلم كلها، فهو في بيته خير زوج، وهو لأحفاده خير جد، وهو لأمته أعظم قائد، وهو في المسجد أجل إمام، وأفصح خطيب، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك كله عبد متواضع لله، يعرف فضل الله جل وعلا عليه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما إنا عبد لله فقولوا: عبد الله ورسوله) صلوات الله وسلامه عليه. فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو إن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء والمصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء

ترك الكبر

ترك الكبر الكبر أيها المؤمنون أسوء الخصال، وهو أمر تفرد به الرب تبارك وتعالى، في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري) فالله جل وعلا له بعض الصفات، من نازعه فيها قصمه الله، ومن نأى عنها وبعد قرب من الله، ألا تري يا أخي أن السجود موضع ذلة لا يقبله أحد، ولما كان السجود موضع ذلة لا يقبله أحد لا يجوز فعله إلا للواحد الأحد، قال الله جل وعلا لنبيه {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]. فكلما تذلل الإنسان بين يدي الله اقترب من الله، فإن لبس -عياذ بالله- رداء من الكبر فإنه يكون أبعد ما يكون عن الله مصروفاًَ عن آيات الله لا يعبأ الله جل وعلا به. وقف الصحابي الجليل عبد الله بن عمر يبكي بعد أن خاطبه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن قال: إن هذا -وأشار إلى عبد الله بن عمرو بن العاص - أخبرني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر). وما عصى إبليس ربه إلا عندما استقر في قلبه الكبر، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فأعظم القضايا الاجتماعية، أو أعظم ما ينبغي أن يتخلص المؤمن منه، وهو يخالط إخوانه المؤمنين أن ينزع عن نفسه رداء الكبر، والإنسان لو ترك على سجيته لبقي يحب أن يعظم ويمدح ويثنى عليه، ويرى الناس حوله صغاراً، لكنه إذا ألجم نفسه بلجام التقوى، وعلم أن مرده إلى الله، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]. إذا علم الإنسان أنه عبد مخلوق من لحم ودم وعصب، وأن مرده إلى الله، وستؤويه حفرة، وسيسأله الملكان، وأنه لا يملك لنفسه ضراًَ ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، وأنه لن يأخذ إلا ما أعطاه الله، ولن يتقي إلا ما وقاه الله، جفت الأقلام وطويت الصحف بذلك، فإذا عرف ذلك كله عرف قدره، وتواضع لله كما تواضع الأخيار من الأتقياء والأبرار، من الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا.

ترك الحسد

ترك الحسد فالكبر أيها المؤمنون رداء ينبغي لكل مؤمن أن ينزعه من نفسه. وكما ينزع الإنسان الكبر عن نفسه ينزع داء الحسد، فإن الله جل وعلا جعل هذه القلوب أوعيه، وأعظم القلوب قرباً من الله من سلمت من الشرك وعمرت بالتوحيد، وسلمت من البدعة وعمرت بالسنة، وسلمت من الحسد وعمرت بالمحبة للغير، ومعرفة قدر الناس، وإنزال الناس منازلهم. هذا هو المؤمن الموفق المسدد، والحسد مركب في كل جسد، لكن الله لا يحاسب على أنه موجود في أجسادنا، إنما يحاسب إذا أثمر ذلك الحسد قولاً أو فعلاً حرمه الله أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاءت الاستعاذة منه مقيدة في كتاب الله، قال الله جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، ولم تأت على إطلاقها. وإبليس حسد أبانا آدم على ما أفاء الله عليه مع الكبر الذي في قلبه، وقابيل حسد أخاه هابيل لما قبل الله قربان الثاني ولم يقبل قربانه، فكان ذلك الحسد في قلبه سبباً لقتله لأخيه، {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29]. ونبيكم صلى الله عليه وسلم، لم يكن يحمل في قلبه الحسد؛ لأنه يعلم أن الله وحده هو الذي يخفض ويرفع، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يقطع ويصل جل جلاله، والإنسان إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره لا يشتغل بذلك الغير، إنما يسأل الذي وهبه أن يهبه مثلها، فسل الله، فالله جل وعلا يحب الملحين عليه بالسؤال، وبني آدم لو سألته يغضب. والمقصود أيها المؤمنون أنه ينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه أن لا يكون في قلبه حسد على المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم يدعو إلى المحبة والألفة بين هذه الأمة: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، وهذه الأخير مردها إلى الأول، وهو رداء الكبر الذي بيناه. والمؤمن إذا كان عظيم الثقة بالله يحسن الظن بربه ويعلم أن المقادير بيد الله قلما يكون في قلبه حسد، أما إن كان لا يعرف ربه إلا قليلا كان يغلب عليه الظن أن العطايا مردها إلى أمور مادية وليس مردها إلى العلي الكبير، فيستوطن الحسد في قلبه عياذاً بالله، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وهو في الأقران أكثر، وفي النساء أشد، لكن ينبغي على كل مؤمن ومؤمنة أن يوطن نفسه، أو توطن المرأة نفسها ألا يكون في قلبها حسد لإخوانها أو أخواتها المؤمنات.

ترك الظلم

ترك الظلم ثالث ما ينبغي أن يتداركه الظلم. والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما، وقد بعث صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذ بن جبل إلى اليمن وهم يومئذ أهل كفر، قال له: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وكم يقع الظلم ما بين صاحب العمل والأجير الذي يعمل عنده، أو بين الرئيس والموظفين الذين بين يديه، أو بين رب البيت مع زوجاته، وكم يقع من الزوجة مع الخادمات في البيت، كم يقع من المعلم إلى طلابه، كم يقع الظلم في البيع والشراء؟ كم يقع الظلم على هيئة ألفاظ وأقوال ولا يشعر الإنسان بها، ويخطها أحد الملكين والآخر يشهد عليها، ويوم القيامة يجد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأعظم الظلم أن يظن الإنسان أنه بظلمه يصنع خيراً، قال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. روى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: كنت عند الكعبة فسمعت رجلا يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقال له محمد: يا هذا ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعوتك هذه. فقال صاحب الدعوة: إنك لا تدري ما خبري، إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا تمكنت من عثمان بن عفان لطمته على وجهه ولحيته، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان على سريره في بيته، وجاء الناس يصلون عليه، دخلت في زمرة من يصلي على عثمان، حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه وكفنه ولطمته تحقيقاً لعهدي، فما رفعت يدي إلا قد شلت ويبست كأنها خشبة. قال ابن سيرين: فأنا رأيت يده يابسة كأنها عود! وتأمل يا أخي أن الإنسان أحياناً يصل في الضلالة إلى أن يعطي الله عهداً على أن يؤذي مؤمناً، وهذا ممن قال الله فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]. يأتي للأمر ويزعم أنه قربة إلى الله، وهو لا يقود إلا إلى الضلال المبين، ولا يقود إلا إلى الهلاك؛ لأنه معارض لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. والذين قتلوا عثمان رضي الله عنه وأرضاه قتلوه وهم يزعمون أنهم يتقربون إلى الله جل وعلا بقتله، لأنهم لما غلبت عليهم أزمة الشبهات حرموا من نعمة العقل والهداية والتوفيق فقادتهم تلك الشبهات إلى ما قادتهم إليه. وغاية الأمر أن تعلم أن الظلم من أعظم ما يعجل الله جل وعلا به العقوبة في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا كان يعرف المعنى الحقيقي للوقوف بين يدي الله، تخلص من مظالم الناس، ولم يقع منه مظلمة في دينار ولا درهم، قال الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. ويقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. لماذا يفر المرء من هؤلاء، إن الإنسان يوم القيامة لا يفر ممن لا يعرفه، إنما يفر ممن يعرفه، وهذا والله من دقائق العلم وفرائد الفوائد، وذلك لأن الشخص الذي لا تعرفه يسكن في مكان ناء عنك قلما أن تكون قد ظلمته. لكن الذي يخالطك أنت عرضة إلى أن تظلمه، فإذا جاء يوم القيامة، ورأى الرجل أحداً كان يخالطه ويعرفه يفر منه، خوفاً من أن يكون قد ظلمه في الدنيا فيأخذ من حسناته، وهو أحوج ما يكون يومئذ إلى الحسنات، فيكون فرار الإنسان عن خلطائه، عن أمه، عن أبيه، عن إخوته، عن عشيرته، عن جيرانه؛ لأنه يخشى أن يكون قد أخطأ في حقهم، ويوم القيامة لا دينار ولا درهم، وإنما هي حسنات وسيئات، وكل أحد أحوج ما يكون إلى شعرة من حسنة، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9].

ترك الخوض في أعراض الناس

ترك الخوض في أعراض الناس مما ينبغي على المؤمن أن يكون لسانه بعيداً عن الخوض في أعراض المؤمنين. نبينا صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته يوم عرفة يقول: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا)، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. ويقول صلى الله عليه وسلم في تربيته لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم). وجميل من المرء أن يتحلى بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا ولا سباباً ولا لعانا، وإنما كان صلى الله عليه وسلم جميل القول، مهذب النطق، أحسن الله جل وعلا تعهده وتربيته. تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضها في وصفه لـ هشام يا بني أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قالت: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن). هذه أربع أو خمس صفات مما ينبغي على المرء أن يجتنبه، وليست القضية في التخلية بل لا بد من التحلية، كما نتخلى عن ما حرم الله ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، نتحلى بتلك الأخلاق الكرام، والصفات العظام التي كان يتحلى بها نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

إطعام الطعام

إطعام الطعام ومن أعظم الخصال بذل الندى، وإطعام الجائع، فإن سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادتهم يوم القيامة الأتقياء، وإذا كان الإنسان يبذل نداه، ويقري ضيفه، ويكرم جاره كان قريبا من الله قريباً من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم. حج يزيد بن المهلب فلما قدم إليه الحلاق في يوم النحر حلق له رأسه، فأعطاه يزيد ألف دينار، وهي لا تعطى في العادة لمن يحلق، فقال له الحلاق: دعني حتى أخبر أمي، فرحاً أنه أعطي هذا المبلغ، فقال يزيد لخادمه: أعطه ألفاً أخرى، فقال الحلاق: والله لا أحلق لأحد بعدك، فقال يزيد: أعطوه ألفاً ثالثة. والمقصود أن التاريخ حفظ لـ يزيد بن المهلب هذا العطاء، وأكرم منه من تأسى به يزيد وهو رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام. جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه أيام خلافته، فقال: يا أمير المؤمنين جزيت الجنة أكسو بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمان جنة أقسمت بالله لتفعلنه قال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأمضينه! قال: وإن مضيت يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لتسألنه يوم تكون الأعطيات جنة وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما الجنة فخلع عمر رضي الله عنه قميصه وبكى حتى بلل لحيته وأعطاه القميص وهو يقول: خذه فوالله الذي لا اله إلا هو ما أملك غيره. والمقصود أن نبيكم صلى الله عليه وسلم حث على إطعام الطعام وقال الله من قبل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:11 - 15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16]. وقال عن أوليائه الصالحين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8 - 9].

العفو عن الناس

العفو عن الناس من خصال المؤمنين التي ربي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليها العفو عن الناس، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، فعلت به قريش الأفاعيل، فلما مكنه الله جل وعلا من رقابها يوم الفتح قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء). والإنسان من جميل طباعه أن ينافس في الخير، ولقد ورد أن أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الخمسة الذين يشبهون في هيئتهم نبينا عليه الصلاة والسلام، كان أول أمره كثير الهجاء للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان كثير الهجاء أهدر النبي دمه، فلما تاب وأسلم ذهب إلى إحدى أمهات المؤمنين وسألها كيف يعتذر؟ قالت: ائت إليه وقل له: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، كما قال إخوة يوسف ليوسف، فإن نبيك عليه السلام لا يحب أن يكون أحد أفضل منه، فجاء أبو سفيان وقال مثل ما قال إخوة يوسف ليوسف، تالله لقد آثرك الله علي وإن كنت من الخاطئين، فقال صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف: يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين. والمقصود أن العفو عند المقدرة من أعظم شيم العظماء. وثمة قاعدة في الحقوق الشرعية تنتفع بها إن كنت صاحب سلطة سواء كنت أميراً، أو محافظاً، أو مديراً، أو قاضياً، وهذه القاعدة هي: اصنع في كل احد وقف بين يديك ما تحب أن يصنعه الله بك إذا وقفت بين يديه. فإن هذه الصنائع من أعظم ما تستجدى به رحمة الله جل جلاله، فتعامل مع من يأمل فيك ما ترجو الله أن يتعامل به معك وأنت تؤمل فيه، لكن اقطع علائق قلبك من الخلق كلهم فلا تعفو عن أحد رجاء أن يعفو أحد عنك ذات يوم، هذا إن فعلته جائز، لكن نحن لا نتكلم في ما هو ممنوع أو هو مباح، نتكلم فيما يقرب من العلي الكبير جل جلاله. وما الدنيا إلا أنفاس محدودة وأيام معدودة، ثم الوقوف بين يدي الله جل وعلا، فينبغي أن تكون أعمال العبد مطية للوصول إلى الله جل وعلا، قال الرب تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]. نعود فنقول أيها المؤمنون: مع بذل الندى العفو عند المقدرة، وقد ورد في بعض الآثار أن أربعة من حملة العرش يقولون في دعائهم وذكرهم: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، والأربعة الآخرون يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وكلنا ذو خطأ وما أحوجنا إلى عفو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم)، وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وأولى الناس بأن نرحمه الوالدان؛ لأن الله جل وعلا أوجب لهما الرحمة وبين عظيم حقهما، ثم إنه كلما كان الإنسان ممن حولك ضعيفاً كان أولى بالرحمة. والغريب الذي ليس من ديارك أولى بالرحمة من المقيم فيها، وكل أحد بحسب ضعفه يكون أولى بالرحمة من غيره، فلو كان لك عمات كثر، إحداهن أضعف من الباقيات لوجب صرف الرحمة أكثر لمن كانت أحوج إليها، وهذا من سنن الله جل وعلا في خلقه، ولا أظن أنه يماري فيه أحد.

العدل بين الناس

العدل بين الناس ومما كان فيه عليه الصلاة والسلام من خلق عظيم، العدل بين الناس: وبالعدل قامت السماوات والأرض، ومن العدل بين الناس يعدل الإنسان في حكمه إن كان قاضياً، يعدل الإنسان في قوله إذا طلبت منه شهادة، يعدل الإنسان في سائر شأنه إذا كان ذا ولاية على زوجات أو على أبناء، فيعدل في أبنائه في العطايا، ويعدل بين زوجاته في المبيت، ويعدل في كل شيء بحسبه، ويعدل حتى في قوله مع خصومه وأعدائه، قال الله جل وعلا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. وعبد الله بن رواحة ذهب إلى خيبر يخرص نخلها، فقال: يا معشر يهود: جئتكم من عند أحب الناس إلي -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- وإنكم لمن أبغض الناس إلي، ولكن لن يدفعني حبي له وبغضي لكم أن أجور، ينبغي علي أن أعدل فقالت له يهود: بالعدل قامت السماوات والأرض. والإنصاف اليوم في الناس قليل، والناس إذا أحبوا أحداً نسبوا له كل فضل، وإذا أبغضوا أحداً نسبوه لكل نقص، وقالوا فيه ما لم يفعله، والعاقل لا يغلو في أحد، لا محبة ولا ذماً. فلا تغل في أحد من العباد كائناً من كان، ولو رأيت عليه من أمارات الصلاح والبكاء وأمثال ذلك الشيء الكثير، فإن الله وعلا أوكل السرائر إلى نفسه. ولا تغل في ذم أحد فإنك لا تدري أن الله جل وعلا ستر محاسنه وأظهر معايبه، فحكمت عليه من وجه دون آخر، ولكن المؤمن العاقل الحصيف الذي يخشي على سيئاته أن تزداد وعلى حسناته أن تذهب، لا يتكلم إلا بقصد، ولا يحكم إلا على بينة، ويتكلم بضبط قوله مخافة أن يلقى الله فيكون قد شط في قوله.

التواضع

التواضع إذا كان هذا العدل، وذلك العفو، وبذل الندى فقد بينا الكبر وضده والتواضع لعباد الله، وأحب الناس إلى العباد وأقربهم منهم من كان متحليا متجملاً بخلق التواضع، والنفوس جبلت على أنها تبغض من كان مستكبراً. الحجاج بن يوسف الأمير الأموي يقول على ظلمه: ثلة من أهل الكوفة لو أدركتهم لضربت أعناقهم، وهو لم يدركهم، يعني أنه جاء الكوفة وقد ماتوا، قيل له: من هم أيها الأمير؟ قال: فلان وسمى رجلاً، وكلهم ذمهم بالكبر، أما أحدهم عياذاً بالله فصعد المنبر فخطب خطبة بليغة، فلما فرغ منها قال له أحد الحاضرين: كثر الله من أمثالك، فقال ذلك المتكبر الفاجر، لقد كلفت ربك شططاً، أي: يصعب على الله أن يخلق غيري. قال: وآخر كان يقف في قارعة الطريق، فجاءته امرأة تسأله وهي لا تعرفه، قالت: يا عبد الله، أين طريق فلان؟ قال: ألمثلي يقال: يا عبد الله، ورفض أن يجيبها. وذكر رجلاً ثالثاً ضاعت ناقة فقال: يمين الله إن لم يرد الله ناقتي لن أصلي ولن أصوم، فرد الله عليه ناقته، فقال كفراً: قد علم ربي أن يميني كانت صرماًَ، يعني ماضية. هذا وأمثاله موجود في كل أحد، لكن من الخلق من ألجم نفسه بلجام التقوى فقبلت ورضيت أن يكون عبداً لله جل وعلا، ومن العباد من أطلق لها العنان، وهؤلاء الذين أطلقوا لها العنان درجات، وفي الذروة من أولئك الذين أطلقوا لأنفسهم العنان فرعون عندما قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، والنمرود عندما قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فما السبيل إلى كسر النفس، السبيل إلى كسر النفس عظيم العلم بالله جل وعلا، فإن العبد كلما كان بالله اعرف كان من الله أخوف، كلما كان بالله أعرف، كان من الله أخوف.

أعرف الناس بالله أخوفهم منه

أعرف الناس بالله أخوفهم منه والله جل وعلا حجب عنا جميعاً أن نرى بعيننا الباصرة ذاته، ومكننا جل وعلا أن نرى مخلوقاته، فمن رأى مخلوقات الله بعين البصيرة وتفكر فيها دلته مخلوقات الله على عظمة الخلاق جل جلاله، فإذا عرف ربه وعبده وذل بين يديه، واستكان عنده، يكرمه الله أن يرى الله بعينه الباصرة، وهذا منطلق كل مؤمن. قال الله عن أهل طاعته: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. فهؤلاء أقوام أخذوا يتفكرون في المخلوقات، فدلهم ذلك التفكر على رب البريات، فعظموا الله، فهؤلاء يكافئهم الله يوم القيامة بأن يمكنهم جل وعلا من أن يروا وجهه الأكرم جل وعلا، ولا عذاب أعظم على أهل النار من كونهم محجوبين عن رؤية وجه الواحد القهار، قال الله جل وعلا عن أهل معصيته: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. نعود فنقول: إن التواضع من أعظم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه، هذه الأمور التي وازنا بينها ما بين التخلية والتحلية تحتاج في المضي عليها إلى صبر، وبالصبر تبلغ ما تريد، وبالتقوى يلين لك الحديد، فمن رزق الصبر قدر على أن يعطي مما يحب، وأن يصبر على ما يكره، قال الله جل وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وفي جملة من الآثار: لن تنال البر حتى تصبر على ما تكره وحتى تنفق مما تحب، فإذا أنفقت مما تحب، وصبرت على ما تكره وصلت إلى منازل عالية عند الله جل وعلا. كما أن مما يعين على التحلي بهذه الأخلاق تذكر قرب المحشر والوقوف بين يدي الله، فإن الله ذكر الأوصاف الحميدة، قال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]، وحتى يكون لدى الإنسان حظ عظيم من الصبر لا بد أن يعرف الآخرة حقاً، فكل من أدرك بعيني بصيرته وبصره عظمة الوقوف بين يدي الله، هانت عليه أمور الدنيا، وهذه الدنيا إن نازعت أهلها فيها اجتذبتك كلابها، وإن استغنيت عنها فزت بخيري الدارين. واعلم يا أخي أنه لن يموت أحد حتى يستوفي رزقه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها)، وهذا لا يمنع من السعي المباح، ولا ينافي ذلك الشرع، وفي حديث عمر: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). فأثبت لها صلى الله عليه وسلم الغدو وأثبت لها صلى الله عليه وسلم الرواح. نقول: بالصبر وبالتفكر في اليوم الآخر، ثم بالمعرفة بمنهاج أولياء الله المقربين، وعباد الله الصالحين تنال الدرجات العليا، ولهذا قص الله على نبيه في القرآن جلائل الأخبار، وأدبه بعظيم العظات، حتى يتأسى بأولئك الأخيار الذين من قبله، ذكر له ثمانية عشر نبيًا في سورة الأنعام، ثم قال له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فأخذ صلى الله عليه وسلم بهديهم، فجمع إلى ما عنده من الفضائل ما كان عند إخوانه عليهم الصلاة والسلام من الفضائل، فأصبح عليه السلام في الذروة العليا، والدرجة الأسمى من الأخلاق كلها وعبادة الله صلوات الله وسلامه عليه. ثمة محبطات في الطريق إلى الله، فالإنسان إذا كنت ذا حلم وصفوك بأنك ضعيف، وإذا كنت ذا عفو وصفوك بأنك عاجز، وإذا كنت ذا كرم وصفوك بأنك مسرف، وما يزال في كل مجتمع فئام من الناس يثبطون أهل الحق، ويصفون الأشياء على غير وصفها، ويسمونها بغير اسمها، لكن لا يوجد عاقل يترك الاستسقاء من معين محمد صلى الله عليه وسلم ويأخذ عن غيره، فالعاقل يعلم أن الهدي كله محصور بهدي محمد صلوات الله وسلامه عليه. والتمسك بهدي الأنبياء لا شك أنه خير وأبقى من التمسك بصنيع غيرهم فإن الله أيد أنبياءه بالوحي، والأنبياء بوحي الله إليهم معصومون من أن يقعوا في خطأ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

سؤال التوفيق من الله

سؤال التوفيق من الله بقيت واحدة: وهي أن الإنسان يسأل الله جل وعلا التوفيق في غدوه ورواحه، فوالله لن يقدر أحد أن يعبد الله كما أراد الله، قال الله جل وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]. قال بعض أهل العلم: إنهم إذا أصبحوا سألوا الله التوفيق، وإذا أمسوا استغفروا الله جل وعلا من التقصير، فهم ما بين سؤال الله أن يوفق ويعين وييسر، وما بين استغفار الله أن يسد الخلل، ويغفر الذنب، ويتجاوز عن الزلل، وربك على هذين قادر، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام:102]، كما بين جل وعلا في كلامه وكتابه. أيها الإخوة المباركون، طول الكلام ينسي بعضه بعضاًَ، وهذا ما تيسر قوله في هذا المقام المبارك. وما تبقى من الوقت نجعله للأسئلة، على أنني في المقام الأول أقول قبل أن أنهي: إن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فنسأل الله جل وعلا أولاً أن يتقبل من الملك فهد -رحمه الله رحمة واسعة- بناء هذا المجمع الذي صلينا فيه، وأقمنا المحاضرة فيه، ولم يقتصر نفعه على إقامة الصلوات وإلقاء المحاضرات، وفي هذا عبرة أن الملك رحمه الله مات وزال ملكه، لكن المسجد الذي بناه لله لم يزل باقياً، فكل ما كان لله يبقى، وأما عطايا الله جل وعلا لعباده دنيوياً فإنما هي متاع إلى حين، هذا أولاً. الأمر الثاني: أشكر لأخي سعادة المحافظ فضله وخلقه وكرمه وحضوره المحاضرة الدال على نبل أخلاقه وإسلامية منهجه، وفي هذا تشجيع للناس؛ لأن الناس إذا كان سادتهم ووجهاؤهم والقائمون بالأمر فيهم يتقدمون إلى الخيرات تأسوا بهم، كما أسأل الله جل وعلا أن يشكر الشيخ حسين، وجميع المعنيين في اللجنة الثقافية على حسن ظنهم بأخيهم وكريم دعوتهم. وأسأل الله جل وعلا لهذه الوجوه الطيبة التي أراها والتي لم أرها من أخواتنا المؤمنات المكتسيات بحلل الحياء والحجاب، أسأل الله لنا جميعاً أن يحرم وجوهنا على النار، وأن يجعل مجلسنا هذا شاهداً لنا يوم نلقاه، وأن يعيذنا جل وعلا من أن نريد بقولنا أو أي شيء نصنعه أحداً غيره جل وعلا، وأن يجعلنا ممن خلصت نيته، وسدد الله قوله، وأصلح الله عمله، إن ربي لسميع الدعاء. هذا ما تيسر، وعفواً إن أطلت، وعذراً إن قصرت، فما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وما قدروا الله حق قدره

وما قدروا الله حق قدره خالق كريم، رب رحيم، علي عظيم، خلق فسوى، وقدر فهدى، أعطى وأكرم، وأجزل وأنعم، لا تفي الكلمات أن تحصي ثناءه ونعماءه، فهو أهل الثناء والمغفرة. بعد هذا كله أتى أقوام من خلق الله ما عرفوا لله قدره، وما أدركوا حقه، جعلوا له أنداداً، واختلقوا له أضداداً، وعبدوا من دونه ما لا ينفع ولا يسمع، وهذا والله! بسبب سخف عظيم أصاب كنه عقولهم، وجهل صارخ خيم على أعماق أنفسهم.

ذكر الذين جعلوا مع الله شركاء وذمهم

ذكر الذين جعلوا مع الله شركاء وذمهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولك الحمد، أنت وحدك من يجبر كسرنا، ويجمع شتات أمرنا، ويثبتنا على طريق ديننا، نستغفرك ربنا ونتوب إليك، ونستعين بك ونحن نزدلف إليك بذكرك في بيت من بيوتك. أيها المؤمنون! إن كل مجلس فيه حكمة تنشر، أو سنة تحيا، أو علم يذكر، فإنه مجلس يفد إليه العقلاء، ويؤمه الفضلاء، ولكن أعظم المجالس أثراً، وأرفعها درجة وأجلها بركة، المجلس الذي يذكر فيه الله رب العالمين جل جلاله، كما أن الله جل وعلا لا أحد مثله، فانه لا مجلس أبداً كمجلس يعظم الله فيه ويذكر جل وعلا الذكر الحسن ويثنى عليه جل وعلا بما هو أهله من المحامد. أيها المؤمنون! لما جعل عبدة الأوثان، والعاكفون على الأصنام مع الله جل وعلا شريكاً ولم يعرفوا لربهم قدراً، كانت قلوبهم تشمئز وأنفسهم تنفر إذا ذكر الله عز وجل، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]. وقال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]. على هذا يتبين أننا في هذا المجلس المبارك نتفيأ ظلال آية كريمة نعت الله جل وعلا بها منكراً أحوال قوم ساووا بين الخالق والمخلوق، وجعلوا الآلهة والأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً أنداداً مع ربهم تبارك وتعالى. قال الله جل وعلا وقولهُ الحق: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74]، وعلى هذا يتبين أن من علم حقيقة قدر الله جل وعلا فهو الفائز بجنات النعيم. أيها المؤمنون! هذا الشأن العظيم، والمنزل الكريم، والمطلب الجليل، له شواهد تدل عليه، كما أن هناك قرائن تدل على من نأى وابتعد عنه، وهناك طرائق ترشد إليه وتدل عليه وهي التي بها نستفتح خطابنا هذا.

ما يعين العبد على معرفة قدر ربه

ما يعين العبد على معرفة قدر ربه

التأمل في كلام الله

التأمل في كلام الله من الطرائق التي يعلم بها العبد عظمة ربه: أن يتأمل في كلامه جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. فالقرآن تحدى الله به بلاغة البلغاء وفصاحة الفصحاء. قالوا: إن أبا العلاء المعري الأديب اللغوي المعروف كان آية في الفهم والذكاء والحفظ، ما فقد كان يحفظ أشعار العرب وكثيراً من مفردات لغتها وأيامها وتاريخها، وبدا له لما وصل إلى هذه المرحلة أن ينازع القرآن وأن ينشىء قرآناً يكتبه يضاهي به كلام الله فكتب أبياتاً ختمها بقوله: إن الموت لا يبطئ والخلد في الدنيا لا يجوز. ثم تذكر عظمة الله فتلا قول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105]، فجثا على ركبتيه وبكاء بكاءً طويلاً، ثم رفع رأسه وأخذ يقول: سبحان من هذا كلامه! سبحان من تكلم بهذا في القدم! وهذه شهادة لها اعتبارها؛ لأنها جاءت من رجل يعلم حقائق اللغة ودقائق البيان وأساليب العرب في سبك كلامها، فقد اعترف بالعجز التام أمام كلام ربنا تبارك وتعالى وأصدق منه خبراً قول الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. هذه جملة من الطرائق ذكرنا بعضها ولا يتسع الوقت لذكر آخر منها، ونعرج بعد هذا على الأمارات والعلامات التي يغلب على الظن فيما يظهر للناس ويغلب على الظن -وكل أحد مسئول عن سريرته- أنها تدل على أن العبد يعرف لله جل وعلا حق قدره أو شيئاً عظيماً من ذلك القدر.

التأمل في فضل الله على العباد

التأمل في فضل الله على العباد مما يزيد المؤمن يقينا بعظمة ربه: رؤياه لأفضال ربه على خلقه، ذلك الفضل الخاص إن كنا حررنا الفضل العام بما حمل الله به الناس في البر والبحر يرى العبد فضل الله جل وعلا الخاص على بعض خلقه كيف أن الله جل وعلا اصطفاهم واجتباهم وما كان لهم أبداً أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من العطاء ولن ينالوا هذه المنح الربانية والعطايا الإلهية إلا بفضل الله جل وعلا. وقد اختلف الناس في المسيح عيسى ابن مريم شرقوا فيه وغربوا قالت فيه اليهود ما قالت، وزعمت النصارى فيه ما زعمت قال الحق تبارك وتعالى عنه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]. فما المسيح إلا عبد لكنه قيد بأن الله جل وعلا أنعم عليه فنعمة الله عليه هي التي جعلته آية للناس محتفى به في السماوات العلى وينزل في آخر الزمان فهذه كلها عطايا ربانية ومنح إلهية، والله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. وعندما يرى العبد ما أفاء الله على خليله إبراهيم وكيف أن إبراهيم عبداً مجتبى وحبيباً مصطفى ونبياً مرتضى صلوات الله وسلامه عليه أثنى الله عليه حتى على ألسنة أعدائه وخصومه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68]، وكلها آيات تدل على عظيم رفيع قدره صلوات الله وسلامه عليه. وقبل أن تبحر في معرفة فضل إبراهيم وعلو منزلته استبق إلى ذلك بأن تعلم أن الله جل وعلا هو الذي تفضل عليه، ونظير هذا أن تنظر فيمن آتاهم الله القدرة فإذا رأيت عظيم قدرتهم تأملت بحق قدرة ربك جل وعلا. قال الله جل وعلا على لسان نبيه سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:39 - 40] سواء كان جنياً أو إنسياً أو سليمان أو غيرهم: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ} [النمل:40] أي: رأى سليمان العرش، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40]. إذا كانت قدرة مخلوق أن يأتي بعرش بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين فكيف بقدرة الله جل جلاله؟! هذا مما يقود العبد ويسوقه لمعرفة بعض العلم عن ربه تبارك وتعالى. وعلى الجانب الآخر والنظير مثله يتأمل العبد لمن أهلكهم الله ممن عصوه، من الأمم الغابرة وأهل الأزمنة السابقة ممن نازعوا الله في ربوبيته وحاربوا أولياءه وكذبوا رسله، كيف أن الله جل وعلا أذاقهم ما أذاقهم مما يدلل على عظيم جبروته وسلطانه، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]، وليس هلاك عاد وثمود والمؤتفكات وغيرها بخاف على أحد حتى يحرر ويسطر لكنها كلها تدل على عظمة الجليل العظيم الأجل تبارك وتعالى.

علم الإنسان بضعف العباد

علم الإنسان بضعف العباد ومن الطرائق التي يصل بها المؤمن إلى تعظيم الله: أن يعلم الضعف في العباد. فإن رؤياك للنقص في الخلق يسوقك لأن ترى الكمال في الخالق. شج رأس نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وسال الدم على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وهو يعتريه ما يعتري وجوه المخلوقين فيقع في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحي القيوم. ويرى الإنسان النقص حتى في الملائكة يقول الله جل وعلا عنهم بلسان مقالهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]، ويقول جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] فنحن وإن كنا ملائكة كراماً، وخلقاً عظاماً، لنا ما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقاماً لا نتعداه وأموراً لا نتجاوزها، ولا نملك لأنفسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزلنا من السماء إلى الأرض، وهي بالنسبة لهم أمر هين كطرائقنا المعتادة التي نسير عليها إلا أنه لا يمكن أن يقع إلا بأمر من الله. بل إن الذين يعصون ربهم في الأرض لا يعصونه إلا بإذنه القدري جل جلاله، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]. فلا الذين أطاعوه جل وعلا أطاعوه بفضلهم ولا الذين عصوه جل وعلا عصوه بقدرتهم، ولا الذين أطاعوه زادوا في ملكه ولا الذين عصوه أنقصوا شيئاً من ملكه. فهو جل وعلا لا تنفعه طاعة طائع ولا تضره معصية عاص، له الأسماء الحسنى والصفات العلى. والمقصود: أن رؤية النقص في الخلق يدل العبد على كمال خالقه تبارك وتعالى. يفتن المسلمون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ينصر بالرعب مسيرة شهر، يصيب الوجل والخوف أعداءه ومع ذلك يأتيه الموت وهو على فراشه صلوات الله وسلامه عليه ويرى السواك فلا يقدر أن يقول: أعطوني السواك، يرينا الله الضعف في نبيه حتى نرى كمال القوة في ربنا جل جلاله، فإذا كان هذا حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فما بالك بحال من دونه حتى تعلم عظيم قدرة ربك جل وعلا. ولهذا قال الله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74]، وقال ناعياً أهل الكتاب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]. والمقصود هذه الحقيقة الرابعة في أن الإنسان إذا رأى النقص في غيره من المخلوقين أو في نفسه رأى الكمال والعزة والجلال في ربه تبارك وتعالى.

التأمل والتدبر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى

التأمل والتدبر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى من الطرائق إلى تعظيم الرب تبارك وتعالى: التأمل والتدبُر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يقول وقولهُ الحق: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]. ربنا تبارك وتعالى له الاسم الأعظم والوجه الأكرم، والعطية الجزلى, لا يبلغ مدحته قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد. قال القرشيون لنبينا صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! انسب لنا ربك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]). تدبر الأسماء الحسنى يعظم به الله جل وعلا في القلب وهذا من أجل الركائز. ومن أسمائه جل وعلا العظمى الجليلة: اسم الله, فهذا الاسم لم يتسم به أحد حتى ممن نازعوا الله في ألوهيته وربوبيته، كقول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أو ما قاله النمرود، أو ما قاله غيرهما منعهم الله أن يسلطوا على هذا الاسم العظيم الجليل فيتسموا به. قال الله جل وعلا على لسان الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:64 - 65] ثم قال جل شأنه وهو أصدق القائلين قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: لا يوجد أحد تسمى بهذا الاسم العظيم الذي تسمى الله جل وعلا به، ولهذا صدره الله جل وعلا في أعظم آية من كلام الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فقد بدأت بلفظ الجلالة الذي هو علم الأعلام، وفي فواتح آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]. ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أنه اسم الله الأعظم وليس المقام مقام فصل، لكن إخبار ببعض أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. ألا وإن من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: الحي القيوم، وهذان الاسمان جاء ذكرهما سوياً في كلام الله في ثلاثة مواضع: في فاتحة آل عمران، ومن قبلها في آية الكرسي، ومن بعدهما في سورة طه. وما يمكن أن يقال حول معناهما: فإن الله جل وعلا حي حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وأنه تبارك وتعالى هو الحي حين لا حي، وهو الحي يحيي الموتى. وأما القيوم: فكل أحد غير الله فقير إلى الله، والله جل وعلا غني عن كل أحد. ربنا جل جلاله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، مع ذلك فهو سبحانه مستغن عن العرش، ومستغن عن حملة العرش، ومستغن عمن يطوفون حول العرش، ومن يطوف حول العرش ومن يحمل العرش والعرش كلهم وغيرهم فقراء إليه تبارك وتعالى كل الفقر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].

التأمل في سير الصالحين

التأمل في سير الصالحين من الطرائق التي يصل بها المرء إلى أن يعظم ربه جل وعلا حق التعظيم: التأمل في سير الصالحين وأخبار السابقين ممن ذكر الله جل وعلا أنهم عرفوا قدره وعظموه حق التعظيم، قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:35 - 36]. وأهل الله المحبون له المعظمون له يتدرجون في حظوظهم ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح, فهذه امرأة كان همها أن يكون له ولد، فقد رأت طيراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد فطرة، فسألت ربها أن تحمل، فرزقها الله الولد، فلما اطمأنت على أنها رزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكراً أم أنثى، تخلت عن حظها المباح وتدرجت إلى أعالي الفلاح فنذرت ما في بطنها أن يكون لله قائلة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]. والمعنى: أن حظي من الولد ومن بهجة النفس والأنس والخدمة والنصرة لا أريده ولا أحتاجه، لكنني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادماً لك في بيتك، فانتقلت من حظ مباح، إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادماً لله جل وعلا في مسجده. فما يريده الوالدان من أبنائهم لا تريده، تريد من ابنها أن يكون خادماً للرب، وهذا أمر ليس لزاماً عليها، بل قد لا يرقى إليه أحد في زماننا, لكن المقصود التنبيه على أن لله جل وعلا عباداً فطرهم الله جل وعلا على تعظيمه ومحبته وعلى إيثار ربهم جل وعلا على كل أحد، فقال الله جل وعلا عنها, قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35] أي: خالصاً. {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} [آل عمران:36] إذا بها تصاب بالدهشة فالمولود أنثى وهو أمر متوقع، لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكراً، فلما كان المولود أنثى، قالت معتذرة إلى ربها: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] فلما فاتها أن يكون ذكراً وليس هذا بيدها، لجأت للشيء الذي بيدها وهو التسمية فسمتها: مريم، بمعنى خادمه عند الرب لما فات حظها من كونه ذكراً، ما أرادت أن يفوت حظها من الاسم: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]. هذا أنموذج ذكره الله جل وعلا من بيوت صالحات أصحاب أعمال زاكيات، كيف أن قلوبهم فطرت وجبلت على تعظيم ربها تبارك وتعالى. وعلى هذا نقول: إن التأمل في سير الصالحين وأنباء السابقين ممن زكى الله أو زكى رسوله صلى الله علية وسلم يعين على أن يعظم المرء ربه تبارك وتعالى، ويعرف ما لله جل وعلا من كمال الجبروت وجلال النعوت، وأن الله جل وعلا وحده الحي الذي لا يموت.

التأمل في شواهد وحدانيته وربوبيته

التأمل في شواهد وحدانيته وربوبيته أيها المؤمنون! إن من أعظم ما يعين العبد على معرفة قدر ربه تبارك وتعالى: أن يتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته، مستصحباً الفطرة السليمة التي أودعها الله جل وعلا في قلب كل أحد في أن يعرف ربه، فقد قال الهدهد لما رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:25 - 26]. فبموجب فطرته التي خلقه الله تعالى عليها أنكر هذا الطائر على بلقيس وقومها أن يسجدوا لغير الرب تبارك وتعالى، فإذا استصحب الإنسان تلك الفطرة السليمة مع ما أفاء الله جل وعلا عليه من العلم مما أنزله الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته تبارك وتعالى قاده ذلك إلى العلم بالله، فالله الذي خلقنا من العدم وربانا بالنعم وهدانا للإسلام. وقد ذكر الله جل وعلا كثيراً من أخبار خلقه في طيات كتابه، أخبر جل وعلا أنه حملهم بفضله في البر والبحر، ورزقهم جل وعلا من الطيبات وما كان لهم أن يصلوا إلى ذلك لولا فضله. ثم أخبر جل وعلا أنه بأكبادهم الغليظة وأنفسهم السقيمة وعقولهم التي لا تعي، تجدهم -عياذاً بالله- إذا ركبوا في البحر فمسهم الضر لجئوا إلى الله وحده، فلما أمنوا جعلوا لله جل وعلا أنداداً غيره يعبدونها، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:67 - 69]. وأخبر جل وعلا أنه يزجي السحاب، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً. وأخبر جل وعلا أنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. ومن أعظم دلائل وحدانيته وشواهد ربوبيته: أنه جل وعلا وحده من يخلق، وغيره -شاء أم أبى- مخلوق، وقد قلنا مراراً: إن القرآن يقوم على مبدأ عظيم وهو: أن كل من يستطيع أن يثبت أن هناك خالقاً غير الله فليعبده لكن لا أحد يخلق إلا الله فوجب ألا يعظم أحد التعظيم الكامل وألا يعبد أحد من دون الله أبداً. على هذا أسست دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: لا خالق إلا الله، فبالتالي لا معبود إلا الرب تبارك وتعالى؛ لأنه لا أحد غيره يخلق. وقد غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش فجاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظام قد أرمت، ثم نفث فيها في يوم رائح، ثم قال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد ما أرمت؟ أي بعدما أصبحت عظماً بالياً، فقال صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن ربه، قال: (نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار)، فأنزل العلي الأعلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:77 - 80] إلى أواخر سورة يس التي فيها جل البراهين على أن الله جل وعلا وحده الذي يخلق، وبالتالي لا يعبد ولا يعظم التعظيم الكامل إلا هو سبحانه وتعالى. غاية الأمر أن يعلم أن التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته يدل على عظمته جل وعلا، وبالتالي يستقر في القلوب وفي العقول أن الله جل وعلا عظيم القدر جليل الشأن، تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد، ولم يلد ولم يولد.

العلامات الدالة على معرفة قدر الله

العلامات الدالة على معرفة قدر الله أعظمها: توحيده تبارك وتعالى فإن من وحد الله عرف قدره، فتوحيد الله جل وعلا الحسنة التي ليس بعدها حسنة كما أن الشرك السيئة التي ليست بعدها سيئة، ولا مصلحة بعد التوحيد ولا مفسدة بعد الشرك، فمن وحد الرب تبارك وتعالى ولم يجعل لله نداً في قلبه فقد عظم الله جل وعلا وقد عرف قدره. فالمخاطبون بقول الله جل وعلا: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] هم أولئك الذي جعلوا لله أنداداً ساووا تلك الأنداد بربهم تبارك وتعالى، جعلوا من له الأمر كله كمن لا يملك من الأمر شيئاً تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ثم تأتي بعد ذلك أمور في سلوك المرء وفي الحياة، تدل على تعظيمه لربه تبارك وتعالى ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الترتيب الأبجدي: الوجل عند ذكر الرب تبارك وتعالى، فإن وجل القلوب عند ذكر علام الغيوب من دلائل معرفة العبد بربه تبارك وتعالى وهذا كنه ما أثنى الله به على عباده الصالحين وأوليائه المتقين في كتابه. ذلك أن القلب إذا فرح مع محبة لذلك الذكر ويحب كل المحبة مجلساً يعظم الله فيه، ويذكر الله فيه فإن ذكر الله حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر، فالمؤمن إذا كان يجد في نفسه -وكل امرئ حسيب نفسه- حب المجالس التي يذكر الله فيها ويحب أن يعظم الله ويبجل ويحمد ويثنى عليه جل وعلا بما هو أهله مع وجله وشوقه إلى ربه تبارك وتعالى فإذا ذكر الله هذا من القرائن والبراهين على أن ذلك العبد يعظم الله رب العالمين. كما أن من قرائن تعظيم الله جل وعلا ومعرفة قدره: أن يقدم المرء ما قدمه الله وأن يعظم المرء ما عظمه الله، وأن يتحرى الإنسان العمل فيما وصى الله جل وعلا به، هذه هي القلوب التي عرفت ربها حقاً، فإذا كان الإنسان قد جعل في طريقه في مسلك حياته في غدوه ورواحه ومخالطته للناس يعظم من عظم الله ويبجل من بجل الله فيعظم المصلين؛ لأنه يرى فيهم القرب من الله بصرف النظر عمن هم، ويأتي بالوصايا الإلهية فلا يقدم على والديه أحداً فإذا عظم والديه لا يعظمهما لأنهما أبواه وإنما يعظمهما؛ لأن الله جل وعلا وصى بهما في كلامه. ثم يزدلف ويطبق عملياً ما وصى الله جل وعلا به فيجعل للوالدة ما لا يجعل للوالد، ولو كانت الوالدة أشد قسوة عليه من والده ولو كان والده حفياً به لكن أمه لا تصل في حنانها عليه إلى والده فيطرح ذلك جانباً ويقدم ما قدم الله وقدم رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم إن هذا الأمر يظنه البعض خطاباً عارضاً لكنه قرينة خفية على أنك تعظم ربك وأنت تحنوا عليهما، تذكر قول الله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] فأنت لا تخفض جناحك؛ لأنهما كبيران، وإنما تخفض جناحك امتثالاً لأمر ربك تبارك وتعالى، وتزدلف إليهما، وقبل أن تخاطبهما بخطابك تتذكر أن ربك الذي خلقك وصاك بهما، ولو صنعت هذا الصنيع مع والديك ومع كل أحد وفق شرع الله وأخذت بوصايا الله فإنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تطيع الله فيه، فإن اتباع وصايا الله لا يقود إلا للفلاح. لكن أين يكون الخطأ؟ يكون عندما يدخل الشك في المرء في أن هذا الطريق ليس بصحيح فيبحث عن طرائق أخر يبتدعها، وقد لا تكون بدعة بمعنى البدعة المحضة ولكنها فرار عن منهج الله، ويطبق منهجه وهو يظن أنه سيصل إلى مقصودة، ولن تصل إلى مقصودك الشرعي إلا بالطريق التي اختصها الله جل وعلا لك، وهنا يتميز الواثق من منهج الله عمن هو غير واثق من منهج الله، فإذا خاطب الإنسان والديه مثلاً المرة بعد المرة وخفض لهما الجناح ولم يتغيرا لجأ إلى طريق آخر، حين لا ينفع معهما مثل هذا الخطاب، فيبحث عن طرائق أخر كأنه يقول ولو لم يصرح ودون أن يفعل ذلك عمداً كأنه يقول دون أن يشعر أنني سأخطط منهجاً أفضل من منهج الله. فيتعامل الإنسان مع ولاة أمره وقد وصاه الله جل وعلا بطاعتهم، فإذا رأى منهم زلة هنا أو هناك غير طريقته وأراد أن يخرج عن وضع السمع والطاعة بحجة أنه يريد الإصلاح، ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح حق على أي مستوى إلا باتباع شرع الله جل وعلا، وهذا وأمثاله منازل يختبر فيها الناس وليس الأمر مقصوراً على طاعة ولاة الأمر والوالدين لكن في شتى شئون حياتك مع خصمك مع عدوك مع رئيسك في العمل مع جارك في الحي ومع كل خلقه فقد جعل الله وصايا لكل أحد، فالزم ما وصى الله جل وعلا به تنل ما وعد الله جل وعلا، أما إذا خرجت عن طريق الله فلا تنتظر ما وعدك الله به وقد خالفت طريقته ومنهجه تبارك وتعالى. قالوا: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر على حائط للأنصار-أي: حائط بستان- وفيه رفاق شباب يشربون الخمر، فتسلق السور ودخل عليهم فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة شرب الخمر وأنت جئت بثلاث: تجسست والله قد نهى عن ذلك، وتسورت والله قد نهى عن ذلك، ولم تستأذن والله قد نهى عن ذلك. فعاد وهو يعلم خطأهم لكنه أكبر حجتهم؛ لأنهم قارعوه بالقرآن. قال حافظ: وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها إننا نطأطئ رقابنا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلت رقابنا لأحد فوالله! ما ذلت إلا لأن الله أمرنا بهذا، وإن امتنعنا عن شيء فلأن الله جل وعلا أمرنا أن نمتنع عنه هذا هو العبد الصالح، العبد الذي يعرف عظمة أمر سيده تبارك وتعالى خالقنا ومولانا لا رب لنا غيره ولا إله سواه.

حسن الظن بالله

حسن الظن بالله من براهين تعظيم الله: حسن الظن برب العالمين جل جلاله. جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربه: يا رب! إني أراهم يقولون: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فعلام خص هؤلاء بأن ذكروا معك؟ فأوحى الله جل وعلا إليه: يا موسى! أما إبراهيم فما خير بين اثنين أنا أحدهما إلا اختارني، وأما إسحاق فقد جاد لي بنفسه وهو بغيرها أجود، وأما يعقوب فكلما ازددته بلاءً ازداد حسن ظن بي. ووالله! من يعرف عظمة الله وسعة رحمته لا يملك إلا خياراً أوحداً هو: حسن الظن برب العالمين جل جلاله، فنحن نذنب وليس لنا إلا الله يغفر ذنوبنا، نحن نطيع الله بتوفيقه وليس لنا إلا الله يثيبنا على طاعتنا، لنا عيوب تلبسنا بها وليس لنا إلا الله يسترها فمن أحسن الظن بربه تبارك وتعالى كان الله جل وعلا له كظنه بربه تبارك وتعالى. والمعنى كما جاء في الحديث: (أنا عند حسن ظن عبدي بي أو أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء). ومن عرف الله وسعة رحمته لا يملك إلا أن يحسن الظن بربه. اجتمع أبناء يعقوب عليه وهو شيخ كبير شابت لحيته، واحدودب ظهره، وعميت عيناه، ومع ذلك يذكر يوسف: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:84 - 85]. تمر أقوام وأحداث إلى أن يقول الله جل وعلا عنهم: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف:94 - 96]. فذكرهم بحسن ظنه بربه، قال الله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]. وإنني أخاطب كل مبتلى: والله! إن الله أرحم بك من نفسك، وإن الله جل وعلا قادر على أن يغيثك، وأن ما أنت فيه هو خيرة الله وخيرة الله لك خير من خيرتك لنفسك، ويحتاج المرء مع ذلك إلى أن يكثر من ذكر الله، ويصبر نفسه، ويرى سير الأخيار والأبرار الذين صبروا على ابتلاء ربهم تبارك وتعالى.

التواضع للخلق

التواضع للخلق من القرائن الدالة على أن العبد يعرف ربه ويعرف له حق قدره: التذلل وعدم التكبر على الخلق قال الله لنبيه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:37 - 38]. والله يحب من عباده أن يتواضعوا، ولا يعلو أحد على أحد متكئاً على نسب أو مال أو جاه أو حسب وهذه دعاوي كل يدعيها حتى إذا اختلط الناس بعضهم ببعض تميز أولئك الأخيار الأبرار الذين يعرفون أن ما هم فيه نعمة من الله جل وعلا أنعم بها عليهم. حتى الضلالة والهدى ينظرون إلى أهل الضلالة نظرة من يريد أن ينقذهم مما هم فيه. قال أحد الصالحين من السلف: قد كنت أعذر في السفاهة أهلها فاعجب لما تأتي به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما سبل الضلالة والهدى أقسام

الشواهد الدالة على عدم معرفة العبد لربه

الشواهد الدالة على عدم معرفة العبد لربه نختم بالشواهد -عياذاً بالله- على أن العبد لا يعرف قدر ربه عافانا الله وإياكم من هذا البلاء: أعظم ذلك الشرك بالله، فمن أشرك مع الله غيره لم يعرف لله جل وعلا قدراً البتة، ولهذا حكم الله على هؤلاء بأنهم خالدون في النار، لا يمكن أن يخرجوا منها حتى إنهم إذا استسقوا إنما يسقون ماء حميماً، وعلى هذا فالشرك بالله جل وعلا -كما بينا آنفاً- مفسدة لا تعدلها مفسدة رتب الله جل وعلا عليها أربعة أمور: اثنان في الدنيا واثنان في الآخرة. قال الله جل وعلا: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22] هذا في الدنيا. وقال بعدها بآيات: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]. فهذه الأربعة رتبها الله جل وعلا نكالاً على من أشرك به. ويأتي دونهم من عرف قدر الله من حيث الأصل، وهم عصاة المؤمنين الذين ما قدروا الله جل وعلا حق قدره لكنهم لم يخرجوا عن دائرة الإيمان. ومن القرائن على هذا نسأل الله لنا ولكم العافية وأقولها سرداً لا يستطيع الإنسان أن يذكرها فراداً: قسوة القلب. التكبر على الخلق. البعد عن قيام الليل. بخس الناس حقوقهم. وظلم العباد وهذا تبع للأول. فبخس الناس حقوقهم وظلمهم من أعظم الدلائل أن العبد لا يعترف بسلطان الله جل وعلا عليه. المجاهرة بالمعاصي، يقول الله موبخاً من عصاه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. اليأس من رحمة الرب تبارك وتعالى. القنوط من روحه جل وعلا. هذه وأضرابها تدل من حيث الإجمال على أن العبد ما عرف قدر ربه تبارك وتعالى. خاتمة المطاف: كلنا نملك أشياء لا يلبث أن تنفد، الله جل وعلا وحده من لا تنفد خزائنه فحري بعبد نفدت خزائنه أن يسأل رباً لا تنفد خزائنه. الإلحاح على الله جل وعلا في الدعاء وانقطاع العلائق إلا بالرب الخالق جل جلاله، وأن يجمع الإنسان شتات أمره ويضعها بين يدي الله، وأن يفزع الإنسان إلى ربه في الملمات مع شكره تبارك وتعالى في حال السراء، وهذه قرائن عظيمة على أن العبد يعرف ربه جل وعلا. فاللجوء إلى الله تبارك وتعالى، واستغفاره، وكثرة التوبة تعين على طاعة الرب جل وعلا. وهذه فائدة نختم بها وهي: ذكر القرطبي رحمه الله: أن الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم وأرضاهم- اجتمعوا يتدارسون القرآن، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] ثم قال الصديق: فإن شاكلة العبد العصيان ولا يشاكل الرب إلا الغفران، أي: أن الله جل وعلا حقيق به أن يغفر كما أن العبد عرضة لأن يعصي الله جل وعلا. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لقد قرأت القرآن كله من أوله إلى أخره فلم أجد آيةً أرجى من قول الله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:1 - 3] قال: إن الله قدم غفران الذنوب على قبول التوبة. قال عثمان رضي الله عنه: قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أجد آية أرجى من قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]. وقال علي رضي الله عنه وأرضاه: وقرأت القرآن كله فلم أجد آية أرجى من قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. قال القرطبي رحمه الله بعد أن حكى هذا الخبر والأقوال الأربعة قال: وأنا -أي: القرطبي - أرجى آية في كتاب الله قول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وأعتذر إن قصرت، وعفواً إن أطلت فما أردت إلا الخير ما استطعت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فتنة المسيح الدجال

فتنة المسيح الدجال المسيح الدجال أعظم الفتن، وأكبر المصائب والمحن، لا ينجو من شرَكه إلا من قوي إيمانه، وثبت جنانه، ولم تخدعه نفسه وشيطانه. حذر منه الأنبياء من لدن نوح إلى خاتم الأنبياء وصفي الأصفياء وإمام الأتقياء؛ لعلمهم اليقيني أنه فتنة عظيمة لا يتجنبها إلا من وفقه الله

معنى الفتنة

معنى الفتنة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: إن الله جل وعلا خلق عباده لأمر عظيم ألا وهو: عبادته جل وعلا وحده دون سواه، قال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فكل ما حال بين العباد وبين تحقيق هذه الغاية العظمى من عبادة رب العباد جل جلاله يسمى فتنة، وتعظم هذه الفتنة بمقدار صدودها عن عبادة الرب تبارك وتعالى، فالعباد أجمعون إنما خلقوا ليعبدوا الله، فإذا عظم ذلك الصدود عن عبادة الله وإفراده جل وعلا بالعبادة عظمت تلك الفتنة. ولما كان أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من لدن نوح إلى نبينا عليه الصلاة والسلام إنما بعثوا ليعرفوا العباد بربهم جل وعلا، أعلمهم الله أنه أعطى أحد خلقه بعض الخوارق التي تلبس على الناس دينهم، ولئن عرف التاريخ الإنساني من زعم أنه نبي، وعرف أفراداً قلائل زعموا أنهم أرباب من دون الله، إلا أن أولئك الذين زعموا أنهم أرباب من دون الله لم يعطوا حظاً من مكانة أو قدرة تدلل على شيء مما يقولون، فعرف الناس كذبهم، وما اتبعوهم إلا خوفاً من سيوفهم وسياطهم. لكن الدجال أعطي خوارق تلبس على الناس دينهم كما سيأتي، ومن هنا عظمت فتنته، قال صلوات الله وسلامه عليه: (ما من فتنة من خلق آدم إلى أن تقوم الساعة هي أعظم من الدجال)؛ لأن الدجال ينجم عنه الصد عن إفراد الله جل وعلا بالعبادة لما آتاه الله جل وعلا من الخوارق حتى تكتمل فيه الفتنة العظمى.

حرص جميع الأنبياء على التحذير من فتنة المسيح الدجال

حرص جميع الأنبياء على التحذير من فتنة المسيح الدجال وهذا التمهيد لابد منه حتى يجلو لكل أحد لماذا حرص أنبياء الله ورسله من لدن نوح إلى نبينا عليه الصلاة والسلام على تحذير أممهم من فتنة الدجال، قال صلى الله عليه وسلم: (وما من نبي إلا وحذر أمته منه). وهذا التمهيد نزدلف به إلى ما يلي: أن الله جل وعلا وحده من بيده الهداية، فلا يقدر أحد على صرف المحن، ولا يثبتك عند الفتن إلا هو، ولا يرزقك الثبات في الدنيا والآخرة إلا هو، فما يقوله العلماء والمرشدون والوعاظ من أساطين البيان وأمراء الألفاظ يبقى هباء منثوراً، بل قد يكون نقمة إن لم يكتب الله جل وعلا لذلك الكلام نفعاً وأثراً في قلبك، قال الله جل وعلا حكاية عن نوح مع قومه: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:32 - 34]. فلا يمكن لقلب أن يتعظ إلا إذا أراد الله جل وعلا له أن يرزق الموعظة الحسنة، بصرف النظر عمن خاطبه، فنحن لا نقول إلا كلاما ً مكروراً سطره العلماء وردده الوعاظ، ونعيده في جيلنا، ويعيده غيرنا في جيله، والهداية الحقة والخاصة بيد الله تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل ما نقول ونسمع حجة لنا لا علينا. على هذا نزدلف أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم حذروا أممهم من الفتن، ولما كان الدجال أعظم صاد عن دين الله عظم تحذير أنبياء الله ورسله من هذه الفتنة.

بيان أن المسيح الدجال موجود الآن

بيان أن المسيح الدجال موجود الآن الدجال مخلوق، وهذه أولى الحقائق، والله جل وعلا وحده هو الخالق، والدجال موجود الآن على الأظهر، ويدل على وجوده حديث الجساسة، وحديث الجساسة صبغة على حديث رواه مسلم في الصحيح عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها. ومجمل الحديث فيه من الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الدجال وأخبرهم عنه، ثم قدم إلى المدينة بعد ذلك الخبر النبوي تميم بن أوس الداري من غسان، وهي قبيلة عربية يمانية معروفة، فقد ركب تميم وأصحاب له البحر طلباً للتجارة، فماج بهم البحر شهراً، وضربتهم أمواج البحر إلى جزيرة في البحر، فلما دنوا منها وجدوا مخلوقاً غريب الخلقة، عليه شعر كثير، فسألوه: من يكون؟ قالت: أنا الجساسة. قال الشراح: سميت بذلك؛ لأنها تتجسس الأخبار للدجال، فأدخلتهم إلى مكانه فرأوا رجلاً عظيم الخلقة مقيداً بيديه إلى عنقيه، قالوا: من أنت؟ فلم يستخفوه بسؤالهم؛ كان ثبتاً، قال: بل أنتم من أنتم؟ قالوا: نحن قوم من العرب ماج بنا البحر حتى آل بنا الأمر إليك، فسألهم عن ثلاثة مواطن في أرض فلسطين: عن نخل بيسان، وعن بحيرة طبرية، وعن عين في قرية يقال لها: زغر، فأجابوه أن نخل بيسان ما زال يثمر، وأن بحيرة طبرية ما زالت فيها ماء، وأن تلك العين ما زالت تنبع، فأخبر أن الأمر قريب أن يحرم الناس من هذا كله؛ بأن النخل لن يثمر وبأن البحيرة ستجف، وبأن العين ستنضب. فسألهم عن نبي الأميين فأخبروه أنه خرج. فسألهم: هل قاتله العرب؟ فأخبروه، فأخبرهم بعد أن أجابوه عن نفسه، قال: أنا المسيح الدجال، ويوشك أن أخرج. بناء على صحة هذا الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح فإن الدجال حي وهو مسيح ضلالة، كما أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حي وهو مسيح هدى، مرفوع في السماء، قال الله جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، هذا الحديث عن مسيح الهداية عيسى بن مريم. وكلاهما حي، وسيخرجان في آخر الزمان على ظاهر الأحاديث، ويكون على يدي عيسى بن مريم قتل المسيح الدجال. قال: يوشك أن أخرج، ففي زمنه صلى الله عليه وسلم في المدينة تحدث صلى الله عليه وسلم ذات يوم عن الدجال، ورفع وخفض، أي: أكثر، حتى ظن الناس أن الدجال قريب منهم في نخل المدينة، فأخذوا يتحسسون من فيها، فسألهم صلى الله عليه وسلم: ما بالكم؟ فأخبروه أن طريقة عرضك للحديث جعلتنا نشعر أن الدجال قريب، فقال صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أنا أخوف عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)؛ لأن الفتن إنما تواجه بأمرين: تواجه بالعلم والإيمان، ولا يمكن أن يكون هناك أحد جمع الله في قلبه علماً وإيماناً مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالنبي أراد أن يقول لهم: إنه لو خرج وأنا بين أظهركم فأنا كفيل أن أكشف باطله وأرد كيده بإذن الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن يخرج بعدي -أي: وأنا لست فيكم- فكل امرئ منكم حجيج نفسه) وجاء في رواية صحيحة: (يكفيكم الله إياه بالصالحين). على هذا أشيع أن غلاماً يهودياً يتقول أقوالاً تحدث لبساً، كان هذا المتقول اسمه صياف أو صاف وعرف بين الناس بكنية ابن صياد، وهذا الرجل يأتي بأمور يخلط فيها ما بين الكذب والصدق والحقيقة والخيال، فظنه بعض الناس أنه الدجال حتى هم عمر بقتله، ولم يكن يوم ذاك على ما يبدو لدى النبي صلى الله عليه وسلم علماً من ربه كامل في قضية الدجال، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عمر عن قتله. ثم ما زال الوحي ينزل عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيه الله جل وعلا أخباراً عن الدجال يتضح فيما بعد أنه لا يمكن أن يكون الدجال على الأظهر هو صاف أو ابن صياد ذلك الغلام اليهودي الذي كان حياً في المدينة. لكن ذلك الغلام كان يطمع في المدح، ولفت النظر إليه، فتارة يخلط الصدق بالكذب، وتارة يتبرأ من كونه دجالاً، وتارة يقول أقوالاً يوهم الناس أنه هو المسيح الدجال. وعلى هذا مات النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أظهر الأدلة على أنه ليس الدجال أن النبي أخبر أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، وهذا الرجل كان يقطن في المدينة، وقد ثبت في رواية صحيحة أنه ادعى الإسلام وحج، ودخل مكة، لكن ينجم على هذا الإشكال خبر في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رأى في منامه كأنه عند الكعبة رجلاً تضرب لمته إلى منكبيه، يتقاطر منه كالجمان، قلت: من هذا؟ أي في المنام، قيل لي: هذا المسيح عيسى بن مريم، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا خلفه رجل جعد قطط، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال. الإشكال في الحديث كما حرره الحفاظ والعلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الرؤيا رآها وكأنه في المنام عند الكعبة، قالوا: فكيف يتفق هذا مع ما ثبت في صحيح الأخبار أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة؟ وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة عدة أرجحها والعلم عند الله أن هذه الرؤيا وإن كانت رؤيا الأنبياء حق إلا أنه لا يلزم أن تكون على ظاهرها، فكم من رؤيا رآها الأنبياء لا تقع على ظاهرها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر وله ثوب يجره، فكان تأويل هذا بالدين، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب لبناً خرج من أظافره، وأعطى فضلته لـ عمر، فكان تأويل هذا بالعلم، فهذه كلها أولت على غير ظاهرها، فكذلك رؤياه صلى الله عليه وسلم للدجال عند الكعبة يئول على غير ظاهره، وهذا أفضل ما قيل في تخريج الأحاديث، والعلم عند الله. على هذا نقول: إن الدجال ما زال حياً على ظاهر رواية فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها. والجواب عن الأحاديث التي وردت، حديث: (ما من نفس منفوسة يبقى عليها مائة عام) فهذا يحمل على أنه مستثنىً كما استثنى الله جل وعلا إبليس فإنه حي قطعاً، ولا يدخل في حديث العموم الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم. مات صلوات الله وسلامه عليه وقد بين للأمة ما يعنيها في أمر دينها: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

الأحاديث التي تخبر عما سيكون من أمر الدجال

الأحاديث التي تخبر عما سيكون من أمر الدجال جاءت أحاديث تخبر عما سيكون من أمر الدجال، هذه الأحاديث تدل في مجملها على التالي: مكان خروجه، والجمع بين الروايات يدل على أنه يخرج أولاً في خراسان، ثم يخرج من طريق بين الشام والعراق، وأما لبثه في الأرض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، لا يبقي أرض إلا يطؤها إلا مكة والمدينة) ومن هنا قال العلماء: إن من أسباب العصمة من فتنة الدجال سكنى مكة والمدينة. (وأنه يمكث في الأرض سرعته في التنقل كالغيث استدبرته الريح) كما قال صلى الله عليه وسلم. قلنا من قبل أنه وجد أفراد ادعوا الألوهية كفرعون والنمرود، لكن فرعون والنمرود لم يأتوا بدلائل تدل على أنهم يملكون شيئاً من الربوبية، أما هذا فهو قطعاً لا يملك شيئاً من الربوبية، لكنه يملك فتناً تلبس على الناس، ولهذا وصفت فتنته بأنها أعظم فتنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أو الدجال فشر غائب ينتظر) يمر على القرية الخربة فيدعو أهلها إلى الإيمان به فيستجيبون، فلا يكلف نفسه أن يبحث عن كنوزها، وإنما يخرج منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل -كذكور النحل- تخرج لوحدها، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فيعود ذلك بالنفع على أهل تلك القرية وعلى أهل تلك البلدة، ويمر على القرية فيدعو أهلها فلا يجيبون فيتركهم مرملين مجدبين لم يبق عندهم شيء، وفي هذا فتنة. ومعه نهران: نهر ماء أبيض رأي العين، ونهر نار تتأجج رأي العين، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أدركن أحدكم ذلك -أي: ذلك اليوم، وذلك النهرين- فليأت الماء الذي يرى أنه نار تتأجج فإنه ماء) ثم انظر إلى شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، قال يوصي الذي يدرك هذا اليوم، قال: (وليغمض عينيه)؛ لأنه إذا فتح عينيه سيراها ناراً عياناً، ولا يمكن عندها أن يقدم، وسيحجم على أن يأتيها، فحتى يأتي الحق أمره صلى الله عليه وسلم ونصحه بأن يغمض عينيه، كما تسقي ابنك الدواء أحياناً فإنك تعطيه إياه بطريقة يغلب على ظنك أنك لو أعطيته إياه بصورة واضحة لما قبله، فتعطيه إياه بصورة يقبلها فيها. والمقصود من الحالين من ضرب المثال ومن الحال الأول قضية الوصول إلى النفع، قال صلى الله عليه وسلم: (فليغمض عينيه فإنه ماء أبيض) أي ما يراه الناس نار تأجج. على هذا من أعظم فتنته استجابة الجمادات له كما بينا، وهو مكتوب بين عينيه كفر، وإحدى عينيه كأنها عنبة طافية، أي: أنه أعور العين اليمنى، وهنا أنخ أيها المبارك! مطاياك لتعلم أن الله جل وعلا يرى في كل مخلوق نقصاً، فالكمال المطلق له جل وعلا وحده، فهذا الرجل يزعم أنه إله، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، والكنوز أن تخرج فتخرج، ويطوف على الأرض كلها في أربعين يوماً، ومع ذلك يعجز أن يمسح ما هو مكتوب على جبهته، بل يعجز أن يمسح أثر العور عن عينيه، حتى يظهر النقص فيه، وقد قلنا مراراً: إن الإنسان إذا أراد أن يعرف عظمة الله فلينظر النقص الذي في المخلوقين، فالنقص الذي في المخلوقين أياً كانوا من أهل الحق أم من أهل الباطل، يريك عظمة الخلاق جل جلاله، فقد خُسِفَ القمر ليرى الناس عظمة ربهم تبارك وتعالى، ويشج رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكسر رباعيته، ويدخل المغفر في وجنتيه لعلم الناس كمال وجه الله تبارك وتعالى، وعلى هذا قس ما تراه من حوادث يدلك على عظمة الخالق تبارك وتعالى. فهذا المخلوق على ما فيه من جبروت وعلى ما أعطي من خوارق إلا أنه يعجز أن يمسح أثر الكفر من على جبهته، وأثر الأذى والعور من عينه، قال صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه: كفر، يقرؤها كل مؤمن ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق). يأتي المدينة فينزل في سباخها، فإذا نزل في سباخها يخرج له رجل شاب من أهل المدينة جمع بين العلم والإيمان، فيسأل الذين يحيطون بالدجال ممن آمنوا به من السذج عن هذا الرجل الدجال فيقولون له: إنه ربنا، فيكفر به، فيريدون أن يقتلوه، ثم يرون عليه ما يرغبهم أن يقدموا به على ربهم الذي يزعمون، ويريدون أن يستأذنوه فيقبل الدجال أن يدخل عليه؛ لأن الدجال يهمه أن يؤمن مثل هذا به، فيخرج هذا الرجل وقد جمع علماً وإيماناً، ولا يمكن أن تواجه الفتن إلا بهذين: بالعلم والإيمان. فعندما يقدم إليه يقول له الدجال إنه الإله، فيقول له: بل أنت الدجال الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فيقتله الدجال ويجعله قطعتين، بينهما رمية الغرض، هكذا قال صلى الله عليه وسلم، ورمية الغرض هي المسافة التي يجعلها الإنسان بينه وبين الهدف الذي يتخذه لسهمه، فمن أراد أن يتعلم الرماية يتخذ غرضاً يصيبه ثم يبتعد عنه حتى يرميه، فهذا الدجال يقسم ذلك الفتى ثم يفرق قسميه مقدار رمية الغرض، والناس ينظرون، وهذا من أعظم الفتن، ثم يحييه فيقوم حياً، فيقول الدجال: ما تقول في؟ فيقول: ما ازددت بك إلا كفراً، أنت الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. فيريد أن يقتله قتلاً حقيقياً فلا يسلط عليه، ويرى على ترقوته -على رقبته- نحاساً، فيقيده ويرميه في نهر يعتقد أنه نار، والحق أنه رماه في نهر يؤدي به إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (هذا -أي: الشاب- أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)؛ لأنه لا يوجد شيء ندعو إليه أعظم من التوحيد، وشهادة هذا الرجل أجلت للناس أمر التوحيد وبينت لهم كذب هذا الرجل -أي: الدجال- وبينت لهم أن الله جل وعلا منزه عن العيب والنقائص، وأنه لا يمكن لمؤمن أن يرى ربه قبل أن يموت، وبهذه الشهادة التي قام بها هذا الشاب قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).

نزول المسيح عيسى وقتله الدجال

نزول المسيح عيسى وقتله الدجال ويحاول الدجال أن يدخل المدينة أو مكة، فتمنعه الملائكة، ثم يعود إلى أرض فلسطين، ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وعيسى بن مريم أحد أنبياء بني إسرائيل، أو بتعبير أوضح آخر أنبياء بني إسرائيل، ينزل واضعاً يديه على أجنحة ملك، ولا يحل لكافر إذا رآه إلا أن يموت، فيراه الدجال فيميع عدو الله كما يميع الملح في الماء، ومع عيسى عليه الصلاة والسلام حربة فيقتله بها حتى يثبت للناس ويجلو ما في القلوب من الأثر الباقي من رهبة الدجال، فيموت الدجال ويهلك على يد المسيح عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه.

طرق النجاة من فتنة المسيح الدجال

طرق النجاة من فتنة المسيح الدجال فكما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم مكان خروج الفتنة هذه، ولبثها في الأرض، علمنا صلوات الله وسلامه عليه كيفية النجاة منها، من أعظم طرائق النجاة منها: كثرة ذكره والتحذير منه في المنابر، وهذه سنة الأنبياء من قبل سنها نوح، وتبعه الأنبياء من بعده يحذرون أممهم من هذا الكذاب الدجال. الأمر الثاني: الاستعاذة بالله منه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى أمته أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات. الأمر الثالث: قراءة فواتح وخواتيم سورة الكهف، فقد قال العلماء: إن المناسبة ما بين قراءة فواتح سورة الكهف وما بين التخلص من فتنة الدجال أن في فواتح سورة الكهف أخبر الله جل وعلا قصة أصحاب الكهف الذين نجاهم الله جل وعلا من ذلك الملك الظالم، فينجي الله جل وعلا من أدرك الدجال من فتنته بقراءة أخبار أولئك الأخيار الأبرار الذين حكاهم الله في القرآن، وأخبر الله جل وعلا أنهم استعاذوا بربهم ولجئوا إليه، فنجاهم الله جل وعلا من تلك الفتنة: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]. كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان ينبغي عليه ألا يعمد إلى الخروج إليه، خوفاً من أن يقع فيه، ومن هنا قاس العلماء أن الإنسان ينبغي عليه أن يفر من الفتن كلها، وألا يقربها حتى يتمكن من البقاء على دينه، وأن يعصم نفسه، فلا ينبغي لعاقل أن يقتحم أبواب الفتن، ظناً منه أن ينجو. من الطرائق كذلك كما حررنا: سكنى مكة والمدينة؛ لأن الله جل وعلا حرم على الدجال تحريم منع وشرع أن يدخل المدينة، فسكناها في الغالب يقي من الدجال، ومن كتب الله عليه الضلالة فلو سكنها فوقع في قلبه المرض فإنه سيخرج إليه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن المدينة ترجف بأهلها وقت خروج الدجال، فيخرج منها كل كافر ومنافق يتبع ذلك المسيح الدجال. هذا ما يتعلق بفتنة المسيح الدجال على وجه الإجمال، ويسوقنا الأمر بعد ذلك إلى أحاديث عدة نحررها فيما يلي: الغيب لا يعلمه إلا الله، والله جل وعلا أخفى عنا الساعة، والقيامة تطلق علمياً على ثلاثة: على موت الإنسان، وهذه دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأثر: (من مات فقد قامت قيامته)، والأمر الثاني: هي التي يكون فيها فناء الدنيا، وهذا هو المقصود بالساعة إذا صرفت وأطلقت، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. وتطلق القيامة على الأمر الثالث وهو: بعث الأجساد ووقوف العباد بين يدي ربهم جل وعلا، هذا الموطن الثالث الذي تصرف إليه كلمة القيامة في القرآن والسنة، وهذا الغيب أخفاه الله جل وعلا عن كل أحد، لكنه جعل له أشراطاً وعلامات، قال الله جل وعلا: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ومن أعظم أشراطها خروج المسيح الدجال كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم. ولا يخرج الدجال إلا وقد حصل المسلمون قبل خروجه على نصر عظيم، يكون أكثر الأرض قد وطد، وعلا شأن الإسلام، وفتحت القسطنطينية، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في قوله: (هل سمعتم بمدينة نصفها في البر ونصفها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فأخبر أنه سيفتحها سبعون ألفاً من بني إسحاق) أي: من الروم، وهذا يدل على أن أكثر الروم قبل الدجال يدخلون في الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه بعد فتحها -أي: هذه المدينة- يخرج الدجال في الناس، فهذا يدل على أنه يخرج بعد انتشار الإسلام. واليهود لهم دور كبير في خروجه، قال صلى الله عليه وسلم: (يتبعه سبعون ألفاً -أي: الدجال- من يهود أصبهان).

خروج الدجال أثناء ظهور المهدي

خروج الدجال أثناء ظهور المهدي وخروجه يزامن خروج المهدي، والمهدي رجل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، أجلى الجبهة أقنى الأنف، يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، يحارب الدجال. وبينما هو يريد أن يصلي بالناس بصلاة العصر ينزل المسيح عيسى على ظاهر الروايات، فيتأخر المهدي فيأبى عيسى إلا أن يقدمه، لا لأنه أفضل من عيسى، فعيسى عليه الصلاة والسلام نبي، ولا يمكن أن يقارن بأحد من أتباع الأنبياء ولو عظم، لكن يقدم لسببين: تكرمة لله جل وعلا لهذه الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أما وإن منكم من يصلي عيسى بن مريم خلفه)، والأمر الثاني: أن هذا الرجل يحفظ القرآن، وعيسى إنما أنزل بالإنجيل، والقرآن مقدم على الإنجيل، لكن لا يعني ذلك أن عيسى لا يعلم القرآن، فيتقدم المهدي بعد أن يكون عيسى عليه السلام قد قتل المسيح الدجال كما بينا.

ما يستفاد من ذلك

ما يستفاد من ذلك من هذه الأخبار التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم تتضح أمور، أعظمها أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، وهذا أكثرنا القول فيه لخطر أمره، ولاشتداد الحاجة إليه، وينبغي أن يعمد الناس إلى الاستغاثة بربهم والاستعانة به، وسؤال الله جل وعلا الثبات في الفتن، والصبر على المحن، وحسن الوفادة عليه جل وعلا، فتلك من أعظم المطالب، وأسمى الغايات التي يرجوها العبد من ربه. الأمر الثاني: أن يعلم العبد أن الناس منهم أئمة في الخير ومنهم أئمة في الشر، وكلمة إمام لوحدها لا تعني مدحاً ولا تعني ذماً، قال الله جل وعلا عن فرعون وآله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فكما أن المسيح الدجال داعية لفتنة عظيمة فإن عيسى بن مريم داعية هدى ورشد، وداعية إلى الخير صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان يتأمل نفسه وينظر صنيعه، ويحاسب ذاته في أقواله وينظر هل هو ممن يدعون إلى الخير ورأس هدى في البر، أو هو ممن تنكر الطريق وسلك طريق الأشرار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. الكذب أيها المؤمنون مطية سوء، ولهذا المسيح الدجال عرف بالكذب وهو أعظم ما عرف به، وأعظم الكذب الكذب على الرب جل وعلا، وادعاء الألوهية، وهذا الكذب المحض الذي يرقى إليه شيء، وهو داخل في قول الله جل وعلا: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]. والإنسان مهما علا سلطانه وعظم بنيانه، وفخر بأي شيء آتاه الله جل وعلا إليه فإن مصير الخلق كلهم إلى زوال، ثم تبقى الأمور واحدة من ثلاثة: ما لا يكون بالله لا يكون، وما يكون لغير الله يضمحل ويفنى ولا يبقى له أثر، وما يكون بالله ولله هو الذي يبقى نفعه وإن ذهب أثره ينفع الله جل وعلا به من يشاء من عباده. هذا ما أعان الله جل وعلا على قوله حول فتنة المسيح الدجال.

وقفات مع بدايات سورة الزخرف

وقفات مع بدايات سورة الزخرف ننتقل إلى آيات أخرى نفسرها لسبب واحد، وهو أن فتنة الدجال محدودة الكلم، والناس ينتفعون بها مقدار واحد، لكن إذا كانت مثل هذه اللقاءات واجتمع الناس يخرج الإنسان ويتوسع في الحديث، رغبة في نفع نفسه ونفع غيره من المؤمنين، فنقف الآن على بعض آيات في كلام الله جل وعلا نفسرها نفعاً لمن حضر. قال الرب تبارك وتعالى في سورة الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:1 - 3] في هذه الآية فائدة علمية، وقد تمسك بها المعتزلة في أن القرآن مخلوق، إذ قالوا: إن (جعل) بمعنى: خلق، واحتجوا بأن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، والمعنى خلق الظلمات والنور، وهذا القول الذي ذهبوا به باطل من وجوه: وهو أنه قبل أن شرع في بيانها نأخذ نظير لها، ثم نطبق هذا النظير على هذه الآيات التي بيننا. ثمة أفعال لا يتضح معناها إلا من سياقها، فمثلاً قال الله جل وعلا: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99]، فأخبر جل وعلا بمثل هذا، والمقصود به النظر بالعين الباصرة، لأن الفعل (نظر) هنا تعدى بحرف الجر (إلى)، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فالفعل نظر إذا تعدى بحرف الجر إلى يكون المعنى: النظر بالعين الباصرة، وإذا تعدى بحرف الجر (في) فإن المقصود به: التدبر والتأمل، يقول أحدكم: نظرت في أمري، يعني: تفكرت فيه، ولو كان لا يرى بالعين في المعنويات. وقال الله جل وعلا عن أهل النفاق إنهم يقولون يوم القيامة: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] فلم يتعدى الفعل هنا لا بـ (إلى) ولا بـ (في)، فيصبح معناه أي: أمهلونا، من هنا نفهم أن أمهات الأفعال لا تعرف إلا في سياقها وما تعدت به، وكذلك الفعل (جعل) جاء في القرآن على أضرب عدة، فقد جاء بمعنى: سمى، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أي: سموا الملائكة إناثاً، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27]. ويأتي بمعنى صير، ومنه قول الله جل وعلا حكاية عن القرشيين في سورة (ص): {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فجاء الربط هنا بالفعل جعل، ومعلوم أن القرشيين لا يقصدون بقولهم عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] أنه خلقها، وإنما قصدوا أنه صيرها إلهاً واحداً. وجاء جعل في القرآن بمعنى: خلق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]. يتحرر من هذا وفق قواعد العرب أن الفعل جعل إذا تعدى إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير، وإذا تعدى إلى مفعول واحد يكون بمعنى الخلق، فقول الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] تعدى إلى مفعولين، فلا يكون بمعنى الخلق، فلا يصبح هناك حجة لمن زعم أن القرآن مخلوق، هذا إذا استصحبنا كذلك الأصل العظيم، وهو أن الله جل وعلا أخبر في قرآنه في آيات عديدة أن هذا القرآن منزل من عند الله تبارك وتعالى. الفائدة الثانية: قال الله جل وعلا في الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} [الإسراء:105] ثم قال: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105]، والفرق بين المعنيين: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] بالحق أنزلناه أي: أنزلنا هذا القرآن متضمناً للحق، فالقرآن صادق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، قال الله جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]. أما قول ربنا جل وعلا: (وبالحق نزل) فهذا مثل من تبعثه برسالة تريد منها أن يوصلها إلى غيره، فحتى تصل رسالتك إلى غيره على النحو الأتم والوجه الأكمل لابد من توفر أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرسول أمين، لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، والأمر الثاني: أن يكون قوياً، لا يضعف أمام أحد فيغير في الرسالة، والقرآن نزل به من عند الله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: (وبالحق نزل) تدل عليها آي التكوير، قال الله جل وعلا في الثناء على جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ} [التكوير:19 - 20] أي: لا يقدر أحد أن يجبر جبريل على أن يغير القرآن الذي معه وهو ينزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لجبريل أن يغيره من تلقاء نفسه؛ لأن الله قال بعدها: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]، فجبريل قوي وأمين في آن واحد، فأمانته تنفي الخيانة، فلا يمكن لجبريل لما اتصف به من الأمانة بشهادة رب العالمين أن يغير في القرآن، ولا يمكن لأحد أن يستغل ضعفاً في جبريل فيغير القرآن؛ لأن الله جل وعلا بشهادته لجبريل وصفه بأنه قوي، قال الله جل وعلا: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6] أي: ذو قوة، وقال جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20] فوصفه كذلك هنا بالقوة، وهنا يتحرر معنى قول الله جل وعلا: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105].

وقفات مع قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغون عنها حولا)

وقفات مع قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغون عنها حولا) الآية الثالثة: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108] الجنة دار أعدها الله جل وعلا للمتقين الأبرار، ذكراناً كانوا أو إناثاً، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، وهي قرة عين كل مؤمن، كما أن الدنيا لا تطيب إلا بذكر الله، فإن الآخرة لا تطيب إلا بعفو الله، والجنة لا تطيب إلا برؤية وجه الله. يحبس أهلها على قنطرة، فيخلص ما في قلوبهم من غل، قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47]، ومر علي رضي الله عنه على طلحة والزبير وقد قتلا، فقال: أما إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]. فيأتون أبواب الجنة وهم يملأ قلوبهم الشوق إلى وعد الله، فيجدونها قد أغلقت، فيأتون أباهم آدم: يا أبانا! استفتح لنا الجنة، فيقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ فيأتون نبينا صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد! فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلها الأنبياء ثم الصالحون. ولا ينبغي لمؤمن يعرف الله أن يزاحم في شيء، ولا ينافس على أمر أعظم من أن يكون واحداً ممن يزاحمون على دخول باب الجنة، فكل ما قربك من هذه المزاحمة حري أن تصنعه، وكل ما نأى بك على أن تنأى بنفسك عن هذه المزاحمة حري بك أن تذره، وإنه سفاه منا أن يخبرنا الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا له فيها موضع قدم. وهذا والله! حقيقة الغبن أن يخبر الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا فيها موضع قدم، على أن هناك حقائق يجب أن نعلمها، والدرس وإن أخذ جانب الوعظ، لكن هذا الذي به أرسل الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، فنحن لا ينبغي أن نتعلم العلم لننبز به الأقران، وننافس به غيرنا، ونختار من الألفاظ ما هو غريب، أو نأتي بالأشعار ما يقرب الناس منا أو يدلهم على فصاحتنا، فهذه كلها أمور إن جاءت تبعاً فحسن، وإن لم تأت فلا أتى الله بها، لكن ينبغي أن يوطن الإنسان قلبه على أمر عظيم، وهو أن يفوز ويظفر بدخول جنة عدن؛ لأنه إن لم تكن جنة كانت نار، ولا يوجد خزي أعظم ولا أكبر من النار، قال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190 - 192]. فلا يوجد خزي يفر منه المرء أعظم من النار، ولا يوجد فوز ومطلب وبغية وغاية هي أعظم من الجنة، قال الله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، وهي الوعد الأعظم والبشارة الكبرى التي جاء بها الأنبياء وكتبها الله جل وعلا وعداً عليه مفعولاً، يسأله عباده منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرفع الإسلام ولا سؤال للصالحين أعظم من أن يسألوا ربهم دخول جنته، قال الله جل وعلا عنها: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16] أي: وعداً يسأله عباده إياه. فإذا دخلوا الجنة أعطوا زيادة كبد الحوت، ثم ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ثم يمتعون فيها قليلاً حتى يجدوا لذتها، ثم يسمعون منادياً ينادي: يا أهل الجنة! فينظرون من شرفاتها خوفاً من أن يقال لهم: اخرجوا منها وقد ذاقوا لذتها، والمنادي نفسه ينادي أهل النار: يا أهل النار! وقد ذاقوا حرها ووهج شررها، فينظرون على الضد، لعلهم أن يقال لهم: اخرجوا منها. ويؤتى بالموت على صورة كبش فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح وينادي مناد: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، فينقطع عن أهل النار -عياذاً بالله- الأمل في أن يخرجوا، وينقطع عن أهل الجنة الخوف من أن يخرجوا، قال الله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40]. ولا يكادون ينتهون من هذا النداء حتى يأتيهم نداء آخر فينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو، ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا؟ فيكشف الحجاب، فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، وحتى يرزق المؤمن هذا الأمر ينبغي أن يكون في قلبه اليقين أولاً بأنه لا وجه أكرم من وجه الله، فإذا استقر في قلب أي أحد يقيناً أنه لا وجه أحد أكرم من وجه الله، ولا وجه أجل منه، قال الله عن ذاته العلية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، فإذا استقر في قلب أي أحد أنه لا أعظم من الله، ولا أحد أكرم منه، لا أحد أعظم منه اسماً، ولا أحد أكرم منه وجهاً، وأنه جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، وأنه تبارك وتعالى وحده من له الفضل والمنة عليك، ووقع في قلبك واستقر الشوق إلى لقائه جل وعلا، فإذا وقع هذا فإنه يرث الإنسان بعدها برحمة الله عملاً بتوفيق الله يعينه على أن يدخل الجنة. فإذا كتب الله له الجنة من الله عليه بعد ذلك بالعطية الجزلى، والبغية العظمى وهي رؤية وجه الله جل وعلا، قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

مما ينبغي على المؤمن

مما ينبغي على المؤمن والمبتغون الطالبون لهذه الغاية يعرفون بأعمالهم، على ما يظهر للناس منهم، أما السرائر فأمرها إلى الله، فالعاقل لا يشهد إلا بما رأى، ولا يقطع، لأنه لا يقطع لأحد بإخلاص النية وتمام العمل وحسنه وقبوله إلا من شهد الله له أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم لكن ينبغي للمؤمن أن يحرص على أمور أجمعها فيما يلي: كثرة ذكره جل جلاله، فذكر الله جل وعلا أنس السرائر، وحياة الضمائر، وأقوى الذخائر، ولما أراد الله أن يمن على زكريا بالولد، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10] أي: أنت سوي الخلقة لكنك تعجز أن تكلم الناس، فتعامل معهم بالإشارة، ومع أنها ثلاثة أيام منقطعة، وهي آية له وبرهان وبشارة من الله، لكن الله جل وعلا أمره مع هذا الصمت أن يكثر من ذكر الله، فإذا ذكر الله تحركت شفتاه، وإذا كلم الناس عجز، فيكلمهم بالإشارة، فلم يعف الله نبيه زكريا عن ذكره حتى وهو في آية وبرهان من الله، قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]. بل إن أهل الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- وقد انقطع عنهم التكليف يلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا في الدنيا النفس، فهم في جنة عدن يمتعون ومع ذلك لا يفترون من ذكر الرب تبارك وتعالى. وحملة العرش قريبون من ربهم تبارك وتعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] فأثبت الله لهم التسبيح، وهو أحد أنواع عبادته وهو ذكره. والمقصود أن مما يقربك من الله كثرة ذكره، قال الله لنبيه: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]. الأمر الثاني: بعدك عن الضرر بالناس؛ لأن الذي يعرف الله يعرف أن الله مقتدر، ومن يعرف أن الله مقتدر لا يتعرض لظلم العباد؛ لأنه على يقين أن الله جل وعلا قادر عليه، فليس من فراره من ظلم الناس خوفه من الناس، وإنما خوفه من ربه، وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل، لكن الذي منعه أن ينتقم لنفسه خوفه من الله، قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29]. والمقصود أن البعد عن الضرر بالناس من أعظم الأدلة على خوف العبد من ربه. والأمر الثالث: لابد أن يكون لطالب الجنة شيء من الليل يقوم فيه بين يدي ربه، يخلو فيه بين نفسه وبين مولاه، يبث إلى الله، ويشكو إلى الله بلواه، ويسأل الله جنته، ويتلو كتابه، ويقرأ آياته، ويتضرع لخالقه، ويتذلل بين يديه، قال الله عن الصالحين من خلقه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. ورابعها وبه أختم: لابد أن يكون في قلوبنا شفقة على والدينا عملاً بوصية الله لنا، فإن القيام بحق الوالدة على الوجه الأول ثم حق الوالد من أعظم أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة. أيها المؤمنون! هذه أشتات من علم، يسر الله قولها في هذا اللقاء المبارك، عل الله أن يتقبل منا ومنكم. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

البحث عن السعادة

البحث عن السعادة أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه بالعيش السعيد، فعاشوا في مجتمع مسلم يحيا الإيمان من جميع جوانبه، وإنما حظي الصحابة الكرام بذلك بعد تحصيل أسبابه، كالخوف من الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمودة والرحمة وغير ذلك، وقد جعل الله تعالى ذلك العيش أمراً يمكن أن يجده من يأتي من بعدهم إذا حققوا جملة من الوسائل الموصلة إلى طريقهم وسعادتهم.

أسباب السعادة في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

أسباب السعادة في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن المؤمنين متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى أكمل جيل وأمثل رعيل, كانوا شامة في جبين الأيام وتاجاً في مفرق الأعوام, حتى قال عنهم الشاعر العربي: الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه فأصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه بهم نصر الله جل وعلا الدين وأعز الملة, نشئوا في مدرسة محمد صلوات الله وسلامه عليه, فهم المطعمون المنفقون الشاكرون في السراء, وهم الثابتون الصابرون في الضراء والبأساء {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. أن من ينشد الحياة السعيدة لن يجدها ظاهرة بينة واضحة كما يجدها في حياة محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, والحديث عن تلك القمم الشامخة حديث يطول, ولكننا نحاول أن نقف على بعض أجزاء منه, إن تعذر علينا أن نقف عليه كله. إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل كانت فيهم صفات عدة, ومن عظمة السيرة وما حفلت به أنه يمكن أن يتدارسها الناس من عدة طرائق؛ لأنك لا تدرس فيها شيئاً خفياً لتظهره, وإنما هي ظاهرة بينة واضحة كالشمس المشرقة, وإنما ينهل منها الواردون, ويستقي منها الطالبون, وكل يوفقه الله جل وعلا ولو إلى حيز -بحسب دوره في المجتمع- من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

الخوف من الله

الخوف من الله الخوف من الله أعظم مقاصد الشرع, وأعظم ما يثيب الله جل وعلا عليه، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فالخوف من الله تبارك وتعالى سبيل لكل غاية, وإذا أراد الله بعبد خيراً وطَّن قلبه على أن يخشى ربه جل وعلا ويخاف منه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل , فلما هم قابيل بقتل هابيل ما منع هابيل ضعف في بدنه، وإنما منع هابيل أن يقتل أخاه خوفه من الله، فقال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، فالخصيصة الجلى التي كان عليها أنبياء الله من قبل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم من بعد, وعلمها صلى الله عليه وسلم أصحابه في حياته هي الخوف من رب العالمين جل جلاله؛ لأن العبد إذا خاف الله اجتنب الذنوب والمعاصي أن يقتحمها. وإن لم يرزق في قلبه خوفاً من الله -والعياذ بالله- تجرأ على المعاصي وتجرأ على الذنوب, ومثل هذا أين يرجى أن يؤتى كمالاً أو يعطى منالاً من ربه تبارك وتعالى. فأنشأ محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل على الخوف من ربهم تبارك وتعالى, وأورثهم ذلك الخوف البعد عن المحرمات, والمسارعة والمسابقة في الخيرات, وإلا فإنه لا يعقل أن أحداً يتجرأ على معصية إلا إذا قل الخوف فيه من الله, وقد لا ينعدم منه بالكلية, ولكن يقل، ولا يمكن أن يأتي أحد إلى طاعة إلا مع حسن ظنه بالله أن يثيبه، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وليس العلماء من حفظوا المتون وأملوا الدروس, فكل من خشي الله فهو عالم بمقدار خشيته, وكل من عصى الله فهو جاهل بمقدار معصيته. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنما العلم الخشية. أي: الخوف من الرب تبارك وتعالى. فهذه الخصلة أولى وأعظم ما ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أمته، وهي المفتاح الحق للحياة السعيدة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة:71]، وقال جل وعلا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. والفساد في الأرض أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، ولما أثنى الله جل وعلا على رجال قد خلو وأمم قد سبقت قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، و (لولا) هنا في مقام الحض والحث، والذي يعنينا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظمى, حملها النبي صلى الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده وفي حياته صلوات الله وسلامه عليه. وتوحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة أعظم المعروف، والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم المنكر, ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وأعظم المعروف توحيد الرب تبارك وتعالى، ولهذا بدأ الرسل جميعاً بلا استثناء دعوتهم لأممهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وإفراد العبادة له جل وعلا دون سواه, مع التحذير والنهي عن الشرك، وقال الله حكاية عن العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. ثم إن من أعظم المعروف الذي أمر به جل وعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الأركان، أما المنكرات فإن من أعظمها بعد الشرك اثنان: القتل، والزنا. فهذه الثلاثة -الشرك بالله- والقتل والزنا -حرمها الله في جميع الشرائع- قال الله جل وعلا في سورة الفرقان: وهي مكية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]. فهذه الآيات نزلت في العهد المكي, قبل أن تفصل الشرائع كما وقع في المجتمع المدني. فأما القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل مسلم) ذلك أن الكعبة إذا هدمت فإنما هي بنيان، فيأتي الصالحون فيعيدون بناءها, أما المسلم إذا قتل وأزهقت روحه فلا سبيل أبداً إلى عودة روحه, ومن هنا كان قتل المسلم معظماً جداً عند ربنا تبارك وتعالى، إلا بالحق كما قيد ربنا جل وعلا، والله جل وعلا ذكر في القرآن خبر قابيل وهابيل , وأن قابيل تجرأ على هابيل فقتله, فلما حار في أخيه كيف يصنع به، وأراد الله أن يعلمه عامله الله جل وعلا بمثل صنيعه, فكل شيء مما فيه روح قابل لأن يبعثه الله ليعلم قابيل , ولكن الله اختار الغراب وهو من أعظم الفواسق, حتى يقول لـ قابيل: هذا من جنسك أنت، قال الله جل وعلا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]، فاعترف بأن الغراب أفضل منه, والسبب في ذلك أنه تجرأ على دم حرام لم يبحه الله جل وعلا. والمسلم الذي يعلم ما هو المعروف وما هو المنكر, لا يتجرأ على الدماء بيده، ولا يتجرأ على الدماء بلسانه فيريق دماً مسلماً معصوماً بفتوى أو بغيرها يريد بذلك عرضاً من الدنيا, وإنما دماء المسلمين حرام، فقبل أن يتكلم المرء فيها يجب عليه أن يتقي الله جل وعلا تقوى عظيمة. ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في أيامه ظهرت في مكان كان يسكنه شوكة الخوارج الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة, فجاءه ذات يوم رجلان منهم وهو في المسجد فرفعا سيفين عليه, وقالا: جنازتان في الباب -أي: بباب المسجد-: الأولى لرجل شرب الخمر فغص بها فمات, والأخرى امرأة حبلى من الزنا ماتت قبل أن تتوب، فما تقول فيهما؟ وكان يريد أن يقول: إنهما كافران، فاحتال عليهما فقال: هل هما يهوديان؟ فقالا: لا. فقال: هل هما من النصارى؟ فقالا: لا. فقال: هل هما من المجوس؟ فقالا: لا. فقال: ممن هما؟ فقالا من غير أن يشعرا: هما مسلمان. فقال: أنتما حكمتما بأنهما مسلمان, وأنا لم أقل شيئاً. فقالا: دعنا من ألاعيبك, قل لنا: هما في الجنة أم في النار؟ فقال -رحمه الله تعالى-: أقول فيهما ما قاله خير مني فيمن هو شر منهما, أقول فيهما ما قاله عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وأقول فيهما ما قال خليل الله إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. كل ذلك ورعاً أن يحصل سفك للدماء بسبب كلمة أو فتوى يقولها. والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء بطرائق شرعية معروفة, فلا يجوز لمؤمن أن يسفك دم مسلم، وفي الحديث (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). والمنكر الثالث بعد الشرك والقتل الزنا عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه رأى رجالاً ونساءاً في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه يتضاغون فيه, قال: (قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني) عياذاً بالله. وينبغي على المجتمع المسلم أن يتعاضد أفراده وآحاده على إيقاف الرذائل مهما كانت, وعلى نشر الفضائل وحراستها, وعلى إشاعة فضيلة الحياء في الناس, حتى يبتعد الناس بقدر الإمكان عن ذلك المنكر الذي حرمه الله, وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم, بل قد قال العلماء: جاءت الشرائع كلها بتحريمه، وعلى أن العاقل -إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينكر منكراً- أن يكون حكيماً عاقلاً لبيباً عالماً, لئلا يؤدي إنكاره إلى مفسدة أكبر منها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً -أي: مباني عديدة, ودياراً كاملة- ليبني قصراً. أي: ليبني قصراً واحداً, وإنما ينظر من تصدر للقرار وللكلام وللحديث وللفتوى وللتدريس ينظر إلى المجتمع, وقد يمكن السكوت على منكر خوفاً مما هو أعظم منه في بيئة, ولا يمكن السكوت عنه في بيئة أخرى. وهذه أمور يدركها كل من تأمل الشريعة حق التأمل, ونشأ مؤصلاً نفسه علمياً على سنن صالح الأسلاف رحمة الله تعالى عليهم.

المودة والرحمة

المودة والرحمة الخصيصة الثالثة في المجتمع المحمدي: التواد والتراحم. أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم, فيلقي أبا بكر وعمر في ساعة لم يكونا يخرجان فيها, فقال: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا الجوع, فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا -والذي نفسي بيده- ما أخرجني إلا الجوع)، فهذا النبي الأمي لم يكن غنياً ولم يكن فقيراً, تمر عليه أيام يجد فيها ما يأكله, وتمر عليه أيام لا يجد فيها ما يطعمه، وبهذه النظرة الكاملة يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]. فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر رضوان الله تعالى عليهما قد أخرجهما الجوع, فقال: (وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع)، ومن هنا تعلم أن بعض الفضلاء من الناس إذا قال كلمة (أنا) تعوذ, وقال: أعوذ بالله من كلمة (أنا) , ولا يوجد تثريب شرعي في أن يقولها الإنسان, وإنما نقمها الله على فرعون وعلى إبليس لما بعدها لا للفظة نفسها؛ لأن إبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وفرعون -عياذاً بالله- قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]. ولكنها تكره إذا كان طرق الإنسان باباً فسئل من أنت؟ فقال: أنا، ففي مثل هذه الحالة لا تفيد معنىً، ولا تؤدي جواباً، ولا يعرف من أنت ما لم تسم نفسك, فمن أجل ذلك كرهها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع المقيد. فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر، فأتوا بيت أبا الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن في الدار، بل كانت زوجته, فلما رأتهم فرحت, ولخوفها من أن يذهبوا قالت: مرحباً وأهلاً, وأدخلتهم الدار, فجاء أبو الهيثم، فلما رآهم قال: ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. وصدق رضي الله عنه وأرضاه, فلم يكن يومها على وجه الأرض أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فبادر إلى عذق في النخلة فأخرجه بسراً وتمراً ورطباً, وقدمه لهم وقال: تخيروا. ثم عمد إلى المدية -وهي السكين- فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في يده؛ فتأمل -أيها المبارك- كيف يربي النبي عليه الصلاة والسلام الأمة، فقال: (إياك والحلو)، أي: لا حرج، ولكن لا تذبح شاة حلوباً يستفيد منها أهل الدار، فلو منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم من أن يذبح لمنعه من إكرام ضيفه، وهذا لا يعقل أن يفعله عليه الصلاة والسلام, وفي نفس الوقت كان يخشى على أهل البيت الضرر، فقال: (إياك والحلوب) وهكذا العاقل في تعامله مع من حوله في القضايا التي تلج عليه مع الناس، فلا يمكن أن يسلب الناس ما يفخرون به ويفرحون به, وفي نفس الوقت لا يطلق العنان حتى تصبح المسألة مسألة ضرر، فتنقلب من إكرام ضيف إلى ضرر بالأهل, فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب). ونظير هذا في السنة أنه في يوم أحد كثر القتلى من المسلمين حتى بلغوا سبعين, فحملت الأنصار قتلاها تريد أن تدفنهم في المدينة, فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الشهداء في أماكنهم, والعدد سبعون, والصحابة الذين نجوا كانوا مرهقين جداً، حتى إنهم صلوا الظهر قعوداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم, فعاد عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبه الأمثل, فلم يوافق على أن ينقلوا القتلى إلى المدينة, حتى تشهد أرض أحد لهم, وفي نفس الوقت لا يريد أن يكلف هؤلاء المثخنين بالجراح بأن يحفروا سبعين قبراً, فقال: (اجعلوا الرجل والرجلين والثلاثة في قبر واحد)، فإذا جعلنا ثلاثة من قتلى المسلمين وشهدائهم في قبر واحد قل عدد القبور, فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة مثلى تجمع بين عدم إرهاق الصحابة ودفن الشهداء عند جبل أحد في أرض المعركة. وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب)، فذبح لهم رضي الله عنه وأرضاه, فقال صلى الله عليه وسلم بعدها لصاحبيه: (لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما يحمله في قلبه من مودة ورحمة مع علو كعب في الفهم -كأنه عرف أن أبا الهيثم ليس له خادم, فلما فرغ من ضيافته قال له: (ائتنا إذا جاءنا سبي) فلما قدم بسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو الهيثم وقد كان السبي غلامين, فقال صلى الله عليه وسلم: (اختر أيهما شئت) فقال: يا رسول الله! اختر لي: فقال عليه الصلاة والسلام كلمته التي سارت بها الركبان وضربت مضرب المثل: (المستشار مؤتمن) يعلم الأمة أن من استشارك فقد قلدك أمانة في عنقك, فاتق الله جل وعلا فيمن استشارك لتكون بطانة خير له, فتخبره بما ينفعه, وتدله على الصواب, ولا يقع في مثل هذه الأحوال غيبة، فقال صلى الله عليه وسلم ليبين للأمة الطريق المثلى في الحكم على الناس: (اختر هذا فإني رأيته يصلي) فلما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الصلاة على النفس قال لهذا الصحابي الجليل: (اختر هذا فإني رأيته يصلي)، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (واستوص به معروفاً) شفقة على هذا الرقيق, فرجع أبو الهيثم مع الرقيق الذي أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم إياه من السبي, فدخل على زوجته يظهر الفرح على أسارير وجهه, فأخبرها الخبر, ثم قال لها: وإن نبي الله قال لي: (واستوص به خيراً أو معروفاً) فقالت المرأة الحاذقة: يا أبا الهيثم! أعتقه؛ فبهذا تتحقق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم, ولم يكن مراد رسول الله -فيما نعلم- أن يعتقه, ولكن المرأة أرادت أن تبلغ الكمال في حمل حديث نبي رب العزة والجلال صلوات الله وسلامه عليه, فأعتقه, فبلغ خبر عتقه النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن المرء لا بد له من بطانة، إما بطانة خير، وإما بطانة سوء, وقصده أن هذه المرأة وهذه الزوجة كانت بطانة خير لزوجها بما أشارت به عليه وقد سقنا الحديث لنبين التواد والتراحم في المجتمع المدني آنذاك, والنماذج على هذه كثيرة، ولكننا حدثنا ببعضها.

القيام بحقوق البيوت

القيام بحقوق البيوت الخصيصة الرابعة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مما رباهم عليه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه: القيام بواجب المسلم نحو أسرته. فالله جل وعلا ذكر لهم حقوقاً, فقدم الوالدين في الذكر وقال بعد ذلك: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] وبين حق الجار، والعاقل ينتقل من دائرة ضيقه إلى دائرة أوسع, فلا يقدم من أخره الله, ولا يؤخر من قدمه الله. وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون حق أسرهم عليهم، ألا ترى أن أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به؟! فـ خديجة زوجته، وأبو بكر صاحبه، وزيد غلامه، وعلي ربيبه؛ فهؤلاء أول الناس إسلاماً؛ لأنهم كانوا قريبين جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون عطفه ورحمته وشفقته فتأثروا, فلما دعاهم إلى الإسلام بادروا. وينبغي للمؤمن أن يدرك واجبه نحو أسرته, فـ جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما استدعاه أبوه ليلة أحد, ثم قال له: يا بني! قد حضر ما ترى -أي: القتل والحرب والمعركة- وإني لا أراني إلا أول من يقتل غداً, فإذا أنا مت فاقض ديني واستوص بأخواتك خيراً, وكان جابر رجلاً ذكراً واحداً بين أخوات، فحضرت المعركة وكان عبد الله بن حرام والد جابر صادقاً مع ربه, فكان من أوائل من قتل في المعركة, يقول جابر: فدفنت والدي مع غيره, وجاء في رواية -أظنها في الموطأ من مراسيل مالك - أنه دفن مع عمرو بن الجموح , يقول: لم تطب نفسي بعد ستة أشهر أن يدفن رجل مع أبي, فحفرت فوجدته كيوم دفنته إلا شيئاً يسيراً في أذنه. ثم إن جابراً أخذ بوصية أبيه في العناية بأخواته فتزوج على الطريقة المحمدية في تعليم الناس, بحيث لا تترك الأشياء بالكلية, ولا تؤخذ بالكلية, وإنما كان يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية في التعامل مع الأشياء، فـ جابر أوصاه أبوه بأخواته, وهو في نفس الوقت شاب لنفسه عليه حق أن يتزوج, فكان أمامه طريقان: إما أن يترك الزواج ويعتني بأخواته، وإما أن يقول: سينشأن على رعاية الله، وسأتزوج بكراً وأنظر لنفسي، ولكن جابراً التلميذ في المدرسة المحمدية لم يصنع هذا ولا هذا, بل تزوج امرأة ثيباً, فلما تزوج الثيب أسقط شيئاً من حق نفسه حيث لم يتزوج بكراً, ولكنه لم يسقط الزواج بالكلية, وفي نفس الوقت أسقط شيئاً يسيراً من حق أخواته, فلم يتفرغ لهن بالكلية, ولكنه تزوج ثيباً حتى تقوم على أخواته، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه تزوج: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ذكّره بوصية أبيه, فقال: يا نبي الله! إن أبي ترك أخوات، والأمر كذا وكذا, فأقره صلى الله عليه وسلم على قوله ذلك بسكوته، ولم يعنفه ولم يثرب عليه صلوات الله وسلامه عليه. إن من حولنا من أبوين وزوجة وبنات وبنين أحوج الناس إلينا, ولا خير فينا إن كان الإنسان منا يحاول أن يعطي الأبعد ويترك الأقرب, ولكن يقدِّم من قدمه الله؛ لأن من يعطي الأبعد ويترك الأقرب نقول له: إن كنت تريد ما عند الله فليس هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لنا, وإن كنت تريد ما عند الناس فإن الناس لا يملكون قلوبهم حتى يهبوها لك, فكيف تطلب منهم شيئاً لا يملكونه ولا يطيقونه؟! وإنما يعرف الرجل الرباني بسيره على منهاج الله وبوقوفه عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المؤرخون: إن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر ذات ليلة على فتية من الأنصار يحتسون الخمر في حائط: أي: في بستان, فاعتلى السور ودخل عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث، قال الله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وأنت تجسست، وقال الله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وأنت أتيتنا من أعلى السور، وقال الله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تستأذنوا، وأنت لم تستأذن، وكان عمر يملك الرد على هذا, ولكنهم لما أتوا عن طريق الآيات أطرق رضي الله عنه وأرضاه رأسه لهم, وهذا هو حقيقة الوقوف عند آيات الله. قال حافظ رحمه الله: وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها وهذا هو الشاهد من القصيدة كلها، فعندما تقبل قول أحد لأنه استدل عليك بالقرآن, تقبله للدليل لا لذاته, وهذه تربية عظيمة يربي المرء عليها نفسه, ولكنها تحتاج إلى نوع من المكابدة والاستمرار والأخذ والعطاء ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. ويندرج في هذا الأمر كذلك حب الإنسان للصغار من أهل بيته، فأعظم الوشائج بين الأبناء والبنات وبين أبويهم تلك التي تورث في الصغر، والتي يكون فيها الإنسان وافر العطاء من الحنان والشفقة والمودة لمن يحب، فقد قطع نبينا صلى الله عليه وسلم خطبة له وهو يرى الحسن والحسين يمشيان فيعثران، فلما رآهما يمشيان ويعثران قطع الخطبة وحملهما ووضعهما بين يديه ورقى أعواد منبره، ثم قال: (صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] لقد نظرت إلى ابني هاذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما)، وقام من الليل -كما في المسند بسند صحيح- يسقي الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليه.

العفو عند المقدرة

العفو عند المقدرة ومن خصائص المجتمع المدني الذي من الله جل وعلا عليه بالحياة السعيدة آنذاك العفو عند المقدرة، والعفو شيم من شيم الكرام كانت العرب تتغنى به في الجاهلية، فلما بعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ربى أمته على هذه الخصلة، وجاء القرآن من قبل بها فقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فكلها رغائب ذكرها جل وعلا في كتابه تحث المؤمنين على العفو، ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من ملك ثم عفا من البشر، يقول بعض أهل السير: إن أبا سفيان بن الحارث -وهو أحد خمسة يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن والحسين وقثم والفضل وأبو سفيان بن الحارث رضي الله تعالى عنهم جميعاً- يقولون: إن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يقرض الشعر ويهجو النبي عليه الصلاة والسلام حتى أهدر دمه، فلما من الله عليه بالهداية استحيا من دخوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إن إحدى أمهات المؤمنين أشارت عليه بأن: قل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد خيراً منه. أي أنه ينافس في الطاعات ويسابق في الخيرات صلوات الله وسلامه عليه، فلما قالها قبل النبي صلى الله عليه وسلم خطابه وعفا عنه. وأعظم ما يدفع إلى مثل هذا انتظار الفضل من الله؛ لأن الله أبهم -أي: لم يبين مقدار الجزاء لمن عفا الله عنك- فقال جل وعلا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، وما أبهمه الله جل وعلا في هذا الموقف فإن سياق القرآن يدل على أنه شيء عظيم تشرئب إليه الأعناق، وينشده الأفاضل من الرجال والنساء، ولا ريب في أن من أعظم ما يمكن أن نتعلمه من الدين أن كل من أوقفه الله جل وعلا ضعيفاً بين يديك وأردت أن تعامله فعامله بمثل ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت بين يديه.

سبل التحلي بخصائص المجتمع المحمدي

سبل التحلي بخصائص المجتمع المحمدي وأما السبل التي تعين المؤمن على أن يتحلى بنشر هذه الخصائص -وما لم نذكره من خصائص المجتمع المحمدي- فأولها بلا شك: العلم بالله جل وعلا، فالعلم بالرب تبارك وتعالى مفتاح كل خير، ولا يتصور أن أحداً يعبد الله على منهج بين وطريق واضح وخشية في القلب وهو لا يعلم الله، فأعظم العلم معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وحتى يكون الحديث أوضح فإن إجلال الله جل وعلا في القلب مما ذكره الله جل وعلا في كتابه المبين يعين المؤمن على أن يعرف ربه، ولله المثل الأعلى، فأي شيء تريد أن تعرف كينونته لتصل إليه فلن تصل إليه إلا بإحدى ثلاث طرائق: إما أن تراه، وإما أن يراه غيرك فيصفه لك، وإما أن تقيسه على مثله، ولكي تزداد عظمة الله في قلبك فاعلم أن هذه الثلاثة منتفية في حق الله، فنحن لم نر ربنا، ولم يره أحد فيصفه لنا، وليس لله ند ولا مثيل ولا شبيه حتى نقيسه عليه، فسبحانك وبحمدك، ما عبدناك حق عبادتك. فالعلم بالله جل وعلا مفتاح كل خير، وهو السبيل الأعظم للوصول إلى تلك الخصائص.

دراسة السيرة النبوية

دراسة السيرة النبوية ثم بعد ذلك تأتي دراسة السيرة العطرة والأيام النضرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن تكون تلك القبسات مما فيه شمولية كاملة يعرف به المنهج الحق؛ لأن من أخطائنا المعاصرة أن يأتي أحدنا إلى مجتمع مسلم، ثم يريد أن يقيم دعوة سرية في مجتمع مسلم، فإذا ناقشته قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع هو وفلان وفلان، وعد خيار الأكابر من الصحابة في دار الأرقم ابن أبي الأرقم. فيقال له: ألا تعلم أن الدعوة مرت بمرحلة سرية وجهرية ومرحلة هجرة؟ وهذا أمر فيه ذهول عن حقيقة السنة والسيرة بحق، فهذا الأمر صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع كافر من صناديد قريش لا يؤمن بالله ولا برسوله، وأما أنت فتحيا في مجتمع يؤمن بالله ورسوله، فلا سبيل أبداً إلى تطبيق مثل هذا الأمر، وإنما دعوة الأنبياء واضحة ظاهرة تقال في الملأ كما تقال في الخلاء، قال الله جل وعلا حكاية عن كليمه موسى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: ائت بالناس، فأنا لا أملك شيئاً أخفيه فتعال في ضحى النهار، أو في رابعة النهار، وادع من شئت، ابعث البعوث لتدعو الناس؛ لأنني لا يوجد شيء عندي أخفيه، فأنا أبلغ. فهذا هو لسان حال موسى ومقاله؛ فالمقصود من هذا أنه يجب أن نقرأ السيرة النبوية قراءة صحيحة في قضية الاستشهاد بها حتى نكون على بينة من أمرنا.

ذكر اليوم الآخر وأهواله

ذكر اليوم الآخر وأهواله الأمر الثالث من الوسائل: أن يذكر الإنسان معاده، وأنه صائر إلى ربه لا محالة {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فالناس يخرجون من القبور أول الأمر مضطربين، يحوم بعضهم حول بعض لا يدرون أين يذهبون، كما قال الله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] فيسمعون صوت إسرافيل يدعوهم إلى أرض المحشر، فينتظم سلكهم، قال الله جل وعلا: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ولا يوجد بعث قبل هذا ولا يوجد بعث بعده، قال الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]، فيحشر الناس حفاة عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشر الناس عطاشاً أحوج ما يكونون إلى الماء، وتدنو منهم الشمس فيكونون أحوج ما يكونون إلى الظل، والموفق من جمع الله جل وعلا له هذه الثلاث، فكساه يوم الحشر، وسقاه من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، وأظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعها لي ولكم أجمعين. فهذه الثلاث يتذكرها المؤمن في غدوه ورواحه، فهي من أعظم ما يعينه على تحقيق المراد، والوصول إلى الغايات العظمى؛ لأن الغاية العظمى أن يقدم الإنسان لحياته الحقيقة، فقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الضلال بأنهم يتعذر عليهم ذلك فيقول كل منهم: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24].

المعنى البلاغي في (لو) و (لولا)

المعنى البلاغي في (لو) و (لولا) ليتذكر المرء أن هناك (لو) وهناك (لولا)، و (لو) عند النحويين حرف امتناع لامتناع، و (لولا) حرف امتناع لوجود، فلو أن أحد الإخوة لم يستطع الحضور إلى مكان ما فإنه يقول: لو كان زيد موجوداً لأتيت، فانتفى إتيانه لانتفاء وجود زيد، وأما (لولا) فتكون حرف امتناع لوجود. وللفظتين تطبيق في القرآن، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يُري الله أهل الجنة مقاعدهم في النار التي نجاهم منها، ويُري أهل النار مقاعدهم في الجنة التي حُرموا منها بسبب كفرهم، فيقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] أي: لولا وجود رحمة الله لكنا من أهل النار، وأما أهل الضلالة فيقول كل منهم كما قال الله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] فامتنعت عنهم الهداية، فامتنع أن يكونوا من أهل التقوى، وامتنعت رحمة الله عنهم فامتنع أن يكونوا من أهل الجنة في تلك المقاعد التي يرونها. وإذا كان المؤمن موفقاً مسدداً فإنه يجعل هذه الأمور بين يديه يؤمل أن يصل إلى حياة أسعد، على أن خاتمة المطاف أن يقال: إنه لا يعمر القلب شيء أعظم من ذكر الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ومن استأنس بالله استوحش من خلقه، واللبيب العاقل من يجعل له خلوات -إما سجدات في فلق الأسحار أو غيرها- يذكر ربه تبارك وتعالى فيها، سواء أكان في ملأ من الناس أم كان في خلوة لوحده؛ فإن ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر وأقوى الذخائر، أمر الله به نبيه وحث الله جل وعلا عليه عباده، من وفق له وفق لخير عظيم. هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يعفو عن الزلل، وأن يجبر الكسر والخلل، إن ربي لسميع الدعاء، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

وقفات مع سورة الزخرف

وقفات مع سورة الزخرف سورة الزخرف هي إحدى السور المكية، وهي من السور التي تسمى بالحواميم، وسميت بسورة الزخرف لورود كلمة الزخرف فيها. وتسمى سورة الزخرف مع بقية الحواميم: بديباج القرآن؛ وذلك لأنها لا تتضمن أحكاماً، وهي سورة مسوقة لبيان حقارة الدنيا وتفاهتها.

التعريف بالسورة وسبب تسميتها بسورة الزخرف

التعريف بالسورة وسبب تسميتها بسورة الزخرف الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. حياكم الله في هذا الدرس العلمي الذي عنوانه: (وقفات علمية مع سورة الزخرف). الملقي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه وقفات علمية مع بعض الآيات من سورة الزخرف، المقصود منها: الإثراء العلمي من هذه الآيات المباركات. الوقفة الأولى: وتعنى بالتعريف بالسورة الكريمة، وسبب تسميتها بـ (سورة الزخرف)؟ الشيخ: الحمد لله. سورة الزخرف سورة مكية، وهي ضمن سياق سبع سور متتابعات تسمى هذه السور المتتابعات بسور (آل حم)، كما تسمى بديباج القرآن، وتبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف، وكلهن مبدوءات بقول الله جل وعلا: (حم)، وسميت (ديباج القرآن)؛ لأنها لم تتضمن أحكاماً، وكلهن سور مكية. وبعض أهل الفضل يسميها: الحواميم، والأفضل أن يقال: سور (آل حم). وسميت بسورة (الزخرف)؛ لورود كلمة الزخرف فيها، وكلمة (الزخرف) وردت في هذه السورة لبيان حقارة الدنيا، وقد ردت كلمة الزخرف في القرآن قبل سورة الزخرف ثلاث مرات في ثلاثة مواضع: قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24]، وقال تبارك وتعالى في الإسراء: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:93] فوردت كلمة (زخرف) في الإسراء وفي يونس وفي الأنعام، ووردت في هذه السورة المباركة، وبها سميت سورة الزخرف. ومعنى الزخرف في اللغة: كمال الزينة مع الحسن، وإذا قيل (شيء مزخرف) أي: شيء مزين.

وقفة مع قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)

وقفة مع قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)

الرد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق

الرد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق الوقفة الثانية: مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]. وسيتم التفصيل حول معنى الفعل (جعل) في القرآن؟ وأنتم تسمعون بالمعتزلة، وهي فرقة تنسب إلى الإسلام، وتقوم على بنود خمسة، وهي معتقدات خمسة عندهم. ولا ينفع يا بني أن تقول: المعتزلة ضلال، المعتزلة بعيدون، فأقول: نعم؛ المعتزلة ضلال بعيدون، لكن لن تستطيع أن تدافع عن رأي حتى تتصف بصفتين: تقتنع به، وتفهمه، فلا بد أن تفهم ما تدافع عنه، ولا بد أن تكون مقتنعاً به، فليس كل ما فهمته اقتنعت به، فقد تفهم السورة جيداً لكنك لا تقتنع بها، وقد تفهم المثال جيداً لكنه غير مقنع، فحتى تكون مقتنعاً في دفاعك عن أهل السنة سلك الله بنا وبك في سبيلهم، والرد على المعتزلة لابد من أمرين: اقتناعك بمذهبك وبطريقة أهل السنة، مع فهمك لأقوالهم، وفهمك لأقوال معارضيهم حتى تتمكن. فالمعتزلة فرقة تقوم على خمسة أشياء بالأكثر: على التوحيد، وهم يسمونه التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، ومن ضمن ما قالته المعتزلة: إن القرآن مخلوق، وهذا من أعظم خلافهم مع أهل السنة فقد زعموا أن القرآن مخلوق، ولهم أدلة منها: أن الله قال في الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:1 - 3]، فقالوا: أنتم تكابرون، فالله يقول: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، ومعنى ذلك: خلق الظلمات والنور. والله جل وعلا يقول: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، أي: خلق منها زوجها، فيقولون في مخاطبتهم لنا: علامَ الكبر؟ الله يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، (وجعل) بمعنى: خلق، فلماذا تكابرون وتقولون: إن القرآن غير مخلوق؟ فهذا هو الإشكال. وقبل أن نتكلم عن الفعل (جعل) نأتي بنظائر حتى لا تصبح المسألة مسألة عاطفة. فهناك أفعال وكلمات في اللغة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة، بمعنى: أنها في كل سياق لها معنى، ومثال ذلك: أنك أنت قد تكون واقفاً وزميلك يستعجل بك ويقول: هيا نذهب، هيا الموعد فات، فأنت تقول له: أنظرني؟ ومعنى أنظرني: أمهلني، فقد جاء ذكرها في القرآن: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، أي: أمهلونا، وانتظرونا، حتى نصل إليكم فنأخذ منكم نوراً. وقد يأتيك رجل وأنت عندك ابنة فيقول لك: أريد أن أخطب ابنتك منك، فقلت له: سأنظر في الأمر، أي: أفكر فيه، إذاً: (نظر) الأولى غير (نظر) الثانية، مع أن الفعل واحد وهو: نظر، لكن قولك: نظرت في الأمر عندما تعدت بحرف جر غير (نظر) بمعنى من غير تعدٍ (لازم)، فأصبحت بمعنى: أمهلني، وهنا أصبحت بمعنى: أتفكر وأتدبر، قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] يعني: يتدبرون. نأخذ مثالاً آخر: تقول للرجل: إلامَ تنظر؟ فيقول لك: أنظر إلى تلك الكتابة المعلقة، فهو يقصد النظر بالعين الباصرة الحقيقية، وتقول: نظرت إليك، أي: أبصرتك، والفعل هو نفسه. والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، ومعنى (استويتم عليه) أي: ركبتم وعلوتم، ويقول وهو أصدق القائلين في القرآن: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14]، هل في أحد عاقل يقول: ولما بلغ أشده وركب، فمعنى استوى: كَمُل ونضج. ويقول جل وعلا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، وهنا ليست بمعنى: علا، وليست بمعنى كمل، وإنما بمعنى: انصرف إلى وقصد، فتعددت المعاني والفعل واحد وهو: استوى، لكن من السياق عرفنا أن له عدة معانٍ.

استخدامات الفعل (جعل) في القرآن

استخدامات الفعل (جعل) في القرآن والآن نعود إلى الفعل (جعل) وننظر استخدامه في القرآن حتى نحكم عليه. فنقول: إذا تأملنا الفعل (جعل) في القرآن وجدنا له أحوالاً ثلاثة تقريباً، فيأتي بمعنى: خلق، وهذا إذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول به واحد، قال ربنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] والمفعول: (زوج)، وقال جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] المفعول: الظلمات، فإذا جاء الفعل (جعل) متعدياً إلى مفعول به واحد يصبح بمعنى: خلق. وقد يتعدى إلى أكثر من مفعول، فإذا تعدى إلى أكثر من مفعول لا يلزم أن يصبح (جعل) بمعنى خلق، وإنما يصبح بمعنى يدل عليه السياق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، أي: أن المشركين زعموا أن الملائكة إناثاً، ثم قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فمن المستحيل أن يفهم أحد المعنى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أن معناها: أن القرشيين خلقوا الملائكة، ولا القرشيون أرادوا هذا، لكن معنى (جعلوا) هنا: سموا، والدليل: أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27]، وهو قولهم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]. والله جل وعلا يقول على لسان أهل الإشراك في ردهم على نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاء بالتوحيد، قالوا كما قال الله في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، فلا يمكن أن يفهم أن معنى قول قريش كما حكى الله في كتابه: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] أن قريش تقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خلق الآية وخلق ربه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما (جعل) هنا: ليس بمعنى خلق، وإنما بمعنى: صير واتخذ. نعود الآن نطبق على الآية التي بين أيدينا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، (عربياً) صفة تابعة، والتابع يأخذ حكم المتبوع، فلا علاقة لنا بها، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا} [الزخرف:3] فالضمير (الهاء) مفعول أول، وقرآناً مفعول ثانٍ، أي: صيرناه قرآناً عربياً، فهنا ليس بمعنى خلق، إنما بمعنى: صير، وكونه مصير لا يعني أنه مخلوق، هذا بحسب حاله من قبل، فنرجع إلى بقية القرآن، فقد قال عن القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192]. ففهمنا: أن القرآن منزل غير مخلوق، فبهذا يرد على قول المعتزلة: إن (جعل) بمعنى: خلق، فكلمة (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد صارت بمعنى: خلق، وإذا تعدت إلى مفعولين ننظر في السياق، فأحياناً تكون بمعنى سمى، وأحياناً تكون بمعنى: صير واتخذ، ثم يكون ذلك المصير والمتخذ، بحسب حاله من قبل، ومحكم القرآن يثبت: أن القرآن منزل غير مخلوق. ومن الأدلة الأخرى أن الله جل وعلا من صفاته: أنه يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، والكلام صفة من صفاته، والكلام في الذات كالكلام في الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً ليست كذات غيره، فله جل وعلا صفات تليق بجلاله وعظمته ليست كصفات غيره، وهو جل وعلا يتكلم بما شاء، فالكلام صفة من صفاته، والقرآن من كلامه، قال جل وعلا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فسمى القرآن كلامه، ولا محيد عن كلام ربنا، وأهل الأصول يقولون: والاجتهاد في محل النص كتارك العين لأجل القص

قصة في الصبر على طلب العلم وثمرة ذلك

قصة في الصبر على طلب العلم وثمرة ذلك والعلم سهل، فلا يصيبك شيء من اليأس، فإن العلم يحتاج إلى صبر، أعطيك فائدة في قضية الصبر: أنتم تعرفون أبا حنيفة رحمة الله تعالى عليه إمام عظيم، وقد كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يتيماً، واسمه يعقوب: وأمه كانت تقول له: يا أبا يوسف! فالظاهر أنه مكنى وهو صغير، وقد كان يتيماً تذهب به أمه عند حائك، أي: خياط ثياب، تريد أن يتعلم منه، فيعطيه دانقاً، والدانق لا يذكر في ذلك الزمان هو مثل القروش الآن، فكان يعطى دانقاً في اليوم، وكأنه جلس عند أبي حنيفة مرة أو مرتين فتوسم فيه الذكاء، فصار يأخذه من الحائك ويضعه في الحلقة، فحدث خصام بين أم أبي يوسف وبين أبي حنيفة، فجاءت أمام الناس تقول: أنت من ضيع ولدي وسبته، فقال أبو حنيفة -ومن مثل أبي حنيفة في الفراسة-: اذهبي عني يا رعناء! إن ابنك سيأكل الفالوذج بدهن الفستق، والفالوذج نوع من الحلوى، وهو في ذلك الزمن لا يوجد إلا عند الأثرياء، وأما الفالوذج بدهن الفستق فلا يوجد إلا في بيوت الخليفة مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً بالسنة فهو لا يوجد ولا أحد يراه، فقالت: والله إنك شيخ خرف، فهي لا ترى أمامه إلا ولداً ضعيفاً يتيماً، فمات أبو حنيفة وماتت الأم، وصار أبو يوسف قاضي القضاة، فقال يحكي ذلك: والله! لقد جلست مع الرشيد أمير المؤمنين على مائدته، فجيء بطعام لا أعرفه، فقربه الرشيد مني وقال: يا أبا يوسف كل، قلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا لا يصنع عندنا إلا قليلاً كل منه، هذا فالوذج بدهن الفستق، قال: فضحكت، فتعجب الخليفة وقال: ما يضحكك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين! وأخبره بالقصة. فقال هارون الرشيد رحمة الله تعالى عليه: لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقله ما لا يراه غيره بعيني رأسه. فكل مجد تريده لابد فيه مع التقوى إلى الصبر، والله أعلم. الملقي: الوقفة الثالثة: مع قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، وستعنى هذه الوقفة بالمعنى اللغوي لكلمة (أم) مع بيان الآية إجمالاً. الشيخ: الله يقول: (وإنه) الضمير عائد على القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، أم الكتاب: هو اللوح المحفوظ، وفيه أقدار بيد الملائكة، مكتوبة بيد الملائكة، وبعض أهل العلم يقول: إن ما في أم الكتاب لا يقبل التبديل، وهذا حق، فالذي في أم الكتاب (اللوح المحفوظ) لا يقبل التبديل، وأما المكتوب بيد الملائكة فربما أصابه بعض التبديل، وهذا له شواهد، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد:39] فيما بين يدي الملائكة، {وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: اللوح المحفوظ.

معاني لفظة (أم) في اللغة والقرآن

معاني لفظة (أم) في اللغة والقرآن معنى قول الله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] نبدأ باللغويات: (الأم) في اللغة: إزاء الأب، وتطلق في حقيقتها على الوالدة التي ولدت، ثم انتقل إلى إطلاقها على أكثر من ذلك، فتطلق على الوالدة القريبة وهي أمك مباشرة، وعلى الوالدة البعيدة مثل الجدات، ولهذا يقال عن حواء: أمنا؛ لأنها ولدتنا أجمعين، وإن كانت ولادة غير مباشرة. وبعض اللغويين كـ الخليل بن أحمد يقول: إن الأم كل شيء ضم إليه ما حوله، هذا من الناحية اللغوية. وأما كلمة (أم) في القرآن: فوردت على معانٍ عدة، نذكر بعضاً منها: وردت بمعنى (الأم) التي ولدتك، ومنه قول الله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40]، ولا ريب أن أم موسى هي التي ولدته. وورد في القرآن لفظ (الأم) بمعنى أصل الشيء، قال الله تبارك وتعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] أي: أصل الكتاب. وجاءت بمعنى (المآل)، قال الله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: منقلبه إلى الهاوية. وجاءت بمعنى (الظئر)، وهي المرضعة، قال الله جل وعلا: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] فليست أمك التي ولدتك، وإنما هي المرضعة. وجاءت الأم مقصود بها مكة، قال الله جل وعلا: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى:7]. وأم الكتاب هي الفاتحة. وأطلق كذلك في القرآن على أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم. هذا معنى كلمة (أم) في اللغة على وجه التوسع؟ قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، وللعلماء رحمهم الله قولان في معنى الآية: قول يقول: معنى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: أن هذا القرآن منسوخ في اللوح المحفوظ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75 - 79]. وقوله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16]، هذه شواهد. وقال آخرون: ليس المقصود: أنه منسوخ في اللوح المحفوظ، وإنما المقصود: أن ذكره في اللوح المحفوظ ذكر عليّ وجليل، والمعنى الأول -والعلم عند الله- أقرب إلى الصواب.

وقفة مع قوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا)

وقفة مع قوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً) الملقي: الوقفة الرابعة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، وسيبين فيها معاني الضرب في القرآن. الشيخ: كلمة الضرب في اللغة تأتي بمعنى النوع والصنف، وتأتي في اللغة بمعنى الرجل الخفيف القليل اللحم، قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد وعلمياً: يجوز الاستشهاد بقول طرفة؛ لأنه من العصر الجاهلي، وأما المتنبي: أو أحمد شوقي فلا يجوز الاستشهاد بهما؛ لأنهما بعد زمن الاحتجاج، والاحتجاج تقريباً إلى سنة مائة وعشرين هجرية، فالجاهليون أقوى حجة في شعرهم، فإذا احتجنا إلى شيء نستشهد به فإننا نرجع إلى شعر الجاهلية.

معاني لفظة (ضرب) في القرآن

معاني لفظة (ضرب) في القرآن نعود فنقول: هذا في اللغة، وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ منها: السير في الأرض، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:273] أي: سيراً في الأرض. ويأتي الضرب بمعنى (الإيذاء)، ويكون في القرآن على نوعين: ضرب بالسيف، كما في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، ويكون بالسوط أو بالشيء اليسير أو باليد، ومنه قوله تعالى في تهذيب النساء: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]. وتأتي (ضرب) في القرآن بمعنى الالتصاق واللزوم، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة:61]، وقال الله جل ذكره: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]. وأما هنا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5] أي: أفنعرض، والمقصود من الآية: أن القرشيين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وردوا كلام الله وكلام رسوله، فالله جل وعلا يقول لهم: إن إعراضكم ليس مسوغاً في أن نترك إنذاركم. {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5]، هذه صفحة العنق، والإنسان إذا أعطى صفحة عنقه لأحد فكأنه أعرض عنه، وإعطاؤك صفحة العنق للناس يكون لأحد سببين: إما كبراً، وهو الأغلب، وإما تغافلاً، وهو الأقل، لكنه يقع، يعني: يكون الشيء موجوداً وأنت تتغافل عنه، لكن العلماء اختلفوا في معنى الذكر هنا على قولين: قال بعضهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5] أي: القرآن والمواعظ والذكر، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الذكر هنا هو ذكر العذاب، أي: أفنترك عذابكم لكونكم كنتم قوماً مسرفين، وأياً كان المقصود، فإن المعنى من الآية إجمالاً يقارب قول الله جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].

وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)

وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الملقي: الوقفة الخامسة: مع قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32]. الشيخ: الآن تتعلم من الآية -أعاننا الله وإياك- كيفية الرد على المخالف، فالقرية إذا وردت في القرآن فهي بمعنى: المدينة، والله يقول هنا: (وقالوا) أي: القرشيون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يقولون: إن محمداً نشأ يتيماً فالأولى ألا ينزل القرآن على يتيم، وكانوا يزعمون أنه كان ينبغي أن ينزل القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقصدوا بالقريتين مكة والطائف. وقيل: إنهم قصدوا بالرجلين: عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة، وأياً كان المقصود من الرجال فهم يقولون: إن محمداً لا يستحق أن يعطى النبوة والرسالة ويختم به الأنبياء، فالله جل وعلا رد عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]، فهذا استفهام إنكاري، ثم قال بعدها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فالآن هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون بأن الذي يوزع الأرزاق ويقسمها هو الله، فالقرشيون مؤمنون: أن الذي قسم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا حراً وهذا عبداً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً، وهذا سيداً وهذا تابعاً، مؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله، ويؤمنون أن الأرزاق من الله، فالله يقول لهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]. فإذا كان الله جل وعلا في مسائل الرزق العادي لم يكلها إليكم، فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة! فإعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق، وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة، فالله يقول لهم: أنتم مقرون أن الأرزاق إنما قسمها بينكم الله، فكيف يعقل أن تطالبوا بشيء لا يمكن أن تنالوه، فإذا كان الله لم يكل إلى أحد من خلقه أن يقسم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسكنى، فكيف يكل الله إلى غيره أن يقسم النبوة، والنبوة أعظم من أرزاق الناس. {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] كما هو ظاهر اختلاف الناس، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] (سُخرياً) هنا بمعنى: الخدمة، مبرأة من الاستهزاء، فالمقصود: أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعض خدماً؛ حتى تقوم الحياة، فكما تحسنه أنت لا يحسنه غيرك، وما يحسنه غيرك لا تحسنه أنت، لكن تأمل قول الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] نبه بالأدنى على الأعلى، ((لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا))، ثم قال الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]. واختلف العلماء في معنى الرحمة هنا، والذي أراه -والعلم عند الله- أن المقصود بها: الجنة؛ لأنه لا يظهر الفرق بين رحمة الله وبين ما يجمعون إلا إذا كان شيئاً خالداً وشيئاً غير خالد، والجنة نعيمها خالد بخلاف متاع الدنيا فإنه مهما عظم فهو غير خالد، فيكون معنى قول الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] يعود على الجنة في أظهر أقوال العلماء.

وقفة مع قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب)

وقفة مع قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب) الوقفة السادسة: مع قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، حيث تعنى الوقفة ببيان أحوال النار -أعاذنا الله منها-. الشيخ: النار هي الخزي الأعظم، وما فر هارب من شيء مثل النار، وكل بلاء دون النار فهو عافية، لأن الخزي الأكبر في النار. فهنا الله جل وعلا ينكل بأهل النار قائلاً: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38] ثم قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. فالمقصود من الآية: أن أهل النار عياذاً بالله محرومون حتى من التأسي. والتأسي والتسلي أن يرى الإنسان مصيبة غيره فيتعزى بها عن مصيبته، وهذا من أعظم ما يهون مصائب الدنيا، وأي أحد في الدنيا لديه مصيبة لو أراد أن يرى أحداً أعظم منه لوجد، أو أحداً نظيراً له في مصيبته لوجد، تقول الخنساء وقد فقدت أخاها صخراً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فمن أعظم ما يخفف المصائب: التأسي، وذلك أن الإنسان يتذكر أن مثل هذه المصيبة تقع في غيره، لكن الله جل وعلا يحرم أهل النار عياذاً بالله من هذا، فلا يجدون تأسية، قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، مع أن الاشتراك في المصيبة ينفع في الدنيا، لكن عذاب الآخرة -عياذاً بالله- لو اشترك فيه أهل الأرض جميعاً فلا ينفع ذلك فيه، إذاً فالمعنى المقصود من الآية نفي وجود التأسي في أهل النار.

وقفة مع قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك)

وقفة مع قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك) الملقي: الوقفة الأخيرة: وهي مع قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، حيث تعنى الوقفة بما يلي: أولاً: بيان ضارب المثل. ثانياً: الجمع بين الإفراد والجمع في الآية التي بعدها. ثالثاً: إظهار المعنى الأرجح لقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61]. الشيخ: هذه الآيات نختم بها، وهي هامة جداً في أن تتصورها علمياً، ولا يمكن فهم القرآن بغير السنة، وسورة الزخرف قلنا: إنها سورة مكية، ومن السور المكية سورة مريم، وسورة مريم فيها ثناء على عيسى، وإخبار أن النصارى عبدت عيسى. ومن السور المكية سورة الأنبياء، قال الله في الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، وقد كان هناك صراع بين النبي صلى الله عليه وسلم والملأ من قريش، فذات مرة كان هناك رجل قرشي اسمه عبد الله بن الزبعرى، وعبد الله هذا أسلم بعد ذلك حتى لا أحد يقع فيه، لكنه قبل إسلامه كان بليغاً فصيحاً ورجلاً ذا جدل، فجلس مع المكيين، فالمكيون يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، فقال لقريش: للوليد وأبي جهل: فسكتم؟ قالوا: سكتنا، قال: أما تعرفون كيف تردون؟ قالوا: كيف نرد؟! قال: ألم يثن محمد على عيسى؟ قالوا: نعم، فقال: إن محمداً يقول: إن الآلهة ومن يعبدها في النار، ونحن نرضى أن نكون مع آلهتنا في النار إذا كان عيسى مع من يعبده في النار، فيكفينا فخراً أن نكون نحن وآلهتنا والنصارى وعيسى في النار، وكلام محمد متناقض؛ لأنه يقول لكم: إن عيسى نبي ومرسل ومصدق، ويقول في نفس الوقت: إن عيسى في النار. ففرح القرشيون بكلامه وضجوا. والآية فيها قراءتان: قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] (يصِدون) -بالكسر- و (يصُدون) بالضم، معناه: يضجون بالحديث، فإذا قلنا: إن الآية في قراءة (يصدون) أصبحت منه، أي: بسببه، وإذا قلنا: يصدون بالكسر، تصبح منه هنا: أي عنه، أي: يعرضون عنه. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وفرح القرشيون، أنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، مع أنه ليس لـ عبد الله بن الزبعرى حجة فيما قال؛ لأن الآية تتكلم عن غير العاقل: (إنكم وما تعبدون). يقول الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57] الذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي، وضرب المثل بعيسى، قال الله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] أي: يعرضون عنك، وقالوا في مثلهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58] يعني: نقبل أن تكون آلهتنا مثل عيسى في الحال، قال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]؛ لأن أمرهم هذا لا يقوم على حجة؛ لأن (ما) في قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:98] تدل على غير العاقل.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه لكن يبقى إشكال وهو: أن الله قال: (ما ضربوه) بواو الجماعة، ونحن قلنا: إن الذي ضرب المثال رجل واحد وهو عبد الله بن الزبعرى، والجمع أن يقال: هناك أمران: الأمر الأول: أن العرب جرى في كلامها أنها تطلق الفرد وتريد الجماعة، وتطلق الجماعة وتريد الفرد، قال قائلهم: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد ومعنى البيت: أنه كان هناك رجل اسمه ورقاء بن جهير، فجاء رجل اسمه خالد فقتل: جهيراً والد ورقاء، فغضبت قبيلته بنو عبس، فجاء ورقاء ينتقم لأبيه، وأخذ السيف وهو رجل واحد، وأراد أن يضرب خالداً لكن السيف نبا، أي: أخطأ ولم يصب، والعرب تقول: لكل سيف نبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صديق جفوة، ولكل جواد كبوة. فالجواد إذا عثر يقال: كبا، والصديق إذا بعد يقال: جفا، والسيف إذا لم يصب يقال: نبا، والعالم إذا أخطأ يقال: هفا، ولا يسلم أحد من ذلك. الشاهد: أن الشاعر يريد أن يسخر من بني عبس، فجمع ما بين الأمرين اللذين نريد إثباتهما في القصة، فقال: فسيف بني عبس وقد ضربوا به فتكلم عن الجماعة ثم أفرد فقال: بيدي ورقاء، وورقاء رجل واحد. فهذا من الأدلة على أن العرب تذكر الجمع وتريد به الإفراد. والأمر الثاني: أن الإنسان إذا أيد قولاً فإنه يصبح كالمشارك فيه، فالجاهليون فرحوا بقول عبد الله بن الزبعرى فكانوا شركاء معه، قال الله جل وعلا: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]، وقال: (فعقروها) فذكر فرداً، وذكر جماعة؛ لأنهم كانوا راضين عن صنيع من عقر الناقة، فالذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى. قال الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]، ثم قال الله بعد هذه بآيتين: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، وفي قراءة: (وإنه لَعَلَم للساعة). والأولى هي المشهورة عندنا. {وَإِنَّهُ} [الزخرف:61] الضمير في (إنه) يعود على عيسى، هذا أرجح الأقوال، ولا ينبغي أن يقال غيره، وإن كان بعض العلماء قد قال بغيره لكنه بعيد جداً، فسنبقيه على عيسى. {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] يحتمل معنيين: الجمهور على أن معناه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: وإنه أمارة وعلامة من علامات الساعة، أي: نزول عيسى علامة من علامات الساعة، وهذا تؤيده السنة. وقال آخرون -وهو منسوب لـ مجاهد فيما أظن وغيره لكنه بعيد-: إن المعنى: إن قدرة عيسى على إحياء الموتى دلالة على قدرة الله على إحياء الناس؛ لأن الذي أعطى عيسى القدرة هو الله، لكن هذا القول بعيد، والصواب: أنه أمارة من أمارات الساعة.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة في طلب العلم

نصيحة في طلب العلم Q هذا أحد الإخوة يقول: ما نصيحتكم لي في الطلب؟ A الطلب يحتاج إلى شيء من التعب، لكن إذا كان هناك في الدرس أناس جادون في طلب التفسير فمن هذا اليوم يقتنون كتباً، فيقرءونها كثيراً بشغف، ويحررون منها المسائل، وهي: البرهان في علوم القرآن للزركشي، والمحرر الوجير لـ ابن عطية هذا تفسير، وشرح المعلقات السبع للزوزني، وقدر الإمكان يقرأ في كتاب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه (أضواء البيان)، وأخمس: بتفسير ابن كثير. فنبدأ بهذه الخمسة لمدة ستة أشهر، وبعد الستة أشهر نتكلم عن مرحلة ثانية في الطلب إن شاء الله تعالى.

تفسير قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء)

تفسير قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء) Q أحسن الله إليك يقول: ما تفسير قول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]؟ A أي أن الأمر كله لله إلا ما أعطاه الله لنبيه، وليس لأحد من الأمر إلا ما أعطاه الله إياه.

نصيحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

نصيحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q يا شيخ كما تعلم أنه سيقام ملتقى بعنوان: (سفينة النجاة) في نهاية هذا الأسبوع يوم الجمعة، ويحتاج الإنسان المستقيم مثل هذه المواضيع، فهل من كلمة توجهوها للشباب في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاهد في هذا الزمان؟ A الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخفى عليكم أنه شعيرة عظيمة بها قوام الدين، ويحتاج إلى أمور: أولها: القناعة بحاجة الناس إلى هذا. ثانيها: الطريقة المثلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحماس وحده لا يكفي، فلابد أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصحوباً بالعلم. والذي فهمته من الشيخ يوسف وفقه الله: أن هناك علماء أفاضل سيشاركون في هذا، فستجدون عندهم إن شاء الله الخير العميم.

صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة عظيمة، ومليئة بالحكم والعبر والأحداث فقد أفناها داعياً إلى ربه، وقطع مشوار حياته وهو يوجه الناس إلى الخير وينهاهم عن الشر، فما من خير إلا ودلهم عليه، وما من شر إلا وحذرهم منه. فحري بالعبد المسلم أن يدرس سيرة نبيه؛ حتى يجعل من مراحل حياته صلى الله عليه وسلم نبراساً يضيء له طريق الخير في ظلمات الفتن، وينجيه من عظيم شر المحن.

ذكر بعض من أخذ القرآن من فم النبي من أصحابه

ذكر بعض من أخذ القرآن من فم النبي من أصحابه {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فهو عليه الصلاة والسلام أول ما أنزل عليه الوحي كان يسابق جبريل في أن يأخذ القرآن عنه؛ خوفاً من أن يتفلت القرآن منه، فأنزل الله جل وعلا قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19] فأصبح صلى الله عليه وسلم لا يعالج في القضية مع جبريل.

مذاهب الشيعة في المهدي

مذاهب الشيعة في المهدي والشيعة ينقسمون إلى أقسام: فالشيعة الإمامية الاثني عشرية يقولون: إن الإمام المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن العسكري، وهو عندهم قد دخل في سرداب في مدينة سر من رأى، وهو الإمام الثاني عشر في مذهبهم، وأما الإسماعيلية فيقولون بأنه غير ذلك؛ لأنهم يفترقون عند إسماعيل هذا. والكيسانية فرقة من فرق الشيعة ظهرت في أيام الأمويين، وكانوا يزعمون أن المهدي هو محمد ابن الحنفية أخو الحسن والحسين غير الشقيق، يقول شاعرهم: ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء

مذهب أهل السنة في المهدي

مذهب أهل السنة في المهدي والذي عليه أهل السنة أن المهدي رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون في آخر الزمان، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وظاهر النصوص والعلم عند الله يدل على أن الأقصى يحرر قبل خروج المهدي، ثم بعد ذلك تتكالب الأمم على هذه الأمة وقت خروج المهدي، فيصلي المهدي بالناس في المسجد الأقصى، وتقام صلاة العصر، وفي الوقت الذي تقام فيه صلاة العصر قبل أن يتقدم المهدي للإمامة ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا طأطأ رأسه يظن من يراه أنه يقطر، وهو لم يخرج من ديماس، والديماس هو المكان الذي يتوضأ فيه، أي: ليس متوضئاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع، يميل إلى الحمرة، يظهر كأن به بلل وإن لم يكن متوضئاً). وعندما ينزل عيسى يتأخر المهدي، فيمتنع عيسى عن التقدم، ويتقدم المهدي ليصلي، وقد قيل في تعليلها والعلم عند الله: أن عيسى في قلبه الإنجيل، وأما المهدي ففي قلبه القرآن، والقرآن مقدم على الإنجيل، ومن هنا تعلم يا حافظ القرآن كله أو بعضه أي علم موجود في صدرك. فيتقدم المهدي فيصلي بالناس، ومع عيسى ابن مريم حربة يقتل بها الدجال، والدجال قد خرج في أيام المهدي، لكن الله جل وعلا يقتله على يد عيسى ابن مريم.

من مواقف عبد الله بن مسعود

من مواقف عبد الله بن مسعود من مواقفه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان في ركب فقابلوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لهم: أفيكم عبد الله بن مسعود؟ قالوا: نعم، فأخذ الناس يسألونه ليعلموا هل هو ابن مسعود أم لا، قيل له: أي آية في كتاب الله أرجى؟ قال: قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]. قيل له: أي آية في كتاب الله أعدل؟ قال: قول الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. قيل له: أي آية في كتاب الله أحكم؟ قال: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وما زالوا يسألونه وهو يجيب رضي الله عنه وأرضاه. فهذا واحد ممن قال صلى الله عليه وسلم فيهم: (خذ القرآن من أربعة). ثانيهم: أبي بن كعب سيد القراء، أي مؤمن على الجبلة يفرح بما يشعر أنه رحمة من الله، الله يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله جل وعلا أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: يا رسول الله! أوقد سماني الله لك؟ قال: نعم)، فانظر يا أخي أي فخر أرفع، وأي مقام أشرف من مثل هذا، أن الله جل وعلا يوصي نبيه ويسمي أبياً باسمه، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل، ما نالها إلا لما كان القرآن محتوي على قلبه، ولهذا يعد عند أهل العلم سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه.

من خبر معاذ بن جبل

من خبر معاذ بن جبل ثم قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا القرآن من معاذ بن جبل)، ومعاذ هذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم شاباً وكان كريماً، فاضطر أن يستدين حتى يقضي دينه، حتى حجر عليه، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن هادياً يعلم الناس وجابياً للزكاة حتى يستزيد منها رضي الله عنه وأرضاه، وودعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غاد إلى اليمن وقال له: (يا معاذ! لعلك أن تأتي مسجدي وقبري)، وقوله عليه الصلاة والسلام هذا إشارة إلى أن معاذاً لن يدرك موت النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ رضي الله عنه وأرضاه في اليمن، ثم قدم معاذ المدينة بعد وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأتى القبر وسلم وبكى كما أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ثم خرج مجاهداً إلى الشام، فأصاب الشام طاعون عمواس، أي: نسبة إلى مدينة اسمها عمواس التي أصابها طاعون، فعرف هذا الطاعون باسم تلك المدينة، وأضيف إليها، وقد مات فيه أبو عبيدة بن الجراح، ثم مات معاذ رضي الله عنه وأرضاه بعد أن ذكر خطبة يبين فيها صبره على البلاء، وثقته برحمة رب الأرض والسماء، وهو قد تجاوز الثلاثين بقليل رضي الله عنه وأرضاه.

من خبر سالم مولى أبي حذيفة

من خبر سالم مولى أبي حذيفة وآخر أولئك المباركون سالم مولى أبي حذيفة، وسالم من المهاجرين الأولين، وكان يصلي بالناس في المدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان من أحفظ الصحابة للقرآن، ومات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في اليمامة وقد قطعت يداه، فتلا قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، وقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، ثم قال: ما فعل أبو حذيفة وما فعل فلان وسمى رجلاً آخر؟ قيل له: استشهد! قال رضي الله عنه وأرضاه: فادفنوني بينهما، فدفن بين صحابيين رضي الله عنه وأرضاه. هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله وسلامه عليه: (المهدي مني يوافق اسمه اسمي، يحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً كما ملأت جوراً)، فـ المهدي أحد الرجال المنتظرون تاريخياً، وقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: (أقنى الأنف، أجنى الجبهة)، وأجنى الجبهة أي أن شعر الرأس منحسر عن اليمين وعن الشمال، وهذا الرجل يكون في آخر الزمان، واسمه محمد بن عبد الله الحسني عند أهل السنة، وهو من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه، وهو يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويكتب له الإمامة، فيبايع ما بين الركن والمقام.

من خبر ابن مسعود وفضله

من خبر ابن مسعود وفضله وفي هذا الخبر النبوي أن هناك أربعة امتازوا أكثر من غيرهم في أخذهم القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر في هؤلاء الأربعة يعرف شيئاً من الهدي والسمت الذي أخذوه عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا القرآن من ابن أم عبد)، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وهذا الصحابي الجليل من هذيل، وقد مات أبوه في الجاهلية وأصبح ينسب إلى أمه، وهو وأمه دخلا في الإسلام، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهو قادم من اليمن: ما كنا نظن عبد الله بن مسعود وأمه إلا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ما يدخلان عليه رضوان الله تعالى عليهما. وعبد الله كان دقيق الساقين، وقد ارتقى ذات يوم شجرة فضحك الصحابة متعجبين من دقة ساقيه، قال صلوات الله وسلامه عليه: (أتعجبون من دقة ساقيه! لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، والميزان أيها المبارك ينصب يوم القيامة، وله كفتان، قال الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ما الذي يوزن؟ وقد اختلف العلماء في الذي سيوزن اختلافاً كثيراً، لكن أرجح الأقوال أنه يوزن العمل، وصاحب العمل، والصحف التي يدون فيها العمل، وكل نشهد له أدلة وقرائن من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الصحابي الجليل يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار في منى، ومنى هي الجبال المعروفة التي يتعبد الله فيها في أيام الحج، فكان النبي في غار معه أصحابه، يقول ابن مسعود: فبينما نأخذ القرآن رطباً من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتدرتنا حية، فقطع صلى الله عليه وسلم قراءته وقال: (اقتلوها، ففرت إلى جحرها، فقال عليه السلام: سلمت منكم وسلمتم منها)، ثم أكمل قراءته، وكانت السورة سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1]، إن هذا الموقف أيها المبارك يدلك على شيء عظيم، فتجاوز مسألة الحية ومسألة عبد الله بن مسعود ومسألة جحر الحية، إن النبي عاش ومات ولا يعرف التكلف في حياته، وهذه هي العظمة في حياة العظماء الربانيين حقاً، فلا يتصنعون لأحد، وإنما فطرت قلوبهم للواحد الأحد، فهذا النبي يقرأ القرآن وهو أعظم مخلوق، وحوله أصحابه، فلما رأى عدواً قد خرج وهو الحية قطع تلاوته؛ حتى ينفك وينتهي من عدوه، ولم يغير هذا في هيبته ولا وقاره ولا سكونه ولا خشيته صلوات الله وسلامه عليه، لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لله بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. إن أعظم ما نبتلى فيه أننا نتزين للخلق، لكن الرسل العظام والأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم كانت قلوبهم لله، فيخرج العمل منهم من غير كلفة، لأنهم يتعبدون الله وحده دون سواه، وتلك منزلة عظيمة ومرتبة جليلة لا يوفق لها إلا الصالحون، جعلني الله وإياكم منهم. هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، وفي غزوة بدر ضرب رجلان فتيان من الأنصار أبا جهل فسقط صريعاً دون أن يموت، فجاء عبد الله بن مسعود ليجتز رأس أبي جهل، فقال هذا الطاغية وعبد الله بن مسعود على رأسه: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم. وهنا تفقه أيها المبارك أن بعض الناس عياذاً بالله يقع في قلبه الكبر والطغيان، فحتى أقرب الأشياء لديه لا يراها؛ من كثرة ما جثم على قلبه من الكفر والطغيان، ففرعون وهو فرعون لما رأى الموت قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وأما أبو جهل فقد رأى الموت ومع ذلك لم يستعطف عبد الله بن مسعود، ولم يقل كلمة يستجر بها الرحمة، وإنما قال يعنف عبد الله: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! وكل نفس بشرية قد أودعت فجوراً وأودعت تقوىً، يقول الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، فكل نفس قابلة لأن تتقي وقابلة لأن تفجر، والفضل من الرب تبارك وتعالى وحده، فإذا أراد الله بعبد خيراً هيأه لباب التقوى كما هيأ المؤمنين، جعلني الله وإياكم منهم.

الذين ادعوا الألوهية

الذين ادعوا الألوهية

ادعاء الدجال للألوهية

ادعاء الدجال للألوهية فكل من سبق أيها المبارك ممن ظهروا كانوا يدعون النبوة، وأما الألوهية فادعاها قليل، ادعاها النمرود، وادعاها فرعون، لكن الذين كانوا يعبدون النمرود أو يعبدون فرعون لم يعبدونه قناعة، وإنما عبدوه خوفاً؛ لأنه لا فرعون ولا النمرود معهما قرائن أو أدلة على ذلك، وأما الدجال فالله جل وعلا يعطيه قرائن، فيمر على القرية الخربة -فأي قرية الآن تسكن فيها كنوز من قديم السنين- فإذا آمنت به القرية أمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويدعو كنوزها، فتخرج تتبعه كنوزها كيعاسب النحل، ويمر على القوم في رغد من العيش فيدعوهم فلا يتبعونه، فيتركهم ممحلين ليس معهم شيء، فهذه إحدى أموره. ثم إنه يقول للرجل من الأعراب: أرأيت لو أحييت لك أباك أو أمك أكنت متبعني؟ فيقول: نعم، فيستعين بالشياطين فتتمثل الشياطين في صورة أبي الرجل وفي صورة أمه، ثم يقول: هذا أبوك وهذه أمك، فربما اتبعه الرجل. ومعه ماء ونار، يقول صلى الله عليه وسلم: (فما ترونه ماء إنما هو نار تلظى، وما ترونه ناراً إنما هو ماء بارد، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: فمن أدرك شيئاً من هذا فليغمض عينيه ثم ليقتحم ما يراه ناراً؛ فإنه ماء بارد). فأيها المبارك أنخ مطاياك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اغمض عينيك)، فالإنسان إذا أراد أن يواجه الحقائق بقوه لا يثبت، لكن ثمة أنواع من العواصف يحتاج أن نطأطئ الرأس حتى نعبر ونمر، وهذا أمر يرزقه العقلاء في كيفية التعامل مع الحوادث والفتن، فهذا نبي الأمة يوصي ويقول: فليغمض عينيه؛ لأنه لو فتح عينيه سيرى ناراً، وإذا رأى ناراً لن يستطيع أن يدخلها حتى ولو كان يملك يقيناً، لكن الحل هنا أن يغمض عينيه ولا يرى الناس فيقتحمها، فإذا اقتحمها سقي ماء بارداً. لكن تنبه أيها المبارك! إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه كفر)، فالله جل وعلا يظهر النقص على كل مخلوق من غير استثناء، فهذا قتادة بن دعامة السدوسي رحمة الله عليه كان يحدث ذات يوم في مجلس، فصار يسرد الأحاديث، ففتن به الطلاب، فقال له أحد الطلاب: يا إمام! أراك حافظاً، قال: والله ما حفظت شيئاً أبداً وضيعته، وهذه كلمة لا تليق لا من قتادة ولا من غيره، لكن الله يظهر النقص على عباده، فقام رحمه الله من مجلسه وإذا به يضيع المكان الذي وضع فيه حذاءه، فأظهر الله جل وعلا عليه النقص في الحين الذي امتدح فيه. فالدجال يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ومعه ماء ونار، وتتبعه الكنوز كيعاسيب النحل، ومكتوب بين عينه كفر يقرؤها كل مؤمن، وإحدى عينيه كأنها عنبه طافية، فرغم كل تلك القدرات الخارقة لا يستطيع أن يذهب الأذى الذي في عينيه، ولا أن يمسح الكتابة التي في جبهته، وهذا سر يبين الله فيه نقص هذا الرجل حتى يعرف المؤمنين أن ربهم كامل، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)، وقال: (ما من نبي إلا وحذره قومه، وأنتم آخر الأمم وأنا آخر النبيين، وإنه خارج فيكم لا محالة). ثم يأتي عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، ثم إن عيسى كذلك يعيش ما كتب الله له أن يعيش، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، وهذا كله من أخبار الساعة، ثم بعد ذلك تمر أحداث وأحداث حتى يخرج الخلق، ويكون قيام الخلق لرب العالمين جل جلاله.

رحلة الجسد

رحلة الجسد

ذكر من يغسل من الموتى ومن لا يغسل

ذكر من يغسل من الموتى ومن لا يغسل نأخذ خبراً آخر من أخباره صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام: ففي أُحد أمر ألا يغسل الشهداء، وقال: (ادفنوهم بدمائهم، ثم قال: أنا شهيد على هؤلاء)؛ لأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم نصروه، وسنذكر فوائد عن هذا الحدث: أولاً: المنازل عند الله تختلف، يقول الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. فالميت الأصل أنه يكرم جسداً وروحاً إذا كان مؤمناً، ولا يكرم لا جسداً ولا روحاً إذا كان كافراً، والجسد له رحلة، والروح لها رحلة، فأما رحلة الجسد فإن أول ما يصنع بالميت أن تغمض عيناه؛ حتى لا تتبع بصره، وهذا الجسد أمر الناس كفاية بأن يغسلوه، واستثنى الله الشهيد كما سيأتي. من يغسل الميت؟ يغسل الميت في المقام الأول وصيه، وهو من وصى الميت أن يغسله، والميت إما أن يكون ذكراً أو يكون أنثى، فإذا كان رجلاً فلا يجوز للنساء أن يغسلوه، وإذا كان أنثى فلا يجوز للرجال أن يغسلوها، إلا حالتين تستثنى من هذا: الحالة الأولى: إذا كان الميت أحد الزوجين، فإن الرجل يجوز له أن يغسل امرأته، والزوجة يجوز لها أن تغسل زوجها. وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس زوجته، وأسماء بنت عميس امرأة صالحة صوامة قوامة، وقد وصى الصديق رضي الله عنه أن تغسله، وأبو بكر رضي الله عنه في سبب موته روايتان لا تعارض بينهما، فرواية تقول: إنه اغتسل في يوم بارد فأصابته الحمى، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، وكان ذلك يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جماد الأولى. والرواية الثانية: أنه قبل عام من موته أكل طعام برفقه الحارث بن كلدة، الحارث بن كلدة هذا هو طبيب العرب، فقال الحارث لـ أبي بكر بعد أن أكلا الطعام: لقد أكلنا أنا وأنت سم سنة كاملة، فمات الحارث وأبو بكر في يوم واحد على الحول تماماً من اليوم الذي أكلا فيها الطعام، وغسلته أسماء بنت عميس. موضع الشاهد: أن أسماء وصى أبو بكر أن تغسله فغسلته. وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين، ومحمد بن سيرين معبر رؤى، وهو أحد التابعين الكبار، فقد جاءه رجل قبل أن يغسل أنس بمدة طويلة فقال له: أيها الإمام! إنني رأيت رؤيا، قال: اقصص علي رؤياك، قال: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً -ولم يسمه- رأى أن ساقه مكشوفة، ونبت شعر على تلك الساق، فما تأويلها؟ فقال محمد بن سيرين على البداهة: هذا رجل يركبه دين، ثم يسجن بسبب الدين، ثم يموت وهو مسجون، قال: انتهيت؟ قال: نعم، قال السائل: رأيتها فيك، أي: في محمد بن سيرين، فركب محمد بن سيرين دين وسجن، وفي الفترة التي كان فيها مسجوناً مات أنس رضي الله عنه وأرضاه وأوصى أن يغسله محمد بن سيرين، فأخرج من السجن وغسل أنساً، ثم عاد إلى السجن ومات وهو في السجن كما وقعت الرؤيا، فصدق الله ذلك الرائي ما رأى. موضع الشاهد من هذا هو إنفاذ الوصية في الغسل، قلنا: رحلة الجسد، ثم بعد ذلك يكفن، ثم يوضع الجسد في قبره، والقبور مساكن الموتى، وهي أول ديار الآخرة، وتراها وهي ظاهرة شيئاً واحداً وبينها في الداخل فرق لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، يقول الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. فهذه أيها المبارك رحلة الجسد، فتحل أربطة الكفن، ويقرب الميت وجهه من الجدار الأمامي للحد المتجه للقبلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكبائر ثم قال: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) أي: قبلتكم أحياء في الصلاة والدعاء، وقبلتكم أمواتاً في الاحتضار والدفن، فيقرب الميت من جدار القبر الأمامي، ويوضع تراب خلف ظهره؛ حتى لا يسقط. وبعد أن تحل عنه أربطة الكفن توضع لبن؛ حتى لا يأتي التراب عليه مباشرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وضع على لحده تسع لبنات، ثم بعد ذلك يحثى التراب. فهذه رحلة الجسد علمياً.

رحلة الروح

رحلة الروح وأما الروح عندما تخرج فتصعد إلى السماء، وهذه السماء لها أبواب، فتفتح لأقوام وتصد عن أقوام، فكل سماء تتحرج أن تمر عليها روح الكافر، وكل سماء يتمنى أهلها أن تمر عليهم روح المؤمن، ويشيع روح المؤمن من كل سماء مقربوها، وتنادى بأحسن الأسماء حتى تصل إلى العرش، فيقول أحكم الحاكمين: أرجعوها إلى الأرض فإني قد وعدتهم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، فتعود الروح إلى البدن، فروح المؤمن تعود إليه بلطف، وروح الكافر تطرح إليه طرحاً، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ثم تلتصق الروح بالبدن لتكون مستعدة لسؤال الملكين وما يعقب ذلك من أمور. ونعود لقضية الشهداء، فالشهداء في هذا الخضم أرفع الناس مقاماً، إن إنساناً يرى الموت عياناً ثم لا يتأخر من أجل إعلاء كلمة الله فإنه لا يحتاج إلى أن يشفع له أحد، فالشهيد شافع وليس مشفوعاً فيه، وقد وقاه الله جل وعلا فتنة القبر، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فإذا أدخل القبر فإنه لا يسأل ولا يختبر ولا يفتتن، ولا حاجة أن يصلى عليه فيدع الناس له؛ لأنه شافع غير مشفوع فيه، ولا يمنع ذلك من الدعاء له، لكن أن يكون هذا لزاماً كما يكون في حق غيره فلا. فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف على سبعين قد ضرجوا بمائهم منهم عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فلما رأى حمزة مضرجاً بدمائه قد مثل به بكى صلوات الله وسلامه عليه، وكان عليه الصلاة والسلام يحب عمه حمزة حباً جماً، وكنية حمزة أبو عمارة رضي الله عنه وأرضاه. هؤلاء الأخيار وقف عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا شهيد على هؤلاء)، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إليهم مرة أخرى يوم أن شعر بدنو أجله وقرب وفاته، فدعا لهم واستغفر صلوات الله وسلامه عليه كالمودع لهم.

اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر

اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر الوقفة الرابعة: مع ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد: ثم لما كان صبيحة يوم عشرين خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال: (إنني كنت قد اعتكفت العشرة الوسطى أتحرى ليلة القدر، وإنني قد أخبرت بأنها في العشر الأواخر، فمن كان معتكفاً فليبقى معي، وإنني أريت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فأمطرت السماء تلك الليلة فوكف المسجد، وكان سقفه من جريد النخل، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم رأيته ينصرف من صلاة الصبح وأثر الماء والطين في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين. ومن هنا أخذ من قال من العلماء إنها ليلة إحدى وعشرين، وبسط القول فقهياً لا وعظياً في ليلة القدر على النحو التالي: قال بعض العلماء: إنها ليلة النصف من شعبان، وهذا ينسب إلى عكرمة، وهو مرجوح جداً؛ لأن القرآن يعارضه، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. وينسب إلى زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود أن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان، ودليلهم آية الأنفال: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، فقال الله جل وعلا: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)، ويوم بدر كان يوم السابع عشر من رمضان، فقالوا: إن هذا دليل على أنها ليلة السابع عشر من رمضان. وأكثر علماء الأمة الباقون على أنها في العشر الأواخر، وهو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة. ثم إن الذين قالوا: إنها في العشر الأواخر -وهذا هو الحق- انقسموا إلى قسمين في أصل القضية فقهياً: ففريق قال: إنها تتنقل، والدافع إلى القول بأنها تتنقل عدم إمكانية الجمع بين الأحاديث، فقد ورد في صحيح البخاري أنها ليلة إحدى وعشرين، وورد في صحيح البخاري أنها ليلة ثلاث وعشرين، وأقسم أبي أنها ليلة سبع وعشرين، وفي المسند من حديث ابن عمر أنها ليلة أربع وعشرين، فقالوا: لا يمكن الجمع ما بين هذه الأحاديث إلا أن نقول: إن ليلة القدر تتنقل في كل عام، إلا أنها في ليال الوتر أرجى منها في ليال الشفع، ولا يلزم أن تكون في ليالي الوتر فقط، لكنها أرجى في ليالي الوتر من ليالي الشفع. الفريق الآخر قالوا: لا تتنقل، بل هي ليلة أنزل فيها القرآن، فهذه الليلة من كل عام تكون ليلة القدر، وهؤلاء اختلفوا في تحديدها، فمذهب الشافعي -فيما أظن الساعة- أنها ليلة أربع وعشرين، ومذهب أبي بن كعب وعليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين، وكان أبي رضي الله عنه يقسم كما رواه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش. وبعض العلماء يرى أنها ليلة إحدى وعشرين، وآخرون يرون أنها ليلة تسع وعشرين. وجملة القول أن يقال: إن من قام رمضان كله وافق ليلة القدر، ثم نقول: من قام العشر الأواخر كلها بإذن الله ورحمته يكون قد وافق ليلة القدر.

قيام ليلة القدر وطلب رحمة الله فيها

قيام ليلة القدر وطلب رحمة الله فيها لكن نقف هنا ونقول: يبدأ الإنسان فقهياً بالأوليات، فأول ما يبدأ في طلب ليلة القدر أن تصلي العشاء والفجر في جماعة، فلا تطلب نافلة وقد ضيعت فريضة، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5]. ثم يحرص الإنسان على قيام ليلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالمرغوب المطلوب الأول فيها قيامها، على أنه ينبغي أن يعلم أن عائشة تقول: (ما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها) والمعنى أنه يصلي بعض الليل ويقرأ في بعضه، ويدعو في بعضه، ويذكر الله في بعضه، ولو استراح في بعضه فلا حرج، لكن أفضل أن يستريح في مقام عبادته في مسجده أو في بيته أو في عمله، والناس يختلفون، ورب الجميع واحد، والله يطلع على القلوب لا على الأبدان، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]. وقبل هذه الليلة من الليل قبل أن تدخل العشر لابد أن يستشعر الإنسان أن الله رحيم، وأن الإنسان له ذنوب يرجو من الله أن يغفرها، وله عيوب يرجو من الله أن يسترها، وله آمال يرجو من الله أن يحققها، وله مخاوف يرجو من الله أن يجيره منها، وهناك جنة يرغب أن يدخلها، وهناك نار يخشى أن يمسه لهيبها، وهناك أمور وأمور لا يقدر عليها إلا الله، فيزدلف الإنسان بقلبه في المقام الأول برغبة صادقة من القلب أن الله جل وعلا يوفقه لقيام ليلة القدر. ووالله لن تنال المطلوب، ولن تدفع المرهوب إلا برحمة من الله وفضل، فلا تتكلنّ على شيء من قوتك أبداً، وقل: اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وطول وقوة إلا حولك وقوتك، اللهم أقمني في مكان ترضى فيه عني، كان الشافعي يقول: أهمني أمر فرأيت في المنام أن طارقاً يطرقني فيقول: يا أبا عبد الله! قل في دعائك: اللهم إنني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، ووفقني اللهم لما تحب وترضى من القول والعمل، قال الشافعي: فقلتها ففرج الله عني. والمقصود من هذا أن تزدلف إلى الله في سجودك في النهار أن يوفقك الله جل وعلا لقيام الليل، فوالله إن من تحرر من الذنوب نهاراً رزق منّة العطاء والوقوف بين يدي الله ليلاً، ومن أثقلته ذنوبه في النهار صعب عليه أن يرزق الوقوف ليلاً بين يدي الواحد القهار. ففي النهار تعامل مع الله جل وعلا تعامل المسكين، وتعامل معه تعامل عبد له عند ربه حاجة تكون في الليل، فيحاول في النهار أن يستجر بمسكنته رحمة العظيم؛ حتى يمن الله جل وعلا عليه بالتوفيق في ليلة القدر، وادخل على والدتك وبرها وأنت ترجو ببرها رحمة الله، وقل في سجودك: اللهم وفقني لقيام ليلة القدر، وأحسن فيها مقامي بين يديك، وتوخ مسكيناً أو سائلاً أو أرملة أو يتيماً فأحسن إليه؛ عل الله جل وعلا أن يكرمك بالقيام بين يديه، وتوخ أحداً من قرنائك أو جيرانك أو أصحابك بينك وبينهم شحناء فاعف عنه، وتنازل عن حقك؛ طمعاً في أن الله جل وعلا يوفقك في القيام بين يديه. فهذا بعض ما يمكن صنيعه وإلا باب استدرار رحمة الله جل وعلا مفتوح، فاصنعه فإذا جاء الليل لا يكن همك إلا ذنبك، ولا يكون رغبتك إلا في ربك تبارك وتعالى، فقف بين يديه اسأله وارجوه والله جل وعلا لا أحد أحب إليه المدح منه، فأكثر من الثناء عن الله، واعترف بذنبك، قال الله يعلم الأبوين آدم وحواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وأثن على الله جل وعلا بما هو أهله، ثم صل ولو كنت في سجودك على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وابدأ بالعظائم، وأعظم الأمور أن يرزقك الله الجنة، وأعظم الأمور أن يجيرك الله من النار، ثم اسأل الله كما قالت عائشة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فيحاول المؤمن قدر الإمكان أن يردد هذا الدعاء المأثور عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. هذا كل ما يمكن أن يقال فقهياً عن ليلة القدر.

بعض البراهين والقرائن الدالة على أن العبد يعظم ربه

بعض البراهين والقرائن الدالة على أن العبد يعظم ربه نختم أيها المؤمنون بأن أعظم ما نعت الله به أنبياءه، وما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم هو تعظمه لله جل وعلا التعظيم اللائق، وقرب العبد من ربه بمقدار تعظيمه لله، والله يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]. هذه بعض القرائن والبراهين على أن المؤمن يعظم الله:

استشعاره وفرحه بحديث مثل الحديث عن الله تعالى

استشعاره وفرحه بحديث مثل الحديث عن الله تعالى أولها: ألا يستبشر ولا يفرح بالحديث عن أحد كفرحه واستبشاره وانشراح صدره للحديث عن رب العالمين جل جلاله؛ لأن ذلك المؤمن ليس في قلبه أحد أعظم من الله، فلا يمكن أن يطمئن قلبه، ويشرح صدره، وتفرح ذاته إلا إذا كان يتحدث عن الله. وعلى النقيض من ذلك أهل الفجور والكفر والفسوق عياذاً بالله، فإنهم لا يجدون فرحاً ولا استبشاراً إذا حدثوا عن الله، قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وقال جل وعلا في سورة أخرى وهي الإسراء: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]، فما الذي ينبغي أن تسمعه أيها المبارك؟! أن تحاول قدر الإمكان أن تجد في نفسك طمأنينة وسكينة، وأنت تتكلم عن الله أو تتلو كلام الله، أو تسمع شيئاً عن الله، أو تصنع صنيعاً من أجل الله، أو تترك شيئاً من أجل الله، فهذا من أعظم العلامات على أن العبد يعظم ربه التعظيم اللائق به. ووالله كل نعيم وعده الله جل وعلا عباده إنما هو مرهون بقدر تعظيمهم لله تبارك وتعالى، ومن احتفى الله به في الملأ الأعلى إنما احتفى الله به لما في تعظيمه لله تبارك وتعالى وهو على الأرض، قال الخليل إبراهيم عليه السلام -وكان أعظم العباد تعظيماً لله بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم- قال يخاطب أباه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فاحتفى الله جل وعلا بهذا النبي الكريم أبي الأنبياء لما كان في قلب إبراهيم من تعظيم الرب تبارك وتعالى. ومن قرائن هذا التعظيم أن الإنسان يؤمر بالنهي عن شيء، فيطلب منه الشيء من أجل أبيه وأمه وجيرانه وعلاقاته فيأبى، فإذا طلب منه شيء من أجل الله تركه تعظيماً لربه تبارك وتعالى، وهذه تربية يصنعها الإنسان لنفسه مع مر الأيام وتوالي الأعوام، فيجدّ الإنسان إذا كان لديه رغبة كيف يربي نفسه على أنه يعظم ربه جل وعلا التعظيم اللائق به، فلا يخوف ولا يذكر بأحد بعد الله. هذا أمر. الأمر الثاني: السعي إلى الطاعات، فالذين يعظمون الله لا تكاد تجف بشرتهم من الوضوء؛ يريدون ما عند الله تكفيراً للذنوب، وطلباً لرحمة علام الغيوب، وتتسابق خطواتهم إلى بيوته جل وعلا، يرجون ما عند الله جل وعلا من المغفرة، يجدون راحة قلب وانشراح صدر وجباههم على الأرض؛ رغبة فيما عند الله جل وعلا من النعيم. ومن قرائن هذا أنهم يفرون عن المعاصي، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130] إلى غير ذلك مما نهى الله عنه، فكلما زين له باب معصية تذكر عظمة الله جل جلاله فتركها وبعد عنها؛ خوفا ًوفرقاً من أن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه.

الشوق إلى لقاء الله تعالى

الشوق إلى لقاء الله تعالى خاتمة القرائن في تعظيم الرب تبارك وتعالى ما يقع في القلب من شوق إلى لقاء الله جل وعلا، والمؤمنون الصالحون لا يرجون يوماً يوفون فيه النعيم فيكافئون فيه بأعظم الجزاء وأكمله، ويستريحون فيه من نصب الدنيا وتعبها إلا اليوم الذي يلقون فيه الله، قال الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فإذا لقي العبد الصادق ربه استراح؛ لأن الله جل وعلا وعده إذا لقيه أن يوفيه أجره كما أخبر ربنا في كتابه. اللهم لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، أنت الله لا إله إلا أنت تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وتقبض وتبسط، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أنت ربنا خالقنا من العدم، ربيتنا بالنعم، نشهد ونحاج أن وجهك أكرم الوجوه، واسمك اللهم أعظم الأسماء، وعطيتك يا ربنا هي العطية الجزلى، فاللهم صل على محمد وعلى آله، واغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين، اللهم اغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين. اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر. وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إمامة من لا ينطق حرف الراء

حكم إمامة من لا ينطق حرف الراء Q هناك شاب لا ينطق حرف الراء، وهذا الشاب يؤم المصلين، علماً بأنه لا يوجد من يؤم المصلين غيره فما حكم ذلك؟ A إذا كان لا يوجد أحد يؤم المصلين غيره فليؤم ولو لم ينطق حرف الراء، وإن كان يوجد من يحسن القرآن مثله فليصل بهم. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كيفية نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم

كيفية نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم Q كيف ننصر نبينا؟ A إن قريشاً عندما كتبت الصلح بينها وبين رسول الله قالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، فكتب صلى الله عليه وسلم: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، ثم قال كلمة يجب أن يفهمها العلوج الذين في الدينمارك، قال عليه الصلاة والسلام: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، والله لو اجتمع الدينماركيون وغيرهم على أن ينالوا شعرة من مقامه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لما استطاعوا، فالله قال له وهو أصدق القائلين: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، وقال له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]. وأما نصرته صلى الله عليه وسلم فهي على ثلاثة أوجه: الأول: نصرة سياسية، وهذه تقع على الحكام بمقاطعة ذلك البلد. الثاني: نصرة اقتصادية، وذلك بأن يمتنع الإنسان من أن يتعامل اقتصادياً معهم. الثالث: نصرة عملية، وهي أن الإنسان يزداد اتباعاً لهديه صلى الله عليه وسلم، فذلك أغيظ لقلوبهم، حتى يعلموا أنهم مهما صنعوا ليشوهوا مقامه عندنا فلن فما قاله الأفاكون باطل كله، فقد وصفوه بالعنف والله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ووصفوه بالضلال والله يقول: (إنا أرسلناك هاديا)، ووصفوه بالكذب والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، ولا ينتظر ممن كفر بالله أن ينصف رسوله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله أن ينتقم لرسوله قريباً عاجلاً غير آجل.

لا يعلن ويتلفظ بالنية إلا في الحج والعمرة وعند ذبح الأضاحي فقط

لا يعلن ويتلفظ بالنية إلا في الحج والعمرة وعند ذبح الأضاحي فقط Q هل يجوز في الاعتكاف أني أتكلم فيه بالنية أم أنويه في قلبي؟ الشيخ: لا، لا يصرح به، لا يعلن النية إلا في موضعين في الإسلام: عن الحج والعمرة، وعند ذبح الأضاحي، وأما غير ذلك فتبقى النية محلها القلب، فإذا نويت الخروج صباحاً فتنوي الخروج من الاعتكاف، نسأل الله أن يتقبل منا ومنك.

تفسير قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)

تفسير قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) Q قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، ما تفسير هذه الآية؟ A هذا تخويف من أن الإنسان يعرض عليه الأمر فلا يقبله مرة بعد مرة فيطبع الله على قلبه، فلو أراده بعد ذلك لا يمكِّنه الله جل وعلا منه؛ لأن هذه الآية تفسرها آية الأنعام: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].

كل الرسل من الإنس وليس في الجن رسل

كل الرسل من الإنس وليس في الجن رسل Q قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] هل الرسل جميعهم مرسلون للإنس والجن، أم أن للجن رسلاً؟ A اختلف العلماء فيها، والأظهر كما قال العلماء أن الكاف في: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] عائدة للمجموع لا للجميع، والمعنى: أنها عائدة باعتبار مجموعيهما أي: إلى الإنس لا لجميعهما، أي: ليس هناك رسل من الجن، لأن الله قال: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109]، فقوله تبارك وتعالى: (إِلَّا رِجَالًا) دل على أنهم ليسوا من الجن. والمشهور عند العلماء أن جميع الرسل من الإنس إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعث للجن والإنس كافة في زمانه، وقول الله جل وعلا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] يدل على أن الجن مخاطبين ببعض ما كلف الله به الرسل كإيمان هؤلاء برسالة عيسى عليه السلام، والمسألة فيها خلاف شهير بين العلماء، لكن كما قلت: الراجح أنه ليس هناك مرسلون من الجن، لكن يخاطب الجن ببعثة بعض الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهذه مسألة غيبية لا يمكن لنا أن نجزم فيها بأكثر من هذا.

الحديث عن عظمة القرآن

الحديث عن عظمة القرآن Q حدثنا يا شيخ عن عظمة القرآن؟ A أقول: أول نقطة تحاول تربي نفسك عليها: ألا تعلق نفسك بأن تتأثر بأحد بعينه، ولا بقارئ بعينه، لكن كل من قرأ عليك القرآن حاول أن تتأثر به، وكل من ذكرك بالله حاول أن تتأثر به، فالله جل وعلا دينه وعظمته أجل وأكبر من أن يضعها في شخص هو وحده ينفع الناس وغيره لا ينفعون، فيجب أن يعلم الإنسان أن الله عظيم، وأن له آيات تدل عليه تبارك وتعالى، ومن ذلك أن يفقه الإنسان كيف يتعامل مع ربه جل وعلا، والتعامل مع سبحانه وتعالى يحتاج إلى قلب منكسر، وقلب شارد تماماً عن المخلوقين مهما رأى فيهم من عظمة، ومهما رأى فيهم من خشوع، ومهما رأى فيهم من جمال الصوت في القرآن، فيحبهم بقدر، وليعلم أنهم ليسوا هم وحدهم يذكر بالله، وأن كل شيء أصلاً حولنا يذكر بالله، فالله يقول: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]. ولا يوجد شيء ممكن أن يذكر المؤمن بعظمة الله أكثر من أن يقرأ المؤمن القرآن، فاختاروا آيات من القرآن فيها إخبار من الله جل وعلا عن عظمته، ثم رددها بصوت تسمع فيه نفسك في مكان يغلب على ظنك ألا يراك فيه أحد، وأنت تقرؤها تدبر كيف يخبر الله جل وعلا عن ذاته العلية. أتريد أن تعرف صفاته؟ لن يدلك عليها أحد أعلم ولا أعظم منه، لا أحد أعلم بالله من الله، فاختر آيات أثنى الله جل وعلا فيها على نفسه، وأخبر فيها تبارك وتعالى عن عظيم خلقه، ومدح الله جل وعلا فيها نفسه، اقرأها وأنت تسمع فيها نفسك، فإذا ما خشعت في المرة الأولى حاول أن تكررها لعلك تخشع في الركعة الثانية، وإذا ما خشعت في الركعة الثانية حاول أن تكررها مع آيات أخر حتى لا تبتدع في الدين حتى تصل إلى بغيتك، فيبدأ القلب يألف أنه لا يتعظ ولا يستجيب لشيء أكثر من كلام الله، لكن إنسان عود نفسه على أغاني، أو عود نفسه على أناشيد، أو عود نفسه على شيخ معين وما أشبه ذلك هذا قد يتضرر، لكن حاول أنت أن يكون تذكيرك من نفسك في نفسك، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:1 - 7]، فهذه وأمثالها اقرأها لينير الله جل وعلا قلبك.

تحديد وقت ليلة القدر

تحديد وقت ليلة القدر Q السلام عليكم ورحمة الله، ذكر بعض من يكتب في الجرائد أن ليلة القدر معروفة إلى يوم القيامة، وحددها هذا الرجل، فلعلك لو سمحت تلقي الضوء على هذا؟ A ليلة القدر جهلها العلماء الأبرار، والمتقون الأخيار، وما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال: (أرى رؤياكم تواطأت على العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر)، وقد مكث صلى الله عليه وسلم -وعنه يؤخذ الدين- يتحراها دون أن يحدد وقتها، فلا يقبل بعد ذلك أن يأتي أحد ويجزم بتحديدها إلى يوم القيامة، فهذا محال أن يقع بتاتاً، أسأل الله لنا ولهذا الشخص غفران الذنوب.

علامات ليلة القدر

علامات ليلة القدر Q ما هي علامات ليلة القدر؟ A قال بعض العلماء بوجود علامات في ليلها، منها: أن الشمس صبيحتها لا يكون لها أشعة، لكني لا أجزم بشيء من هذا، وإنما نقول: هي في العشر الأواخر وترها وشفعها، والإنسان عليه أن يجتهد فيها، وقد يعطى بعض الناس دليلاً على أنه رآها كما دل عليه حديث عائشة، لكن لا يلزم من ذلك القبول، ولا يلزم من عدم رؤيا الدليل عدم القبول، وقد كان ابن مسعود إذا سئل يقول: من قام العام كله أدرك ليلة القدر.

أقل مدة الاعتكاف

أقل مدة الاعتكاف Q أقل اعتكاف كم هو؟ A اختلفوا في هذا، فقال بعض العلماء: يكون ولو لحظة، وهذا قول بعيد، والذي أميل إليه والعلم عند الله أنه يكون ليلة بكاملها، فيعتكف الإنسان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأن مظنة القيام مكانه الليل، فيكون الاعتكاف من غروب الشمس إلى الفجر، هذا أقل الاعتكاف فيما نعتقده، والعلم عند الله.

حكم تحديد ليلة القدر عن طريق الرؤى المنامية

حكم تحديد ليلة القدر عن طريق الرؤى المنامية Q في كل عام تنتشر عبر رسائل الجوال بعض قصص الرؤى التي تحدد ليلة القدر، فما تعليقكم يا شيخ على هذا؟ A لا أرى هذا حسناً، فهذا يثبط الهمم، فلو جاء إنسان وقال: أنا رأيتها في إحدى وعشرين فربما يكون صادقاً وتكون الرؤيا غير صادقة، لكن ذلك يثبط الناس في بقية الشهر، لكن العاقل يبقى متحرياً لها حتى آخر ليلة؛ لأنه لا يدري أين هي، ولا يحسن بالفضلاء نشر مثل هذه الرسائل وإذاعتها بين الناس، بل يترك الناس للعمل والتحري والبحث، عل الله جل وعلا أن يتقبل من الجميع.

شذرات التفاسير

شذرات التفاسير في هذه المادة تجد تفسيراً لبعض الآيات بأسلوب علمي رصين، يجمع بين التأصيل العلمي المعرفي وبين التربية السلوكية الإيمانية، فتجده يأخذ بالقلوب والأفئدة، وينير لك درب المعرفة بأسلوب سهل أخاذ شيق.

حال الأمم يوم القيامة

حال الأمم يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فإن تدبر القرآن من أعظم البراهين وأجل القرائن عن البعد عن قسوة القلوب، قال الله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، ومن أراد الله به سعادة الحياتين والفوز في الدارين منّ عليه جل وعلا بأن يتدبر كتابه على الوجه الذي أراد جل وعلا، وعلى الوجه الذي بين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. وفي هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع المبارك نقف وإياكم مع بعض آيات الكتاب المبين، وهي وقفات علمية ووعظية ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، مستصحبين أمراً عظيماً وهو أن التوفيق بيد الله جل وعلا وحده، فما كان لمتحدث أن يتحدث، ولا لمحاضر أن يحاضر، ولا لمتلق أن يعي ويسمع إلا إذا أذن الله، فمن أسلم قلبه لله، وعلم أن الفضل كله بيد الله كان قريباً من رحمة ربه؛ لحسن ظنه بمولاه وجل اعتماده ويقين توكله على خالقه سبحانه وتعالى. ولا نشترط في الآيات التي نتدبرها ونتأملها الليلة أن تكون مرتبة وفق ترتيب المصحف، فقد يكون لترتيبها بعض الحكم التي قد تظهر أو قد تخفى. قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين في سورة الجاثية: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29]، الجثو في اللغة: هو البقاء على الركب، وإن لامست أطراف الأصابع الأربع فلا حرج، وهي من أعظم دلالات الخضوع. وفي هذه الآية الكريمة يخبر جل وعلا عن حال الأمم يوم القيامة، فيقول مخاطباً نبيه: (وترى) أي بعين البصيرة؛ لأن ترى تأتي قلبية فتتعدى لمفعولين، وتأتي بصرية فتتعدى لمفعول واحد، قال الله جل وعلا هنا: (وترى) أي: يا نبينا! أيها المخاطب بالقرآن سائر الناس، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي: على ركبها. ثم قال الله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) قال بعض العلماء كما نقله الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه: إن جهنم يومئذٍ تزفر زفرة فتجثو الأمم على ركبها، حتى إن خليل الله إبراهيم عليه السلام على رفيع درجته وعلو منزلته يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي. بل ورد أن عيسى ابن مريم عليه السلام يومئذٍ يقول: نفسي نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني، فإذا كان هذا حال أنبياء الله فما عسى أن يكون حال من دونهم، وكلنا دونهم، نسأل الله لنا ولكم العافية والستر. قال الله جل وعلا يخاطب نبيه: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ) والكلام ابتداء ولذلك رفعت، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) اختلف العلماء في معنى كتابها هنا: هل هو الكتاب الشرعي الذي أنزل على رسل تلك الأمم كالتوراة على موسى والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، أو هو الكتاب الذي دوَّن فيه الملكان ما عمله بنو آدم؟ بكل قال العلماء، ويرجح الأول الإفراد في الآية، فقول الله جل وعلا: (هَذَا كِتَابُنَا)، والإضافة هنا إلى رب العزة، لأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه. وإذا قلنا: هو كل أحد بعينه فيؤيده ما بعده، فإن الله قال بعدها: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، فكلا القولين متوجه، ولو رجحنا أحدهما فإنه لا يلغي الآخر، بمعنى أن كلا الأمرين ثابت بآيات أخر، وإنما الخلاف بين العلماء لأيهما تشهد هذه الآية، مع الاتفاق على أن الأمم تسأل عن كتبها، قال الله جل وعلا عن كتابه العظيم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، مع الاتفاق أن كل أحد يعرض عليه كتابه، ويسأل عن عمله، كما قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الكهف:47 - 49] إلخ الآيات هذه وغيرها الدالة على أن الإنسان تعرض عليه صحائف عمله. قال الله جل وعلا: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29]، وبراهين اللغة تقول: إن الاستنساخ معناه النقل عن الأصل، ولهذا اختلف العلماء رحمة الله عليهم في معنى هذه الآية: فمنهم من قال: إن الأصل هو اللوح المحفوظ، فيصبح معنى الآية أن الملائكة الذين في السماء يكتبون عن اللوح المحفوظ أعمال بني آدم، والملائكة الموكلون ببني آدم يكتبون أعمالهم ثم يطابقون هذا على هذا، وهذا وإن كانت اللغة تعضده إلا أنني -والعلم عند الله- أراه بعيداً، فنبقي على أصل اللغة وهو أن الاستنساخ أخذ من الأصل، فيصبح المعنى أن الاستنساخ هنا بمعنى أن الملائكة تكتب عن الواقع الحق البين وهو عمل بني آدم، فالملك الذي على اليمين أو الملك الذي على الشمال كلاهما يكتبون واقعاً مشهوداً وحاضراً مشاهداً يدوناه، فهذا يمكن اعتبار أنه أخذ عن الأصل. وهذه الآيات برمتها تبين لكل أحد يتدبر القرآن أنه مسئول كل المسئولية عن عمله، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:6 - 12]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق عثمان: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فالملائكة رأت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه حياء جماً، فهو في السر كما هو في العلانية، يستحي من الله في الملأ ويستحي من الله في الخلاء، ويعلم رضي الله عنه وأرضاه أن معه ملكين يدونان ما يكتب، فنستغفر الله مما يكتب الملكان من الخطايا. لكن الإنسان إذا رزق قلباً موقناً بلقاء الله، مستحياً من ربه جل وعلا، يعظم الله ويعظم أمره ونهيه استحيى من -باب حيائه من الله- من الملائكة الذين معه، فكان حاله في السراء كحاله في العلانية، وتلك منزلة عظيمة جليلة. ومن أقسى ما قاله المفسرون، أن قال بعضهم في قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] قالوا في العدل: أن تستوي السرية والعلانية، وقال بعضهم: والإحسان أن تكون سرية الإنسان أفضل من علانيته، وهذه كما قلنا منزلة عالية قد لا يدركها إلا ثلة قليلة من الخلق، سلك الله بي وبكم سبيلهم.

يوم القيامة ميقات الناس أجمعين

يوم القيامة ميقات الناس أجمعين قال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42]، هذه الآيات جاءت بعد قول الله جل وعلا في نفس سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39]، ثم قال الله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان:40] ولم يأت بواو العطف، قال بعض المعنيين بالبلاغة واللغة: إن هذا معناه أن هذه الآيات كالنتيجة لما قبلها. ثم تأمل أيها المبارك قول الله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فهذا أحد أسماء يوم القيامة، وسمي بهذا لأن الله جل وعلا يحكم فيه بين خلقه ويفصل بين عباده. (مِيقَاتُهُمْ) والميقات اثنان: ميقات زماني لا يعلمه إلا الله، وميقات مكاني على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين. والأصل أنه ميقات لكل مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وإنس وجني، بل هو ميقات للخلائق أجمعين، لكن الله جل وعلا أضاف الميقات إلى أهل الكفر لأنهم المخاطبون الأولون بالوعيد، فقال جل وعلا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، وكلمة (أجمعين) هنا وردت للتوكيد، وهي توكيد معنوي، وليس خافٍ عليك أن التوكيد ينقسم إلى قسمين: توكيد معنوي وتوكيد لفظي، ولفظ (أجمعين) في هذه الآية من ألفاظ التوكيد المعنوي، وهو يؤتى به للتأكيد، لكن قد يتكرر بعض ألفاظ التوكيد المعنوي فلا ينتقل إلى كونه توكيداً لفظياً، بل يبقى على حاله توكيداً معنوياً، لكن له أغراضاً بلاغية. قال الله جل وعلا مثلاً في سورة (ص): {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:73] فواحدة منها تكفي: فسجد الملائكة كلهم، أو يقول الله: فسجد الملائكة أجمعون، لكن تكرار، والتوكيد هنا أراد الله به أنه لم يبق منهم أحد لم يسجد، وأراد الله بقوله: (أَجْمَعُونَ) أي: أنهم في وقت واحد، فيصبر تكرار التوكيد هنا أفاد فائدة زائدة، وهي أن الملائكة سجدوا جميعاً من غير استثناء، وسجدوا جميعاً في وقت واحد. قال الله جل وعلا هنا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، ثم قال جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي} [الدخان:41] أي: لا ينفع ولا يفيد، {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41] وكلمة (مولى) كلمة فضفاضة في اللغة، لكن معناها هنا: الحليف القريب الناصر المحب، أي: من يحب أن يؤازرك، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41]، وكلمة شيئاً في القرآن إذا نكرت تدل على القلة، قال الله جل وعلا: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]. {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41] من غنى، ثم قال الله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41]، والنصرة أعظم الغنى. ثم قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42] و (إلا) هنا هل هي استثناء متصل أو استثناء منقطع؟ وفق قواعد اللغة والنحو تحتمل الآية الأمرين، فإن قلنا: إن الاستثناء متصل يصبح المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً إلا من رحم الله، بمعنى: إلا من رحم الله من الموالي، فأولئك ينفع أحدهم أخاه، وتكون صورة ذلك بأن يأذن الله للشافع ويرضى عن المشفوع له، فيكون هذا استثناء من الآية، هذا على القول أن الاستثناء متصل. وإذا قلنا: إن الاستثناء منقطع فيصبح معنى الآية: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، فتصبح (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً لكن من رحم الله لا يحتاج إلى نصرة؛ لأن الله جل وعلا رحمه وآواه. وإذا تدبر المؤمن هذه الآيات أغفل ما قاله النحاة وتكلم عنهم البلاغيون؛ لأن هذا ليس مقصوداً في الأصل، إنما المقصود في الأصل أن يتدبر الإنسان القرآن فينظر ما هي أسباب رحمة الله، فالناس والعوام منهم على وجه الخصوص ليسوا في حاجة إلى أن يبين لهم الاستثناء المنقطع من الاستثناء المتصل، لكنا جميعاً بحاجة إلى أن يفقه الإنسان ما أسباب رحمة الله، لعل الله جل وعلا أن يرحمه، يقول الله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42].

أسباب رحمة الله تعالى

أسباب رحمة الله تعالى

الاستغفار من أسباب رحمة الله

الاستغفار من أسباب رحمة الله وهنا سنقف على بعض أسباب الرحمة، وأولها وأعظمها وأجلها: استغفار الله جل وعلا، فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة العزيز الغفار، قال الله جل وعلا: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وقد جاء في الأثر: أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وامتنع إبليس عن السجود، قال إبليس بعد حوار: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال رب العزة ذو الرحمة والجلال: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ما استغفروا. فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة الله؛ لأن فيه قرائن وبراهين على انكسار القلب بين يدي رب العالمين جل جلاله.

الرحمة بالناس من أسباب رحمة الله لنا

الرحمة بالناس من أسباب رحمة الله لنا ومن أسباب رحمة الله: رحمتنا بمن حولنا، قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، وقال: (ارحموا من الأرض يرحمكم من في السماء)، ومن تأمل بعض الأحاديث النبوية لا في جانب الأمر بل في جانب النهي؛ تبين له كيف أن الإسلام على لسان نبيه عظم مسألة الرحمة، فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ضرب الوجه)، وحتى الدواب نهى صلى الله عليه وسلم أن توسم في وجهها، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم أن يضرب أحد من الخلق في وجهه. وشرع الإسلام لنا أن نؤدب زوجاتنا إن لم ينفع معهن الوعظ ولا هجر المضاجع، فقال الله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، واتفقت كلمة الفقهاء على أنه ضرب غير مبرح، ولا يمكن أن يصيب الوجه أبداً، وأولئك الذين يبحثون عن قوام الشخصية في ضرب نسائهم خاصة أولئك الذي يضرب أحدهم زوجته أمام أبنائها وبناتها، فيريد أن يقيم بيتاً وهو في الحقيقة إنما يزرع في قلوب أبنائه وبناته غلاً وحقداً. إن ابناً رأى منظراً كهذا من أبيه قد يصعب عليه -إلا من رحم الله- أن يترحم على أبيه بعد مماته، لكن المؤمن العاقل الذي يعرف عناية الإسلام بجانب الرحمة يعرف أنه لا يمكن أن يقع منه أن يهين أحداً أمام من له في أعينهم نظر ومكانة، وإنما إذا ابتليت بشخص بين من يحبونه ويجلونه فأجله وأحبه، لا يكن في قلبه أن تتشفى بمسلم وأن تريد أن تذله وتهينه على مرأى من الناس. نعود فنقول: إن من أعظم أسباب موجبات رحمة الله رحمتنا بمن حولنا: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

من موجبات رحمة الله تدارس القرآن

من موجبات رحمة الله تدارس القرآن كما أن من موجبات رحمة الله ما أنتم فيه تقبل الله منا ومنكم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، وأنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله جل وعلا فيمن عنده)، فتدارس القرآن من أعظم موجبات رحمة الرحيم الرحمن جل جلاله. فهذه نتف من أسباب رحمة الله جل وعلا التي قال الله جل وعلا عنها جملة: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، على أن أهل العلم من المفسرين يقولون: إن السبب إلى وقوع رحمة الله ناجم عن مرضات الله جل وعلا عن العبد، ولا يمكن أن ينال الإنسان نوالاً ولا يعطى شيئاً أعظم من حصوله على رضوان رب العزة والجلال جل جلاله. قال الله بعدها: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] في عرف أهل التفسير: (إنه هو العزيز الرحيم) تسمى فاصلة، والفاصلة لها أربعة أغراض: فإما أن تأتي للتمكين، فيكون ما قبلها من الآيات ممهداً لها، قال الله جل وعلا: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، فقول الله جل وعلا: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] كل ذلك ممهد، فجاءت آية أو فاصلة {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، قال أهل البلاغة هنا: يراد بها التمكين. وقد تأتي أحياناً فتسمى التصدير، وتكون مستقاة من نفس الآية، قال جل وعلا على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، وقد تأتي بالمعنى لا باللفظ كما نحن فيه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] بعد قول الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، وخاتمتها تأتي للإيغال وهي الزيادة في المعنى، فتحقق الفاصلة معنىً زائداً لم يتحقق بصدر الأولى، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] إلى هنا انتهى معنى الآية، فجاء قول الله جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، ويسمى في عرف المعنيين بعلم التفسير يسمى إيغالاً، أي أن الفاصلة زادت معنىً لم لكن موجوداً في أصل الآية.

الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك

الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ومن الآيات التي سنشرع في بيانها قول الله جل وعلا: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:22 - 24]. صدر الله الآيات بالنهي عن الشرك، فقال الله يخاطب نبيه: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، والقعود شعور بالعجز، قال الله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:60]، وقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95]، فعبر عمن قعد عن الجهاد بأنهم قاعدون، وكلها تشعر بالعجز، فالله يقول لنبيه: إن الشرك من أعظم أسباب الخسران في الدنيا والآخرة، {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]. ولما نهى العلي الكبير نبيه عن الشرك أمره بالتوحيد فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] أي: حكم ديناً وشرعاً وتعبداً لعباده، وهذا من أعظم مطالب الله جل وعلا من خلقه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أسلوب حصر، فإن العبادة لا يجوز في حال أبداً صرفها لغير الله تبارك وتعالى.

عظم حق الوالدين على الأولاد

عظم حق الوالدين على الأولاد ثم قرن جل وعلا حقه العظيم بأن ذكر بعده حق الوالدين، فقال جل ذكره: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ثم فصل وهذا يسمى في عرف البلاغيين استقصاء، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23]، فكلما عظمت حاجتهما إلى الغير ازداد حق البر لهما. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] فيختار المرء أطيب العبارات وأحسن الألفاظ وهو يخاطب والديه. {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24]، فالطائر إذا أراد أن يقع ويتخلى قليلاً عن كبرياء الطيران خفض جناحيه، وكذلك حال الولد البار ذكراً كان أو أنثى أمام أمه وأبيه. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] قال العلماء: كل من أسدى إليك تربية تحقق عليك أن تبره من حيث الإجمال، فالوالدان الأصل أن لهما حق البر بمجرد أنهما والدان، ويزداد حقهما تعظيماً إذا قدر لهما -وهو الأصل- أن يتوليا تربيتك، فإن تولى تربيتك أحد غيرهما أو كان لأحد غيرهما شيء من التربية عليك توجهت وتقوت مسألة برك له قليلاً كان أو كثيراً، قال الله جل وعلا: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. لكن الإنسان ضعيف، فأحياناً يكون للوالد أو للوالدة مطالب تعلم أنت أنك لو حققتها لهما لكان ذلك سبباً في الضرر بهما، فيبقى في نفسك أمور وأمور تتداول، فتبقى على المنعطف الصحيح وتغلب عقلك على عاطفتك، كالأم مثلاً قد تصاب بالوسوسة فتظن أن بها مساً، وقد تحقق عندك أنه لا مس بها، لكنها تجبرك ما بين الحين والآخر على أن تذهب بها إلى من يقرأ عليها، وقد غلب على ظنك أنك لو ذهبت بها إلى زيد وعمرو من القراء لازدادت تعباً وعظمت الوساوس في قلبها، واشتد الأمر عليها، فتأنف وترفض أن تذهب بها وأنت بهذا تخالف أمرها، لكنك لا تريد إلا الخير لها.

غرض الدين هو إصلاح القلوب

غرض الدين هو إصلاح القلوب فهنا في هذا وأمثاله يقول الله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25]، ثم قال الله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فكل الدين مرده على إصلاح القلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن الله ينظر إلى قلوبكم). وفي دعاء إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. من هذا السياق القرآني يتبين للمرء أنه ما سعى في شأن أعظم من إصلاح قلبه، وصلاح القلوب له طرائق عدة: أعظمه تدبر القرآن، وهو ما نحن فيه، مع تلاوة القرآن، والتأمل في هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والبعد عن حسد الناس وحمل الحقد والبغضاء لهم، والإكثار من ذكر الله جل وعلا فإن ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر، وغيرها مما لا يخفى، والمقصود الإشارة من حيث الجملة، وبصلاح القلوب يفوز الإنسان برضوان ربه ورحمته، ويكون قريباً من دخول جنته. وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وكون أنبياء الله ورسله من نفس جنس الناس هذا يجعلهم أدعى لأن يقبل منهم، وأنبياء الله ورسله ما كانوا يعيشون في منأى بعيد عن الناس، وإنما كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وهذا مما اعترضت به الأمم عليهم.

أولاد الأنبياء

أولاد الأنبياء ومن كمال بشريتهم أن الله جل وعلا جعل لأولئك الرسل أزواجاً وجعل لهم ذرية، وأزواج جمع زوج، أي: زوجة، وجعل لهم ذرية. وأنبياء الله ورسله جمع غفير، فأما نوح فالمشهور أن له أربعة من الأبناء: حام وسام وكنعان ويافث، والمؤرخون يقولون: إن كنعان هو الذي غرق في الطوفان، والثلاثة الباقون نجوا، ويقولون: إن يأجوج ومأجوج من نسل يافث بن نوح. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام المشهور عند المؤرخين أنه لم يرزق بنات، وإنما رزق ذكوراً، ولوط عليه الصلاة والسلام المشهور عند العلماء أنه لم يرزق ذكوراً وإنما رزق إناثاً، والمشهور المحفوظ أن عيسى عليه السلام لم يتزوج، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم رزقه الله ذكراناً وإناثاً: ستة من خديجة، وإبراهيم من مارية، وهؤلاء السبعة كلهم ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فمات القاسم وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم جميعاً في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وماتت ابنته فاطمة رضوان الله تعالى عليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وكانت قد دخلت عليه في يوم وفاته فقال لها: (إنك سيدة نساء أهل الجنة، وإنك أول أهلي لحوقاً بي)، وكانت عظيمة القدر عنده صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إنما فاطمة بضعة مني) صلوات الله وسلامه عليه.

اتباع هدي الأنبياء

اتباع هدي الأنبياء والمقصود من هذا: إذا عرف الإنسان البشرية التي عليها أنبياء الله ورسله شرع له بعد ذلك أن يهتدي بهديهم ويقتفي آثارهم، ويعلم أن الخير كله في اتباع ملتهم، ونهج سننهم وهديهم عليهم الصلاة والسلام. وحكى الله عن إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان صادق الوعد، فأخبر الله عن سلوكه مع ربه وسلوكه مع الخلق، فلما حافظ على الصلاة سهل عليه بعد ذلك أن يحافظ على وعوده مع الخلق. وذكر الله أيوب وأخبر أنه ابتلاه، وأنه بقي يحسن الظن بربه، وكان يلجأ إلى مولاه حتى أنبع الله تحت قدميه عيناً {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]. وحكى الله جل وعلا عن لوط أن قومه تآمروا عليه فقال عَجِلاً: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، ولقد كان يأوي إلى ركن شديد عليه الصلاة والسلام، فطمأنته الملائكة: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]. وحكى الله عن داود أنه كان يقوم الليل، ويكثر من الصيام كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم. فتنوع هديهم، وتغير حالهم والأعراف التي نشئوا عليها، فاستعصموا واستمسكوا جميعاً بتوحيد الله، فيعبدوا رباً واحداً لا إله إلا هو، قال الله عنهم بعد أن ذكرهم جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ثم ختم الله النبوات وأتم الرسالات برسالة صفوة الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه.

فضل وعظم قيام الليل بين يدي الله تعالى

فضل وعظم قيام الليل بين يدي الله تعالى ومن الآيات التي يحسن تدبرها في مقام كهذا أن الله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود منزلة في عرف أهل الرياضيات لا تقبل القسمة على اثنين، قال صلى الله عليه وسلم عن الوسيلة: (إنها منزلة لا تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو)، فلما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم المطالب وأسمى الغايات، أخبره بالطريق الأمثل والسبيل الأقوم للحصول عليها، فدل جل وعلا على قيام الليل، فقال جل ذكره وتباركت أسماؤه: (وَمِنَ اللَّيْلِ)، و (من) هنا إما أن تكون بيانية وهو قول فريق من العلماء، وإما أن تكون بعضية وهو الأغلب. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) أي: بالقرآن، زيادة لك في الخير، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، قال العلماء: إن من أنجع الطرائق لتحقيق الغايات والوصول إلى الأماني أن يقوم الإنسان بين يدي ربه يتهجد بين يديه، ويسأل الله جل وعلا ويستعين به ويرجوه؛ لأن الله جل وعلا قال: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ)، والبعث يطلق على الحياة بعد الموت، فكأن تلك المنزلة التي وعدك الله بها أيها النبي الكريم لن تنالها بما لديك من مزايا، وإنما هي هبة ربانية، ومنحة إلهية لك، وكان أعظم سبب هيأه الله لك كي تنالها أن منّ عليك بأنك تحسن القيام بين يديه. تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه، ويقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). قال الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهذا وصف عام لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام جبل على الرأفة والرحمة بالخلق أجمعين، ولهذا نعته ربه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). وقوله جل وعلا: (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يشعر الناس بقرب هذا النبي حساً ومعنىً منهم، وهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ترك هدياً عظيماً كما بينا آنفاً، والعبرة كل العبرة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا). والتكاليف الشرعية أيه المبارك تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواهٍ، فالحظ من الأوامر والنيل منها إنما يكون بقدر الاستطاعة، فلا واجب مع العجز، وأما ما حرمه الله أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم فليس لنا إلا الكف والانتهاء عنه أمراً واحداً، ولا يدخل حيز المراتب كما تدخله حيز الأوامر اللهم إلا في مسائل الضرورات، فهذه قد بينها أهل الفقه ولها أحكامها، لكن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقد يقدر عليه زيد ولا يقدر عليه عمرو، فيندرج تحت قول الله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وأما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيكف الإنسان وينتهي عنه قولاً واحداً إلا -كما قلت- في حال الضرورات.

الأمور التي تعين الإنسان حتى يبني نفسه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم

الأمور التي تعين الإنسان حتى يبني نفسه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم والإنسان حتى يبني نفسه على هدي محمد صلى الله عليه وسلم لابد له أن يستصحب أموراً عامة من أهمها: أن يكون حسن الظن بربه جل وعلا، وهذا فصلنا فيه في أكثر من موقف. والأمر الثاني: أن يكون الإنسان ذا حكمة وروية فيما يقول ويفعل، فلا يقدم يمناه حتى يجد موطناً ليسراه، ويعلم أن الكلمة قد تصلح اليوم ولا تصلح غداً، وأن الإنسان العاقل يقتبس من سنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كيف مضى صلى الله عليه وسلم في أيامه النضرة وسيرته العطرة، في سبيل طرائق ذات حكمة تدل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حلم وعلم قبل ذلك، وأدب جم مع ربه ومع الناس صلوات الله وسلامه عليه. كما أن الإنسان وهو يبني نفسه لابد أن يكون هناك باعث في النفس، ومن هنا يعلم المرء أن المسئولية مسئولية فردية يوم القيامة، وأنه: ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك ويذكرون أن الإمام ابن حزم رحمة الله تعالى عليه دخل المسجد قبل أن يطلب العلم، دخل المسجد ليصلي على جنازة فجلس حتى تحضر الجنازة، فقال له أحد الحاضرين مؤنباً: ما لك تجلس! قم فصل ركعتين تحية المسجد، فقام فصلى، ثم إنه علم أن هناك جنازة في صلاة المغرب فتوجه إلى المسجد في وقت النهي، فدخل وصلى، فرآه أحد الناس فنهاه عن الصلاة في هذا الوقت، فلما وجد التأنيب من رجلين هذا يأمره وهذا ينهاه وجد أنه مضطر لطلب العلم، كي يرفع الجهل عن نفسه، فطلب العلم حتى عد إماماً عظيماً من أئمة الإسلام، قال العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: كتابان من حواهما وقرأهما وكان على منزلة عظيمة في الذكاء حق له أن يفتي: المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه في الأعلام وهو يزيد عليهما قال: وأنا أقول: فإذا جمع الإنسان معهما التمهيد لـ ابن عبد البر والسنن الكبرى للبيهقي رحمة الله على الجميع، وكان الرجل ذكياً، وأدمن -هذا لفظه- المطالعة في هذه الكتب الأربعة أضحى عالماً فذاً من علماء المسلمين. موضوع الشاهد: أن الإنسان ينظر في الآمال التي يبتغيها، والمنازل التي يريد أن يصل إليها، فيحسن الظن بربه، فيصدق في توكله على خالقه ومولاه، ثم مع ذلك يأخذ بالأسباب، فهذا هو الهدي الأقوم والطريق الأمثل الذي بينه صلى الله عليه وسلم لأمته، ويندرج في قول الله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. فإذا قدر للإنسان أن يبتلى بحساد يحاولون أن يمنعوه من الوصول إلى غايته، أو مثبطون لا يريدون له خيراً، أو ضعفاء شخصية يخافون الخوض في اللجج فهؤلاء يجب أن يتنهى الإنسان على أن يسمع لهم: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر. ومن أعظم ما تنافس فيه الناس وبلغوا فيه أعظم الغايات الوصول إلى أرفع الدرجات في العلم؛ لأن الله جل وعلا جعل العلماء شهوداً على أعظم مشهود، قال الله جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. في غمرة هذا وبحث الإنسان عن الشرف والمجد -كما يكون هناك فئة تثبطك أو تحسدك أو تهون عزيمتك- قد تأتي فئة تحاول أن تسلك بك طريقاً آخر، فتقول لك: إن طرائق المجد في أن تشهر السيف على المسلمين، أو أن تخرج على ولاة أمرك، أو أن تتبنى طرائق التكفير، أو أضراب ذلك من دلائل الباطل وبراهين الضلالة التي لا يشك مؤمن حصيف متدبر للقرآن فيها، ودين الله بين الغالي فيه والمجافي عنه، ومن أراد الوصول إلى غاية شرعية فلابد أن تكون المطية للوصول مطية شرعية، فأي غاية شرعية تكون صادقاً مع ربك في الوصول إليها لابد أن تكون المطية مطية شرعية وإلا فلا، فلا يمكن الوصول إلى غايات إلا بما أراد الله وأرد رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن من أعظم دلائل الحق: أن يطبق الإنسان كلام ربه، وأن يستقي العلم الحق من القرآن لا من الأناشيد، وأن يؤخذ الدين من هدي محمد صلى الله عليه وسلم لا من طرائق غيره، وهذه منزلة تحتاج إلى إنسان أسلم قلبه حقاً لله، ولم يضرره الهوى، ولم تضلله الأماني، ولم يسمع لكل ناعق، فمن وطن نفسه على السمع والطاعة لما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ألبس ثوب الهداية، وهدي إلى صراط مستقيم، وكان يرى بنور الله، كما في الحديث القدسي عن أولياء الله جل وعلا: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره التي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها). فيرزق التوفيق أولياء الله، وهم المتشبثون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلت الفتن وظهرت هنا وهناك لجئوا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بما عليه جماعة المسلمين كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم. فقد أحاطت بالمؤمنين في المدينة الدوائر، وحاصرهم جيش مسلم بن عقبة المري، وأرادوا بهم خزياً وعاراً، فجمع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع القرآن وهو ينزل عليه، واغترف من هديه وأخذ من مشكاته، جمع بنيه وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج عن الإمام قيد شبر مات ميتة جاهلية)، فنقل إلى أبنائه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يطبق في أمور ويترك في أمور، ومن أن نجعله هوىً نقبله حيناً ونتركه أحياناً، لكن المؤمن الحق الذي يريد ما عند الله يعلم أنه لا مطية توصل إلى دخول الجنة إلا ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقال وهو الصادق المصدوق المبلغ عن ربه: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، إلى غير ذلك من النصوص التي لا يمكن إزالتها عن مواطنها، ولا أن تخرج عن موضعها، ولا أن يقبل بشيء يصادمها، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، كما هو مقرر في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من قبل. بقي أيها المؤمنون! أن نأخذ آية نختم بها هذا اللقاء المبارك، نعظ بها أنفسنا قبل غيرنا، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:13 - 19]. قيل: إن أبا حازم سأله أحد خلفاء بني أمية عن حاله، فقال: يا أمير المؤمنين! اعرض نفسك على القرآن، قال: وأين أجد هذا؟ قال: في قول الله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. ويقول عمر: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

بعض الوصايا التي تعين في السير إلى الله

بعض الوصايا التي تعين في السير إلى الله والسير إلى الله سير كادح ذو مشقة، قال الله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، وقال وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، والوقوف بين يدي الله أمر حتم لازم لا محيد عنه، والسير على طريق الله يحتاج في أول الأمر ومنتهاه إلى توفيق من الرب تبارك وتعالى، وهذه بعض الوصايا فيما يعينك على أن تصل إلى ربك جل وعلا على النحو الذي أراد، والوجه الذي أتم.

تعظيم الله تعالى في السر والعلن

تعظيم الله تعالى في السر والعلن وحتى تكون هناك أعمال سرائر في الخلاء لا بد أن يكون في القلب تعظيم لرب العزة والجلال، لابد أن يكون هناك علم بالله جل وعلا، وهذا ينجم عن تدبر القرآن وتلاوة آياته، فالله يقول: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:42 - 43]، فكلما تذكر الإنسان سعة رحمة الله ازداد أملاً في دخول جنته، وكلما تذكر الإنسان عظيم قدرة الله وأنه له مواطن سخط وغضب خاف من ناره، فإذا تذكر ما لله من صفات الجلال والجمال والكمال زاد حباً لربه تبارك وتعالى، ومن جمع هذه الثلاث: حب الله، والخوف منه، والرجاء فيما عنده وفق إلى صراط مستقيم. هذه أيها المؤمنون! شذرات من تأملات، ومتفرقات من مواعظ، قلتها على عجل، والله وحده المسئول أن ينفع بها. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، إن ربي لسميع الدعاء، وصلى الله على محمد وعلى آله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قراءة الإمام للآيات التي تجلب الخشوع بصورة دائمة

حكم قراءة الإمام للآيات التي تجلب الخشوع بصورة دائمة Q أنا أصلي بالناس فأختار آيات تجلب الخشوع؛ ليخشع المصلي ويحصل على هذا الأجر، فهل هذا من الرياء؟ A مسألة أنه من الرياء أرجو الله ألا يكون رياء، وأنت أبصر بنفسك، لكن لا تستدم اختياراً معيناً، وحاول أن تنهج منهج النبي صلى الله علهي وسلم، فالقرآن كله ذو مواعظ ورقائق، فلا بأس أن تجمع بين هذا وهذا، لكن حاول أن تأتي على القرآن كله، والموفق الله.

بطلان ما يحكيه بعض المفسرين في قصة داود مع بعض جنوده

بطلان ما يحكيه بعض المفسرين في قصة داود مع بعض جنوده Q هل صحيح ما ذكره بعض المفسرين من قصة توبة داود عليه السلام في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]؟ A ما ذكر باطل من كل وجه، فما ذكروه من أنه بعث أحد أمراء جنوده وحصل ما حصل مع زوجته، هذا ينزه عنه آحاد الناس فكيف يرمى به أنبياء الله! فداود عليه السلام منزه عن هذا صلى الله عليه وسلم، فالخبر مكذوب، وما ذكره بعض المفسرين مجازفة منهم رحمة الله تعالى عليهم.

كيفية تحديد الثلث الأخير من الليل

كيفية تحديد الثلث الأخير من الليل Q كيف يحدد الثلث الأخير من الليل؟ A يقسم الليل من غروب الشمس إلى طلوع أذان الفجر ثلاثة أثلاث، وهذا يختلف صيفاً وشتاء، فيكون الثالث الأخير منها أمر واضح بعد ذلك، فلو فرضنا أن المغرب يؤذن الساعة السادسة، والفجر يؤذن الساعة السادسة فهذه اثنا عشر ساعة، فتكون الأربع ساعات الأخيرة من الليل هي ثلث الليل الآخر. لكن لا يحسن جعلها -أي: الصلاة- إلى السحر جداً، أي: لا تكون متصلة بصلاة الفجر، فمن حيث الجواز يجوز، لكن الأفضل أن يكون هناك انفكاك وانفصال ما بين الوتر وما بين أذان صلاة الفجر، ولو كانت هناك ضجعة أو نومة فهذا أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم عن نبي الله داود: (كان ينام نصفه -أي الليل- ويقوم ثلثه، وينام سدسه). والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

لمسة وفاء

لمسة وفاء جعل الله تعالى الدنيا دار بلاء وامتحان، ففيها يبتلي عباده بالغنى والفقر، والصحة والمرض، والعطاء والمنع؛ ليعلم صدق إيمان المؤمنين، ولا زينة يتزين بها أهل البلاء كزينة الصبر وانتظار فرج الله، وسؤاله والتوسل إليه بإظهار الحاجة في كشف الكربات.

الدنيا دار بلاء

الدنيا دار بلاء الحمد لله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وهو الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرته من خلقه وصفوته من رسله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها المؤمنون- ونفسي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما ادخرتم وأفضل ما أسررتم. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. ثم اعلموا عباد الله أن من سنن الله الماضيه وحكمته البالغة ومشيئته النافذة أنه جعل الدار الآخرة دار محاسبة وجزاء، وجعل هذه الدار دار عمل واختبار وبلاء يبتلي فيها عباده ويختبر فيها خلقه.

فضيلة التزين بالصبر

فضيلة التزين بالصبر ألا وإن الصبر أزين ما تزين به المؤمنون فهو الذي أمر الله به خير خلقه وصفوة رسله فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]. وأخبر الله تبارك وتعالى أنه يجزي علية جزاء لا منتهى له فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولما كانت هذه الدار دار ابتلاء كان لابد للمؤمن من أن يتجمل برداء الصبر، وإن رداء الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء لهو رداء عظيم طال ما تزين به الأنبياء واكتسى به الأصفياء والأولياء على مر الدهور وكر العصور. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قلت: يارسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد عليه بلاؤه، وإن كان في دينه رقه ابتلي على حسب دينه)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وما يزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). إن طرق البلاء تتباين، وأنواعه تختلف من شخص إلى آخر، وهي على كل حال تظهر مدى صبر العبد ومدى يقينه بفرج رب الأرض والسماء، ومدى إيمانه بقضاء الله وقدرة خيره وشره، فلا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده.

التوسل إلى الله وانتظار فرجه

التوسل إلى الله وانتظار فرجه كم من زوجين كريمين صالحين مرت عليهما سنين عديدة في الزواج وهما يطمعان في ولد تقر به الأعين، وتزال به الوحشة، فلطالما اشتريا دواء بعد داواء، ولطالما طرقا أبواب الأطباء، ومع ذلك لم ينالا شيئاً ولا حظاً. أيها الزوجان الكريمان: إن انتظار فرج رب الأرباب جل جلاله والصبر على البلاء مما أمركما الله به، وإن لكما في نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام أسوة حسنه بعد أن بلغ من الكبر عتياً، فلما رأى آيات الله القاهرة، وأعطياته المجزلة على مريم بنت عمران طمع ذلك النبي والعبد الصالح في فرج أرحم الراحمين جل جلاله، فدعا الله بقلب نقي وصوت خفي في مكان خلي: رب {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6] فتوسل إلى الله بضعفه وعجزه وقد خط الشيب في رأسه، وتبرأ من حوله وقوته، ولجأ إلى حول وقوة رب العالمين جل جلاله {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، توسل إلى الله الذي أنعم عليه سابقا بأن ينعم عليه لاحقا. أيها المؤمنون! إن التوسل إلى الله بإظهار العبد لفقره وتبرئه من حوله وقوته وطوله، واستناده إلى حول وقوة جبار السموات والأرض جل جلاله، لهو من أعظم الوسائل عند الله جلا وعلا، فإن ذلك مما يرزق الله به العباد ويفرج الله تبارك وتعالى به الشدائد. واعلموا أن ما يدفع الله أعظم وأن ما عند الله من خير هو أبر وأتقى وأكرم، فسبحان الله وبحمده، كم من أب رزق مولوداً قرت به عينه، حتى إذا زالت به الوحشة واطمأنت إليه النفس، وتمنى عليه الأماني، وازدادت فيه الرغبات فجع بموته وأخبر بفقده.

عزاء المبتلين بفقد الولد

عزاء المبتلين بفقد الولد أيها المؤمن: تعز بهذا البشارة العظيمة عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام الحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل ذات يوم ومعه ابن له، فقال عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل أتحبه؟ فقال الرجل: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه) يبين شدة حبه لولده. ثم فقده صلى الله عليه وسلم أياماً فسأل أصحابه قال: ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فلما وجده صلى الله عليه وسلم قال له: (أما يسرك ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك؟! فقال الصحابة: يا رسول الله! أله خاصة أم لنا كلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم -وهو المخبر عن ربه-: بل لكم كلكم). إن في هذا أعظم العزاء لمن ابتلي بفقد الولد، وإن لله جل وعلا ما أعطى ولله ما أخذ، فالله الله في الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء.

عزاء المبتلين بالكرب والأسقام

عزاء المبتلين بالكرب والأسقام كم من مؤمن قعيد فراشه، أسير بيته، قد يئس منه الأطباء وأقعده المرض، وأشفق عليه الأحبة، وإن له في قول رسول الله صلى عليه وسلم: (إن الرجل لتكتب له عند الله المنزلة فلا يبلغها بعمله، فما يزال الله يبتليه حتى يبلغ به منتهاه) وله في أيوب عليه الصلاة والسلام وما فرج الله عنه، وما حكى الله عنه في كتابه أجزل القدوة وأعظم الأسوة، وله في أبي بكر رضي الله تعالى عنه يوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف الصلاح في الأمة وقد أنزل الله جل وعلا قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ألست تحزن؟! ألست تمرض؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به). إن في هذا تفريجاً كبيراً لمن ابتلي بكرب أو مرض من المؤمنين، على أنه ينبغي للعبد أن لا يقنط من رحمة الله وأن لا ييأس من عفوه وفرجه، فليسأل كاشف الغم وفارج الهم، ومجيب دعوة المضطرين أن يرحمه، فإن الله أرحم من سئل وأكرم من أعطى.

عزاء المبتلين بالفقر

عزاء المبتلين بالفقر كم من مؤمن كثير العيال، قليل المال، رقيق الحال، تحتبس الدمعة في عينه إذا رأى منظر أولاده مع أولاد الجبران لما يرى من فرق بينهم، ولكنه لا يملك حول ولا قوة. أيها المؤمن! إن الله بنى هذه الدنيا على غنى وفقر، وعلى شدة ورخاء، وعلى عسر ويسر، واعلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأريعين عاماً. ولك -أيها المؤمن- في سلوة قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أهل الجنة: (أهل الجنة ثلاثة)، وقال في آخرهم: (وعفيف متعفف ذو عيال).

منزلة الإيمان بالقدر ومراتبه

منزلة الإيمان بالقدر ومراتبه أيها المؤمنون! إن الصبر على المكاره، وانتظار فرج الله تبارك وتعالى منقبة عظيمة، وخصلة حميدة، واعلموا أنه لا يتم إيمان عبد بقضاء الله وقدره خيره وشره حتى يتم له الإيمان بأصول أربعة: أولها: الإيمان بعلم الله جل وعلا للمعدوم والموجود، وعلم الله للممكن والمستحيل، وأن الله علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وثانيها: الإيمان بأن الله كتب كل شي قبل أن يخلق الخلائق، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه) فما من مصيبة تقع إلا وقد كتبها الله أزلاً في اللوح المحفوظ. وثالث ذلك: الإيمان بمشيئة الله الشاملة، وقدرته النافذة، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. أما رابعها فهو الإيمان بأن الله خالق كل شيء، أوجده وكونه وصيره على هيئته، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]. وصفوة القول أن الصبر رداء جميل، فتزينوا به في العسر واليسر، وتزينوا به في السراء والضراء، جعلني الله وإياكم ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فاجعة فقد الصالحين

فاجعة فقد الصالحين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم واتبع سنتهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المؤمنين! فإن أعظم ما يمكن أن تصاب به الأمة أن تفقد خيار رجالاتها، وأهل العلم والمروءة الكاملة فيها، ولقد فجع الأمة عامة وأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بفقد رجل طال ما وقف في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله على بصيرة، كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، فجعت أمة المسلمين بوفاة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن صالح رحمه الله تعالى. وإن في الموت لعبرة لمن يعتبر، ذلك أن الشيخ طالما وقف في المحراب يصلي على أموات المسلمين، ويدعو لهم بالمعفرة والرحمة، وقبل أيام معدودة يقدمه الناس فيصلون عليه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة، إنها سنة الله الماضية في الخلق، فسبحان الحي الذي لا يموت، سبحان من يفنى خلقه ويبقى وجهه. رحل ذلك الشيخ بعد أن ترك مآثر خالدة، وترك معالم بينة، بعد أن طوف في محراب رسول الله عليه وسلم أكثر من أربعين عاماً، يتلو كتاب الله جل وعلا. بلد الرسول قباؤه وعقيقه قبر أبر على عظامك حاني يبكيك فيه شيوخه ورجاله عند الصلاة وحين كل أذان يبكيك فيه منائر وأهلة والمنبر الشرقي ذو الأركان أنا لست أبكي فيك شخصا غائبا بل أبكي فيك معاقل الإيمان أبكي الإمامة والخطابة والتقى أبكي القضاء ونبرة القرآن في ذمة الله الكريم وحفظه وظلال خلد وارف وأمان ألا وصلوا وسلموا على أعظم من أصبتم بفقده، على نبي الهدى ورسول الرحمة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على صفيك من خلقك، وخليك من عبادك، اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص -اللهم- منهم الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، اللهم ارض عن هذا الجمع المبارك معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم خص شيخنا بمزيد من الرحمة يا حي يا قيوم، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

وقفات مع سورة الأعراف

وقفات مع سورة الأعراف سورة الأعراف من أعظم السور التي ضمت بين جوانحها كثيراً من الآيات العظيمة، والعبر الكريمة، والمواعظ الرحيمة، وقد تنوعت آياتها في المواضع التي تطرقت لها وتحدثت عنها، لكنها تشابهت في عظمتها وكريم معانيها.

بين يدي سورة الأعراف

بين يدي سورة الأعراف الحمد لله الذي ليس كمثله شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحي حين لا حي، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن القرآن العظيم هو أعظم ما أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي حوى صوراً عظيمة تتضمن عظات بالغة، وآيات محكمة. وفي هذا اللقاء المبارك وقفات مع سورة الأعراف أو مع بعض آياتها، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا فيها وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

ذكر الميزان في سورة الأعراف

ذكر الميزان في سورة الأعراف سورة الأعراف مكية. ومما جاء في آياتها قول ربنا جل وعلا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]، هذا الوزن الذي أخبر الله جل وعلا عنه يكون يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وقد دل الكتاب والسنة إجمالاً على أن للميزان كفتين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فطاشت السجلات ورجحت البطاقة)، لكن اختلف العلماء، في ما الذي يوزن: فقال بعضهم: الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق عبد الله بن مسعود: (أتعجبون من دقة ساقيه؟ لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)، وقال آخرون: إن الذي يوزن هو العمل نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقال آخرون: إنما تجعل الأعمال في صحائف وتوزن الصحائف، واحتج أصحاب هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضعت السجلات في كفة والبطاقة في كفة فرجحت البطاقة وطاشت السجلات)، والذي يظهر والعلم عند الله أن كل هذا صحيح، فيوزن العمل وصاحبه، وتوزن صحائف العمل، ثم يكون بعد ذلك أو قبله أخْذ الناس لكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم.

بيان أن التكذيب بالله ورسوله سبب كل نقمة وبلاء

بيان أن التكذيب بالله ورسوله سبب كل نقمة وبلاء قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40]. القلوب أوعية، والتصديق بكلام الرب تبارك وتعالى هو مفتاح الدخول إلى رحمته، كما أن التكذيب بالله جل وعلا وبما جاء عن الله والتكذيب برسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه هو سبب كل نقمة وبلاء، قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]، فالتكذيب بكلام الله جل وعلا سبب لكل بلاء وهو عنوان الكفر، والتصديق بما جاء عن الله والعمل به هو عنوان الإيمان، والله هنا يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا))، فهم لم يصدقوا بها أصلاً، وأعرضوا عنها إعراضاً، قال الله بعدها: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ))، والسماء خلق من خلق الله، وهي طباق يركِّب بعضها بعضاً، خلقها الله جل وعلا وجعلها سقفاً محفوظاً، تمر عليها أعمال بني آدم، فكم من عبد صالح على فراشه يرفع من العمل ما تفتح له أبواب السماء، وكم من عبد لم يعرف الله طرفة عين لا يرفع له عمل ولا تقبل له دعوة حتى إذا مات هذا وهذا بكت السماء والأرض على من فقدت الطريق إلى عمله، فإن العمل الصالح يرفع حتى يصبح له باب معين في السماء يغدو من خلاله عمل ابن آدم، فإذا عرف العبد عند أهل السماء بالعمل الصالح والطاعة فمات وفقد ذلك الموضع من السماء عمله فيبكي عليه، ولهذا قال الله عن أهل الوبال والخسران والكفران: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وهنا يقول الله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ))، ثم علق الله ذلك بالمحال في لفظ تعرفه العرب، إذ أن من صنعتها أساليب الكلام قال الله جل وعلا: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ))، وكل من أعطي عقلاً ولو مسكة منه، أدرك أنه لا يمكن للجمل أن يدخل في سم الخياط.

ذكر حوار أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف في السورة

ذكر حوار أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف في السورة ثم ذكر الله تبارك وتعالى جملة من النداءات تكون يوم القيامة، قصها الله جل وعلا سرداً؛ يتذكر بها المؤمن ويتعظ بها التقي، ويعرف كل من أراد وجه الله مآله، إن طبق ما جاء فيها من عمل، قال الله وهو أصدق القائلين يخبر عن أمر لم يكن بعد: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]، قال العلماء: دخل طاوس بن كيسان على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان، فتلا عليه هذه الآية: فصعق هشام، فقال طاوس رحمه الله: هذا ذل الخبر، فكيف إذاً بذل المعاينة؟! وقد أنزل الله على ألسنة رسله أمراً ووعداً على الإيمان بالله ورسله، والوعد على الإيمان هو الجنة، وأنزل نهياً حذر منه، وجعل على من تجاوزه وعيداً هو النار، فإذا آل أهل الجنة إلى الجنة -جعلني الله وإياكم منها- وآل أهل النار إلى النار -أعاذنا الله وإياكم منها- تحقق الوعد والوعيد لكلا الفريقين، فينادي أهل الجنة أصحاب النار كما حكى الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45]. من أعظم ما يمكن أن يتحلى به عبد من السفال والوبال أن يكون ممن يصد عن سبيل الله جل وعلا. ثم ذكر الله نداء آخر، قال الله جل وعلا قبلها: {وَبَيْنَهُمَا} [الأعراف:46] أي: بين أهل الجنة والنار: {حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ} [الأعراف:46]، ظاهر القرآن أنها أماكن مرتفعة؛ لأن العرف في لغة العرب هو: ما علا وارتفع. {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا} [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، هذا إخبار بحال أهل الأعراف. والمقصود من هذا: أن الإنسان إما إلى خير وإما إلى شر، وإن عجز فعلى الأقل أن ينتسب إلى أهل الخير أو أن يحاول أن يبتعد عن أهل الشر، فالله جل وعلا يبين هنا أن أصحاب الأعراف باختيارهم وإرادتهم ينظرون إلى أصحاب الجنة، فإذا نظروا إليهم وقد استقروا في الجنة نادوهم، قال الله: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا} [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] أي: يطمعون في دخولها؛ لأنهم أعطوا نوراً وذلك النور لم يطفأ بعد، فبقاء النور في أيديهم يجعل الطمع في قلوبهم يعظم في أنهم سيدخلون الجنة. ثم قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:47] أسندها الله -كما يقول النحويون- إلى ما لم يسم فاعله، لم يقل الله: إن أبصارهم تصرف بإرادتهم، وإنما قال: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ}، هؤلاء الأخيار الذين على الأعراف لا يريدون أن يروا حتى أهل النار فضلاً على أن ينتسبوا إليهم. {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47] أنخ مطاياك هنا أيها المبارك وتأمل! فهؤلاء قوم النور في أيديهم، والجنة على مرأى من أعينهم ومع ذلك يبقى لديهم خوف أن يدخلوا النار، ولا يمكن لأحد مهما استقام قلبه، وحسن عمله، وصلحت سريرته أن يأمن مكر الله، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فهؤلاء من أصحاب الأعراف هم على تلال مشرفة من الجنة، والله يذكر عنهم خيراً ويثني عليهم، ومع ذلك يعلمون أن النجاة أبداً لا تكون إلا بيد الله وبالالتجاء إلى الله. قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:47] يصيبهم في قلوبهم الفزع والخوف، ويرون على أصحاب النار الذل والهوان، وليست الآخرة دار عمل، ولا يمكنهم أن يعملوا طاعة حينها، فلا مفر من غير الالتجاء إلى الله: {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، فإن رأيت أحداً ممن ابتلاه الله بمعصية فاحذر من شيء وتمسك بشيء؛ احذر من أن تشمت به، فإنك لا تدري لعل الله يهديه ويضلك، فهذا ما تحذر منه، وتمسك بأن تسأل الله العافية من مثل هذا الصنيع، قال الله على لسان أصحاب الأعراف: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)). ذكر قال الله نداء لأهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، الماء في الدنيا كما أنه أعز مفقود فإنه أذل موجود، ومع ذلك لا يتمنى أهل النار شيئاً أعظم من تمنيهم للماء، قال الله عنهم: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ))، فيكون A (( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا)) أي: الماء والطعام: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)). ثم جاء الوصف لأصحاب النار: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].

ذكر إقامة الحجة على العباد في السورة

ذكر إقامة الحجة على العباد في السورة ثم بين الله أنه أقام الحجة على عباده، والحجة أقيمت بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والأمة المحمدية ما أقيمت عليها حجة أعظم من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هذا القرآن الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:52 - 53] وتأويله في الآية ليست بمعنى تفسيره، وإنما تأويله أي: يقع ما أخبر الله عنه من وعد ووعيد، وما كان يوماً ما في طيات الغيب يراه الناس عياناً. قال الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53]، أي: يقع ما أخبر الله عنه، وهذا لا يكون بكماله وتمامه إلا في عرصات يوم القيامة، قال جل وعلا: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف:53].

ذكر عظم الله وكمال قدرته في السورة

ذكر عظم الله وكمال قدرته في السورة فلما أراهم الله عاقبة أعمالهم وكان الله بعباده غفوراً رحيماً، عرفهم الله جل وعلا بنفسه، وبين لهم جل وعلا أن مقاليد كل شيء بيديه، وأن الخلق خلقه والرزق بيده؛ حتى تنكسر قلوبهم وتذرف عيونهم وتقشعر جلودهم، فقال بعدها جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54] كلمة رب تشعر الإنسان أنه في حفظ أحد عظيم، ولا أحد يحفظ ويكلأ مثل الله، فكلمة رب في معناها وفيما تضيفه على سامعها غير كلمة إله، فكلمة إله تضفي على السامع أنه يجب أن يعبد، أما كلمة رب فتضيف على السامع أنه في حفظ وكلأ، ولهذا قال الله جل وعلا لموسى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] حتى يشعره بالأمن والطمأنينة، ثم بعد أن أعطاه الرسالة قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، فطالبه بالعبودية بعد أن قال له: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ))، وهنا يقول الله: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ))، وهو قادر جل شأنه على أن يخلقها في أقل من ذلك لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن قال العلماء: أراد الله جل وعلا أن يبين ويعلم عباده التؤدة والسكينة في الأمر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، العرش سقف المخلوقات، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، والملائكة الذين يحملونه إما ثمانية صفوف وإما ثمانية أفراد، قال الله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، واستواء الله جل وعلا على عرشه نثبته من غير بيان كيفيته، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، لكن نقول كما قال الأخيار من قبلنا: استواء يليق بجلاله وعظمته، لكن يجب أن يستصحب ذلك أن تعلم أن ربك غني عن العرش وغني عن حملة العرش، بل إن العرش ومن يحمله من الملائكة ومن يطوف حوله وسائر الخلق كلهم فقراء إليه جل وعلا. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] يقول العلماء: إن الله خلق الليل قبل النهار، قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، ومعنى: ((يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ))، أي: يغطيه بظلامه. ثم قال جل وعلا: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] وهذه الأشياء خلق من خلقه، يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر وقد نظر إلى الشمس: (أتدري أين تذهب؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي عند العرش فتسجد، ثم تستأذن ربها فيأذن لها، حتى يأتي يوم فتستأذن فلا يؤذن لها، فتطلع على الناس من المغرب، هنالك تؤمن كل نفس لم تكن آمنت من قبل)، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. فربنا هنا يقول: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ففرق الله ما بين الخلق والأمر، وهذه أحد أدلة أهل السنة على أن القرآن منزل غير مخلوق، ففرق الله جل وعلا ما بين خلقه وبين أمره، فبعض الأشياء خلقها الله خلقاً، وبعض الأشياء كانت أمراً، والقرآن من أمره جل وعلا؛ لأنه كلامه تبارك وتعالى وصفة من صفاته، كما أن ذات الله لا يشبهها شيء، فكذلك صفات الله لا يشبهها شيء، قال الله جل وعلا: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] أي: تقدس وتعاظم وتعالى، واللفظ (تبارك) لا يخاطب به أحد غير الله، لا يقال لغير الله: تبارك، كائناً من كان، فلا تقال لمحمد عليه الصلاة والسلام ولا لجبريل ولا لإخوانه من النبيين، ولا لإخوان جبريل من الملائكة عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. والقرآن منزل من عند الله لا يمكن أن يرقى أحد إلى أسلوبه وبيانه، فلما عرَّف الله بذاته العلية دعا الله جل وعلا عباده إلى أن يدعوه. قال الله جل وعلا: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ} [الأعراف:54 - 55] أي: ربكم الذي عرفكم بنفسه قبل قليل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، فأما قوله جل وعلا: ((تَضَرُّعًا))، هذا حال من قلب الداعي؛ أن يدعو الإنسان يدعو وهو منكسر ذو وجل، وهو يرغب من الله جل وعلا أن يجيبه، ويطمع في رحمة ربه، يعرف أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن مقاليد كل شيء بيديه، ويقول جل وعلا: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً))، وهذا حال الداعي، وكلما كان الداعي يدعو في مكان مستتر كما دعا زكريا عليه الصلاة والسلام في مكان خلي بقلب نقي وصوت خفي: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، كان أجدر في أن يجيبه الله. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبدُ الله شيئاً أخبر الله أنه لا يكون، فمثلاً الله جل وعلا أخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا يأتي أحد يطلب من الله النبوة، مع أننا نعلم جميعاً أن الله قادر على أن يجعلنا أنبياء، لكن الله جل وعلا ختم النبوات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الاعتداء في الدعاء أن يطلب الإنسان هذا وأمثاله، ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)).

ذكر خلق الناس من نفس واحدة وبيان حالة التضرع لله في حال الضراء

ذكر خلق الناس من نفس واحدة وبيان حالة التضرع لله في حال الضراء قال الله جل وعلا بعدها في آيات أخر من هذا السورة المباركة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189]، النفس المذكورة هي: نفس آدم، وآدم عليه السلام نبي مكلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (قيل: يا نبي الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم)، فالله يقول: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ))، والخطاب للناس، ((مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) هي نفس آدم عليه الصلاة والسلام، ((وَجَعَلَ مِنْهَا)) أي: من نفس آدم: ((زَوْجَهَا))، وكلمة زوج في الآية المقصود بها. أمنا حواء، خلقها الله جل وعلا من أحد أضلاع آدم، قال الله معللاً: ((لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا))، فالبيوت ينبغي أن تبنى على الطمأنينة والسكينة، ثم ينتهي الخطاب القرآني هنا عن آدم وزوجه، ويأتي الخطاب عن جنس البشر لا عن آدم ولا عن زوجته، قال الله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، ثم قال: ((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا))، وهذا انتقال في الخطاب لا يمكن أن يطبق على آدم؛ لأن ما سيأتي بعده داخل في منظومة الشرك، وأنبياء الله منزهون عن الشرك، فقال الله تبارك وتعالى: ((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ)) أي: الزوجة: ((حَمْلًا خَفِيفًا))، وهذه أولى درجات الحمل. ثم قال ربنا وهو الخالق: ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) أي: ازداد الحمل وهناً على وهن، وأصبح الذين كانوا بالأمس يستبشرون بالحمل يخافون اليوم من آلام الولادة، يخافون أن يفقدوا الزوجة، فيصبح في الناس شدة خوف، فيقول الله جل وعلا: ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا)) أي: تضرعا إلى الله بسلامة المولود وصلاحه وهما: الأب والأم، ((لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)). قال الله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190]. قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يبينها الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيء)، فالله يقول: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولما ذكر الله القرآن، قال لمن كذب القرآن قال: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء:107]، فإيمان الناس بالقرآن لا يزيد القرآن كمالاً، وكفر الناس بالقرآن لا يورث القرآن نقصاً؛ فالقرآن من عند الله آمن به من آمن وكفر به من كفر، والله جل وعلا غني عن الشركاء غني عن الطاعة لا تضره المعاصي، فقال الله جل وعلا: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا))، وهذا كما قلت: لا يمكن أن ينزل على آدم. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]. إن من أعظم ما بينه القرآن: أن قضية الخلق فيصل، فالله جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق، وبما أنه جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق فلزاماً أنه لا ينبغي أن تفرد العبادة إلا له تبارك وتعالى، ولهذا لما أراد الله أن يقيم الحجة على خلقه قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:190 - 191]، كيف يشرك ويساوى ما بين مخلوق لا يخلق مع الخلاق العظيم جل جلاله؟! ومن جملة ما دلت عليه الآية: أن الإنسان جُبِل على التضرع إلى ربه في الضراء، حتى أهل الكفر، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، والضراء في الغالب لا تميز المؤمن من الكافر، لكن يميز الكافر من المؤمن إذا انتهى الضر ورفعت البلوى بقدر الله، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12]، وأولياء الله والعارفون به والمؤمنون به؛ يعبدونه جل وعلا، ويتضرعون إليه في السراء والضراء، كما قال ابن قدامة: ما الذي على لوح ترفعه أمواج البحر وتضعه بأفقر إلى الله جل وعلا منك وأنت في مكانك هذا. فحاجة أي أحد إلى الله جل وعلا سواء، فالإنسان لو دخل قصور الملوك، وبيوت الأثرياء، ودهاليز أهل الثراء هو فقير إلى الله كفقر من هو في البحر على لوح لا يمكن أن يستغنى عن الله طرفة عين، وعندما يعرف العبد أنه في أعظم حاجة إلى ربه، فهو الذي عرف ربه حقاً؛ لأن معرفة العبد بفقره إلى الله يورثه انكساراً، والانكسار يورثه عبادة، لعله بعبادته لربه يستجلب رحمته ويستدفع نقمته، فإذا رفعت البلوى والضر تميز من كان يعبد الله على بصيرة ممن كان يعبده لعارض، تقول العرب: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا قامَ

ذكر لقاء موسى ربه في السورة

ذكر لقاء موسى ربه في السورة قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:143]، موسى هو كليم الله وصفيه، وهو ابن عمران، بعثه الله جل وعلا إلى فرعون وإلى الملأ من قومه من بني إسرائيل، وهذا الإخبار الذي قاله الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} كان في صحراء التيه، وموسى عليه الصلاة والسلام والملأ الذين معه خرجوا إلى صحراء التيه بعد خروجهم من أرض مصر، قال الله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] وموسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن في مصر؛ لأن بني إسرائيل استوطنوا مصر بعد أن جاء يعقوب بدعوة من ابنه يوسف، ثم تناسلوا، فأمر الله موسى بقوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، فسرى بعباد الله المؤمنين ليلاً، وجاوز البحر، فأتبعه فرعون بجنوده بغياً وعدواً فأغرقه الله، فلما مكثوا في أرض التيه، أمرهم نبيهم: أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وامتنعوا عن الجهاد، قال الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25 - 26]. في تلك الحقبة الزمنية قبل أن يموت موسى وبعد أن نجا من البحر، أعطاه الله جل وعلا موعداً قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] فصامها عليه الصلاة والسلام كما يقول أهل التفسير، وكانت شهر ذي القعدة، ثم إنه استحيا أن يلقى الله وعليه خلوف فم الصائم فطعم، فلما طعم عاقبه ربه وليس عقاباً الذنب، لكن لخلاف الأولى، فزادها الله عشراً، فصام عشراً، فكان الميقات مكانياً وزمانياً، أما الميقات الزماني فلم يذكره القرآن، لكن أهل التفسير يقولون: إن موسى كلم ربه في اليوم العاشر من ذي الحجة، وأما الميقات المكاني فإن الله ذكره في القرآن: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} [طه:80]، فإن الله جل وعلا كلم موسى عند جانب الطور الأيمن التكليم الثاني؛ التكليم الأول كان وقت البعثة، والتكليم الثاني كان بعد النجاة من البحر، قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:142 - 143] لميقات زماني ومكاني ضربه الله له. قال الله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فالله جل وعلا كلم موسى تكليماً يليق بجلاله وعظمته وقد سمعه موسى ووعاه. أعطي موسى منزلة أحب أن يرتقي إلى أعلى منها، قال الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ثم من باب التعزية والتسلية له قال له ربه: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف:143] إذا بالجبل تسيح هضباته وتدك صخراته، فلما رأى موسى ما حل بالجبل قال كما حكى الله عنه: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وصعق بمعنى: أغمي عليه: {فَلَمَّا أَفَاقَ} [الأعراف:143] أي: من صعقته، {قَالَ سُبْحَانَكَ} [الأعراف:143] تنزيهاً لله عما لا يليق به: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: وأنا أول من يؤمن أنك لن ترى في الدنيا، أو ((وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) من بني إسرائيل، تحمل على عدة محامل. رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، وفي الآخرة جائزة وواقعة عقلاً وشرعاً، ومعنى هذا: أن الله قادر في الدنيا على أن يعطينا قدرة نراه فيها، فهي من حيث العقل يمكن أن نقول: إن الله قادر على أن يعطينا قدرة أن نراه فيها هذا معنى الجواز العقلي، ممتنعة شرعاً؛ لأن الله قال: ((لَنْ تَرَانِي))، فدل الشرع على أنها لن تقع، وهذا الأمة كلها متفقة عليه، وبقيت الرؤية في الآخرة وقد ذكر القرآن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، فهي جائزة عقلاً؛ لأنها إذا كانت في الدنيا جائزة عقلاً فمن باب أولى أن تكون في الآخرة جائزة عقلاً، لكنها في الآخرة زيادة واقعة قدراً وشرعاً؛ لأن الله جل وعلا أخبر أن عباده المؤمنين سيرون ربهم تبارك وتعالى. {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] فذكر الله منته على هذا الكريم. {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف:144] أي: اجتبيتك واخترتك، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام ليس أفضل الخلق كلهم، وإنما المراد بكلمة الناس هنا: أهل زمانه. {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144] والشكر من أعظم مناقب أولياء الله الصالحين.

قواعد في شكر الله

قواعد في شكر الله وللشكر قواعد نجملها فيما يلي: أولها: أن يستقر في القلب أن النعمة من الله. والثاني: أن يلهج اللسان بذكر الله لها وأن يعرَّف العبد بها غيره: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. وألا تستعمل في معصية الله، وأن تستعمل في طاعة، فهذه من حيث الإجمال قواعد الشكر. قال الله جل وعلا بعد أن من على آل داود: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] إلى أن قال جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فالله جل وعلا يفيء على عباده النعم ويطالبهم بالشكر، مع علمه تبارك وتعالى ومع علمنا أن الله جل وعلا غني عن شكر الشاكرين كما حررناه سابقاً، لكن شكر العبد يعود عليه، كما قال الله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12]. قال الله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].

وقفة مع قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية)

وقفة مع قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية) قال الله جل وعلا في آيات بعدها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]. هذه وصية من رب العالمين لنبينا صلى الله عليه وسلم في المقام الأول بأن يكثر من ذكر الله، وذكر الله جل وعلا: حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر؛ أمر الله به عباده على كل حال، وقال العلماء لو كان ذكر الله يستثنى منه أحد لاستثنى الله منه زكريا يوم أن قال له ربه: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، ثم قال له: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، ومن أحب الله حقاً أكثر من ذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون! قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). وختم الله هذه الوصية بقوله: ((وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ))، والغفلة أن يكون في الإنسان ميل وجنوح عن ذكر ربه أو عن عبادة ربه إجمالاً، وللغفلة أسباب قد تكون علمية محضة لا تصلح في موعظة.

وقفة مع قوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته)

وقفة مع قوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) ثم لما بين الله جل وعلا لنبيه وأرشده إلى أن يكثر من ذكر الله ذكر له أنموذجاً من عباده الصالحين الذين يذكرون ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] هذه آخر آية في سورة الأعراف وأول آية فيها سجدة في القرآن نقف عندها كثيراً. قال الله: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)) (عند) مكانية، والملائكة الأصل أن أمكنتهم -أي: مساكنهم- السماء، كما جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله! ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)، والملكوت الأعلى ملكوت إيماني تعمره الملائكة؛ العرش تحمله الملائكة، وحول العرش طائفة أخرى تطوف، ثم لكل سماء خزنتها، والملائكة لهم آداب عامة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، فهم يستحيون عظيم الحياء من ربهم، يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث النواس بن سمعان: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بما شاء من الأمر، ثم يمضي على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير). والملائكة منهم أعلام معروفة كجبريل وإسرافيل وملك الموت وميكال ومالك وهو أحد خزنة النار، وهاروت وماروت وهذان ابتلى الله جل وعلا بهما أهل بابل، وغيرهم ممن نعلم ما وكل إليهم وما أسند إليهم، لكننا لا نعلم أسماءهم؛ ولكن نقول بالجملة: إن الملائكة يتفقون مع الجن في أننا لا نراهم، ويتفق الجن معنا أن كلينا مكلفان، والملائكة والجن كلاهما عقلاء مثلنا، فنتفق الثلاثة في أننا جميعاً عقلاء: الإنس والجن والملائكة، ونختلف في أن الجن والإنس يتفقان أنهما مكلفون والملائكة غير مكلفين. والجن تحكمهم الصورة، والملائكة لا تحكمهم الصورة، والمعنى: لو أن جنياً تشكل في هيئة مخلوق، ثم قتل ذلك المخلوق فإنه يموت الجني في الهيئة التي تشكل بها، وأهل العلم يقولون: لو أن ملكاً تشكل في هيئة كمثل جبريل لما تشكل في صورة رجل تام الخلقة لـ مريم، لو قدر جدلاً أن أحداً طعنه فإنه لا يموت، فالصورة لا تحكمه كما تحكم الجني، وأحد التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه في بيته في المدينة وهو يصلي، فمكث ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فنظر في عراجين البيت فإذا حية فهمَّ الرجل الذي ينتظر أبا سعيد أن يقتلها، فأشار إليه أبو سعيد أن مكانك، فلما فرغ من صلاته أخذ بيده وأخرجه من الدار وأشار إلى بيت غير بعيد، قال: انظر إلى تلك الدار، قال: نعم، قال: إنها كان يسكنها رجل منا معشر الأنصار، فلما كان يوم الأحزاب كان هذا الرجل حديث عهد بعرس، فكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عند الخندق ويستأذنه إذا أمسى، فيأذن النبي له؛ لأنه حديث عهد بعرس، فذات يوم قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ معك -أو عليك- سلاحك فإني أخاف عليك بني قريظة -أخاف عليك غدر اليهود- فأخذ الرجل سلاحه ومضى إلى بيته، فلما أتى الدار إذا بزوجته خارج الدار، فأصابته الحمية والغيرة وسل سيفه، فقالت: لا تعجل -أي علي- وأشارت إليه أن ادخل الدار، فدخل فإذا حية قد التفت على فراشه، فأخرج سيفه فضربها، قال أبو سعيد رضي الله عنه وهو يحكي الخبر عن هذا الرجل، قال: فلا يدرى أيهما أسبق موتاً، أي: الرجل الأنصاري الضارب أو الحية فكلاهما مات في آن واحد، فلما علم صلى الله عليه وسلم بهذا قال: إن لكم إخواناً من الجن يعمرونها -أي البيوت- فإذا رأيتم مثل هذا فلا تقتلوه حتى تحرجوا عليه ثلاثاً)، هذا شاهد على قول من يقول: إن الجني تحكمه الصورة، لكنني لا أعلم دليلاً على قول من يقول: إن الملك لا تحكمه الصورة، لكنه من ناحية العقل قريب جداً، أما في النقل فلا أعلم له دليلاً كما قلت. والملائكة تعرف معنى البشارة فيفرحون بحمل البشارات إلى الناس؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم رزق من زوجته خديجة ستة أولاد؛ أربعة إناث واثنان ذكران: عبد الله والقاسم وكلاهما مات قبل البعثة، وهما صغيران، فبقيت البنات الأربع، والبنات الأربع ثلاث منهن توفين في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق له أحد من ظهره الشريف إلا فاطمة فزوجها علياً، وإن كان تزويجها لـ علي قبل وفاة أخواتها وقد زوجها بعد انصرافه من بدر لـ علي، فأنجبت الحسن والحسين من علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلما أنجبت تعلق صلى الله عليه وسلم بـ الحسن والحسين كونهما كانا ابناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له أولاد يدرجون في بيته الطاهر، فكان يحبهما ويضع كل أحد منهما على فخذ ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، ويخرج لهما لسانه ويداعبهما بإخراج لسانه لهما، وينزل من المنبر ليحملهما، فهذا يصل خبره إلى الملكوت الأعلى، فتنافس الملائكة في أن تنقل البشارة لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة: (أرأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ ملك نزل الليلة من السماء لم ينزل قبل، استأذن ربه في أن ينزل من السماء ليسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، فهذه من علاقة الملائكة عليهم السلام مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكن أعظم الملائكة علاقة معه جبريل، وجبريل شخصية في منتهى العظمة بقدر الله، فإن جبريل يحمي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث: (أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يعفر وجهه بين أيديكم لأفعلن وأفعلن، فلما سجد صلى الله عليه وسلم جاءه أبو جهل ثم تراجع، قال عليه الصلاة والسلام: لو أقدم علي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)، وفي بعض الروايات ما يؤكد أن جبريل هو الذي دفع أبا جهل، وفي ساحة القتال في يوم بدر كان جبريل يقود الملائكة، وكما أن جبريل ولي لرسول الله في الجانب العسكري فإنه ولي له في الجانب العلمي، يقول صلى الله عليه وسلم يسأله الصحابة: (ما أحب الأماكن إلى الله؟ قال: المساجد. قالوا: وما أبغضها إلى الله؟ فسأل جبريل، فقال له جبريل: الأسواق)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهو شخصية عسكرية وشخصية علمية، وفي نفس الوقت شخصية عبادية، (لما مرض صلى الله عليه وسلم كان جبريل يرقيه ويقول: باسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك)، فيبقى يرقيه عليه السلام، وهو في المقام الأول ينزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب جبريل حباً عظيماً. وهو الذي كان معه رفيقاً في هجرته، وجبريل كان يعلم الصحابة مادة الدين؛ ويعلمهم الطريقة التي ينقلون بها الدين، سيأتي حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، وهذا لا يجتمع في وصف أحد؛ لأن أهل المدينة من الصحابة آنذاك يعرف بعضهم بعضاً، فالذي قدم من قريب من بيته من داره مترجلاً شعره ليس عليه أثر سفر، بياض ثيابه شديد هذا يدل على أنه قادم من أهل المدينة، أما الأعراف الذين يأتون من خارج المدينة لابد أن يرى عليهم أثر السفر، لكن هذا الجالس شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب وفي نفس الوقت لا يعرفه منا أحد، (ثم أسند يديه إلى ركبتيه، قال: أخبرني عن الإيمان) عن الإسلام عن الساعة، وجبريل هو الذي نزل بهذا على رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكنه أسلوب في التعليم. وأوكل الله جل وعلا إلى ميكال النزول بالقطر من السماء، وإسرافيل أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، وملك الموت أوكله الله جل وعلا بقبض الأرواح، وهؤلاء المباركون كلهم يجتمعون في أنهم كما قال الله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، والسجود لله جل وعلا أعظم منقبة ولهذا حرم الله جل وعلا على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود. هذا وعظ على وجه الإجمال حول سورة الأعراف نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله. وصلى الله على محمد وعلى آله. والحمد لله رب العالمين.

نصرة خاتم الأنبياء

نصرة خاتم الأنبياء لقد أساءت الصحافة الدنماركية إلى خير الخلق ورسول الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم بنشر الصور المسيئة إليه، ومن واجب المسلم أن ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية وفي المجال الذي يحسنه.

كيفية نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

كيفية نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

كيف تنصر الأم رسول الله صلى الله عليه وسلم

كيف تنصر الأم رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم: الأم في بيتها لها مسئوليتها كعضو من أعضاء الأسرة المسلمة، فماذا ينبغي عليها تجاه الأبناء في تغذيتهم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول للإنس والجن، رسول للرجال والنساء، رسول للكبار والصغار، رسول للأغنياء والفقراء، رسول العرب والعجم والفرس والروم وغيرهم من الأمم في الأرض، فهو رسول للناس كافة صلى الله عليه وسلم، فهذا يقتضي أن على المرأة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم وأن تدعو بنات جنسها لحبه صلى الله عليه وسلم، وأن تكون هي مقتدية برسولنا صلى الله عليه وسلم في عباداته وأخلاقه وصفاته. أتت امرأة إليه الله عليه وسلم فقالت: اجعل لنا يوماً من نفسك يا رسول الله، فأعطاهن صلى الله عليه وسلم يوماً، حتى إنه صلى الله عليه وسلم علم المرأة شئونها الخاصة من مسائل الطهارة ومسائل الحيض والغسل من الجنابة، المسائل التي تتعلق بالأخلاق مثل تبرج المرأة وكالنكاح وأموره والطلاق والحضانة وغير ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى المرأة من حياته وقتاً طويلاً، واحتفى صلى الله عليه وسلم واهتم بالمرأة، وهو الذي نادى بحقوقها عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أثبت لها الحق الكامل صلى الله عليه وسلم.

نصرة رسول الله بتربية الطلاب على سنته

نصرة رسول الله بتربية الطلاب على سنته المقدم: ما الذي يمكن أن يفعله المربي والمعلم من خلال مسيرته التعليمية ومسيرته التربوية، فإننا نفتقد مسألة التوعية بالمصطفى صلى الله عليه وسلم التعريف به والتعريف بسيرته وبالتالي إسقاطها على تصرفاتنا وأفعالنا! الشيخ: ببساطة ويسر أقول للمربي: إذا لم تحبب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طلابك فاعلم أنك فاشل في أداء هذه المهمة الملقاة عليك، فإذا كنت تدرس هذه المواد فأول ما يجب عليك أن تحببهم في الإمام القدوة عليه الصلاة والسلام، وإذا لم تستطع أن تقول كلاماً فعليك أن تتمثل بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلابك من الصبر والحكمة والتواضع وحسن الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك نصرت الرسول عليه الصلاة والسلام بكيانك وشخصك. أيضاً: أنا أتساءل: إلى أي وقت يدخر الكتاب والصحفيون ورجال الإعلام أقلامهم وبلاغتهم وأدبياتهم؟ إذا لم يبهرهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستول على قلوبهم، وإذا لم يحز على حبهم، فمن هو الشخص البديل؟ سيد الخلق عليه الصلاة والسلام نبي خاتم ومعصوم ورسول من عند الله، ثم هو سبب نجاتك الآن. في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل على الغلام اليهودي فأسلم اليهودي قال: (الحمد لله الذي أنقذه الله بي من النار)، فدل هذا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب في إخراجنا من الظلمات إلى النور، وفي إنقاذنا من النار ودخولنا الجنة، فهذا السبب الأعظم، فاجعل بينك وبينه علاقة بأن تعلم سيرته وسنته وأن تكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم. اقرأ كيف كان يصلي وحاول أن تقتدي بكيفية صلاته صلى الله عليه وسلم، حقق أخلاقه، وحدث إخوانك وزملاءك وطلابك عن هذا الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم.

نصرة رسول الله بالدعوة إلى دينه

نصرة رسول الله بالدعوة إلى دينه المقدم: أليس من الانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم أن ندعو إلى هذا الدين وإلى ما جاء به عليه الصلاة والسلام بالطرق السليمة والوسائل التي أمرنا بها ربنا جل وعلا فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. أقرأ هنا نصاً قصيراً للأديب الإنجليزي برنارد شو في كتابه (محمد)، هذا الكتاب الذي أحرقته السلطة البريطانية؛ يقول: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد. وهنا أيضاً عدد من المقولات لبعض المنصفين. ألا ينبغي أن نكون أكثر حكمة وأكثر هدوءاً في دعوتنا حتى نستهدف بها هؤلاء المنصفين كي نستميلهم إلى ديننا. الشيخ: بلا شك أن مثل هذه الأقوال تثبت للعالم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح -حتى عند من يخالفه عليه الصلاة والسلام أو يعاديه- هو رجل الإنسانية وهو الإمام الأفضل عليه الصلاة والسلام وهو القدوة، حتى أن مايكل هارت الذي ألف كتاب العظماء المائة جعل العظيم الأول محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أعرف وأعلم أن الأمريكان سوف يغضبهم هذا، لكن ماذا أفعل؟ هي الحقيقة تفرض نفسها. وغيره كثير ممن اعترفوا بهذا كـ غوستاف لوبون وكـ كريسي ميرسون وغيرهم. ولكن ماذا فعلنا نحن أمام هذا الميراث الخالد الذي ورثه لنا عليه الصلاة والسلام، فإنه أعطانا أمانة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (وبشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين)، فدل على أنا بعثنا بمبعثه صلى الله عليه وسلم، يعني: نحن تكلفنا حمل هذه الرسالة ولنا الشرف، فماذا فعلنا في هذا الميراث يجب أن الذي ننشره للناس. الآن اليهودي يدعو لليهودية مع العلم أنها محرفة وملغاة ومنسوخة برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنصراني يدعو للنصرانية مع العلم أنها منسوخة ومحرفة وملغاة برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك البوذي، فكيف بالمسلم الذي هو على الحق والدين الخاتم والدين الوسط، حتى يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

نصرة رسول الله بالصلاة عليه وتعلم سنته والعمل بها

نصرة رسول الله بالصلاة عليه وتعلم سنته والعمل بها المقدم: إذا عرفنا وسمعنا ما حصل من هذه الصحف التي صدر منها هذه الأفعال المشينة، فأنا كمسلم عادي عامي كيف يمكن أن أنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: كلنا يقاطع فيما يستطيع وفيما يقدر عليه وما وهبه الله سبحانه وتعالى، الإنسان العادي من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يقوم بحقوقه الشرعية، من كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، واتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي العبادة، وفي الخلق الكريم وصلة الرحم وحقوق الجار، وذكر فضائله في المجالس على حسب القدرة والطاقة، وإدخال حبه في البيت على الزوجة والأبناء، وتعليم سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم، وذكر قصصه. مجالسنا لابد أن يكون فيها الشيء الكثير من حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نتشاغل بحياة غيره أكثر من حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام؛ ولأن دخولنا الجنة مرهون باتباع هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، ثم أقول لأهل المواهب: اتقوا الله، فموهبة لا ينصر بها الحق لا بارك الله فيها! صاحب الأدب ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بمقالة أو بمقامة أو قصيدة، الصحفي المثقف الذي يصبح فيقول: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً، يجب عليه أن ينصر هاديه. ثم نتساءل: ما هو سر فخرنا وسؤددنا وعزتنا وعظمتنا إلا هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، نحن قبل رسالته صلى الله عليه وسلم كنا أعراباً ليس لنا تاريخ ولا مجد كما يقوله الأئمة. بعض القوميون الغلاة يقولون: مجدنا قديم نشأ قبل الرسالة. والصحيح أن مجدنا بدأ من محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فحق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نعترف، بهذه الحقية بالدفاع عنه والذب عن عرضه عليه الصلاة والسلام ونشر سيرته وفضائله في الناس، وأن نعلن غضبتنا. إذا لم نغضب للرسول صلى الله عليه وسلم فلا خير فينا، بل تصير هذه الأمة جثة محنطة، ونعترف أنها أمة مهزومة إذا لم تنتصر لرسولها العظيم صلى الله عليه وسلم.

نصرة الرسول بالمقاطعة للدنمارك

نصرة الرسول بالمقاطعة للدنمارك المقدم: لقد أثير في عدد من مواقع الإنترنت أن بعض الشركات قاطعت المنتجات الدنماركية ونحن حاولنا البارحة أن نتصل ببعض هذه المؤسسات وهذه الجهات لكي نتأكد من الخبر ونوثقه قبل أن نعلنه ويصبح دعاية إعلامية دون أن يكون هناك تطبيق عملي، فنريد أن تعلقوا على مسألة التفعيل الإعلامي وعلى كل أصولها؟ الشيخ: أولاً أشكر صاحب السمو الأمير نايف بن ممدوح وهو داعية قبل أن يكون (مسئولاً)، وأشكره على جهوده وعلى طرحه وعلى محاضراته وندواته التي يقوم بها، وفكرته في القناة فكرة رائدة، وأنا أريد أن تضم جهود هذه القنوات مع بعضها مثل المجد وغيرها، وإذا خرجت لنا القنوات الإسلامية تحمل هذا المفهوم وهذه الفكرة الرائدة في إصدار الصوت الإسلامي المعتدل الصحيح للناس فهو خير إلى خير. وأيضاً أنا أضم صوتي لأنني لست مع العواطف السلبية التي قد تثمر ردات فعل لا يحمد عقباها؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] كل حركات طائشة وعابثة غير مسئولة لا تنصر الإسلام، إنما ينصره العقل في محله والقوة في مكانها، وينصره الموقف المشرف، وأن تتخذ الإجراءات المناسبة. ثانياً: أشكر رجل الأعمال الأخ حسن المهدي على مواقفه، وليست بأول مواقف أبي محمد، فله سابقة في الإنترنت والمواقع، وقاد حملة ضد أهل الإلحاد والزندقة والذين يقدحون الثوابت، ونشكره على موقفه هذا في مسألة الدفاع عن حبيبه وحبيب الكل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. وأحب أن أشكر رجال الأعمال الذين قاموا بمبادرات المقاطعة، فاليوم كلمت بعد الظهر رجل الأعمال عبد الله العثيم وشكرته؛ لأنه قاطع وأكد ذلك، فلله الحمد والشكر. وفي الطريق أناس وعدوا، وقد كلمهم بعض المشايخ والعلماء فوعدوا أن تكون منهم مقاطعة، وأنا أتمنى أن تكون المقاطعة رسمية وشعبية.

تحفيز الهمم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

تحفيز الهمم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم المقدم: فضيلة الشيخ! نتيجة لهذه الحادثة التي حصلت، وهذا الاستهزاء الحاصل، هبت كثير من الجهات الدعوية والخيرية لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أود منكم شيئاً من الحفز والدعم لهؤلاء القائمين على بعض المؤسسات الدعوية وغيرها في استنهاض همم كوادرها، وأيضاً في استحضار الطرائق الجديدة والجميلة التي يمكن أن تنتج أعمالاً راقية للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشيخ: من هذا المنبر الرائد في إصدار الفكرة الإسلامية والدعوة أقول: ينبغي أن نقوم بأعمال. في النصرة، أنا أطلب من إخواني أئمة وخطباء المساجد في مساجد المملكة أن يخصصوا الخطبة غداً للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعذر أحد، هل يحدثنا الخطيب غداً عن حق الجار أو آداب المشي إلى الصلاة، أو عن مسألة من المسائل الاجتماعية، أو عن ظاهرة الطلاق، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يتعرض للاستهزاء أمام العالم والسخرية ولا يغضب، غداً سوف تكون الخطبة عنه صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أرى أنه يجب على كل كاتب مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويجيب الأذان إذا أذن، أن يخصص مقالة للدفاع عنه صلى الله عليه وسلم. وأرى أن على القنوات أن تخصص أوقاتاً لاستثارة الهمم. وأرى أن على رجال الأعمال والغرفة التجارية أن يكون لها قرار، وقبل ذلك هيئة كبار العلماء يكون لهم قرار مسموع ومقروء من الاستنكار وينشر في الناس. أرى أيضاً أن تكون هناك مراسلة إلى سفارات هذه البلدان، والكتابة عبر الإنترنت والإبراق والاتصال بالمسئولين، وإخبارهم بمشاعر الناس وغضب الناس واستياء الناس بما حصل، حتى يجتمع الجهد الدبلوماسي الرسمي من الدولة مع الجهود الشعبية. أنا أدعو رجال الأعمال والتجار الذين يخافون أن يغضب عليهم سبحانه وتعالى إذا رآهم يتعاملون مع هذه الأمة التي أهانت رسولهم واستهزأت بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أدعوهم أن يعلنوا المقاطعة وسوف يغنيهم الله من فضله. أحد المقاطعين يقول: الآن المقاطعة تبلغ ما يقارب المليار في المنتجات الدنماركية، فأقول للبقية: وأنتم ماذا تنتظرون، أفبعد أن أهين الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزأ به يفرح بمال ويفرح بثروة! لا بارك الله في ثروة تأتي بذلة عن طريق الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم وعدم الغضب لسيرته وسنته وشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم.

محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نود منكم أن تسبحوا بنا في بحر من الإيمان وفي بحر من العلاقة مع الله سبحانه وتعالى والحب للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فتفضلوا بارك الله فيكم. إن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جل وعلا به وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله. وإن مما أفاءه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله صلوات الله وسلامه عليه حظنا من النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت حين وضعته أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، فصلوات الله وسلامه عليه. والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق، كما قال: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة، إلا من رحمة الله جل وعلا بنا أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا الله جل وعلا يوم القيامة في زمرته. نسمع المؤذن كثيراً يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجليل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا أمر قد مضى بقدر الله جل وعلا، ونحن دائماً وأبداً مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره، فقد فاتنا شرف الصحبة وبقي لنا شرف الاتباع. أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد وشخصية فريدة، وعبد أثنى الله جل وعلا عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب، قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه، مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه. كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسمى، وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام، كل ذلك من احتفاء الله وإظهار كرامة هذا النبي عند ربه جل وعلا، ولقد قال الله على لسان الخليل إبراهيم أنه قال لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه؟

وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم

وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ننقل ما وصفه به أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم الذين من الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه، وجملة ما قالوه: أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً. كما أنه كان صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف أجلى الأجبهة، في جبينه صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب، فإذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً. وكان أزج الحواجب في غير قرن، أشم الأنف، طويل أشفار العينين، ضليع الفم -أي: كبير الفم- مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته هنا صلوات الله وسلامه عليه. وكان عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة، من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره. إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله، وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه! من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه، يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه. ونحن على ما قال علي من المصدقين المؤملين. فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه. عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ، ثم نبئ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده، وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور وهو أفضل الخلق عند الله جل وعلا، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة وحملت سلا الجزور عن أبيها. وهو عند الله في المنزلة العالية والدرجة الرفيعة والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه. أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً، لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح، فليس في القرآن (يا محمد) إنما في القرآن: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، كل ذلك من دلائل عظيم مقامه وجليل شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى. عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى ثم عاد في نفس الليلة، ثم بعد ثلاث سنين أو أكثر أو أقل هاجر إلى المدينة، فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام. مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده، شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه وكسرت رباعيته وهو ينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله)!. في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، فأنزل الله عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه، وفي أوائل شهر ربيع من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة وهي تقول: وارأساه، فقال: (بل أنا وارأساه!)، ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته لنبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى. ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة وهو يقول: ({وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى! قالها ثلاثاً)، ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. هذه على وجه الإجمال سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن وصفه ممن علق الله جل وعلا قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى، فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين، ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأهل السماء، صلوات الله وسلامه عليه، قال شوقي ونعم ما قال: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم إلى أن قال: يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيال من الرمم

وصف الرسول الكريم

وصف الرسول الكريم لقد خص الله تعالى نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بجمال الخلقة والخُلق، فمنحه منهما أعلى نصيب وأوفر حظ، ولذا كانت أخلاقه مفتاحاً لقلوب الناس للدخول في دين الله، حيث صبر على الأذى والعنت وتحلى بالرحمة حتى بلغ الأمر إلى حيث أراد الله، فنسأل الله تعالى أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأن يرزقنا الاستمساك بشريعته، وأن يحشرنا في زمرته.

بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم الكمال في الخلق والأخلاق

بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم الكمال في الخلق والأخلاق الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن لنبينا صلى الله عليه وسلم في الصفات الَخلْقية والخُلُقية أعظم نصيب وأحظه، وهو الإمام فيها، وصدق القائل: فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو إن إنسانا تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء

ذكر صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقية

ذكر صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلْقية أما الصفة الخلقية فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لم تكتحل أعيننا وأعينكم برؤيته، ولكنه عليه الصلاة والسلام كما قالت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها لما سألها محمد بن عمار بن ياسر فقال: يا أمه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل القمر. وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه -كما عند مسلم في الصحيح- قال: (خرجت في ليلة أضحيان -أي: القمر فيها مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهو عندي أجمل من القمر). فنبينا عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر، أي: أن شعره ليس مسترسلاً ناعماً ولا ملتوياً، وفي جبهته عليه الصلاة والسلام عرق يدره الغضب، إذا غضب في ذات الله يمتلئ هذا العرق دماً، وكان صلى الله عليه وسلم أزج في غير قرن، ومعنى (أزج): دقيق شعر الحواجب، (في غير قرن) أي: لم يكن حاجباه، ملتصقين أشكل العينين، أشم الأنف، ضليع الفم، مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب في شعره ندرة، أي أنه متفرق، ففي رأسه منه قليل، وفي صدغه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجميع شيبه لا يكاد يتجاوز عشرين شعرة، وكان أبيض مشرباً بحمرة، وبياض اليدين وأسفل الساقين كأنه يميل إلى السمرة؛ لتعرضه للهواء، وداخل الإزار أبيض ناصع البياض، قال أنس: (كأني أرى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر) كأن عنقه إبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين، ما بين كتفيه من الخلف إلى جهة الشمال شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض ناتئات عن الجسد قليلاً، كأنهن بيضة حمامة عرفت بخاتم النبوة، ومن الوهدة -وهي الثغرة التي في النحر- إلى أسفل سرته خيط ممتد، أي: شعر على هيئة خيط ممتد، يعبر عنه عند الرواة بأنه دقيق المسربة، ليس في صدره ولا بطنه شعر غيره، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس، أي: عظام المفاصل، إذا مشى يتكفأ تكفؤاً، كأنما ينحدر من مكان عال، بمعنى أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه، وإذا أشار أشار بيده كلها، وإذا ناداه أحد التفت ببدنه الشريف كله، ولا يلتفت برقبته فقط، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه، وقال: سبحان الله! وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه (كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه، من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه، عمر ثلاثةًً وستين عاماً، ولد وأبوه متوفى في أظهر أقوال العلماء، وأمه آمنة بنت وهب من بني زهرة الذين منهم سعد بن أبي وقاص، فكان نبينا عليه السلام إذا رأى سعداً يقول: هذا خالي، فليرني امرؤ خاله. وعاش في كنف أمه ست سنين، أربع منها كان فيها مع مرضعته حليمة في بادية بني سعد، ثم أرجع إلى أمه، وكانت شفيقة رفيقة به، فلما مر على قبرها بالأبواء وقف على قبرها وبكى، فسأله الصحابة: ما يبكيك؟ فقال: (هذا قبر أمي آمنة، فقد سألت الله أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وسألته أن أزور قبرها فأذن لي، فلما زرت قبرها تذكرت رقتها علي)، فبكى صلوات الله وسلامه عليه، وبكى الصحابة معه تبعاً لبكاء نبيهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

دعوة رسول الله الناس إلى الدين وصبره على الأذى

دعوة رسول الله الناس إلى الدين وصبره على الأذى فلما دنا من الأربعين كان لا يرى الرؤيا إلا وتقع مثل فلق الصبح، ثم نبئ (إقرأ) على رأس الأربعين، ثم أرسل بالمدثر بعد ذلك، قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4]، فأخذ يدعو الناس إلى دين الله بعد أن نبأه الله وبعثه وأرسله، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً، فوضع على رقبته وهو ساجد وهو خير الخلق عند الله سلا الجزور، ولم يقدر أحد ممن آمن به آنذاك على أن ينصره، فقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آنذاك مؤمناً يرى الأمر ولا يقدر على النصرة، حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وحملت سلا الجزور عن أبيها وأبوها عند الله سيد الخلق، ولكنها سنة الابتلاء الماضية، فلما رفع رأسه عليه السلام نظر في القرشيين، فدعا عليهم، قال عبد الله بن مسعود: والله لقد رأيت من دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في قليب بدر. فاستجاب الله دعوة نبيه، فلما اشتد عليه أذى القرشيين خرج إلى الطائف فصده أهلها، حتى قال قائلهم: ألم يجد الله أحداً يبعثه غيرك؟! فرجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأوبه الله جل وعلا في طريقه من الطائف إلى مكة، وفي الطريق أخذ يدعو الله، فلما قست قلوب الإنس عن أن تقبل كلامه ألان الله لنبيه قلوب الجن، فلما سمعوا القرآن وهو أطيب كلام من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أطيب فم مخلوق رقوا ودخل الإيمان في قلوبهم، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، أي: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كانت الجن يركب بعضها بعضاً من عظمة ما يسمعون، وقال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31]، اللهم اجعلنا من المجيبين لدعوته.

إذا وقعت الواقعة

إذا وقعت الواقعة لقد احتوت سورة الواقعة على معانٍ عظيمة، وأخبار هادفة، في روائع بلاغية، وسياقات بديعة، كما هو حال كلام القيوم العليم والقرآن العظيم، ولقد أخبر الله عز وجل فيها عن أهوال يوم القيامة، وأخبار أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم، وتحدث الله كذلك فيها عن قدرته وخلقه، وعن قيمة هذا القرآن العظيم، وعن آخر لحظات عمر الإنسان وتفاصيلها، في عبارات جزلة موجزة، لا تمل ولا تكل منها القلوب والألسنة، فهل من متعظ مدكر؟!

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة)

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة) الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، ونقول كما قالت الملائكة بين يدي ربها: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، ونقول كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ونقول كما قال ربنا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. أما بعد: فإن من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده أن يصرفهم إلى تدبر كتابه الكريم؛ فإن كلام الله جل وعلا كلام لا يعدله كلام، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]. وفي هذا اللقاء سنعرِّج معكم -أيها المباركون- على سورة الواقعة، نقف فيها مع مواعظ ما أشد أثرها، ومع لطائف يحسن أن ندونها، ومع أقوال لأهل هذا الشأن جميل أن نحفظها، وسورة الواقعة -أيها المؤمنون- سورة مكية. قال الله جل وعلا في أولها وهو أصدق القائلين: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3]، ثم قال جل شأنه: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7].

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة إلى قوله: فكانت هباء منبثا)

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة إلى قوله: فكانت هباء منبثاً) أما قول الله جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1]، فالواقعة: اسم من أسماء يوم القيامة، كما دلت الآيات على ذلك، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14 - 15]. وقول ربنا جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1 - 2] اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى (كاذبة) في هذه الآية: فقال فريق منهم: إن كاذبة: مصدر جاء على هيئة اسم الفاعل، كقول العرب: عافية، بمعنى: مُعَافَاة، وقولهم: عاقبة، بمعنى: عُقْبَى؛ وعلى هذا التحرير يصبح المعنى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2]، أي: ليس لوقعتها كذب، أي: أن وقوعها حق لا مرية فيه، وهذا القول من قول أئمة أهل الشأن يؤيده قول الله جل وعلا: ? {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87]، ويؤيده قوله الله جل وعلا حكاية عن الصالحين من خلقه: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9]. القول الثاني: هو أن قول الله جل وعلا: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] أن كاذبة هنا: صفة لموصوف محذوف، والتقدير: إذا كان يوم الواقعة، إذا كان يوم القيامة فلن تكون هناك نفس كاذبة لما ترى، أي لا توجد نفس تكذب ما ترى، ويؤيده قول الله جل وعلا: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، لكن الأول أظهر، والعلم عند الله. قال سبحانه: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]، اتفق العلماء على أن قوله: (خافضة رافعة) يعود على يوم القيامة؛ إذ أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خافضة رافعة، لكن الإشكال وقع في ماهية الذي يُخفض والذي يُرفع؟ والجواب عن هذا: أن لأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم في هذا ثلاثة أقوال: القول الأول: إنها تخفض أهل الكفر إلى النار، ويؤيده قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وترفع أهل الطاعات إلى أعالي الجنان، ويؤيده قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]. والقول الآخر: إنها تخفض من كان مرتفعاً بطغيانه في الدنيا، وهو قريب من القول الأول، وترفع من كان الناس يحتقرونه في الدنيا لإيمانه، وأصحاب هذا القول يؤيدهم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36]. القول الثالث -وهو أرجحها عندي والعلم عند الله- أن المعنى: أن هناك أجراماً تكون خافضة فيرفعها الله، وأجراماً تكون مرتفعة فيخفضها الله لشدة أهوال يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2]، وقال ربنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]. فهذه أقوال أئمة أهل الشأن في هذه الآية، وأرجحها -كما قلنا والعلم عند الله-: أنها تتعلق بالأجرام الكونية، وكيف أن يوم القيامة يوم عظيم ينجم عنه ما ذكرناه وذكره الله جل وعلا من قبل في كتابه فقال: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]، ثم ذكر الله جل وعلا بعض أهوالها فقال: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:4 - 5]، ومن الممكن أن يكون البَسُّ هنا بمعنى: سُيِّرت، وقد جاء القرآن بهذا المعنى، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]. وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن معنى قول الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:4 - 5]: على أن البَسَّ هنا: أنها تصبح كالعهن المنفوش، وقد ذكره الله جل وعلا في سورة القارعة. فإذا أردنا أن ننيخ المطايا هنا عند الجبال، فالجبال خلق من خلق الله، يتعجب منها رائيها، وقد صح في الخبر الصحيح: (أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، ثم جعل الله جل وعلا الجبال عليها رواسي فتعجبت الملائكة من ذلك فقالت: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الجبال؟ قال الله: نعم، الحديد، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الحديد؟ قال الله تبارك وتعالى: نعم، النار، قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من النار؟ قال ربنا تبارك وتعالى: نعم، الماء، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الماء؟ قال الله جل وعلا: نعم، الريح -لأن الريح تحمل الماء- قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من الريح؟ قال الله جل وعلا: ابن آدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). ولما كانت الجبال تُرى كان بدهياً أن يسأل عنها الناس، قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]، لكن نسفها آخر المطاف، وإنما تمر بأحوال وأطوار قبل أن تنسف، قال الله جل وعلا كما مر معنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88]، وقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، فتمر بمراحل وأطوار حتى تصل إلى أن تذهب بالكلية، لكن الله جل وعلا أرشد إلى أن الجبال لها وضع آخر؛ كونها من أعظم مخلوقاته، فإن النصارى -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- نسبت إلى الله الولد فرية وبهتاناً وكفراً، وما عرفوا قدر ربهم جل وعلا، فأخبر الله جل وعلا أن الجبال على عظيم خلقتها تستنكر هذا الأمر وتستعظمه، ولا يمكن أن تقر به، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:89 - 93]، ولما أراد الله جل وعلا أن يبين لكليمه موسى ضعفه وعجزه في الدنيا عن أن يرى الله قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وذكر الله جل وعلا نبيه وعبده الصالح داود عليه السلام، وذكر ربنا أنه آتاه صوتاً رخيماً، ثم لما كان يتلو الزبور ويذكر الله جل وعلا كانت الجبال على عظيم خلقتها تتجاوب معه، قال ربنا جل شأنه: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18 - 19]، ولا أعلم حديثاً ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجبال في الجنة إلا حديثا واحداً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطفال المسلمين في جبل في الجنة في كفالة إبراهيم وسارة يَرُدُّوهم يوم القيامة إلى آبائهم)، هذا الذي أستحضره الساعة من السنة في ذكر الجبال في جنات عدن، رزقنا الله وإياكم إياها. قال الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7]، ثم ذكر الله جل وعلا أولئك الأزواج، وكلمة زوج في اللغة: هو كل فرد انضم إلى غيره، فهذا يسمى: زوجاً ولو كان فرداً.

تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة إلى قوله: إلا قيلا سلاما سلاما)

تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة إلى قوله: إلا قيلاً سلاماً سلاماً) قال الله جل وعلا: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] ثم فصَّل، فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:8 - 11]، فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يَرغب فيهم الراغب، ثم قال: ? {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9]، حتى يَرهب الناس أن يكونوا مثلهم، ثم قال جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10]، حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى درجة السابقين. قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، وتأمل -أيها المبارك- لطف الله جل وعلا بعباده، وفضله وإحسانه جل ذكره على خلقه، قال تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، ولم يقل: المتقربون، حتى يفهم أن ما هم فيه فضل من الله تبارك وتعالى، وليس شيئاً حَصَلوا عليه بأنفسهم، وإن كان عملهم الصالح وإيمانهم إنما هو في أول الأمر وآخره فضل من الرب تبارك وتعالى. قال ربنا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:10 - 16]، ثم ذكر بعض نعيمهم، ونعيمهم جاء مفرقاً في آيات أخر، لكن مما يعنينا هنا أن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِيْن} [الواقعة:10 - 18]، فجمع جل وعلا الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؛ لأن العرب كان في سننها وأعرافها: أنها إذا شربت الخمر تشربه على ثلاثة أحوال: إما أن تضعه في أكواب، وهي: ما لا عروة له ولا خرطوم، فجمعه الله جل وعلا؛ لأنهم كانوا يضعون فيها الخمرة. ثم قال جل وعلا: {وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:18] وهو: ما له عروة وخرطوم، فهذا يسمى: إبريقاً ويجمع على أباريق، وقد كانوا يضعون فيه الخمر. ثم قال جل وعلا: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] فأفرد الكأس؛ لأن العرب كانت تشرب في كأس واحد يتناولها الأول والآخر بعده، هكذا في مجلسهم ومجلس شرابهم، لكن شتان ما بين مجالس أهل الدنيا ومجالس أهل الآخرة، فخمر الدنيا ينغصها أمران: الأول: أنها تنفد وتنتهي. والأمر الثاني -وهو أجل- مما ينغصها: أنها تذهب العقل، فإذا ذهب العقل حدث من الإنسان الافتراء والتطاول على ربه والتضييع لدينه؛ ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: (أم الخبائث)، لكن خمر الآخرة يقول الله جل وعلا فيه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، أي: أنها لا تنفد، وهذا معنى قوله: {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، ولا يسكرون منها، وهذا معنى قوله جل شأنه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]. ثم قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20]، وأردف قائلاً: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]، وهنا قدّم الفاكهة على اللحم، ومعروف أن سنن الناس في طعامها: أنهم يقدمون اللحم على الفاكهة، لكن الفرق بين الحالين أن أهل الدنيا إنما يأكلون في الأصل لسدِّ الجوع، أما يوم القيامة في جنات النعيم؛ فإن أهل الجنة لا يأكلون لسد الجوع بل للتلذذ؛ لأن الجنة لا جوع فيها، فلا يأكلون لسد الجوع، وإنما يأكلون للتفكه والتلذذ، فلما كان أكلهم الأصل فيه أنه للتلذذ والتفكه جعل الله جل وعلا الفاكهة مقدمة على عين الطعام، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21]، وهنا خصَّ ربنا لحم الطير دون غيره؛ لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام، ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد، فإنما يحصل للملوك غالباً إذا نفروا أو ذهبوا للصيد، فأخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض، إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة، رزقني الله وإياكم الجنة. قال الله جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:20 - 24]. حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء جسداً، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة الواسعة العينين مع سواد فيها، {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24]. ثم قال جل وعلا -بما يسميه البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم- قال جل شأنه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين إلى قوله: (وثلة من الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين إلى قوله: (وثلة من الآخرين) ثم أردف جل وعلا في ذكر أصحاب اليمين فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:27 - 30] وهي آيات ظاهرات المعنى، فالسدر في جنات النعيم لا شوك فيه، والطلح المنضود هو: شجر الموز، وذكر الله جل وعلا بعض النعم التي ينعم بها جل شأنه على أهل طاعته من أهل اليمين إلى أن قال الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] ثم قال: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38] لا خلاف بين العلماء أن قول الرب جل شأنه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]، عائد على النساء، لكن Q هل هذا المذكور يعود إلى شي قد ذكر من قبل أو لم يذكر؟ على قولين لأهل العلم: من حمل قول الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ} أنها بمعنى: النساء، أصبح المعنى عنده: أن قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة:35] يعود على النساء المذكورين في قوله جل شأنه: {وَفُرُشٍ} فيصبح معنى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، أي: مرفوعة قدرًا، مرفوعة مكانةً، مرفوعة منزلةً، على أن الفرش هنا بمعنى: النساء، وهذا معروف في لغة العرب وسنن كلامها. وقال آخرون: إنه لا يعود إلى مذكور، لكن القرائن والمقام يدل عليه، فإن الفرش إنما توضع ليتفكه بها المرء مع زوجته، ويتكئ عليها معها، فقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] قالوا: لا يعود إلى مذكور، لكن هناك قرينة تدل على أنه يعود على النساء، وهو قول الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، لأن الفراش يطلق على فراش الزوجية في الغالب. ثم قال جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ} [الواقعة:35 - 36] والأصل أن الفعل (جعل) هنا بمعنى: صيّر، فإذا قلنا: إنه بمعنى صيّر خلافاً للمعتزلة {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] فلا يمكن أن يُطلق على الحور العين المخلوقات في الجنة؛ لأن المرأة على أصل خلقتها تكون بكراً، فلا يصح معنى: أن يقول الله جل وعلا فصيّرناهن أبكاراً، وهن أصلاً أبكار، لكن قول الله جل وعلا: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36]، يعود على النساء المؤمنات اللواتي دخلن الجنة وهن ثيبات، فقول الله جل وعلا: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] أي: صيّرناهن ونقلناهن من حالة كون إحداهن ثيباً إلى كونها بكراً. ثم قال عز وجل: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، فعرباً أي: محببات إلى أزواجهن، وأتراباً: جمع ترب، والمعنى: أنهن نداد في الأسنان، يعني: كلهن على سن واحدة. قال جمهور العلماء ويؤيده بعض الآثار: إن المعنى أنهن في سن ثلاث وثلاثين والعلم عند الله، وهذا المعنى القرآني هو الذي سلّه جرير في قوله: أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح تقول العاذلات علاك شيب أهذا الشيب يمنعني مراحي؟ يكلفني فؤادي مَن هواه ظعائن يجتزعن على رماح عراباً لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح فقول الله جل وعلا: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، هذا وصف لما أعده الله جل وعلا لأهل طاعته، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق دخل على إحدى عشر امرأة، لم يكن منهن بكر إلا عائشة، والباقيات رضوان الله تعالى عليهن كانت كل واحدة منهن ثيباً، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، فقد ماتت اثنتان من زوجاته صلى الله عليه وسلم في حياته: خديجة بنت خويلد ولم يكن قد تزوج عليها امرأة، وزينب الهلالية رضي الله عنها وأرضاها ماتت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بثمانية أشهر، فبقين هؤلاء التسع هن اللواتي نزلت في حقهن آية التخيير، وهن اللائي مات النبي صلى الله عليه وسلم عنهن، وآية التخيير ذكرها الله جل وعلا في سورة الأحزاب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، فبدأ صلى الله عليه وسلم بـ عائشة وكانت أحب نسائه إليه وقال: (يا عائشة! إنني سأخبرك بأمر فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويكي) فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي؟ ثم تلا عليها صلى الله عليه وسلم آية التخيير، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، لكنها طمعاً في أن تنفرد به صلوات الله وسلامه عليه، ولا تثريب عليها قالت: لا تخبر أحداً من زوجاتك بما أجبتك به، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني معلماً ميسراً، ولم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، لا تسألني إحداهن عن جوابكِ إلا أخبرتها)، فأخبرهن صلى الله عليه وسلم واخترن جميعاً رضوان الله تعالى عليهن النبي صلى الله عليه وسلم والله من قبل والدار الآخرة كما جاء نص القرآن، وهؤلاء التسع منهن خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم، من أشهرهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وجويرية بنت الحارث وهذه من بني المصطلق ليست من قريش، وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير من ذرية هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام، وغيرهن كـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين.

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) ثم قال الله جل وعلا ذاكراً الصنف الثالث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41 - 45]. أما قول ربنا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44] فإن العرب -كما ذكر الطبري في تفسيره- في جريان كلامها تأتي في النفي بلفظ (كريم)، فتقول: هذه الدار لا واسعة ولا كريمة، ويقولون: هذا اللحم لا سمين ولا كريم، فكلما نفوا صفة معينة متعلقة بالموصوف أردفوها بقولهم: كريم، فجاء القرآن على سَنَنِهم ونسقهم في الكلام، قال الله جل وعلا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44]، ثم قال ربنا: {إِنَّهُمْ} أي: أصحاب الشمال {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} [الواقعة:45 - 47]، وطالب العلم إذا تأمل هذه الآيات مقارنة بالصنفين الأولين يجد فرقاً واضحاً: وهو أن الله جل وعلا لم يذكر أسباب تكريم السابقين، ولم يذكر أسباب تقريب أهل اليمين، ولكنه لما ذكر أصحاب الشمال ذكر أسباب تعذيبهم! أي: أنه لما ذكر أصحاب اليمين ذكر النُعمى عليهم، ولم يذكر لأي سبب أنعم عليهم، ولما ذكر قبلهم السابقين ذكر النُعمى والفضل عليهم، ولم يذكر أسباب حصولهم على ذلك النعيم، لكنه عندما تكلم -جل شأنه وتبارك اسمه- عن أصحاب الشمال عدد الأسباب فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:45 - 47]. والجواب عن هذا أن يقال: لقد جرت سنة القرآن أن يذكر الله أسباب العقاب ولا يذكر أسباب الثواب؛ لأن الثواب فضل لا يمكن أن يتوهم القدح في المتفضل به، وأما العقاب فمقام عدل لابد أن تُوْضَحَ فيه الأسباب حتى لا يُظن بالحاكم والقائم على الأمر ظلم. وأظن أن المعنى قد تحرر بهذا. قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا} [الواقعة:45] أي: أصحاب الشمال ? {قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وليس هذا سبب رئيس في تعذيبهم؛ لأن الترف لوحده قد لا يصل إلى حد الكفر، لكن الله قال بعدها: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] وهو الشرك، ثم قال الله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47]، وما أجمله الله هنا بيّنه الله في مقام أوسع في سورة الإسراء، فإن أهل الإشراك كانوا يستبعدون البعث والنشور ويجعلونه أمراً لا يمكن أن يقع بحال، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79]، لكن هذا كله يدور حول التراب، وقد أخبر الله جل وعلا عنهم في سورة الإسراء: أنهم استبعدوا البعث بعد أن يكونوا عظاماً أو تراباً، ومعلوم أن بني آدم مخلوقون من تراب، فليس لهم شأن أن يستبعدوا أن الله جل وعلا يعيدهم من التراب الذي خلقهم منه، لكن الله جل وعلا ليُظهر لهم كمال قدرته، وجليل عظمته، ومنتهى حكمته قال لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:50 - 52]، فلو كنتم حجارة أو حديداً أو أي خلق يمكن أن يخطر لكم على بال لأحياكم الله جل وعلا منه، فكيف وأنتم تعودون إلى تراب، أي إلى عين ما خلقكم الله جل وعلا منه؟ والأمر كله على الله جل وعلا هيّن. قال الله جل وعلا: {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:48] قال الله مجيباً لهم: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:49 - 52]، وهذه الشجرة في النار، ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النار لا يمكن أن ينبت فيها شجر؛ لأن الأصل أن النار تحرق الشجر، لكن الله جل وعلا قال في الصافات: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ} [الصافات:64] أي: الزقوم {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، وأخبر الله جل وعلا أنه أراد بذلك اختبار العباد في مدى يقينهم وإيمانهم بقدرة الله، أو عدم إيمانهم ويقينهم بقدرة ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63] فهي شجرة تخرج في أصل الجحيم، فمن علم عظيم جلال الله وكمال قدرته يعلم أن الله قادر على أن يمنع النار من أن تصل إلى الشجرة، والتحريم -أيها المبارك- في القرآن على نوعين: تحريم شرع، وتحريم منع. فالثواب والعقاب يتعلق بتحريم الشرع كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119] هذا الذي يتدخل فيه الثواب والعقاب. أما تحريم المنع فلا ثواب ولا عقاب عليه؛ لأنه أمر كوني قدري ليس أمراً شرعياً، قال الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] أي: منعنا شفتيه من أن تقبل أثداء النساء، فالمعنى هنا: تحريم منع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: يا نبي الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) أي: منع الأرض من أن تأكل أجساد الأنبياء، وليس معنى حرم هنا بمعنى: شَرَّع؛ لأن الأرض غير مكلفة بالاتفاق، لكن المقصود: أن الله جل وعلا منعها أن تصل إلى أجساد الأنبياء، ومنه أيضاً: أن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل من ابن آدم مواضع السجود، رغم أنها تتسلط على بدنه كله، لكن النار تتسلط على بدنه كله بقدر الله، وتمتنع عن أعضاء السجود بقدر الله؛ لأن النار كلها مخلوقة من مخلوقات الله لا يمكن لها ولا لغيرها من المخلوقات أن يخرج عن مشيئته وقدرته جل وعلا طرفة عين ولا أقل من ذلك. ثم قال الله جل وعلا: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:52 - 55]. أما قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:54] هذا إجمال فصله قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:55]. والهيم: تطلق ويراد بها أحد أمرين: إما أن يكون المراد: الأرض الرملية التي مهما سُقيت لا يظهر عليها أثر، وقال بهذا القول: ابن كيسان والأخفش من العلماء. وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن المعنى: أن الهُيَام داء يصيب الإبل فتعطش، فإذا عطشت واشتد عِطَاشُها لجأت إلى الماء لترتوي، فمهما سُقيت لتشرب فلا يمكن لها أن ترتوي، فتمكث على هذا الحال حتى تَسْقَم سُقماً شديداً أو تهلك. هذا الذي عليه أكثر المفسرين. والهيام: داء معروف في الإبل كما بينا، وقد كانت العرب تنقله حتى إلى الرجال، وينقلون عن قيس بن الملوح الذي فتن بـ ليلى أنه قال: وقد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا إلى أن قال وهو موضع الشاهد: يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائيا فقول قيس: يقولون به داء الهيام أصابه هو موضع الشاهد، وقد نقلته العرب من إصابة الإبل إلى إصابة أفراد الرجال. قال الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا} [الواقعة:55 - 56] الذي ذكرناه وبيناه وحررناه {نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56]، والنزل: أول ما يستقبل به الضيف، قال بعض العلماء رحمة الله تعالى عليهم من أهل هذا الشأن: إذا كان هذا هو نزلهم، فماذا سيكون حالهم عياذاً بالله بعد أن يستقر بهم القرار في النار؟ لا ريب أنه أنكى وأشد وأعظم، عافانا الله وإياكم من ذلك كله.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون إلى قوله: ومتاعا للمقوين)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون إلى قوله: ومتاعاً للمقوين) ثم أخبر الله جل وعلا في آيات متعاقبات عن عظيم قدرته {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:58 - 60] أي: لا يفوتنا فائت ولا يعجزنا شيء، {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: هيئات أخر غير التي أنتم عليها، ثم ذكر الله جل وعلا الزرع والماء وما أعده الله جل وعلا للمسافرين، ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73] أي: للمسافرين، فذكر الله جل وعلا الزرع وإنباته، والمطر وإنزاله، وذكر جل وعلا النار وإيقادها، وأخبر أن ذلك كله لا يتم إلا بعظيم قدرته وجلال حكمته، وليس هذا المقام مقاماً مناسباً للتفصيل فيها.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله: تنزيل من رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله: تنزيل من رب العالمين) ثم قال ربنا تبارك وتعالى في خاتمة السورة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:75 - 77]، لأهل العلم قولان في معنى: مواقع النجوم: قول يقول: إن مواقع النجوم: مطالعها ومساقطها، وأكثر من يتوجه للتفسير والإعجاز العلمي في عصرنا يذهب إلى هذا، لكن هذا القول لا يعضده قول الله جل وعلا بعدها: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]؛ لعلمنا أن كل ما أقسم الله جل وعلا به أو عليه فهو عظيم، فلا بد أن يكون في قول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] كبير فائدة لم توجد في ما أقسم الله به قبل من مخلوقاته. فيكون قول الله جل وعلا على القول الثاني: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ليس قسماً بالمخلوق؛ لأن القرآن غير مخلوق، وإنما قسم {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] أي: أن القرآن نزل منجماً، فلما نزل القرآن منجماً أقسم الله جل وعلا بمواقع نزوله، فيصبح القسم هنا عند طائفة من أهل العلم، ويروى هذا عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، ومال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أول تفسير سورة النجم إلى القول: بأن القرآن نزل منجماً، وهو المعني بقول الله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، وما قاله الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه قوي إلا أنا لا نحفظ في اللغة أن كلمة: هوى تأتي بمعنى: أنزل، وإنما تأتي بمعنى: سقط، لكن نعود إلى آية الواقعة، قال الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، حجة هؤلاء أن الله قال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] فيصبح المعنى: أن الله ذكر أن هذا القسم عظيم؛ لأن الله أقسم بالقرآن على القرآن، وهذا مرتقى صعب في الفهم، ليس في فهمه وإدراكه، لكن في أن يستنبطه الإنسان أولاً، وقد قال به القفال رحمة الله تعالى عليه أحد علماء الشافعية، وهو أن معنى الآية: أن الله أقسم بالقرآن على القرآن، فلما أقسم الله بالقرآن على القرآن كان حرياً أن يقال بينهما: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:76 - 77]. أما اللطيفة في معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]: فإن أي كلام يكرر ويردد يذهب رونقه، ومن علم الأدب في مخاطبة الملوك يستحي أن يجعل كلامه عند الملوك مكرراً، ويبحث لهم في كل يوم عن فائدة جديدة، لكن كلام الله يتلى في المحاريب من أربعة عشر قرناً، ومع ذلك لم يذهب من رونقه شيء؛ لأنه كلام الله، ولو كان هذا الذي يتلى في المحاريب منذ أربعة عشر قرناً يسمعه الناس ويرددونه كلام بشر لملته الأنفس، ولسئمته الآذان، لكن لما كان هذا الكلام كلام رب العالمين جل جلاله؛ لم يكن لمؤمن أبداً أن يسئم ويمل من كلام ربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] أي: باق على ما هو فيه من صون، ورونق، وعظمة، وبهاء، وهداية، وإجلال؛ لأنه كلام رب العالمين جل جلاله، قال الله: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]. ثم أخبر الله جل وعلا في آية خبرية لا إنشائية فقال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، هذه الآية مسوقة في سياق الخبر لا في سياق الإنشاء، يعني: لا يأتي أحد ويقول: لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن الله يقول: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، لكن يجوز لنا أن نقول -وهذا قول جمهور العلماء- لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث عمرو بن حزم: (وألا يمس القرآن إلا طاهر)، فالاستدلال يكون بالحديث لا بالآية، فإن (لا) في قول الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] نافية وليست ناهية، ولا الناهية هي التي يراد بها الإنشاء والتكليف والطلب، أما لا النافية فهي تسوق خبراً؛ لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنما يفهم من الإشارة لا من التصريح؛ أنه ما دام أهل السماء لا يمس القرآن منهم إلا طاهر وكلهم مطهرون، فينبغي على أهل الأرض ألا يمسوا القرآن إلا وهم طاهرون، وهذا قول جمهور العلماء. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمس المصحف من لم يكن متوضئاً؛ لأنهم لا يرون صحة حديث عمرو بن حزم، لكن كما قلت: ذهب مالك وجمهور العلماء معه على أنه لا يجوز أن يمس القرآن أحد إلا أن يكون طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، قال الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].

تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون إلى قوله: ترجعونها إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون إلى قوله: ترجعونها إن كنتم صادقين) ثم قال تبارك وتعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:81 - 82]، قوله: ((رِزْقَكُمْ)) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أن تكون بمعنى: الشكر، وهذا وارد في كلام العرب، فيصبح المعنى: وتجعلون شكركم لِمَا أفاء الله عليكم من نعم أنكم تكذبون بهذا القرآن، وهذا قول جيد في السياق، لكن الأحاديث وردت بخلافه. والقول الثاني: وهو الذي تؤيده الأحاديث -كما عند مسلم في الصحيح- أن المعنى: وتجعلون رزقكم أي: ما ينزل عليكم من السماء من مطر، ويؤيده حديث مسلم: مطرنا بنوء كذا، وآخرون قالوا: مطرنا بفضل الله ورحمته فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله جل وعلا: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكواكب)، على هذا حمل أكثر المفسرين معنى الآية والعلم عند الله. ثم قال ربنا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85]، لم يرد ذكر النفس هنا، فقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، لم يذكر الفاعل للفعل (بلغ)، لكن العلماء متفقون على النفس، وهذا فصل في لغة العرب أنها تأتي بالكلم ولو لم يكن له ذكر من قبل، قال حاتم طي: أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالنا نزر إلى أن قال وهو موضع الشاهد: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر والنفس لم يكن لها كلام ولا قول في قصيدة حاتم، وإنما ردهم إلى شيء غير مذكور، وهناك شواهد أخر، وقد عقد له ابن خالويه رحمة الله تعالى عليه في كتابة: (فقه اللغة وسر العربية) فصلاً كاملاً. والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، أنه يعود على الروح بإجماع العلماء. قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ} [الواقعة:83 - 84] أي: من حول الميت {حِينَئِذٍ} [الواقعة:84]، أي: حين تبلغ الروح الحلقوم {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84]، أي: إلى الميت، {وَنَحْنُ} [الواقعة:85] هذا قرب الله بملائكته {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85] أي إلى الميت {وَلَكِنْ} [الواقعة:85] حرف استدراك {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] أي: من حول الميت لا يبصر الملائكة وهي تنزع الروح من الميت، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:85 - 86] أي: لا تدانون ولا تملكون ولا تستعبدون كما تزعمون، ولا لأحد سلطان عليكم كما تقولون {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86]، هذا هو قول الجمهور، وقول آخر: وهو أنكم غير مجازين أياً كان السياق، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:86 - 87] أي: الروح {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87] والروح إذا اتصلت بالبدن يقال لها: نفس، قال الله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، وإذا خرجت من البدن يقال لها: روح، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون: (إن الروح إذا فرجت تبعها البصر)، فقال ربنا هنا: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86 - 87]، ولا يستطيع أحد أن يعيد إلى ميت حياة، قال الله جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62].

تفسير قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين إلى آخر السورة

تفسير قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين إلى آخر السورة ثم بعد أن بين الله جل وعلا هذا كله ذكر مآل الجميع بعد أن قسمهم إلى ثلاثة أصناف، قال ربنا: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88]، والمقصود بالمقربين هنا -والعلم عند الله- فيما يظهر: أنهم من يدخلون الجنة بغير حساب، وهؤلاء هم المنادون أولاً بقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102]. قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ} [الواقعة:88 - 89] أي: يستريحون من عناء الدنيا، والله جل وعلا خلق الدنيا مطبوعة على الكدر كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فهذا نبي الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم يُرزق بسبع بنين وبنات، يموت منهم ستة أمام عينيه صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى أحد يحيا بعده إلا فاطمة رضوان الله تعالى على أبناء وبنات رسولنا صلى الله عليه وسلم أجمعين، فرأى صلى الله عليه وسلم أبناءه وبناته يمتن ويموتون وهو حي يُرزق، ولم يبق له إلا فاطمة التي ماتت بعده بستة أشهر، وشج رأسه يوم أحد، وكسرت رباعيته، ولما أتم الله له الدين وأظهر له النعمة، وقال له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] جاءته الآيات تخبر بقرب أجله ودنو رحيله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، فإذا لقي المؤمن ربه جل وعلا وجد الراحة الكبرى، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله. ومن يرجو راحة قبل لقاء الله فإنما يبحث عن شيء غير موجود، اللهم إلا أن تكون راحته -وهذا الذي ينبغي- في أنه يرضى بقدر الله قال ربنا: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] والحياة الطيبة: أن يرضى الإنسان بقدر الله. قال: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89 - 90] وأجمل ربنا هنا فقال: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91]؛ لأنهم يحيون في دار سلام، فبدهي أن ينطقوا بالسلام. ثم ذكر جل وعلا العصاة المتمردين على ربهم، والخارجين عن طاعته فقال جل شأنه: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94] وحتى لا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك قال أصدق القائلين جل جلاله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95]، ثم ختم الله جل وعلا هذه الآيات بالوصية العظيمة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]، والمعنى: نزِّه ربك جل وعلا عمّا لا يليق به، وغاية ما قاله أئمة أهل الشأن في هذا الباب أن يقال: إن الله غني عن طاعة كل أحد، فإذا نزّهت ربك عمّا لا يليق به فتشعر بالطهر والنقاء والصفاء، وإلا فربنا جل جلاله لا تنفعه طاعة طائع، ولا تضره معصية عاص. هذا مجمل ما دلت عليه هذه السورة المباركة؛ سورة الواقعة، وقفنا معها وقفة إجمالية، حاولنا أن نصل بها معكم إلى ما يمكن أن يعيننا على طاعة الله جل وعلا.

عرض مجمل للمراحل التي يمر بها الإنسان إلى أن يستقر في الجنة أو في النار

عرض مجمل للمراحل التي يمر بها الإنسان إلى أن يستقر في الجنة أو في النار وهنا نجمل -أيها المباركون- من قول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:83 - 84] تصعد الروح، فإما أن تنادى بأحسن الأسماء أو تنادى بأقبح الأسماء، تعود إلى صاحبها، تدب الروح في البدن، فيسمع صوت النعال، ثم يُقعد فيُسأل عن ربه ونبيه ودينه، يوفِّق الله من يشاء من عباده للإجابة، ويخذل من عباد الله من شاء عن الإجابة، ثم يمكث الإنسان في قبره حياة البرزخ، قال ربنا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، وهل تنفصل الروح أو تبقى متصلة؟ العلم عند الله، لكن غالب الظن: أنها تنفصل حيناً، وتتصل أحياناً في حياة لا نعلم كنهها، قال الله عنها: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ثم يأمر الله ملكاً يقال له: إسرافيل، أن ينفخ فينفخ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يمكث الناس أربعين، ثم يأمر الله الملك نفسه أن ينفخ فينفخ، فتخرج أرواح المؤمنين من عليين إلى أجساد الناس، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، وأرواح أهل الكفر من سجين، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، تدب الحياة في الأجساد، فيخرج الناس كأنما يقومون من نومهم، قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52]، يحشر الناس على أرض بيضاء نقية، يعطى كل أحد نوراً فينقسمون إلى ثلاثة أقسام: منهم أقوام يطفأ نورهم من حين أن يستلموه وهم أهل الكفر، وتبقى طائفتان يبقى معهم نورهم حتى إذا جاءوا على الصراط أُطفئت أنوار أهل النفاق، قال الله جل وعلا عنهم أنهم ينادون أهل الإيمان: ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) وهم يجيبونهم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]، ويمضي أهل الإيمان يجتازون بنورهم على قدر أعمالهم الصراط، ثم ينقسمون إلى قسمين: قسم يؤذن لهم بدخول الجنة، وقسم يحبسون على الأعراف، فإذا حبسوا على الأعراف رأوا أهل الجنة وهم يدخلونها، قال الله جل وعلا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، وإذا صرفت أبصارهم من غير سبب منهم إلى أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، ثم ظاهر القرآن -والعلم عند الله- أنهم يؤذن لهم بالجنة، ثم ينادي مناد بعد أن يؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود لا موت! ويا أهل النار خلود لا موت! قال الله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40]. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وما لم نجمله، أو لم نَقُلْه، أو لم نبينه في قولنا هذا، فلعل الله جل وعلا أن يكتب لنا أن نبينه في الإجابة على أسئلتكم، هذا والعلم عند الله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طبت حيا وميتا

طبت حياً وميتاً لقد رفع الله قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة عظيمة لم تكن ولا تنبغي لأحد من خلقه سواه، وجعل حياته سيرة عطرة ضمَّنها كل إشراقة في جوانب الحياة، ثم جعله أسوة حسنة لمتبعيه يتأسون به في خصال الخير كلها، ومن جملتها تفريغ القلوب لمحبة الله تعالى، والشفقة والرحمة بالمؤمنين، ودعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان عظمة الوقوف بين يدي الله تعالى، وزينه تعالى بكل حميد من الأعمال والأقوال والصفات الخلقية والخُلقية، فطاب صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.

عظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه

عظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن مما صح خبره من السيرة العطرة والأيام النضرة ممن طابت حياته ومماته صلوات الله وسلامه عليه حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن زاهراً كان رجلاً من البادية، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البادية هدية، وكان عليه الصلاة والسلام يعطيه قبل أن يذهب إلى البادية ويقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه، وكان زاهر رجلاً دميماً، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فأتاه ذات يوم وهو يبيع متاعه في السوق، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل زاهر لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً -والله- تجدني كاسداً -أي: لا يشتريني أحد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال). إن هذه منزلة رجل من بادية أمة محمد، فكيف بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه؟ يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] جعلني الله وإياكم ممن يقتدي بهديه.

قبسات مضيئة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

قبسات مضيئة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه قبسات وجوانب مضيئة، وكل حياته صلى الله عليه وسلم مضيئة، ولكن من عظمة سيرته صلوات الله وسلامه عليه أنه يمكن أن تتناول بمختلف الطرق، فيمكن أن تلقى كأخبار، ويمكن أن تدرس باستنباط لما في طيات السنن من عظيم الآثار، ويمكن أن تدرس وتتناول بغير ذلك، وهذا كله يدل على عظيم تلك الحياة التي عاشها نبينا صلى الله عليه وسلم. وخير ما يقدمه طالب العلم للناس أن يقدم إليهم محاولة جديدة في فهم سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم على غير ما يألفونه، وإن كان لا يستطيع أن يحلق بعيداً عما ذكره الأخيار وصدره الأبرار من العلماء والمشايخ وطلبة العلم في الماضي والحاضر نفع الله بنا وبهم الإسلام والمسلمين.

القلوب محل حب الله وتعظيمه وإجلاله

القلوب محل حب الله وتعظيمه وإجلاله أولى القبسات هي أن القلوب هي الأوعية التي يحب فيها الله ويعظم ويجل، ومن خلال عظيم محبة الله جل وعلا في قلب أي عبد ينجم العمل والقرب من الطاعات والازدلاف إلى الله بالحسنات، وينجم عن ذلك البعد عن المعاصي والفرار من الذنوب والإحجام عن الموبقات. وقد جعل الله قلب نبينا صلى الله عليه وسلم له تبارك وتعالى، فولد عليه الصلاة والسلام دون أن تكتحل عيناه برؤية أبيه، فنشأ يتيم الأب منذ ولادته، فتعلق بقلب أمه وحنانها وشفقتها ورقتها عليه، فما أن أتم ست سنوات حتى حجبت عنه رحمة الأم فماتت أمه. فأخذ -صلوات الله وسلامه عليه- يوم ذاك يدب نحو جده ويتشبث به، فما هي إلا سنتان ويموت ذلك الجد، فيصبح ذلك النبي المنتظر الذي سيختم الله به النبوات ويتم به الرسالات لا أب ولا أم ولا جد له؛ لأن الله جل وعلا وحده تكفل به كما قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]. ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه جعل الله له نصيرين: عمه أبا طالب وزوجته خديجة، فلما تفاقمت عليه مصائب أعدائه ورموه عن قوس واحدة توفي العم وتوفيت الزوجة في شهر واحد؛ ليطمئن صلى الله عليه وسلم بأن الله وحده هو الذي سينجيه ويظهره ويعلي شأنه صلوات الله وسلامه عليه. ثم يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وكان قد مات ولداه القاسم وعبد الله قبل أن ينبأ، فما بقي له إلا البنات، فتعلق بهن صلوات الله وسلامه عليه كأي أب، ثم ما إن تعلق بـ عائشة وأحبها حتى رميت في عرضها رضي الله عنها وأرضاها. ثم بشر صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر، فقال: (والله لا أدري بأيهما أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!) وما هي إلا شهور معدودات ويموت جعفر ويبقى صلى الله عليه وسلم من غير حبيبه جعفر. ثم آنس الله وحشته فيرزق صلى الله عليه وسلم بابنه إبراهيم، فما إن يظهر الود في قلبه عليه الصلاة والسلام ويتردد إلى عوالي المدينة كي يرى إبراهيم كل يوم فيقبله ويرفعه ويشمه ثمانية عشر شهراً فقط حتى يموت إبراهيم، لئلا يبقى في قلبه صلى الله عليه وسلم أحد إلا الله. ولهذا ما قضى صلى الله عليه وسلم عمره إلا فيما قضاه الأنبياء من قبله، ألا وهو التعريف بربهم جل وعلا، وإن أعظم نصرة له -صلوات الله وسلامه عليه- أن يؤخذ عنه الدين وأن يؤخذ عنه في المقام الأول عظيم توحيده لربه تبارك وتعالى، فإن القلوب لا يستحق أن يتربع على عرشها أحد تحبه وتوالي وتبغض فيه إلا الرب تبارك وتعالى. ولهذا كانت أعظم آيات القرآن تترى في أمكنة متعددة وأزمنة متباينة كلها تبين هذا المنهج العظيم الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله جل وعلا من أجله الكتب. جاءه العاص بن وائل وهو بمكة صلوات الله وسلامه عليه، وفي يد العاص عظام قد أرمت، فنفخ فيها وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد موتها؟! فأنزل الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:77 - 80]. والخضرة لا تكون إلا من ماء، والماء لا يتفق مع النار، فهما خصمان، ومع ذلك يجعل الله جل وعلا من الشجر الأخضر ناراً، ولا يقدر على هذا إلا الله. والمقصود أن قلبه صلى الله عليه وسلم ملئ محبة وتوحيداً وإجلالاً لله، فنشأت دعوته كلها على هذا المبدأ العظيم الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب، وهذا أعظم ما يمكن أن ينصر به العبد نبيه صلى الله عليه وسلم.

عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الدنيا

عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الدنيا ومن القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم: عظيم شفقته ورحمته بأمته، ولهذا حق على كل مسلم أن يعرف لهذا النبي قدره وعظيم حقه لعظيم ما كان صلى الله عليه وسلم يحمله من المحبة والشفقة والرأفة بأمته. ففي رحلة الإسراء والمعراج فرض الله عليه في السماوات السبع الصلوات الخمس خمسين صلاة في اليوم والليلة، فلما عاد صلى الله عليه وسلم لقي أخاه موسى، فقال له موسى: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن تطيق ذلك) ومن هنا أخذ العلماء أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم عاد عن التجربة، وعلم مقرون بالتجربة. والعلم المقرون بالتجربة مقدم على العلم العاري عنها، فإن موسى عليه السلام ليس أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن التجربة علمته أن الأمم لا تطيق مثل هذا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف، وما زال يتردد صلوات الله وسلامه عليه حتى عاد إلى موسى وأخبره أن الله جعلها خمس صلوات، فقال له موسى كذلك: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف) فقال صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى موسى: (قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه). فلما حفظ صلى الله عليه وسلم مقام الله حفظ الله له جل وعلا مقام أمته التي وكل إليه أن ينافح عنها، فسمع منادياً يقول: (إنني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) فأبقاها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة في اليوم والليلة. ومن هنا أخذ العلماء فائدة، وهي أن من قدم حق الله على حق غيره أكرمه الله وأكرم غيره، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة ازدحم عنده أمران: حق أمته وحق الله، وهو أدبه مع ربه، فاختار أن يعتذر إلى موسى ويقدم حق الله تأدباً مع ربه، فلما تأدب مع ربه صلوات الله وسلامه عليه أكرمه الله بأن جعلها خمس صلوات وجعلها تجري على هذه الأمة بأجر خمسين صلاة، والحسنة بعشرة أمثالها. وهذا من مقامه الرفيع صلوات الله وسلامه عليه في أدبه مع ربه تبارك وتعالى، والمقصود منه الإخبار بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أدب تام وحرص عظيم على الشفقة والرحمة بأمته في آن واحد. ومن شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، فسمى الله وكبر وقال في الأول: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد)، ثم قال في الآخر: (اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد) شفقة بمن يأتي بعده صلوات الله وسلامه عليه. ومن شفقته بأمته -أمة الإجابة عليه الصلاة والسلام- أنه زار المقبرة فقال: (وددت لو أني رأيت إخواني، فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا سابقهم إلى الحوض، فقالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو لأن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض) جعلني الله وإياكم منهم. وكان يقوم الليل عليه الصلاة والسلام وما قام الليل أحد أكرم على الله منه، فلما تأسى به الناس وصلوا بصلاته في رمضان -وهي قربة إلى الله ورفع للدرجات وتكفير للخطايا- اعتزلها وتركها وقال: (لقد علمت الذي صنعتم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم). فخوفه على الأمة أن يفرض عليها ما لا تطيق له حملاً جعله صلى الله عليه وسلم يمتنع عن القيام جهرة في تلك الليالي، وإلا فمن عظيم قرباته وجليل مناقبه عند ربه عظم قيامه بالليل بين يدي الله جل وعلا. ومن أعظم أسباب التوفيق وأجل العطايا وأعظم المنح أن يختار الله عبداً من عباده يقف بين يديه في ظلمات الأسحار يسأل الله ويرجوه ويدعوه ويناجيه. لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه. وفي ليلة تفقده عائشة فتقول: (ظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). وهذه النماذج من دلائل شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته في الدنيا.

عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الآخرة

عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الآخرة ومن شفقته على أمته في الآخرة أن الناس يحشرون عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشرون عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء، ويحشرون تحرقهم الشمس أحوج ما يكونون إلى الظل، وهناك يموج الخلق بعضهم في بعض، فيأتون أباهم آدم فيعتذر ويقول: نفسي نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. ثم يأتون إلى نوح فيثنون عليه رجاءً يستجيب لهم، فيقولون: أنت أول رسل الله إلى أهل الأرض، سماك الله في القرآن عبداً شكوراً، فيقول: نفسي نفسي، ويحيلهم إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: نفسي نفسي، ثم يأتون موسى فيثنون عليه فيقول: نفسي نفسي، ثم يأتون إلى عيسى -ولا يذكر ذنباً- فيقول: نفسي نفسي، فإذا أتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه قال: أمتي أمتي. جعلني الله وإياكم ممن ينتفع بشفاعته يوم العرض الأكبر. فهذه نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته، أفليس من هذه صفاته ومحبته لنا وشفقته علينا ورحمته بنا جديراً بأن يحب، وأن نتقرب إلى الله جل وعلا بحبه واتباع هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه؟!

الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة

الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ومن الجوانب العطرة والنضرة في سيرته صلى الله عليه وسلم: ما أكرمه الله جل وعلا به من الدعوة إلى الله جل وعلا بالأسلوب الأمثل وكمال الحسن والرفق في الخطاب حتى يبين دين الله جل وعلا على الوجه الأمثل والطريق الأقوم، فلا تبقى لأحد حجة على الله بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه. وضع على ظهره سلا الجزور وهو يوم ذاك -وما زال صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق كرامة عند الله. والدرس العلمي المأخوذ من هذه الحادثة أن تعلم أن مقام العبد لا يعرف بحاله عند الناس، فالناس لا يرون منك إلا الظاهر، لكن الأمر العظيم هو مقامك عند ربك جل وعلا. فالنبي صلى الله عليه وسلم ساجد عند الكعبة وسلا الجزور على كتفيه، وزعماء قريش ينظرون إليه ويتضاحكون، وهو صلى الله عليه وسلم عند ربه في أعلى المقامات وأرفع الدرجات. والدنيا لم يجعلها الله جل وعلا دار مكافأة، ومن أعظم ما يدلك على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدراً أن يعصى فيها، ولو كانت للدنيا كرامة عند الله لما أذن الله قدراً لأحد أن يعصيه فيها. وهذا أمر ينبغي لكل من يحيا في هذه الحياة الدنيا أن يستصحبه في كل شأن؛ لأن الإنسان إذا كان ينتظر من الناس مدحاً أو ثناءً أو رفيع قدر فسيتعب تعباً كبيراً، وأول طرائق العظمة أن تبدأ بنفسك، ولن تكون عظيماً حتى تكون عظيم العبودية لله جل وعلا. واعلم -يا أخي- أن لله جل وعلا صفات، كلما ازدت عنها بعداً كنت من الله أقرب، ولله جل وعلا صفات كلما التصقت بها كنت من الله أقرب، وهذه الصفات لا تعرف بضابط أو قاعدة، وإنما تعرف بحيثيات الشرع. فلا يوجد حال ذلة يكون فيه ابن آدم أعظم من أن يضع جبهته على الأرض، فهذا موضع ذلة بلا شك، ولما كان هذا أعظم حال ذلة يفعله بنو آدم وجب ألا يصرف إلا للرب تبارك وتعالى. قال الله لنبيه: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فلما سجد صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله كان أقرب إلى ربه جل وعلا، فكلما ازدت عبودية للرب تبارك وتعالى وانكساراً بين يديه كنت إلى الله جل وعلا أقرب، فإن العظمة من شأنه وحده جل وعلا لا ينازعه فيها أحد. والأمر الآخر: الكبر، فإن العظمة والكبرياء رداءان للحق تبارك وتعالى، فكلما تلبس الإنسان - عياذاً بالله - برداء الكبر كان من الله جل وعلا أبعد؛ لأنه ينازع الرب تبارك وتعالى في ما هو من صفاته وخصائصه التي لا ينبغي أن ينازعه فيها أحد جل جلاله. ومن صفات الله جل وعلا الرحمة، فمن كان رحيماً بالخلق طمعاً في أن يرحمه الله كان قريباً من رحمة الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. وقال صلوات الله وسلامه عليه لأحد الصحابة: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله)، وقال: (من لا يرحم لا يرحم). وكلما كان الإنسان عفواً غفوراً عمن حوله ممن يخطئون عليه كان أدنى إلى عفو الله جل وعلا ورحمته وغفرانه، وهذا الذي ينبغي أن تحكم فيه آيات الكتاب المبين وأخبار سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

العبرة بمقام العبد عند ربه

العبرة بمقام العبد عند ربه وعظمة القدر كلما جحدها الناس بينها الله جل وعلا بجلاء من حيث لا يشعرون، فنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جرى الصلح بينه وبين القرشيين، فأخذ المبعوثون يترددون بينه وبين قريش، وفي كل مرة تبعث قريش رجلاً منها، حتى بعثت سهيل بن عمرو، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد سهل أمركم، لقد أراد القوم صلحاً منذ أن بعثوا هذا الرجل). فلما وضع الكتاب ليكتب واتفق الطرفان على الصلح وكان علي رضي الله عنه كاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فاعترض سهيل وقال: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، اكتب كما كنا نكتب في الجاهلية: باسمك اللهم. فرضي صلى الله عليه وسلم وكتب: (باسمك اللهم)، ثم قال لـ علي: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)، فقال له سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فرفض علي رضي الله عنه أن يمحو ما قد كتب، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن موضع الكتابة؛ لأنه لا يقرأ لا يكتب، وعلم الله به الجن والإنس. فبين له علي موضعها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم أمر علياً أن يكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. فالذي جحد الرسالة هنا هو سهيل بن عمرو، فأنزل الله جل وعلا خاتمة سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ثم قال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ولهذا فإن الحاذق من القراء الذي يريد أن يربط في تدبره القرآن بين الآيات يقرأ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ثم يقف، ثم يأتي بالواو استئنافية ويقرأ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] لأن في قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] رد على من أنكر رسالته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه. وفيما بعده إخبار بأنصاره في الرسالة والمؤمنين الذين آووه ونصروه وجاهدوا ومعه وهاجروا من المهاجرين والأنصار وثناء الله جل وعلا عليهم من قبل في التوراة والإنجيل. والغاية من هذا كله أن تعلم أن الله جل وعلا لا يضيع عنده عمل عامل كائناً من كان، وأن العبرة بمقامك عند الله جل وعلا، وأنت ترى في طيات حياة نبيك صلى الله عليه وسلم ما يدلك على أن العبرة التامة لرفيع مقامك عند الله، ألا ترى أن الخضر وموسى عليهما السلام استطعما أهل قرية فقال الله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] فامتنع أهل القرية عن إطعام عبدين صالحين من عباد الله، ولكن هذين العبدين لم يغير ذلك من منزلتهما عند ربهم تبارك وتعالى شيئاً. وكيف تعرف قربك من ربك وعلو منزلتك عنده؟ اعرض نفسك على كتاب الله، يقول الله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] وكل امرئ حسيب نفسه.

طيب خلق رسول الله وخلقه

طيب خلق رسول الله وخُلُقه ومن القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم ما أجمله الصديق رضي الله عنه في خبر الوفاة، فإن الأمة لم تفجع بأعظم من فجيعتها بوفاة نبيها صلوات الله وسلامه عليه. وكان أبو بكر في السنح، وهو عوالي المدينة، والذي دفع أبا بكر أن يخرج إلى السنح - رغم أن النبي كان شديد المرض - أن النبي عليه الصلاة والسلام أطل عليهم في ذلك اليوم، فلما أطل عليهم استبشر الناس خيراً، فعمد أبو بكر إلى فذهب إلى أهله بالسنح، فلما توفي عليه الصلاة والسلام وقبض وشاع ذلك في الناس ما بين مصدق ومكذب قدم أبو بكر من بيته بالسنح فدخل بيت عائشة ابنته، ولا يحتاج إلى إذن، فلما دخل حجرة عائشة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مسجىً على فراشه، فلما كشف الفراش عرف أنه ميت فقبله بين عينيه واغرورقت عيناه بالدموع رضي الله عنه وأرضاه، وقال كلمة تختصر الكثير من العبارات، قال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله. فهو عليه الصلاة والسلام قد طابت حياته وطاب مماته؛ لأن حياته وصلاته ونسكه ومماته كل ذلك كان لله رب العالمين، كما أمره الله جل وعلا فقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] صلوات الله وسلامه عليه. أما طيب حياته عليه الصلاة والسلام فقد طاب خلقاً وطاب خلقاً، فطاب خَلْقاً لأن الله جل وعلا جعله في أتم هيئة خَلقية، فكان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر لا بالمسترسل ولا بالجعد، في جبهته عرق يجره الغضب إذا غضب لله، أزج الحواجب -أي: دقيق الحواجب- في غير قرن، أي: حاجباه غير مقترنين، أشم الأنف، طويل أهداب العينين، أبيض مشرباً بحمرة، كث اللحية، الشيب فيه ندرة ومتفرق، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجملة ما فيه من الشيب لا تكاد تتجاوز عشرين شعرة. كأن عنقه إبريق فضة، في صدره خيط شعر ممتد شعر على هيئة خيط دقيق، وعبر عنه الرواة بأنه دقيق المشربة، بين كتفيه من الخلف شعيرات سود اجتمع بعضهن إلى بعض قد ارتفعن عن الجسد قليلاً كأنهن بيضة حمامة، عريض ما بين المنكبين، سواء الصدر والبطن، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قال: سبحان الله، وعند البخاري في الأدب المفرد أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه. إذا مشى فكأنما ينحدر من مكان عال، من رآه من بعيد أهابه، ومن رآه من قريب أحبه، يقول جابر بن سمرة: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى - أي صلاة الظهر - فطفق ولدان أهل المدينة يسلمون عليه، فصافحته فوجدت لكفه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار) صلوات الله وسلامه عليه. وقال محمد بن عمار والربيع بنت معوذ: يا أماه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سمرة: (خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة البدر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهو عندي أجمل من القمر) صلوات الله وسلامه عليه. وطيبه عليه الصلاة والسلام الخُلُقي كان مقروناً بطيبه الخَلْقي، فلم يكن لعاناً ولا فحاشاً ولا متفحشاً ولا سباباً، قال الله جل وعلا يزكي لسانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكى الله جل وعلا قلبه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه الله جل وعلا جملة فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ومن الله جل عليه بأن جعله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وأخذ الله جل وعلا العهد والميثاق على الأنبياء من قبله أنه إذا بعث فيهم وهم أحياء أن يتبعوه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].

طيب مماته صلى الله عليه وسلم

طيب مماته صلى الله عليه وسلم وكما طابت حياته وطاب خَلْقه وطاب خُلُقه طاب مماته صلى الله عليه وسلم، فكان آخر عهده بالدنيا أن استاك فتطيب فاه قبل أن يلقى ربه جل وعلا. وبقدر الله يدخل عبد الرحمن بن أبي بكر إلى بيت عائشة، وبقدر الله ينظر صلى الله عليه وسلم إلى السواك ولا يستطيع -وهو نبي الأمة ورسول الأمة وسيد الفصحاء- أن يقول: أعطوني السواك. ثم تأخذ عائشة السواك من أخيها فتقضمه وتطيبه فيتطيب به عليه الصلاة والسلام. وقد جرى عليه ما جرى على الأنبياء من قبله، وجميع الأنبياء تجري عليهم خمسة أحكام: الأول: أنهم يرعون الغنم. الثاني: أنهم يخيرون عند الموت. الثالث: أنهم يدفنون في الموضع الذي ماتوا فيه. الرابع: أن الأرض لا تأكل أجسادهم. الخامس: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فجرى عليه في تلك اللحظات الثالثة من هذه الأمور، وهي أن الملك أخذ يخيره بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وبين لقاء الله ثم الجنة، وقلب كقلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتاق إلى شيء أعظم من شوقه إلى لقاء الله، فلما خيره الملك سمعته عائشة وهو يقول: ({مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] اللهم اغفر لي، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً، ومالت يده وفاضت روحه صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى. وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء بعد مغرب يوم الثلاثاء، ومع ذلك لم يزدد صلى الله عليه وسلم بعد موته إلا طيباً. لقد نظر إلى أصحابه قبيل وفاته في يوم مرضه فتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وهذا ما عناه أبو بكر بقوله: طبت حياً وميتاً يا رسول الله. ثم غسلوه صلى الله عليه وسلم، ومراعاة لحرمته عليه الصلاة والسلام لم ينزعوا عنه ثيابه، ولم تكشف له عورة، وإنما باشروا الغسل من فوق الثياب، فعليه الصلاة والسلام. ثم لعظيم حرمته عند الله ولطيب مماته عليه الصلاة والسلام هدى الله أولئك الأخيار إلى ألا يقدموا إماماً يصلي بهم على نبيهم، فلكي تصل صلاة كل أحد إليه، ولكي يشعر كل فرد بأنه باشر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلوا عليه أرسالاً، حتى لا يقول أحدهم: صليت خلف أبي بكر على رسول الله، وإنما يقول: صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة. ثم يكرمه الله بأن يدفن - وهذا من خصائص الأنبياء - في الموضع الذي مات فيه، فدفن صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من الحجرة مكان فراشه صلوات الله وسلامه عليه، وفي تلك الحجرة كان يناجي ربه، وفي تلك الحجرة كان يقوم الليل، وفي تلك الحجرة كان يتنزل عليه الوحي، وفي تلك الحجرة كان يجيب السائلين، وفي تلك الحجرة كان يطعم الأضياف، وفي تلك الحجرة أسلم الروح، وفي تلك الحجرة دفن، ومن تلك الحجرة يبعث صلوات الله وسلامه عليه. وبقدر الله ترى عائشة قبل مماته أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتها، فتذهب إلى أبيها -وهو من المعبرين- فتخبره بالرؤيا، وكان الصديق أعلم الناس بنبينا صلى الله عليه وسلم وأكملهم أدباً، فاستحيا أن يعبرها حتى لا يخبرها بقرب موت نبينا صلى الله عليه وسلم مع أن الموت حق، فلما وقع ما وقع ومات رسول الله ودفن في الحجرة جاء الصديق رضي الله عنه إلى ابنته وقال: يا بنية! هذا أول أقماركِ. والاثنان الآخران كانا الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وأرضاه. وفي يوم موت عمر رضي الله عنه وأرضاه كانت عائشة رضي الله عنها أحق الناس بالحجرة؛ لأنها حجرتها، وكان الناس يعلمون أنه لم يبق إلا موضع قبر واحد، فلما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يهمه إلا أمران، فقال لـ ابن عباس: اذهب فانظر من طعنني. فذهب ابن عباس أو ابنه عبد الله فعرف أن الطاعن هو أبو لؤلؤة المجوسي، فقال: يا أمير المؤمنين! أبشر بالذي يسرك، الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على رجل سجد لله سجدة. فالمؤمن الذي يخشى الله حقاً لا يحب أن يأثم أحد بسببه، ولو كان ذلك الآثم قد فعل ذلك عدواناً وظلماً، كما فعل عثمان رضي الله عنه لما منع الناس أن يحموه حتى لا يراق دم بسببه. فعمر رضي الله عنه استبشر وفرح بأن من طعنه لم يكن مؤمناً، ثم قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة فقل لها: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فذهب عبد الله واستأذن على عائشة فقالت وهي تبكي: والله لقد كنت أدخره لنفسي - أي المكان - ولأوثرنه اليوم على نفسي. فذهب عبد الله فدخل على أبيه قائلاً: يا أبتاه! أبشر بالذي يسرك. فخاف عمر أن تكون عائشة قد فعلت ذلك حياءً لأنه حي، فأوصى ابنه قائلاً: يا بني، إذا أنا مت وغسلتني وكفنتني فاحملني وقل: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ ولا تقل: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ فإني يوم ذاك لست للناس بأمير. فإذا أرادت عائشة أن تعتذر فإنها ستعتذر ليكون فعلها عن طيب نفس منها. فحمل بعد غسله وتكفينه على أعناق الرجال، ثم نودي أن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فأذنت ودفن. يقول بعض الرواة -والعلم عند الله-: إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها بعد أن دفن عمر في حجرتها بنت جداراً بينها وبين القبور حياءً من عمر وهو ميت، وقالت: لم يكن إلا زوجي ووالدي، أما الآن فزوجي ووالدي ورجل آخر. تقصد عمر رضي الله عنه وأرضاه. فإن صحت هذه الرواية -وليس ببعيد أن تصح- فإن المرأة لا ترزق شيئاً أعظم من أن ترزق الحياء مع غيرها من الرجال. قال الله جل وعلا عن إحدى ابنتي العبد الصالح: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]. والمقصود من هذا الأخبار كلها -رغم تشعب الحديث- بيان كيف طاب مماته صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الحجرة يخرج صلى الله عليه وسلم، وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فيجد أخاه موسى آخذاً بقوائم العرش، وانظر لعظيم تمسكه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فالله يقول له: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فيطبقها عملياً، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟). فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وبدين الله وبالأخبار الشرعية كلها، ويقول: (لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) صلوات الله وسلامه عليه.

دعوته إلى التراحم

دعوته إلى التراحم ومما يمكن أن يدرس في سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه: أنه بين لأمته بلسان حاله ومقاله أن يكون التراحم بينهم، وهذا أمر قرره القرآن في الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والتراحم بين المؤمنين من أعظم الغايات وأجل المطالب والمقاصد الشرعية التي جاء بها الدين ونزل بها القرآن ونطق بها رسولنا صلى الله عليه وسلم. وهذا المبدأ العظيم كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يغرسه في أمته بطرائق متعددة، حيث يدخل علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجلس ممتلئ بمن فيه، فيتنحى الصديق رضي الله عنه قليلاً وينادي علياً ويقول: هاهنا يا أبا الحسن. فيجلسه بجواره، فيقول عليه الصلاة والسلام يقرر مبدأ التراحم ومعرفة منازل الناس بينهم: (إنما يعرف الفضل لأولي الفضل أولوا الفضل)، فهو ثناء على الصديق وثناء على علي وتعليم للأمة. وهذه الرحمة تكون فيك -أيها المحب لمحمد صلى الله عليه وسلم- إن علمت قواعد شرعية، أعظمها: أن الله جل وعلا يحب من عباده الرحماء. والأمر الثاني: أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنبياء قبله، ثم قال: (وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعاً) فهو عليه الصلاة والسلام يحب أن يكثر سواد أمته، ولكي يكثر سواد أمته ينبغي أن نحرص على الدعوة إلى دينه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الأمر من أعظم أسسه وأجل مقوماته أن نتراحم فيما بيننا، فالإنسان إذا كان شفيقاً رحيماً بزوجته وأولاده وأبويه في المقام الأول وسائر المؤمنين كان قريباً من الله محققاً ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، ولما نشره فيها من الفضائل، ولما دعاهم إليه صلوات الله وسلامه عليه من كريم الطباع وجميل الأخلاق.

حرصه صلى الله عليه وسلم على بيان عظمة الموقف بين يدي الله

حرصه صلى الله عليه وسلم على بيان عظمة الموقف بين يدي الله ومن الجوانب التي نحاول أن نتأملها في هذا الدرس المبارك: أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن يبين لأمته عظيم الموقف بين يدي الله جل وعلا. ومن أعظم ما يعين على الطاعة أن يستحضر العبد وقوفه بين يدي الله، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ذات يوم الميزان، وأنه لا يكون مثقال حبة من خردل إلا توزن، فجاءه رجل فقال: يا نبي الله! إن لي أجراء يظلموني وأظلمهم، فقال صلى الله عليه وسلم يبين له أن الأمر يوم القيامة قصاص: (يؤخذ ما عليك ويعطى ما لك) وبعد أن قرر الرجل أن يتخلص من هؤلاء الأجراء تلا صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وبين صلوات الله وسلامه عليه أن الأمر يوم القيامة عظيم جليل الخطب يحتاج كل امرئ إلى أن يتقي الله جل وعلا فيه. فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية معرفة تعلق القلب بغير الله

كيفية معرفة تعلق القلب بغير الله Q كيف يعرف الإنسان أن قلبه لم يتعلق بغير الله؟ A كل ما صرفك عن طاعة الله فقد تعلق قلبك به، ولكن يختلف الأمر في مقدار ذلك بحسب التعلق.

مصير أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم

مصير أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم Q لقد سمعت أنكم رجحتم أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، فأرجو من فضيلتكم بيان ذلك؟ A هذه مسألة خلافية مشهورة جداً، ونحن إلى الآن نقول: إن الأقرب أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم - والعلم عند الله - من أهل الفترة، وبيان ذلك علمياً من وجوه: أولها: أن الله جل وعلا قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وقال جل وعلا عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9]. ومن قواعد العلم أن نصوص القرآن حاكمة وتفهم عن طريق السنة، فهنا إخبار من العلي الكبير أن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً، وأنهم يقررون عند إلقائهم فيها ويقال لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] فيقرون ويقولون: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9] يقول الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. ويبقى السؤال هنا: هل والد الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه نبي أم لا؟ فإن قلنا: جاءه نبي فلا حجة له، وإن قلنا: لم يأته نبي فلا يدخل في أهل النار بحسب الآية؛ لأن الله قال عن أهل النار وهم يقرون: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9]، ولا ريب في أن والد النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه آنذاك من قبل البعثة لم يأتهم نذير بنص القرآن، حيث قال الله جل وعلا: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46]، وقال جل وعلا: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]، فالله جل وعلا في آية محكمة يقول: إنه لم يأتهم نذير. وأما الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (إن أبي وأباك في النار) فإنه من حيث القاعدة العلمية يقول فيه بعض العلماء: إنه مخصص لعموم ما قاله الله جل وعلا في كتابه. ولكن يبعد أن يخبر الله جل وعلا نبيه بأن أهل الفترة كلهم تحت المشيئة، ويكون أبوه وحده في النار. وقد جاء في صحيح مسلم أن الله جل وعلا خلق السماوات والأرض في سبعة أيام، والعلماء لم يقبلوا هذا الحديث؛ لأنه معلوم قطعاً بنص القرآن أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام. والمقصود أن هذه مسألة لا يحسن نشرها بين الناس بكثرة، حتى الذين يقولون: إن والد الرسول في النار بناءً على حديث مسلم يقولون: لا يحسن نشر ذلك بين الناس. وأنا أقول -والعلم عند الله-: إن التوقف أفضل من القطع بأن والد الرسول صلى الله عليه وسلم في النار؛ لأن نصوص القرآن لا توحي بهذا.

بيان درجة الكافر والمسلم المتهاون في إيذاء رسول الله

بيان درجة الكافر والمسلم المتهاون في إيذاء رسول الله Q أيهما أكثر إيذاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتباعه المتهاونون بسنته أم الكفار والمنافقون الذين يسخرون من ذلك؟ A هم الكفار والمنافقون لا يمكن أن يكونوا في درجة من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه وإن عصاه، ولا شك في ذلك. ولكن ينبغي للمؤمن أن يعلم أن من دلائل محبته لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يحرص على اتباع سنته وألا يتهاون فيها، وأن يقيم الدين جملة، وأن يتقرب إلى الله بحب رسوله صلى الله عليه وسلم والسير على هديه، ولا يقارن كافر منافق مع مسلم وإن كان متهاوناً.

عاقبة المستهزئ برسول الله في الدنيا

عاقبة المستهزئ برسول الله في الدنيا Q هل في تاريخ هذه الأمة أن أحداً استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم فعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل الآخرة؟ A قد يوجد هذا وإن كنت لا أحفظه، ولكن الذي ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم- في المقام الأعلى، فهو عليه الصلاة والسلام كفاه ربه فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].

الطريق إلى خشية الله

الطريق إلى خشية الله Q ما هو الطريق إلى خشية الله تعالى؟ A هذا أمر طويل جداً، ولكن نقول من حيث الجملة: إن الله جل وعلا غني كل الغنى عن طاعة أحد، وإن من أعظم طرائق الوصول إلى خشية الله أن يستقر في قلبك أن الله جل وعلا غني كل الغنى عن طاعتك، وأنك في ذات الوقت مفتقر كل الفقر من جميع وجوهه إلى ربك تبارك وتعالى. فإذا رزق الإنسان قناعة ويقيناً تاماً بهذا الأمر -نسأل الله لي ولكم التوفيق- فإنه يرجى بعد ذلك أن يعرف الطريق إلى خشية الله جل وعلا، فلابد من أن يكون هناك يقين بأن الله جل وعلا خالق وما سواه مخلوق، وأن الله جل وعلا رب وما سواه مربوب، وأن الله جل وعلا وحده رازق وما سواه مرزوق، وأن الخلق مهما عظمت منازلهم وكثر مالهم وساد جاههم وجل ملكهم هم خلق من خلق الله لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فضلاً على أن يملكوه لغيرهم، وأن الله جل وعلا لا تضره معصية أحد كائناً من كان، ولا يبلغ مدحه قول مادح كائناً من كان، ولا تنفعه طاعة أحد كائناً من كان. فإذا عرفت أن ربك جل وعلا عظيم جليل رزقت بعد ذلك الخشية منه جل جلاله. ومن جملة ما نقوله ونكرره دائماً أن تحاول أن تعظم الله عند خلقه حين يمن الله عليك بالمنبر تصعده، أو بكلمة تلقيها في جامع، أو تلقيها لزوجتك وأولادك، أو لطلاب في المدرسة، أو بملعب كرة تلعب فيه مع زملائك، أو بمجلس احتفال مع زملائك. فادخل مثل هذه الأمكنة ولا يكون لك إلا هم واحد، وهو أن يحب الناس ربك ويعظموه، أياً كان نوع المجلس، حتى لو كان في ملعب كرة، فإن ابتليت بحب الكرة وكان حولك اثنان أو ثلاثة أو أربعة فإن أي فرصة تعرف فيها أنك تغرس عظمة الله جل وعلا فيها فيمن حولك عليك أن تنتهزها. فليكن همك أن يخرج من حولك معظمين لله، وقد ذكرت الملعب كحد أدنى، وقس عليه الأماكن الفاضلة كالمساجد، فأي مكان تدخل ينبغي أن يكون همك الأول أن يعظم الله جل وعلا وأن يحب، فتذكر فضل الله جل وعلا على خلقه ومنته عليهم، وتجعل من حولك يحبون الرب تبارك وتعالى، حتى لو غلب على ظنك أن الناس سيظنون بك الرياء، فثق بأن الله جل وعلا يعاملك على ما في قلبك لا على نظرة الناس إليك. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فالله جل وعلا لا يحاسبنا على نظرة الناس إلينا، فهم يحكمون على ما يرون، والله جل وعلا وحده يتولى السرائر، ولكن محال أن يحاسب الله أحداً على نظرة خلقه إليه، بل يحاسب عبده على ما علمه منه، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]. فلو أن الناس اجتمعوا على ذم أحد وهو عند الله عظيم فإن الله جل وعلا يقبله، ولو أن الناس اجتمعوا على حب أحد وهو عند الله حقير فإن الله جل وعلا لا يقبله أبداً؛ لأن العبرة بما انطوى عليه القلب من محبة الله وإجلاله وإعظامه. وغاية الأمر أن تعلم أنه لا يوجد منزلة أعظم ولا أجل من أن تجلس مجلساً تعظم الرب تبارك وتعالى فيه، فإن فعلت فثق بأن الله جل وعلا سيجعل لك حظاً ونصيباً كبيراً من أمور شتى لا يحسن التفصيل فيها، نسأل الله لنا ولكم من فضله العظيم.

حكم التقصير في طاعة رسول الله مع ثبوت محبته في القلب

حكم التقصير في طاعة رسول الله مع ثبوت محبته في القلب Q إن من علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع أمره واجتناب نهيه، ولكننا نقصر كثيراً في طاعته ونقع في المعاصي، ويعلم الله أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما توجيهكم؟ A أصل المحبة لا ينافيها مثل هذه المعاصي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله، ولكن اتباع هديه عليه الصلاة والسلام والبعد عن المعاصي من دلائل كمال محبة العبد لنبيه صلى الله عليه وسلم. وعلى الإنسان أن يكون من الله على وجل، فلا يدري أي الذنوب يكون بسببها حرمانه من الشفاعة، فلذلك يجتنب المعاصي والذنوب كلها، فإذا وقع منه الذنب توجه إلى الله جل وعلا واستغفر وتاب إليه وأناب.

أفضل الكتب في أسماء الله وصفاته وزيادة محبته

أفضل الكتب في أسماء الله وصفاته وزيادة محبته Q ما هي أفضل الكتب التي تتحدث عن أسماء الله وصفاته وتزيد من حبه جل وعلا؟ A لا ينبغي أن يتردد أحد في الجواب، بأن أعظم كتاب يعرف بالله هو القرآن، فلا أحد أعلم بالله من الله، والله جل وعلا قد عرف بذاته العلية في كتابه المبين، فمن رزق تدبر القرآن تدبراً حقيقياً ومعرفة المواطن التي أثنى الله جل وعلا فيها على نفسه عرف ما لله جل وعلا من كمال الأسماء وجليل الصفات، ووالله ثم والله إن الإنسان ليقرأ في كتب أخيار وأئمة أجلاء في أسماء الله وصفاته فيزداد من الله قرباً ويعرف شيئاً، ثم إذا طواها وقرأ القرآن بتمعن وما أخبر الله به عن نفسه شعر أنه يرتقي درجات لا يبلغ أن يرقاها بتلك الكتب من الفهم والعلم بالله جل وعلا؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من الله. فيثنى على الله جل وعلا بما أثنى الله به على نفسه وبما سمى به نفسه وبما وصف به نفسه، لقد كان جبريل يتردد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:64 - 65] ثم ختم الله الآية بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]). ومنذ أن مرت عشرة قرون على آدم من زمن بعثة نوح إلى أن تقوم الساعة يوجد كفار يحاربون الله جهاراً عياناً، ولا يوجد طاغوت ولا كافر تسمى باسم الله، ولهذا قال الله لنبيه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. ويقولون: إن سيبويه مؤلف (الكتاب) النحوي المشهور قسم المعرفة إلى ستة أقسام: العلم، واسم الإشارة، والاسم الموصول، والضمائر، والمعرف بأل، والمعرف بالإضافة، وبدأ بالعلم، ثم جعل لفظ الجلالة أعرف المعارف. فيقولون: إنه لما مات ورئي في المنام قيل له: ما فعل بك ربك؟ فقال: قد غفر لي لأني جعلت اسمه أعرف المعارف. فلا ريب في أن اسم الله جل وعلا أعظم علم على الإطلاق، بل كما قال ربنا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].

لا نهاية لصفات الله

لا نهاية لصفات الله Q ما تفسير قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] وهل ذكرت السبعة على وجه المبالغة؟ A هذه الآية من خواتيم سورة لقمان، ونظيرها في القرآن قول الله جل وعلا في آخر الكهف: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]. وتفسير هاتين الآيتين مرتبط بعضه ببعض، وجملة معناهما أن كلمات الله جل وعلا صفة من صفاته، وأما البحر والأقلام فخلق من خلقه، والمعنى: أن كلمات الله جل وعلا وصفة من صفاته تبارك وتعالى لا يمكن أن تكون محدودة بالقلم والحبر؛ لأن القلم والحبر مخلوقان، فلا يمكن أن ينتهي كلام الله بنهايتهما، ولكن المخلوق له نفاد. فالبحر المقصود في الآية اسم جنس، وأما قول الله جل وعلا: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] في آية لقمان فالمقصود به منتهى العدد، فالعرب كانت تجعل السبعة نموذجاً لنهاية العدد، والمقصود من الآيتين: أن كلام الله جل وعلا لا نهاية له، وأن الله جل وعلا لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء. وأما البحر فهو مخلوق سينتهي يوماً، والأقلام المقصودة التي تؤخذ من الأشجار ستنتهي يوماً، ولو كانت تلك الأشجار عديدة أو كان ذلك البحر مديداً، والعلم عند الله.

نصيحة للمتعرض للفتن

نصيحة للمتعرض للفتن Q أنا شاب ملتزم منذ سنتين تقريباً، وفي الفترة الأخيرة تعرضت لفتن وضعف فيَّ الإيمان، فأرجو أن تدعو الله لي، وأن تنصحني وأمثالي؟ A الأفضل أن يدعو الإنسان لنفسه، وأن يتقرب إلى الله جل وعلا بعمل صالح وبدعاء خير من أن يطلب من الناس أن يدعوا له. وأما النصيحة فإنه -يا أخي- لا يوجد لذة أعظم من لذة الإيمان والقرب من الله والاستقامة على هديه، ومن وجد هذه اللذة فلا يحسن له أن يبدلها بما هو أدنى منها، فتفقد نفسك وابحث عن السبب الذي جعلك تحرم من هذه اللذة، ومن كان له والدان فليعلم أن من أعظم ما يعينه على الثبات بره بوالديه.

دور المرأة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

دور المرأة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم Q ما دورنا النساء في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ A إن حضور النساء المحاضرات وترددهن على بيوت الله من المناقب الحميدة في عصرنا، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاتها في بيتها خير لها) لأنه يكثر في هذا الزمان تردد كثير من النساء على مواطن الفتن كالأسواق، خاصة عندما لا تكون لها حاجة، أو ترددها على بعض الأماكن غير المحمودة، كالأماكن التي يختلط فيها الرجال والنساء. فإذا وجد نساء من أمهاتنا وأخواتنا وخالاتنا وعماتنا وغيرهن يترددن على المساجد فإنه يحسن بنا أن نأخذ بأيديهن إلى الخير، وأن نسأل لهن الله التوفيق والسداد. وأما دور المرأة في النصرة فهو أن تغرس حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أبنائها، وأن تربط تصرفاتها بتصرفات النبي عليه الصلاة والسلام فيما تقتدي به المرأة بنبيها، وتخبر بأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتضع المرأة يدها على رأس ابنها أو ابنتها وهي خارجة إلى المدرسة تعوذها قائلة: أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. وتخبر الأم ابنتها بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده على رأس الحسن والحسين ويقول هذه الكلمات، وأمثال ذلك من غرس الهدي النبوي القويم في صدور الأبناء والبنات.

الأسباب المعينة على قيام الليل

الأسباب المعينة على قيام الليل Q ما الأسباب المعينة على قيام الليل؟ فإني أحاول كثيراً أن أقوم الليل قبل الفجر فأقوم أحياناً ولا أقوم كثيراً؟ A كلنا يشكو إلى الله جل وعلا هذا الأمر، والله المستعان، إلا أن مما يعين على قيام الليل أن الإنسان إذا أصبح ولم يكن قد قام تلك الليلة يستحيي من ربه جل وعلا أن يغدو ويروح وهو في ليلته كلها التي فاتت لم يقم فيها لخالقه ومولاه، والله جل وعلا قد قال لنبيه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] ثم قال له: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] فليس لك عذر، فإن كان لديك مشاغل ومهمات وطلب معيشة ففي النهار، وأما الليل فاجعله لربك. والإنسان في الدنيا في النهار يكد لنفسه ولذويه، وأما الليل فحق لرب الأرباب جل جلاله، فتصلي فيه ولو ثلاث ركعات تقف فيها بين يدي الله تسأله وترجوه وتحمده وتثني عليه وتدعوه، إنا لله وإنا إليه راجعون.

حكم التضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم التضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم Q ذكرت أن من شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أنه ضحى عمن لم يضح عن أمته، فهل يؤخذ من ذلك أنه يشرع لنا أن نضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نحبه؟ A لم يقل بهذا أحد من أهل العلم، فليس من الفقه أن يأتي الإنسان إلى مسألة أجمع الناس عليها ثم يحاول أن يخرم ذلك الإجماع. والكمال كل الكمال في اتباع ما كان عليه سلف الأمة، فلا نعلم أنه نقل عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو عن غيرهم من الأجلاء من الصحابة أنهم ضحوا عن رسولهم صلى الله عليه وسلم مع قدرتهم على ذلك وهم أحب له منا وأعظم اتباعاً منا.

نظرة في شارات نصرة رسول الله ردا على الدنمركيين

نظرة في شارات نصرة رسول الله رداً على الدنمركيين Q بعض الناس يضع على سيارته الملصقات التي تحمل العبارات الآتية: (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (فداك أبي وأمي) وغيرها من العبارات التي انتشرت في هذه الأيام؛ فهل في هذا الأمر توجيه؟ A هذا أمر محمود لا بأس به، ولكنني أعترض على عبارة: (إلا رسول الله)، كما قلت في قناة المجد، فالعبارة غير صحيحة، فأنت عندما تقول: (لا إله إلا الله) يفهم منها أنه لا يعبد أحد إلا الله، وهذا حق، فأي معبود غير الله باطل، لكن عندما تقول: (إلا رسول الله)، فإنه يصبح المعنى أنه يجوز لهؤلاء الدنمركيين أن يتعرضوا لفلان ويتعرضوا لفلان ويتعرضوا لأي شيء غير رسول الله، وهذا غير مقبول. نعم هي من حيث اللغة العامية سائغة، حيث يقال في العامية: إلا فلان، ولكن في اللغة الفصحى لا ينبغي أن يقال: (إلا رسول الله)، وإنما يدافع عنه صلى الله عليه وسلم بعبارات أخرى، وهي مشكلة منتشرة في بعض القنوات وبعض المواقع في الإنترنت.

حمق الدنمركيين في استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم

حمق الدنمركيين في استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم Q ما هو دور الشاب الملتزم وغير الملتزم في الحملة الشرسة ضد الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، سواء مع نفسه أو مع أهله أو مع أقاربه؟ A الله يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] وقال: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فهؤلاء أشباه بقر، فلم يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما قالوه، ومن ناحية دنيوية محضة يدل هذا التصرف -بصرف النظر عن كونه حراماً- على أنه ليس عندهم عقول؛ لأنهم بفعلهم هذا جمعوا أعداءهم الذين هم المسلمون، وانظر إلى اليهود، فإننا نحاربهم منذ عام (1948م) وإلى اليوم ما تعرض اليهود لشخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يدركون أبعاد السياسة. فهؤلاء حمقى، فكل أموالهم وتجارتهم في أرضنا، وليس بيننا وبينهم حرب، فتركوا هذا كله وأتوا لنبينا صلى الله عليه وسلم وتعرضوا له، وكان بإمكان حكومتهم من أول الأمر أن تعتذر اعتذاراً رسمياً فينتهي الموضوع، ولكن لأمر قدره الله اجتمعت الأمة كلها، فيخرج في جاكرتا وفي إندونيسيا وفي تركيا قوم ليسوا عرباً، ولا يجمعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسب، ويرفعون الشعارات التي تعادي من يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعلم الناس أنه لا يوجد رابطة ولا سبب أعظم من رابطة العقيدة. فأنت حين تصلي على طفل ميت تقول في دعائك: وألحقه بكفالة أبيه إبراهيم في الصالحين، فكل طفل مسلم يموت دون البلوغ إلى قيام الساعة في كفالة إبراهيم عليه السلام، مع أن إبراهيم ليس جده ولا أباه، ووالد إبراهيم -وهو آزر - لا ينتفع بأي شيء من إبراهيم، فما الذي ربط بين إبراهيم وهؤلاء الأبناء وفصل بين إبراهيم وأبيه؟ إنه الإيمان، فالعلاقة بين إبراهيم وأبناء المسلمين علاقة أخوة في الدين، ولا توجد علاقة بين إبراهيم وأبيه آزر. فهذه الحملة التي فعلها هؤلاء الدنمركيون بينت للناس عموماً أنه لا يوجد رابطة أعظم من رابطة العقيدة، والذي يتأمل بوجه إنصاف سيجد أن الأمة قلما اجتمعت على شيء من مائة سنة كاجتماعها على نصرة نبيها صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن، نسأل الله أن ينصر دينه وكتابه وعباده الصالحين.

كان خلقه القرآن

كان خلقه القرآن في القرآن الكريم عظات وعبر بثها الله تعالى في آياته وسوره، ومن ذلك ما فرقه تعالى في سورة غافر بذكر بعض صفاته تعالى في فاتحتها، وذكر حال حملة العرش في تسبيحهم لربهم واستغفارهم للمؤمنين، وذكر حال الكافرين يوم القيامة، وذكر خبر مؤمن آل فرعون في وسطها. ومن ذلك ما ذكره تعالى في سورة الأعراف من الدعوة إلى العفو والصفح والإعراض عن الجاهلين، والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ومنه أيضاً ما ذكره تعالى في سورة طه من الأمر بسؤال الزيادة من العلم، وكل ذلك فيه زاد للمؤمنين.

ذكر أوصاف خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أوصاف خَلْق رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما عسى أن يقول عبد مثلي عن رسول الله وقد شرح الله له صدره ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره. أيها المسلم! نخاطبك في هذه الكلمات ونحن نحاول أن نعرج فيها على مفهوم بعض الآيات من كتاب الله الكريم الذي جعله الله جل وعلا حجةً على المعاندين، ورحمةً للعالمين، وهدى ونوراً لمن سلك الصراط المستقيم، أنزله الله جل وعلا على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا حديث عن النبي وحديث عن القرآن الذي أنزل على هذا النبي، حديث عن رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه. أما هيئته الخلقية فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ربعةً من القوم، لا بالطويل البائن ولا بالقصير الممتهن، كما كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، ليس شعره بالمسترسل ولا بالملتوي، في جبهته عرق يجره الغضب، فإذا غضب صلى الله عليه وسلم في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً. أزج الحواجب في غير قرن، طويل أشفار العينين، أشم الأنف، كث اللحية، والشيب فيه ندرة، إلا في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه. كأن عنقه أبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين، ومن بين كتفيه من الخلف شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض فعرفن بخاتم النبوة كأنه بيضة حمامة. ومن وهبة صدره إلى أسفل سرته خيط ممتد، ليس في صدره ولا في بطنه شعر غيره؛ ولهذا عبر عنه أهل السير بأنه دقيق المشربة، سواء الصدر والبطن، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه، وإذا تعجب -كما عند البخاري في الأدب المفرد- عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه.

من الميلاد إلى البعثة

من الميلاد إلى البعثة ولد عليه الصلاة والسلام بعد أن مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، فتعلق بأمه، فما أن تعلق بتلك الأم وبلغ من العمر ست سنين حتى توفيت تلك الأم؛ ليتعلق صلى الله عليه وسلم -شأنه شأن أي يتيم الأبوين- بجده، لكن ذلك الجد لم يمكث راعياً إلا سنتين أخريين، فمات فكفله عمه أبو طالب، ثم من الله جل وعلا عليه على رأس الأربعين بأن ختم به النبوات، وأتم به الرسالات، فقال له جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. ولم يكلفه ببعثة ولا برسالة، ثم أنزل عليه بعد أن رجع إلى دار خديجة متزملاً في ثيابه يقول: (دثروني دثروني) أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] وقال له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فأنذر عشيرته الأقربين، ثم توالى التكليف: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7] فأنذر أم القرى ومن حولها، فزاد التكليف: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] صلوات الله وسلامه عليه. الحديث عنه يجول ويحول وإن كان مكرراً، فيؤثر في النفوس وإن كان معروفاً، وليس المتحدث عنه يستطيع أن يقول شيئاً جديداً، ولكنه يستطيع أن يحيي قلوباً ميتة بسيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه. والقرآن أعظم ما من الله به على نبينا صلى الله عليه وسلم. جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه.

تأملات قرآنية في سورة غافر

تأملات قرآنية في سورة غافر

تدبر في فاتحة سورة غافر

تدبر في فاتحة سورة غافر ولذلك نرى أن تدبر القرآن هو أعظم شيء، على معنى قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان خلقه القرآن) صلوات الله وسلامه عليه. وما عمل أحد بالقرآن ولا فقه القرآن مثل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولما تمثل القرآن عليه الصلاة والسلام كان أشجع الناس قائداً وأفضلهم زوجاً وأكرمهم أباً ووالداً، كما كان صلى الله عليه وسلم أصدق الناس وفاءً وأحسنهم جيرة، وهو مع ذلك كله كان أحسن من يقف في المحراب بين يدي الله، وأفضل من يقف في فلق الأسحار يستغفر ربه ويدعوه ويرجوه، ويسأله جل وعلا، ويقف بين يدي ربه، يقيم الليل ويحييه بما أنزل الله عليه من القرآن. وهذه وقفات وعظات بما أنزل الله تبارك وتعالى على نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال الله جل وعلا له في صدر سورة غافر -وهي أولى الحواميم، والحواميم سبع سور في القرآن متتابعات تبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف- قال الله له في تلك السورة الكريمة: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3]. فالقرآن أعظم ما أنزله الله، والنزول في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، فورد مطلقاً فلا يذكر الله جل وعلا المصدر الذي أنزل منه، وأحياناً يرد مقيداً بأن الله يذكر المصدر الذي أنزل منه، ولم يورد الله نزولاً في القرآن منسوباً إلى ذاته العلية إلا كلامه، حيث قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]. وليس في القرآن شيء أخبر الله عنه أنه منزل من عنده ونسبه إلى ذاته العلية إلا القرآن، أما غير ذلك فقد أنزل الله الماء من السماء والملائكة من السماء، وقال جل ذكره: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]، أما القرآن فقد نزل به جبريل من عند الرب تبارك وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2]، ثم توالت الآيات تبين بعض صفات رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]. قوله: (ذِي الطَّوْلِ) أي: ذي المنة و (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: يغفر الذنوب، وهاتان صفتا رحمة توسطتهما صفة شدة وانتقام للرب تبارك وتعالى، حيث قال سبحانه: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). بهذه الآيات يخوف الله جل وعلا عباده، ويحيي تبارك وتعالى قلوب وأنفس المؤمنين، وقد فقه صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فلما أنزل الله عليه جل وعلا قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] كان صلى الله عليه وسلم في حجرات أمهات المؤمنين الملاصقة لشرقي المسجد فيهن أنس يغدو ويروح بحوائجه، وفيهن أمهات المؤمنين، كل واحدة منهن لها حجرة، تخل تلك الحجرات من موضع سجود له عليه الصلاة والسلام، فشهدت بسجوده وقيامه بين يدي ربه تبارك وتعالى. لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينمِ الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقمِ يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدمِ

تدبر في إخباره تعالى عن تسبيح حملة العرش ومن حوله واستغفارهم للمؤمنين

تدبر في إخباره تعالى عن تسبيح حملة العرش ومن حوله واستغفارهم للمؤمنين قال الله جل وعلا في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]. العرش سقف المخلوقات، والله جل وعلا مستو عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومع استواء الله جل وعلا على العرش فإن للعرش حملة يحملونه، قال سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) فهذه طائفة، ثم قال: (وَمَنْ حَوْلَهُ) الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، أي أن من حول العرش غير حملة العرش، فحملة العرش يحملون العرش، ومن حول العرش يطوفون حول العرش، وكلهم مخلوقون عبيد مقهورون لرب العالمين جل جلاله يسبحون بحمده ويكثرون من ذكره، قال الله عنهم: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) عظم علمهم بالله فعظم فرقهم من الرب تبارك وتعالى، وعظم إجلالهم له جل وعلا، عرفوا ربهم فخافوا منه. والعبد كلما كان بالله أعرف كان له أتقى ومنه أخوف، قال صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبريل كالحلس البالي من خشية الله) وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أما إني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية) فما دام عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله فهو -صلوات الله وسلامه عليه- أشد الخلق لله خشية. يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ). نقول كما قال الله: إن الله تعالى مستغن عن حملة العرش ومن حول العرش والعرش، وحملة العرش وسائر الخلق فقراء كل الفقر إلى الرب تبارك وتعالى، والله جل وعلا وحده له الكبرياء، فكتب على عباده أن يسجدوا له، والسجود أعظم ذلة من حيث الموطن والموقع، وكلما ذل الإنسان لربه وعرف أنه ما من نعمة إلا والله وليها، ولا من نقمة إلا والله قادر على أن يرفعها، كلما علم أن الله وحده، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وكلما تيقن أن الله يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد بحق إلا هو سبحانه، وأن الله جل وعلا وحده له رداء العزة والكبرياء، وأنه لا يطلب شيء إلا بالله، ولا تدفع نقمة إلا بالله، ولا ينال مرغوب إلا به سبحانه وتعالى، كلما تيقن بذلك دل ذلك على علمه بربه تبارك وتعالى. وهو الذي فيه وعليه قضى أنبياء الله حياتهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين، قال نوح: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وقال الله تعالى لآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].

الملائكة وأعمالهم

الملائكة وأعمالهم ثم بين جل وعلا في هذه الآية أن هؤلاء الملائكة يحملون العرش، وما حملة العرش إلا طائفة من الملائكة، والملائكة خلق من خلق الله، خلقهم الله جل وعلا من نور، ليسوا شركاء لله ولا أنداداً، ولا بنات لله ولا أولاداً، إنما هم عبيد من عباده وخلق من خلقه، يأتمرون بأمره ويقفون عند نهيه، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. فمنهم من أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي، وهو جبريل، ومنهم من أوكل الله جل وعلا إليه جريان السحاب وتقسيم الأمطار على الأقطار، وهو ميكال، ومنهم من أوكل الله إليه النفخ في الصور، وهو إسرافيل، ومنهم من أوكل الله إليه قبض الأرواح، وهو ملك الموت، وغيرهم آخرون كثر، قال الله جل وعلا عنهم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. ومنازلهم الأولى هي السماء، وعبادتهم التي لا يفترون عنها أنهم يقولون: سبحان وبحمده سبحان العظيم، وجاء في بعض الآثار أن منهم من هو ساجد لله منذ أن خلقه الله، ومنهم من هو راكع لله منذ أن خلقه الله، فإذا كان يوم القيامة يقبضون على هذه الهيئة ويحيون على هذه الهيئة، فإذا رفعوا رءوسهم رأوا وجه ربهم تبارك وتعالى فيقولون عند رؤية وجه العلي الأعلى: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

فضل الإيمان والفرق بينه وبين الكفر

فضل الإيمان والفرق بينه وبين الكفر قال سبحانه يبين لنا فضل الإيمان: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، فإذا كنت في بيت من بيوت الله؛ فقد أردت ما عند الله من الأجر، وعقدت أناملك بالتسبيح، ولهج لسانك بذكر الله، ودخل الإيمان في قلبك، وكل ذلك بفضل الله، فتستغفر لك ملائكة السماء، ويستغفر لك حملة العرش، فالإيمان جمع بينك وبين سكان السماوات العلى، والكفر يفرق بينك وبين أقرب الناس إليك، قال الله جل وعلا عن نوح في شأن ابنه: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:45 - 46]. وقد كان الخليل على كرامة عظيمة من الله، فقال لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] فالخليل إبراهيم له المنزلة العالية والاحتفاء العظيم في الملكوت الأعلى، ومع ذلك لما كان أبوه كافراً لم تنشأ علاقة نفع بينهما، بينما ينتفع صغار المسلمين الموتى إلى قيام الساعة بكفالة إبراهيم لهم، فنقول في دعائنا للأموات الصغار: اللهم ألحقهم بكفالة أبيهم إبراهيم في الصالحين، فينتفع هؤلاء الصغار بكفالة أبيهم إبراهيم ولا ينتفع به أبوه. فالإيمان جمع بيننا ونحن في الأرض مع ملائكة السماء وهم في السماوات العلى. والكفر -عياذاً بالله- يفرق بين المرء وأي كافر آخر، حتى يعلم أنه لا وشائج ولا صلة تربط بين الناس أعظم من رابطة الإيمان.

ثقل الذنوب وفضل الاستغفار

ثقل الذنوب وفضل الاستغفار قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7]. إن الإنسان لا يحمل فوق ظهره شيئاً أنكأ ولا أعظم من حمل الذنوب، قال الله جل وعلا: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] وقال جل وعلا: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. فما تقرب أحد إلى الله بشيء بعد توحيده أعظم من استغفاره جل وعلا، وملائكة السماء وحملة العرش على وجه الخصوص ومن حول العرش يستغفرون لكل مؤمن ومؤمنة، فأسأل الله جل وعلا أن نكون ممن تنالهم بركة ذلكم الاستغفار.

تمام فرحة المؤمن وقراره وبهجته في الجنة

تمام فرحة المؤمن وقراره وبهجته في الجنة قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:7 - 8]. إن عين المؤمن تقر إذا أمسى ثاوياً إلى أهله والتف حوله والداه وزوجته وبنوه وبناته، وحق له أن تقر عينه بهذا، ولهذا يجد المغتربون من الناس كمداً في صدروهم إذا أووا إلى منازلهم ولم يلتقوا بأهليهم، ويسألون الله أن يطوي عنهم أيام الغربة، ولكن القرار الحق، والفرح الكامل، والبهجة التامة يوم أن يلتقي المؤمن بوالديه وزوجته وأبنائه وبناته في جنات النعيم، قال الله تعالى عن الملائكة: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] ولن يقدم أحدنا لوالديه أو لولده من بعده شيئاً ذخراً أعظم من العمل الصالح؛ فإن العبد إذا كان صالحاً نفع الله بصلاحه والديه وذريته من بعده، وربما جعله الله جل وعلا ممن يشفعون في عرصات يوم القيامة. وهذا أمر مستقل شرعاً له أدلته الظاهرة في الكتاب الله والسنة، وإنما نذكره هنا إيماناً، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل ذلك النعيم.

تدبر في حال أهل النار

تدبر في حال أهل النار ثم قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة يحدث عن أهل النار، وهي الخزي الأعظم والخسران الأكبر: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:11 - 12]. قول أهل النار: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي: موتة ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، فنفخت فينا الروح، والموتة الثانية يوم قبض الأرواح، وهي الموتة المكتوبة على كل أحد. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الحياة الأولى عندما نفخت فينا الروح في بطون أمهاتنا، وهي حياة الدنيا، والحياة الأخرى: يوم بعثهم الله جل وعلا من مرقدهم، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52] فإذا اعترفوا بهذا يقولون: (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي: خروج من النار وعودة إلى الدنيا علهم يتقون. قال الله جل وعلا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] فإذا قالوا ذلك ذكرهم الله جل وعلا بأعظم معصية لهم، ألا وهي الإشراك بالله، وأن نفوسهم -والعياذ بالله- كانت تبتهج وتفرح إذا ذكر مع الله غيره، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، فمن أراد أن يعرف قربه من الله فلير كيف حاله إذا ذكر الله جل وعلا وحده، اللهم إنا نجأر إليك أن تعيذنا من أن تقر أعيننا أو تطمئن قلوبنا إلى أحد غيرك. قال الله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].

تدبر في بعض آيات الله الدالة على صفات كبريائه

تدبر في بعض آيات الله الدالة على صفات كبريائه ثم بين الله جل وعلا بعضاً من آياته الدالة على ما له جل وعلا من صفات الكبرياء، فقال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:12 - 15].

تدبر في قصة مؤمن آل فرعون وحياة يوسف عليه السلام

تدبر في قصة مؤمن آل فرعون وحياة يوسف عليه السلام وفي هذه السورة ذكر الله جل وعلا قول مؤمن آل فرعون، ومن ذلك: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]. فالحديث هنا عن مؤمن آل فرعون، وهو رجل من آل فرعون كما نص الله، وذهب بعض العلماء إلى أنه من بني إسرائيل، وهذا بعيد؛ لأنه مخالف لظاهر الآية. ولئن كانت الوقفتان السابقتان وقفتين إيمانيتين، فإن هذه وقفة تاريخية، فالله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ويحكم ويفعل في عباده ما يريد. فيوسف عليه الصلاة والسلام نشأ أخاً لأحد عشر أخاً غيره من أبناء يعقوب بن إسحاق بن الخليل إبراهيم. وحظي يوسف عليه الصلاة والسلام بالقرب من أبيه، فتآمر عليه إخوته، وأقنعوا أباهم بأن يذهبوا به ليلعب معهم ويرتع، ثم ألقي يوسف في غيابة الجب، فأوحى الله جل وعلا إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]. وعاد الأبناء إلى أبيهم يقولون: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فأخذ الأب المكلوم ينظر في القميص فلم ير فيه تغيراً، فيقول: أي ذئب عاقل هذا أكل ابني وترك قميصه؟! لكن الله جل وعلا ألهم يعقوب الصبر فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. ثم أخرج يوسف وبيع بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فآواه عزيز مصر، وأدخله داره، وقال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]. وأراد الله بهذا التمكين ليوسف خلاف الذي أرداه له إخوته، فقد أراد له إخوته أن يعيش مشرداً ضائعاً في غيابة الجب، فأراد الله جل وعلا أن يحيا يوسف في القصور، ففتنت به امرأة العزيز، ولكن يوسف عليه السلام كان خائفاً من ربه، وفياً مع سيده زوج المرأة، قال الله جل وعلا: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] أي: الزوج، فبادرت تقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] فدافع عن نفسه، فأُغلقت القضية بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29]. فوضع يوسف في السجن، وتغيرت الأحداث، وتغير الأشخاص الذين ظهروا على مطلع الحياة آنذاك، ولكن الذي لم يتغير هو اعتقاد يوسف بربه جل وعلا، فصلاح يوسف لم يتغير، وإنما ازداد إيمانه، فيوسف التقي عند أبيه هو التقي في غيابة الجب، ويوسف التقي في غيابة الجب هو التقي في القصر، ويوسف التقي في القصر هو التقي في السجن. قال الله جل وعلا عن فتيين مبيناً تأثير هذا النبي الكريم على من حوله بخلقه وكريم صفاته: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله، ولا يعرف الأنبياء شيئاً أعظم من توحيد الله، فأخذ يقرر عليهم التوحيد ويمليه عليهم، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39 - 40]. ويقدر الله أن يرى الملك الرؤيا، وتمر أحداث ليس هذا مقام تفصيلها، ويصير يوسف عزيز مصر يمكن في الأرض ويجعل على خزائن الأرض. وفي أرض كنعان أرض فلسطين يشعر يعقوب وأبناؤه بحاجة إلى القوت، ويسمعون عن ملك بأرض مصر، فيبعثون له العطايا، ويخرج الإخوة فيلتقون بيوسف، فيعرفهم ولا يعرفونه، ويعرض عليهم أن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، فتارة يرغبهم فيقول: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] وتارة يرهبهم: {فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60]. ثم ينتج عن ذلك أن يأخذ أخاه، ويبقى الأخ الأكبر، ويرجع بقية الإخوة إلى أبيهم يخبرونه الخبر: بالأمس فجعناك بيوسف واليوم نفجعك بأخيه بنيامين، فيقول ذلك النبي الصالح والعبد المكلوم يقول كما علمه الله: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] والأخذ والتوكل على الملك الغلاب لا ينافي الأخذ بالأسباب، فقال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، وفي آخر الأمر يدخل يعقوب أرض مصر ومعه أبناؤه، فيخرون سجداً ليوسف سجود تحية لا سجود عبادة. فهذا الذي أراده مؤمن آل فرعون عندما قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34]، فدل هذا على أن يوسف كان رسولاً نبياً بنص القرآن إلى فرعون الذي كان يحكم آنذاك في أيام حياة يوسف عليه الصلاة والسلام في أرض مصر. وقد دخل يعقوب عليه السلام بأهله أرض مصر وما كان يتجاوز عددهم أربعة عشر رجلاً وامرأة، فبارك الله في هذه الذرية، فلما خرج موسى ببني إسرائيل من أرض مصر كان عددهم يزيد على ستمائة ألف، وكلهم مما وضعه الله جل وعلا من البركة لنبي الله جل وعلا يعقوب. فهذا المؤمن يخوف آل فرعون بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34]. أثنى الله جل وعلا على هذا المؤمن بأنه ذكر الله جل وعلا في مجلس كله كفر، والعبد يعظم عند الله إذا كان يسعى إلى أن يحبب الله جل وعلا عند خلقه، ولم يأت الأنبياء برسالة أعظم من أن يعرفوا العباد بربهم تبارك وتعالى. فاحرص -يا أخي- على أن يكون أعظم همك أن تبين للناس ما لربهم جل وعلا من صفات الجلال ونعوت الكمال، وأنه وحده المستحق للعبادة الكبير المتعال. وهذا الأمر يتفاوت بحسب قدرة الخطيب على منبره، والإمام في محرابه، والمعلم في مدرسته، والمرأة في بيتها، والإداري في وظيفته، وكل بحسبه، ولكن علينا أن يكون همنا أن يعرف الله جل وعلا، وأن يعظم وأن يعبد تبارك وتعالى وحده، والطرائق في هذا تختلف؛ لأن الناس يختلفون من بيئة إلى بيئة ومن جيل إلى جيل، ومن مقام إلى مقام، والمقصود الأسمى من هذا كله أن يكون همنا الأعظم الدعوة إلى الرب تبارك وتعالى كما حكى الله عن هذا المؤمن الصالح.

تدبر في قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه)

تدبر في قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه) قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة أيضاً: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65]. الحياة صفة ذاتية لربنا جل وعلا، والحي اسم من أسمائه الحسنى، وهنا يقال: إن صفة الحياة لأي مخلوق يسبقها عدم ويلحقها زوال، أما ربنا تبارك وتعالى فلم يسبق حياته عدم ولا يلحقها زوال. وعلم أي أحد علم يسبقه جهل ويلحقه نسيان، وأما علم الرب تبارك وتعال فعلم لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، كما قال تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52] أي: لا يجهل ربي ولا ينسى. وهذا الثناء على الله جل وعلا بأنه الحي الذي لا إله إلا هو يجعل المؤمن يتوكل على الله جل وعلا حق التوكل؛ لأن كل من ألقيت متاعك أو رحلك عنده رجاء أن يعينك رجاءً تاماً كاملاً لا تخرمه فإنه قد يموت دون أن يقضي أمرك، أما الله جل وعلا فإنه حي لا يموت، ولهذا لا يصدق التوكل الحقيقي إلا على الرب تبارك وتعالى. ولكن ينبغي أن يفهم من القرآن أن الله جل وعلا كما أمرنا بأن نتوكل عليه وحده أمرنا جل وعلا بأن نأخذ بالأسباب، كما حكى الله جل وعلا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]. وأوضح منها برهاناً أن الله جل وعلا ذكر قصة خبر أم موسى، وأن الله جل وعلا أوحى إليها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] فهذا وعد من الله لها يوم أن ألقت ابنها في اليم. كأم موسى على اسم الله تحمله وباسمه أخذت في النيل تلقينا نقول: مع ذلك أخذت هذه المرأة الصالحة أم موسى بالأسباب، قال الله عنها: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، فبعثت أخت موسى تسأل عن موسى وتقتص أخباره حتى وصل بها الأمر إلى أن عرفت موضعه، فكانت سبباً بعون الله في أنه آب ورجع إلى أمه؛ ليتحقق بذلك وعد الله جل وعلا، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه.

تدبر في آية الأمر بأخذ العفو والإعراض عن الجاهلين

تدبر في آية الأمر بأخذ العفو والإعراض عن الجاهلين ومن آيات القرآن الكريم قول الله جل وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. إن من أعظم أخلاق المؤمنين التي تمثلها نبينا صلى الله عليه وسلم أخذه صلوات الله وسلامه عليه بالعفو امتثالاً لأمر ربه، والعفو -أيها المؤمن- من صفة الكرام، كما أن الظلم -عياذاً بالله- من أعظم ما يسبب للعبد سوء الخاتمة، والعفو عن الناس من أعظم ما يقرب به العبد إلى ربه جل وعلا. فقد ورد أن أبا سفيان بن الحارث الذي كان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خمسة يشبهون النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: الحسن والحسين وقثم والفضل وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه وأخوه من الرضاعة -ورد عنه أنه كان يباري فيقذع في هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وهو الذي رد عليه حسان بقوله: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وورد أن أبا سفيان لما أراد أن يدخل في الدين وقد أهدر النبي دمه خشي أن لا يعفو عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى إحدى أمهات المؤمنين يستشيرها، فقالت له: ائته وقل له: تالله لقد آثرك الله علي وإن كنت لمن الخاطئين، كما قال إخوة يوسف ليوسف؛ فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد أحسن منه بالخير، فجاء أبو سفيان فقالها، فقال صلى الله عليه وسلم: (يغفر الله لي وله فهو أرحم الراحمين) وعفا عنه، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان له بلاء عظيم في يوم حنين كما دونته كتب السيرة مما هو معروف في موضعه. والذي يعنينا من ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن هذا، وعفوه عن قريش من قبل يوم أن قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولم ينتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وعلى النقيض من ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعلا حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.

ذكر بعض أسباب قسوة القلوب

ذكر بعض أسباب قسوة القلوب ومن أعظم أسباب قسوة القلوب: ظلم المؤمن لأخيه المؤمن، كظلمه لزوجته، وظلمه لأولاده، وظلمه لأبويه -وهذا من أعظم الظلم- وظلمه لجيرانه، وظلمه لعامة المؤمنين، وظلمه للولاة، وظلمه للعلماء وقدحه فيهم وتنقيصهم، وكل ذلك ما لم يأذن الله جل وعلا به. وأعظم من ذلك: أن يتسلط أحد على أحد بعينه يريد أن يسفك دمه، أو يهتك عرضه، أو يأخذ ماله، فإن هذا من أعظم أسباب سوء الخاتمة. روى البخاري في التاريخ الكبير بسنده إلى محمد بن سيرين أن محمداً رحمه الله قال: كنت عند الكعبة فرأيت رجلاً يدعو يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي. فقال له محمد: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعاءك! فقال: يا ابن سيرين! إنك لا تدري ما خبري، إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا لقيت عثمان بن عفان أن ألطم وجهه ولحيته، فلما قتل عثمان فوضع على سريره ليصلي الناس عليه في بيته دخلت عليه فيمن دخل كأني أريد الصلاة عليه حتى وجدت خلوة، فلما وجدت خلوة رفعت عن كفنه وغطائه فلطمته على وجهه ولحيته وهو ميت، فما رفعت يدي إلا وهي يابسة كالعود، قال ابن سيرين رحمه الله: فأنا -والله- نظرت إلى يده شلة يابسة كالخشبة. فهذا قال الله عنه: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9]. وكذلك ظلم العباد وغشهم، وعدم الورع في أموالهم أو أعراضهم، سواء أكان أجيراً أم عاملاً أم موظفاً، أم زوجة أوكل الله جل وعلا إليك رعايتها، أم أبناء وبنات، أم أيتاماً وضعوا في حجرك، أم طلاباً بين يديك، فكل من جعلك الله جل وعلا بقدرته راعياً عليهم ينبغي عليك ألا تظلمهم، بل ينبغي عليك أن تهتدي بخلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وثمة قاعدة مريحة في هذا الأمر، وهي أنك إذا أردت أن تسأل نفسك: ماذا أصنع بمن أوقفه الله ذليلاً بين يدي؟ فاصنع به ما تحب أن يصنعه الله معك إذا وقفت ذليلاً بين يديه، فاصنع به ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت ذليلاً بين يديه، وما الدنيا إلا مزرعة للآخرة، والله يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].

البعد عن الفحشاء وأثره على العبد

البعد عن الفحشاء وأثره على العبد ومن الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم ودل عليه القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به المؤمنين: البعد عن الفحشاء والفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن، فقد قال الله لنبيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تمثلها النبي صلى الله عليه وسلم. كسفت الشمس في اليوم الذي مات فيه إبراهيم، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، ثم صلى بالناس صلاة أطال فيها، ثم وقف في الناس خطيباً يحذرهم ويقول: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته). فحرم الله جل وعلا الفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن، وحرم الطريق الموصل إليها بقوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]. وأعظم من ذلك: إتيان الذكران من العالمين، وهذه كلها فواحش حرمها الله جل وعلا في كتابه، وحكم على من صنعها -إلا أن يتوب- بالخسة والدناءة والبعد عن الرب تبارك وتعالى، قال الله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] في شأن الزنا، فإذا أراد الإنسان أن يقرب من الله فليغض بصره، وليحصن فرجه، وليكثر من ذكر الله، وليبتعد عن الطرائق الموصلة إلى مثل هذا المحرم، وليحذر الله في أعراض المؤمنات الغافلات، وليعلم أن قدرة الله عليه أقرب وأعظم من قدرته على من جعلهم الله جل وعلا تحت يديه. وقد تقف من مؤمنة على خطأ أو زلة، أو أمر وقعت فيه، فإن جعلته تهديداً لها تقارفها به وتصل إلى مرادك من خلاله فإن الله جل وعلا عليك أعظم وأقدر، وبينك وبينها الموعد، وهو الوقوف بين يدي الرب عز وجل. ولا بد لكل أحد من أن يوضع في قبره وأن تحل عنه أربطة الكفن، وأن يخلا بينه وبين ملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة، وسيسأل في ذلك المكان، ولن يجد أحداً يغيثه إلا الله، فإن كان عمله خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً، ثم الوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى ليعرض عليه الكتاب الذي: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]. وجماع الأمر كله معرفة الله والخوف منه، فإذا كان العبد عارفاً بربه معظماً لخالقه فإنه لا يمكن أن يجرؤ على مثل هذه الأمور، وإن كان ليس هناك في القلب علم بالله ولا توحيد له، ولا معرفة بحق الله جل وعلا؛ كانت هناك من العبد جرأة على المعاصي وانتهاك للحرمات وإتيان لها، غير مبال بحساب ولا عقاب، وهذا مرده بعد ذلك إلى الوبال والخسران، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

تدبر في أمر الله ورسوله بالازدياد من العلم

تدبر في أمر الله ورسوله بالازدياد من العلم ومما قاله الله جل وعلا في كتابه، وعلم به نبينا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] والعلم حياة للقلوب المؤمنة بالله، فبه يستدلون على معرفة ربهم، وبه يدعون إلى ربهم جل وعلا، وبه يعلمون الخلق، وبه تنار لهم الطرائق، وبالعلم تهدى -بإذن الله- الخلائق، فمن من الله عليه بالعلم فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع). وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يسأله الازدياد من العلم، وكان الواسطة بينه وبين ربه جبريل، ثم نشأ العلماء فأخذ الصحابة عن نبيهم، وأخذ التابعون عن الصحابة، ثم ما زال الجيل الآخر يأخذ عن الجيل الأول إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن يأذن الله بقيام الساعة. والمقصود من هذا كله أن طلب العلم والسعي فيه وثني الركب بين يدي العلماء من أخلاق نبينا صلوات الله وسلامه عليه التي دل عليها أمته وعلمها ذلك الجيل الذي نعت بأنه أمثل رعيل وأكمل جيل في مدرسة محمد صلوات الله وسلامه عليه. هذا ما تيسر قوله، وأعان الله جل وعلا على إيراده. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى قوله تعالى: (وإخوان لوط)

بيان معنى قوله تعالى: (وإخوان لوط) Q قال الله تعالى في سورة (ق): {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:13] فكيف يكونون إخوان لوط وهم كفرة ومكذبون بلوط عليه الصلاة والسلام؟ A كلمة (أخ) في اللغة تطلق أحياناً ويراد بها الأخوة في النسب، وأحياناً تطلق ويراد بها الأخوة في الأرض، وأحياناً تطلق ويراد بها الأخوة في الملة، وأحياناً تطلق ويراد بها الشبه، وبكل ورد القرآن، قال الله جل وعلا: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] والمقصود: أخاهم أرضاً. وقال جل وعلا: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] والمقصود: أخاهم نسباً. وقال الله جل وعلا: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34] والمقصود: أخي نسباً. وقال الله جل وعلا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم:28] والمقصود: أخته شبهاً في التقى والعبادة. فقول الله جل وعلا: (إخوان لوط) محمول على أنه كان أخاً لهم في نفس الأرض التي كانوا يسكنونها؛ لأن لوط إنما بعث إلى قوم ليسوا من عشيرته وهذا وجه. والوجه الآخر: أن كلمة (أخ) مثل كلمة (صاحب)، فلا يراد بالإضافة أن يقصد بها التشريك، وإنما المقصود التعريف، ومثاله في القرآن قول الله جل وعلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب قريشاً: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فسمى الله نبيه صاحباً لهم، وليس المقصود الصحبة المعروفة، وإنما المقصود أنه كلمهم وله علاقة معرفية بهم. فهذا المقصود من قول الله جل وعلا: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:13].

العادة النبوية وشرط حصول الأجر في اتباعها

العادة النبوية وشرط حصول الأجر في اتباعها Q ما الفرق بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعادته، وما المطلوب اتباعه؟ A السنة تطلق ويراد بها معان عديدة، فتطلق أحياناً ويقصد بها الموافقة للكتاب، وحين يقول: (كتاب الله وسنتي) فهذه السنة يمكن أن يندرج فيها العادة، أما إذا أطلقت وأريد بها السنة التعبدية التي أمرنا باتباعه فيها فبعض أهل العلم يخرج مسألة العادة منها، فلا يلزم الإنسان بها، ولكن إذا فعلها المرء تعبداً لله فإنه يؤجر عليها. مثال ذلك: حب النبي صلى الله عليه وسلم طعام الدباء، فهذا أمر جبلي، فكان أنس رضي الله عنه وأرضاه يأمر أهله إذا صنعوا طعاماً أن يضعوا فيه الدباء، ويقول: فما زلت أحبه -أي: الدباء- منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، فهذا طوع نفسه الجبلية بأن تأخذ بالعادة النبوية، فهذا يندرج في الثواب الذي يؤجر عليه المرء، والعلم عند الله.

خطوات الإلمام بعلم التفسير

خطوات الإلمام بعلم التفسير Q أريد المنهج الصحيح لطالب العلم المبتدئ في التفسير من البداية إلى النهاية؟ A النهاية أمرها واسع، ولا سبيل إلى إليها، فقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، والبداية هي المقصود الأسمى، ولا أستطيع أن أقدم جواباً عاماً، فمن الصعب أن يقول الإنسان جواباً عاماً؛ لأن طلاب العلم يختلفون في الهمة، ويختلفون في التأصيل السابق، ويختلفون في ما يُعرف من اللغة وفي ما يُحفظ من الأشعار. فليس التفسير كتباً تقرأ، وإنما ثمة عدة آلات تدخل فيه: أولها: أن يكون هناك تآلف بينه وبين هذا العلم، فيبدأ بثلاثة كتب أو أربعة كتب لمدة سنة أو سنتين يقرأ فيها ولو من غير تركيز، فيقف على أسانيد العلماء، ويعرف مظان المعرفة التفسيرية، ويصبح بينه وبين كلام الله جل وعلا ألفة. الثانية: يقرأ كثيراً في كلام العرب وشعرهم القديم حتى يعرف أساليبهم، ويقرأ في التاريخ، ويقرأ في أصول الفقه، فهذه كلها تعين المفسر. ثم بعد سنتين أو ثلاث يوسع الدائرة في التفسير، فيأخذ كتباً أكثر، ولو أقام درساً يسيراً فإنه مع مرور الأيام يزداد علمه، والعلم ضرورة فيه أن يكون فيه طول زمان، فلا بد من مرحلة زمنية، قال الشافعي رحمه الله: (وطول زمان)، وهو يذكر ما يعين طالب العلم على أن يصل إلى مراده ومبتغاه، فلا بد من طول زمان. وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى: إنما العلم يبنى يوماً بعد يوم مع طول الأيام والليالي، والعجلة لا تنبت شيئاً، والإنسان لا يطير قبل أن يريش. فبناء الخطوات تدريجياً يعين -بإذن الله- على أن يفقه الإنسان كلام ربه جل وعلا.

حكم لبس خاتم في يد وآخر في الأخرى

حكم لبس خاتم في يد وآخر في الأخرى Q ما حكم لبس خاتم في اليمين وآخر في اليسار؟ A هذا من عادات الناس، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً، فلا يتعلق بهذا أجر ولا عقاب، وإنما هو من جنس المباحات، فإذا وقف على حديث بعينه وأراد أن يطبقه عملاً بالسنة فهذا الذي يؤجر عليه.

درجة خبر ما يذكر به حملة العرش ربهم

درجة خبر ما يذكر به حملة العرش ربهم Q ذكر بعض المفسرين أن حملة العرش أربعة منهم يقولون: سبحان حلمك بعد علمك، وأربعة آخرون يقولون: سبحان عفوك بعد قدرتك، فهل هذا سنده صحيح؟ A ذكر بعض أهل التفسير أن حملة العرش ثمانية؛ لنص الآية: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، ولكنهم اختلفوا: هل هم ثمانية صفوف أو ثمانية أفراد؟ ولا أعلم في هذا سنداً صحيحاً، وأظنه مأخوذاً من مسلمة أهل الكتاب، أي أن أربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة آخرون يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.

بيان معنى قوله تعالى: (فضحكت)

بيان معنى قوله تعالى: (فضحكت) Q في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] يقال: إن (ضحكت) بمعنى: حاضت، فعلام استند قائل هذا التفسير؟ A القائل بهذا هو الشافعي رحمه الله، وهو حجة في اللغة؛ لأنه سكن في هذيل وأخذ عنهم علم اللغة عشر سنين، والشافعي رحمه الله تعالى إمام عظيم، ومن أجل علماء المسلمين، ولكن قوله هذا لا يقبل؛ لأنه لا يوجد تناسب تؤيده الآية. فالله تعالى يقول: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وإذا قلنا: (حاضت) فما العلاقة بين الملائكة وبين امرأة واقفة على رءوسهم تحيض؟ والمرأة كانت مستترة خارج الدار واقفة. فمقصود الآية -والعلم عند الله-: أن هؤلاء الملائكة مروا على إبراهيم وهم في طريقهم إلى قوم لوط، وقد اتفق المفسرون على أنهم مروا على إبراهيم عليه السلام، وعندما مروا على إبراهيم ذبح لهم عجلاً دون أن يعرفهم؛ لأن إبراهيم لو عرف أنهم ملائكة لما ذبحه لهم، فإبراهيم عليه السلام يعلم أن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولما كان خائفاً وجلاً منهم قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:62]، فأخبروه أنهم ملائكة، وأنه لا داعي للخوف ولا داعي للوجل، فأدخل ذلك الانشراح في قلب الزوجة التي كانت خائفة على زوجها؛ لأنها واقفة معه تعينه على إطعامهم وتنظر في شأن هؤلاء الضيفان الذين ارتاب فيهم زوجها، فلما أخبرته الملائكة وقالوا: (لا تخف ولا توجل) تبسمت وضحكت؛ لأن الغم الذي كان قد أتاها انتهى، فضحكت. فلما ضحكت كان فرحها بأنهم ملائكة مقدمة لأن يعطيها الله عطية، وهذا أصل من دقائق العلم، وهو أن الله لا يعطي إلا بعد أن يتبين أن المعطى استجدى. فلما ضحكت واستبشرت قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. ومثال هذه القصة في القرآن قصة السحرة، فالله جل وعلا يقول: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:38 - 40]. قال الله جل وعلا: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] فالسحرة والناس ينظرون لم يصبهم كبر بقدر الله، بل احترموا موسى فقالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115] وفي سورة أخرى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] فاستأذنوه بأدب، فقال لهم موسى: {بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] فألقوا حبالهم وعصيهم فرآها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ثم لما ألقى موسى قال الله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] فالذي آمن هم السحرة، وأما الجمهور الناظرون فلم يؤمن منهم أحد؛ لأن السحرة كانوا قد قدموا شيئاً بين يدي الله دون أن يشعروا، وهو أنهم تأدبوا مع كليم الله، فكافأهم الله منة منه، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، فهو يوفق العبد للطاعة ثم يثيبه عليها. فهذه المرأة فرحت بأنهم ملائكة فضحكت، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. هذا ما ندين الله به في الآية، ولكن ينبغي أن يعلم أن آراء العلماء تبقى محترمة على الرأس والعين، وقولنا أو قول أي أحد صواب يحتمل الخطأ، وغير قولنا إذا رددناه نراه خطأً يحتمل الصواب، وإن رأينا الحق رجعنا إليه. وقد قال عمر في وصيته لـ أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

توجيه لمشاهدي القنوات الفضائية

توجيه لمشاهدي القنوات الفضائية Q تساهلت بعض الأسر في البيوت المحافظة في إدخال الدشات والقنوات إلى البيت، فهل لكم توجيه في ذلك؟ A كلما نشأ الناس على الصلاح، وغض البصر، وتحصين الفرج كان ذلك أتقى لهم عند ربهم، ولا ريب في أن هذا أمر ملحوظ تساهل فيه كثير من الناس، خاصة من يترك تلك القنوات عائمة يبث فيها ما يبث، وقد يكون في البيت كثير من المراهقين والمراهقات، فإن هذا -والعياذ بالله- وراءه الشر المستطير، وينبغي على الذين ينفقون أموالهم في تأسيس قنوات مثل هذه أن يتقوا الله، فهؤلاء -والعياذ بالله- على شفا إثم عظيم، أولئك الذين يسعون في هدم بيوت المؤمنين ونشر الباطل، فينبغي للمؤمنين أن يتجنبوا هذه الطرائق الموصلة -والعياذ بالله- إلى غضب الله وسخطه.

حد الساحر وحكم توبته

حد الساحر وحكم توبته Q هل للساحر من توبة قبل أن يقدر عليه، وما هو حده إذا قدر عليه؟ A حد الساحر قتله، وقد يقبض عليه ويحكم عليه بالقتل ويتوب، وهذا لا يمنع قتله، ويتوب بينه وبين ربه، فالتوبة شيء بين العبد وبين ربه، فلو جاء رجل قد قتل نفساً وحكم عليه بالقصاص فإن إقامة الحد عليه ليس لها علاقة بالتوبة، فأي قاتل يتعلق بخطئه ثلاثة حقوق: حق لله، وحق لأولياء الدم، وحق للميت، فأولياء الدم مخيرون بين ثلاثة: بين العفو والقصاص والدية، وحق الله إن شاء غفر وإن شاء عذب، ولكنه يسقط بالتوبة. وحق الميت لا يسقط، ففي يوم القيامة يأتي الميت يطالب بحقه، فإن صدقت التوبة أعان الله القاتل يوم القيامة على أن تبرأ ذمته من المقتول. فالساحر لو تاب تاب الله عليه على حسب توبته، ولكن إقامة الحدود مسألة أخرى بحسب ما يراه ولي الأمر والقضاة.

سبل معرفة الله تعالى

سبل معرفة الله تعالى Q ما هي السبل والوسائل التي تجعل العبد أكثر معرفة لله سبحانه؟ A لا أحد أعلم بالله من الله، وتدبر ما في القرآن من ثناء الله على نفسه هو المعين الأعظم على معرفة الإنسان لربه تبارك وتعالى، ثم يقرأ ما سطره الأئمة الأخيار في كتب الرقائق، كما في صحيح البخاري، وما أشار إليه النووي في رياض الصالحين، وما ذكرته بعض كتب العقائد المبنية على منهج أهل السنة.

قطوف من حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

قطوف من حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي Q نود تذكيرنا ببعض المواقف المؤثرة في حياة شيخكم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله؟ A الشيخ محمد قد تكلمنا عنه كثيراً رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وفي الجملة أقول: أصله من بلاد شنقيط من موريتانيا، فكتب الله له الهجرة إلى هذه البلاد المباركة فحج، وكان في خيمة بالقرب من أحد الأمراء، وكانت هناك مسألة علمية تُناقش فشارك فيها، ومن خلالها عرف بالملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، ثم لما وصل إلى المدينة أكرمه الملك عبد العزيز بأن منحه الجنسية له ولأهل بيته، فمكث بعد ذلك يدرس في الحرم النبوي الشريف، وكان منذ صغره في موريتانيا يطلب العلم. وكان له خال يعنى به وهو صغير دون البلوغ، وفي ذات يوم مرض خاله هذا، يقول رحمه الله: كنت أمر عليه وأقول: ليته يموت حتى أستريح من الطلب ومن الدراسة، ولا يدري أن خاله سيكون سبباً في تعليمه، وأن هذا العلم سيجعله الله سبباً في رفعة شأنه. ولم آخذ منه مباشرة مع أنه كان جارنا رحمة الله تعالى عليه، ولكن مات وأنا في الثالثة عشرة تقريباً، وكان له مواقف عظيمة، ومن أشهرها: أنه عندما حج عام (1393) من الهجرة كان معه سائق، فرأى السائق في المنام أن نبياً يموت، فلما دنا منه لم ير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح أخبر الشيخ بها، فتغير وجهه، فلما تغير وجهه ندم السائق على أنه أخبره، فقال له: يا شيخ! لعلها أضغاث أحلام. فقال رحمه الله: ليست أضغاث أحلام، بل هي رؤيا، ولكن يكتب الله الذي فيه الخير، وبعدها بأربعة أيام توفي الشيخ. وإنما أخذ تفسيرها من كون العلماء ورثة الأنبياء، والسائق لم ير نبياً بعينه، فما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته، ولكنه أوهم أن هذا نبي في الرؤيا، ففسرت على أنه موت عالم، وكان -رحمه الله- آنذاك منارة من منارات العلم رحمه الله ورحم أموات المسلمين جمعياً.

بيان المراد بقول الله تعالى تعبيرا عن نفسه وحده (نحن)

بيان المراد بقول الله تعالى تعبيراً عن نفسه وحده (نحن) Q في سورة (ق) قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق:43] فلماذا قال الله عز وجل: (نحن) وهو عز وجل واحد؟ A هذا أسلوب عربي في الكلام يسمى أسلوب التعظيم، تستخدمه العرب في كلامها، وهو أنهم إذا أرادوا التعظيم يقولون: (نحن) ولذلك مواضع يقال فيها، فيأتي أحياناً للاختصاص، ويأتي أحياناً للتعظيم، ويأتي لغير ذلك، لكن هذا السياق سياق تعظيم، وليس سياق جمع عددي. ونحن نسمع الملك عبد الله -وفقه الله- في الأوامر الملكية يقول: نحن عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية. فهو شخص واحد، ولكن هذا أسلوب عربي في لغة العرب، وجائز قوله في حق الله وفي حق غيره، ولكن يختلف فيه حق الله عن حق غيره، كما تقول: فلان رحيم، والله جل وعلا قال عن نبيه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وتقول عن الله جل وعلا: إن ربنا غفور رحيم. إلا ما يتصف به الله غير ما يتصف به الناس.

حكم المسابقات المجراة في الصحف والمجلات

حكم المسابقات المجراة في الصحف والمجلات Q كثرت في الجرائد والصحف المسابقات التي يكون عليها جوائز عظيمة، كسيارات ونحوها، فهل تجوز مثل هذه المسابقات؟ A إذا كانت الجوائز تأخذ من الناس -كما هو حال أكثر المسابقات- ثم بعد ذلك بحيث توضع المسابقة وتكون الكلفة فيها سبعة ريالات للدقيقة الواحدة، فإن كان عدد المشتركين مليوناً وكانت الدقيقة بسبعة ريالات كان الناتج سبعة ملايين، فمجموعة منها ستعطى لشركة الاتصالات، ومجموعة للجريدة التي نشرت الإعلان، ومجموعة يأخذها الراعي للمسابقة، ومجموعة تعطى للناس، إذا كانت كذلك فهي محرمة قطعاً ولا تجوز. وهناك نوع آخر من المسابقات لا تؤخذ فيه أموال الناس، إلا أن فيه شبهة يسيرة، وهي قضية الكوبون، فهذه المسابقة صورتها: أن الجريدة تنشر المسابقة وثمة راع للمسابقة قد يكون عنده شركة سيارات، فيأتي بثلاثة ملايين ويتفق مع الجريدة على نشر المسابقة، فنشر المسابقة فيه دعاية للسيارات، والناس لا يدفعون مقابل ذلك شيئاً؛ لأن قيمة الجريدة لم تتغير، وإنما يستفيد أصحاب الجريدة من كون أكبر شريحة من المجتمع تشتريها، فهذه الأموال التي اشتريت بها الجريدة لم تدخل في الجائزة، إذ الجائزة مصدرها آخر، وهو الشركة أو نحوها، وليس مصدرها أموال الناس، فهذه فيها شبهة، ولكنها إلى الجواز أقرب -والعلم عند الله- خاصة في حق من اعتاد أن يشتري الجرائد. وبعض الأوروبيين يبيعون سياراتهم بطريقة محرمة، حيث يأتي الواحد بسيارة إلى بعض الموظفين، ويؤتى بمن لهم خبرة بالسيارات فيقومونها، فيقال: هذه السيارة تساوي ثلاثين ألف مثلاً، فيقوم ثلاثون موظفاً يريدونها، فيقولون لكل موظف: ادفع ألفاً، فيدفع ثلاثون ألفاً قيمة السيارة، ثم يقرعون فيأخذها واحد ممن دفع ألفاً، ومن المعلوم أن كل إنسان يشترك يقول: إما أن أخسر الألف أو أكسب السيارة، فتهون الألف، وله أمل في أن يكسب. فكلهم يشتركون، ثم تجرى بينهم قرعة، فيأخذ السيارة أحدهم، وصاحب السيارة يأخذ المال ويذهب، وهذا هو الميسر الذي حرمه الله جل وعلا.

حكم المنقول عن بني إسرائيل

حكم المنقول عن بني إسرائيل Q ما هو الضابط في النقل عن بني إسرائيل، وخاصة إذا كانت تلك الأخبار قد ذكرها بعض أهل العلم مثل الحافظ ابن كثير؟ A المنقول عن مسلمة أهل الكتاب عن علماء بني إسرائيل جاء فيه حديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) والأصل فيه أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما كان منه معارضاً لما عندنا، فيرد. الثاني: ما كان منه موافقاً، فيقبل. الثالث: ما كان غير موافق ولا معارض، فيقبل، ولكنه يعتبر من مليح القول لا من متين العلم.

نصيحة لمغتاب العلماء وطلبة العلم

نصيحة لمغتاب العلماء وطلبة العلم Q هل من نصيحة لمن يغتاب العلماء والمشايخ وبعض طلبة العلم، ويقضي مجالسه في نقد فلان وعلان؟ A الغيبة -والعياذ بالله- أول طرائق البقاء والانتكاس، وأعني بالبقاء أن الإنسان لا يتقدم، فالإنسان إذا أراد أن يطلب علماً، وأراد أن يهيئ نفسه لمكان ينفع به عباد الله فليجتنب الخوض في أعراض الناس، وقد قيل: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين فكلنا عورات ومعايب، ولكن الله جل وعلا يستر علينا وعليكم المعايب والعورات إذا لم نخض في عورات الناس ومعايبهم، فإذا خضنا في معايب الناس وعوراتهم سلط الله علينا من يخوض في عوراتنا ومعايبنا، فنسأل الله لنا ولكم السلامة. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الحديث عن الجنة

الحديث عن الجنة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وأمينه على وحيه، أكرم به عبداً وسيداً، وأعظم به حبيباً مؤيداً، فما أزكاه أصلاً ومبتدا، وما أطهره مضجعاً ومولداً، صلى الله عليه على آله وأصحابه صلاة خالدة وسلاماً مؤبداً. أما بعد: فإن من الدروس ما يحتاج قائلها إلى انتقاء في الألفاظ، وصياغة في العبارات، وبحث في المعاجم؛ حتى يسد بذلك خللاً في المعاني، وقصوراً في الغايات، وما يصاحب ذلك من المطالب التي تقصدها تلك المحاضرات. إلا أن الحديث عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حديث تزهو به العبارات، وتجمل به الصياغة، فإذا كان قد ثبت أن النوق -وهن نوق- تسابقن إلى يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم أيهن يبدأ بها لتنحر فإن الكلمات تتسابق أيضاً إلى أفواه قائليها إذا كان الحديث عن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر دون باب الله بابا أبا الزهراء! قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إلا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدرا فلما مدحتك اقتدت السحابا فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.

العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [1]

العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [1] لقد اصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً على الأمة، واصطفى له أصحاباً نبلاء هم أكرم أهل الأرض بعد الأنبياء، وأعظم هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون الأربعة، وإن الإنسان عندما يستعرض المواقف المتعلقة بوفاتهم يجد فيها كثيراً من العبر والعظات

العبر المأخوذة من وفاة الصديق رضي الله عنه

العبر المأخوذة من وفاة الصديق رضي الله عنه الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقاليد كل شيء بيديه، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل عبد إليه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه ما تلاحمت الغيوم وما تلألأت النجوم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فالله أكبر ما أعظمهم من أربعه مهديين وخلفاء راشدين، جعلهم الله جل وعلا قدوة وأسوة يوم تأسوا واهتدوا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، حبهم دين وملة، وموالاتهم ونصرتهم قربة وطاعة، والترضي عليهم من أعظم الدعاء، فاللهم ارضَ عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. أيها المؤمنون! إن الحديث عن هؤلاء الراشدين أمر مشتهر معروف؛ لكن تكراره محبب إلى النفوس مألوف، وسيقتصر حديثنا عن أيامهم الأخيرة، وأخبار موتهم وما في ذلك من دلائل العظات وجلائل العبر، في قوم كانت حياتهم زاخرة بالمعاني العظيمة، فلا غرو ولا عجب أن يكون موتهم حافلاً بالأحداث الجليلة. أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلا خلاف بين المؤمنين أنه توفي رضي الله عنه في جمادي الآخرة، لكن اختلف في عله موته، والأظهر أنه اغتسل في يوم بارد فحَم فكان ذلك سبباً في وفاته، وقد جعل الله جل وعلا لموت كل أحد سبباً. مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد أن استشار الناس في أمر الخلافة من بعده، وأخذ يبذل جهده وسعيه في الولاية من بعده، فأجمع أمره رضي الله عنه وأرضاه على تولية عمر بعد أن شاور كبار الصحابة، وكتب كتاباً بعد ذلك يجمع الناس فيه على عمر خوفاً على الأمة أن تتفرق بعده، وأن يتشتت شملها. وفي ذلك دلائل جليلة، من أعظمها أن النصح للمسلمين وحب الخير لهم من أعظم دلالات سلامة القلوب، وأن المؤمن المتحلي بهذه الصفة قد وقر الإيمان في قلبه؛ لأن من كمال الإيمان كمال النصح لله ولرسوله لكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم. جعلها الصديق رضي الله عنه في الفاروق من بعده؛ لأنه أدرك مع استشارته لخير الأصحاب أن عمر أقدر على سياسة الأمة من بعده، ولم يجعلها في أحد من بنيه أو أحد من (بني تيم) تلك القبيلة التي ينتسب إليها، فرضي الله عنه وأرضاه، وما أطيبه حياً وميتاً رضي الله عنه وأرضاه. أيها المؤمنون! وقف الصديق يحتضر وعند رأسه ابنته عائشة، فلما رأت ما أصاب أباها أخذت تتمثل ببيت حاتم: لعمرك ما يغنيى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق وهو في سكرات الموت عن غطائه وأخذ يقول: يا بنيه! لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. إن رباطة الجأش في مثل هذا الموضع لمن أعظم الدلائل على معرفه الله تبارك وتعالى، ومثل هذا لا يكون إلا إذا كان من قبل إيمان ويقين راسخ وأعمال صالحة تعين على الثبات في تلك المواطن، وإلا فسكرة الموت حق لابد منه لكل أحد؛ لكن المراد والمقصود من الحديث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه تمثل بالقرآن عند موته كما كان يعمل بالقرآن في أيام حياته، وما حياة الإنسان في آخرها إلا إجمال لما كان عليه قبل ذلك، فإذا منّ الله جل وعلا عليه بتوبة قبل الموت محت تلك التوبة برحمه الله ما كان من سالف الخطايا والعثرات. أيها المؤمنون! أوصى الصديق رضي الله عنه أن تتولى غسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، فغسلته وهي يومئذ صائمة في يوم شاتٍ بارد، فلما فرغت من غسله خرجت إلى فقهاء المهاجرين تسألهم: هل عليها من غسل لأنها لامست ميتاً، فأفتوها رضي الله عنهم وأرضاهم أن لا غسل عليها. فما أعظمها من زوجة وما أكرمها من مؤمنة! عرفت حق زوجها ولم تضيع وأبقت على حق ربها، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)! فالزوجة المؤمنة التقية من أعظم ما يعين على طاعة الله، ومن أعظم ما يساعد على القرب منه، كما كانت أسماء رضي الله عنها عوناً للصديق في حياته، وتولت غسله بوصيته بعد مماته. دفن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حجرة عائشة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانا جارين في الغار وهما حيان، ثم أضحيا جارين في قبرهما وهما ميتان، فما أكرمهما عند الله جل وعلا من صاحبين وما أعظم منّة الله جل وعلا وفضله عليهما! تولى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر بعده، وأخذ الأمناء الثقات من الصحابة وفتحوا بيت المال ليروا ما فيه، فلم يجدوا في بيت المال ديناراً ولا درهماً، كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقوم بالأمانة على وجهها، ويتقي الله جل وعلا في أموال المسلمين. والمال أيها المؤمنون فتنه، يدفع صاحبه إلى الغش لتروج بضاعته، ويدفع صاحبه لأن يقبل الرشوة ويضاعف من دخله، ويدفع إلى السرقة والخيانة، ويدفع أحياناً إلى الكذب والمماطلة في سداد الدين، لكن من عرف ذلة الوقوف بين يدي الله جل وعلا؛ تحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه أن يلقى الله وللناس عليه مطالب، ويومئذ يقتص للمظالم بالحسنات والسيئات، لا بالدينار والدرهم، ألا ترى أن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]. إن المرء في يوم القيامة لا يفر عمن لا يعرفهم؛ لأن من لا يعرفهم في الغالب لا حقوق لهم عليه فلا يطالبونه بشيء، فلا يخشى في عرصات يوم القيامة أن يقابلهم. أما من كانوا حوله من إخوة وأم وأب وزوجة وأبناء وجيران وأصدقاء، فإنه يفر منهم خوفاً من أن يكون قد ظلمهم في الدنيا فيطالبونه بحقهم في الآخرة، ولا دينار ولا درهم يومئذٍ إنما هي الحسنات والسيئات، عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها! عباد الله! هذا ما كان من شأن موت الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

العبر من وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

العبر من وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقد مات مطعوناً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، قتله أبو لؤلؤه المجوسي الذي كان يعمل حداداً للمغيرة بن شعبه ولم يسجد لله جل وعلا قط! وأعظم العبر في موت الفاروق رضي الله عنه ما كان مستقراً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من عظيم قدر الصلاة، فإنه لما طعن قال له الناس: ألا نحملك إلى بيتك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، لاحظ في الإسلام لم ترك الصلاة. وقف رضي الله عنه وأرضاه في الصف وجرحه يثعب دماً، ومع ذلك بقي يصلي، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالمؤمنين ركعتين خفيفتين مراعاة للموقف! فما أعظم حسرة عبد عافاه الله في بدنه ثم ينام عمداً عن صلاه الفجر! يسمع المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويؤثر الفراش الوثير على دعوة ربه العلي الكبير، فلينظر وليتأسَ بما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الغدو والرواح إلى جماعة المسلمين، والمحافظة على الصلاة جماعة في مساجد الإسلام. طُعن عمر وحمل إلى بيته فوقف ابن عباس رضي الله عنهما يثني عليه، ويقول له: يا أمير المؤمنين أبشر؛ فلقد كان أسلامك فتحاً، وهجرتك نصراً وأخذ يعدد مناقبه، فقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع! فما أقض مضاجع الصالحين شيء أعظم من خوفهم من الوقوف بين يدي ربهم جل وعلا. ذكر الله الساعة واستعجال الكافرين لها، ثم قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى:18]، مع ما يرجونه من رحمة الله إلا أنهم يشفقون من الخوف، ويعلمون عظمة الوقوف بين يدي الله في يوم يعرض فيه الكتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. بعث عمر رضي الله عنه في ساعة احتضاره وسأل الطبيب، فقال له الطبيب: استخلف يا أمير المؤمنين فإنك ميت، وكان الطبيب من بني معاوية من الأنصار فقال له عمر: صدقتني يا طبيب بني معاوية، ولو قلت لي غير ذلك لكذبتك! فبعث ابنه عبد الله بن عمر يستأذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذنها في أن يدفن مع صاحبيه، وقال له: قل لها إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها أمير المؤمنين فإنني لست اليوم للمؤمنين بأمير. فلما جاءه الخبر بموافقة عائشة فرح رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عظيماً وقال: لقد زال عني همٌ عظيم كنت أحمله. ثم قال: إذا مت وأدرجتموني في كفني فاستأذن مرة أخرى، وقل: إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فدفن رضي الله عنه وأرضاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنهما في موضع واحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة كلهم الثلاثة قد ألحد لهم، فهذا القبر يضم أشرف الأجساد: جسد نبينا صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء، وجسد الصديق والفاروق خير أصحاب الأنبياء والمرسلين. أيها المؤمنون! صدق في موت عمر قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وكل ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق. واستجاب الله جل وعلا دعوة عمر يوم قال: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فجمع الله له مناه، فمات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه البلدة المباركة يعظم حق الجوار فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منّ الله عليه بسكناها أو جعل الله جل وعلا لأحد منكم رزقه فيها، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها، فإن هذا من أعظم الفضل وأجزل العطاء، ويجب أن تقابل نعم الله بشكر، فلا يرينك الله تغش في طعام أو متاع أو تظلم أحداً منهم، أو يراك الله في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعرض لأعراض المؤمنين، تؤذي هذا، وتلمز هذا، وتؤذي أهل بيت هذا أو تغمز أو يكون منك من المعاصي غير ذلك. وأعظم الجرم أن يكون إحداث فيها بسفك دم أو قول أو فعل قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً). وفقني الله تعالى وإياكم لهدي كتابه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

اتباع السنة هو عماد المجد والسؤدد

اتباع السنة هو عماد المجد والسؤدد الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه المصطفى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. فالله الله أيها المؤمنون في تقوى ربكم سراً وإعلاناً، وخشيته تبارك وتعالى غيب وشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأقوم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم. عباد الله! إن أبقى الله في الأجل وأنسأ في العمر، سنأتي إن شاء الله إلى الحديث عن موت الشيخين الجليلين عثمان وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما. لكنه ينبغي أن يُعلم أن هؤلاء الأربعة الراشدين وغيرهم من أفذاذ الأمة ورجالها وساداتها عبر الدهور لم يسودوا إلا باتباعهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان للأمة شأن ولا ذكر لولا اتباعها لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلقد بعث الله نبيه بالتوحيد وجعله رحمة للخلائق، وهداية للطرائق، وسؤدد الإنسان في أمر دنياه بحسب قربه أو بعده عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم فصلوا وسلموا وباركوا عليه كما أمركم الله جل وعلا في كتابه: فاللهم صلّ على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلّ على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وارضَ اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، اللهم وارحمنا معهم بمنك ورحمتك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين. اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، ومن أراد بها سوءاً فرد اللهم كيده في نحره يا قوي يا عزيز، اللهم واحفظ أهل الإسلام في كل مكان يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم آنس في تلك البقاع وحشتهم، وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!

العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [2]

العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [2] لقد خسرت الأمة خسارة عظيمة وفادحة يوم أن قام بعض الأشرار ممن ينتسبون للأمة ويتسمون باسم الملة ظلماً وعدواناً بقتل اثنين من الخلفاء الراشدين المهديين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وقد انفتح بمقتلهما كل شر وبلاء على الأمة. وقد حرم الله تعالى سفك دم المسلم وعظم ذلك أيما تعظيم، وتوعد فاعل ذلك بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد في الدنيا والآخرة.

العبر من مقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما

العبر من مقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما

كيف قتل الصحابيان علي وعثمان

كيف قتل الصحابيان علي وعثمان الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، الرحمن على العرش استوي. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، فهدى به الخلائق وأبان به الطرائق، وأوضح المحجة وأقام الحجة، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اتبع بإحسان منهجه. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته، والتقرب إليه جل وعلا بمحبته وطاعته، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، فلا يرينك الله يا أخيّ حيث نهاك، ولا يفقدنك الله جل وعلا حيث أمرك، وإن من أراد حفظاً من الله فليحفظ الله في أمره ونهيه تبارك وتعالى. عباد الله! قد مضى الحديث فيما سبق عن الخلفاء الراشدين والأربعة المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم، ذكرنا نتفاً وعظات، وعبراً ودلائل وآيات من موت أبي بكر واستشهاد عمر رضوان الله تعالى عليهما. ونحن في هذا اليوم نستأنف الحديث عن مقتل ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأبي السبطين علي رضي الله عنه وأرضاه. أيها المؤمنون! ليس المقام مقام سرد للمرويات وذكر للأخبار والأقاصيص، وتبين الصحيح من السقيم، فهذا موطنه ومحله الطوال من المؤلفات والدراسات الأكاديمية في أروقة الجامعات، وإنما الحديث جملة عن خبر مقتلهما رضوان الله تعالى عليهما وما يمكن أن ينجم عن ذلك من عبر وعظات ننتفع بها في حياتنا ومعادنا، وحسبنا أن نقف على ثلاث منها، تذكيراً للعباد, وإقامة للحجة على الحاضر والباد. أيها المؤمنون! قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في يوم عُرف تاريخياً بيوم الدار، على يد ثلة من الخوارج وشقوا عصا الطاعة وخرجوا عن طاعته، حاصروا بيته زهاء أربعين يوماً، ثم أضرموا النيران من الخلف، ثم تمكنوا من دخول صحن الدار وهو يومئذ شيخٌ قد جاوز الثمانين فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه. قيل: إن أول قطرة من دمه نزلت على قول الله جل وعلا والمصحف بين يديه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]. قتل رضي الله عنه ظلماً بإجماع أهل السنة، فهو عند أهل السنة جميعاً، أمير البررة وقتيل الفجرة رضي الله عنه وأرضاه. وقد دفن في مكان يقال له: (حش كوكب) كان مجاوراً لبقيع الغرقد، فلما كانت ولاية أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه أدخل ذلك الحش في البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا بجواره موتاهم حتى يصبح قبر عثمان داخل البقيع، وقد تم الأمر على ما هو مشاهد عياناً اليوم. أما أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه فقد قتل وهو غادٍ إلى صلاة الفجر صبيحة السابع عشر من شهر رمضان على يد خارجي آخر، يقال له عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قتل علياً بسيف قد أعده وشحذه لهذه المهمة قبل أكثر من أربعين يوماً. فقتل علي رضي الله عنه وأرضاه وهو غادٍ إلى صلاة الفجر يدعو الناس إليها، هذا على وجهه الإجمال خبر مقتلهما.

خطورة الفكر الخارجي على الأمة

خطورة الفكر الخارجي على الأمة أما ما في ذلك من العظات: فإن الجامع في مقتل هذين الصحابيين هو ذلك التفكير الضال الهالك، الذي يعتقد القائمون عليه أنه الصواب وأنه المخرج للأمة، فإن قتلة عثمان كانوا يزعمون أنهم يريدون بذلك صلاح المسلمين، فمكنوه من الصلاة بالناس ثلاثين يوماً بعد أن حاصروه، ثم منعوه من الصلاة وقدموا أحدهم ليصلي بالناس زاعمين أن عثمان المشهود له بالجنة لا يصلح إماماً، ثم أضرموا عليه الدار من الخلف نيراناً كما بينا، ثم قتلوه وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين وكان صائماً يوم ذاك، وكان بين يديه القرآن يتلوه، لكن غلب عليهم المتشابه في عقولهم، وردوا النصوص المحكمة الظاهرة البينة في حرمة الخروج على ولاة الأمر وشق عصا الطاعة، وعلى حرمة عثمان نفسه رضي الله عنه وأرضاه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه: (عثمان في الجنة) رضي الله عنه وأرضاه! وكذلك الأمر مع علي رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في المسند بسند صحيح - يخاطب ابنته فاطمة: (إني وأنتِ وهذا الراقد - ويشير إلى علي - والحسن والحسين لفي مكان واحد يوم القيامة)، وجلله النبي صلى الله عليه وسلم بكساء ومعه فاطمة والحسن والحسين وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فصلّ على محمدٍ وعلى آله). والأخبار في خصائصه أكثر من أن تعد، وأكبر من أن تحصى، وكل ما ورد في فضل الشيخين الجليلين عثمان وعلي ضرب به الخوارج عرض الحائط؛ لأمور متشابهة نبتت في عقولهم، يقولون في سبب قتل عثمان إنه قرب القرابة، واستأثر بهم كولاة على المسلمين، وقتلوا علياً زاعمين أنه قبل التحكيم، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. أمام هذين الأمرين المتشابهين اللذين لا يقومان على ساق ولا يثبتان عند حجة، قتلوا رجلين من أفضل العباد في هذه الأمة بعد الصديق والفاروق رضي الله عن أصحاب محمد أجمعين بلا استثناء. عباد الله! إن أعظم ما يمكن أن يتسلح به المؤمن في أيام الشبهات العلم الشرعي البين من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بمنهاج سلف الأمة الصالح والاعتضاد بما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من سنة ظاهرة وآيات محكمة، ومعالم بينة ذكرها صلى الله عليه وسلم حفظاً للأمة وخوفاً عليها من الافتراق، وصيانة لدمائها، وجمعاً لكلمتها، ولمّاً لشملها، وإغاضة لعدوها. كل ذلك ما مات صلى الله عليه وسلم إلا وقد بينه أجمل البيان وأكمله، وإن من يدعو اليوم إلى شق عصا الطاعة، أو يسفك دماء المسلمين أو يرفع السيف عليهم، إنما يخالف بذلك أول الأمر هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بعثه الله جل وعلا به من الهدى والرحمة لهذه الأمة، يقول صلوات الله وسلامة عليه: (فاسمعوا وأطيعوا وإن كان عبداً مجدع الأطراف)، أي: مقصوص الأطراف لا يستطيع أن يقضي حاجة نفسه، فإذا كتب الله له الولاية وجب السمع والطاعة، لا إكراماً لهذا المجدع ولكن حفظاً للأمة وصيانة عليها ولمّاً لشعثها، لأن الأمر كما يقول الله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].

تحريم الظلم وسفك الدماء

تحريم الظلم وسفك الدماء ثانية العظات في خبر مقتل هذين الصحابيين: أن الظلم حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ففي الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وقد دلت آيات كثر وأحاديث صريحة صحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم على تحريم الظلم. وأعظم الظلم سفك الدماء، أو التعرض لأعراض المؤمنين أو الخوض فيما لا داعي له مما ينجم عنه ضرر كبير على المؤمن أياً كان. كل ذلك حذر منه صلوات الله وسلامة عليه، وبعث معاذاً إلى اليمن وهو يوصيه، وهم يومئذٍ أهل كتاب: (واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وأكثر ما يظهر هذا الأمر في قتل علي وعثمان: ما رواه البخاري في تاريخه بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: (كنت عند الكعبة: فسمعت رجلاً يدعو: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقلت: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال الرجل: إنك لا تدري إنني قد كنت أعطيت الله عهداً أنني إذا رأيت عثمان أن ألطم وجهه، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان على سريره في بيته، ودخل الناس يصلون عليه دخلت عليه فيمن دخل كأنني أريد الصلاة عليه، فلما وجدت في الأمر خلوة كشفت عن كفنه ثم لطمته على وجهه ولحيته وهو ميت، قال: فما رفعت يدي إلا وهي يابسة، قد شلت كأنها عود، قال ابن سيرين رحمه الله: فأنا نظرت إلى يده قد شلت كأنها عود! {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]. عباد الله! حرم الله الظلم لأن الظالم إنما يظلم لقدرته الوظيفية، لأمرته، لسلطانه، لجنديته، لكونه زوجاً متسلطاً أو ولياً على أيتام، فإن الظالم عندما يظلم كأنه يتناسى أن الله جل وعلا مطلع عليه، وأن الله جل وعلا عزيز ذو انتقام، وأن الله جل وعلا أقدر منه على هذا الذي ظلمه واستضعفه وسفك دمه أو سلبه ماله أو غير ذلك من صور الظلم التي وقعت! فاتقوا الله أيها المؤمنون! فيما تقولون وتفعلون، ولا تدفعنك قدرتك على ظلم أحد أن تظلمه، واعلم أن الله جل وعلا أقدر عليك من كل أحد أنت قادر عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]. فمن عظم الله جل وعلا في قلبه، فإنه يتذكر جلال الله وذلة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال قبل أن يظلم، سواء كان بين يديه أجير أو خادمة أو خادم أو سائق أو موظف أو جندي أو غيره. وإذا خفت الله فيه فإنك من الآمنين يوم القيامة، أما إذا تجرأت على محارم الله وحدوده فقلت بلسانك أو فعلت بيدك أو بسلطانك أو بتوقيعك أو بأي شيء تقدر عليه، ما تظلم به العباد، كنت خائفاً وجلاً بين يدي الله جل وعلا، فلا يجادل الله عنك أحد يوم القيامة، يقول جل شأنه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]. وقد ذكرنا مراراً أن المرء يفر يوم القيامة من قرابته وممن يحيطون به في الدنيا؛ لأنه يخاف أن تكون عليه مظلمة لهم فيتسببون في هلاكه بأخذهم لحسناته، أما البعداء من الناس الذين لم يرهم ولم يروه، فإن الإنسان لا يفر منهم يوم القيامة غالباً؛ لأنه لا يرى أنه قد ظلمهم ذات يوم، أو تعرض لهم بأخذ دينار ولا نقص درهم. فمن اتقى الله جل وعلا ساد وأفلح، ومن عصى الله جل وعلا وتجرأ على محارمه كان الله جل وعلا له بالمرصاد، إلا أن تتداركه رحمة الله فيتوب ويئوب إلى رب العزة والجلال، وقانا الله وإياكم الشر كله أوله وآخره. عباد الله! هذا ما تيسر قوله وتهيأ إيراده والله المستعان، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية الجانب التعبدي في حياة الإنسان

أهمية الجانب التعبدي في حياة الإنسان الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: عباد الله! فإن ثالث الفوائد في خبر مقتل هذين الصحابيين الجليلين وآخرها: أنه ينبغي على المرء أن يكون ثمة جانب تعبدي عظيم في حياته، فإن عثمان قتل وهو صائم، وقتل وهو يقرأ القرآن، وعلي رضي الله عنه قتل وهو غادٍ إلى صلاه الفجر، والغدو إلى صلاه الفجر والصيام وقراءة القرآن كل ذلك من أجل العبادات. فيجب أن يفرق الإنسان بين دوره الاجتماع، وحياته الوظيفية وبين أمره التعبدي، فإن الناس لا بد أن يتفاوتوا في حياتهم الاجتماعية ودورهم الوظيفي، ومسألة الغنى والفقر والجاه وغيره، هذه سنه الله جل وعلا في خلقه لكن ذلك بمنأى عن أن يعزل الإنسان ذلك عن جانبه التعبدي. والمعنى: أنه ينبغي أن يكون للإنسان نصيب من العبادة والقرب من الله جل وعلا بصرف النظر عن موطنه، ويقع هذا على الأئمة والخطباء والعلماء والدعاة بصورة أكبر: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. والمقصود أيها المؤمنون! أنه كلما كان بين العبد وربه جانب تعبدي - من خلوات بالليل وحزب من القرآن يقرؤه وإكثار من النوافل والصيام وغير ذلك من الطاعات - كان حرياً بأن يكرم عند الله جل وعلا، وقد أثنى نبيكم صلى الله عليه وسلم على نبي الله داود وقد جمع الله له الملك والنبوة فقال صلوات الله وسلامه عليه: (كان داود أعبد الناس، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وذكر من صلاته في الليل ما ذكر. والمقصود أنه ينبغي على المؤمن أن يكون له حظ من العبادة تكفر به الخطايا، وترفع به الدرجات، وتقال به العثرات، وتحل به العقد، وتدفع به الكوارث، وكل ذلك لا يكون إلا إذا كان العبد قريباً من الله جل وعلا. ألا واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وارضَ عن أصحاب نبيك أجمعين، وخص منهم الأربعة الراشدين، واغفر لنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين. اللهم إنا نسألك الإيمان، والعفو عما مضى وسلف من الذنوب والآثام والعصيان. اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك. اللهم ارزقنا توبة نصوحاً نفيء بها إليك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وانصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان، اللهم اقهر عدوها واخذله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقهر عدو هذه الأمة واخذله أينما حل وحيثما كان يا ذا الجلال والإكرام. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

دنت بشائره [1]

دنت بشائره [1] شهر رمضان هو شهر الطاعات، وهو شهر القربات، وشهر القرآن الكريم، وفيه تفتح الجنان، وتغلق النيران، وتصفد الجان. هو شهر العفو والغفران، وشهر التوبة من العصيان، وهو محطة يتزود منها العبد إلى الدار الآخرة، ونقطة انطلاق في الإصلاح والتغيير.

فرض صيام شهر رمضان

فرض صيام شهر رمضان الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرفه به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. عباد الله! الله أكبر وقد دنت بشائره، وارتفعت منائره، يترقب الليلة أو ما بعدها المسلمون في جميع الأرض هلاله، يفزعون فيه إلى جل وعلا بما شرع من الطاعات، وبما حكم من العبادات؛ تعرضاً لنفحاته، واستجابة لأمره، وطلباً للغفران، وستراً للعيوب. أيها المؤمنون! إن ربكم يخلق ما يشاء ويختار، وقد جعل الله جل وعلا بحكمته ورحمته وعزته شهر رمضان موئلاً للصيام الذي تعبد الله به عباده، كما تعبد الله به الأمم من قبلنا. أيها المؤمنون! شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله جل وعلا صيامه على خير خلقه وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه في السنة الثانية من هجرته، ثم ما زال صلى الله عليه وسلم يصومه حتى وفاته، ثم صامه المسلمون من بعده، فأعظم ما يقع في شهر رمضان من العبادات هو صيام ذلكم الشهر عطفاً على الصلاة المقررة في الحياة كلها. أيها المؤمنون! نادى الله جل وعلا عباده نداء كرامة لا نداء علامة، فقال تبارك اسمه وجل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ثم حدد الله زمانه فقال جل ذكره وعلا شأنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. فصيام هذا الشهر المبارك أحد أركان الإسلام العظام، ولا يتصور أبداً أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يعمد إلى فطر يوم من أيام هذا الشهر المبارك من غير عذر سفر ولا مرض. قال الإمام الذهبي رحمه الله: وعند المسلمين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني وشر من مدمن الخمر، بل يظنون به الزندقة والانحلال، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى. أيها المؤمنون! إنكم بصيامكم لشهر رمضان تؤدون ركناً من أركان دينكم، وهدياً من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأنتم بذلك في المقام الأول تستجيبون لأمر ربكم جل وعلا، واستجابة المؤمن لأمر ربه هي عنوان الفلاح، وطريق النجاح، وأساس السعادة، وبها يفوز المؤمن في دينه وبرزخه وأخراه، قال الله جل وعلا: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72].

تفسير قوله تعالى: (إلا الصوم فهو لي)

تفسير قوله تعالى: (إلا الصوم فهو لي) عباد الله! إن الصوم عبادة وأي عبادة، جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد معنى هذا اللفظ القدسي، وأظهرها -والعلم عند الله- أن الصوم أحد الأركان الأربعة العملية من أركان الإسلام، فالثلاثة غير الصوم وقعت لغير الله إما جهلاً وإما كرهاً وإما طوعاً، فكم من طواغيت عبر التاريخ كله أمروا الناس أن يركعوا ويسجدوا لهم ويعظموهم تعظيماً لا يليق إلا بالله، فوقع ما يشابه الصلاة لغير الله، وإن كان فاعلها لا يعد مسلماً. وأما الزكاة فالأصل فيها أخذ المال، فوقعت لغير الله، فكم من طواغيت وسلاطين متجبرين جمعوا الأتاوات، وأخذوا الأموال طوعاً أو كرهاً أو جهلاً من الناس. وأما الحج فالأصل فيه الطواف حول البيت العتيق، وكم من الطواغيت والسلاطين عبر التاريخ الذين أمروا الناس أن يطوفوا حول عروشهم ويعظموهم، ووقع ذلك كذلك من بعض من ينتسب إلى الإسلام ممن يطوف حول الأضرحة والمشاهد والقبور، ويظن أن أصحابها ينفعون شيئاً. لكن التاريخ كله لم يشهد ولم يقع فيه أن أحداً صام لغير الله؛ لأنه لا يوجد أحد ممن يزعم أنه مستحق للعبادة طلب من الناس أن يعبدوه صياماً؛ لأن ذلك يكلفه أكثر مما يطيق، ولهذا يظهر والعلم عند الله أن المعنى الحقيقي لقوله: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أنه عبادة لا يمكن أن تقع لغير الله، ولهذا اختصها الله جل وعلا لنفسه، وأضافها تبارك وتعالى لذاته العلية إضافة تشريف.

هدي النبي في صيام رمضان

هدي النبي في صيام رمضان أيها المؤمن! إنك لن تصوم أكمل من هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تأمل المؤمن في سنة أحمد صلوات الله وسلامه عليه عرف الطريق الأقوام والسبيل الأمثل إلى صيامه، فتسحر نبيكم صلى الله عليه وسلم قريباً جداً من صلاة الفجر، وقال: (تسحروا فإن في السحور بركة)، رواه البخاري رحمه الله من حديث أنس، فيتسحر المؤمن حتى يتقوى على طاعة الله، وهو لا يمتنع عن الطعام امتثالاً لأمر طبيب، ولا تقرباً لحبيب، وإنما يصوم رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لما كان من الله من الأمر. وأفطر نبيكم صلى الله عليه وسلم على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء، ثم يفزع صلى الله عليه وسلم ويقوم إلى الصلاة، وأخبر في الحديث القدسي أن الله يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً). إن المؤمن يمتنع عن الأكل والشرب وما أباحه الله له من الجماع وهو يقدر على ذلك كله؛ رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لأمر ربه، فإذا انقضى وقت الأمر الإلهي، وانتهت المدة التي حددها الله فزع المؤمن إلى الطعام والشراب؛ يظهر إلى الله جل وعلا فقره، ويقول لربه بلسان الحال: ما أحوجني إلى الطعام والشراب وإلى فضلك، وإنما امتنعت عنه لما أمرتني، فلما أبحت لي أن آكل أكلت، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي صلوات الله وسلامه عليه، والخير كل الخير في هديه واتباع سنته، وامتثال أمره ولزوم هديه.

فضل الصدقة في رمضان

فضل الصدقة في رمضان عباد الله! إن المؤمن يجمع إلى تلك العبادة العظيمة بعضاً من العبادات وأفعال الخير التي ثبتت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد أكثر نبيكم عليه الصلاة والسلام من الصدقة في رمضان، خاصة إذا لقيه جبريل فإنه يكون أجود من الريح المرسلة، وقد جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله الصدقة فقال: يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمان جنة أقسمت بالله لتفعلنه قال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأمضينه قال عمر: وإن مضيت يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما جنة جعلني الله وإياكم من أهل جنته. إن إعطاء الفقراء، ومواساة ذوي القربى، وإجابة السائلين رغبة فيما عند الله من الخير من أعظم ما يدل على حسن الظن برب العالمين جل جلاله، فما تعطيه بيدك يخلفه الله جل وعلا عليك، والله تبارك وتعالى خير الرازقين.

فضل العمرة في رمضان

فضل العمرة في رمضان إن العمرة في رمضان أيها المؤمنون! مرغب فيها شرعاً، قال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (عمرة في رمضان تعدل حجة)، وفي رواية لـ مسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) صلوات الله وسلامه عليه، فالإتيان بها في رمضان قربة وأي قربة، لكن لا يكلف الإنسان نفسه ما لا يطيق، ولا يتعرض لأذى الناس إذا أدى العمرة، وإنما يؤديها طلباً للمغفرة من الله، وسعياً إلى نيل رحمة أرحم الراحمين جل جلاله.

مدارسة القرآن في رمضان

مدارسة القرآن في رمضان قرأ نبيكم صلى الله عليه وسلم في رمضان القرآن، وكان جبريل يدارسه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه صلوات الله وسلامه عليه دارسه جبريل في ذلك العام كالمودع، دارسه القرآن مرتين. القرآن أيها المؤمنون! كتاب الله، أنزله الله بواسطة خير ملك على خير نبي في خير ليلة من خير شهر، فيتعبد المؤمن ربه جل وعلا بتلاوته وتدبره، والعمل بما فيه، والإيمان بمتشابهه، والعمل بمحكمه، ويفزع إلى أمر القرآن فينفذه، ويرى نهي القرآن فيعرض عنه، كل ذلك خوفاً من الله وفرقاً وامتثالاً لأمره، وطلباً لما عند الله جل وعلا من الأجر والثواب. يقرأه المؤمن في صلاته، وفي غير صلاته، ويتدبره ويعرف معانيه، حتى يكون إلى الله أقرب، ومن الله أدنى، إذ لا نسب بين الله وبين أحد من خلقه، ولكنه العمل الصالح، ومن أعظم العمل الصالح تدبر القرآن، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:83 - 85]، كتب الله لي ولكم هذا المقام الرفيع.

فضل القيام في شهر رمضان

فضل القيام في شهر رمضان عباد الله! وكما أن رمضان شهر القرآن، فرمضان أيضاً شهر القيام، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وصلاة الليل كنز الأبرار، وموئل المتقين الأخيار، يتعبدون الله بها العام كله، فإذا كان رمضان عظم اجتهادهم، وكثرت طاعتهم، وزادت صلواتهم. وقد شرع لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، ابتدأ سنيتها ثلاثة ليال أو أربع، وكان في حياته مازال الوحي ينزل، فخوفاً وشفقة على الأمة أن تفرض عليهم هذه الصلاة امتنع صلى الله عليه وسلم عن الخروج، لكن الناس كانوا يصلونها أرسالاً، وفعلوا كذلك في أيام أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وصدراً من خلافة أمير المؤمنين عمر، فدخل عمر المسجد ذات يوم كما روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر دخل المسجد فوجد الناس يصلون التراويح أرسالاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال رضي الله عنه وأرضاه -وهو المحدث الملهم، المتبع لسنة محمد صلى الله عليه وسلم- قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أكمل. فجمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه. ثم دخل المسجد فإذا الناس يصلون بقارئ واحد فقال رضي الله عنه وأرضاه: نعمة البدعة هي، والتي ينامون عنها خير من التي يقومون لها. أي: لو كانت هذه الصلاة في آخر الليل لكان أكمل، وربما فعلها عمر في أول الليل؛ شفقة على الضعفاء وكبار السن، ومراعاة لأحوال المسلمين.

عدد ركعات القيام في رمضان

عدد ركعات القيام في رمضان وأما تحديد عددها فالأمر فيه واسع، قال الشافعي رحمه الله -وهو يمثل أنموذجاً لصالح الأسلاف رضي الله عنهم وأرضاهم- قال: أدركت الناس في المدينة يصلون تسعة وثلاثين، وأدركت الناس في مكة يصلون ثلاثة وعشرين، وليس في ذلك كله من الأمر ضيق، فالأمر فيه واسع. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، لكن السلف معاذ الله أن يتركوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا واسع، فمن صلى إحدى عشرة ركعة، أو صلى تسعة وثلاثين، أو صلى ثلاثاً وعشرين، أو زاد على ذلك أو نقص فكل ذلك جائز، والمقصود الأسمى والغاية العظمى أن يقوم الإنسان لرب العالمين جل وعلا في الليل، ومن ائتم بإمام فالأفضل والأكمل ألا ينصرف حتى ينصرف إمامه. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أعمال يجب الإكثار منها في رمضان

أعمال يجب الإكثار منها في رمضان

الاهتمام بالطاعات في شهر رمضان

الاهتمام بالطاعات في شهر رمضان الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: عباد الله! فلنتذكر ونحن نستقبل شهراً مباركاً أن الله جل وعلا أفسح لنا في الأجل، ومد لنا في العمل، وكم من عبد مرهون في قبره لا يستطيع الخروج منه ليقدم أو يؤخر، فاحمد الله أيها المؤمن! أن الله جل وعلا أكرمك بأن بلغك شهراً مباركاً هو شهر رمضان، فازدد من الطاعات، وسابق في الخيرات قبل حلول الأجل، وقبل فوات الأمل، فالدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة، ولابد من ملاقاة الله. عباد الله! إن من الغفلة كل الغفلة أن يجعل الإنسان من أيام رمضان ولياليه كأيام العام كلها وليالي العام كلها، فلا يغير من حياته شيئاً، ولا يتقرب إلى الله بتوبة، ولا يعزم أبداً على قراءة القرآن، ولا يُرى في المساجد لا في صلاة تراويح ولا في غيرها، كل هذا والعياذ بالله من الغفلة والران على العبد، نسأل الله لنا ولكم العافية. فلابد من إخلاص النية، وعقد العزم، وإقامة العمل، والصبر والمصابرة في ذات الرب تبارك وتعالى؛ طلباً للأجر، ودفعاً للوزر، وإرضاء للرب جل جلاله. عباد الله! ولئن كان ذلك من الغفلة فإن من الجرءة العظيمة على الله أن يعمد الإنسان في شهر مبارك كهذا إلى العلاقات المحرمة، والخلوات الآثمة، وإلى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فيحارب الله جل وعلا بها بكرة وعشياً، فيستره ربه وهو يمشي في معاصيه غير نادم على ما كان منه، ولا يعرف لله قدراً، ولا من الناس حياءً، ولا للشهر حرماً، فمثل هذا تعظم في القبر هلكته، وتزداد في يوم القيامة حسرته، قال الله جل وعلا: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]. فليبادر كل امرئ منا بالتوبة إلى الله جل وعلا، وليعلم أنه ما حمل أحد على ظهره وكاهله شيئاً أعظم من الذنوب، قال الله جل وعلا: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، وقد جعل الله من شهر رمضان فرصة عظيمة للتوبة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب)، فاجعلوا من أيام هذا الشهر المبارك فرصة سانحة لتقوى الله جل وعلا؛ حتى تغفر ذنوبكم، وتستر عيوبكم، وكلنا جميعاً ذو ذنب وعيب، نسأل الله الغفران وستر العيوب كلها.

الإكثار من الدعاء في هذا الشهر المبارك

الإكثار من الدعاء في هذا الشهر المبارك عباد الله! أكثروا من الدعاء في شهركم هذا، فإن الله جل وعلا ذكر الصيام وفضله، ثم ختم الله تلك الآيات الغرر بقوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، والدعاء هو العبادة في رمضان وفي غيره، لكن الأماكن الفاضلة والأزمنة التي اختارها الله لها نوع معين من قبول الدعاء، فأكثروا من الدعاء والإلحاح على الله في رمضان وفي غيره أن الله يقبل صالح أعمالكم، ويغفر لنا ولكم السيئات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:46 - 48]. ألا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلياً، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين. اللهم بلغنا رمضان وارزقنا صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم بلغنا رمضان وارزقنا صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك من فجأة نقمتك، وزوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن جميع سخطك. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، ونعوذ بك ربنا من النار. اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. اللهم عم بالخير جميع ديار المسلمين، وارفع عنهم الضر واللأواء والبأساء يا حي يا قيوم. اللهم واجعلنا من عبادك الصالحين الذين يقولون الحق وبه يعدلون. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

دنت بشائره [2]

دنت بشائره [2] إن المؤمن الدارس للسيرة النبوية يدرك من خلال حدثين مهمين وهما: غزوة بدر، وفتح مكة؛ يدرك فوائد جمة وعبر كثيرة تنير له طريقه إلى الله، وتبصره بحقائق فذة، لذا ينبغي للمؤمن أن يتدارس تلك السيرة العطرة، ويستخلص منها المعاني العظيمة، والدلالات السامية، ثم يجعل ذلك نبراساً يضيء له الدرب إلى الله تعالى.

وقعة بدر وفتح مكة وما فيهما من الفوائد والعبر

وقعة بدر وفتح مكة وما فيهما من الفوائد والعبر الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فإن تقوى الله أعظم الوصايا وأجل العطايا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. عباد الله! لقد اقترن شهر رمضان بحدثين كريمين مباركين وقعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما يوم بدر يوم الفرقان، ويوم فتح مكة يوم علو الشأن. أيها المؤمنون! لقد تجلت في هاتين المعركتين أو في هذين الحدثين الجليلين معان عظيمة، ودلائل سامية، وعظات بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد. عباد الله! لعل من أعظم ذلك وأجله يقين المؤمن بعد أن يتدارس السنة والسيرة العطرة والأيام النضرة، وهذين الحدثين على وجه الخصوص: أن يعلم أن الأمور إنما تدبر في الملكوت الأعلى، وأن الله جل وعلا وحده الفعال لما يريد، فلا يقع في الكون إلا ما أراده الله، خفي ذلك عن البعض أو ظهر، فذلك أمر الله جل وعلا وحده. فقد ذكر الله جل وعلا مسيرة الركب، -أي: قافلة أبي سفيان - وذكر الرب تبارك وتعالى خروج خير الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر تبارك وتعالى خروج قريش تستنصر لقافلتها، كل ذلك وكل منهم كان يحسب أمراً ووقع آخر، قال الله جل وعلا: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]. وخرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر يطلب العير، وخرجت قريش تنتصر لقافلتها، ونجا أبو سفيان بالقافلة، لكن الله جل وعلا أخر وقدم في إخبار كل أحد بما وقع؛ حتى يلتقي الفريقان، ويلتحم الجيشان، ثم يكون يوم الفرقان كما أراد ربنا تبارك وتعالى؛ نصرة لنبيه، وإظهاراً لدينه، وإعلاء لشأن كلمة التوحيد التي بعث الله بها الرسل، وأنزل الله جل وعلا من أجلها الكتب.

جعل الله الكعبة مثابة للناس وأمنا

جعل الله الكعبة مثابة للناس وأمناً أيها المؤمنون! لقد جعل الله جل وعلا البيت الحرام قياماً للناس، وجعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمناً، فحقه أن يعظم ويبجل شرعاً، فيعظم مادياً بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويعظم معنوياً بأن يذكر الله جل وعلا عنده، وأن يطاف حوله، وقد دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وطهرها من الأصنام، وصلى في البيت ركعتين، وطاف حول البيت، وأمر بلالاً أن يرقى على سطح الكعبة وأن يؤذن، وبقيت الكعبة إلى اليوم وستبقى إلى أن يهدمها ذو السويقتين منارة سامية، وقمة شامخة رمز الخلود وكعبة الإسلام كم في الورى لك من جلال سام وجعل الله جل وعلا البيت الحرام لنا قبلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، فنوجه إليها موتانا، ونتوجه إليه في صلاتنا، ولا نريد البيت وحجارته، لكننا نمتثل لأمر الله جل وعلا وشرعته، ونحن على كل حال عبيد أذلاء للكبير المتعال. جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

تجلي ما كان عليه النبي من رحمة وخلق حسن في هاتين المعركتين

تجلي ما كان عليه النبي من رحمة وخلق حسن في هاتين المعركتين وتجلى في هاتين المعركتين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من خلق جم وقلب رحيم، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، فلما فدت قريش أسراها بعثت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة كانت أمها خديجة قد أعطتها إياها يوم فرحها؛ لتفدي بها زوجها العاص بن الربيع، فلما رأى صلى الله عليه وسلم القلادة تذكر خديجة ورق لابنته زينب ودمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه. ولما وقف في مكة بعد أن من الله عليه بالفتح الأعظم والمقام الأكرم قال: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء). أيها المؤمنون! عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدرته على من آذاه دليل على منزلته العظيمة التي تبوأها صلوات الله وسلامه عليه من الخلق الجم، والسلوك القيوم، ولا ريب أن الله جل وعلا قد تعاهده ورباه، قال عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).

ما تجلى في هاتين الوقعتين من محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ما تجلى في هاتين الوقعتين من محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عباد الله! لقد تجلى في هاتين المعركتين العظيمتين محبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا بأن الله واحد لا شريك له، وهو الذي بعثه، فأحبوا نبيهم ونصروه وعزروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أناجيلهم في صدورهم رضي الله عنهم وأرضاهم. الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه في تلك الغزوة وفي غيرها في كل محفل وموطن أثبتوا محبتهم ونصرتهم لرسول الله، وقد تجلى ذلك فيهم أفراداً وجماعات، فعلى مستوى الجماعة هو ظاهر في كل غزوة وموطن وسرية، وعلى مستوى الأفراد في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم يقوّم صفوف الجيش قبل المعركة، فإذا بـ سواد بن غزية رضي الله عنه وأرضاه بارز عن الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم بقدح كان معه في بطنه، وقال له: (استو يا سواد!) أي: ارجع إلى الصف، (قال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل والحق فأقدني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال له: استقد -أي: خذ حقك- فأقبل سواد على بطن رسول الله يعانقه ويقبله، فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال: ما حملك على هذا يا سواد؟! قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: من قرب الموت ودنو الأجل، فهذه ساحة معارك- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك)، إنه أنموذج لتلك المحبة التي كانت في قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد تجلت في الأنصار على وجه الخصوص الذين قال الله جل وعلا عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. وكان الصديق رضي الله عنه إذا ذكر الأنصار ومواقفهم ومناقبهم يقول: لا أجد بيننا وبين هذا الحي من الأنصار إلا كما قال الأول: أبوا أن يملوا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم. عباد الله! إن وعد الله حق لا محالة، وما الدنيا إلا زهرة حائلة ونعمة زائلة، وكانت قريش عندما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يحذرهم يوم المعاد، ويوم البعث والنشور وحشر العباد، وهم يهزءون به ويسخرون منه، قال له العاص بن وائل وقد حمل رفات عظم: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد موته؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم ويدخلك النار). ثم كان ما كان من قتلى بدر، فوضعهم صلى الله عليه وسلم -أي: قتلى المشركين- في بئر مهجورة تعرف بالقليب، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناديهم: (يا أبا الحكم بن هشام يا شيبة بن ربيعة يا عتبة -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟! قال: يا عمر! ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً). فيتذكر المؤمن هذا الموقف في الدنيا، ويعلم أن هناك في الآخرة يوماً يقال له عياذاً بالله يوم اللعنة، يفصل فيه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ويفصل فيه بين أهل الجنة وأهل النار، ويفصل فيه ما بين من يعملون الصالحات ويعملون السيئات، قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]. اللهم اجعلنا ممن يحيى يرتقب وعدك الحق

إكرام الله لرسوله في هاتين الوقعتين

إكرام الله لرسوله في هاتين الوقعتين أيها المؤمنون! لقد تجلى في هذين الحدثين العظيمين إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالصبر مطية وأي مطية أعطاها الله جل وعلا أنبياءه ورسله، ولهذا قال الله مخاطباً خير خلقه، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]. ولما سجد نبيكم صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى عند الكعبة انتدبت قريش رجلا ًمنها يضع على ظهره الشريف -وهو أكرم الخلق على الله- سلى الجزور، فمكث سلى الجزور على ظهره الشريف ما شاء الله له أن يمكث، وعبد الله بن مسعود مسلم حاضر لا يستطيع أن ينتصر لنبيه، فبعث رجل رسولاً إلى فاطمة ابنته، فجاءت فاطمة وحملت سلى الجزور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ائتمروا عليه وتهكموا به، فدعا عليهم وهو عند الله نبي وأي نبي، وكريم وأي كريم. قال ابن مسعود وقد شهد الواقعة الأولى: فلقد رأيت من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في القليب -قليب بدر- فانظر أيها المؤمن ما هي إلا سنوات ثم انتقم رب الأرض والسماوات لخير من ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات. وفي أيام البعثة الأولى هم صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة فمنعه عثمان بن أبي طلحة سادن الكعبة يومئذ من دخول البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان! كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه بيد من أشاء، فقال عثمان: لقد ذلت قريش يومئذ وهانت)، ثم مضت السنون ومرت الأعوام والله جل وعلا يحفظ نبيه وينصره ويكلأه، حتى دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح عزيزاً وما كان ذليلاً قط، وكان منيعاً محفوظاً بحفظ الله جل وعلا له، فكبر في نواحيها، وصلى بالبيت ركعتين، ولما هم بالخروج أنزل الله جل وعلا عليه وهو عليه السلام عند عضدتي باب الكعبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما خرج: (أين عثمان بن طلحة؟ قال: أنا هنا يا رسول الله! فأعطاه النبي مفتاح الكعبة كما أخبر به في الأول، وقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد صدق الله وهو أصدق القائلين: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. أبعد هذا يتوكل على غير الله؟! أبعد هذا يلجأ إلى غير الله؟! أبعد هذا يؤمل أحد أن ينصره أحد غير الله؟! قال العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله، فكيف يوصلوا إلى الله بغير الله؟! اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته.

ليلة القدر وفضائل الاعتكاف وآدابه

ليلة القدر وفضائل الاعتكاف وآدابه

الاعتكاف في رمضان

الاعتكاف في رمضان والاعتكاف أيها المؤمنون سنة من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن رام أن يعتكف العشر كلها فليدخل معتكفة صبيحة يوم عشرين، وإن دخل المعتكف قبل غروب يوم عشرين أدرك اعتكاف العشر كلها إن لم يخرج من اعتكافه إلا بعد ثبوت العيد إما برؤية الهلال، وإما بإتمام رمضان ثلاثين يوماً.

آداب الاعتكاف

آداب الاعتكاف ويحسن بالمعتكف أن يبقى في معتكفه في وقت العبادة من الذكر وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، وألا ينشغل بالخلائق عن الخالق، وأما وقت الصلاة فالأكمل في حقه أن يتقدم حتى يكون قريباً من إمامه. والاعتكاف أيها المؤمنون إنما يراد به الانقطاع إلى رحمة رب العالمين جل جلاله، فيكون فيه ذكر الله وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، ولو نام شيئاً من نهاره حتى يستعين بذلك على العبادة بالليل كان أكمل وأعظم وأوفر؛ لأن ليلة القدر ليلاً لا نهاراً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5]. فاجتهدوا فيها بالدعاء والعبادة، وقد يوفق بعض الناس في أن يرى علامات على أنها ليلة القدر، لما روى الترمذي بسند صحيح من حديث عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال العلماء: فقولها رضي الله عنها وعن أبويها: (أرأيت إن علمت) دل على أنها قد تعلم، فقد يضع الله جل وعلا بعض العلم لبعض خلقه من علاماتها وأماراتها، لكن لا يلزم من كون الإنسان لم ير علامة عليها على أنه لم يقمها ولم يحيها، فليس هناك تلازم ما بين العبادة والقبول وبين وجود أمارة وعلامة على أنها ليلة القدر. فاجتهدوا في الأوتار، واجتهدوا في الشفع من كل الليالي، واعلموا عباد الله! أننا جميعاً لنا ذنوب نحب من الله أن يغفرها، ولنا عيوب نحب من الله أن يسترها، ولنا آمال نحب من الله أن يحققها، ولنا ديون نحب من الله أن يقضيها، ولنا مخاوف نحب من الله أن يؤمننا منها، وكل ذلك لا يعطيه ولا يدفعه إلا الرب تبارك وتعالى، فعلقوا بالله أنفسكم، واحمدوا الله كثيراً، وابدءوا الدعاء بكثرة الثناء عليه؛ فإنه لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ثم صلوا بعد حمدكم لله والثناء عليه على نبيكم، ثم تقربوا إلى الله بصالح الدعاء ملحين موقنين بالإجابة؛ لعل الله أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار. ألا وصلوا وسلموا على خير من قام ليلة القدر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وارحمنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أرجعت موسى إلى أمه، ورددت يوسف إلى أبيه، وجمعت بيعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله أنت بيدك مقاليد كل شيء، أنت الله لا إله إلا أنت الحي حين لا حي، وجهك أكرم الوجوه، وعطيتك أحسن العطايا، واسمكم الأعظم أحسن الأسماء، أنت الله لا إله إلا أنت لا رب غيرك، ولا شريك معك، نسألك اللهم بمحامدك كلها يا ذا الجلال والإكرام! أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن تعتقنا من النار، وأن ترزقنا يا الله قيام ليلة القدر على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

التماس ليلة القدر

التماس ليلة القدر الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أيها المؤمنون! برحمة من الله وفضل تتبوءون في هذه الأيام العشر الوسطى من شهركم المبارك أتم الله علي وعليكم فيه النعمة، ونبيكم صلى الله عليه وسلم -وهو الأكمل هدياً- كان يجتهد في العشر الوسطى ما لا يجتهده في العشر الأول، واعتكف صلى الله عليه وسلم في أول أمره في العشر الوسطى يلتمس ليلة القدر، حتى كانت صبيحة يوم عشرين خرج صلى الله عليه وسلم في صبيحتها على الناس وقال: (من كان معتكفاً فليبق على اعتكافه، فإنني كنت ألتمسها في العشر الوسطى، ثم إنني أخبرت أنها في العشر الأواخر، فمن كان معتكفاً فليعتكف معي، وإنني أريت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي الحديث: فأمطرت السماء في تلك الليلة فوكف المسجد وكان سقفه من عريش، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد انصرف من صلاة الصبح وعلى وجهه أثر الماء والطين. لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه.

اختلاف العلماء في تعيين ليلة القدر

اختلاف العلماء في تعيين ليلة القدر من هذا الحديث ذهب بعض العلماء إلى أن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين؛ لظاهر الحديث الصحيح الصريح هذا، وذهب بعضهم إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين لحديث آخر مشابه له، وذهب أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه وكان يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين، كما أخرجه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش. وذهب بعض العلماء إلى أنها تتنقل؛ جمعاً بين الروايات، أي: أن ليلة القدر تكون في كل عام في ليلة غير التي سبقت، ولا يلزم أن تكون في سائر الليالي والأعوام في ليلة معينة، وهؤلاء القائلون بالتنقل ذهبوا إلى هذا جمعاً بين الروايات الصحيحة. وأياً كان الأمر فإن ليلة القدر في رمضان قطعاً، ومن قام العشر الأواخر كلها إيماناً واحتساباً متأسياً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يوافقها، وقد كان إذا دخلت العشر أيقظ أهله وأحيا ليله، وشد المئزر، وهذه كناية عن السعي والجد في الطاعة والعبادة، إلا أنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها، وإنما يصلي بعض الليل، ويذكر بعضه، ويسبح في بعضه، ويقرأ القرآن في بعضه، فهذه العشر المباركات معين لا ينضب، قال الله جل وعلا: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أي: أن العبادة فيها تزن وتساوي عند الله عبادة ألف شهر ليس فيهن ليلة القدر، ولا ريب أن المؤمن الحصيف العاقل المتبع لهدي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن له بحال أن يفرط في هذه الليالي المباركات.

مع سورة (ق)

مع سورة (ق) سورة (ق) من أعظم السور التي تؤثر في القلب، وتنقل الإنسان إلى معايشة أحداث الآخرة مما يدفعه إلى المسارعة في الصالحات، والمبادرة إلى عمل الخيرات، والإقلاع عن المنكرات

القرآن العظيم يرد على المشركين ويوبخهم

القرآن العظيم يرد على المشركين ويوبخهم الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الخلق بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن سورة (ق) سورة مكية النزول، وطالما قرأها وتلاها وبين أسرارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعته على منبره حتى حفظ بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلوات الله وسلامه عليه. ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه، فإنه حري بكل من رغب في اتباع السنة والتماس الهدي النبوي أن يشرع بين الحين والآخر في ذكر ما في هذه السورة من عظيم الآيات وجلائل العظات وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده. أيها المؤمنون! لا أحد أعلم بالله من الله تبارك وتعالى، ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى، ولهذا أقسم الله جل وعلا في هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]. وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً، وعلى منهاج محمد صلى الله عليه وسلم مستقيماً، لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن. فبالقرآن يجاهد المؤمن، قال الله جل وعلا: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. وبالقرآن يخوف من عصى الله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]. جعله الله جل وعلا شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي آتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم. ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه، فقالوا مستكبرين كما قال الله جل وعلا: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:2]. وهذه العلة في الرد هي العلة التي ذكرتها الأمم من قبل، فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسلهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً. فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قدر أن ينزل الله جل وعلا ملكاً لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث بأمانته وعفافه وطهره صلوات الله وسلامه عليه، تعرف منشأه ومدخله ومخرجه، فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه، بل الأمر رحمة محضة يضعها الله جل وعلا حيث يشاء، قال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فقال تبارك وتعالى مجيباً لهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]. فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته ومشيئته أن يكون محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين، ولله جل وعلا الحكمة البالغة والمشيئة النافذة. {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2] وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة، وأعظم ما اعترضوا به إنكارهم للبعث والنشور، وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت كيف سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور، فقالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3]. فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4]. قال صلوات الله وسلامه عليه: (كل جسد ابن آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب). أجساد الشهداء، وأجساد حفاظ القرآن، وأجساد الصالحين، وأجساد غيرهم من الخلق أجمعين كلها تبلى إلا أجساد الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي، قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح، وبقي غيرها من الأجساد عرضة للبلاء والذهاب كما أخبر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه، وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه. {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] ذلكم هو اللوح المحفوظ. فقوله: (حَفِيظٌ) أي: محفوظ لا يتغير ولا يتبدل، فهو حفيظ لا يشذ عنه شيء، حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب تبارك وتعالى، فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى.

جليل صنائع الله وعظيم خلقه

جليل صنائع الله وعظيم خلقه ثم ذكر جل شأنه بعضاً من عظيم خلقه وجلائل صنائعه، فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى. ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله، فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى. قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق، وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه، وما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره، وذلك المخلوق فقير كل الفقر إلى الله والله جل وعلا غني كل الغنى عن كل مخلوق، خلق العرش وهو مستغن عن العرش، خلق حملة العرش وهو مستغن عن حملة العرش، خلق جبريل وميكال وإسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغن كل الغنى عنهم، وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]، فحياته جل شأنه حياة كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وقوله جل وعلا: (الْقَيُّومُ) أي: قيوم السماوات والأرض، احتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت

إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت ثم ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي كانت بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فإنهم اعترفوا أول الأمر بأن الله هو خالقهم ثم قالوا: إن الله غير قادر عن أن يبعثنا، فقال الله جل وعلا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] وهم موافقون على أننا قد خلقناهم أول مرة، لكن اللبس الذي في قلوبهم والشك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور. قال الله جل علا مجيباً العاص بن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفه ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه؟ قال الله مجيباً له: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:78 - 81] آمنا بالله الذي لا إله إلا هو.

قرب الله جل وعلا من عباده

قرب الله جل وعلا من عباده ثم قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. وهذا قرب الله جل وعلا من عباده بملائكته، بذلكم الرقيبين اللذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال، الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر، والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر، ثم يلتقيان بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية، فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً من علانيته. قال الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16 - 17] وهذا بيان للأول، أي: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد) حين يتلقى المتلقيان. {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18] تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرة الموت، وكلما تلفظ به مسطور مكتوب لا يغيب.

سكرات الموت

سكرات الموت قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: تفر، فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك. وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته، فكانت ابنته عائشة رضي الله عنها تردد قولاً قديماً لـ حاتم طي: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطائه وقال: يا بنية، لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد، فإذا خرجت سميت روحاً، وإذا بقيت ما زالت نفساً، وهي لحظات يواجهها كل أحد، ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا، فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله! ويشتد الموت على الأنبياء؛ لأن الموت مصيبة، والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين، وإن لم يبد ذلك ظاهراً للعيان لمن كان محيطاً بالميت؛ لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله به عليم، ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة، كما قال الله جل وعلا في فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق:20] أي: مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم، ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم. {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:21 - 22] فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا، فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم، وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات، وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين، يرى الإنسان ما كان يسمعه ويتلوه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم, وما أخبر به من الغيبيات ماثلاً بين عينيه، قال الحق جل شأنه: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].

جزاء المجرمين وجزاء المتقين

جزاء المجرمين وجزاء المتقين وهنا يقول قرينه الذي وكل إليه من الشياطين: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] فيكون الخطاب الرباني: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24 - 26]. أيها المؤمنون! لا ذنب يلقى الله جل وعلا به أعظم من الشرك، فإنه ذنب لا يغفره الله أبداً. أما المؤمنون فإن أول عمل ينظر فيه ما كان بينهم وبين الله وهو الصلاة، فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وأول ما ينظر إليه مما بين الناس مسألة الدماء، فأول ما يقضى به بين الخلائق الدماء. ثم قال الله جل وعلا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:31 - 32] المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] ينتابه الحزن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة وتنتابه أمور كثيرة ومطالب عظام، يدلف حيناً إلى الطاعات، ويقع أحياناً في المعاصي، ويستغفر ما بين هذا وذاك، يفقد أمواله، يفقد أولاده، إلى غير ذلك مما يشترك فيه أكثر الناس، فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا وييمم كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت، فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك، جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم. قال الله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا} [ق:32] أي: الذي ترونه، {مَا تُوعَدُونَ} [ق:31 - 32] أي: ما كنتم توعدونه في الدنيا. {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] أواب: دائم التوبة والإنابة والاستغفار لله جل وعلا، (حفيظ) لجوارحه أن تقع في الفواحش التي حرم الله من ما ظهر منها أو بطن. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] وذكر الله جل وعلا النار قبل ذلك وأنها يلقى فيها حتى تقول: قط قط، أي: يكفي يكفي، قال الله جل وعلا قبل ذلك: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33] ما القول الذي يقال لهم؟ يقول لهم العلي الأعلى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34]. والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا، ولأجل ذلك يذهب عنهم يوم القيامة. قال الله جل وعلا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] وأعظم ما فسر به المزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى. اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

رد الله على اليهود

رد الله على اليهود الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. ثم قال جل ذكره: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:36 - 37] وإن من دلائل الاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية، فينظر إلى صنيع الله جل وعلا في من عصاه، ورحمته تبارك وتعالى بمن أطاعه واتبع هداه. زعمت اليهود أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيراً، فقال جل ذكره ممجداً نفسه ومادحاً ذاته العلية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]. ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعداؤه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ولا بد للصبر من مطية، ألا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى، والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء، قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]. فدعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر - على القول بأن التسبيح هنا الصلاة - وقيل إنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله. ثم قال: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41] هذا نداء لكل من يقرأ القرآن، والمنادي هو إسرافيل عليه السلام، والمكان القريب بيت المقدس، سمي قريباً لأنه قريب من مكة، وهذه السورة نزلت في مكة، وليس بيت المقدس عن مكة ببعيد. {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] ينادي: أيتها العظام البالية، أيتها الأوصال المتقطعة، إن الله يدعوكن لفصل القضاء! فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين. {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [ق:43 - 45] سواء جهروا به أو لم يجهروا، فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية، وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ، فقال الله جل وعلا له: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] عوداً على بدأ، فكما أقسم الله بقرآنه العظيم في بدابة السورة، ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا، وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة. جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وارحمنا اللهم برحمتك معهم يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين. اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وأصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان. اللهم من روع أهل مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم فمكن منه واخذله يا رب العالمين، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن المرء حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وماله وولده، وقد صدر من بعض الصحفيين في الدنمارك استهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم مما أثار غيرة المسلمين، وقد كان للعلماء تجاه هذا الحدث مواقف تدل على مكانتهم الدينية.

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مجملة

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مجملة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى، وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جلّ وعلا به, وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله. وإن مما أفائه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا الله جل وعلا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله حظنا من النبيين. وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت قبل أن تضعه أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، صلوات الله وسلامه عليه. والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق، وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة, إلا أن من رحمة الله جل وعلا بنا، وفيئه علينا تبارك وتعالى أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا جل وعلا يوم القيامة في زمرته. نسمع المؤذن كثيراً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله, فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجميل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا أمر قد مضى قدراً بقدر الله جل وعلا ورحمته، ونحن دائماً وأبداً مؤمنون مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره, فإن كان قد فاتنا شرف الصحبة فقد بقي لنا شرف الإتباع. أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد، وشخصية فريدة، وعبد وأي عبد أثنى الله عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب, قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه, مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه. كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسنى, وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام, كل ذلك من احتفاء الله وإظهاره كرامة هذا النبي. ولقد قال الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم مثنياً على مقامه عند الله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]. فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه! الذي دفعنا إلى هذا القول: أن هذه الواقعة التي وقعت التي سنتحدث عنها تفصيلاً بعد تجاوز المسألة الإيمانية، أقول: قد يشتاق كل مؤمن لو نال شرف الصحبة. ولهذا أستأذنكم وأستأذن من يرانا ويسمعنا في نقل ما وصفه به أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- الذين منَّ الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه, وجملة ما قالوه: أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً, كما أنه صلى الله عليه وسلم كان أقنى الأنف أجلى الجبهة, في جبينه أو في جبهته صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب, إذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً. وكان أزج الحواجب في غير قرن, أشم الأنف, طويل أشفار العينين, ضليع الفم أي: كبير الفم, مهذب الأسنان, كث اللحية, الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته صلوات الله وسلامه عليه, عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة, من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره. جاء الرواة بنعته بقولهم: دقيق المسربة، إذا أشار أشار بيده كلها, وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله. وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح: (أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه, من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه, يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه. ونحن على ما قال علي رضي الله عنه من المصدقين المؤمنين. فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد. ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يمشي يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه. عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ, ثم نبئ بـ {اقْرَأْ} [العلق:1] وأرسل بالمدثر, وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه. عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة, يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده. وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة فحملت سلا الجزور عن أبيها، وهو عند الله في المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة، والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه. أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً. لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح. فليس في القرآن: يا محمد، ولكن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] كل ذلك من دلائل مقامه وجلال شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى. عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى، ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه في نفس الليلة، ثم هاجر إلى المدينة فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام. مكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده. شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه, وكسرت رباعيته وينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله). في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته. فأنزل الله عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه, فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه. وفي أوائل شهر ربيع الأول من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة رضي الله عنها وهي تقول: (وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه). ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع. دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له، فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً، وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء. ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته نبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى، ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة رضي الله عنها وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً. ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. هذه على وجه الإجمال -أيها الإخوة والأخوات المباركون- سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ونبذة عن نفسه مما علق قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى. فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]. فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأفضل أهل السماء. قال شوقي ونعم ما قال: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ إلى أن قال: يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ اللهُ قَسَّمَ بَينَ الخلق رِزقَهُمُ وَأَنتَ خُيِّرتَ في الأَرزاقِ وَالقِسَمِ إِن قُلتَ في الأَمرِ لا أَو قُلتَ فيهِ نَعَم فَخيرَةُ اللهِ في لا مِنكَ أَو نَعَمِ أَخوكَ عيسى دَعا مَيتًا فَقامَ لَهُ وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الرمم جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ أَسرى بِكَ اللَهُ لَيلاً إِذ مَلائِكُهُ وَالرُسلُ في المَسجِدِ الأَقصى عَلى قَدَمِ لَمّا رأوك بِهِ اِلتَفّوا بِسَيِّدِهِمْ كَالشُهبِ بِالبَدرِ أَو كَالجُندِ بِالعَلَمِ صَلّى وَراءَكَ مِنهُمْ كُلُّ ذي خَطَرٍ وَمَن يَفُز بِحَبيبِ اللهِ يَأتَمِمِ جُبتَ السَماواتِ أَو ما فَوقَهُنَّ بِهِمْ دجى عَلى مُنَوَّرَةٍ دُرِّيَّةِ اللُجُمِ رَكوبَةً لَكَ مِن عِزٍّ وَمِن شَرَفٍ لا في الجِيادِ وَلا في الأَينُقِ الرُسُمِ حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها عَلى جَناحٍ وَلا يُسعى عَلى قَدَمِ مَشيئَةُ الخالِقِ الباري

التحرير العلمي لمسألة الجهاد والسيف في الإسلام

التحرير العلمي لمسألة الجهاد والسيف في الإسلام المقدم: عندما جهل كثير من المسلمين هذه المعاني التي تطرقتم إليها, كان ذلك سبباً في عدم قيامنا بواجبنا تجاه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان ما كان من هذا الاستهزاء الذي حصل من أولئك القوم. هنا وقد ألمحتم في بداية حديثكم إلى أننا نود تحرير مسألة الاستهزاء تحريراً علمياً. الشيخ: استهزاء أهل الرذيلة بأهل الفضيلة سنة ماضية، قال الله تعالى عن أول رسله نوح: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]. وقال تعالى في آية أشمل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]. فهذه سنة ماضية لله تبارك وتعالى في خلقه، ونبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة من أهل الفضل، وما وقع أخيراً من الصحافة الدنماركية على وجه التحديد وغيرها من الصحف حتى في النرويج من سخرية واستهزاء بنبينا صلى الله عليه وسلم إنما هم في الحقيقة ينبئون عما في قلوبهم. ولكن تحرير المسألة علمياً: الأصل في هذه المسألة أن هذا الأمر ينطلق من أصلين: الأصل الأول: فردي، وهذا يختلف الناس فيه، وهو قضية الحقد على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحقد قد يوجد في يهودي، يوجد في نصراني، يوجد في من لا دين له، وقد لا توجد عداوة فردية شخصية, حتى نقل أن بعض اليهود الدنمارك أنكروا على الصحيفة سخريتها بالنبي صلى الله عليه وسلم, والله تعالى يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] فالإنصاف قد يوجد عند غير المسلمين. الأصل الثاني وهو موضوع الكلام هنا: أنهم ربما التبس عليهم القتل وسفك الدماء الذي يحصل أحياناً ونسبته إلى الإسلام، أو بتعبير أصح: عدم فقه الغربيين لمفهوم الجهاد والقتال في الإسلام. وهذه القضية قديمة جداً، حتى إن بعض الكتاب كـ توماس أورليد أو غيره كانوا يقارنون بين ما في القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه من أوامر بالقتال، وما في الإنجيل الذي أنزل على عيسى, ويقولون: انظروا إلى الفارق بين من يدعو إلى سفك الدماء ومن يأمر الناس بالرحمة، يقصدون عيسى؟! وهذا أصل القضية قديماً، لكنها أخذت حيزاً أكبر في عصرنا. تحرير المسألة أن يقال: إن الله عز وجل بعث نبيه بأمرين: بعثه بالسيف والعدل. من سنن الله التي لا تتبدل أنه ليس كل أحد يمكن أن يأتي بلين القول، ولا يجادل في هذا عاقل, فحتى هؤلاء الذين يسخرون من نبينا صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بأنه جاء بالقتال لو أتى شخص ليداهم منازلهم الخاصة فلا بد أن يردوه بشيء من القوة, فالقوة في الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لحفظ المسألة الكبرى وهي مسألة التوحيد التي بعث الله بها نبيه رحمة للعالمين. فمن رحمة الله جل وعلا بخلقه أن الأنبياء جاءوا بتوحيد الله جل وعلا, وهذا أعظم رحمة لهم؛ لأن ضد ذلك أن يشرك بالله، وهذا أعظم الظلم وأعظم طرائق الخسران والوبال. هذه قضية السيف، فالسيف في الإسلام ليس منفكاً عن العدل: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم فالمقصود في الإسلام هو العدل، بمعنى: أن هذا السيف يرفع على من وقف في طريق تبليغ الدعوة إلى لله بضوابطه الشرعية المفصلة فقهياً في مظانها على أيدي فقهاء الإسلام الوارثين العلم عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. لكن لا يمكن الحديث عن السيف دون الحديث عن العدل، أو الحديث عن العدل دون أن يحمى بالسيف، لا تقوم حضارة صحيحة منصفة قوية إلا أن تقوم على حق وهو أس الحضارة, ثم هذه الحضارة تحمى بأمرين: تحمى بالعدل وتحمى بالسيف، وعلى فرض ما قال النصارى وزعموه أن عيسى عليه السلام صلب, نقول: على فرض هذه الجدلية الكاذبة فإن عيسى هذا الذي تدعون أنه قتل قتلاً لو وجد من ينصره لما قتل. والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم. يترتب على هذه القضية في تحرير المسألة علمياً، أنه لابد أن يفرق عند الحكم على أحد عن حالته الخاصة وحالته العامة, وهذا أصل في الحكم على الملوك والسلاطين وذوي القدر والجاه، فلا يكون الحكم على الشخص في حالته العامة كالحكم عليه في حالته الخاصة. وسآتي بمثال قريب جداً قبل أن أنتقل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو فرضنا أن أحد الناس له ابن صدمته سيارة، فجاء أهل الجاني بعد أن مات الغلام شفعاء ووجهاء وجيران حي إلى ولي الدم يقولون له: تنازل عن الدية فإن من صدم ابنك لم يتعمد، ثم إنه فقير أو غير ذي مال كثير. هنا الرجل ينظر إلى حالة خاصة فيقول: تنازلت وعفوت! فنقول: هذا شيء مقبول محمود مثني عليه في الكتاب والسنة وفي أعراف الناس. لكن لو قدر أن نفس الرجل صدم أخوه وقد ترك ذرية، وكانت هذه الذرية دون الخامسة عشرة وتسمى في حكم الشرع والاصطلاح أيتاماً، فلهم حق, فلو جاء هؤلاء الشفعاء وطلبوا منه أن يتنازل عن دية أخيه لم يكن له أن يتنازل، لأنه لو تنازل أضاع حقوق اليتامى، فليس له أن يتنازل عن دية أخيه، وإنما يطالب بها بقوة حتى يحفظ لليتامى حقهم. فالكلام بالشيء العام والولاية غير الكلام بالشيء الخاص. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرحم الشاة ويقول لأصحابه: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله). فهو عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا في ذات الله، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يقبل أعرابي يشده فيعفو عنه, وتأخذ الجارية من أهل المدينة بيده فتذهب به حيث شاءت صلوات الله وسلامه عليه. لكن عندما تريد أن تؤسس دولة وتقيم عقيدة وترمي إلى نشرها في الأرض، ينبغي أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، وتنظر أين المصلحة العليا لهذا الدين الذي جئت به، فتعفو عندما يكون العفو له مردود إيجابي، ولا تعفو حينما لا يكون للعفو مردود إيجابي، وهذا عين شرعه الذي طبقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه في قضية السيف الموازي للعدل الحافظان كلاهما لقضية العدل. فهؤلاء الدنماركيون أو غيرهم ممن يقرأ قضية الجهاد في سبيل الله قراءة خاطئة ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا مما لا نستسيغ أن نقوله حتى على سبيل ضرب المثال؛ كل ذلك لأن الأمر لديهم ملتبس أو لأنهم لم يحرروا علمياً النظرة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن أي شيء إنما يترك إذا كانت هناك مفسدة أكبر منه، ولا توجد مفسدة أعظم من الشرك بالله جل وعلا. وهو صلى الله عليه وسلم ما رفع السيف على قريش إلا عندما حالت بينه وبين أن يبلغ دعوة الله، ومنعته حتى أن يقيم دينه في المدينة، فرفع السيف عليهم، وإلا فقد جاء الإسلام بالجزية كما هو معلوم، وهذا تحرير المسألة علمياً. فهؤلاء وأشياعهم أو من آمن بفكرهم من صحفيين أو غيرهم لم تحرر لديهم مسألة السيف في دين الرب تبارك وتعالى تحريراً علمياً. فرمي الإسلام بقضية السيف، ورميت هذه البلاد بأن شعارها السيف، لكن تحرير المسألة علمياً ينتج أنها قضية حق يراد أن يقام له حافظان: السيف والعدل.

كيف نخاطب المستهزئين بالجناب النبوي

كيف نخاطب المستهزئين بالجناب النبوي المقدم: فضيلة الشيخ ذكرتم هذه المسألة وهذه الإشكالية وحررتموها حقيقة، لكن لا زال هناك عدد من المشكلات العالقة، والقضايا غير الواضحة لدى هؤلاء الغربيين. Q هل أنت مع من يقول بأنه لابد أن نفتح مع هؤلاء قنوات للحوار وقنوات للتواصل، ونعقد مناظرات وندوات نظهر لهم من خلالها رحابة هذا الدين وجماله ويسره، وعظمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: هذا حق مقيد، من استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم أو رفع السيف على هذه الأمة فيرد عليه بالطريقة نفسها، أما من بقي محايداً فهذا هو الذي يستقطب بأن يبين له السيرة العطرة والأيام النضرة وسماحة نبينا صلى الله عليه وسلم وسماحة الإسلام، ولكن كما قلت والبيت لـ شوقي: والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم المقصود من هذا أن هؤلاء الذي وقع منهم السخرية والاستهزاء لا كرامة لهم, وإنما ينبغي أن نجلب عليهم بخيلنا ونفيرنا في سبيل نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم. وليس هذا مجال تبيين المسألة الحق, لكن القوم المحايدين في الغرب الذين خوطبوا بهذا الإعلام المنكر، هؤلاء يجب أن يحرر لهم الخطاب وأن تبين لهم الصورة الحقيقية. ولا أريد أن أقول: ينبغي أن نلمع صورته! فهو صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى مثل هذا أبداً, نحن علينا فقط أن ننقل الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه، فإذا نقلنا الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه فإن المتلقي لن يخرج أن يكون أحد اثنين: إما أن يكون منصفاً فلا يأبى الإيمان بهذا. وإن كان غير منصف، فإن من ارتضاه الله أن يكون أهلاً لجهنم لا ينبغي أن نتأسف أو نتحسر عليه. ويجب على من يقدم الإسلام أن يقدمه بصورته الشرعية، قال الله جل وعلا على لسان أحد أنبيائه: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] وهم قومه وأهله! ونحن لسنا أرحم بالخلق من ربهم، فمن رضي الله أن يكون من أهل جهنم فلن نكون نحن أرحم به من الله، فنحن نقول: نقدم الصورة الحقيقية المثلى للإسلام. لكن ينبغي على من يقدم الصورة الحقيقية للإسلام أو من يتحدث باسم الإسلام أن يعرف أين موقعه من الإسلام, بمعنى ألا يكون في تقدم أو تأخر على بعضنا البعض. فإن الله جل وعلا جعلنا مواهب, مشارب, مراتب, منازل. وهناك أمور من اختصاص ولي الأمر, وأمور من اختصاص عسكر المسلمين, وأمور من اختصاص العلماء, وأمور من اختصاص العامة, وثمة أمور يشترك فيها الناس جميعاً، لكن عندما يكون الاستياء على الأدوار ومحاولة جعل هذه الحادثة كسبب للوصول للأشياء فهذا لا ينبغي، لكن كل إنسان له موقعه العام. ثمة مؤسسات إسلامية ومواقع إسلامية في الإنترنت معروفة محترمة معتبرة, يشرف عليها علماء ربانيون، هذه طريقة خطابها لا تكون كخطاب رجل عامي, والذي يخاطب الناس في منبر الجمعة غداً -كما دعا الشيخ عائض وغيره من الفضلاء إلى هذا- ينبغي أن يعرف أنه يخاطب مسلمين، فلا يحملهم خطيئة غيرهم فلا يجلدهم جلد ذات كأنهم هم الذين شتموا النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما يجعل من هذه الحادثة سبيلاً إلى إيقاظ محبة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب, وبالتالي العمل بسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا أمر مهم جداً. أما الذين في المؤسسات الإسلامية، أو في المواقع الإسلامية على الإنترنت، أو في المراكز الإسلامية في الغرب، فهؤلاء يطالبون بنمط خطاب غير المطالب به من كان يعيش بين المسلمين, فهؤلاء لهم مطلب سياسي معتبر، فينبغي أن يفقهوا المسألة جيداً وأن يحرروا خطابهم بما يتناسب مع حالهم ووضعهم ونوعية من يخاطبون، إن كان سلطة, أو كان عامة، أو كان مستهزئاً، فتحرير المسألة في كل وقعة مهم جداً. نحن نتفق على وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن مؤمناً يخالف في هذا، لكن كذلك يجب أن نتفق على أن الأدوار تختلف والمهام تتباين ولا أقول: تتفاوت؛ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهي كلمة خاطئة بنسبتها إلى الله. فأعيد وأقول: هذا تحرير الخطاب في نصرته صلوات الله وسلامه عليه.

محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم

محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم المقدم: المواقف كما ذكرت تتباين, وأيضاً تتباين وجهات النظر والتعاطي والتفاعل مع هذه القضية وغيرها من القضايا، مثل تدنيس القرآن في أماكن عدة في السجون الغربية أو الصهيونية، فيختلف النظر أو الزاوية التي ينظر من خلالها لهذه الإساءات للإسلام. و Q برأيكم الشخصي -يا شيخ صالح - ما هو موقع الإسلام في نفوسنا, وما هو موقع المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذواتنا ومن صدورنا, حتى وصل بعض من المسلمين إلى درجة أن يستهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويستهزأ بشرائع الدين، ويساء إلى هذا الدين, فلا نجد حقيقة من يقول: إلا رسول الله, أو: إلا كتاب الله، أو غيره؟ الشيخ: عندما نقول: (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كعنوان لهذه الحلقة المباركة إنما هو من باب التعامل مع الواقعة, ولا يوجد تثريب شرعي على العنوان, لكن ليس المقصود به هنا حقيقة الحصر، فلا يفهم أنه يجوز مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أركان الدين, ولا الله, ولا الدين كله, ولا مزدلفة ولا منى ولا عرفة, ولا أي شيء من شعائر الإسلام، فلا يجوز السخرية والاستهزاء به, هذه مسألة. أما موقع الإسلام في نفوسنا, أو النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا: فنحن نؤمن يقيناً أن أي مسلم مهما بلغت معصيته, ما دام راضياً بالإسلام فلابد أن يكون في قلبه ولو مثقال حبة من خردل من إيمان من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يجادل في هذا. وقصة شارب الخمر (ما علمته إلا محباً لله ولرسوله) أصل في المسألة. وقد ذكرت سابقاً أنه كان في فرنسا مقهى فرنسي، وكان يرتاده مسلمان من الجزائر ولهما صديق فرنسي يتعاطون معه الخمر ويسكرون, فإذا سكروا أخذ بعضهم يتقول على أعراض بعض، وجرت العادة على هذا سنين كما ذكر النادل -العامل- الذي يقدم لهما المشروب. وذات يوم كان من هذا الفرنسي أن سب نبينا صلى الله عليه وسلم، فوقع السب من الجزائريين موقعاً جعلهما يفيقان من سكرهما فضرباه ضرباً غير الذي اعتادا عليه, فلما حضرت الشرطة وذهب بهما إلى التحقيق وجيء بالنادل كشاهد إثبات, قال متعجباً: إن هذا الرجل يقدح أحياناً في زوجاتهم وأخواتهم وأمهاتهم ولا يتكلمون, فقالا: فليقل في زوجاتنا وأخواتنا ما شاء ولا يتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعل هذا النادل يقرأ كثيراً عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فكانت الحادثة سبباً في إسلامه. والغاية من هذه القصة ما ذكرته من وجود أصل محبة النبي في قلب كل مسلم. وقد حرر الشيخان, الشيخ محمد العريفي حفظه الله, والشيخ عائض القرني هذا قبلي في هذه الحملة المباركة, لكن تأكيداً لهذه المسألة أنه لا يتصور أصلاً ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو جنة ويخشى ناراً ألا يكون في قلبه شيء من المحبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، بل هو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء بعد ربنا تبارك وتعالى. المقدم: ما هي متطلبات هذه المحبة, وهل يكفي أن أقول: إني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: الناس في هذا بين فريقين: فريق يرى أن المحبة مقصورة على الاتباع ولا يكون في قلبه شيء عاطفي متأجج. وآخرون يرون الاكتفاء بالمحبة ولا يرون الاتباع. وكلاهما أبعد النجعة، وإن كان الثاني أكثر بعداً.

كيفية تحويل حادثة الاستهزاء إلى فرصة لخدمة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم

كيفية تحويل حادثة الاستهزاء إلى فرصة لخدمة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم Q كيف يمكن أن نحول هذه الأزمة إلى فرصة؟ كيف يمكن هذا التحويل؟ الشيخ: نبدأ بقضية السبق الوقتي, قال الشيخ سلمان العودة: تحويل الأزمة إلى فرصة, طبعاً هذا كلام رجل مفكر، تحويل الأزمة إلى فرصة: هو الرد الحقيقي على تلك الأزمة, عندما تأتي الضربة لأي خصم مقصود بالضرب تجعله ذا شتات, معنى ذلك أن خصمه تمكن منه, لكن إذا كانت تلك الضربة قد لمت على شعثه وجعلته يبدأ خطوة أقوى, فإن تلك الضربة أصبحت نافعة، قال الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]. وهذا ينطبق كثيراً على هذه الحال, وقد ذكر الشيخ سلمان نموذجين واقعيين: وهي قضية قراءة السيرة وقضية طباعة بعض الكتب عن النبي بكل لغات العالم, وذكر أنموذجاً مقترحاً وهو إيجاد قناة فضائية تعنى بالسيرة النبوية لنبينا صلى الله عليه وسلم, كما وجدت الآن قنوات للقرآن؟ قناة الفجر، وقناة المجد للقرآن الكريم, وإذاعة القرآن الكريم. فينبغي أن تزاد قناة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم, وقد لا يكون بعض التجار الآن متواصلاً معنا لانشغالهم بأعمالهم أو بأي شيء آخر, لكن ينبغي أن تتبنى المؤسسات العلمية الدعوية هذه الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسنة. بلغني من مصادر صحفية مثلاً في المدينة عندنا مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, وهو عمل عظيم جليل ظهر نفعه على الناس, والذي أعلمه أنا ولا أجزم به -لكن سمعته من مصادري الخاصة- أنه سيكون هناك مجمع للسنة, يسمى مجمع الملك عبد الله, لسد الثغرة في السنة كما تسد الثغرة في القرآن. وكذلك نفس الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان، وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسيرة النبوية, وهذا سيكون نافعاً، وربما تتبناه هذه القناة المباركة -قناة المجد- فتكون إحدى باقات قناة المجد، وقد تتبناه غيرها, المهم أن ينتفع المسلمون من أي مصدر إسلامي. والشيخ سعيد بن مسفر وفقه الله تعالى ورعاه صاحب خبرة دعوية شهيرة، وقد قال: لا بد من الانضباط. وهذا كلام الراسخين المتأنين في قضية التعامل مع الخصم، حتى لا يأتينا إنسان يزايد على محبة النبي صلى الله عليه وسلم, وكأنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره وأكثر منا, فيزعم أن هذا ليس بحل, وإنما الحل في تفجير أو في انتقام أو في اغتيال, فهذا شيء مرفوض تماماً ولا يخدم المسلمين ولا يؤذن به شرعاً, وما دام ليس مأذوناً به شرعاً فلا يحق لأحد أن يتبناه. وقد قلت في مقدمة الحديث: إن الأدوار يجب أن تكون منضبطة في الرد، وأن لكل أحد طريقاً ومقاماً وسبيلاً وموقعاً يتحرك منه, فليست القضية قضية مزايدة حتى يظهر زيد أو عمرو في الصورة, إنما القضية التي نجتمع عليها هي نصرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

آلية التعامل مع المنصفين من غير المسلمين

آلية التعامل مع المنصفين من غير المسلمين المقدم: هناك عدد من المنصفين في البلدان الغربية وغيرها من غير المسلمين الذين ينظرون للإسلام نظرة حسنة وهم أقرب ما يكونون إلى أهل الإسلام, فما هي آلية التعامل معهم؟ الشيخ: هذه القضية في ظني هي قضية نستصحبها في كثير من قضايا المسلمين, قضايا المسلمين يكتفون أحياناً بالتحييد, وهذه طرحت في أكثر من قضية, مثل القضية الفلسطينية. قضية التحييد أقصد بها: أن اليهود مثلاً هم الذين احتلوا فلسطين وأسموها دولة إسرائيل؛ فهم خصمنا الأول واقعياً، ومع ذلك فبعض القائمين على العمل الإسلامي إنما يعنون بتحييد النصارى، وهذا مطلب طيب, لكن هناك مطلب أعظم وهو أن تجذب النصارى إليك, يعني: لا يكتفى فقط بتحييد النصارى, فاليهود والنصارى أصلاً بينهم نزاع {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]. فهناك مطلب أكبر تحييد النصارى سياسياً وهو استقطاب النصارى, فلا يكفي أن نحيد النصارى في القضية. ومثلها الآن هؤلاء الذين تعرضوا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فهناك قوم محايدون، هؤلاء المحايدون لا نكتفي فقط بتحييدهم، إنما نحاول قدر الإمكان استثمارهم في أن يكونوا نصراء معنا على من هاجم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يفهم أحد أنه يقدح في ولاء أو براء أو في غير ذلك, فهذا شيء مشروع دل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موطن, أعني: عدم تحييد هؤلاء الناس, بل نحاول قدر الإمكان التأثير عليهم حتى يدخلوا في دين الله، وهذا أعظم المطالب, أو على الأقل أن يصبحوا شوكة في نحور أولئك الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم. طبعاً أنت عندما يكون المطلب عالياً فإن تحقيق بعضه إنجاز, لكن لو جعلت المطلب هابطاً فلن تحقق شيئاً في طريق مغالبتك لخصومك

سحب السفير السعودي من الدنمارك بعد حادثة الاستهزاء

سحب السفير السعودي من الدنمارك بعد حادثة الاستهزاء المقدم: ما قامت به عدد من وسائل الإعلام في المملكة العربية السعودية المباركة بإذن الله تبارك وتعالى التي لا نقول فيها أكثر من حقها ولا أقل من حقها, ولكن وصلني الآن من الزملاء أن هنالك خبراً يسعد ويثلج الصدر، وهو ما تناقلته وكالة الأنباء السعودية وبعض وكالات الأنباء بأن السفير السعودي في الدنمارك قد سحب هذا اليوم في إشارة سياسية إلى الغضبة الحاصلة حقيقة عند الجهات المسئولة والجهات السياسية, ونحمد الله على هذا, وهو أيضاً ما عهدناه وتعودناه من هذه الدولة المباركة. وبهذا نقول: إن رقابنا حقيقة وأجسادنا وكل حياتنا فداء لهذا الدين ثم فداء لأوطاننا المسلمة، أوطاننا الصادقة مع الله سبحانه وتعالى, والصادقة مع شعوبها في أن تعيش معهم، وقد وعدنا مليكنا عندما تولى الحكم وبايعناه أن يسمع منا وأن يكون دستوره القرآن وشرعه شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله إليهم, وأسأل الله أن تكون هذه الخطوة بادرة لبقية المسلمين في كل مكان أن يعبروا عن موقفهم الداعم لرسولهم صلى الله عليه وسلم الذي لا نعتبره دعماً حقيقة, لأنهم يدعمون أنفسهم ويدعمون مشاعر شعوبهم التي تأثرت عقب هذه الفعلة الشنيعة، فما تعليقكم على قضية سحب السفير؟ الشيخ: إننا دائماً نقول: تحرير المسائل يعين على فهمها, فنحرر قضية سحب السفير فنقول: أهل الإنصاف والعقل والروية والحكمة عندما يضعون ثقتهم في عاقل رشيد مسلم لا يزايدون على إسلامه، فعندما يتأخر التصرف أو لا يأتي ذلك التصرف, أو يأتي مخالفاً لما توقعوه, فإنهم على ثقة أن هذا الذي وضعوا فيه ثقتهم وأمانتهم يحمل الهم الذي يحملونه، لكنه رأى رأياً غير الرأي الذي رأوه. هذا الأمر مهم جداً في فهم الأمور, فنحن ثقتنا في ولي أمرنا قبل سحب السفير إذا ثبتت, وبعد سحب السفير واحدة, لأن القرار يختلف من شخص إلى شخص, والمسائل العامة يكفينا فيها أن نضع الثقة في الموطن الصحيح, فإن وضعنا الثقة في الموطن الصحيح فلا نتصرف عنه, إذا تصرفنا نحن نيابة عنه إذاً فلا حاجة لوضعه. لكن نترك لكل صاحب مقام الطريقة التي يتعامل بها مع الحدث, فتأخير سحب السفير إلى هذا اليوم يمكن تأويله بأنه قضية انقطاع آخر الطرق الدبلوماسية، لأنه ثمة مساع هددت بسحب السفير لم يتوقع المسئولون الدنماركيون سحب السفير, وقد تأتي خطوة أخرى, إلى أشياء عديدة. لكن الذي يهمني في قضيتي أنني كأي فرد مسلم أحمل الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن أعلم أن علماء المسلمين ودعاة المسلمين وولاة المسلمين الناصحين المعروفين يحملون نفس الهم, فإن كنت أرى رأياً يجب تنفيذه اليوم, فقد يرى غيري أن المصلحة عدم تنفيذه اليوم. فتكون هناك نظرة إنصاف لبعضنا البعض, فمع ذلك بعض الفضلاء يأتي ويقول: الشيخ فلان ما تكلم, والمؤسسة الإسلامية إلى الآن لم تحدد موقفها، ومجلس كذا لم ينعقد, وسماحة المفتي أو ولي الأمر ما أصدر بياناً, وغير هذا! وهو لا مزايدة على إسلام هؤلاء, ولا ينبغي أن نتكلم كلاماً نشعر فيه الناس بأننا وحدنا الغيورون على الدين, وغيرنا غير غيور، أو أنا وحدنا نحمل هم الذب عن الدين وغيرنا لا يهتم. فنحن نعلم أننا لسنا إلا جزءاً من الأمة وأن المسلمين في جميع أنحاء الأرض محبون لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد مسلم اليوم في جميع أصقاع الدنيا راض عن سب نبيه صلى الله عليه وسلم. ولكن القدرات والأماكن والمواطن تختلف، فمن الناس من ينطقه مكانه, ومن الناس من يكون كلامه له عواقب غير كلام غيره. وبعد صلح الحديبية كان أبو بصير يفعل ويصنع لأنه كان غير مرتبط بعقد مع أهل الإشراك, أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأتيه الرجل مسلماً فيرده لأن نصوص الحديبية تحكمه بوصفه زعيماً للأمة. فكل إنسان عنده مساحات للحديث مساحات للدفاع وقيود تختلف من شخص إلى آخر, فالقيود التي عندك ليست عندي, والمساحات التي تملكها لا أملكها أنا, لكن المهم أنه لا ينبغي لأحد أن يعتقد في نفسه أنه الأوحد في الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن الناس مقصرون، فلا نخاطبهم بهذه المنطقية, لكننا نحسن الظن, ونتمنى أن ينصر الله جل وعلا دينه, ونحن على ثقة كما قال الشيخ صالح بن حميد، يقول الله لنبيه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] وقال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]. وأنا هنا أذكر مقالاً في جريدة الوطن للدكتور علي سعد الموسى , له زواية اسمها ضمير المتصل, ذكر في عنوانها: اطردوا سفراء الزبدة, على أساس أن الدنمارك دولة معروفة بالزبدة. وأقول: المقال كان قوياً جداً ينم عن محبة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويطرح المقال رؤية جيدة في التعامل مع الحدث, لكنها تبقى مقالة رجل أكاديمي, أي: رجل يؤدي ما عليه من موقعه الإعلامي, لكن لا نستطيع أن نعمم كل مطلب على كل أحد, فهذا مهم جداً في فهم القضية.

كيفية التعامل مع الكتاب المسلمين الذين يخطئون في الكلام عن الدين

كيفية التعامل مع الكتاب المسلمين الذين يخطئون في الكلام عن الدين المقدم: لقد مثلتم بهذا الكاتب نسأل الله أن يوفقنا وإياه لكل خير، وفي كلامكم دلالة على أن نظن الخير بكل المسلمين والدكتور الموسى كان في عدد سابق قد كتب مقالاً وجد عليه لوماً شديداً من كثير من المسلمين, لكنه بهذا المقال الذي ذكرتموه قد جاءت كثير من الردود تشيد به وتدل على ما ذكرتموه, وأن هناك خطاً أحمر، فقد نخطئ وقد نختلف فيما بيننا, ولكن عندما يحصل ذلك فلا بد من إحسان الظن بإخواننا، فما تعليقكم؟ الشيخ: أمور الدنيا الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنوم. لكن في أمور الدين نحن شركاء في العقيدة؛ لأنه إن لم نكن شركاء في أمور العقيدة صار واحد مؤمناً وواحد كافراً. فعندما نختلف مع أي مسلم في رؤية فقهية منهجية ودعوية أو ما أشبه ذلك ليس لنا حق في أن نخرجه من الملة, وليس لنا حق في أن نرميه بتهمة كائناً من كان, وليس لنا حق أن نصنفه, هذا جزء من الخطأ الذي كنت أحذر منه في المقولة التي قبل, وأول طرائق الهلاك أن يعتقد الإنسان أنه وحده المصيب, وأنه وحده الذي تنحصر الطائفة الناجية فيه! لكن نقول: نحن من آمن بالله رباً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وبالإسلام ديناً فهو أخونا, فإذا صدرت منه أخطاء فإننا ننصحه ونرشده وندله على الخير ونحذره من مغبة ما يقول, ونخشى عليه أن يكون مزلقاً لأحد, نخشى عليه أن يتلبس بأفكار غير سليمة، ونخشى عليه أن يكون سهماً لأعدائنا. نقول: نخشى عليه ونخاف عليه، ولكن لا نقول إنه عميل وضعه الأعداء لنا؛ لأن دون إثبات ذلك أموراً خطيرة، والأصل في المسلم براءة الذمة. المقدم: ولعل هذا فيه أيضاً رسالة إلى كتاب صحفنا سواء هنا في السعودية أو في غيرها, فكم حصل من الدعاء لمثل هذا الذي ذب عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكم للأسف الشديد دعي على غيرهم؟ الشيخ: هنا كغير ممن يقع منه أحياناً الهمز واللمز في السنة تحت أي طريق كان, فمثلاً الدنماركيون أصلاً كفار، لكن أحياناً قد يقع الكفر من شخص إما بسذاجة أو بعمد، وهو لا يدري أن هذه تسيء، فيلمز أو يسخر من سنته صلى الله عليه وسلم. فهو لا يتعرض لشخصه صلى الله عليه وسلم؛ لكن قد يتعرض لما اشتهر وتواطأ من سنته, فيلمزها أو يسبها عبر أي عمل كان، كعمل تمثيلي أو مقال صحفي، أو كلمات في مجلس أو غير ذلك، فهذا كله محرمات وعظائم لا ينبغي الوصول إليها بأي طريق كان, وقد نبه شيخنا الشيخ سعيد بن مسفر قبل قليل على أمر الله جل وعلا للصحابة بالتأدب في مجمل الخطاب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.

توظيف شبكة المعلومات في خدمة الإسلام

توظيف شبكة المعلومات في خدمة الإسلام المقدم: الإنترنت أو شبكة المعلومات, ذكرها الدكتور سلمان وقال: لا بد من استثمارها والإفادة منها، فبدلاً من أن نواجه الهجوم بدفاع، نهاجم نحن عن طريق التبيين والإيضاح و Q كيف يمكن لهذه المواقع, وكيف يمكن أيضاً لمراكز الأبحاث والدراسات أن تقوم بدور هجومي سلمي في التعريف بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: هذا لا يخلو من طرائق ووسائل عدة بحسب الشخص المخاطب، وقد بين الشيخ صالح ذلك من قبل، ومعلوم جداً أنه إذا حددنا من هو المخاطب, حددنا نوعية الحديث. لكن أقول: إن المراكز والشبكات الإسلامية الإلكترونية ينبغي أن يكون لها دور كبير، وأكثرها قائمة بهذا الجهد, لكن أنا أضع أصولاً عامة ولا أستطيع أن أحدد ماذا يكتبون وماذا يقولون, ولكن أقول: هو يختار الهدف, فإذا اختار الهدف المخاطب تحدد بعد ذلك نوعية الحديث، ما يكتب للسفارات الدنماركية في العالم، أو ما يكتب لوزارة الخارجية الدنماركية باعتبارها مسئولة عن نظرة الناس إلى الدنمارك خارجياً, ما يكتب للصحيفة نفسها، ما يكتب لعامة الشعب الدنماركي, ما ينبغي أن تحمله الجاليات الإسلامية الموجودة في الدنمارك. فأنا أقول مثلاً: الآن الجاليات الإسلامية في الدنمارك لو تمسكت بشيء من سننه صلى الله عليه وسلم التي تثبت عكس ما يزعم هذا المستهزئ، فإن ثباتهم عليها سيغير طريق التعاطي مع العمليات, لأن طرائق تفنيد قول خصمك فيك أن تثبت للمحايدين خلاف الذي يقول, وليس ذلك بالرد عليه ولكن بتطبيق ذلك. أذكر أن أحد الناس ممن ليس على المذهب العام لأهل السنة, كان يعمل معنا في حقل التعليم قبل عشرين عاماً، فمرض فامتنع الجميع عن زيارته، فأنا ذهبت إليه وسط معارضة ممن كان معي، وأذكر أنه ذهب معي شيخ آخر. فلما ذهبت فوجئ أهل بيته بزيارتي, لأنه كان آخر شيء يتوقعونه, فسلمت على الصغار عند الباب وسألتهم عن أبيهم، فدخلت عليه في بيته وسلمت عليه وقابلت إخوته وتمنيت له الشفاء ودعوت له, ثم خرجت، ثم كررت المصافحة لأبنائه وبناته الصغار، ثم رجعت. أنا كنت أرمي إلى شيء الاقتداء بالمصطفى، هذا شيء, لكن الشيء الآخر: من يقول عنا معشر أهل السنة شيئاً لن تستطيع أن تنزعه من الأتباع إلا بطريقة مثل هذه, فإذا قيل لهؤلاء الصغار الذين تحت قلم التكليف شيئاً عن أهل السنة وأنهم عدوانيون وغير ذلك, فإن المقولة ستصطدم بذلك الأثر من الزيارة, بمعنى أن الطفل سيتذكر زيارة فلان ورفقه به وسلامه وغدوه وسؤاله عن أبيه، فلا تجد لها موقعاً في القلب. أعني أن الكلمات العدوانية المؤسسة للعداء لن تجد لها موقعاً؛ لأن هناك ما يصدها, أو على الأقل ما يشكك فيها. فالشعب الدنماركي الآن في أحوج ما يكون أن يبين لهم الصورة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يبقى ذلك التصور الذي رسمه الكاتب الصحفي هباء منثوراً يصطدم مع شيء يشاهده الناس واقعاً وأنه خلاف الذي يزعم, كما كانت قريش تقول: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] ويحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث غير موجودة فيه, فعندما يواجهه الحجاج والعمار قبل الهجرة ويتخاطبون معه يذهب كل ما قالته قريش هباء منثوراً، لأنه يصطدم بالصورة الحقيقة له صلوات الله وسلامه عليه, فيكون سبباً في إسلامهم أو على الأقل في عدم قبول قول قريش فيه صلوات الله وسلامه عليه.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته المقدم: هل لكم كلمة توجهونها في ختام لقائنا هذا؟ الشيخ: من المعلوم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]. من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أن هؤلاء القوم يسألون الله جل وعلا في صباحهم التوفيق, ويسألونه جل وعلا في مسائهم الاستغفار عما كان منهم. ونسأل الله جل وعلا أن يجعل خروجنا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدومنا إلى هذا المكان مما يراد به وجهه تبارك وتعالى والذب عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه. وكل من شارك أو شاهد أو لم يقدر له أن يشاهد لكنه علم بما يقع لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم أو وقع في حقه, فأصابه ما أصابه من الغيظ والكمد، نصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من أعظم دلائل التوفيق التي يعطيها الله جل وعلا عباده. فإن محبته صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن العبد أينما غدا أو راح مكلف، ومما كلفه الله جل وعلا به محبة ونصرة هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه, وهو ما حررناه في أول الأمر. وأستثمر ما قاله الإخوة الفضلاء المشايخ في قضية أن يكون شأننا دائماً العمل بسنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه. كان ثابت البناني إذا لقي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل يده, ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر فيها مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء, فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو عندي أبهى من القمر ووقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد عام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ثم غلبته العبرة, فقطع حديثه ثلاث مرات، لا يستطيع أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. وهذه نماذج من محبة أولئك الأخيار لنبيهم صلى الله عليه وسلم. خاتمة الوصايا أن نقول: إن الله قال وهو أصدق القائلين: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]. فلا نحن من السابقين الأولين من المهاجرين, ولا نحن من السابقين الأولين من الأنصار, فما بقي أيها الأخ والأخت الكريمة إلا طريق واحد قاله الله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]. فإن أعظم ما يمكن أن نستثمر فيه ما بقي من أعمارنا أن نكون متبعين لسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه. نعمل بشرعه، ونحبه صلى الله عليه وسلم أعظم الحب في قلوبنا، ونقتفي أثره, ونتبع سنته وفق منهج تطبيقي حقيقي، نريد به وجه الله والدار الآخرة. فنفعل الفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, ونترك ما نترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه. دخل عليه الصلاة والسلام ذات مرة من المسجد فرأى ازدحاماً من النساء, فقال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) فسمعه عبد الله بن عمر وهو يومئذ قد ناهز العشرين من عمره, فعمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك ستين عاماً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل من ذلك الباب قط، إجلالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركنا هذا الباب للنساء. والمطلوب استثمار هذه الواقعة في أن نزداد حباً قلبياً لنبينا صلى الله عليه وسلم, ونعمل بسنته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.

وقفات إيمانية

وقفات إيمانية إن المتأمل في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية حري به أن يقف قلبه على كل آية وعند كل حديث؛ وذلك لما تحتويه من الفرائد والفوائد، والعبر والروحانيات التي ترفع من معدل إيمان العبد في القلب.

وقفة مع قوله تعالى: (ألم غلبت الروم وهم عن الآخرة هم غافلون)

وقفة مع قوله تعالى: (ألم غلبت الروم وهم عن الآخرة هم غافلون) الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين، بعثه الله بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه محاضرة عنوانها: وقفات إيمانية، من خلالها بإذن الله جل وعلا سنقف مع بعض آي القرآن نستظل بظلالها الرحب، ونفيئ إلى موردها العذب، ونرجو الله جل وعلا أن يذكرنا بها ما يصلح آخرتنا ودنيانا ويعيننا على أن نحقق المبتغى من سعادة الحياتين وحياة السعادتين. قال الله جل وعلا في فاتحة سورة الروم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:1 - 7]. فهذه الآيات هي الوقفة الأولى في لقاء هذه الليلة، وهذه السورة مكية بإجماع العلماء، واختلفوا في آية واحدة منها إن كانت مكية أو مدنية، أما سائر السورة فالإجماع منعقد على أنها مكية، وفواتح السورة تنصب على ما يلي:

سبب نزول الآيات

سبب نزول الآيات قبل الهجرة بينما كان المؤمنون مختلطين بالمجتمع المكي كان يحصل بين الفريقين نوع من المناوشات الكلامية، فكل فريق يريد أن يثبت أحقيته بالصواب، ولا ريب أن الحق مع أهل الإيمان لكننا نتكلم عن توصيف ظاهري للمجتمع المكي آنذاك، وقد كان يحيط بجزيرة العرب فارس والروم، وكانتا يومئذ دولتين متنازعتين فتغلب فارس حيناً وتغلب الروم حيناً آخر، والروم نصارى أهل كتاب، أما الفرس فهم وثنيون لا كتاب لهم، فكانت عاطفة المشركين القرشيين مع الفرس وعاطفة المؤمنين مع الروم؛ لأنهم نصارى، وهذا يسمى مصاحبة ولا يسمى موالاة، والمصاحبة تجوز مع الكافر وغير الكافر والموالاة لا تجوز إلا للمؤمن، ودليل جواز المصاحبة مع الكافر قول الله جل وعلا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فأمر الله بمصاحبتهما بالمعروف رغم أنهما كافران، أي: الوالدان. فذات مرة في إحدى الصراعات بين فارس والروم غلبت فارس الروم فشق ذلك على المسلمين؛ لأن المشركين من جزيرة العرب -قريش وأتباعها- أخذوا يقولون للمؤمنين: إن الوثنيين الذين لا كتاب لهم غلبوا وهذا مبشر؛ لأننا سنغلبكم ودليل على أن الأمم التي لها كتاب لا خير فيها، فلما ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخبره الخبر نزل القرآن: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1 - 3]، والروم قلنا: إنهم قوم نصارى وهم الأوروبيون الحاليون والروم نسباً هم من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام فنبي الله إبراهيم أنجب إسماعيل وإسحاق، من إسماعيل العرب المستعربة والذين منهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاء ولدان يعقوب والعيص، من يعقوب جاء بنو إسرائيل ومن العيص جاء الروم الذين هم كما قلت الأوربيون حالياً. المقصود من هذا أنه لما أخبر أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم بالحدث نزلت الآية: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]. فرب العزة وهو عالم الغيب والشهادة والذي بيده مقاليد الأمور أخبر نبيه والمؤمنين عن طريق جبريل أن الروم ستغلب. (في أدنى الأرض) ومعنى ذلك على أقوال عدة لكن نأخذ الظاهر أن معناها: الأقرب إلى جزيرة العرب، فـ (أدنى) بمعنى: أقرب، والعلم عند الله. لما جاء القرآن بخبر النصر وثق المؤمنون أن الروم ستغلب فذهب أبو بكر إلى منتدى من منتديات قريش يخبرهم بالخبر فقامره وراهنه أبي بن سلام الجمحي على أن الفرس ستغلب وأن الروم لن تغلب أبداً، وأبو بكر يتمسك بالقرآن وبوعد الله، وأن الله قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، فتراهنا على عشر قلائص يعني: إبل محملة، ثم اتفقوا على أمد، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه الآية: ((فِي بِضْعِ سِنِينَ)) والبضع من ثلاث إلى تسع، فقال الصديق رضي الله عنه: إن الروم ستغلب بعد ست سنين، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا قال له: (هلا جعلتها أكثر فإنني ألم أخبرك أنها تسع)، الله قال: ((فِي بِضْعِ سِنِينَ))، والبضع إلى التسع، فعاد أبو بكر إلى أبي بن سلام الجمحي وزاد في الخطر ومد في الأجل، معنى زاد في الخطر أي: جعل بدل العشر من الإبل مائة، ومد في الأجل بمعنى أنه مد المدة من ست سنين إلى تسع سنين، فوافق أبي بن سلام الجمحي، وفي معركة بدر في المدينة في أظهر قولي العلماء انتصرت الروم على فارس كما أخبر الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:3 - 4] ومعنى الآية: لله الأمر من قبل أن تغلب الروم ومن بعد أن غلبت من قبل ومن بعد {وَيَوْمَئِذٍ} [الروم:4] يعني: يوم يقع النصر {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4 - 5] فلا يقع في ملكه جل جلاله وعظم شأنه إلا ما يريد. ثم قال الله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].

أقسام وعد الله

أقسام وعد الله نقول علمياً: وعد الله جل وعلا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وعد الله للمتقين أنهم يدخلون الجنة، وهذا لا يخلف أبداً وعليه يحمل قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]. الثاني: وعد الله ويسمى وعيد، وهو وعيد الله جل وعلا للكفار بأن يدخلون النار وهذا واقع لا محالة وعليه يحمل قول الله جل وعلا: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]. الحالة الثالثة: وعد الله ووعيده لعصاة المؤمنين قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. وقال الله تبارك وتعالى: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57]، إلى غير ذلك من آيات الوعيد الواردة في عصاة المؤمنين، وهذا القسم يقع تحت المشيئة، إن شاء الله أمضاها، وإن شاء الله لم يمضها وعليها يحمل قول الله جل وعلا: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، قال الله هنا: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، وهذا شيء تراه عياناً. فالغرب اليوم لا يكاد يسبق في التقدم العلمي لكنه باطل في مذهبه، باطل في دينه، باطل في معتقده؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. قال الحسن البصري رحمه الله وهو يتكلم عن أهل زمانه: إن من الناس من يكون عالماً بالحياة الدنيا حتى إنه لو نقر الدينار أو الدرهم بظفره لأخبرك بوزنه دون أن يزنه، فإذا قام إلى الصلاة فإنه لا يحسن أن يصلي عياذاً بالله. فكم تستضيف القنوات والفضائيات وغيرها من الصحف والمجلات أقواماً يتكلمون بعدة لغات ومع ذلك لا يحسن أحدهم أن يصلي ركعتين لله الواحد القهار قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، هذه الآيات الأولى في هذه الوقفات وهي من باب الاستفتاح بما هو خير.

وقفة مع قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)

وقفة مع قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) الوقفة الثانية: مع قول الله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، هذه الآية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه حظنا من النبيين كما نحن حظه من الأمم وهو آخر الأنبياء عصراً وأرفعهم يوم القيامة شأناً وذكراً، زكى الله في القرآن لسانه فقال جل ذكره: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله قلبه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله عينيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكاه جملة فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ولنبينا صلى الله عليه وسلم جملة هيئة خُلُقية وهيئة خَلْقية: أما الهيئة الخُلُقية: فلا مناص ولا مفر من أنه صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس، فكل شيء ذي بال فله فيه صلى الله عليه وسلم قصب السبق والقدح المعلى والحظ الأوفر، فهو عليه الصلاة والسلام سيد العظماء، إمام الكرماء، سيد الشجعان كل فضيلة له فيها صلى الله عليه وسلم أعظم نصيب وأحظه وهو الإمام فيها. فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو أن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكلٍ بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء

صفات الرسول الكريم الخلقية إجمالا

صفات الرسول الكريم الخَلْقية إجمالاً أما الصفات الخَلْقية: فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم لم تكتحل أعيننا وأعينكم برؤيته لكنه عليه الصلاة والسلام كما قالت الرُّبيِّع بنت معوض رضي الله عنها لما سألها محمد بن عمار بن ياسر قال: يا أماه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف، قال: لا، بل مثل القمر. وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه كما عند مسلم في الصحيح قال: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهو عندي أجمل من القمر. نبينا عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر، أي: أن شعره ليس مسترسلاً، ناعماً في لغة العامة اليوم، ولا ملتوياً. في جبهته عليه الصلاة والسلام عرق يدره الغضب إذا غضب في ذات الله يمتلئ هذا العرق دماً فيظهر ناتئاً عن الجسد، أزج في غير قرن، أزج: بمعنى دقيق شعر الحواجب، في غير قرن أي: لم يكونا ملتصقتين، طويل أشفار العينين، أشم الأنف، كبير الفم، مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب في شعره ندرة بمعنى: متفرق في رأسه قليل في صدغيه الأيمن والأيسر وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجميع شيبه لا يكاد يتجاوز العشرين شعرة، أبيض مشرباً بحمرة، وبياض اليدين وأسفل الساقين كأنه يميل إلى السمرة؛ لأنهما متعرضتان للهواء وداخل الإزار أبيض ناصع البياضن قال أنس: كأني أرى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كأن عنقه إبريق فضة. بعيد ما بين المنكبين، ما بين كتفيه من الخلف إلى جهة الشمال شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض ناتئة عن الجسد قليلاً كأنها بيضة حمامة عرفت بخاتم النبوة من هذه الوهدة الثغرة التي في النحر إلى أسفل سرته خيط ممتد شعر على هيئة خيط ممتد يعبر عنه عند الرواة بأنه دقيق المسربة، ليس في صدره ولا بطنه شعر غيره صلوات الله وسلامه عليه، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس أي: عظام المفاصل، إذا مشى فإنه يتكفأ تكفأ كأنما ينحدر من مكان عال بمعنى: أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكأ على كعبيه، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا ناداه أحد التفت ببدنه الشريف كله ولا يلتفت برقبته فقط، وإذا تعجب من شيء قلَّب كفيه وقال: سبحان الله، وعن البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه كان إذا تعجب من شيء عظ على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه. من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه.

ذكر مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية إجمالا

ذكر مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية إجمالاً عُمِّر 63 عاماً، ولد وأبوه متوفى في أظهر أقوال العلماء لأمه آمنة بنت وهب من بني زهرة الذين منهم سعد بن أبي وقاص فكان إذا رأى نبينا عليه السلام سعداً يقول: هذا خالي فليرني امرؤ خاله، عاش في كنف أمه ست سنين أربع منها كان مع مرضعته حليمة في بادية بني سعد ثم أرجع إلى أمه، وكانت شفيقة رفيقة به، (فلما مر على قبرها بالأبواء عليه الصلاة والسلام وقف على قبرها وبكى فسأله الصحابة: ما يبكيك؟ قال: هذا قبر أمي آمنة، وقد سألت الله أن أستغفر لها فلم يأذن لي وسألته أن أزور قبرها فأذن لي، فلما زرت قبرها تذكرت رقتها علي فبكى صلوات الله وسلامه عليه وبكى الصحابة معه) تبعاً لبكاء نبيهم رضي الله عنهم وأرضاهم، حتى إذا دنا من الأربعين كان لا يرى الرؤيا إلا وتقع مثل فلق الصبح، ثم نبئ بإقرأ على رأس الأربعين، ثم أرسل بالمدثر بعد ذلك قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4]. فأخذ يدعو الناس إلى دين الله بعد أن نبأه الله وبعثه وأرسله، ومكث في مكة 13 عاماً وضع على رقبته وهو ساجد -وهو خير الخلق عند الله- سلا الجزور ولم يقدر أحد ممن آمن به آنذاك أن ينصره، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آنذاك مؤمن يرى الأمر ولا يقدر على النصرة؛ حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وحملت سلا الجزور عن أبيها، وأبوها سيد الخلق عند الله لكنها سنة الابتلاء الماضية، فلما رفع رأسه عليه السلام نظر فيهم -أي في القرشيين- فدعا عليهم قال عبد الله بن مسعود: والله! لقد رأيت من دعا عليهم رسول الله صرعى يوم بدر في قريب بدر، استجاب الله دعوة نبيه. فلما اشتد عليه أذى القرشيين خرج إلى الطائف فصده أهلها حتى قال قائلهم: ألم يجد الله أحداً يبعثه غيرك، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وفي طريقه من الطائف إلى مكة أخذ يدعو الله، فلما قست قلوب الإنس على أن تقبل كلامه ألان الله لنبيه قلوب الجن فلما سمعت القرآن وهو أطيب كلام من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفمه أطيب فم مخلوق رقوا وحنوا ودخل الإيمان في قلوبهم قال الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] أي: لما قام رسول الله يقرأ القرآن كادت الجن يركب بعضها بعضاً من عظمة ما يسمعون، قال الله في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31]، اللهم اجعلنا ممن يجيب دعوته. فسمعوا منه القرآن ثم دخل مكة ثم عرج الله به -بعد أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ثم عاد صلى الله عليه وسلم ومكث بعدها في مكة على الأظهر ثلاث سنين، ثم أذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر عليه الصلاة والسلام، وخرج من مكة يوم الإثنين وكان قد نبأ يوم الإثنين كما قال ابن عباس ومكث في الطريق أسبوعين دخل المدينة يوم الإثنين من بطن وادي ريم في جهة الجنوب ثم أتى على قباء فاستقبله أهلها فمكث في قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وتوجه صبيح الجمعة قبل الزوال إلى المدينة بعد أن بعث إلى أخواله من بني النجار فأدركته صلاة الجمعة في بطن الوادي فصلى صلى الله عليه وسلم على مراحل غير بعيدة من قباء وهو على ناقته، بعد ذلك راكباً أتى المدينة وهو يقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فبركت الناقة في موضع المنبر اليوم فلم ينزل ثم قامت وجالت جولة ثم بركت في موضعها الأول، فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحل رسول الله وأدخله داره فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، فمكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله حق جهاده في بدر وأحد والخندق وغيرها وكان عليه السلام يضحي كل عام بكبشين أملحين يقول: (في الأول باسم الله الله أكبر اللهم هذا عن محمد وآل محمد ثم يتذكر أمته ومن يأتي بعده فيقول: واللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، فانظر رحمة نبيك بك فقد خشي عليك الفقر ألا تضحي فقد ضحى عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. مكث في المدينة على هذا الأمر حتى أتم ثمان سنوات، ثم فتح الله له مكة فطاف بالبيت الذي حرم منه ثمانية أعوام، وبيده محجل يشير إلى الأصنام وهي تتساقط وهو يتلو: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ثم دخل البيت بعد أن طهر مما فيه من الصور والأزلام فكبر في نواحيه وصلى فيه ركعتين، ثم خرج، ثم بعد ذلك عاد إلى المدينة بعد حنين والطائف، ثم في العام العاشر أذن في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازم على الحج فأم المدينة خلق كثير، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجة الوداع فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فعلم أنه ميت فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، حتى رجع إلى المدينة عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول من ذلك العام في أول يوم دخل على عائشة وهي عاصبة رأسها تقول: وارأساه! قال: (بل أنا وارأساه!)، فبدأ المرض يشتد عليه فخرج إلى أحد استغفر لهم ودعهم -أي الشهداء هناك- خرج إلى البقيع يقول: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها)، ثم رجع وهو يقول لـ أبي مويهبة: (إن الله خيرني ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، وما بين لقاء الله ثم الجنة، والنبيون أعظم الخلق شوقاً إلى لقاء الله فقاطعه أبو مويهبة قال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: لا، يا أبا مويهبة! إنني اخترت لقاء الله ثم الجنة) شوقاً إلى ربه، فلما داهمه المرض وحانت ساعة الوفاة يوم الإثنين سمعته عائشة وهو يقول بعد أن خيره الملك يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال: بل الرفيق الأعلى)، كررها ثلاثاً ثم مالت يده ففاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه، ثم غسله أهل بيته غسله العباس وقثم والفضل ابنا العباس يقلبان الجسد الشريف، وشقران وأسامة يسكبان الماء، وعلي رضي الله عنه يباشر بيده غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كُفِّن بثلاثة أثواب من قرية من اليمن، ثم إنه صلى الله عليه وسلم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ودفن ثم نزل في قبره قثم والفضل وأسامة وشقران وعلي ووضعوه في لحده عليه الصلاة والسلام وبنوا عليه تسع لبنات بعد أن صلى عليه المؤمنون أرسالاً أي فرادى كل شخص يصلي لوحده ثم دفن وحثي التراب على قبره صلوات الله وسلامه عليه. هذا على وجه الإجمال خبر نبيكم صلى الله عليه وسلم. الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم ثم اعلم أيها الأخ المبارك! إن الناس يوم القيامة يحشرون وهم أحوج ما يكونون إلى ثلاثة أشياء، يحشرون عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشرون عطشا أحوج ما يكونون إلى الماء، ويحشرون تدنو منهم الشمس أحوج ما يكونون إلى ظل العرش، والموفق من رحمه الله وأكرمه وكساه يوم القيامة وسُقِي من يدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وأظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. جمع الله لي ولكم ولوالدينا هذه الثلاثة كلها. ومن أعظم أسباب الحصول على ذلك: محبة نبينا صلى الله عليه وسلم واتباع أمره واجتناب نهيه والتماس سنته وتصديقه، بل الدين كله مندرج في اتباعه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. هذه الوقفة الثانية في هذا المساء المبارك وكانت خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

وقفة مع قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)

وقفة مع قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) الوقفة الثالثة علمية في قول الله جل وعلا: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]، هذه الآية في سورة البروج وسورة البروج سورة مكية باتفاق العلماء صدرها الله جل وعلا بقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1 - 3]. فإن جعلنا الواو عاطفة فهي معطوف على مقسوم، وإن جعلناها مستقلة فهي في ذاتها واو قسم ولذلك جرت في الحالتين.

اختلاف العلماء في معنى الشاهد والمشهود

اختلاف العلماء في معنى الشاهد والمشهود اختلف العلماء على ما هو الشاهد وما هو المشهود؟ على أقوال وكلها يؤيدها القرآن. قال بعض العلماء: الشاهد هو النبي صلى الله عليه وسلم والمشهود عليه هذه الأمة والدليل أن الله قال: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. قال آخرون: لا الشاهد هو هذه الأمة والمشهود عليها الأمم كما ورد في الحديث الصحيح. وقال آخرون: إن الشاهد هو الحجر الأسود والمشهود عليه من يلتبس الحجر، ودليلهم من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله عينان يبصران وله لسان يتكلم به يشهد لمن استلمه بصدق). وقال آخرون: إن الشاهد هو عيسى عليه السلام والمشهود عليه أمته ودليلهم من القرآن قول الله جل وعلا في خاتمة المائدة على لسان عيسى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]. وقال آخرون: إن الشاهد هو النجم، والمشهود الناس والدليل عندهم من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يغيب الشاهد)، أي: حتى يغيب النجم. وقال آخرون بغير هذا لكن هذا جملة ما قاله العلماء على أنه ينبغي لك أن تعلم أن أعظم الشاهدين هو الله جل جلاله قال الله جل وعلا: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال الله على لسان عيسى: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]، ولقمان لما أراد أن يؤدب ابنه ويعلمه ويعظه قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. فالله جل وعلا من تكلم عنده كمن أسر، ومن ظهر كمن اختفى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وطوبى لعبد خاف الله واتقاه، وعلم أن الله هو خير الشاهدين، فما أقفل على نفسه باباً إلا وتذكر عظمة الجبار جل جلاله وأن الله جل وعلا مطلع عليه لا تخفى عليه من عباده خافية. فجعل من عمره صلوات وذكر يتقرب بها إلى الله جل وعلا، ألا ترى إلى يونس بن متى لما ابتلاه الحوت وغاص به الحوت في قاع البحار حرك عليه السلام يديه؛ ليشعر أنه حي أو ميت فتجاوبت معه أطرافه فأسمعه الله جل وعلا تسبيح الحصى في باطن الثرى فخر ساجداً في ذلك المكان المظلم يتوسل إلى الله بهذا السجود قائلاً: اللهم إنني اتخذت لك مسجداً في مكان ما ظننت أن أحداً عبدك فيه، قال الله جل وعلا: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، فألهمه الله جل وعلا أن يسبح وأن يذكر الله وأن يتقيه في مكان يغلب على الظن أن الله لم يُذكر فيه، فكان ذلك سبباً في رحمة الله جل وعلا به فكل ما بوأك الله مكاناً فأرِ الله جل وعلا ما يأمله منك، وإذا رزقك الله جل وعلا نعمة مما تحب فأرِ الله جل وعلا فيها ما يحب، وقد كان بعض الصالحين إذا دعا الله يقول: اللهم واجعل ما أعطيتنا مما نحب عوناً لنا على ما تحب، وهؤلاء طبقة ربانية وأئمة مهديون. سلك الله بي وبكم سبيلهم.

وقفة مع قصة جريج العابد

وقفة مع قصة جريج العابد

ابتلاءات الرسول صلى الله عليه وسلم

ابتلاءات الرسول صلى الله عليه وسلم لقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم الابتلاءات العظيمة الكبيرة فصبر، وفوض أمره إلى الله، واستمر في الدعوة إلى هذا الدين العظيم، فأقام الله به الدين وأظهره على الدين كله. وصور ابتلائه صلى الله عليه وسلم كثيرة، فحري بمن اقتدى به أن يصبر على الابتلاءات، فما هذه الدنيا إلا دار ابتلاء وامتحان، فالصبر مفتاح الفرج.

تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام

تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا: أن يعظم قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، على أنه ينبغي أن يعلم أن قدره صلى الله عليه وسلم عظيم قدراً وشرعاً، وأما من لم يعرف لنبي الله صلوات الله وسلامه عليه قدراً فهو في حقيقة الأمر لم يعرف قدر نفسه؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كتب الله له أرفع المقامات، وأجل العطايا، وأسنى المطالب قدراً وشرعاً كما بينا آنفاً، فهو عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته). وقال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].

رضاعته صلى الله عليه وسلم

رضاعته صلى الله عليه وسلم سوف نحاول أن نقف وقفات مختصرة في هذا اللقاء المبارك، فنجعل من بعض الأحداث، أو الأحاديث في سيرته مطية للحديث عن هديه وما يمكن أن ننتفع به من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قدوة للعاملين، وحجة على المعاندين، ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. الوقفة الأولى: مع رضاعته عليه الصلاة والسلام، فالأم في القرآن يطلق على معان عدة، فيطلق على الأم نسباً وتسمى والدة، ويطلق على الأم إذا أرضعت، ولا تسمى والدة؛ لأنها ليست أماً نسباً، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]. وقال في صدر الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] أي: نسباً، ونبينا صلى الله عليه وسلم زهري أماً، هاشمي أباً، فأبوه من بني هاشم، وأمه من بني زهرة، ولما ولدته أمه هي التي أرضعته، فأول ثدي التقمه عليه الصلاة والسلام كان ثدي أمه، ثم ثدي ثويبة مولاة أبي لهب، واختلف في إسلامها هل أسلمت أو لا؟ والعلم عند الله، وليس بين يدينا نص صريح صحيح إثباتاً أو نفياً. وثويبة كانت جارية لـ أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها أبو لهب لما بشرته بمولد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كان ما كان بعد ذلك من كفر أبي لهب بعد البعثة. فـ ثويبة ثاني المرضعات، وثالث المرضعات: حليمة السعدية في بادية بني سعد على عادة العرب آنذاك، وشرف بأن رضع معه صلى الله عليه وسلم رجال ونساء، فلم يرضع معه من أمه أحد، لكن رضع معه من ثويبة أبو سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهو أخوه من الرضاعة، ثم مات أبو سلمة عن زوجته فتزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا إرهاصاً لما سيكون بعد، ثم أرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها وأرضاها. وكذلك أرضعت معه ثويبة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فـ حمزة عمه نسباً، وأخوه رضاعة، ويقدر الله لوشائج القربى أن تعظم ما بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ حمزة كما أنه رضع معه من ثويبة فقد رضع معه من حليمة، فـ حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، ورضع مع النبي عليه الصلاة والسلام من ثويبة ورضع معه من حليمة، فهو أخوه من الرضاعة من جهتين: من جهة ثويبة، ومن جهة حليمة السعدية. وأرضعت معه حليمة أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الخمسة الذين يشبهونه عليه الصلاة والسلام، وقد مر معنا في دروس مضت أن هناك خمسة شديدي الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن، والفضل، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث، وجعفر بن أبي طالب، فهؤلاء الخمسة أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئته الخَلْقية، ويتفاوتون في شبههم بهيئته الخلقية بعضهم عن بعض تفاوتاً بيناً كما هو معلوم. فهؤلاء هم إخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهذه الرضاعة عموماً تنوعها يري كل من يفقه عناية الله جل وعلا برسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد لمن يدرس السيرة أن يربط جزماً ما بين القرآن والسنة، فالله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين في نبيه موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فإذا كان قيل في كليم الله موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فما عسى أن يقال في سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، فأنبياء الله جل وعلا أعدهم الله جل وعلا لأمر عظيم، وشأن جليل، وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام في عناية ربه منذ أن حملت به أمه، وإلى أن أودع القبر عليه الصلاة والسلام، بل إن الله بعد ذلك: (حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وهو عليه الصلاة والسلام خيرة الأنبياء من الخلق، وهو عليه الصلاة والسلام محل احتفاء ربه جل وعلا، فحتى عائشة يراها في رؤيا في كفه قبل أن يتزوجها، والمدينة هذه المباركة التي هاجر إليها يرى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، ثم يهاجر بعد ذلك بقدر الله وشرعه إلى هذه المدينة المباركة، فهو لم يختر الأرض التي يهاجر إليها، ولم يختر التربة التي مات فيها، ولم يختر البقعة التي دفن فيها، ولم يختر أزواجه، كان صلى الله عليه وسلم في كل قول يقوله، أو فعل يفعله، أو خطوة يخطوها، يكون ذلك بخيرة من الله وقدره، وهذا هو المعنى الحرفي في قول شوقي: الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسمِ إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعمِ أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه. فيبين هذا منزلته عند ربه، فبالله ما سينال أعداؤه منه إلا الوبال والخسران، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]. فهو عليه الصلاة والسلام كفاه الله جل وعلا شر كل أحد: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:95 - 96]، فإذا كان القرشيون القريبون منه جسداً وداراً ومقاماً وموطناً عجزوا عن أن يصل أذاهم إليه، فكيف بمن يريد أن يؤذيه اليوم وقد وسد الترب صلوات الله وسلامه عليه: والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا صلوات الله وسلامه عليه.

وقفة مع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

وقفة مع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الوقفة الثانية: مع حدث وقع بعد بعثته، وأضربت الذكر صفحاً عن ذكر الهجرة والبعثة؛ لأنني تكلمت عنهما كثيراً، وهذا الحدث هو تحويل القبلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم في مكة يجعل مكة بينه وبين بيت المقدس إذا صلى في الحرم، فيصلي ما بين الركنين، ويستقبل الشام، وأما إذا صلى خارج الحرم، فإنه يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة مكث ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس، ثم قال لجبريل: (وددت لو أن الله جعل مكة أو الكعبة قبلتي، فقال له جبريل: إنما أنا عبد فادع الله واسأله، فأخذ صلى الله وعليه وسلم يدعو ربه ويسأله، ويرجو أن يحقق له مقصوده، ويقلب وجهه في السماء، فأنزل الله جل وعلا قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144])، وهذا من إكرام الله لنبيه، فولى صلى الله عليه وسلم وجهه تجاه الكعبة، فانقسم الناس إلى أربعة فرق: فقال أهل الإيمان من الصحابة الأخيار: سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا، فزكاهم الله بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]. وقال اليهود: لقد ترك قبلة الأنبياء، ولو كان نبياً لما ترك قبلتهم. وقال القرشيون في مكة: يوشك محمد أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وإن هذا من أمارات أننا على الحق. وقال أهل النفاق وهم يومئذ قليل؛ لأن شوكة المنافقين لم تظهر إلا بعد بدر، وأما قبل بدر فكان النفاق في المدينة قليلاً، فقال بعض ضعفاء الإيمان والمنافقون آنذاك: إن محمداً لا يدري أين يتوجه، فإن كان أولاً على الحق فقد ترك الحق، وإن كان في توجهه إلى مكة اليوم على الحق فقد كان محمد على الباطل، فتركوا الدين، فهذه أربع طوائف.

كيفية تعامل المؤمن مع الأحداث من حوله

كيفية تعامل المؤمن مع الأحداث من حوله ويمكن أن يأتي العاقل اليوم فيستقى منها كيف يتعامل مع الأحداث من حوله: أولها: أن المؤمن عبد مأمور يستسلم لأمر ربه وإن رأى أنه مخالف لهواه، لكنه يطوع هواه لأن يكون تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، فالدين في مجمله: استسلام وانقياد لأوامر الله، وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم. هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديانِ هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران وبه فدى الله الذبيح من البلا لما فداه بأعظم القربان هو دين يحيى مع أبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان هذا هو التوحيد، ثم جاء بعدها: وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن فالإنسان يأخذ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويأتمر به، وينقاد إليه، وأما أن يأتي الإنسان لمصالحه ورغباته وأهوائه، فيريد أن يطوعها كما يشاء، فهذا لا ننفي عنه الإيمان بالكلية، لكن لا يمكن أن يرقى إلى أهل الإيمان المؤتمنين على دين الله جل وعلا في نشره، ولن يستطيع أحد أن يحمل الدين ويقوم به على الوجه الأكمل، والنحو الأتم، ويبلغه الناس؛ حتى يؤمن به أولاً، وحتى يكون روحاً وجسداً طوعاً لأوامر الله، فإذا كان هوى النفس ورغباتها تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه أصبح هذا الرجل حقاً صادق الإيمان، وهذا هو الذي يستطيع أن يحمل الراية، لكن الإنسان قد يأتي آخر الناس في المسجد، ويريد أن يكون أول الصفوف في القتال، أو يعكس الوضع، يكون أول الناس في المسجد، ويريد أن يكون آخر الصفوف في ساحات القتال الشرعي، أو غير ذلك، لكن المرء يكون هواه حقاً تبعاً لما جاء به محمد صلى الله وعليه وسلم عن ربه جل وعلا. ومن هذه القضية يؤخذ: أنه يسهل على النفس أن تجد أعذاراً فيما لا تريد، كما فعل المنافقون والقرشيون واليهود، فقد وجدوا أعذاراً في تحويل القبلة، والأمة تبتلى وتختبر على مر الدهور وكر العصور، في كل آن وحين كما قال الله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]. والله يقول: {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:126]. فابتلاء الناس واختبارهم بالأحداث العظام يتكرر في التاريخ كله، فإذا أقبلت الفتنة عميت على الناس، ولا يعرفها إلا من رزقه الله جل وعلا رسوخاً في العلم، فإذا أدبرت وانتهت أضحت بجلاء لكثير من الناس، وأما أن يبقى فئام في إقبال الفتنة أو في إدبارها وهم سواء، فلا يريدون أن يروا إلا ما يريدون أن يروه، وإذا كان الإنسان لا يحب أن يسمع إلا كلاماً يحبه، ولا يحب أن يرى إلا واقعاً يريده، فهذا لن يبصر ولن يسمع، لكن العاقل يرى الأشياء على ما هي عليه، ثم ينظر كيف يتعامل معها وفق شرع الرب تبارك وتعالى. ويسهل على الشاب الذي تتثاقل قدمه عن الصلاة أن يقول: إن الإمام حيناً يتأخر في الإقامة ويطيل في الصلاة، أو يقول العكس فيظهر أنه رجل تقي بار فيقول: هذا الإمام لا يطيل الصلاة ولا أجد نفسي أخشع وراءه، فلو ذهب إلى المسجد النبوي أو غيره لقلنا: إنه صادق، لكن يبقى في البيت، ويتخذ من خطأ الإمام عذراً، فهذا حاله ليس مثل الأولين الذين ذكرناهم في مثال القبلة تماماً، بل هناك وجه شبه لا انفكاك منه عن حالة المنافقين، فالمنافقون قالوا: إما أن يكون محمد على الحق فترك الحق، وإما أن يكون محمد يزعم أن الحال الثاني على الحق فقد كان محمد على الباطل. والمقصود: أن طرائق التأويل سهلة جداً لمن يريد أن يتبع الغواية ويخرج عن منهاج هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقفة مع حياته صلى الله عليه وسلم في بيوته

وقفة مع حياته صلى الله عليه وسلم في بيوته الوقفة الثالثة: يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1 - 2]. ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في أرفع المقامات، لكنه مع ذلك هو بشر، وتبقى تلك البيوت التي كانت في جوار المسجد في شرقيه على الأكثر لو رفعت يدك للمست سقفها، ولو مددت قدمك وأنت نائم للمست حائطها، وكانت تأوي أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن وبينهن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، تبقى بيوتاً بشرية؛ لأنها بيوت هدى، فلو لم تكن بيوتاً بشرياً لانتفت القدوة والأسوة؛ لأننا أصبحنا مطالبين بأقوام أو بعوالم ليست مثلنا، فلنا العذر ألا نقتدي، لكنها كانت بيوتاً كبيوتنا، يعمرها أقوام مثلنا في خلقهم، إلا أن الله اختصهم وأعطاهم ما لم يعط غيرهم.

سبب نزول قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)

سبب نزول قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) فاختلف في سبب نزول الآية على قولين شهيرين يتبعها أقوال بعيدة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب جارية من جواريه وهي مارية القبطية على فراش إحدى زوجاته، ويقال: إنها حفصة، فعظم هذا عليها، فأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم جاريته على نفسه. وقول آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عند إحدى أمهات المؤمنين طويلاً بعد العصر، وأطعمته عسلاً، وكان يحب الحلوى، فغارت بعض أمهات المؤمنين، فتظاهرن عليه أن يقلن: إننا وجدنا منك ريحة كذا وكذا، وقد سأل ابن عباس حبر هذه الأمة سأل عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر كان ذا هيبة، وابن عباس كان طالب علم، ولا يجتمع طلب علم مع الحياء من السؤال، فلابد أن يكون في طالب العلم نوع من الإقدام عندما يسأل، لكن يسأل بأدب، فكان ابن عباس يريد أن يعرف من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمنعه هيبة عمر من أن يسأله، فلما حج يوماً مع عمر وأراد عمر أن يتوضأ وأبعد، وقضى حاجته، فلما عاد قدم إليه ابن عباس بإداوة وسكب عليه الماء، وعمر يغسل يديه فقال له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان ظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: واعجباً لك يا ابن عباس! أي: تعجباً من جرأته على طلب العلم، قال العلماء: كره أن يجيبه، ولم يستطع أن يكتم العلم، ثم قال: هما حفصة وعائشة رضوان الله تعالى عليهما، حفصة ابنته وعائشة بنت أبي بكر رضوان الله تعالى على الجميع، ففهمنا من هذا الحديث أن اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما حفصة وعائشة. والمقصود: أن هذا حصل في بيوت النبوة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل النزاع ويقضي على الأمر، فحرم على نفسه ذلك الطيب الحلال المباح سواءً كان وطئ الجارية، أو أكل الحلوى؛ حتى يرضي زوجته وينهي المسألة، ولا يشغب على نفسه أكثر من ذلك، فعاتبه ربه عتاباً رقيقاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم:1] وهو خطاب إجلال لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي} [التحريم:1] بتحريمك، {مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]. وتذييل الآية بقول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] تطييب له صلوات الله وسلامه عليه، ثم بين الله منهاجاً شرعياً عظيماً: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]. ثم أخبر الله جل وعلا عن شيء يقع في كل بيت، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3]؛ فهو صلى الله عليه وسلم يدني زوجته يعطيها بعض الخبر، لكنه يعرف أنها امرأة لا يلبث عندها شيء، فأعرض عن بعض الأخبار ولم يعطها إياها، وقد قلت مراراً: من يريد أن يسوس الناس لابد أن يبقي على مسألة الطمع والخوف منه، فالناس إذا طعموا فيك بالكلية لم يعملوا، وإذا خافوا منك بالكلية يئسوا من عطائك فلم يعملوا، والعرب تقول: ولن ترى طارداً للحر كاليأس لكن اجعل من تحت يدك زوجة كانت أو طالباً، أو عاملاً، أو أجيراً أو موظفاً يرجوك ويخافك في آن واحد، فإن كان من تحت يدك لا يرجوك، بل يخافك بالكلية، أو يخافك بالكلية ولا يرجوك، فاعلم أنك غير موفق في سياسة الناس، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3]. وأمهات المؤمنين حق لهن أن يتنافسن؛ لأن الزوج الذي يتنافسن عليه هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت جحش وعائشة كن أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملابسة عليه، فأما عائشة فتدلي بأنها بكر، وأما زينب فتدلي بشيئين: أنها قرشية وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنها زوجها الله جل وعلا من فوق سبع سموات، فهذا الذي جعل المنافسة غالبها ما بين زينب وبين عائشة. والمنافسة محمودة بين الناس؛ لأنها تدفع إلى الإقدام، لكن ينبغي أن تكون محكومة بضوابط الشرع، ويمكن أن يقبل منك كلمة خرجت من غير أن تضبطها في خصم أو منافس لك، لكن لا يقبل منك أن تتعمد هذا المرة بعد المرة، فـ زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها كانت تسامي عائشة جداً، فلما وقعت حادثة الإفك وخاض من خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت حمنة بنت جحش أخت زينب تريد أن تذكي المسألة؛ نصرة لأختها على عائشة، وأما زينب نفسها رضي الله عنها وأرضاها فقالت: أحفظ سمعي وبصري، وأملك علي لساني، ولا أقول إلا خيراً، وعصمها الله من أن تقول أي قالة سوء في عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهكذا العاقل، فنقبل منك أن تنازع إماماً مجاوراً لمسجد لك يقع منك أنك لا تحب الصلاة وراءه، وتتثاقل ويقع في نفسك شيء إذا سمعت الناس يمدحونه فلا بأس في ذلك، فالله يقول: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. فالمهم ألا ينقلب هذا الأمر إلى شيء من قول أو فعل تضر به أخاك، فهنا يخرج الأمر عن إطاره الشرعي، ولا ينبغي لعاقل أن يصنعه. نعود إلى بيوت أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن، فبينهن كان صلى الله عليه وسلم، وهذه الحجرات شهدت أموراً عظاماً، وأعظم ما شهدت هو تنزل الوحي، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فهو صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل فيقول: (سبحان الله ماذا فتح الليلة من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)، فيقوم يصلي ويأمر أمهات المؤمنين أن يصلين, وشهدت تلك الحجرات تنقل السبطين: الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا. وشهدت تلك الحجرات قدوم الوفود، وقول بعض العرب: يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]. وشهدت تلك الحجرات قيام الليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفقده أم المؤمنين فتجده قد انتصبت قدماه يقول في سجوده أو ركوعه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك من لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).

استماعه صلى الله عليه وسلم للشعر واستزادته منه

استماعه صلى الله عليه وسلم للشعر واستزادته منه رابع المواقف أيها المؤمنون: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ردفه الشريد بن سويد الثقفي، كما روى مسلم في الصحيح من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، وأبوه هو الشريد بن سويد الثقفي صحابي جليل، هذا الصحابي الجليل ردف النبي صلى الله عليه وسلم أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب معه على الدابة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل تحفظ من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: هيه) أي: يطلب، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً فقال: هيه؛ حتى أنشدته مائة بيت). ولغوياً كلمة هيه: اسم فعل عند النحاة، فإذا بقي على البناء على الكسر ولم تنونه فأنت تطلب الاستزادة من نفس الحديث، وإن نونته قلت: هيهٍ فأنت تطلب الزيادة من أي حديث؛ لأن التنوين قرين التنكير، فأنت تطلب الزيادة من أي حديث، لكن إن قلت هيه من غير تنوين فإنك تطلب الزيادة من نفس الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها من غير تنوين ويريد الزيادة من نفس شعر أمية بن أبي الصلت. يقول الشريد رضي الله عنه: فأسمعته مائة بيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: (أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقال: (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فكلمة باطل هنا ليست ضد الحق، فإن الدين حق، وهو خلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم حق وهو غير الله، والجنة حق وهي غير الله، والنار حق وهي غير الله، لكن قصد لبيد بقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، أي: مضمحل، فالعرب تطلق على الشيء المضمحل بأنه باطل. قال شراح الحديث: وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كلمة لبيد بأنها أصدق كلمة؛ لأنها وافقت أصدق كلام، وأصدق الكلام هو كلام الله، والله يقول في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]. فهذه المقولة الشعرية ل لبيد قبل الإسلام وافقت قولاً قرآنياً وهو قول ربنا جل ذكره: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كل ما خلا الله باطل) هي أصدق كلمة قالها شاعر. ولبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وقد أدرك الإسلام وأسلم، وهو الوحيد من شعراء المعلقات الذين أدركوا الإسلام، فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وقد عمر طويلاً، وكان يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد وهنا مسألة وهي: أن الإنسان يحاول قدر الإمكان إذا مرت عليه أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بها، وأن يصنع ما استطاع أن يصنعه من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قدر لي عام 1409 أن كنت مع الشيخ محمد المختار الشنقيطي الفقيه الواعظ المدرس في الحرم النبوي الشيخ الجليل المعروف. وفي تلك الفترة كنت طالباً في التعليم، وكنت في الدرس فمات أحد الطلاب فرثيته بأبيات، فلما كنت مع الشيخ وفقه الله ذكرت له الأبيات، وموضع الشاهد من القضية كلها: أنه كان كلما قلت له بيتاً كان الشيخ حفظه الله ووفقه يقول: هيه؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد والله إجلالي ومحبتي وإقبالي للشيخ وإن كنا نحبه من قبل، فوقتها منّ الله عليه بالتوفيق أن تذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشد شعراً قال هذه الكلمة. والمقصود أيها المبارك: أن من أعظم ما تتقرب به إلى ربك: أن تحاول أن تتأسى بسيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، ولن تصل إلى مرادك من الله بطريق ولا بسبيل أقوم ولا أكمل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

مدح بعض الشعراء للنبي صلى الله عليه وسلم

مدح بعض الشعراء للنبي صلى الله عليه وسلم نعود هنا إلى عالم الشعر على وجه الإجمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم عظمه ربه في القرآن، فمهما قال الشعراء في حقه عليه الصلاة والسلام فغاية الأمر أنهم ينبئون عن عظيم إيمانهم ومحبتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أما هو صلى الله عليه وسلم كفى بتزكية القرآن له تزكية، فقد زكى الله بصره: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكى الله لسانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله قبله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله أذنه: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61]، وزكاه الله جل وعلا جملة: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في حاجة لأن يطريه أحد من الخلق، لكنه إذا أطراه أحد ومدحه وفق ضوابط الشرع فإنما ينبي ذاك عن علم ذلك الرجل بالدين، وحبه لرسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. وكان حسان رضي الله عنه وأرضاه من أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء هذه هي من همزيته المشهورة رضي الله عنه وأرضاه. ويقولون: إن أعظم ما قيل في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قول حسان: وأجمل منك لم تر قط عين وأسمح منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كما مدحه عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير، ثم تسابق الناس من شعراء المسلمين عبر التاريخ الإسلام في مدح رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقال شوقي رحمة الله تعالى عليه في همزيته الشهيرة: خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو أن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى بها شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء وقال في البائية غفر الله له ورحمه: سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا أخا الدنيا ترى دنياك أفعى تبدل كل آونة إهاباً فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله بابا أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا وأحسن من هذا كله قول الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

§1/1